تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر (1) }
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {سَيهْزمُ الْجمع
وَيُوَلُّونَ الدبر} وَالْآيَة الَّتِي بعْدهَا.
(5/306)
اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {اقْتَرَبت السَّاعَة}
أَي: دنت الْقِيَامَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أزفت
الآزفة} ، وَمثل قَوْله: {اقْترب للنَّاس حسابهم} ، وَقد روى
أنس أَن النَّبِي خطب عِنْد مغيربان الشَّمْس حَتَّى كَادَت
تغرب، فَقَالَ: " مَا بَقِي من الدُّنْيَا فِيمَا مضى إِلَّا
كَمَا بَقِي من هَذَا الْيَوْم فِيمَا مضى مِنْهُ ". وَعَن
كَعْب ووهب: أَن مُدَّة الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة،
وَالَّذِي يمضى هُوَ الْألف السَّابِع.
وَقَوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَر} روى ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله بمنى فانشق
الْقَمَر فلقَتَيْنِ، فلقَة وَرَاء الْجَبَل، وَفلقَة دونه،
وَأنزل الله تَعَالَى {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ
الْقَمَر} . وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْمُشْركين سَأَلُوا من
النَّبِي آيَة. وَرُوِيَ أَنهم قَالُوا لَهُ إِن كنت صَادِقا
فشق الْقَمَر لنا حَتَّى نرى قِطْعَة مِنْهُ على أبي قبيس،
وَقطعَة مِنْهُ على (قعيقعان) ، فَدَعَا الله تَعَالَى
وَانْشَقَّ الْقَمَر على مَا أَرَادوا، فَقَالَ النَّبِي: "
اشْهَدُوا اشْهَدُوا ".
(5/306)
{وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر
مُسْتَمر (2) }
فَإِن قيل: ابْن عَبَّاس لم يكن رأى انْشِقَاق الْقَمَر، فَكيف
تصح رِوَايَته؟ وَأما ابْن مَسْعُود فقد تفرد بِهَذِهِ
الرِّوَايَة، وَلَو كَانَ قد انْشَقَّ الْقَمَر لرواه جَمِيع
أَصْحَاب رَسُول الله، وَأَيْضًا لَو كَانَ ثَابتا لرواه
جَمِيع النَّاس، ولأرخوا لَهُ تَارِيخا؛ لأَنهم قد أَرخُوا مَا
دون هَذَا من الْحَوَادِث، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: انْشَقَّ
الْقَمَر أَي: ينشق، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال:
معنى انْشَقَّ الْقَمَر أَي: انكسف.
وَالْجَوَاب: أَنه قد ثَبت انْشِقَاق الْقَمَر بالرواية
الصَّحِيحَة. رَوَاهُ ابْن مَسْعُود وَجبير بن مطعم شَهدا
بِالرُّؤْيَةِ، وَرَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس، وروى
بَعضهم عَن بَعضهم عَن عبد الله بن عَمْرو، وَمن الْمُحْتَمل
أَنه رُوِيَ عَن رُؤْيَة، وَقد كَانَ ابْن مَسْعُود روى هَذَا
عَن [رُؤْيَته] ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من الصَّحَابَة،
فَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم، ثمَّ الدَّلِيل الْقَاطِع
على ثُبُوته الْآيَة.
وَقَوله إِن مَعْنَاهُ سينشق الْقَمَر. قُلْنَا: هَذَا عدُول
عَن ظَاهر الْآيَة، وَلَا يجوز إِلَّا بِدَلِيل قَاطع، وَلِأَن
الله تَعَالَى قَالَ:
(5/307)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
{وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر
مُسْتَمر} وَهَذَا دَلِيل على أَنهم قد رأوها، وَلِأَنَّهُ
سَمَّاهُ آيَة، وَإِنَّمَا يكون آيَة إِذا كَانَت فِي
الدُّنْيَا؛ لِأَن الْآيَة هَاهُنَا بِمَعْنى الدّلَالَة
وَالْعبْرَة.
وَقَوله: إِن النَّاس لم يرَوا. قُلْنَا: يحْتَمل أَنه كَانَ
فِي زمَان غَفلَة النَّاس، أَو تستر عَنْهُم بغيم، وَقد رد
الله تَعَالَى الشَّمْس ليوشع بن نون، وَلم ينْقل أرخ لذَلِك
أَيْضا. وَقد ذكر فِي بعض التفاسير أَن أهل مَكَّة قَالُوا:
سحرنَا ابْن أبي كَبْشَة، فَقَالَ بَعضهم: سلوا السفار الَّذين
يقدمُونَ، فَإِنَّهُ إِن كَانَ سحرنَا فَلَا يقدر أَن يسحر
جَمِيع النَّاس، فَقدم السفار وسألوهم وأخبروا أَنهم قد
رَأَوْا.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر
مُسْتَمر} قَالَ الْفراء: أَي: يشبه بعضه بَعْضًا، فَيحْتَمل
أَن يكون مَعْنَاهُ: فعله هَذَا فِي السحر يشبه سَائِر أَفعاله
فِي
(5/307)
{وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم وكل أَمر
مُسْتَقر (3) وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر (4)
حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر (5) السحر، وَيحْتَمل أَن
مَعْنَاهُ: سحره يشبه سحر مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا. وَعَن
بَعضهم: أَن قَوْله: {مُسْتَمر} أَي: ذَاهِب بَاطِل، يبطل
وَيذْهب بِمُضِيِّ الزَّمَان، ذكره أَبُو عُبَيْدَة. وَيُقَال:
سحر مُسْتَمر: أَي: شَدِيد مُحكم. وَيُقَال: اسْتمرّ من
الأَرْض إِلَى السَّمَاء أَي: ظهر سحره فِي السَّمَاء.
(5/308)
وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَقَوله: {وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم} أَي:
اتبعهُ مَا دَعَتْهُ نُفُوسهم إِلَيْهِ من الْبَاطِل.
وَقَوله: {وكل أَمر مُسْتَقر} قَالَ مُجَاهِد: الْخَيْر لأهل
الْخَيْر، وَالشَّر لأهل الشَّرّ. وَيُقَال: الْجنَّة لمن
يعْمل بِالطَّاعَةِ، وَالنَّار لمن يعْمل بالمعصية. وَقيل: كل
أَمر مُسْتَقر: أَي: وَاقع. وَقيل: لكل قَول حَقِيقَة وَغَايَة
وَنِهَايَة فِي وُقُوعه وحلوله، ذكره السدى. وَعَن بَعضهم:
وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: الْإِشَارَة إِلَى دوَام ثَوَاب
الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة، وعقاب الْكَافرين فِي النَّار.
(5/308)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَهُم من
الأنباء} أَي: من الْأَخْبَار، وَهِي الأقاصيص وأخبار
الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله: {مَا فِيهِ مزدجر} أَي: متعظ. يُقَال: زجرته فانزجر،
وكففته فَكف، ووعظته فاتعظ.
(5/308)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وَقَوله: {حِكْمَة بَالِغَة} مَعْنَاهُ
أَي: الْقُرْآن، وَمَا بلغه الرَّسُول عَن الله حِكْمَة
بَالِغَة، أَي: تَامَّة كَامِلَة، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَنه
صَوَاب كُله. وَقد بَينا أَن الْحِكْمَة هِيَ الْإِصَابَة قولا
وفعلا.
وَقَوله: {فَمَا تغن النّذر} أَي: أَي شَيْء تغني النّذر.
وَيُقَال: " مَا " بِمَعْنى " لَا " أَي: لَا تغني النّذر
عَنْهُم شَيْئا، وَهَذَا فِي أَقوام بأعيانهم، علم الله
مِنْهُم أَنهم لَا يُؤمنُونَ، (وَأَنه) لَا يَنْفَعهُمْ إنذار
الرُّسُل وَإِقَامَة الْآيَات.
(5/308)
{فتول عَنْهُم يَوْم يدع الداع إِلَى شَيْء
نكر (6) خشعا أَبْصَارهم يخرجُون من}
(5/309)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
قَوْله تَعَالَى: {فتول عَنْهُم} مِنْهُم
من قَالَ: قَوْله: {فتول عَنْهُم} عَلَيْهِ الْوَقْف، وَبِه
تمّ الْكَلَام ثمَّ ابْتَدَأَ، وَقَالَ: {يَوْم يدع الداع} ،
وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: فتول عَنْهُم يَوْم يَدْعُو
الدَّاعِي. وَأما معنى دُعَاء الدَّاعِي. فِي التَّفْسِير أَنه
قيام إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام على صَخْرَة بَيت
الْمُقَدّس، ونفخه فِي الصُّور. وَيُقَال: هُوَ دُعَاء النَّاس
إِلَى الْحساب.
وَقَوله: {إِلَى شَيْء نكر} أَي: فظيع شَدِيد هائل. وكل مَا
يهول الْإِنْسَان فَهُوَ مُنكر عِنْده. وَيُقَال: نكر أَي: لَا
يُطَاق حمله. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَرَأَ: {يَوْم يدع الداع
إِلَى شَيْء نكر} بخفض الْكَاف وَفتح الرَّاء، أَي: جحد وَكفر
بِهِ، وَهَذِه قِرَاءَة شَاذَّة. وَعَن ابْن عمر أَنه قَرَأَ:
{إِلَى شَيْء نكر} بتسكين الْكَاف وأنشدوا فِي هَذَا شعرًا
(أَبى الله إِلَّا عدله ووفاءه ... فَلَا النكر مَعْرُوف وَلَا
الْعرف ضائع)
(5/309)
خُشَّعًا
أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
وَقَوله {خشعا أَبْصَارهم} أَي: خاشعة
أَبْصَارهم، يَعْنِي: ذليلة، وَقُرِئَ: " خَاشِعًا أَبْصَارهم
" وَيجوز التَّوْحِيد إِذا تقدم فعل الْجَمَاعَة دون مَا إِذا
تَأَخّر، يُقَال: مَرَرْت بشباب حسان وُجُوههم، وَحسن
وُجُوههم، وحسنة وُجُوههم.
قَالَ الشَّاعِر:
(فِي شباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد)
وَقَوله: {يخرجُون من الأجداث} أَي: من الْقُبُور، واحدتها
جدث. وَفِي لُغَة تَمِيم هُوَ الجذف. وَفِي الْخَبَر عَن
النَّبِي أَنه قَالَ: " مواتهم أجداثهم " أَي: قُبُورهم.
وَقَوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر} أَي: دَاخل
بَعضهم فِي بعض كالجراد، وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوضِع آخر:
{كالفراش المبثوث} هُوَ الْمُنْتَشِر والمختلط أَيْضا، لَا
يقصدون جِهَة وَاحِدَة، بل ينتشر فِي جِهَات مُخْتَلفَة
بِخِلَاف الْجَرَاد، فَإِن الْكل يتبعُون جملَة وَاحِدَة.
