تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا وَقعت الْوَاقِعَة (1) لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة (2)
خافضة رَافِعَة (3) إِذا رجت}
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة
وَهِي مَكِّيَّة، وَعَن مَسْرُوق أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن
يعلم نبأ الْأَوَّلين والآخرين، ونبأ أهل الْجنَّة وَأهل
النَّار، ونبأ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فليقرأ سُورَة
الْوَاقِعَة. وَالله أعلم.
(5/341)
إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا وَقعت الْوَاقِعَة}
مَعْنَاهُ: إِذا كَانَت الْقِيَامَة، وَهَذَا قَول عَامَّة
الْمُفَسّرين. وَسميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛ لِأَنَّهُ لَا بُد
من وُقُوعهَا. وَالْعرب تسمي كل متوقع لَا بُد مِنْهُ وَاقعا،
وَقَالَ الضَّحَّاك: الْوَاقِعَة هَاهُنَا هِيَ الصَّيْحَة
لمَوْت الْخَلَائق. وَقيل: سميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛
لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من الشدَّة. وَعَن بَعضهم:
لِأَنَّهَا تقع على غَفلَة من النَّاس. فَإِن قيل: أَيْن
جَوَاب قَوْله: {إِذا} ؟ وَلَا بُد لهَذِهِ الْكَلِمَة من
جَوَاب، وَالْجَوَاب: أَن جَوَابه قَوْله: {فأصحاب الميمنة} .
(5/341)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا
كَاذِبَةٌ (2)
وَقَوله: {لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة} قَالَ
قَتَادَة: لَيْسَ مثنوية وَلَا رد وَلَا رَجْعَة. وَيُقَال
مَعْنَاهُ: هِيَ صدق وَلَا كذب فِيهَا. وَقيل: لَيْسَ لوقوعها
من نفس كَاذِبَة، حُكيَ هَذَا عَن سُفْيَان، وَمَعْنَاهُ:
لَيْسَ عِنْد وُقُوعهَا مكذب بهَا.
(5/341)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ
(3)
وَقَوله: {خافضة رَافِعَة} قَالَ ابْن
عَبَّاس: تخْفض أَقْوَامًا، وترفع آخَرين، وَعنهُ فِي رِوَايَة
أُخْرَى: تخْفض أَقْوَامًا ارتفعوا، وترفع أَقْوَامًا خفضوا
فِي الدُّنْيَا. وَعَن السدى: ترفع أَقْوَامًا فِي الْجنَّة،
وتخفض أَقْوَامًا فِي النَّار. وَمعنى هَذَا: تخْفض أهل
الْمعْصِيَة بِإِيجَاب النَّار لَهُم، وترفع أهل الطَّاعَة
بِإِيجَاب الْجنَّة لَهُم. قَالَ ابْن جريج: خافضة رَافِعَة
بِالْحَسَنَاتِ والسيئات.
(5/341)
إِذَا رُجَّتِ
الْأَرْضُ رَجًّا (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا رجت الأَرْض رجا}
قَالَ الْمبرد: الرجة حَرَكَة يسمع مِنْهَا صَوت،
(5/341)
{الأَرْض رجا (4) وبست الْجبَال بسا (5)
فَكَانَت هباء منبثا (6) وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة (7) فأصحاب
الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة (8) وَأَصْحَاب المشأمة مَا}
وَهِي أَكثر من الصَّيْحَة. فعلى هَذَا معنى الاية: حركت
الأَرْض بِمن فِيهَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا
زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} .
(5/342)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ
بَسًّا (5)
وَقَوله: {وبست الْجبَال بسا} قَالَ ابْن
عَبَّاس: فتتت فتا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: قلعت من
أَصْلهَا. وَقَالَ السدى: كسرت كسرا. قَالَ مُجَاهِد: بست
كَمَا يبس السويق أَي: دقَّتْ، والبسيسة هِيَ الدَّقِيق،
والسويق يلت ويتخذ مِنْهُ الزَّاد. وَقَالَ قَتَادَة: بست أَي:
جعلت كبيس الشَّجَرَة تَذْرُوهُ الرِّيَاح، وَقَالَ الشَّاعِر
فِي البس بِمَعْنى اللت:
(لَا تخبزا خبْزًا وبسا بسا ...
أوردهُ النّحاس. وَقَالَ بَعضهم: بست أَي: سيرت، وَمِنْه
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " يخرج من الْمَدِينَة قوم يبسون
وَالْمَدينَة خير لَهُم " أَي: يَسِيرُونَ.
(5/342)
فَكَانَتْ هَبَاءً
مُنْبَثًّا (6)
وَقَوله: {فَكَانَت هباء منبثا} قَالَ
عَليّ رَضِي الله عَنهُ هُوَ مَا سَطَعَ من سنابك الْخَيل من
المرضح وَالْغُبَار، ثمَّ يذهب.
وَعَن بَعضهم: إِن الهباء المنبث هُوَ الَّذِي يرى فِي الكوة
من ضوء الشَّمْس كالعمود الْمَمْدُود.
وَالأَصَح هُوَ الأول هُوَ الهباء المنبث. وَعَن بَعضهم: أَن
الهباء المنبث هُوَ الرماد.
(5/342)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا
ثَلَاثَةً (7)
وَقَوله: {وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة} أَي:
أصنافا ثَلَاثَة.
(5/342)
فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {فأصحاب الميمنة مَا
أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة}
قَالَ يزِيد بن أسلم: هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْمن من
آدم عَلَيْهِ السَّلَام،
(5/342)
{أَصْحَاب المشأمة (9) وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ المقربون (11) فِي} وَأَصْحَاب
المشأمة هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْسَر. وَعَن مُحَمَّد
بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: أَصْحَاب الميمنة هم الَّذين
يُعْطون الْكتاب بإيمالهم. وَأَصْحَاب المشأمة هم الَّذين
يُعْطون الْكتاب بشمالهم وَقَالَ السدى: أَصْحَاب الميمنة:
جُمْهُور أهل الْجنَّة، وَأَصْحَاب المشأمة: جُمْهُور أهل
النَّار. وَيُقَال: أَصْحَاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم،
وَأَصْحَاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم. وَالْعرب تسمي
الْجَانِب الْأَيْسَر الْجَانِب الأشأم، وتسمي الْيَسَار
الشؤمى، وَالْيَمِين الْيُمْنَى.
وَقَوله: {مَا أَصْحَاب الميمنة} و {مَا أَصْحَاب المشأمة}
هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب للتعجيب، وَهُوَ فِي كَلَام الله
مَعَ عباده للتّنْبِيه على عظم شَأْن الْأَمر.
(5/343)
وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ (10)
وَقَوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}
قَالَ كَعْب: هم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. وَعَن
بَعضهم: هُوَ كل من صلى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ. وَعَن ابْن
عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: مُؤمن آل فِرْعَوْن سبق إِلَى
مُوسَى، وَمُؤمن آل ياسين سبق إِلَى عِيسَى، وَعلي سبق إِلَى
مُحَمَّد بِالْإِيمَان، أوردهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس.
وَيُقَال: السَّابِقُونَ هم المبادرون إِلَى الطَّاعَات.
وَقَوله: {السَّابِقُونَ} تَقْدِير الْآيَة: وَالسَّابِقُونَ
إِلَى الْخيرَات والطاعات هم السَّابِقُونَ فِي الدَّرَجَات.
وَقيل: هُوَ على طَرِيق التَّأْكِيد.
(5/343)
أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ (11)
وَقَوله: {أُولَئِكَ المقربون} أَي:
المقربون من الْمنزلَة والكرامة والوصول إِلَيّ رضَا الله
تَعَالَى. وَذكر فِي مَوضِع آخر أصنافا ثَلَاثَة فَقَالَ:
{ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا
فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق
بالخيرات} فَذهب بعض أهل التَّفْسِير إِلَى أَن الْأَصْنَاف
الْمَذْكُورين فِي سُورَة الْوَاقِعَة [كلهم] من الْمُؤمنِينَ
مثل الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي تِلْكَ السُّورَة، وَأَن
أَصْحَاب المشأمة هم
(5/343)
{جنَّات النَّعيم (12) ثلة من الْأَوَّلين
(13) وَقَلِيل من الآخرين (14) } الظَّالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ،
وَأَصْحَاب الميمنة هم المقتصدون، وَالسَّابِقُونَ هم
السَّابِقُونَ بالخيرات. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْأَصَح،
وَأَن أَصْحَاب المشأمة هم الْكفَّار؛ وَلِأَن الله تَعَالَى
قَالَ بعده: {وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال فِي
سموم وحميم} ووصفهم بالْكفْر على مَا سَيَأْتِي.
(5/344)
فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (12)
وَقَوله: {فِي جنَّات النَّعيم} ذكر النقاش
فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي فِي وصف جنَّة النَّعيم: " أَن
لبنة مِنْهَا فضَّة، ولبنة ذهب، وطينها الْمسك، وترابها
الزَّعْفَرَان، وحصباءها الدّرّ والياقوت ".
(5/344)
ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (13)
قَوْله: {ثلة من الْأَوَّلين} أَي: جمَاعَة
من الْأَوَّلين، وَلَفظ الثلَّة مَأْخُوذ من الثل وَهُوَ
الْقطع.
(5/344)
وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (14)
وَقَوله: {وَقَلِيل من الآخرين} اخْتلف أهل
التَّفْسِير فِيهِ على الْقَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد
من الْأَوَّلين هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين قبل
نَبينَا مُحَمَّد.
وَقَوله: {وَقَلِيل من الآخرين} هم من أمة مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَمِيعًا من هَذِه الْأمة،
وَقد رُوِيَ هَذَا فِي خبر مَرْفُوع، وَهُوَ قَول الْحسن
وَابْن سِيرِين. فَإِن قيل على القَوْل الأول: كَيفَ
يَسْتَقِيم هَذَا، وَأَتْبَاع الرَّسُول من الْمُؤمنِينَ أَكثر
من أَتبَاع الْأَنْبِيَاء؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من
الْأَوَّلين هُوَ من رأى جمع الْأَنْبِيَاء وآمن بهم، وَمن
الآخرين من رأى مُحَمَّدًا وآمن بِهِ، وعَلى الْقطع
(5/344)
{على سرر موضونة (15) } يعلم أَن أُولَئِكَ
مِمَّن رأى نَبينَا وآمن بِهِ، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي
يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام: {وَأَرْسَلْنَا إِلَى مائَة ألف
أَو يزِيدُونَ} هَذَا فِي نَبِي وَاحِد، فَكيف فِي جَمِيع
الْأَنْبِيَاء؟ وَإِنَّمَا كثرت هَذَا الْأمة بعد وَفَاة
الرَّسُول، وَقد رُوِيَ " أَنه لما نزلت هَذَا الْآيَة حزن
أَصْحَاب رَسُول الله حزنا شَدِيدا لقَوْله: {وَقَلِيل من
الآخرين} فَقَالَ النَّبِي: " إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا ربع
أهل الْجنَّة، بل ثلث أهل الْجنَّة، بل نصف أهل الْجنَّة،
وتقاسمونهم فِي النّصْف الثَّانِي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار:
أَن أهل الْجنَّة مائَة وَعِشْرُونَ صفا، ثَمَانُون من هَذِه
الْأمة ".
(5/345)
عَلَى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ (15)
قَوْله تَعَالَى: {على سرر} فالسرر جمع
سَرِير. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن ارتفاعه سَبْعُونَ
ذِرَاعا، وَقيل: أَكثر من ذَلِك، وَالله أعلم.
وَقَوله: {موضونة} أَي: مرمولة بقضبان الذَّهَب. وَقيل: مشبكة
منسوجة بالدر والياقوت. والوضين فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ
الحزام الَّذِي يشد بِهِ بطن الدَّابَّة، سمي وضينا لنسجه
وإدخاله بعضه فِي بعض، قَالَ الشَّاعِر:
(إِلَيْك تعدو قلقا وضينها ... مُعْتَرضًا فِي بَطنهَا
جَنِينهَا)
(مُخَالفا دين النَّصَارَى دينهَا ...
(5/345)
{متكئين عَلَيْهَا مُتَقَابلين (16) يطوف
عَلَيْهِم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معِين
(18) لَا يصدعون عَنْهَا}
وَقَالَ آخر:
(وَمن نسج دَاوُد موضونة ... تساق مَعَ الْحَيّ عيرًا فعيرا)
والسرير المرمول أوطأ من السرير الَّذِي هُوَ غير مرمول.
وَقيل: موضونة أَي: مصفوفة.