(5/309)
{الأجداث كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر (7)
مهطعين إِلَى الداع يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر (8)
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عَبدنَا وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر
(9) فَدَعَا ربه أَنِّي مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أَبْوَاب
السَّمَاء بِمَاء منهمر (11)
وَرُوِيَ أَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام سَأَلت رَبهَا أَن
يطْعمهَا لَحْمًا بِغَيْر دم، فَقَالَت: اللَّهُمَّ أعشها
بِغَيْر [رضَاع] ، وتابع بَينهَا بِغَيْر شياع. ثمَّ ذكر أَن
التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ هُوَ أَن النَّاس إِذا خَرجُوا
من قُبُورهم يخْتَلط بَعضهم بِبَعْض، وَلَا يتبعُون جملَة
وَاحِدَة، فهم كالفراش المبثوث، ثمَّ يدعونَ إِلَى الْمَحْشَر
أَو إِلَى الْحساب فَيتبع كلهم الْجِهَة الَّتِي يدعونَ
إِلَيْهَا، فهم كالجراد الْمُنْتَشِر.
(5/310)
مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
وَقَوله: {مهطعين إِلَى الداع} أَي:
مُسْرِعين مُقْبِلين، وَيُقَال: مهطعين الإهطاع: هُوَ النسلان،
وَيُقَال: الخبب.
وَقَوله: {يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر} أَي: غير
سهل.
(5/310)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح
فكذبوا عَبدنَا} أَي: نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} أَي: زجر بالشتم والسب.
وَيُقَال: زجرا بالتخويف بِالْقَتْلِ، قَالَه سعيد بن جُبَير
وَقَتَادَة وَغَيرهمَا. وَيُقَال: ازدجر، أَي: استطر عقله،
كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَجْنُون ومعتوه.
(5/310)
فَدَعَا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
وَقَوله: {فَدَعَا ربه أَنِّي مغلوب
فانتصر} أَي: انتصر لدينك بالانتقام من أعدائك.
(5/310)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
وَقَوله: {ففتحنا أَبْوَاب السَّمَاء
بِمَاء منهمر} قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ
(فتح) مَوضِع المجرة، وَهِي شرج السَّمَاء. وَفِي الْقِصَّة:
أَن الله تَعَالَى أرسل المَاء من السَّمَاء بِدُونِ سَحَاب،
وَلم يكن أرسل الْمَطَر قبله وَلَا بعده إِلَّا من
(5/310)
{وفجرنا الأَرْض عيُونا فَالتقى المَاء على
أَمر قد قدر (12) وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر (13) تجْرِي
بأعيينا جَزَاء لمن كَانَ كفر (14) } سَحَابَة، وَقيل: إِن
الْأَبْوَاب هَاهُنَا بطرِيق الْمجَاز، وَالْمعْنَى: أرسلنَا
من السَّمَاء بِمَاء منهمر أَي: كثير.
قَالَ الشَّاعِر:
(أعيني جودا بالدموع الهوامر
(على حَتَّى باد من بعد وضامر))
وَيُقَال: منهمر أَي: منصب سَائل.
(5/311)
وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ (12)
قَوْله: {وفجرنا الأَرْض عيُونا} أَي:
فتحنا عُيُون الأَرْض بِالْمَاءِ.
وَقَوله: {فَالتقى المَاء على أَمر قد قدر} أَي: التقى مَاء
السَّمَاء وَمَاء الأَرْض على أَمر قد قدر كَونه، وَهُوَ تغريق
أهل الأَرْض سوى أَصْحَاب السَّفِينَة. وَيُقَال: على أَمر قد
قدر: هُوَ تَقْدِير المَاء، يَعْنِي: أَن المَاء أنزل من
السَّمَاء وفجر من الْعُيُون على كيل وَتَقْدِير مَعْلُوم.
(5/311)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى
ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
وَقَوله تَعَالَى: {وحملناه على ذَات
أَلْوَاح ودسر} أَي: على السَّفِينَة ذَات أَلْوَاح، ودسر أَي:
مسامير، وَيُقَال: ودسر أَي: معاريض السَّفِينَة، وَهِي الْخشب
الَّتِي تعرض عَلَيْهَا. وَيُقَال: دسر أَي: صدر السَّفِينَة،
كَأَنَّهَا قد تدسر المَاء بصدرها، أَي: تدفع.
(5/311)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
وَقَوله: {تجْرِي بأعيننا} أَي: بمرأى منا
وَحفظ منا.
وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء لمن كَانَ كفر} أَي: جَزَاء على مَا
صنع بِمن كفر بِهِ، وَهُوَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام. وَيُقَال:
جَزَاء النَّوْع وَهُوَ الَّذِي كفر بِهِ ذكره الزّجاج وَغَيره
وَقيل جَزَاء عَمَّن كفر بِهِ وَهُوَ الله تَعَالَى. وَقُرِئَ
فِي الشاذ: " جَزَاء لمن كَانَ كفر " وَهُوَ ظَاهر.
(5/311)
{وَلَقَد تركناها آيَة فَهَل من مدكر (15)
فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (16) وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن
للذّكر فَهَل من مدكر (17) كذبت عَاد فَكيف كَانَ عَذَابي
وَنذر (18) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي
يَوْم نحس مُسْتَمر (19) تنْزع النَّاس}
(5/312)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد تركناها آيَة}
أَي: تركنَا السَّفِينَة آيو وعبرة، قَالَ قَتَادَة: بقيت
سفينة نوح ببا قردى من بِلَاد الجزيرة حَتَّى أدْركهَا
أَوَائِل هَذِه الْأمة.
وَقَوله: {فَهَل من مدكر} أَي: متعظ متذكر.
(5/312)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} أَي:
كَيفَ كَانَ تعذيبي وإنذاري.
(5/312)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} أَي: متفكر، وَمعنى تيَسّر
الْقُرْآن للذِّكْرَى: هُوَ قِرَاءَته عَن ظهر قلب، وَلم يُعْط
هَذَا فِي كتاب الله غير هَذِه الْأمة، فَإِن أهل
الْكِتَابَيْنِ إِنَّمَا يقرءوا فهما عَن الصُّحُف.
(5/312)
كَذَّبَتْ عَادٌ
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
قَوْله تَعَالَى: {كذبت عَاد فَكيف كَانَ
عَذَابي وَنذر} أَي: تعذيبي وإنذاري لَهُم.
(5/312)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
(19)
وَقَوله: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم ريحًا
صَرْصَرًا} أَي: بَارِدَة، وَيُقَال: شَدِيدَة الهبوب.
وَقَوله: {فِي يَوْم نحس} أَي: فِي يَوْم مشئوم، وَعَن جَعْفَر
بن مُحَمَّد قَالَ: كَانَ فِي أربعاء لَا تَدور، ذكره النقاش.
وَيُقَال: كَانَ زحل رَاجعا هابطا، وَهُوَ ضَعِيف مَتْرُوك.
وَقَوله: {مُسْتَمر} أَي: دَائِم الشؤم، ودوام الشؤم أَن
الرّيح استمرت بهم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام. وَيُقَال:
مُسْتَمر أَي: اسْتمرّ بهم الْعَذَاب حَتَّى أوقعهم فِي
جَهَنَّم.
(5/312)
تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
قَوْله تَعَالَى: {تنْزع النَّاس} أَي:
تقلع النَّاس. وَفِي الْقِصَّة: أَن الرّيح كَانَت تقلعهم،
وَتجْعَل أعلاهم أسفلهم وأسفلهم أعلاهم. قَالَ الْحسن
الْبَصْرِيّ: لما جَاءَت الرّيح أَخذ بَعضهم بيد بعض، وَجعلُوا
دست، وضربوا بأقدامهم على الْحجر حَتَّى رسخت فِيهِ،
وَقَالُوا: من الَّذِي يزيلنا من أماكننا؟ وَفِي الْقِصَّة:
أَن طول الْوَاحِد مِنْهُم كَانَ سِتّمائَة ذِرَاع
وَخَمْسمِائة، والأقصر ثَلَاثمِائَة ذِرَاع بذراعهم، فَلَمَّا
فعلوا ذَلِك خرجت من تَحت أَقْدَامهم وقلعتهم.
(5/312)
{كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل منقعر (20) فَكيف
كَانَ عَذَابي وَنذر (21) وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر
فَهَل من مدكر (22) كذبت ثَمُود بِالنذرِ (23) فَقَالُوا أبشرا
منا وَاحِد نتبعه إِنَّا إِذا لفي ضلال وسعر (24) أؤلقي الذّكر
عَلَيْهِ من بَيْننَا بل هُوَ}
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل منقعر} أَي: أصُول نخل منقلع.
فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل
خاوية} وَقَالَ هَا هُنَا: {منقعر} وَلم يقل منقعرة. قُلْنَا:
النّخل يذكر وَيُؤَنث. فَإِن قيل: فَلم شبه بأصول النّخل لَا
بِجَمِيعِهِ؟ قُلْنَا فِي الْقِصَّة: أَن الرّيح كَانَت تقلع
رُءُوسهم أَولا، ثمَّ تخرب أَجْسَادهم وتجعلها (كأصول) النّخل،
فَهُوَ معنى الْآيَة.
(5/313)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (21)
وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} قد
بَينا.
(5/313)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} .
(5/313)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ (23)
{كذبت ثَمُود بِالنذرِ} أَي: بالرسل.
وَيجوز أَن يكون أَرَادَ بِهِ صَالحا وَحده، وَذكر الْوَاحِد
باسم الْجمع.
(5/313)
فَقَالُوا أَبَشَرًا
مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ (24)
قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا أبشرا منا
وَاحِدًا نتبعه} أَي: نتبع بشرا منا وَاحِدًا. قَالُوا على
طَرِيق الْإِنْكَار، أَي: لَا نتبعه.
وَقَوله: {إِنَّا إِذا لفي ضلال وسعر} أَي: فِي ضلال وعناء،
وَيُقَال: فِي ضلال وجنون. يُقَال: نَاقَة مسعورة، أَي:
كالمجنونة من النشاط.
(5/313)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
قَوْله تَعَالَى: {أؤلقي الذّكر عَلَيْهِ
من بَيْننَا} أَي: النُّبُوَّة.
وَقَوله: {بل هُوَ كَذَّاب أشر} أَي: كَذَّاب متكبر. والأشر:
البطر الْفَرح، كَأَنَّهُ يتكبر بطرا وفرحا.
(5/313)
{كَذَّاب أشر (25) سيعلمون غَدا من
الْكذَّاب الأشر (26) إِنَّا مرسلوا النَّاقة فتْنَة لَهُم
فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب
محتضر}
(5/314)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا
مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
وَقَوله: {سيعلمون غَدا من الْكذَّاب
الأشر} أَي: يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يلقون جَزَاء
أَعْمَالهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " من الْكذَّاب الأشر "
وَقُرِئَ أَيْضا: " الأشر " بِضَم الشين. والأشر والأشر
بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ مثل حذر وحذر.
(5/314)
إِنَّا مُرْسِلُو
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا مرسلوا النَّاقة
فتْنَة لَهُم} فِي الْقِصَّة: أَن قوم صَالح طلبُوا مِنْهُ أَن
يخرج من هَذِه الصَّخْرَة وأشاروا إِلَى صَخْرَة بِعَينهَا
نَاقَة حَمْرَاء عشراء، والعشراء: هِيَ النَّاقة الْحَامِل
الَّتِي أَتَى على حملهَا عشرَة أشهر، وتلد سقبا فِي الْحَال،
ثمَّ ترد مَاءَهُمْ وتشرب جَمِيع مَا فِيهَا، وَتُعْطِي
لَبَنًا بِقدر مَا شربت من المَاء، فَأَعْطَاهُمْ الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَرُوِيَ أَن الصَّخْرَة تمخضت كَمَا
تتمخض النَّاقة عِنْد الْولادَة، وَوضعت نَاقَة فِي الْحَال
كأعظم مَا يكون. وَرُوِيَ أَن عظم النَّاقة كَانَ بِحَيْثُ
إِذا مشت بَين الْوَادي أَخذ بَطنهَا مَا بَين الجبلين.
وَقَوله: {فتْنَة لَهُم} أَي: اختبارا لَهُم.
وَقَوله: {فارتقبهم واصطبر} أَي: انتظرهم واصبر.
(5/314)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
وَقَوله: {ونبئهم أَن المَاء قسْمَة
بَينهم} أَي: للناقة يَوْم وَلَهُم يَوْم.
وَقَوله: {كل شرب محتضر} أَي: كل نصيب بِحَضْرَة من لَهُ.
(5/314)
فَنَادَوْا
صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {فَنَادوا صَاحبهمْ}
يَعْنِي: قدار بن سالف، وَهُوَ أَحْمَر ثَمُود. وَفِي الْمثل:
أشأم من أَحْمَر عَاد. يَعْنِي: على قومه. وَإِنَّمَا قيل:
عادا لِأَن ثَمُود من نسب عَاد. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي
قَالَ: " انْبَعَثَ لَهُ يَعْنِي لقتل النَّاقة رجل عَزِيز فِي
قومه مثل [أبي] زَمعَة ".
(5/314)
((28} فَنَادوا صَاحبهمْ فتعاطى فعقر (29)
فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (30) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم
صَيْحَة وَاحِدَة فَكَانُوا كهشيم المحتضر (31) وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (32) كذبت قوم لوط بِالنذرِ
(33) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم حاصبا إِلَّا آل لوط نجيناهم
بِسحر (34))
وَقَوله: {فتعاطى فعقر} أَي: ارْتكب الْمعْصِيَة فعقر
النَّاقة. والعقر: هُوَ الْقَتْل. وَفِي الْخَبَر: " أفضل
الْجِهَاد من أريق دَمه وعقر جَوَاده ".
(5/315)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (30)
وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} قد
بَينا.
(5/315)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ (31)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا
عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ فِي جَانب قريتهم، وَصَاح عَلَيْهِم
صَيْحَة وَاحِدَة، فماتوا جَمِيعًا.
وَقَوله: {فَكَانُوا كهشيم المحتضر} الهشيم مَا يبس من
النَّبَات وَالشَّجر، والهشيم هَاهُنَا: مَا تناثر من
التُّرَاب عَن الْجواد، يَعْنِي: صَارُوا كَذَلِك.
وَقَوله: {المحتضر} وفرئ: " المحتضر " بِفَتْح الظَّاء. قَالَ
أهل الْمعَانِي: هُوَ أَن يَأْخُذ الرَّاعِي حَظِيرَة حوالي
غنمه من شوك وَشَجر، فَإِذا يبس وتناهى فِي اليبس تكسر وتشتت،
فشبهم حِين هَلَكُوا بذلك. وَأما المحتضر هُوَ الَّذِي يتَّخذ
الحظيرة، والمحتضر بِالْفَتْح هُوَ الْمُتَّخذ.
(5/315)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} أَي: متعظ. قَالَ قَتَادَة:
هَل من طَالب خير فيعان عَلَيْهِ.
(5/315)
كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
قَوْله تَعَالَى: {كذبت قوم لوط بِالنذرِ}
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {بِالنذرِ} وَلُوط كَانَ وَاحِدًا؟
قُلْنَا: لِأَن من كذب وَاحِدًا من الرُّسُل، فَكَأَنَّهُ كذب
جَمِيع الرُّسُل.
(5/315)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ
(34)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا
عَلَيْهِم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَهِي
الْحِجَارَة.
قَوْله: {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} هُوَ لوط وابنتاه.
وَفِي الْخَبَر: أَنه وأعنزة بَين
(5/315)
{نعْمَة من عندنَا كَذَلِك نجزي من شكر
(35) وَلَقَد أَنْذرهُمْ بطشتنا فتماروا بِالنذرِ (36) وَلَقَد
راودوه عَن ضَيفه فطمسنا أَعينهم فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر (37)
وَلَقَد صبحهمْ بكرَة عَذَاب مُسْتَقر (38) } يَدَيْهِ، وَهِي
أَرْبَعُونَ يَسُوقهَا، وَهُوَ آخذ بيد ابْنَته الْكُبْرَى
بِيَمِينِهِ، وبيد ابْنَته الصُّغْرَى بيساره، وَامْرَأَته
خَلفه، فَلَمَّا سمعُوا الْوَصِيَّة فِي هَلَاك الْقَوْم سجد
هُوَ وابنتاه شكرا، والتفتت الْمَرْأَة فأصابتها الْحِجَارَة
وَهَلَكت.
(5/316)
نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
وَقَوله: {نعْمَة من عندنَا} أَي: إنعاما
من عندنَا.
وَقَوله: {كَذَلِك نجزي من شكر} أَي: شكر نعم الله.
(5/316)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ
بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
وَقَوله: {وَلَقَد أَنْذرهُمْ بطشتنا} أى
خوفهم بطشتنا بهم فِي الإهلاك
وَقَوله {فتماروا بِالنذرِ} أَي: شكوا برسالة الرُّسُل.
(5/316)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد راودوه عَن
ضَيفه} أَي: طلبُوا من لوط أَن يسلم إِلَيْهِم أضيافه. وَفِي
الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ وَمَعَهُ
ملكان، وَكَانَ قوم لوط قد قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَا نمتنع من
عَملنَا، فإياك أَن تضيف أحدا من الغرباء، فَلَمَّا جَاءَ
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْملكَيْنِ فِي صُورَة
الْبشر، مرت الْعَجُوز الخبيثة وَأَخْبَرتهمْ بورودهم، وَذكرت
لَهُم حسن وُجُوههم، فَجَاءُوا يطْلبُونَ الْفَاحِشَة، فَهُوَ
معنى قَوْله تَعَالَى: {راودوه عَن ضَيفه} .
وَقَوله: {فطمسنا أَعينهم} رُوِيَ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام صفق أَعينهم صَفْقَة بجناحه، فصاروا عميانا
يَلْتَمِسُونَ الْجِدَار بِالْأَيْدِي. وَرُوِيَ أَن وُجُوههم
صَارَت سطحا وَاحِدًا مَا بَقِي عَلَيْهَا أثر شَيْء.
وَقَوله: {فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر} أَي: فَذُوقُوا عَذَابي
وعاقبة إنذاري.
(5/316)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صبحهمْ بكرَة
عَذَاب مُسْتَقر} أَي: نزل بهم الْعَذَاب وَاسْتقر بكرَة.
وَمعنى الِاسْتِقْرَار هُوَ هلاكهم بذلك الْعَذَاب.
(5/316)
فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن
النّذر كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا فَأَخذهُم أَخذ عَزِيز مقتدر
أكفاركم خير من أولائكم أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر أم
يَقُولُونَ نَحن جَمِيع منتصر سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ
الدبر
(5/317)
فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ (39)
وَقَوله {فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر} قد
بَينا.
(5/317)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا
الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} قد ذكرنَا.
(5/317)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن
النّذر} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُون، وَيُقَال: جَاءَهُم
الْإِنْذَار.
(5/317)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَقَوله: {كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا
فأخذناهم أَخذ عَزِيز مقتدر} أَي: قوي قَادر، وَقد بَينا معنى
الْعَزِيز الْقَادِر.
(5/317)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ
مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {أكفاركم خير من أولئكم}
مَعْنَاهُ: أكفاركم خير من الْكفَّار الَّذين كَانُوا قبلكُمْ،
يَعْنِي: لَيْسُوا بِخَير مِنْهُم، فَكَمَا أهلكناهم فسنهلك
هَؤُلَاءِ.
وَقَوله: {أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر} أَي: بَرَاءَة من الْكتب
أَنا لانهلككم كَمَا أهلكنا من قبلكُمْ.
(5/317)
أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
وَقَوله: {أم يَقُولُونَ نَحن جَمِيع
منتصر} يَعْنِي: أيقولون نَحن جَمِيع ينصر بَعْضنَا بَعْضًا،
أَو ننتصر من أَعْدَائِنَا. وَفِي الْمَغَازِي أَنه لما كَانَ
يَوْم بدر خرج أَبُو جهل على قَدَمَيْهِ، وَهُوَ يَقُول: نَحن
جَمِيع منتصر، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {سَيهْزمُ الْجمع
وَيُوَلُّونَ الدبر} ، قَالَ عمر: فَرَأَيْت النَّبِي يثب فِي
درعه، وَيَقُول: " سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
(5/317)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
نزل قَوْله تَعَالَى: {سَيهْزمُ الْجمع
وَيُوَلُّونَ الدبر} وَلم أعرف تَأْوِيله، حَتَّى كَانَ يَوْم
بدر فَرَأَيْت النَّبِي
(5/317)
{بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر
(46) إِن الْمُجْرمين فِي ضلال وسعر (47) يَوْم يحبسون فِي
النَّار على وُجُوههم ذوقوا مس سقر (48) إِنَّا كل شَيْء} يثب
فِي درعه وَيَقُول: " سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ".
وَهَذَا الْخَبَر دَلِيل أَيْضا أَن هَذِه الْآيَة مَكِّيَّة،
وَقد بَينا فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا مَدَنِيَّة. والدبر
بِمَعْنى الأدبار.
(5/318)
بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
وَقَوله: {بل السَّاعَة موعدهم} أَي:
الْقِيَامَة موعدهم، وَسميت السَّاعَة لقرب كَونهَا. وَقيل:
سميت سَاعَة؛ لِأَنَّهَا كائنه لَا محَالة كالوقت، وَهُوَ
كَائِن لَا محَالة فَسمى سَاعَة.
وَقَوله: {والساعة أدهى وَأمر} أَي: أقطع وَأَشد. والداهية: كل
أَمر لَا يَهْتَدِي إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ. " وَأمر ": هُوَ
من المرارة.
(5/318)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُجْرمين فِي
ضلال وسعر} قد بَينا. وَعَن الْأَخْفَش: أَن السّعر جمع السعير
جمع السعير، وَيُقَال مَعْنَاهُ: فِي نَار يحترقون فِيهَا
وَلَا يعلمونها، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الْعَاقِبَة، وَمَا
يصير إِلَيْهِ حَالهم.
(5/318)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يسْحَبُونَ فِي
النَّار على وُجُوههم} قَالَ ابْن مَسْعُود: " يَوْم
يسْحَبُونَ فِي النَّار ". وَالْمَعْرُوف الأول، وَهُوَ من
السحب والجر.