(5/346)
مُتَّكِئِينَ
عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
وَقَوله: {متكئين عَلَيْهَا} الاتكاء هُوَ
الِاسْتِنَاد على طَرِيق التنعم.
وَقَوله: {عَلَيْهَا مُتَقَابلين} هُوَ مثل قَوْله: {إخْوَانًا
على سرر مُتَقَابلين} أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض،
ووجوههم إِلَى وُجُوه إخْوَانهمْ.
(5/346)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {يطوف عَلَيْهِم ولدان
مخلدون} أَي: غلْمَان.
وَقَوله: {مخلدون} أَي: لَا يموتون. وَقيل: مخلدون مسرورون.
وَقيل: مقرطون، قَالَ الشَّاعِر:
(ومخلدات باللجين كَأَنَّمَا ... أعجازهن [أقاوز] الكثبان)
(5/346)
بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
وَقَوله: {بأكواب} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
الأكواب هِيَ الْأَوَانِي المستديرة الرُّءُوس، وَلَيْسَت
لَهَا خراطيم، والأباريق الَّتِي لَهَا خراطيم. وَفِي الْخَبَر
فِي وصف الْكَوْثَر أَكَاوِيبه عدد نُجُوم السَّمَاء.
وَقَوله: {وكأس من معِين} فِي التَّفْسِير: أَن الْعَرَب لَا
تسمى الْإِنَاء كأسا حَتَّى يكون فِيهِ الْخمر.
قَوْله تَعَالَى: {معِين} أَي: خمر جَار. وَيُقَال: إِن خمر
أهل الْجنَّة تكون بَيْضَاء، وَقيل: حَمْرَاء، وَالله أعلم.
(5/346)
{وَلَا ينزفون (19) وَفَاكِهَة مِمَّا
يتخيرون (20) وَلحم طير مِمَّا يشتهون (21) وحور عين (22)
كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا
يعْملُونَ (24) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما (25)
إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما (26) }
(5/347)
لَا يُصَدَّعُونَ
عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
وَقَوله: {لَا يصدعون عَنْهَا} أَي: لَا
يلحقهم من شربهَا صداع مثل مَا يُصِيب شَارِب الْخمر فِي
الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَلَا ينزفون} أَي: وَلَا تذْهب عُقُولهمْ. وَقيل:
لَا يسكرون. وَقيل: لَا تَتَغَيَّر ألوانهم، وَقيل: لَا يقيئون
مثل مَا يقئ شَارِب الْخمر فِي الدُّنْيَا. وَفِي اللُّغَة
يُسمى ذَاهِب اللَّوْن منزوفا، وذاهب الْعقل نزيفا، وَكَذَلِكَ
العطشان، قَالَ الشَّاعِر:
(فلثمت فاها آخِذا بقرونها ... شرب النزيف بِبرد مَاء الحشرج)
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا ينزفون " بِكَسْر الزَّاي،
وَمَعْنَاهُ: لَا تفنى خمرهم.
(5/347)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة مِمَّا
يتخيرون} أَي: يختارون.
(5/347)
وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلحم طير مِمَّا
يشتهون} أَي: يُرِيدُونَ.
(5/347)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
وَقَوله: {وحور عين} بِالرَّفْع فيهمَا،
وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَقُرِئَ بِالْفَتْح فيهمَا فِي
الشاذ، فعلى الرّفْع مَعْنَاهُ: وَلَهُم حور عين، وعَلى الْكسر
مَعْنَاهُ: وَيُطَاف عَلَيْهِم بحور عين، وعَلى النصب
مَعْنَاهُ: ويعطون حورا عينا. وَالْمَشْهُور بِالرَّفْع
والخفض، وَسميت الْحور حورا؛ لبياضهن وَشدَّة سَواد أعينهن،
وَقيل: سمين حورا؛ لِأَن الطّرف يحار فِيهِنَّ.
وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْأَعْين، وَهُوَ مَا ذكرنَا من
بَيَاض الْبشرَة وَسَوَاد الحدقة.
(5/347)
كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
وَقَوله: {كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون}
أَي: اللُّؤْلُؤ الْمكنون فِي أصدافه لم تنله يَد.
(5/347)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24)
وَقَوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ}
أَي: ثَوابًا لَهُم لعملهم.
(5/347)
لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ فِيهَا
لَغوا وَلَا تأثيما} أَي: كلَاما بَاطِلا، وكلاما يَأْثَم بِهِ
قَائِله، واللغو كل مَا يلغى.
(5/347)
إِلَّا قِيلًا
سَلَامًا سَلَامًا (26)
وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما}
مَعْنَاهُ: إِلَّا قَوْلهم السَّلَام بعد السَّلَام، والتحية
بعد
{وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين (27) فِي سدر
مخضود (28) وطلح منضود
التَّحِيَّة. وَقد قَالُوا: إِن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا من
غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَهُوَ مُنْقَطع، وَهُوَ
بِمَعْنى لَكِن. وَقيل: إِنَّه من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؛
لِأَن اللَّغْو كَلَام مسموع، وَالسَّمَاع كَلَام مسموع،
وَاخْتلفُوا فِي نصب قَوْله: {سَلاما} قَالَ بَعضهم: انتصب
لِأَن مَعْنَاهُ: سلمك الله سَلاما أَي: يَقُول بَعضهم لبَعض،
وَمِنْهُم من قَالَ: انتصب تبعا لقَوْله: {قيلا} لِأَن سَلاما
هُوَ الْفِعْل الْمَذْكُور.
(5/347)
وَأَصْحَابُ
الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
وَقَوله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الْيَمين
مَا أَصْحَاب الْيَمين} قد بَينا، وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان
قَالَ: لَهُم منزلَة دون منزلَة المقربين. وروى جَعْفَر بن
مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَنهم الَّذين خلطوا عملا صَالحا
وَآخر سَيِّئًا ثمَّ تَابُوا. وَذكر الضَّحَّاك عَن ابْن
عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى
فاستخرج مِنْهَا ذُرِّيَّة شبه الذَّر بيضًا؛ وَقَالَ لَهُم:
ادخُلُوا الْجنَّة برحمتي، ثمَّ مسح صفحة ظَهره اليسى واستخرج
مِنْهَا ذُرِّيَّة كالحمم سَوْدَاء، وَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا
النَّار وَلَا أُبَالِي. وَفِي رِوَايَة: أَخذ بِيَمِينِهِ كل
طيب، وَأخذ بِشمَالِهِ كل خَبِيث. وَفِي الصَّحِيح "أَن كلتا
يَدَيْهِ يَمِين". فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَأَصْحَاب
الْيَمين} هم الَّذين أخذُوا من صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى.
(5/347)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ
(28)
وَقَوله: {فِي سدر مخضود} أَي: قد قطع شوكه
وَنزع. والسدر: شجر النبق، قَالَ السّديّ: ثَمَرَة أحلى من
الْعَسَل. وَقيل: مخضود أَي: موقر حملا. وَيُقَال: لَا عجم فِي
ثمره. وَفِي اللُّغَة الخضد هُوَ الْقطع. قَالَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صفة مَكَّة: "لَا
يخضد شَجَرهَا" أَي: لَا يقطع.
(5/347)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
(29)
وَقَوله: {وطلح منضود} قَرَأَ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ: "وطلع منضود" وَهُوَ مثل قَوْله
(5/347)
((29} وظل مَمْدُود (30) وَمَاء مسكوب (31)
وَفَاكِهَة كَثِيرَة (32) لَا مَقْطُوعَة وَلَا) فِي مَوضِع
آخر: {لَهَا طلع نضيد} وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَغَيرهم: هُوَ الموز.
قَوْله: {منضود} أَي: متراكم بعضه على بعض، وَذكر النّحاس أَن
الْعَرَب تَقول: عَسى يَا فلَان تطلح، أَي: بِنِعْمَة، قَالَ
الشَّاعِر:
(كم رَأينَا من أنَاس هَلَكُوا ... ورأينا الْمَرْء عمرا بطلح)
أَي: بِنِعْمَة. وَيُقَال: إِن الطلح هَاهُنَا هُوَ شجر
العضاه، وَهُوَ أَكثر شجر الْعَرَب، وَله منظر حسن. وَرُوِيَ
أَن أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي الله عَنْهُم لما ذَهَبُوا
إِلَى الطَّائِف أعجبهم طلح وَج، فَذكر الله تَعَالَى أَن
لَهُم فِي الْجنَّة طلحا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يكون
لَهُم فِي الْجنَّة شَجَرَة شوك؟ : قُلْنَا: لَا يكون ثمَّ
شوك، إِلَّا أَنه شجر يشبه الطلح فِي الْكبر وَحسن المنظر،
وَيجوز أَن يكون فِي الْجنَّة شَجرا؛ لأكل الثَّمر مِنْهُ،
وَشَجر يحسن النّظر إِلَيْهِ، وَالأَصَح أَنه الموز.
وَقَوله تَعَالَى: {منضود} قَالُوا مَعْنَاهُ: أَن ثمره وورقه
من أَوله إِلَى آخِره لَيست لَهَا سَاق بارزة.
(5/349)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
(30)
وَقَوله: {وظل مَمْدُود} قَالَ الْحسن: لَا
يَنْقَطِع. وَعَن يحيى بن أبي كثير: أَن سَاعَات الْجنَّة تشبه
الْغَدَاة الْبَارِدَة فِي الصَّيف. وَيُقَال: إِنَّهَا مثل
سَجْسَج لَيْسَ فِيهِ حر وَلَا برد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي
قَالَ: " إِن فِي الْجنَّة شَجَرَة يسير الرَّاكِب فِي ظلها
مائَة عَام لَا يقطعهُ، واقرءوا إِن شِئْتُم: {وظل مَمْدُود}
".
(5/349)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ
(31)
وَقَوله: {وَمَاء مسكوب} أَي: مصبوب،
وَمَعْنَاهُ: أَنه ينصب إِلَيْهِم من الْعُلُوّ. قَالَ الْحسن:
مسكوب أَي: جَار لَا يَنْقَطِع أبدا.
(5/349)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
(32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)
وَقَوله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة كَثِيرَة
لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة} قَالَ الزّجاج: لَا
مَقْطُوعَة
(5/349)
{مَمْنُوعَة (33) وفرش مَرْفُوعَة (34)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء (35) } أَي: لَا يكون فِي
حِين دون حِين، وَلَا مَمْنُوعَة أَي: لَا يخْطر عَلَيْهَا
كَمَا يخْطر على الْبَسَاتِين فِي الدُّنْيَا، وَقيل: لَا
مَقْطُوعَة: لَا يَنْقَطِع أبدا، وَالْمعْنَى على هَذَا
أَنَّهَا إِذا جنيت ظهر مَكَانهَا فِي الْحَال مثلهَا أَو خير
مِنْهَا.
وَقَوله: {وَلَا مَمْنُوعَة} أَي: لَا يمْنَع الْأَخْذ
مِنْهَا، وَقيل: لَا يمْنَع الْأَخْذ بعد وَلَا شوك. وَعَن
ابْن شَوْذَب قَالَ: رَأَيْت الْحجَّاج بن فرافصة وَاقِفًا فِي
سوق الْفَاكِهَة بِالْبَصْرَةِ، فَقلت: مَا تصنع هَاهُنَا؟
فَقَالَ: أنظر إِلَى هَذِه المقطوعة الممنوعة.
(5/350)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ
(34)
وَقَوله تَعَالَى: {وفرش مَرْفُوعَة} أَي:
عالية، وَيُقَال: بَعْضهَا فَوق بعض. وروى أَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " ارتفاعها مَا بَين
السَّمَاء وَالْأَرْض، ومسيرة مَا بَينهمَا خَمْسمِائَة عَام
". وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث فِي
كِتَابه، وَقَالَ: هُوَ غَرِيب. وَذهب جمَاعَة من التَّابِعين
أَن الْفرش المرفوعة هَاهُنَا هِيَ النِّسَاء، وَالْعرب تسمي
الْمَرْأَة فرَاش الرجل ولحافه. وسماهن مَرْفُوعَة؛
لِأَنَّهُنَّ رفعن بِالْفَضْلِ وَالْجمال والكمال. وَالْعرب
تسمي كل فَاضل رفيعا. وَيُقَال: سماهن فرشا؛ لِأَنَّهُنَّ على
الْفرش، فكنى بالفرش عَنْهُن.