وَقَوله: {ذوقوا مس سقر} أَي: يُقَال لَهُم ذَلِك، وَهُوَ على
طَرِيق الْمجَاز، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره وَهُوَ
يضْربهُ: ذُقْ وبال أَمرك، أَي: عمله، وَمثله كثير فِي
الْعَرَبيَّة وَكَلَامهم.
(5/318)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كل شَيْء خلقناه
بِقدر} نصب كل بِتَقْدِير فعل مَحْذُوف، وَكَأَنَّهُ قَالَ:
إِنَّا خلقنَا كل شَيْء خلقناه بِقدر. وَقد ثَبت عَن النَّبِي
أَنه قَالَ: " كل
(5/318)
{خلقناه بِقدر (49) وَمَا أمرنَا إِلَّا
وَاحِدَة كلمح بالبصر (50) وَلَقَد أهلكنا أشياعكم} شَيْء
بِقدر حَتَّى الْكيس وَالْعجز ". وَعَن ابْن عَبَّاس: كل شَيْء
بِقدر حَتَّى وضعك يدك على خدك. وَعَن عَليّ: مَا طن ذُبَاب
إِلَّا بِقدر.
وَعَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: أشهد أَن هَذِه
الْآيَة نزلت فِي الْقَدَرِيَّة ردا عَلَيْهِم وتلا هَذِه
الْآيَة: {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَهُوَ خبر غَرِيب.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله أَنه قَالَ: لَو صَامَ
إِنْسَان حَتَّى يصير كالحبل هزلا، وَصلى حَتَّى يصير كوتد،
وَذبح ظلما بَين الرُّكْن وَالْمقَام، ثمَّ كَانَ مُكَذبا
بِقدر الله، لأدخله الله النَّار، وَيُقَال لَهُ: ذُقْ مس سقر.
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ
يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد: أَيْن خصماء الرَّحْمَن؟
فَيقوم الْقَدَرِيَّة ثمَّ تَلا قَوْله: {إِن الْمُجْرمين فِي
ضلال وسعر} وَمَا بعْدهَا ". وخصومتهم أَنهم يَقُولُونَ: قدرت
علينا الْمعاصِي وَكَيف تعذبنا؟
(5/319)
وَمَا أَمْرُنَا
إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَقَوله: {وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة}
يَعْنِي: إِلَّا مرّة وَاحِدَة.
وَقَوله: {كلمح بالبصر} أَي: كسرعة اللمح بالبصر فِي النّفُوذ
والوقوع، وَفِي بعض التفاسير فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كل
شَيْء خلقناه بِقدر} أَي: جعلنَا لكل شَيْء مَا يصلح لَهُ، مثل
ثِيَاب الرِّجَال للرِّجَال، وَثيَاب النِّسَاء للنِّسَاء،
والسرج للْفرس، والإكاف للحمار، وَمَا أشبه ذَلِك،
وَالْمعْنَى: أَي: قَدرنَا لكل شَيْء مَا يصلح لَهُ، ذكره
(5/319)
{فَهَل من مدكر (51) وكل شَيْء فَعَلُوهُ
فِي الزبر (52) وكل صَغِير وكبير مستطر (53) إِن الْمُتَّقِينَ
فِي جنَّات ونهر (54) فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر} ) بن
فَارس فِي تَفْسِيره.
(5/320)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا
أشياعكم} أَي: أشبابهكم ونظراءكم من الْكفَّار.
وَقَوله: {فَهَل من مدكر} أَي: متعظ.
(5/320)
وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَقَوله: {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر}
أَي: مسطور مَكْتُوب فِي الزبر. وَيُقَال: كل شَيْء مَحْفُوظ
فِي الزبر.
(5/320)
وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَقَوله: {وكل صَغِير وكبير مستطر} أَي
مسطور مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي الْآثَار
المروية عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: خلق الله اللَّوْح
الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء ودفتاه من ياقوت أَحْمَر، قلمه
ذهب وَكتابه نور، ينظر الله كل يَوْم فِيهِ ثَلَاثمِائَة
وَسِتِّينَ نظرة، يخلق، ويحيي، وَيُمِيت، ويرزق، وَيفْعل مَا
يَشَاء. وَهَذَا أثر مَعْرُوف.
(5/320)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي
جنَّات ونهر} فِي بعض الْآثَار: أَن الرجل لَا يكون متقيا
حَتَّى يدع مَا لَيْسَ بِهِ بَأْس حذرا مِمَّا بِهِ بَأْس،
وَقد روى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَهُوَ
غَرِيب.
وَقَوله تَعَالَى: {فِي جنَّات ونهر} أَي: بساتين وأنهار،
وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، والأنهار هَذِه مَا ذكرهَا الله
تَعَالَى فِي " سُورَة مُحَمَّد ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {فِي جنَّات ونهر}
أَي: ضِيَاء وسعة.
قَالَ قيس بن الخطيم:
(ملكت بهَا كفى فأنهرت فتقها ... يرى قَائِما من دونهَا مَا
وَرَاءَهَا)
أَي: أوسعت. وَقُرِئَ: " فِي جنَّات ونهر " بِضَم النُّون
وَالْهَاء، وَهُوَ بِمَعْنى النَّهَار.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(5/320)
(لَوْلَا الثريدان هلكنا بالضمم ... ثريد
ليل وثريد بالنهر)
وَعَن أبي عمرَان الْجونِي قَالَ: لَيْسَ فِي الْجنَّة ليل،
هُوَ نَهَار كُله، وَيعرف مَجِيء النَّهَار بِفَتْح
الْأَبْوَاب وَرفع الستور، وَيعرف مَجِيء اللَّيْل برد
الْأَبْوَاب وإرخاء الستور.
(5/321)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
وَقَوله: {فِي مقْعد صدق} أَي: مجْلِس حسن،
وَيُقَال: فِي مقْعد لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تأثيم. وكل مَكَان
لَيْسَ فِيهِ لَغْو وَلَا تأثيم، فَهُوَ مقْعد صدق.
وَقَوله: {عِنْد مليك مقتدر} يُقَال: إِن الْملك والمليك
بِمَعْنى وَاحِد.
قَالَ ابْن الزبعري:
(يَا رَسُول المليك إِن لساني ... رائق مَا فتقت إِذْ أَنا
بور)
أَي: رَسُول الْملك. وَقيل: إِن المليك هُوَ الْمُسْتَحق
للْملك، وَالْملك: الْقَائِم بِالْملكِ. وَمعنى الْآيَة: ذكر
كَرَامَة الْمُؤمنِينَ وقربهم من الله تَعَالَى، وَهُوَ
النِّهَايَة فِي الْإِكْرَام.
(5/321)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان
الشَّمْس}
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين وَقَالَ بَعضهم هِيَ
مَدَنِيَّة
(5/323)
الرَّحْمَنُ (1)
قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن} قَالَ الْحسن
هُوَ اسْم لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَنْتَحِلهُ وَيُقَال اسْم
مُمْتَنع وَإِنَّمَا لم يَصح أَن يُقَال لغير وَصَحَّ أَن
يُقَال رَاحِم وَرَحِيم لِأَن معنى الرَّحْمَن أَن رَحمته وسعت
كل شَيْء وَهَذَا لَا يَصح فِي غير الله جلّ وَعلا وَحكى
بَعضهم أَن الرَّحْمَن هُوَ مَجْمُوع فواتح ثَلَاث سور " الر -
حم - ن ".
(5/323)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ
(2)
وَقَوله {علم الْقُرْآن} أى يسر وَسَهل
تعلمه.
(5/323)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ
(3)
وَقَوله (خلق الْإِنْسَان) قَالَ قَتَادَة:
هُوَ آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَقَالَ الضَّحَّاك هُوَ
مُحَمَّد وَعَن بَعضهم هُوَ جنس النَّاس وَاحِد بِمَعْنى
الْجمع مثل قَوْله تَعَالَى {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفى
خسر} اى النَّاس.
(5/323)
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
(4)
وَقَوله {علمه الْبَيَان} فعلى القَوْل
الَّذِي قُلْنَا إِن المُرَاد بِهِ آدم فَمَعْنَى تَعْلِيم
الْبَيَان تَعْلِيم الْأَسْمَاء وعَلى القَوْل الَّذِي يَقُول
إِنَّه مُحَمَّد فَمَعْنَى تَعْلِيم الْبَيَان هُوَ أَنه بَين
لَهُ الْحَلَال وَالْحرَام وَيُقَال بَين لَهُ طَرِيق الْهدى
وَطَرِيق الضَّلَالَة وَيُقَال بَين الْخَيْر وَالشَّر وَإِذا
حملنَا على جنس النَّاس فَمَعْنَى الْبَيَان هُوَ الْمنطق
وَالْكَلَام وكل عَاقل مُمَيّز لَهُ بَيَان يعقله وتمييزه.
(5/323)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ (5)
وَقَوله {الشَّمْس وَالْقَمَر بحسبان} أى
بِحِسَاب قَالَه مُجَاهِد وَغَيره وَيُقَال بحسبان أَي بجرى
مَعْلُوم فِي منَازِل مَعْلُومَة وَقَالَ السّديّ بِأَجل
مَعْلُوم فَإِذا بلغا أجلهما هلكا. وَقيل الحسبان قطب الرحا
وَالْمعْنَى أَنَّهُمَا يدوران كَمَا يَدُور {وَالْقَمَر
بحسبان (5) والنجم وَالشَّجر يسجدان (6) وَالسَّمَاء رَفعهَا
وَوضع الْمِيزَان (7) أَلا تطغوا فِي الْمِيزَان (8)
وَأقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وَلَا تخسروا الْمِيزَان (9)
وَالْأَرْض وَضعهَا للأنام (10) الرحا على القطب.
(5/323)
وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
وَقَوله: {والنجم وَالشَّجر يسجدان} قَالَ
أهل اللُّغَة: النَّجْم كل مَا نبت لَا على سَاق، وَالشَّجر
مَا نبت على سَاق. وَيُقَال: النَّجْم نجم السَّمَاء،
وَالشَّجر جَمِيع الْأَشْجَار. وَأما سجودهما، قَالَ ابْن
عَبَّاس: يسجدان إِذا طلعت الشَّمْس وَإِذا قَالَت الشَّمْس
إِلَى أَن تغرب. وَيُقَال: سجودهما هُوَ مَا سخرهما الله
تَعَالَى على مَشِيئَته وَأمره. وَالْأولَى هُوَ أَن يُقَال:
إِن سُجُود الْموَات ثَابت بِنَصّ الْكتاب، هُوَ على مَا
أَرَادَ الله تَعَالَى، وَالْعلم بحقيقته موكول إِلَيْهِ،
وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَيُقَال: سجودهما بدوران الظل
يَمِينا وَشمَالًا.
(5/323)
وَالسَّمَاءَ
رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء رَفعهَا}
أَي: أَعْلَاهَا بِحَيْثُ لَا تنالها الْأَيْدِي.