(5/350)
إِنَّا
أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
إنْشَاء} فِيهِ قَولَانِ: لِأَنَّهُنَّ الْحور، وَمعنى
الْإِنْشَاء فِيهِنَّ أَن الله تَعَالَى يَجْعَل الصبايا
وَالْعجز على سنّ وَاحِدَة فِي الصُّورَة والشباب. وَعَن بعض
التَّابِعين أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: هن الْعَجز الرمص
العمش. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
تفضل الْمَرْأَة الصَّالِحَة فِي الْحسن على الْحور {فجعلناهن
أَبْكَارًا (36) عربا أَتْرَابًا (37) لأَصْحَاب الْيَمين (38)
ثلة من الْأَوَّلين (39) وثلة من الآخرين (40) }
سبعين ضعفا" ذكره النقاش، وَهُوَ غَرِيب جدا.
(5/350)
فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا (36)
وَقَوله: {فجعلناهن أَبْكَارًا} أَي:
عذارى. قَالَ الضَّحَّاك: أهل الْجنَّة لَا يأْتونَ النِّسَاء
من مرّة إِلَّا وَجَدُوهُنَّ عذارى.
(5/350)
عُرُبًا أَتْرَابًا
(37)
وَقَوله تَعَالَى: {عربا} أَي: محببات
إِلَى أَزوَاجهنَّ. وَعَن ابْن عَبَّاس: عواشق
لِأَزْوَاجِهِنَّ. وَعَن بَعضهم: غنجات. وَعَن بَعضهم شكلات.
عَن بَعضهم: مغتلمات. تَقول الْعَرَب للناقة إِذا كَانَت
تشْتَهى الْفَحْل: عرُوبَة.
وَعَن زيد بن أسلم حَسَنَات الْكَلَام. وَعَن بَعضهم: عربا
أَي: يتكلمن بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَعْرُوف الأول [و] يُمكن
الْجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال كلهَا، فَكَأَنَّهَا تتحبب
إِلَى زوجهات بغنج وشكل، وَكَلَام حسن، وميل شَدِيد، وبلفظ
عَرَبِيّ.
وَقَوله: {أَتْرَابًا} أَي: لدات، كأنهن على سنّ وَاحِد وميلاد
وَاحِد.
وَيُقَال: أَتْرَابًا: أشكالا لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الْجِسْم
والمقدار، قَالَ الشَّاعِر:
(أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بَين جنس كواعب أتراب)
(5/350)
لِأَصْحَابِ
الْيَمِينِ (38)
وَقَوله {لأَصْحَاب الْيَمين} أَي: هَذَا
الَّذِي قُلْنَا لأَصْحَاب الْيَمين.
(5/350)
ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَقَوله تَعَالَى: {ثلة من الْأَوَّلين
وثلة من الآخرين} أَي: جمَاعَة من الْأَوَّلين، وهم الَّذين
اتبعُوا الْأَنْبِيَاء والمتقدمين - صلوَات الله عَلَيْهِم
أَجْمَعِينَ - وَجَمَاعَة من الآخرين، وهم الَّذين اتبعُوا
نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والثلة: الْقطعَة. وَقد روى
أبان بن أبي عَيَّاش عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ هَذِه
(5/350)
{وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال
(41) فِي سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لَا بَارِد وَلَا
كريم (44) إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين (45) } الْآيَة:
{ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين} وَقَالَ: "
الثُّلَّتَانِ من أمتِي ". فعلى هَذَا الثلَّة الأولى هم
الَّذين عاينوا النَّبِي وآمنوا بِهِ، والثلة الثَّانِيَة هم
الَّذين آمنُوا بِهِ وَلم يروه.
فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْآيَة وَبَين
الْآيَة الَّتِي تقدّمت، وَهِي قَوْله: {وَقَلِيل من الآخرين}
وَالْجَوَاب: قد روينَا أَن تِلْكَ الْآيَة لما نزلت حزن
أَصْحَاب رَسُول الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة،
وَذكرنَا معنى الْقَلِيل، وهم من عاين النَّبِي وَاتبعهُ، فعلى
هَذَا معنى الثلَّة هَاهُنَا جَمِيع من اتبعهُ، عاينه أَو لم
يعاينه.
(5/352)
وَأَصْحَابُ
الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الشمَال مَا
أَصْحَاب الشمَال} فقد ذكرنَا مَعْنَاهُ.
(5/352)
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
(42)
قَوْله: {فِي سموم} هِيَ الرّيح الحارة.
وَقيل: إِنَّه اسْم جَهَنَّم.
وَقَوله: {وحميم} أَي: المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي
التَّفْسِير: أَنه يخرج من صَخْرَة فِي جَهَنَّم. وَفِي
التَّفْسِير أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود: أَن أَنهَار الْجنَّة
تخرج من جبل من الكافور فِي الْجنَّة.
(5/352)
وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ (43)
وَقَوله: {وظل من يحموم} أَي: دُخان أسود
يغشي أهل النَّار، ويصيبهم من حره مَا يغلي دماغهم. وَعَن
بَعضهم: أَن اليحموم اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَعَن (ابْن
البريدة) : أَن اليحموم جبل فِي النَّار يظل أهل النَّار
مُدَّة أَن يستظلوا بظله، فَيُؤذن لَهُم بعد مُدَّة، فيصيبهم
من حره مَا يستغيثون مِنْهُ، وَيكون ذَلِك أَشد عَلَيْهِم
مِمَّا كَانُوا فِيهِ.
(5/352)
لَا بَارِدٍ وَلَا
كَرِيمٍ (44)
وَقَوله: {لَا بَارِد وَلَا كريم} أَي: لَا
بَارِد الْمدْخل، وَلَا كريم المنظر. قَالَ الْفراء: الْعَرَب
تجْعَل الْكَرِيم تَابعا فِي كل مَا يبْقى عَنهُ، وصف يُرَاد
بِهِ الذَّم. يَقُول: هَذِه الدَّار لَيست بواسعة وَلَا
كَرِيمَة، وَهَذَا الْفرس لَيْسَ بجواد وَلَا كريم.
(5/352)
{وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم
(46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما
أئنا لمبعوثون (47) أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ (48) قل إِن
الْأَوَّلين والآخرين (49) لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم
مَعْلُوم (50) ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون المكذبون (51)
لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون مِنْهَا الْبُطُون (53)
فشاربون عَلَيْهِ من}
(5/353)
إِنَّهُمْ كَانُوا
قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا قبل
ذَلِك مترفين} أَي: منعمين، والترفة: النِّعْمَة. وَفِي بعض
الْأَخْبَار: أَن عباد الله لَيْسُوا بالمتنعمين. وَالْمعْنَى:
التَّوَسُّع فِي الْحرم وَمَا لَا يحل؛ لِأَن التَّوَسُّع فِي
الْحَلَال والتنعم مِنْهُ جَائِز، وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ
عُقُوبَة.
(5/353)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَقَوله: {وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث
الْعَظِيم} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: الشّرك. وَيُقَال: هُوَ
الْإِثْم الْعَظِيم. وَيُقَال للصَّبِيّ إِذا بلغ: قد بلغ
الْحِنْث أَي: بلغ زمَان الْإِثْم. وَعَن عَليّ رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: الْحِنْث الْعَظِيم: الْيَمين الْفَاجِرَة. وَعَن
الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين الْغمُوس.
وَقَوله تَعَالَى: {يصرون} أَي: يُقِيمُونَ عَلَيْهِ إِلَى أَن
مَاتُوا.
(5/353)
وَكَانُوا يَقُولُونَ
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ (47)
وَقَوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا
وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون} أَي: بعث الْقِيَامَة،
قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار.
(5/353)
أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (48)
وَقَوله: {أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ} أَي:
أَو يبْعَث آبَاؤُنَا الْأَولونَ بعد أَن صَارُوا تُرَابا
ورمما.
(5/353)
قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى
مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الْأَوَّلين
والآخرين لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم} وَهُوَ يَوْم
الْقِيَامَة.
(5/353)
ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)
وَقَوله: {ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون
المكذبون لآكلون من شجر من زقوم} والزقوم كل طَعَام يصعب على
الْإِنْسَان أكله ويشق عَلَيْهِم، وَقد بَينا مَعْنَاهُ من
قبل.
(5/353)
فَمَالِئُونَ مِنْهَا
الْبُطُونَ (53)
وَقَوله: {فمالئون مِنْهَا الْبُطُون}
قَالَ أهل اللُّغَة: الشّجر يؤنث وَيذكر، وَذكره على بن
عِيسَى.
(5/353)
{الْحَمِيم (54) فشاربون شرب الهيم (55)
هَذَا نزلهم يَوْم الدّين (56) نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا
تصدقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم
نَحن الْخَالِقُونَ (59) نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت}
(5/354)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ (54)
وَقَوله: {فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم}
قَالَ ذَلِك لِأَن من أكل شَيْئا و [وغص] مِنْهُ عَطش وَشرب.
(5/354)
فَشَارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ (55)
وَقَوله: {فشاربون شرب الهيم} قَالَ ابْن
عَبَّاس: الْإِبِل العطاش. وَعند أهل اللُّغَة أَن الهيم دَاء
يُصِيب الْإِبِل، فتعطش، وَلَا تروى أبدا حَتَّى لَا تزَال
تشرب فتهلك. وَيُقَال: شرب الهيم: الرمل كلما يصب عَلَيْهِ
المَاء لم يظْهر عَلَيْهِ ويشربه.
(5/354)
هَذَا نُزُلُهُمْ
يَوْمَ الدِّينِ (56)
وَقَوله: {هَذَا نزلهم يَوْم الدّين} أَي:
رزقهم وعطاؤهم. فَإِن قيل: النزل إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي
الْإِكْرَام وَالْإِحْسَان، وَالْجَوَاب: أَنه لما جعل هَذَا
فِي مَوضِع النزل لأهل الْجنَّة سَمَّاهُ نزلا، وَهُوَ كَمَا
أَنه سمى عقوبتهم ثَوابًا، ووعيدهم بِشَارَة، وَالْمعْنَى
فِيهِ مَا بَينا.
(5/354)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ
فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
وَقَوله: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا
تصدقُونَ} أَي: هلا تصدقُونَ مَعَ ظُهُور هَذِه الدَّلَائِل
أَي: صدقُوا.
(5/354)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تُمْنُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا
تمنون} الإمناء: إِلْقَاء المنى.
(5/354)
أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
وَقَوله: {أأنتم تخلقونه} أَي: تخلقون
مِنْهُ الْإِنْسَان.
وَقَوله: {أم نَحن الْخَالِقُونَ} أَي: بل نَحن الْخَالِقُونَ.
قَالَ الْأَزْهَرِي فِي هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى
احْتج عَلَيْهِم بأبلغ دَلِيل فِي الْبَعْث والإحياء بعد
الْمَوْت فِي هَذِه الْآيَة، وَذَلِكَ لِأَن المنى الَّذِي
يسْقط من الْإِنْسَان ميت، ثمَّ يخلق الله مِنْهُ شخصا حَيا،
وَقد كَانُوا مقرين أَن الله خلقهمْ من النطف، وَكَانُوا
منكرين للإحياء بعد الْمَوْت، فألزمهم أَنهم لما أقرُّوا بِخلق
حَيّ من نُطْفَة ميتَة يلْزمهُم أَن يقرُّوا بِإِعَادَة
الْحَيَاة فِي ميت. وَمعنى الْآيَة: كَمَا أقررتم بذلك فأقروا
بِهَذَا.
(5/354)
{وَمَا نَحن بمسبوقين (60) على أَن نبدل
أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ (61) وَلَقَد علمْتُم
النشأة الأولى فلولا تذكرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَا
تَحْرُثُونَ (63) أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون (64) لَو
نشَاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إِنَّا}
(5/355)
نَحْنُ قَدَّرْنَا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
قَوْله تَعَالَى: {نَحن قَدرنَا بَيْنكُم
الْمَوْت} يَعْنِي: إِنَّا نميتكم أَي: لَو كُنَّا نعجز عَن
إحيائكم بعد الْمَوْت لعجزنا عَن إماتتكم بِإِخْرَاج أَنفسكُم.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نَحن بمسبوقين} أَي: بمغلوبين. قَالَ
الْفراء مَعْنَاهُ: إِذا أردنَا أَن نعيدكم لم يسبقنا سَابق،
وَلم يفتنا شَيْء. وَيُقَال: لَو أَرَادَ غَيرنَا أَن يفعل مثل
فعلنَا لعجز عَنهُ، تَقول الْعَرَب: مَا أسبق فِي هَذَا
الْفِعْل أَي: لَا يفعل مثل فعلي أحد.