وَقَوله: {وَوضع الْمِيزَان} فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: أَنه
الْمِيزَان الْمَعْرُوف، وَالْآخر: أَن المُرَاد مِنْهُ
الْعدْل.
(5/323)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزَانِ (8)
وَقَوله: {أَن لَا تطغوا فِي الْمِيزَان}
قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَا تطغوا فِي الْمِيزَان " أَي: لَا
تَجُورُوا فِيهِ، وَلَا تجوزوا الْحَد. والطغيان: مُجَاوزَة
الْحَد.
(5/323)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
وَقَوله: {وَأقِيمُوا الْوَزْن
بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَإِقَامَة الْوَزْن: إِقَامَة
لِسَان الْمِيزَان من غير ميل وجور.
وَقَوله: {وَلَا تخسروا الْمِيزَان} أَي: لَا تنقصوا وَلَا
تبخسوا. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ:
يَا معشر الموَالِي يَعْنِي: الْعَجم إِنَّكُم وليتم أَمر من
فيهمَا هلك كثير من الْأُمَم قبلكُمْ الْمِكْيَال
وَالْمِيزَان.
(5/323)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا
لِلْأَنَامِ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض وَضعهَا
للأنام} أَي: بسطها. وَفِي الْأَنَام ثَلَاثَة أَقْوَال،
أَحدهَا: ذكره الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَالْآخر: أَنه الْإِنْس خَاصَّة. وَالثَّالِث:
(5/323)
{فِيهَا فَاكِهَة وَالنَّخْل ذَات الأكمام
(11) وَالْحب ذُو العصف وَالريحَان (12) فَبِأَي} كل مَا دب
ودرج.
(5/324)
فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا فَاكِهَة}
الْفَاكِهَة كل مَا يتفكه بِهِ.
وَقَوله: {ذَات الأكمام} جمع الْكمّ، والكم: كل مَا يُغطي
شَيْئا، وَمِنْه الْكمّ الْمَعْرُوف، فَلِأَنَّهَا تغطي
الْيَد. والقلنسوة تسمى الكمة؛ لِأَنَّهَا تغطي الرَّأْس.
ومعتى الْكمّ هَاهُنَا: هُوَ الغلاف الَّذِي يكون لثمرة
النّخل، وَيُقَال: الْكمّ هُوَ الطّلع.
(5/324)
وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْحب ذُو العصف
وَالريحَان} العصف: ورق الزَّرْع، فَإِذا يبس صَار تبنا،
وَيُقَال: العصف هُوَ البقل الَّذِي ينْبت من الأَرْض.
وَقَوله: {وَالريحَان} أَي: الثَّمَرَة. قَالَ ابْن كيسَان:
إِذا نبت الزَّرْع فأوله يكون عصفا، ثمَّ يظْهر فِيهِ الريحان،
وَهُوَ ثَمَرَته. وَقيل: إِن الريحان هُوَ الرزق، قَالَ
الشَّاعِر:
(سَلام الْإِلَه وريحانه ... وَرَحمته وسماء دُرَر)
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الريحان الَّذِي يشم. وَأولى
الْأَقَاوِيل أَن العصف هُوَ التِّبْن، وَالريحَان هُوَ الْحبّ
الَّذِي خلق فِيهِ للْأَكْل، سَمَّاهُ ريحانا؛ لِأَن مِنْهُ
رزق الْعباد. وَفِي الْمَصَاحِف: " وَالْحب والعصف "
وَمَعْنَاهُ: وَخلق الْحبّ ذَا العصف.
(5/324)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
وَقَوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ} مَعْنَاهُ: بِأَيّ نعم رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ
أَيهَا الْإِنْس وَالْجِنّ؟ وَالْمرَاد من الآلاء النعم
الَّتِي عدهَا من قبل. وَقد ثَبت بِرِوَايَة مُحَمَّد بن
الْمُنْكَدر عَن جَابر أَن النَّبِي قَرَأَ سُورَة الرَّحْمَن
على أَصْحَابه، فَلم يجيبوا بِشَيْء، فَقَالَ: " مَا لي
أَرَاكُم سكُوتًا! للجن كَانُوا أحسن مِنْكُم ردا، مَا قَرَأت
عَلَيْهِم هَذِه الْآيَة من مرّة {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ} إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْء من نعمك رَبنَا
نكذب، فلك الْحَمد ". {آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خلق
الْإِنْسَان من صلصال كالفخار (14) وَخلق الجان من مارج من
نَار (15) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }
(5/324)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ
مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من
صلصال كالفخار} الصلصال: الطين الْيَابِس الَّذِي يصوت إِذا
نقر وحرك.
وَقَوله: {كالفخار} أَي: الخزف. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي
مَوضِع آخر: {من طين لازب} ، وَقَالَ فِي مَوضِع: {من حمأ
مسنون} ، وَقَالَ هَاهُنَا: {من صلصال} فَكيف وَجه
التَّوْفِيق؟
الْجَواب عَنهُ: أَن الْجَمِيع صَحِيح على الْقطع، فَالله
تَعَالَى خلق آدم من تُرَاب جعله طينا لازبا، ثمَّ جعله حمأ
مسنونا، ثمَّ جعله صلصالا كالفخار، ثمَّ صوره. قَالَ قَتَادَة:
هُوَ المَاء يُصِيب الأَرْض، ثمَّ يذهب المَاء فيجف مَوضِع
المَاء وييبس وينشق، فَهُوَ الصلصال كالفخار. وَذكر أَبُو
الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَنه ورد فِي بعض الحَدِيث
أَن الله تَعَالَى حِين أَرَادَ أَن يخلق آدم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام جعل التُّرَاب طينا لازبا، وَتَركه
أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ جعله صلصالا كالفخار، وَتَركه
أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ صوره وَتَركه جسدا لَا روح فِيهِ
أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَت الْمَلَائِكَة يَمرونَ عَلَيْهِ
فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ الَّذِي خلقك لامر مَا خلقك. وَقد
ثَبت عَن النَّبِي " أَن إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة لما رأى
الصُّورَة فَوَجَدَهُ أجوف، فَعلم أَنه خلق لَا يَتَمَالَك ".
(5/324)
وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من
نَار} أَي: من لَهب النَّار. وَيُقَال: خَالص النَّار. وَإِن
الجان هُوَ أَبُو الْجِنّ.
(5/324)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
وَقَوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ} قد بَينا مَعْنَاهُ. وَقَالَ الْحسن: الجان هُوَ
(5/324)
{رب المشرقين وَرب المغربين (17) فَبِأَي
آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مرج الْبَحْرين
يَلْتَقِيَانِ (19) بَينهمَا برزخ لَا يبغيان (20) فَبِأَي
آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) إِبْلِيس.
وَقَوله: {من مارج من نَار} قد ذكرنَا. وَقَالَ سعيد بن
جُبَير: المارج: الخضرة الَّتِي تكون بَين النَّار وَبَين
الدُّخان. وَيُقَال: المارج نَار مختلطة بسواد. وَقَالَ
الْفراء فِي قَوْله: {من نَار} : هِيَ نَار دون الْحجاب،
وَمِنْهَا الصَّوَاعِق الَّتِي يَرَاهَا النَّاس.
(5/326)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ
وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
قَوْله تَعَالَى: {رب المشرقين وَرب
المغربين} مَعْنَاهُ: مشرق الصَّيف، ومشرق الشتَاء. وَالَّذِي
قَالَ فِي مَوضِع آخر: {رب الْمشرق وَالْمغْرب} هُوَ مشرق كل
يَوْم فِي الصَّيف والشتاء. وَيُقَال: المشرقان: الشَّمْس
وَالْفَجْر، والمغربان: الشَّمْس والشفق.
(5/326)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ (19)
قَوْله تَعَالَى: {مرج الْبَحْرين
يَلْتَقِيَانِ} أَي: خلاهما وأرسلهما، قَالَه الْفراء والزجاج
وَغَيرهمَا، وَعَن بَعضهم: مرج الْبَحْرين أَي: لَاقَى
بَينهمَا.
وَقَوله: {الْبَحْرين} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: بَحر
السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَالَ الْحسن: بَحر فَارس وَالروم.
وَيُقَال: بَحر الْمشرق وَالْمغْرب. وَيُقَال: بَحر الْملح
والعذب.
وَقَوله: {يَلْتَقِيَانِ} أَي: يلقِي أَحدهمَا صَاحبه.
(5/326)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لَا يَبْغِيَانِ (20)
وَقَوله: {بَينهمَا برزخ لَا يبغيان} أى
حاجزه وَقَوله: لَا يبغيان أَي: لَا يخلتط أَحدهمَا بِالْآخرِ،
لَا يخْتَلط الْملح بالعذب [فيفسده] ، وَلَا العذب بالملح
فيختلج. وَيُقَال: الحاجز حاجز من الْقُدْرَة.
وَالْآيَة وَردت فِي مَوضِع مَخْصُوص من بَحر فَارس وَالروم.
وَقيل: فِي مَوضِع مَخْصُوص من العذب وَالْملح. والعذب هُوَ
النّيل، وَالْملح هُوَ بَحر الرّوم، يَلْتَقِيَانِ وَلَا
يختلطان.
(5/326)
{يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان (22)
فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَله الْجوَار
الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر كالأعلام (24) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) }
وَقَالَ بَعضهم: الحاجز هُوَ الأَرْض من بَحر السَّمَاء وبحر
الأَرْض. وَعَن بَعضهم: أَن الحاجز هُوَ جَزِيرَة الْعَرَب.
(5/327)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
قَوْله تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤ والمرجان} وَقُرِئَ: " يخرج " و " يخرج " أَي: يخرج
الله. وَأما اللُّؤْلُؤ، فَهُوَ الْحبّ الْمَعْرُوف مِنْهُ
الصغار والكبار، وَأما المرجان، قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ خرز
أَحْمَر. وَيُقَال: إِنَّه [البسد] جَوْهَر مَعْرُوف. وَقَالَ
قَتَادَة وَغَيره: المرجان كبار اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ صغاره،
وَقيل على الْعَكْس: المرجان صغَار اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ كباره.
فَإِن قيل: قد قَالَ: {يخرج مِنْهُمَا} وَأجْمع أهل الْعلم
بِهَذَا الشَّأْن أَنه يخرج من الْملح دون العذب. وَالْجَوَاب:
أَنه ذكرهمَا وَالْمرَاد أَحدهمَا، كَمَا تَقول الْعَرَب: أكلت
خبْزًا ولبنا، وَإِنَّمَا الْأكل فِي أَحدهمَا دون الآخر.