(5/355)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
وَقَوله: {على أَن نبدل أمثالكم} أَي: لَو
شِئْنَا أَن نميتكم ونخلق أمثالكم لقدرنا عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وننشئكم فِيمَا لَا تعلمُونَ} من الْهَيْئَة
وَالصُّورَة أَي: لَو شِئْنَا فعلنَا ذَلِك. وَيُقَال: أَن
نجعلكم فِي صُورَة القردة والحنازير. وَيُقَال: ننشئكم من
مَكَان لَا تعلمُونَ أَي: فِي عَالم لَا تعلمونه.
(5/355)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد علمْتُم النشأة
الأولى} أَي: الْخلق الأول، اسْتدلَّ عَلَيْهِم بالنشأة الأولى
على النشأة الثَّانِيَة.
وَقَوله تَعَالَى {فلولا تذكرُونَ} أى: هلا تتعظون وتعتبرون.
(5/355)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ (64)
وَقَوله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا
تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} أَي: تنبتونه.
يُقَال للْوَلَد: زرعه الله أَي: أَنْبَتَهُ الله.
قَوْله: {أم نَحن الزارعون} أَي: نَحن المنبتون.
(5/355)
لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
وَقَوله: {لَو نشَاء لجعلناه حطاما} أَي:
يَابسا يتفتت وينكسر لَا شَيْء فِيهِ.
وَقَوله: {فظلتم تفكهون} أَي: تتعجبون. وَيُقَال: تَنْدمُونَ
وتتحسرون.
(5/355)
{لمغرمون (66) بل نَحن محرومون (67)
أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من
المزن أم نَحن المنزلون (69) لَو نشَاء جعلنَا أجاجا}
(5/356)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
(66)
وَقَوله: {إِنَّا لمغرمون} أَي: معذبون.
قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ قَتَادَة: ملقون بِالشَّرِّ، وَعَن
بَعضهم: أَنه من الغرام، وَهُوَ الْهَلَاك. وَقيل: من الْغرم؛
لأَنهم غرموا وَلم يُصِيبُوا شَيْئا.
(5/356)
بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (67)
وَقَوله: {بل نَحن محرمون} أَي: حرمنا
الْجد، وَلم نصل إِلَى مَا كُنَّا نأمله ونرجوه. وَعَن تغلب:
أَن المغرم هُوَ المولع، يُقَال: فلَان مغرم أَي: مولع بِهِ،
فعلى هَذَا معنى قَوْله: {إِنَّا لمغرمون} أَي: ولع بِنَا
الْمُصِيبَة والحرمان. وَيُقَال: إِنَّا لمغرمون أَي: غرمنا
كَمَا غرمنا وَلم نصب شَيْئا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْغرم
بِمَعْنى الْعَذَاب:
(وَيَوْم النيار وَيَوْم الجفا ... ركانا عذَابا فَكَانَا
غراما)
(5/356)
أَفَرَأَيْتُمُ
الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم} هَذَا
مَذْكُور للتّنْبِيه على مَا فِيهِ من الدَّلِيل.
وَقَوله: {المَاء الَّذِي تشربون} مَعْلُوم.
(5/356)
أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
(69)
وَقَوله: {أأنتم أنزلتموه من المزن} أَي:
من السَّحَاب. قَالَ نفطويه: المزن هُوَ السَّحَاب الملآن من
المَاء، قَالَ جرير:
(كَأَنَّهَا مزنة غراء رَائِحَة أَو ... درة لَا يواري
لَوْنهَا الصدف)
وَقَوله: {أم نَحن المنزلون} أَي: نَحن أنزلنَا المَاء من
المزن، وَلم تنزلوه أَنْتُم، ينبههم بذلك على عَظِيم قدرته.
(5/356)
لَوْ نَشَاءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {لَو نشَاء جَعَلْنَاهُ
أجاجا} أَي: مرا شَدِيد المرارة. وَقيل: ملحا شَدِيد الملوحة.
يُقَال: أج المَاء تأج إِذا ملح. وَالْمعْنَى: أَنا لَو نشَاء
جَعَلْنَاهُ أجاجا بِحَيْثُ لَا يُمكن شربه، ينبههم بذلك على
الشُّكْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي كَانَ إِذا
(5/356)
{فلولا تشكرون (70) أَفَرَأَيْتُم النَّار
الَّتِي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نَحن المنشئون (72)
نَحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) } شرب قَالَ: "
الْحَمد الله الَّذِي جعله عذبا فراتا، وَلم يَجعله ملحا أجاجا
". أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ.
قَوْله: {فلولا تشكرون} أَي: فَهَلا تشكرون.
(5/357)
أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم النَّار
الَّتِي تورون} أَي: تقتدحون.
يُقَال: أورت الزند إِذا استخرج النَّار مِنْهُ. وَيُقَال: زند
وزندة للحجر الَّذِي يقْدَح مِنْهُ النَّار.
(5/357)
أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)
وَقَوله: {أأنتم أنشأتم شجرتها} أَي:
خلقْتُمْ شجرتها.
وَقَوله: {أم نَحن المنشئون} يَعْنِي: أم نَحن خلقنَا
الشَّجَرَة. وشجرة النَّار شَجَرَة مَعْرُوفَة، وَيَقُولُونَ:
فِي كل شجر نَار، واستمجد [المرخ والعفار] .
(5/357)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا
تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
وَقَوله تَعَالَى: {نَحن جعلناها تذكرة}
أَي: جعلنَا النَّار تذكرة من النَّار الْكُبْرَى، وَهِي نَار
جَهَنَّم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن نَاركُمْ
هَذِه هِيَ جُزْء من سبعين جُزْءا من نَار جَهَنَّم ". وَفِي
بعض الرِّوَايَات: " ضربت بِالْمَاءِ مرَّتَيْنِ ".
وَقَوله: {ومتاعا للمقوين} أظهر الْأَقَاوِيل فِيهِ: أَن
المقوين الْمُسَافِرين، وهم الَّذين ينزلون فِي الأَرْض القفر
الخالية. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لجَمِيع النَّاس المقيمين
والمسافرين. وعَلى القَوْل الأول خص الْمُسَافِرين؛ لِأَن
منفعتهم بالنَّار أَكثر؛ لأجل الاصطلاء من
(5/357)
{فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (74) فَلَا أقسم
بمواقع النُّجُوم (75) } الْبرد، والاستضاءة بِاللَّيْلِ،
وَفِي إيقاد النَّار رد السبَاع، وَمَنْفَعَة الاستضاءة
الاهتداء عِنْد ضلال الطَّرِيق.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ومتاعا للمقوين أَي: مَنْفَعَة لكل من
لَيْسَ لَهُ (زَاد) وَلَا مَال.
وَيُقَال: أقوى الْمَكَان إِذا خلا عَن الشَّيْء. وَأنكر
القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: مَنْفَعَة
الْغَنِيّ بالنَّار أَكثر من مَنْفَعَة الْفَقِير، وَالْعرب
تَقول للْفَقِير مقوى، وللغني مقوى؛ تَقول للْفَقِير مقوى؛
لنفاد مَا مَعَه وخلوه عَنهُ، وللغني مقوى لقُوته وَقدرته على
مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْفَقِير، فعلى هَذَا معنى الْآيَة:
أَن النَّار مَنْفَعَة لجَمِيع النَّاس من الْفُقَرَاء
والأغنياء والمقيمين والمسافرين.
(5/358)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} لما
ذكر الله الدَّلَائِل على الْكفَّار فِي هَذِه الْآيَة
الْمُتَقَدّمَة، وَوجه الدَّلِيل فِيهَا أَنهم كَانُوا مقرين
أَن فَاعل هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ الله، وَأَنَّهُمْ عاجزون
عَنْهَا، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْث والنشأة الْآخِرَة؛ فَقَالَ
الله تَعَالَى لَهُم: لما لم تنكروا قدرَة الله تَعَالَى على
هَذِه الْأَشْيَاء وَمَا فِيهَا من عَجِيب الصنع، فَكيف تنكرون
قدرته على بعثكم وإحيائكم بعد موتكم؟ فَلَمَّا ألزمهم
الدَّلِيل قَالَ لنَبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {فسبح
باسم رَبك الْعَظِيم} كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال
بتنزيه الرب وتسبيحه وتقديسه حِين لزم الْكفَّار الْحجَّة،
وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أفضل الْكَلَام سُبْحَانَ
الله وَبِحَمْدِهِ ".
(5/358)
فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بمواقع
النُّجُوم} أَي: أقسم، و " لَا " صلَة. وَقيل: إِن معنى " لَا
" أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا من أَن الْقُرْآن شعر
وسحر وكهانة، بل أقسم بمواقع النُّجُوم. وَعَن ابْن عَبَّاس:
أَن معنى مواقع النُّجُوم أَي: مساقط النُّجُوم. وَيُقَال:
مساقطها ومطالعها أقسم بهَا لما علق بهَا من مصَالح الْعباد.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول جمَاعَة
كَثِيرَة من التَّابِعين (مِنْهُم) : الْحسن، وَقَتَادَة،
وَعِكْرِمَة،
(5/358)
{وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم (76)
إِنَّه لقرآن كريم (77) فِي كتاب مَكْنُون (78) لَا} وَغَيرهم
أَن مواقع النُّجُوم هَاهُنَا نُجُوم الْقُرْآن، وَمعنى
المواقع نُزُوله نجما نجما. وَفِي الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى
أنزل الْقُرْآن جملَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ أنزل
نجما نجما فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة إِلَى النَّبِي.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن المُرَاد من مواقع
النُّجُوم انتثارها وتساقطها يَوْم الْقِيَامَة.
(5/359)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ
عَظِيم} قَالَ ذَلِك لَان قسم الله عَظِيم، وكل مَا أقسم بِهِ.
وَيُقَال: إِن تَخْصِيصه هَذَا الْقسم بالعظم؛ لِأَنَّهُ أقسم
بِالْقُرْآنِ على الْقُرْآن؛ قَالَه الْقفال الشَّاشِي.
(5/359)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ (77)
وَقَوله: {إِنَّه لقرآن كريم} هُوَ مَوضِع
الْقسم، وَهُوَ الْمقسم [عَلَيْهِ] .
وَقَوله: {كريم} أَي: كثير الْخَيْر وَالْبركَة. تَقول
الْعَرَب: هَذِه النَّاقة كَرِيمَة، وَهَذِه النَّخْلَة
كَرِيمَة، إِذا كثرت فوائدها ومنافعها.
(5/359)
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ
(78)
قَوْله: {فِي كتاب مَكْنُون} أَي: مصون،
وَقد فسر باللوح الْمَحْفُوظ، وَفسّر أَيْضا بِكِتَاب فِي
السَّمَاء عِنْد الْمَلَائِكَة فِيهِ الْقُرْآن.
(5/359)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ (79)
وَقَوله: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ}
أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بِهِ أَنه لَا يمس ذَلِك
الْكتاب إِلَّا الْمَلَائِكَة الْمُطهرُونَ. قَالَ قَتَادَة:
فَأَما الْمُصحف يمسهُ كل أحد، وَإِنَّمَا المُرَاد ذَلِك
الْكتاب فِي السَّمَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد
بِهِ الْمُصحف، وَقَوله: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} خبر
بِمَعْنى النَّهْي أَي: لَا تمسوه إِلَّا على الطَّهَارَة.
وَقد ورد أَن النَّبِي كتب فِي كتاب عَمْرو بن حزم " وَلَا يمس
الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر ". وَعَن عَلْقَمَة وَالْأسود
(5/359)
{يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ (79) تَنْزِيل
من رب الْعَالمين (80) أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون (81)
وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون (82) } أَنَّهُمَا دخلا على
سلمَان ليقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن، فجَاء من الْغَائِط،
فَقَالَا لَهُ: تَوَضَّأ لنقرأ عَلَيْك الْقُرْآن، فَقَالَ:
اقرآني، لَا أُرِيد أَن أمسه، ثمَّ قَرَأَ: {لَا يمسهُ إِلَّا
الْمُطهرُونَ} .
(5/360)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (80)
وَقَوله: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} أَي:
الْقُرْآن نزله رب الْعَالمين.
(5/360)
أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم
مدهنون} أَي: مكذبون تَكْذِيب مُنَافِق. والمدهن والمداهن
بِمَعْنى وَاحِد، والمداهن هُوَ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ
الَّذِي يكون قلبه خلاف لِسَانه، وَلسَانه خلاف قلبه.
وَيُقَال: المدهنون: هم الَّذين يدْفَعُونَ الصدْق وَالْحق
بِأَحْسَن وَجه يقدر عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ودوا
لَو تدهن فيدهنون} يَعْنِي: تكذب فيكذبون، وترائي فيراءون.
(5/360)
وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
وَقَوله: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون}
قَرَأَ عَليّ: " وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون " وَهُوَ معنى
الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة يَعْنِي: تضعون التَّكْذِيب مَوضِع
الشُّكْر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع ... )
أَي: يضعون الضَّرْب الوجيع مَوضِع التَّحِيَّة. وَيُقَال معنى
الْآيَة: تَجْعَلُونَ شكر رزقكم أَنكُمْ تكذبون، فَحذف
الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، مثل قَوْله
تَعَالَى: {واشتعل الرَّأْس شيبا} أَي: شعر الرَّأْس.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الرزق هَاهُنَا بِمَعْنى
الْهِدَايَة الَّتِي أَعْطَاهُم الله تَعَالَى بِالْقُرْآنِ،
فَكَأَن الله تَعَالَى لما أنزل الْقُرْآن، وَبَين لَهُم
طَرِيق الْحق بِهِ فَكَذبُوهُ وأنكروا، سمي بذلك الْبَيَان
رزقا، وَجعل تكذيبهم كفرانا لهَذَا الرزق. وَرُوِيَ عَن الْحسن
الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: خسر قوم جعلُوا حظهم من الْقُرْآن
التَّكْذِيب. وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ
(5/360)
{فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم (83)
وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون (84) وَنحن أقرب إِلَيْهِ
مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون (85) فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين
(86) } الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن الرزق هَاهُنَا هُوَ
الْمَطَر، والتكذيب هُوَ قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: "
أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا قَالَ ربكُم؟ قَالَ: مَا أَنْعَمت على
عبادى نعْمَة إِلَّا أصبح فريق مِنْهُم بهَا كَافِرين
يَقُولُونَ الْكَوْكَب وَبِالْكَوْكَبِ. . " أوردهُ مُسلم فِي
صَحِيحه. وَفِي خبر آخر بِرِوَايَة (مُعَاوِيَة) اللَّيْثِيّ
أَن النَّبِي قَالَ: " يصبح الْقَوْم مجدبين، فيأتيهم الله
برزق من عِنْده، فيصبحوا مُشْرِكين يَقُولُونَ: مُطِرْنَا
بِنَوْء كَذَا وَكَذَا ".
(5/361)
فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {فلولا إِذا بلغت
الْحُلْقُوم} أَي: بلغت النَّفس الْحُلْقُوم. الْآيَة فِي
بَيَان عجزهم، وَذكر قدرته عَلَيْهِم.
(5/361)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ (84)
وَقَوله: {وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون}
الْخطاب لأهل الْمَيِّت.
(5/361)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
وَقَوله: {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم أى
بِالْقُدْرَةِ وَقد قيل ملك الْمَوْت وأعوانه يَعْنِي: أَنهم
أقرب إِلَى الْمَيِّت مِنْكُم.
وَقَوله: {وَلَكِن لَا تبصرون} أَي: لَا ترَوْنَ.
(5/361)
فَلَوْلَا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
وَقَوله تَعَالَى: {فلولا إِن كُنْتُم}
أَي: فَهَلا إِن كُنْتُم، [وَقَوله] : {غير مدينين} أَي: غير
مُدبرين مملوكين مقهورين يَعْنِي: إِن كُنْتُم قَادِرين على
مَا شِئْتُم، وَلم تَكُونُوا فِي ملكنا وقهرنا [فَردُّوا] روح
الْمَيِّت إِلَى مَكَانَهُ، وَهُوَ معنى قَوْله:
(5/361)
{ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين (87)
فَأَما إِن كَانَ من المقربين (88) فَروح وَرَيْحَان}
(5/362)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
{ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} ينبئهم
بذلك على عجزهم. وَيُقَال: غير مدينين أَي: غير محاسبين
ومجزيين.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الْوَجْه فِي معنى الْآيَة.
(5/362)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما إِن كَانَ من
المقربين} ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات حَال
الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة عِنْد الْمَوْت، وَهِي الْأَصْنَاف
الَّتِي ذكرهم فِي أول السُّورَة، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَما
إِن كَانَ من المقربين} أَي: السَّابِقين إِلَى الْخيرَات،
المبرزين فِي الطَّاعَات.
(5/362)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
وَقَوله تَعَالَى: {فَروح} قِرَاءَة
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " فَروح " وَاخْتَارَهُ يَعْقُوب
الْحَضْرَمِيّ، وَالْأَشْهر: " فَروح " بِفَتْح الرَّاء،
وَمَعْنَاهُ: الرَّحْمَة. وَيُقَال: [الرّوح] الاسْتِرَاحَة،
وَمن قَرَأَ بِضَم الرَّاء فَهُوَ بِمَعْنى الْحَيَاة الدائمة
الَّتِي لَا فنَاء بعْدهَا. وَفِي الْخَبَر: " أَنه إِذا وضع
الْمُؤمن فِي قَبره، وَأجَاب بِجَوَاب الْحق يُقَال لَهُ: نم
نومَة الْعَرُوس لَا هم وَلَا بؤس " وَفِي خبر آخر " يفتح لَهُ
بَاب إِلَى الْجنَّة وَيُقَال لَهُ هَذَا موضعك ".
وَقَوله تَعَالَى: {وَرَيْحَان} أَي: رزق، وَهُوَ الرزق
الَّذِي يدر عَلَيْهِ من الْجنَّة فِي الْقَبْر. وَقد بَينا من
قبل الريحان بِمَعْنى الرزق فِي شعر الْعَرَب:
(سَلام الْإِلَه وريحانه ... وَرَحمته وسماء دُرَر)
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الريحان الَّذِي يشم. قَالَ
أَبُو الجوزاء: يُؤْتى بضبائر من ريحَان الْجنَّة فتجعل روحه
فِيهَا.
وَقَوله: {وجنة نعيم} هِيَ الْجنَّة الموعودة. قَالَ أهل
التَّفْسِير: الرّوح وَالريحَان فِي الْقَبْر، وجنة نعيم يَوْم
الْقِيَامَة. وَيُقَال: الرّوح عِنْد الْمَوْت، وَالريحَان فِي
الْقَبْر، وجنة نعيم فِي الْقِيَامَة عِنْد الْبَعْث. وَقد
ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " من أحب لِقَاء الله أحب الله
لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه، وَقيل: يَا
رَسُول الله، لَكنا نكره الْمَوْت قَالَ:
(5/362)
{وجنة النَّعيم (89) وَأما إِن كَانَ من
أَصْحَاب الْيَمين (90) فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين (91)
وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين (92) فَنزل من حميم
(93) وتصلية جحيم (94) إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين (95) فسبح
اسْم رَبك الْعَظِيم (96) } لَا، إِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة
من الله أحب لِقَاء الله، فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْكَافِر
إِذا بشر بالنَّار كره لِقَاء الله وَكره الله لقاءه "
وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
(5/363)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِن كَانَ من
أَصْحَاب الْيَمين} قد بَينا أَصْحَاب الْيَمين.
(5/363)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
وَقَوله: {فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين}
أَي: تسلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم. وَقيل: يسلم الله
عَلَيْهِم، فَيَقُول: سَلام عَلَيْك. وَلَك بِمَعْنى عَلَيْك.
وَقَوله تَعَالَى: {من أَصْحَاب الْيَمين} أَي: لِأَنَّك من
أَصْحَاب الْيَمين. وَهَذَا قَول كثير من الْمُفَسّرين.
وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: أبشر بالسلامة
لأَصْحَاب الْيَمين، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا تشغل قَلْبك بهم،
فَإِنَّهُم قد نالوا السَّلامَة. وَقيل: المُرَاد من الْآيَة
تَسْلِيم بَعضهم على بعض، كَأَن بَعضهم يسلم على بعض، ويهنئ
بالسلامة.
(5/363)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ
(93)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِن كَانَ من
المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم} أَي: الْمعد لَهُ شراب من
حميم.
(5/363)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
(94)
وَقَوله: {وتصلية جحيم} أَي: دُخُول
الْجَحِيم يُقَال: أصلى كَذَا أَي: قاسه، فعلى هَذَا تصلية
جحيم أَي: مقاساة الْجَحِيم.
(5/363)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ (95)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا لَهو حق
الْيَقِين} أَي: مَحْض الْيَقِين، يُشِير إِلَى أَنه كَائِن
لَا خلف فِيهِ. وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِنَّه يَقِين أَحَق
الْيَقِين، كَمَا يُقَال: حق عَالم أَي: عَالم حق.
(5/363)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي:
نزه رَبك وعظمه، كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال بثنائه
وتسبيحه وتقديسه ليصل إِلَى دَرَجَة المقربين.
(5/363)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز
الْحَكِيم (1) لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت
وَهُوَ على كل شَيْء قدير (2) هُوَ الأول وَالْآخر
وَالظَّاهِر}
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْكَلْبِيّ وَجَمَاعَة. وَقَالَ
بَعضهم: إِنَّهَا مَدَنِيَّة. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه
قَالَ: اسْم الله الْأَعْظَم فِي سِتّ آيَات من أول سُورَة
الْحَدِيد. وَعَن أبي التياح أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يعرف
كَيفَ وصف الْجَبَّار نَفسه فليقرأ سِتّ آيَات من أول سُورَة
الْحَدِيد. وَالله أعلم.
(5/364)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي
السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: صلي وَتعبد، وَيُقَال: نزه
وَقدس. وَقد ذكر بَعضهم أَن تَسْبِيح الجمادات هُوَ أثر الصنع
فِيهَا. وَالأَصَح أَنه التَّسْبِيح حَقِيقَة، وَهُوَ قَول أهل
السّنة؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد مِنْهُ أثر الصنع لم يكن
لقَوْله: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} معنى، لِأَن أثر الصنع
يُعلمهُ ويفهمه كل وَاحِد.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب
الْحَكِيم فِي أمره.
(5/364)
لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُ ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت} أَي: لَهُ الْملك فِي السَّمَوَات
وَالْأَرْض محييا ومميتا. قَالَ الزّجاج: يحيي من النُّطْفَة
الْميتَة، وَيُمِيت الشَّخْص الْحَيّ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.
(5/364)
هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الأول وَالْآخر}
أَي: الأول قبل كل شَيْء، وَالْآخر بعد كل شَيْء. وَقيل: الأول
فَلَا أول لَهُ، وَالْآخر فَلَا آخر لَهُ، وَهُوَ فِي معنى
الأول. وَقيل: الأول بِلَا ابْتِدَاء، وَالْآخر بِلَا
انْتِهَاء.
(5/364)
{وَالْبَاطِن وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (3)
هُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام
ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا
يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج فِيهَا
وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِير (4) لَهُ ملك السَّمَوَات}
وَقَوله: {وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن} أَي: الظَّاهِر بالدلائل
والآيات، وَالْبَاطِن لِأَنَّهُ لَا يرى بالأبصار، وَلَا يدْرك
بالحواس. وَقيل: الظَّاهِر هُوَ الْغَالِب؛ وَهَذَا يحْكى عَن
ابْن عَبَّاس. وَالْبَاطِن المحتجب عَن خلقه. (وَعَن) بَعضهم:
الْعَالم بِمَا ظهر وَمَا بطن.
وَقَوله: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.
(5/365)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق
السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} فِي التَّفْسِير
أَن كل يَوْم ألف سنة وَقيل أسامي الْأَيَّام أبجد هوز حطى
كلمن سعفص قرشت.
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بَينا.
وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: خلق الْعَرْش من نوره. وَعَن
بَعضهم: هُوَ ياقوتة حَمْرَاء. وَسمي الْعَرْش عرشا لارتفاعه.
وَقَوله: {يعلم مَا يلج فِي الأَرْض} أَي: يدْخل فِيهَا من مطر
وَحب وميت.
وَقَوله: {وَمَا يخرج مِنْهَا} أَي: يدْخل فِيهَا منطر وَحب
وميت
وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يخرج مِنْهَا} أى من نَبَات وشجرة
وَنَحْوه.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا ينزل من السَّمَاء} أَي: من الْمَطَر
والرزق وَالْمَلَائِكَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا يعرج فِيهَا} أَي: من الْمَلَائِكَة
وأعمال بني آدم.
وَقَوله: {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم} أَي: بِعِلْمِهِ
وَقدرته، ذكره ابْن عَبَّاس وَغَيره. وَقَالَ الْحسن: هُوَ
مَعكُمْ بِلَا كَيفَ.
وَقَوله: {أَيْنَمَا كُنْتُم} أَي: حَيْثُمَا كُنْتُم.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} أَي: خَبِير.
(5/365)
لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُ ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} أَي: ترد الْأُمُور.