قَالَ الزّجاج: لما ذكر الْبَحْرين ثمَّ ذكر اللُّؤْلُؤ
والمرجان، وَهُوَ يخرج من أَحدهمَا، صحب الْإِضَافَة
إِلَيْهِمَا على لِسَان الْعَرَب. وَذكر الْقفال الشَّاشِي فِي
تَفْسِيره: أَن اللُّؤْلُؤ والمرجان لَا يكون إِلَّا فِي ملتقى
الْبَحْرين فِي أول مَا يخلق، ثمَّ حِينَئِذٍ مَوضِع الأصداف
هُوَ الْبَحْر الْملح دون العذب، فصح قَوْله: {يخرج مِنْهُمَا}
لِأَنَّهُمَا فِي ابْتِدَاء عِنْد ملتقى الْبَحْرين، وَهَذَا
قَول حسن إِن كَانَ كَذَلِك. وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس: أَن السَّمَاء إِذا أمْطرت ارْتَفَعت الأصداف إِلَى
وَجه الْبَحْر وَفتحت أفواهها، فَمَا وَقع من قطر السَّمَاء
فِي أفواها يكون الدّرّ.
(5/327)
وَلَهُ الْجَوَارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَله الْجوَار
الْمُنْشَآت} وَقُرِئَ بِكَسْر الشين، وَالْأول أشهر؛
فَمَعْنَى الْكَلِمَة على الْفَتْح أَي: المرفوعات الشَّرْع،
وَيُقَال: الْمَخْلُوقَات. وَمعنى الْكَلِمَة بِالْكَسْرِ أَي:
المقيلات، وَيُقَال: المبتدئات فِي السّير، فعلى هَذَا
الْمَعْنى إِذا قرئَ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه: أبتدئ بِهن فِي
السّير، ذكره الْأَزْهَرِي. والجواري: هِيَ السفن.
وَقَوله: {فِي الْبَحْر كالأعلام} أَي: الْجبَال، قَالَ
الشَّاعِر:
(5/327)
{كل من عَلَيْهَا فان (26) وَيبقى وَجه
رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام (27) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ (28) يسْأَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل
يَوْم هُوَ فِي شَأْن (29) فَبِأَي آلَاء}
(إِذا قطعن علما بدا علم ...
وَقَالَت الخنساء:
(وَإِن صخرا ليأتم الهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه
نَار)
أَي: جبل. وَيُقَال: كالأعلام أَي: كالقصور. وَعَن بعضم: أَن
السفن فِي الْبَحْر كالجبال فِي الْبر.
(5/328)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ (26)
قَوْله تَعَالَى: {كل من عَلَيْهَا فان}
أَي: كل من على الأَرْض هَالك.
(5/328)
وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
وَقَوله: {وَيبقى وَجه رَبك} أَي: يبْقى
رَبك، وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَنه يبْقى مَا
أُرِيد بِهِ وَجه رَبك.
وَقَوله: {ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} أَي: الْكِبْرِيَاء
وَالْعَظَمَة. وَأما الْإِكْرَام: هُوَ مَا أكْرم أولياءه،
وأصفياءه.
(5/328)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
قَوْله تَعَالَى: {يسْأَله من فِي
السَّمَوَات وَالْأَرْض} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا:
يسْأَله من فِي السَّمَاء الرَّحْمَة، وَمن فِي الأَرْض الرزق
وَالْمَغْفِرَة. قَالَ الْكَلْبِيّ: لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ أحد
من أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض. وَقَالَ قَتَادَة: يسْأَله
أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض الْمَغْفِرَة. وَعَن بَعضهم:
يسْأَله من فِي السَّمَاء أَي: الْمَلَائِكَة لأهل الأَرْض
الْمَغْفِرَة والرزق، ويسأله من فِي الأَرْض لأَنْفُسِهِمْ
الْمَغْفِرَة والرزق، وَهَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ.
فالمسئول لَهُ فِي السؤالين أهل الأَرْض. وَالْجُمْلَة أَن
معنى الْآيَة: أَن كل أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض يسألونه
حوائجهم، وَلَا غنى لأحد عَنهُ.
وَقَوله: {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} روى أَبُو الدَّرْدَاء عَن
النَّبِي قَالَ: " يغْفر ذَنبا،
(5/328)
{رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سنفرغ لكم
أَيهَا الثَّقَلَان (31) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ
(32) يَا} ويفرج كربا، وَيرْفَع قوما، وَيَضَع آخَرين ".
وَعَن بَعضهم: يُعْطي سَائِلًا، ويجيب دَاعيا، ويفك عانيا.
وَعَن بَعضهم: يحيي وَيُمِيت، ويعز ويذل، ويخلق ويرزق. وَعَن
بَعضهم: يعْتق رقابا، وَيُعْطِي رغابا، ويفحم خطابا.
(5/329)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
قَوْله تَعَالَى: {سنفرغ لكم أَيهَا
الثَّقَلَان} أَي: الْجِنّ وَالْإِنْس.
والثقل فِي كَلَام الْعَرَب: كل مَا يتنافس فِيهِ، ويسمون بيض
النعامة ثقلا؛ لِأَنَّهُ يتنافس فِيهَا. وَفِي الْخَبَر أَن
النَّبِي قَالَ: " تركت فِيكُم الثقلَيْن، كتاب الله وعترتي ".
وَهُوَ إِخْبَار عَن عظم قدرهما. فَإِن قيل: قد قَالَ: {سنفرغ}
والفراغ لَا يكون إِلَّا عَن شغل، وَلَا يجوز الشّغل على الله
تَعَالَى، فَكيف مَعْنَاهُ؟
وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد، كالإنسان
يَقُول لغيره: سأفرغ لَك، وَإنَّهُ لم يكن فِي الْحَال فِي
شغل. وَقَالَ الزّجاج: والفراغ يكون على وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
الْفَرَاغ من الشّغل. وَالْآخر: بِمَعْنى الْقَصْد، كَالرّجلِ
يَقُول لغيره: قد تفرغت لأذاى ومكروهي أى أخذت فِي كروهى وأذاى
وَيَقُول الرجل لغيره اصبر حَتَّى أتفرغ
(5/329)
{معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم
أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض فانفذوا لَا
تنفذون إِلَّا بسُلْطَان (33) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ من نَار} لَك أَي:
أقصدك وأعمدك، فَمَعْنَى قَوْله: {سنفرغ لكم} أَي: سنقصد ونعمد
بلمؤاخذة والمجازاة.
وَأنْشد الْمبرد فِي هَذَا الْمَعْنى قَول جرير:
(لما اتَّقى الْقَيْن الْعِرَاقِيّ [باسته] ... فرغت إِلَى
العَبْد الْمُقَيد فِي الحجل)
(5/330)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
قَوْله تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ
وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات
وَالْأَرْض} أَي: جَوَانِب السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {أَن تنفذوا} أَي: تخْرجُوا.
وَقَوله: {فانفذوا} أَي: اخْرُجُوا، وَهَذَا على طَرِيق
التهديد.
وَقَوله: {لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} أَي: حجَّة. وَيُقَال:
لَا تنفذون إِلَّا فِي سُلْطَان، وَالْبَاء بِمَعْنى فِي،
حَيْثُمَا كُنْتُم فَأنْتم فِي سلطاني وملكي. وَاخْتلفُوا أَن
هَذَا القَوْل مَتى يكون؟ فالأكثرون على أَنه يَوْم
الْقِيَامَة يكون، وَينزل الله تَعَالَى لملائكة حَتَّى ينفذوا
على أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَإِذا رأى الْجِنّ
وَالْإِنْس أهوال الْقِيَامَة هربوا، فتردم الْمَلَائِكَة.
وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بَيْنَمَا يكون
النَّاس فِي أسواقهم إِذا رَأَوْا السَّمَاء قد تشققت، وَنزلت
الْمَلَائِكَة، فيهرب النَّاس، فتتبعهم الْمَلَائِكَة ويردونم
إِلَى أَمر الله تَعَالَى وَهُوَ الْهَلَاك. وَهَذَا قَول
غَرِيب. وَيُقَال: إِن المُرَاد هُوَ الْهَرَب من الْمَوْت،
يَعْنِي: إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات
وَالْأَرْض هربا من الْمَوْت فانفذوا.
وَقَوله: {لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} يَعْنِي: حَيْثُ مَا
كُنْتُم أدرككم.
(5/330)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ
من نَار} أَي: لَهب من نَار، قَالَه ابْن عَبَّاس.
(5/330)
{ونحاس فَلَا تنتصران (35) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذا انشقت السَّمَاء فَكَانَت
وردة كالدهان (37) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه}
وَقَالَ مُجَاهِد: قِطْعَة من النَّار فِيهَا خضرَة.
وَالْمرَاد بِالْإِرْسَال هُوَ إرْسَال الْعَذَاب.
وَقَوله: {عَلَيْكُمَا} منصرف إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَقَوله: {ونحاس} يقْرَأ بِكَسْر السِّين وَضمّهَا، والنحاس من
الدُّخان، وَفِي قَول الْأَكْثَرين، قَالَ الشَّاعِر:
(يضيء كضوء سراج السليطة ... لم يَجْعَل الله فِيهِ نُحَاسا)
وَقَالَ مُجَاهِد: النّحاس: الصفر الْمُذَاب على رُءُوس
الْكفَّار.
وَقَوله: {فَلَا تنتصران} أَي: لَا تمتنعان، يُقَال: لَا يكون
لَكمَا قُوَّة دفع الْعَذَاب.
(5/331)
فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انشقت السَّمَاء
فَكَانَت وردة} أَي: حَمْرَاء.
وَقَوله: {كالدهان} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كالأديم الْأَحْمَر،
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَن الوردة وردة النَّبَات،
وَهِي تكون حَمْرَاء فِي الْأَغْلَب، قَالَ عبد بني الحساس:
(فَلَو كنت وردا لَونه [لعشقنني] ... وَلَكِن [رَبِّي شانني]
بسواديا)
وَذكر الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا أَن الوردة هَاهُنَا: لون
الْفرس الْورْد، وَهُوَ الْكُمَيْت. وَذَلِكَ يَتلون فِي
فُصُول السّنة، فَيكون أصفر فِي فصل، وأحمر فِي فصل، وأغر فِي
فصل. والدهان جمع الدّهن، وَهِي مُخْتَلفَة الألوان. فَمَعْنَى
الْآيَة: أَن السَّمَاء يخْتَلف لَوْنهَا يَوْم الْقِيَامَة
كاختلاف لون الْورْد، وَاخْتِلَاف لون الدّهن. وَقَالَ
تَعَالَى فِي مَوضِع آخر {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ}
قَالُوا: هُوَ دردي الزَّيْت، أَي: فِي اللَّوْن.
وَقَالَ بَعضهم: يصير مثل الدّهن الْأَصْفَر، وَهَذَا كُله من
فزع الْقِيَامَة وهولها.
(5/331)
فَيَوْمَئِذٍ لَا
يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل
عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} أَي: لَا يسْأَل سُؤال
(5/331)
{إنس وَلَا جَان (39) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ
فَيُؤْخَذ بالنواصي والأقدام (41) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ (42) هَذِه جَهَنَّم الَّتِي يكذب بهَا المجرمون
(43) يطوفون بَينهَا وَبَين حميم آن (44) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) } استعلام، وَإِنَّمَا يسْأَل
سُؤال تقريع وتوبيخ، وَلَا يُقَال لَهُم: هَل فَعلْتُمْ؟ بل
يُقَال لَهُم: لم فَعلْتُمْ؟
وَعَن بَعضهم: أَن مَعْنَاهُ: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا.