(5/365)
{وَالْأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور
(5) يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل
وَهُوَ عليم بِذَات الصُّدُور (6) آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله
وأنفقوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ فَالَّذِينَ آمنُوا
مِنْكُم وأنفقوا لَهُم أجرا كَبِير (7) وَمَا لكم لَا تؤمنون
بِاللَّه وَالرَّسُول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وَقد أَخذ ميثاقكم
إِن كُنْتُم مُؤمنين (8) هُوَ الَّذِي ينزل على عَبده آيَات
بَيِّنَات ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَإِن الله
بكم لرءوف رَحِيم (9) وَمَا لكم أَلا تنفقوا فِي سَبِيل الله
وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا يَسْتَوِي مِنْكُم
من}
(5/366)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يولج اللَّيْل فِي
النَّهَار} أَي: ينقص من اللَّيْل، وَيزِيد فِي النَّهَار.
وَقَوله: {ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل} أَي: ينقص من
النَّهَار، وَيزِيد فِي اللَّيْل.
وَقَوله: {وَهُوَ عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِيهَا.
(5/366)
آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ
أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {آمنُوا بِاللَّه
وَرَسُوله وأنفقوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ} أَي:
أَنْفقُوا من الْأَمْوَال الَّتِي خَلفْتُمْ فِيهَا من
قبلكُمْ. وَقيل: مستخلفين فِيهِ أَي: معمرين بالرزق.
وَقَوله: {فَالَّذِينَ آمنُوا مِنْكُم وأنفقوا لَهُم أجر
كَبِير} أَي: عَظِيم.
(5/366)
وَمَا لَكُمْ لَا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لكم لَا تؤمنون
بِاللَّه وَالرَّسُول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وَقد أَخذ ميثاقكم}
أَي: الْعَهْد مِنْكُم {إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي: مُصدقين.
(5/366)
هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي ينزل على
عَبده آيَات بَيِّنَات ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور}
أَي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان.
وَقَوله: {وَإِن الله بكم لرءوف رَحِيم} قد بَينا.
(5/366)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لكم أَلا تنفقوا
فِي سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: أَي: فَائِدَة لكم إِذا تركْتُم
الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله، وَأَمْوَالكُمْ تصير إِلَى
غَيْركُمْ؟ وَالْمعْنَى: هُوَ الْإِنْكَار، كَأَنَّهُ قَالَ:
وَلم لَا تنفقون أَمْوَالكُم لتصلوا بهَا إِلَى ثَوَاب الله،
وَهِي لَا تبقى لكم إِذا لم تنفقوا؟
وَقَوله: {وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض} هُوَ
إِشَارَة إِلَى مَا بَينا من قبل.
(5/366)
{أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ
أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا}
وَقَوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح
وَقَاتل} أَي: لَا يَسْتَوِي من أنْفق وَقَاتل قبل فتح مَكَّة،
وَمن أنْفق وَقَاتل بعد فتح مَكَّة. وَإِنَّمَا لم يستويا؛
لِأَن أَصْحَاب النَّبِي نالهم من التَّعَب وَالْمَشَقَّة
وَالْمَكْرُوه والشدة قبل الْفَتْح مَا لم ينلهم بعده. وَذكر
الْكَلْبِيّ أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله
عَنهُ وَقد ورد فِي بعض المسانيد عَن ابْن عمر " أَن النَّبِي
كَانَ جَالِسا وَعِنْده أَبُو بكر الصّديق، وَعَلِيهِ عباءة قد
خللها فِي صَدره؛ فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ
للنَّبِي: يَقُول الله تَعَالَى: سلم على أبي بكر، وَقل لَهُ:
أراض أَنْت عني فِي فقرك أم ساخط؟ فَقَالَ النَّبِي لأبي بكر:
هَذَا جِبْرِيل يُقْرِئك من رَبك السَّلَام، وَيَقُول كَذَا،
فَبكى أَبُو بكر وَقَالَ: بل أَنا رَاض عَن رَبِّي، بل أَنا
رَاض عَن رَبِّي ".
وَذكر النقاش أَن الْآيَة نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي
الله عَنهُ وَكَانَ قد جهز جَيش الْعسرَة، وَأعْطى سَبْعمِائة
وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَأعْطى سبعين فرسا، وَكَانَ
أَعْطَاهَا بآلاتها.
وَفِي رِوَايَة: جَاءَ بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وصبها بَين
يَدي النَّبِي، فَجعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
يقلبها بِيَدِهِ وَيَقُول: " مَا ضرّ عُثْمَان مَا يفعل بعد
هَذَا ".
وَقَوله: {أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد
وقاتلوا} قد بَينا الْمَعْنى فِي ذَلِك.
(5/367)
{وعد الله الْحسنى وَالله بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِير (10) من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا}
وَقَوله: {وكلا وعد الله الْحسنى} أَي: الْجنَّة.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عَالم،
وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى وعد جَمِيع الْمُتَّقِينَ
الْجنَّة، وَإِن تفاضلوا فِي الدرجَة.
(5/368)
مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ
أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض
الله قرضا حسنا} قَالَ عِكْرِمَة: لما أنزل الله تَعَالَى
هَذِه الْآيَة تصدق أَبُو الدحداح بحائط فِيهِ سِتّمائَة
نَخْلَة. وَفِي رِوَايَة: تصدق بِنصْف جَمِيع مَاله حَتَّى
نَعْلَيْه تصدق بِأَحَدِهِمَا، ثمَّ جَاءَ إِلَى أم الدحداح
وَقَالَ: إِنِّي بِعْت رَبِّي، فَقَالَت: ربح البيع. فَقَالَ
رَسُول الله: " كم من نَخْلَة مدلاة لأبي الدحداح فِي
الْجنَّة، عروقها من زبرجد وَيَاقُوت ".
وَعَن بَعضهم: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة جَاءَ الْيَهُود
إِلَى النَّبِي، وَقَالُوا: أفقير رَبنَا فيستقرضنا؟ فَأنْزل
الله تَعَالَى قَوْله: {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن
الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} .
وَقَالَ الزّجاج: الْعَرَب تَقول لكل من كل فعل فعلا حسنا: قد
أقْرض، قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِذا جوزيت قرضا فاقضه ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتى لَيْسَ
الْإِبِل)
فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا: من الَّذِي يعفه فعلا حسنا
فيجازيه الله بذلك. وَهُوَ على الْعُمُوم.
(5/368)
{فيضاعفه لَهُ وَله أجر كريم (11) يَوْم
ترى الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم
وبأيمانهم بشراكم الْيَوْم جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم
(12) يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا
انظرونا نقتبس من}
وَقَوله تَعَالَى: {فيضاعفه لَهُ} قرئَ بِرَفْع الْفَاء
ونصبها، فبالرفع هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: {يقْرض}
وَبِالنَّصبِ يكون على جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِالْفَاءِ.
وَقَوله: {وَله أجر كريم} أَي: حسن.
(5/369)
يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترى الْمُؤمنِينَ
وَالْمُؤْمِنَات يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم} قَالَ الْحسن
الْبَصْرِيّ: على الصِّرَاط. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: نور
كل إِنْسَان على قدر عمله، فَمنهمْ من نوره كالجبل الْعَظِيم،
وَمِنْهُم من نوره كنخلة، وَمِنْهُم من نوره على إبهامه ينطفي
مرّة ويتقد أُخْرَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن نورهم مَا
بَين صنعاء إِلَى عدن. يَعْنِي: فِي الْقدر. وَعَن ابْن
عَبَّاس فِي رِوَايَة الضَّحَّاك قَالَ: الصِّرَاط فِي دقة
الشعرة، وحدة (الشَّفْرَة) ، والمؤمنون يَمرونَ عَلَيْهِ نورهم
من بَين أَيْديهم، بَعضهم كالبرق، وَبَعْضهمْ كَالرِّيحِ،
وَبَعْضهمْ كالطير، وَبَعْضهمْ (كحضرة) الْفرس.
وَقَوله تَعَالَى: {وبأيمانهم} أَي: النُّور بأيمانهم.
وَقَوله: {بشراكم الْيَوْم} أَي: بشارتكم الْيَوْم {جنَّات
تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} .
وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم}
أَي: النجَاة [الْعَظِيمَة] .
(5/369)
يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَقُول
المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا} من
الإنظار، وَأشهر الْقِرَاءَتَيْن هِيَ الأولى، وَمَعْنَاهُ:
انظرونا. وَأما بِنصب الْألف فَمَعْنَاه: اصْبِرُوا لنا،
قَالَ الشَّاعِر:
(أَبَا هِنْد فَلَا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا)
(5/369)
{نوركم قيل ارْجعُوا وراءكم فالتمسوا نورا
فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة
وَظَاهره من قبله الْعَذَاب (13) ينادونهم ألم نَكُنْ مَعكُمْ
قَالُوا بلَى وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم وتربصتم وارتبتم
وغرتكم الْأَمَانِي حَتَّى جَاءَ أَمر الله وغركم بِاللَّه
الْغرُور}
وَقَوله: {نقتبس من نوركم} فِي الْأَخْبَار: أَن النَّاس
يحشرون والمنافقون مختلطون بِالْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ إِن الله
تَعَالَى يُرْسل نورا للْمُؤْمِنين فيمشون فِي نورهم، فيتبعهم
المُنَافِقُونَ وَيَقُولُونَ: انظرونا نقتبس من نوركم،
وَكَانُوا قد بقوا فِي الظلمَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن
النَّاس يحشرون فيغشاهم أَمر من أَمر الله، فيبيض وُجُوه
الْمُؤمنِينَ، ويسود وُجُوه الْكفَّار، ثمَّ يَغْشَاهُم أَمر
آخر، فَيقسم بَين الْمُؤمنِينَ النُّور على قدر أَعْمَالهم،
وَيبقى الْكفَّار والمنافقون فِي الظلمَة، فَيَقُولُونَ
للْمُؤْمِنين: " انظرونا نقتبس من نوركم ".
وَقَوله: {نقتبس} أَي: نَأْخُذ شَيْئا من نوركم.
وَقَوله: {قيل ارْجعُوا وراءكم} أَي: إِلَى الْموضع الَّذِي
قسم فِيهِ النُّور.
وَقَوله: {فالتمسوا نورا} أَي: اطْلُبُوا نورا ثمَّ، فيرجعون
فَلَا يَجدونَ شَيْئا. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: فَارْجِعُوا
إِلَى الدُّنْيَا، واطلبوا النُّور بِالْأَعْمَالِ
الصَّالِحَة، وَهَذَا على التعيير والتبكيت، وَهُوَ قَول
غَرِيب، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَقَوله: {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب} فِي التَّفْسِير:
أَنهم إِذا رجعُوا إِلَى ذَلِك الْموضع وَلم يَجدوا النُّور،
عَادوا ليتبعوا نور الْمُؤمنِينَ، فيغشاهم عَذَاب من عَذَاب
الله، وَيضْرب بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ بسور، وَهُوَ معنى
قَوْله تَعَالَى: {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب} وَقيل: هُوَ
الْأَعْرَاف الَّذِي [ذكر] فِي سُورَة الْأَعْرَاف. وَعَن
عبَادَة بن الصَّامِت وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن
السُّور حَائِط مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس الشَّرْقِي مِنْهُ،
فَالَّذِي يَلِي الْمَسْجِد هُوَ الَّذِي قَالَ: {بَاطِنه
فِيهِ الرَّحْمَة} وَالَّذِي يَلِي وَادي جَهَنَّم هُوَ
الَّذِي قَالَ: {وَظَاهره من قبله الْعَذَاب} وَثمّ وَاد
يُقَال لَهُ: وَادي جَهَنَّم، وَهُوَ مَعْرُوف.
(5/370)
((14} فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة
وَلَا من الَّذين كفرُوا مأواكم النَّار هِيَ مولاكم وَبئسَ
الْمصير (15) ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر
الله وَمَا نزل من الْحق وَلَا)
(5/371)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
قَوْله تَعَالَى: {ينادونهم ألم نَكُنْ
مَعكُمْ} يَعْنِي: أَن الْمُنَافِقين ينادون الْمُؤمنِينَ ألم
نَكُنْ مَعكُمْ؟ مَعْنَاهُ: ألم نَكُنْ مَعكُمْ فِي صَلَاتكُمْ
وَصِيَامكُمْ ومساجدكم، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {قَالُوا بلَى} أَي: بلَى كُنْتُم فِي الظَّاهِر.
وَقَوله: {وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم} أَي: استعملتم
أَنفسكُم فِي الْفِتْنَة، وَيُقَال: فتنتم أَنفسكُم أَي:
اتبعتم الْمعاصِي والشهوات.
وَقَوله: {وتربصتم} أَي: تربصتم بِالنَّبِيِّ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ دوائر الدَّهْر. وَيُقَال: تربصتم
بِالتَّوْبَةِ أَي: أخرتموها.
وَقَوله: {وارتبتم} أَي: شَكَكْتُمْ فِي الدّين.
وَقَوله: {وغرتكم الْأَمَانِي} أَي: أمنيتكم أَن مُحَمَّدًا
يهْلك، وَيبْطل أمره.
وَقَوله: {حَتَّى جَاءَ أَمر الله} أَي: أَمر الله بنصر نبيه
وَالْمُؤمنِينَ. وَيُقَال: النَّار.
وَقَوله: {وغركم بِاللَّه الْغرُور} أَي: الشَّيْطَان،
وَإِنَّمَا سمى الشَّيْطَان غرُورًا؛ لِأَن النَّاس تغر
النَّاس بتمنية الأباطيل.
وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: الْغرُور: أَن تعْمل
بالمعصية، وتتمنى على الله الْمَغْفِرَة.
(5/371)
فَالْيَوْمَ لَا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(15)
قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا يُؤْخَذ
مِنْكُم فديَة} فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " جِزْيَة " وَمعنى
الْفِدْيَة: هُوَ مَا يفتدي بِهِ نَفسه من الْعَذَاب.
وَقَوله: {وَلَا من الَّذين كفرُوا مأواكم النَّار} أَي:
[منزلتكم] النَّار.
وَقَوله: {هِيَ مولاكم} أَي: النَّار أولى بكم.
(5/371)
{يَكُونُوا كَالَّذِين أُوتُوا الْكتاب من
قبل فطال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم وَكثير مِنْهُم
فَاسِقُونَ (16) اعلموا أَن الله يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا قد
بَينا لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ}
وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: بئس المنقلب النَّار.
(5/372)
أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يَأن للَّذين
آمنُوا} مَعْنَاهُ: ألم يحن، من الْحِين وَهُوَ الْوَقْت.
يُقَال: آن يئين وحان يحين بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَوله: {أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} أَي: تلين وترق.
قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي الْآيَة حث لطائفة من الْمُؤمنِينَ
على الرقة عِنْد الذّكر. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: مَا كَانَ
بَين إِسْلَام الْقَوْم وَبَين أَن عَاتَبَهُمْ الله على ترك
الْخُشُوع والرقة إِلَّا أَربع سِنِين. وَعَن مقَاتل: أَن
أَصْحَاب رَسُول الله أخذُوا فِي نوح من المرح فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَعَن بَعضهم أَن أَصْحَاب رَسُول الله
أَصَابَتْهُم مِلَّة فَقَالُوا: (حَدثنَا) يَا رَسُول الله،
فَأنْزل الله تَعَالَى: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} ،
ثمَّ أَصَابَتْهُم مِلَّة، فَأنْزل الله: {الله نزل أحسن
الحَدِيث} ثمَّ أَصَابَتْهُم مِلَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى:
{ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} .
وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: إِن قَوْله: {ألم يَأن للَّذين
آمنُوا} هُوَ فِي مؤمني أهل الْكتاب، حثهم على الْإِيمَان
بالرسول. وَعَن بَعضهم: هُوَ فِي الْمُنَافِقين؛ آمنُوا
بألسنتهم، وَلم يُؤمنُوا بقلوبهم {وَمَا نزل من الْحق} [أَي] :
الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِين أُوتُوا الْكتاب من قبل}
أَي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَقَوله: {فطال عَلَيْهِم الأمد} أَي: الْمدَّة. وَيُقَال:
الْأَجَل. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ:
(5/372)
{تعقلون (17) إِن المصدقين والمصدقات
وأقرضوا الله قرضا حسنا يُضَاعف لَهُم وَلَهُم أجر كَبِير (18)
وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون
وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم} لَا تسألوا أهل الْكتاب عَن شَيْء،
فقد طَال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم، وَلَكِن مَا أَمركُم
بِهِ الْقُرْآن فأتمروا بِهِ، وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا.
وَقَوله: {فقست قُلُوبهم} أَي: يَبِسَتْ.
وَقَوله: {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي: خارجون عَن طَاعَة
الله. وَيُقَال: هُوَ فِي ابتداعهم الرهبانية.
(5/373)
اعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {اعلموا أَن الله يحيي
الأَرْض بعد مَوتهَا} فِي الْخَبَر عَن [أبي] رزين الْعقيلِيّ
أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ يحيي الله الْمَوْتَى؟
فَقَالَ: " أَرَأَيْت أَرضًا مخلاء ثمَّ أرأيتها خضراء، قَالَ:
نعم. قَالَ: هُوَ كَذَلِك ". وَعَن صَالح الْمُزنِيّ قَالَ:
يحيي الْقُلُوب بتليينها بعد قساوتها. فَهُوَ المُرَاد
بِالْآيَةِ.
وَقَوله: {قد بَينا لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/373)
إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(18)
قَوْله تَعَالَى: {إِن المصدقين والمصدقات}
قرئَ: بتَشْديد الصَّاد وتخفيفها، فعلى تَخْفيف الصَّاد
يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وعَلى تَشْدِيد الصَّاد يَعْنِي:
المتصدقين.
وَقَوله: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} قيل: لَا تكون الصَّدَقَة
قرضا حسنا حَتَّى تَجْتَمِع فِيهَا خِصَال: أَولهَا: أَن تكون
من حَلَال، وَأَن يُعْطِيهَا طيبَة بهَا نَفسه، وَأَن لَا
يتبعهَا منا وَلَا أَذَى، وَأَن يتَيَمَّم الْجيد من مَاله لَا
الْخَبيث والرديء، وَأَن يُعْطِيهَا ابْتِغَاء وَجه الله لَا
مراءاة لِلْخلقِ، وَأَن يخرج الأحب من مَاله إِلَى الله
تَعَالَى، وَأَن يتَصَدَّق وَهُوَ صَحِيح يأمل الْعَيْش ويخشى
الْفقر، وَأَن لَا يستكثر مَا فعله بل يستقله، وَأَن يتَصَدَّق
بالكثير.
وَقَوله: {يُضَاعف لَهُم وَلَهُم أجر كريم} أَي: كثير حسن.
(5/373)
{لَهُم أجرهم ونورهم وَالَّذين كفرُوا
وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (19) اعلموا
أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة وتفاخر بَيْنكُم
وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد كَمثل غيث أعجب
الْكفَّار نَبَاته ثمَّ يهيج فتراه مصفرا ثمَّ يكون حطاما
وَفِي الْآخِرَة}
(5/374)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا
بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون} الصّديق هُوَ كثير
الصدْق، كالسكيت كثير السُّكُوت.
وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كلكُمْ صديق وشهيد. فَقيل لَهُ:
كَيفَ يَا أيا هُرَيْرَة؟ فَقَرَأَ قَوْله فِي هَذِه الْآيَة.
وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {وَالشُّهَدَاء} فأحد
الْأَقْوَال: أَنهم الشُّهَدَاء المعروفون، وهم الَّذين
اسْتشْهدُوا فِي سَبِيل الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم النَّبِيُّونَ، ذكره الْفراء.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم جَمِيع الْمُؤمنِينَ. فعلى هَذَا
يكون الشُّهَدَاء مَعْطُوفًا على قَوْله: {أُولَئِكَ هم
الصديقون} وعَلى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين تمّ الْوَقْف
وَالْكَلَام على قَوْله: {أُولَئِكَ هم الصديقون} ، وَقَوله:
{وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم} ابْتِدَاء كَلَام. وَفِي قَوْله:
{عِنْد رَبهم} إِشَارَة إِلَى مَنْزِلَتهمْ ومكانتهم عِنْد
الله.
وَقَوله: {لَهُم أجرهم ونورهم} أَي: ثوابهم وضياؤهم.
وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَاب الْجَحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى، والجحيم مُعظم
النَّار.
(5/374)
اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
وَقَوله تَعَالَى: {اعلموا أَنما الْحَيَاة
الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة} أَي: هِيَ مَا يلْعَب بِهِ ويلهي
ويتزين بِهِ. وَالْمرَاد بِهِ: كل مَا أُرِيد بِهِ غير الله،
أَو كل مَا شغل عَن الدّين. وَيُقَال: لعب وَلَهو: أكل وَشرب.
وَيُقَال: اللّعب الْأَوْلَاد، وَاللَّهْو النِّسَاء.
وَقَوله تَعَالَى: {وتفاخر بَيْنكُم} أَي: تفاخر من بَعْضكُم
على بعض.
وَقَوله: {وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} أَي: تطاول
بِكَثْرَة الْأَوْلَاد وَالْأَمْوَال. وَالْفرق بَين التفاخر
وَالتَّكَاثُر: أَن التفاخر قد يكون مِمَّن لَهُ ولد وَمَال
مَعَ من لَا ولد لَهُ
(5/374)
{عَذَاب شَدِيد ومغفرة من الله ورضوان
وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور (20)
سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء
وَالْأَرْض أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه} وَلَا مَال، وَأما
التكاثر لَا يكون إِلَّا مِمَّن لَهُ ولد وَمَال مَعَ من لَهُ
ولد وَمَال.
وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من طلب
الدُّنْيَا تعففا عَن السُّؤَال، وصيانة للْوَلَد والعيال،
جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة
الْبَدْر، وَمن طلبَهَا تفاخرا وتكاثرا ورياء للنَّاس،
فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} أَي: الزراع،
وَذَلِكَ حِين ينْبت وَيحسن فِي أعين النَّاس.
وَقَوله: {ثمَّ يهيج فتراه مصفرا} أَي: ييبس ويجف.
وَقَوله: {مصفرا} أَي: أصفر يَابسا.
وَقَوله: {ثمَّ يكون حطاما} أَي: يتكسر ويتهشم. وَقيل: يكون
نبتا لَا قَمح فِيهِ.
وَقَوله: {وَفِي الْآخِرَة عَذَاب شَدِيد} يَعْنِي: لمن آثر
الدُّنْيَا على الْآخِرَة.
وَقَوله: {ومغفرة من الله ورضوان} يَعْنِي لمن آثر الْآخِرَة
على الدُّنْيَا.
قَالَ قَتَادَة: رَجَعَ الْأَمر إِلَى هَذِه الْكَلِمَات
الثَّلَاث {وَفِي الْآخِرَة عَذَاب شَدِيد ومغفرة من الله
ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور}
ومتاع الْغرُور قد بَينا من قبل، وَهُوَ كل مَا لَا أصل لَهُ،
أَو كل مَا لَا بَقَاء عَلَيْهِ.
(5/375)
سَابِقُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قَوْله تَعَالَى: {سابقوا إِلَى مغْفرَة من
ربكُم} أَي: سارعوا، يُقَال: إِن الْمُسَابقَة بِالْإِيمَان.
وَيُقَال: بالتكبيرة الأولى والصف الأول، حُكيَ هَذَا عَن
رَبَاح بن عُبَيْدَة. وَعَن وَكِيع بن الْجراح قَالَ: كُنَّا
إِذا رَأينَا الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى علمنَا أَنه لَا
يفلح.
(5/375)
{وَرُسُله ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء
وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (21) مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي
الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها
إِن ذَلِك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا
تفرحوا بِمَا آتَاكُم وَالله لَا يحب كل مختال}
وَقَوله: {وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} المُرَاد
مِنْهُ: ألصق بعضه بِبَعْض فَمَا يبلغ عرض الْجَمِيع، فَهُوَ
عرض الْجنَّة. وَقيل: المُرَاد من الْمُسَابقَة: الْمُسَابقَة
إِلَى التَّوْبَة. وَقيل: إِلَى النَّبِي.
وَقَوله: {عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: سعتها،
قَالَ الشَّاعِر:
(كَأَن بِلَاد الله وَهِي عريضة ... على الْخَائِف الْمَطْلُوب
كفة حابل)
وَقَوله تَعَالَى: {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله}
أَي: صدقُوا الله، وَصَدقُوا لَهُ رسله.
وَقَوله: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل
الْعَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/376)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أصَاب من مُصِيبَة
فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم} الْمُصِيبَة فِي الأَرْض: مَا
يُصِيب الأَرْض من الجدب والقحط وهلاك الثِّمَار وَمَا أشبه
ذَلِك، والمصيبة فِي الْأَنْفس هِيَ الأسقام والأمراض وَمَا
يشبهها.
وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب} قد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " لما
خلق الله الْقَلَم قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أكتب؟
قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَالْكتاب هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقَوله: {من قبل أَن نبرأها} أَي: من قبل أَن نخلقها.