وَعَن بَعضهم: أَن الْمَلَائِكَة لَا يسْأَلُون عَن ذنُوب بني
آدم؛ لأَنهم قد رفعوا الصُّحُف، وأدوا الْأَمَانَة فِيهَا.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح.
(5/332)
يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي
وَالْأَقْدَامِ (41)
قَوْله تَعَالَى: {يعرف المجرمون
بِسِيمَاهُمْ} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: بسواد
الْوُجُوه وزرقة الْعُيُون.
وَقَوله: {فَيُؤْخَذ بالنواصي والأقدام} أَي: يجرونَ بنواصيهم
وأقدامهم إِلَى النَّار، وَيُقَال: يجمع بَين نواصيهم وأقدامهم
ويشد، ثمَّ يلقى (فِي) النَّار.
(5/332)
هَذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {هَذِه جَهَنَّم الَّتِي
يكذب بهَا المجرمون} يُقَال لَهُم هَذَا حِين يرَوْنَ
جَهَنَّم، وَهَذَا على طَرِيق التقريع والتوبيخ، يَعْنِي: مَا
أنكرتموه وجحدتموه فأبصروه عيَانًا.
(5/332)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
وَقَوله: {يطوفون بَينهَا وَبَين حميم آن}
أَي: يُطَاف بهم مرّة إِلَى الْحَمِيم، وَمرَّة إِلَى
الْجَحِيم.
وَقَوله: {آن} هُوَ الْحَمِيم الَّذِي انْتهى حره. وَقيل: آن
أَي: آن وَحضر وَقت عَذَابهمْ بِهِ وشربهم إِيَّاه.
(5/332)
وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَلمن خَافَ مقَام ربه
جنتان} لما ذكر عَذَاب الْكفَّار أتبع ذكر نعيم الْمُؤمنِينَ.
(5/332)
{وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان (46) فَبِأَي
ألاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) }
وَقَوله: {خَافَ مقَام ربه} أَي: قِيَامه بَين يَدي ربه للسؤال
والحساب، وَيُقَال: هُوَ من قدر على الذَّنب فَذكر ربه فخاف
مِنْهُ وَتَركه. وَعَن عَطِيَّة بن قيس: " أَن الْآيَة وَردت
فِي الرجل الَّذِي أوصى بنيه، وَقَالَ: إِذا مت فأحرقوني
واسحقوني وذروني فِي الرّيح، لعَلي أضلّ الله، فَفَعَلُوا،
فأحياه الله تَعَالَى وَقَالَ: لم فعلت ذَلِك؟ قَالَ: مخافتك،
فغفر الله لَهُ ". وَهَذَا خبر صَحِيح.
وَعَن الزبير أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله
عَنهُ وَهَذَا محكي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. قَالَ
الضَّحَّاك: شرب أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لَبَنًا، ثمَّ
سَأَلَ عَنهُ، وَكَانَ من غير وَجهه، فاستقاه، فَأنْزل الله
هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {جنتان} أَي: بُسْتَان. وَيُقَال: بُسْتَان لمسكنه،
وبستان لخدمه وحشمه. وَيُقَال: مسكن لَهُ، وبستان لَهُ. وَعَن
بَعضهم مَعْنَاهُ: جنَّة عدن، وجنة النَّعيم، وَهَذَا قَول
حسن. وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله: {خَافَ مقَام ربه} أَي: هم
بالمعصية فَتَركهَا خوفًا من الله تَعَالَى.
وَقَالَ الْفراء: الجنتان هَاهُنَا بِمَعْنى الْجنَّة
الْوَاحِدَة، وَقد ورد هَذَا فِي الشّعْر.
قَالَ الشَّاعِر:
(ومهمهمين فرقدين مرَّتَيْنِ ...
وَأَرَادَ بِهِ الْوَاحِدَة. وَقد أنكر عَلَيْهِ ذَلِك. وَقيل:
هَذَا ترك الظَّاهِر، وَإِنَّمَا الجنتان بستانان. وَفِي
الْخَبَر الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " جنتان من ذهب
آنيتهما وَمَا فيهمَا، وجنتان من فضَّة آنيتهما وَمَا فيهمَا "
رَوَاهُ أَبُو مُوسَى.
(5/333)
{ذواتا أفنان (48) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ (49) فيهمَا عينان تجريان (50) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فيهمَا من كل فَاكِهَة زوجان (52)
فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) متكئين على فرش
بطائنها من إستبرق}
(5/334)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ
(48)
قَوْله تَعَالَى: {ذواتا أفنان} فِيهِ
قَولَانِ: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: ذواتا ألوان من
الْفَاكِهَة، كَأَن الأفنان بِمَعْنى الْفُنُون. وَالْقَوْل
الثَّانِي: أَن الأفنان بِمَعْنى الأغصان، وَهُوَ الْأَظْهر.
قَالَ عِكْرِمَة: ظلّ الأغصان على الْحِيطَان. وَأما الأول
قَالَه الضَّحَّاك، وَجمع عَطاء بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ:
على كل غُصْن ألوانه من الْفَوَاكِه.
(5/334)
فِيهِمَا عَيْنَانِ
تَجْرِيَانِ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان تجريان}
فَقَالَ: هما التسنيم والسلسبيل، وَعَن بَعضهم: تجريان بِكُل
خير وبركة.
(5/334)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ
فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا من كل فَاكِهَة
زوجان} أَي: نَوْعَانِ وصنفان، وَهُوَ الرطب من الْفَوَاكِه
وَمَا يشبهها، كالعنب وَالزَّبِيب، وَالرّطب وَالتَّمْر،
وَنَحْو ذَلِك. وَعَن ابْن عَبَّاس: لَيْسَ مِمَّا وصف فِي
الْجنَّة فِي الدُّنْيَا شَيْء إِلَّا الْأَسْمَاء. كَأَنَّهُ
ذهب إِلَى أَن شَيْئا مِمَّا فِي الدُّنْيَا لَا يماثل مَا فِي
الْجنَّة.
(5/334)
مُتَّكِئِينَ عَلَى
فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دَانٍ (54)
قَوْله تَعَالَى: {متكئين على فرش بطائنها
من إستبرق} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: بطائنها أَي: ظواهرها،
تَقول الْعَرَب: هَذِه بطن السَّمَاء، وَهَذِه ظهرهَا، لما يرى
من السَّمَاء، وَهَذَا القَوْل ذكره الْفراء أَيْضا، وَأما
سَائِر أهل التَّفْسِير قَالُوا: إِن المُرَاد من البطائن
حَقِيقَة البطانة. والإستبرق: هُوَ الديباج الغليظ، مثل مَا
يعلق من الديباج على الْكَعْبَة. وَقيل: إِنَّهَا فارسية معربة
من قَوْلهم: إستبر. وَعَن بَعضهم: أَنه مثل الْحَرِير الصيني.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هَذِه البواطن، فَمَا ظنكم بالظواهر،
وَمثله عَن ابْن مَسْعُود. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ:
ظواهرها نور يتلألأ. وَعَن بَعضهم: ظواهرها مِمَّا قَالَ الله
تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين}
.
(5/334)
{وجنى الجنتين دَان (54) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قاصرات الطّرف لم يطمثهن
إنس وَلَا جَان (56) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
}
وَقَوله: {وجنى الجنتين دَان} أَي: ثمار الجنتين دانية،
وَمِنْه قَول الْعَرَب: هَذَا جناي خِيَار فِيهِ، إِذْ كل جَان
يَده إِلَى فِيهِ، وَهُوَ يَحْكِي عَن عَليّ بن أبي طَالب
رَضِي الله عَنهُ حِين دخل بَيت المَال بِالْكُوفَةِ، وَرَأى
مَا فِيهِ من الذَّهَب ولبفضة فَقَالَ: يَا صفراء، وَيَا
بَيْضَاء غرا غَيْرِي، ثمَّ قَالَ: هَذَا جناي ... إِلَى
آخِره.
وَقَوله: {دَان} أَي: قريب المتناول. قَالَ قَتَادَة: لَا
يردهُ عَنْهَا بعد وَلَا شوك. وَقَالَ غَيره: يَتَنَاوَلهَا
قَائِما وَقَاعِدا ومضطجعا.
(5/335)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ
(56)
قَوْله تَعَالَى: {فِيهِنَّ قاصرات الطّرف}
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {فيهم} وَإِنَّمَا ذكر الجنتين؟
وَالْجَوَاب: قَالَ بَعضهم: إِن الِاثْنَيْنِ يذكران بِلَفْظ
الْجمع، فَيجوز أَن يرد الْكَلَام إِلَيْهِمَا بِلَفْظ الْجمع.
وَالأَصَح أَن قَوْله: {فِيهِنَّ} ينْصَرف إِلَى الْفرش،
وَمَعْنَاهُ: عَلَيْهِنَّ، مثل قَوْله: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع
النّخل} أَي: على جُذُوع.
وَقَوله: {قاصرات الطّرف} أَي: قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ
لَا يرَوْنَ غَيرهم، وَهَذَا أحسن خصْلَة من خِصَال النِّسَاء.
قَالَ ابْن مَسْعُود: لسن بمتبرجات، وَلَا ضماخات، وَلَا
دفرات. وَقَالَ بَعضهم: لسن بمتشرغات، وَلَا بمتطلعات، وَلَا
صياحات، وَلَا صخابات. وَقَالَ الْحسن: لسن بالطوافات فِي
الْأَسْوَاق.
وَقَوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} أَي: لم يمسسهن
إنسي وَلَا جني. قَالَ الْفراء: الطمث: هُوَ الْوَطْء
بالتدمية، وَهُوَ الافتضاض.
قَالَ الفرزدق:
(5/335)
{كأنهن الْيَاقُوت والمرجان (58) فَبِأَي
آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَل جَزَاء الْإِحْسَان
إِلَّا الْإِحْسَان (60) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ
(61) }
(رفعن إِلَيّ لم يطمثن فبلي ... وَهن أصح من بيض النعام)
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن المُرَاد من قَوْله: {فِيهِنَّ
قاصرات الطّرف} هن الْمُؤْمِنَات من الآدميات. فعلى هَذَا
قَالَ بَعضهم: يجوز أَن يطَأ الجني الإنسية، وَاسْتدلَّ
بِظَاهِر الْآيَة. وَأما الْأَكْثَرُونَ أَنْكَرُوا هَذَا،
وَقَالُوا: معنى الْآيَة: لم يطمثهن، الجنية جني، وَلَا
الإنسية إنسي، وَقَوله: {فِيهِنَّ قاصرات الطّرف} يتَنَاوَل
الإنسيات والجنيات. فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يَقُولُونَ إِن
الْجِنّ يدْخلُونَ الْجنَّة، وَيكون لَهُم أَزوَاج مثل
الْإِنْس؟
وَالْجَوَاب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم:
يدْخل الله الْمُؤمنِينَ مِنْهُم الْجنَّة كَمَا يدْخل
الْكَافرين مِنْهُم النَّار، وَهُوَ قَول ضَمرَة بن جُنْدُب
وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ لَهُم ثَوَاب. قَالَ لَيْث بن
أبي سليم: مؤمنو الْجِنّ يحاجزون من النَّار ثمَّ يجْعَلُونَ
تُرَابا، وَأما الْكفَّار مِنْهُم يخلدُونَ فِي النَّار.
وَأما على الأول إِذا حملنَا الْآيَة على الْحور الْعين لَا
يرد شَيْء من هَذِه الأسئلة.
(5/336)
كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
قَوْله تَعَالَى: {كأنهن الْيَاقُوت
والمرجان} أى فِي صفاء الْيَاقُوت وَبَيَاض المرجان وَقد بَينا
أَن المرجان هُوَ اللُّؤْلُؤ الصغار وَقيل الْكِبَار
(5/336)
هَلْ جَزَاءُ
الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
قَوْله تَعَالَى: {هَل جَزَاء الْإِحْسَان
إِلَّا الْإِحْسَان} مَعْنَاهُ: هَل جَزَاء الطَّاعَة إِلَّا
الثَّوَاب. وَيُقَال: هَل جَزَاء من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا
الله إِلَّا الْجنَّة. وَفِي رِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي
أَنه قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى: " جَزَاء مَا أَنْعَمت
عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا أَن أدخلته جنتي ". وَقيل:
الْآيَة على الْجُمْلَة، وَمَعْنَاهَا: هَل جَزَاء من أحسن
إِلَّا أَن يحسن إِلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: أَنه يحْتَمل أَن
معنى الْآيَة: هَل جَزَاء إِحْسَان الله إِلَيْكُم إِلَّا أَن
تحسنوا بِالطَّاعَةِ.
(5/336)
{وَمن دونهمَا جنتان (62) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مدهامتان (64) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فيهمَا عينان نضاختان (66) فَبِأَي
آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان
(68) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) }
(5/337)
وَمِنْ دُونِهِمَا
جَنَّتَانِ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن دونهمَا جنتان}
أَي: من دون الجنتين جنتان، فَيُقَال: الجنتان، فَيُقَال:
الجنتان المذكورتان أَولا للمقربين، والمذكورتان آخرا
لأَصْحَاب الْيَمين، وَيُقَال: المذكورتان أَولا للسابقين،
والمذكورتان آخرا للتابعين. وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله:
{وَمن دونهمَا جنتان} قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: أَن الجنتين
المذكورتين آخرا دون الجنتين المذكورتين أَولا فِي النَّعيم
والكرامة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مَأْخُوذ من الدنو على معنى
الْقرب، كَأَن هَاتين الجنتين أقرب إِلَى الْمُؤمن يَعْنِي:
إِلَى مَسْكَنه ومنزله من الجنتين الأولتين. فَإِن قَالَ
قَائِل: أَي كَرَامَة فِي ذكر الجنتين، وَهنا ذكر جنَّة
وَاحِدَة؟
وَالْجَوَاب: أَن التنقل من بُسْتَان إِلَى بُسْتَان من
الاستلذاذ والتنعم مَا لَا يخفى، فَذكر الجنتين للزِّيَادَة
والكرامة وَالنعْمَة.
(5/337)
مُدْهَامَّتَانِ (64)
قَوْله تَعَالَى: {مدهامتان} أَي: خضراوتان
من الرّيّ. قَالَ مُجَاهِد: مسودتان من شدَّة الخضرة، وَهَذَا
قَول صَحِيح؛ لِأَنَّهُ مَا من أَخْضَر إِلَّا واشتدت خضرته
يضْرب إِلَى السوَاد، وَالْعرب كَانَت تسمى قرى الْعرَاق سوادا
لشدَّة خضرتها، وَكَثْرَة أشجارها.
(5/337)
فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ (66)
قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان}
أَي: فوارتان، والنضخ فَوق النَّضْح وَدون الجري. وَيُقَال:
نضاختان بالعنبر والمسك.
(5/337)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل
ورمان} حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الرُّمَّان لَيْسَ
من الْفَاكِهَة، وَكَذَلِكَ الرطب؛ لِأَنَّهُمَا أفردا بِالذكر
عَن الْفَاكِهَة، وَذكر الْفراء هَذَا أَيْضا. و [هَذَا] عَن
ابْن عَبَّاس قَول غَرِيب، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْجَمِيع
فَاكِهَة؛ لِأَن الْفَاكِهَة مَا يتفكه بِهِ، والإفراد بِالذكر
للتّنْبِيه على نوع فضل، لَا أَنه لَيْسَ من الْفَاكِهَة،
وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات
وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} وَمثل قَوْله
(5/337)
{فِيهِنَّ خيرات حسان (70) فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حور مقصورات فِي الْخيام (72)
فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لم يطمثهن إنس قبلهم
وَلَا جَان (74) فَبِأَي آلَاء} تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لله
وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} .
وَالرُّمَّان نوع فَاكِهَة يمص ويرمى بثفله. وَعَن الْحسن
الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو قَالَ رجل لامْرَأَته: إِن أكلت
فَاكِهَة فَأَنت طَالِق، فَأكلت الرُّمَّان أَو الرطب وَقع
الطَّلَاق. وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم وَهُوَ الْمُخْتَار
وَعند ابي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَا يَقع الطَّلَاق قَالَ
سعيد بن جُبَير: نخل الْجنَّة جذوعها من ذهب، وأغلافها من ذهب،
وكرانيفها من زمرد، وسعفها كسْوَة أهل الْجنَّة، وَثَمَرهَا
كالدلاء، أحلى من كل شَيْء، وألين من كل شَيْء.
(5/338)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ
حِسَانٌ (70)
قَوْله تَعَالَى: {فِيهِنَّ خيرات حسان}
قرئَ فِي الشاذ: " خيرات حسان " وهما بِمَعْنى وَاحِد، مثل:
هَين وهين، وليل ولين. وَمعنى الْآيَة: خيرات الْأَخْلَاق،
حسان الْوُجُوه.
(5/338)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ
فِي الْخِيَامِ (72)
قَوْله تَعَالَى: {حور مقصورات فِي
الْخيام} أَي: محبوسات، وَلَيْسَ هَذَا الْحَبْس إهانة،
إِنَّمَا هُوَ حبس الْكَرَامَة، قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ
الْخَيْمَة مجوفة. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كل خيمة لَهَا
أَرْبَعَة أَبْوَاب، يدْخل عَلَيْهِ من كل يَوْم هَدِيَّة
جَدِيدَة من الله تَعَالَى. وَعَن ابْن عَبَّاس: الْخَيْمَة
فَرسَخ فِي فَرسَخ من درة وَاحِدَة، لَهَا أَرْبَعَة آلَاف
مصراع من ذهب. وَقَالَ بَعضهم: الْخَيْمَة بِمَعْنى الْقبَّة،
وَهِي قباب الْعَرَب الَّتِي كَانُوا يسكنونها فِي
الْبَادِيَة، فَذكر لَهُم مثل مَا كَانُوا يستلذونها
ويستطيبونها، وَقد كَانُوا يستطيبون السُّكْنَى فِي الْخيام
فِي الْبَوَادِي، وَقد قيل: إِن هَذِه الْخيام خَارج الْجنَّة
كالبوادي للحاضرة.
(5/338)
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)
وَقَوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان}
قد بَينا.
(5/338)
مُتَّكِئِينَ عَلَى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
قَوْله تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف}
قَالَ الْفراء: هُوَ رياض الْجنَّة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
(5/338)
{رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) متكئين على
رَفْرَف خضر وعبقري حسان (76) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا
تُكَذِّبَانِ (77) تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال
وَالْإِكْرَام (78) } فرش الْجنَّة. وَعَن ابْن مَسْعُود فِي
قَوْله: {لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} أَي: رفرفا أَخْضَر
قد سد الْأُفق، وَهُوَ الْبسَاط. وعَلى الْجُمْلَة: الرفرف كل
فرش يرْتَفع، مَأْخُوذ من الرف، وَهُوَ الْمُرْتَفع فِي
الْجِدَار.
وَقَوله: {وعبقري حسان} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " عباقري حسان "
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عبقري حسان هُوَ الوسائد.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الطنافس، وَعَن بَعضهم: الزرابي،
وعبقري: قَرْيَة بِالْيمن ينسج بهَا الوشي، وهم ينسبون
إِلَيْهَا كل شَيْء حسن. وَفِي " كتاب الغريبين ": أَن عبقر
قَرْيَة يسكنهَا الْجِنّ، وَالْعرب ينسبون كل شَيْء فائق
إِلَيْهَا، قَالَ الشَّاعِر:
(بخيل عَلَيْهَا جنَّة عبقرية ... جديرون يَوْمًا أَن ينالوا
ويستعلوا)
وَقد ذكر بَعضهم أَن العبقري هَاهُنَا: هُوَ الوشي. قَالَ
مُجَاهِد: هُوَ الديباج. وَعَن بَعضهم: هُوَ الديباج الَّذِي
عمل فِيهِ بِالذَّهَب. وَأما الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن
النَّبِي أَنه قَالَ فِي عمر: " فَلم أر عبقريا يفري فِرْيَة
". مَعْنَاهُ: فَلم أر سيد قوم وجليلهم يعْمل عمله.
(5/339)
تَبَارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
قَوْله تَعَالَى: {تبَارك اسْم رَبك ذُو
الْجلَال وَالْإِكْرَام} وفرئ: " ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام "
مَعْنَاهُ: ذُو العظمة والمهابة. وَيُقَال: ذُو الْجلَال
وَالْإِكْرَام أَي: يجل الْمُؤمنِينَ ويكرمهم، وَالْقَوْل
الأول أولى؛ لِأَنَّهُ ينْصَرف إِلَى عَظمَة الله وعلو شَأْنه.
(5/339)
وَقَوله: {ذُو الْجلَال} ينْصَرف إِلَى
الِاسْم، وَقَوله: {ذِي الْجلَال} ينْصَرف إِلَى الرب،
وَالِاسْم والمسماة وَاحِد عِنْد أَكثر أهل السّنة. وَقد
رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلظُّوا بيا ذَا الْجلَال
وَالْإِكْرَام " أَي: الزموا وداموا عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى تَكْرِير قَوْله: {فَبِأَي آلَاء
رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} فِي هَذِه السُّورَة؟ وَكَانَ يُوقف
على الْمَعْنى بالمرة الْوَاحِدَة؟
وَالْجَوَاب: أَن الْقُرْآن نزل على لِسَان الْعَرَب على مَا
كَانُوا يعتادونه ويتعارفونه فِي كَلَامهم، وَمن عَادَتهم
أَنهم إِذا ذكرُوا النعم على إِنْسَان، يكررون التَّنْبِيه على
الشُّكْر أَو ذكر التوبيخ عِنْد عدم الشُّكْر، وَالله تَعَالَى
عد النعم فِي هَذِه السُّورَة، وَذكر عِنْد كل نعْمَة هَذِه
الْكَلِمَة؛ لِئَلَّا ينسوا شكرها، ويعرفوا إِحْسَان الله
عَلَيْهِم، ويجددوا الْحَمد عَلَيْهَا. تمت السُّورَة.
(5/340)
|