وَالْكِتَابَة يجوز أَن ترجع إِلَى النقوش، وَيجوز أَن نرْجِع
إِلَى الْمُصِيبَة.
وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.
(5/376)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
قَوْله تَعَالَى: {لكيلا تأسوا على مَا
فاتكم} الأسى: هُوَ الْحزن والتندم.
(5/376)
{فخور (23) الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون
النَّاس بالبخل وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد
(24) لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم
الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ}
وَقَوله: {وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} أَي: لَا تبطروا وَلَا
تأشروا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من أحد إِلَّا ويحزن،
وَلَكِن المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ أَن نشكر عِنْد النِّعْمَة،
وَنَصْبِر عِنْد الْمُصِيبَة. وَعَن بَعضهم مَعْنَاهُ: لَا
يُجَاوز مَا حَده الله تَعَالَى يَعْنِي: لَا يجزع عِنْد
الْمُصِيبَة جزعا يُخرجهُ إِلَى ترك الرِّضَا، وَلَا يفرح
عِنْد النِّعْمَة فَرحا يُخرجهُ عَن طَاعَة الله، أَو
يمْسِكهَا عَن حُقُوقهَا، وَلَكِن إِذا علم أَن الْكل بِقَضَاء
الله وَقدره، وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَمَا أَصَابَهُ
لم لكم يكن ليخطئه، هان عَلَيْهِ مَا فَاتَ، وَلم يفرح بِمَا
أصَاب. وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: إِذا اسْتَأْثر
الله عَلَيْك بِشَيْء [مَا فاتك] ذَلِك عَن ترك ذكره.
وَمن الْمَعْرُوف قَول النَّبِي " لله مَا أَخذ، وَللَّه مَا
أعْطى ".
وَقَوله: {وَالله لَا يحب كل مختال فخور} أَي: متكبر منان
بِمَا أعْطى.
(5/377)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَبْخلُونَ
ويأمرون النَّاس بالبخل} قَالَ أهل الْعلم: الْبُخْل حَقِيقَته
هُوَ منع المَال عَن حق الله تَعَالَى. وَقَالَ بَعضهم: إِذا
وَضعه فِي غير مَوْضِعه فَهُوَ بخيل، وَإِن أعْطى وَأكْثر،
وَإِذا وَضعه فِي مَوْضِعه فَلَيْسَ ببخيل وَإِن قل. وَعَن
بَعضهم أَنه قَالَ: من أدّى زَكَاة مَاله فقد برِئ من
الْبُخْل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر ذكره السدى وَغَيره: أَن الْآيَة فِي
الْيَهُود؛ وبخلهم هُوَ كتمان صفة الرَّسُول، وَأمرهمْ بالبخل
أَمرهم بِالْكِتْمَانِ.
وَقَوله: {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي:
الْغَنِيّ عَن طَاعَة خلقه، الحميد فِي فعاله. وَقيل:
الْغَنِيّ عَن صدقَات الْخلق، الحميد فِي إفضاله عَلَيْهِم.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: يَبْخلُونَ أَي: لَا يتصدقون،
ويأمرون النَّاس بالبخل، أَي:
(5/377)
{وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد
وَمَنَافع للنَّاس وليعلم الله من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ
إِن الله قوي عَزِيز (25) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم
وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب} بترك
الصَّدَقَة. وَالْفرق بَين الْبَخِيل والسخي: أَن السخي هُوَ
الَّذِي يلتذ بالإعطاء، والبخيل هُوَ الَّذِي يلتذ بالإمساك.
وَقيل: الْبَخِيل هُوَ الَّذِي يُعْطي مَا يُعْطي وَنَفسه غير
طيبَة، والسخي هُوَ الَّذِي يُعْطي مَا يُعْطي طيبَة بهَا
نَفسه.
(5/378)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قَوْله تَعَالَى: {لقد أرسلنَا رسلنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب} أَي: الْكتب.
وَقَوله: {وَالْمِيزَان} قَالَ قَتَادَة: الْعدْل. وَقَالَ
الْكَلْبِيّ: الْمِيزَان الْمَعْرُوف الَّذِي توزن بِهِ
الْأَشْيَاء. وَمَعْنَاهُ: وَضعنَا الْمِيزَان، وعَلى القَوْل
الأول مَعْنَاهُ: أمرنَا بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: {ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ فِي
الْمِيزَان.
وَقَوله: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} قَوْله:
{أنزلنَا الْحَدِيد} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ:
وخلقنا الْحَدِيد وأحدثناه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْإِنْزَال من
السَّمَاء حَقِيقَة، " وَأَن الله تَعَالَى لما أنزل آدم إِلَى
الأَرْض أنزل مَعَه العلاة والكلبتين والميقعة " وَهِي المطرقة
وَقيل: أنزل مَعَه الْحجر الْأسود وعصا مُوسَى من آس الْجنَّة
وَمَا ذكرنَا من الْحَدِيد.
وَقَوله: {فِيهِ بَأْس شَدِيد} أَي: هُوَ سلَاح وجنة. فالسلاح
يُقَاتل بِهِ، وَالْجنَّة يتقى
وَقَوله {مَنَافِع للنَّاس} هِيَ مَا يتَّخذ من الْآلَات من
الْحَدِيد مثل الفأس والقدوم والمنشار والمسلة والإبرة
وَنَحْوهَا بهَا.
وَقَوله: {وليعلم الله من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ} ذكر
هَاهُنَا هَذَا؛ لِأَن نصْرَة الله تَعَالَى ونصرة رسله
بِالْقِتَالِ، والقتال بآلات الْحَدِيد، وَإِنَّمَا قَالَ:
{بِالْغَيْبِ} لِأَن كل مَا يَفْعَله الْعباد من الطَّاعَات
إِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ بِالْغَيْبِ، على مَا قَالَ الله
تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} .
وَقَوله: {إِن الله قوي عَزِيز} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/378)
{فَمنهمْ مهتد وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ
(26) ثمَّ قفينا على آثَارهم برسلنا وقفينا بِعِيسَى ابْن
مَرْيَم وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل وَجَعَلنَا فِي قُلُوب
الَّذين اتَّبعُوهُ رأفة وَرَحْمَة ورهبانية ابتدعوها مَا
كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها
حق رعايته فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم}
(5/379)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا
وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب
فَمنهمْ مهتد} أَي: مُسلم. {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي:
كافرون.
(5/379)
ثُمَّ قَفَّيْنَا
عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قفينا على آثَارهم
برسلنا} أَي: أتبعنا.
وَقَوله: {وقفينا بِعِيسَى ابْن مَرْيَم وَآتَيْنَاهُ
الْإِنْجِيل} أَي: أعطيناه الْإِنْجِيل جملَة.
وَقَوله: {وَجَعَلنَا فِي قُلُوب الَّذين اتَّبعُوهُ رأفة
وَرَحْمَة} الرأفة: أَشد الرَّحْمَة، وَالْمرَاد بهؤلاء: هم
الَّذين بقوا على دين الْحق، وَلم يُغيرُوا وَلم يبدلوا بعد
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {ورهبانية ابتدعوها} أَي: وابتدعوها رَهْبَانِيَّة من
تِلْقَاء أنفسهم، والرهبانية هِيَ مَا ابتدعوها من السياحة فِي
البراري (والمفاوز) . قيل: هُوَ التفرد فِي الديار والصوامع
لِلْعِبَادَةِ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا
رَهْبَانِيَّة فِي الْإِسْلَام ". وَفِي رِوَايَة قَالَ: "
رَهْبَانِيَّة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله ". وَفِي
الْأَخْبَار: أَن سَبَب ابتداعهم الرهبانية أَن الْمُلُوك بعد
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بدلُوا دين عِيسَى، وَقتلُوا
الْعباد والأخيار من بني إِسْرَائِيل حِين دعوهم إِلَى الْحق؛
فَقَالَ الأخيار فِيمَا بَينهم وهم الَّذين بقوا إِنَّهُم
وَإِن قتلونا لَا يسعنا الْمقَام فِيمَا بَينهم وَالسُّكُوت،
فلحق بَعضهم بالبراري وساحوا، وَبنى بَعضهم الصوامع وتفردوا
فِيهَا لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ أصل الرهبانية بِهَذَا
السَّبَب.
وَقَوله: {مَا كتبناها عَلَيْهِم} أَي: مَا فرضناها عَلَيْهِم.
(5/379)
{أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ (27) يَا
أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ
وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم (28) لِئَلَّا}
وَقَوله: {إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله} انتصب لمَحْذُوف،
والمحذوف: مَا ابتدعوها إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله.
وَقَوله: {فَمَا رعوها حق رعايتها} أَي: مَا قَامُوا كَمَا يجب
الْقِيَامَة بهَا.
وَقَوله: {فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم} أَي: ثوابهم،
وهم الَّذين آمنُوا بِمُحَمد بعد أَن ترهبوا.
وَقَوله: {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي: الَّذين بقوا على
الْكفْر.
(5/380)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (28)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ
من رَحمته} أَي: نَصِيبين. وَقيل: أَجْرَيْنِ من رَحمته. وَفِي
التَّفْسِير: أَن سَبَب نزُول الْآيَة أَن الله تَعَالَى لما
أنزل عَلَيْهِم قَوْله: {وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا
آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا} إِلَى قَوْله: {أُولَئِكَ
يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} تفاخر الَّذين آمنُوا من أهل
الْكتاب على سَائِر الْمُؤمنِينَ من الصَّحَابَة، وَقَالُوا:
إِنَّكُم تؤتون أجوركم مرّة، وَنحن نؤتى مرَّتَيْنِ، فَأنْزل
الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة بِشَارَة لسَائِر الْمُؤمنِينَ.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
أَنه قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " ثَلَاثَة
يُؤْتونَ أُجُورهم مرَّتَيْنِ: رجل آمن بِالْكتاب الأول ثمَّ
آمن بِالْكتاب الثَّانِي، وَرجل اشْترى جَارِيَة فأدبها وَأحسن
تأديبها ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا، وَعبد أطَاع ربه ونصح
لسَيِّده ". وَقيل: قَوْله: {يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته}
وَهُوَ أجر السِّرّ وَأجر الْعَلَانِيَة. وَقيل: أجر أَدَاء حق
الله تَعَالَى وَأَدَاء حق الْعباد.
وَقَوله: {وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ} هُوَ النُّور الَّذِي
بَينا من قبل يضيئهم على الصِّرَاط. وَقيل: هُوَ نور
الْإِسْلَام.
وَقَوله: {تمشون بِهِ} أَي: تسلكون طَرِيق الْإِسْلَام بنوره.
(5/380)
{يعلم أهل الْكتاب أَلا يقدرُونَ على شَيْء
من فضل الله وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو
الْفضل الْعَظِيم (29) .}
وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/381)
لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يعلم أهل
الْكتاب} وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ تَفْسِير الْقِرَاءَة
الْمَعْرُوفَة. وَقد قَالَ الْأَخْفَش وَالْفراء وَغَيرهمَا:
إِن " لَا " صلَة هَاهُنَا، وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر:
(وَلَا ألزم الْبيض أَن لَا تسحرُوا ... )
أَي: أَن تسحرُوا.
وَقَوله: {أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله} مَعْنَاهُ:
إِنَّا أعطينا مَا أعطينا من الكفلين من الرَّحْمَة
للْمُؤْمِنين؛ ليعلم أهل الْكتاب أَن لَيْسَ بِأَيْدِيهِم
إِيصَال فضل الله الْوَاحِد، وَيعلم الْمُؤْمِنُونَ أَن الْفضل
بيد الله يؤتيه من يَشَاء، وَهُوَ معنى قَوْله: {وَأَن الْفضل
بيد الله يؤتيه من يَشَاء} أَي: يُعْطِيهِ من يَشَاء، وَقيل
معنى الْآيَة: ليعلم أهل الْكتاب أَن من لم يُؤمن بِمُحَمد
لَيْسَ لَهُ نصيب من فضل الله يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله} أَي: لَا
يصلونَ إِلَى شَيْء من فضل الله حِين لم يُؤمنُوا بِمُحَمد،
وَالْفضل بيد الله يوصله إِلَى الْمُؤمنِينَ بِمُحَمد بمشيئته،
وَالْفضل هَاهُنَا هُوَ الْجنَّة.
وَقَوله: {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} أَي: لَهُ الْفضل
الْعَظِيم، وَهُوَ الْقَادِر على إِيصَال الْفضل الْعَظِيم
يَعْنِي: إِلَى من يَشَاء من عباده وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(5/381)
|