تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى
الله وَالله يسمع تحاوركما إِن}
تَفْسِير سُورَة المجادلة
وَهِي مَدَنِيَّة
(5/382)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول
الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله} نزلت
الْآيَة فِي خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة، وَهِي امْرَأَة أَوْس بن
الصَّامِت، وَيُقَال: خَوْلَة بنت خويلد. وَقيل: خَوْلَة بنت
الصَّامِت، وَالأَصَح هُوَ الأول، وَعَلِيهِ أَكثر أهل
التَّفْسِير مِنْهُم: مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَمُحَمّد بن
كَعْب الْقرظِيّ، وَغَيرهم. وَكَانَ أَوْس بن الصَّامِت ظَاهر
مِنْهَا. وَفِي رِوَايَة عَن خَوْلَة أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ
بأوس بن الصَّامِت لمَم، فراجعته فِي بعض الْأَمر فَظَاهر منى
". قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَتَت خَوْلَة بنت
ثَعْلَبَة رَسُول الله وَقَالَت: إِن أَوْس بن الصَّامِت زَوجي
وَابْن عمي وَأحب النَّاس إِلَيّ وَقد ظَاهر مني، فَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا أَرَاك إِلَّا وَقد حرمت عَلَيْهِ
"، فَجعلت تَشْتَكِي وَتقول: أَبُو وَلَدي وَزَوْجي وَلَا
أَسْتَطِيع فِرَاقه، وَرَسُول الله يَقُول: " مَا أَرَاك
إِلَّا وَقد حرمت عَلَيْهِ "، وَهِي تراجعه مرّة بعد أُخْرَى،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: (قد سمع الله قَول
الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا) " قَالَت عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا: سُبْحَانَ الَّذِي وسع سَمعه الْأَصْوَات، كنت فِي
جَانب الْبَيْت وَلَا أسمع مَا تَقوله خَوْلَة، فَأنْزل الله
تَعَالَى: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} .
وَقَوله: {وتشتكي إِلَى الله} اشْتَكَى وشكا بِمَعْنى وَاحِد
وَقَوله {وَالله يسمع تحاوركما} أَي: تراجعكما.
وَقَوله: {إِن الله سميع بَصِير} ظَاهر.
(5/382)
{الله سميع بَصِير (1) الَّذين يظاهرون
مِنْكُم من نِسَائِهِم مَا هن أمهاتهم إِن أمهاتهم إِلَّا
اللائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا
وَإِن الله لعفو غَفُور (2) وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم
ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا
ذَلِكُم}
(5/383)
الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظاهرون مِنْكُم
من نِسَائِهِم مَا هن أمهاتهم} أَي: لَيْسَ هن بأمهاتهم،
وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ أَزوَاجهنَّ كَمَا قَالُوا: إِن
ظهورهن كَظهر أمهاتهم.
وَقَوله: {إِن أمهاتهم إِلَّا اللائي ولدنهم وَإِنَّهُم
ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا} قَالَ قَتَادَة: أَي: كذبا.
وَالْكذب هُوَ قَوْله لَهَا: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي.
وَقَوله: {وَإِن الله لعفو غَفُور} أَي: لمن نَدم على قَوْله،
(5/383)
وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
وَهَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين
يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير}
قَالَ الْحسن وَطَاوُس وَالزهْرِيّ: الْعود هُوَ الْوَطْء،
وَهَذَا قَول مَالك. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن ينْدَم على
مَا قَالَ وَيرجع إِلَى الألفة. وَمذهب الشَّافِعِي فِي الْعود
أَنه يمْسِكهَا على النِّكَاح عقيب الظِّهَار وَلَا يطلقهَا،
قَالَ: وَإِنَّمَا يكون هَذَا عودا؛ لِأَن الظِّهَار قصد
التَّحْرِيم، فَإِذا مضى وَقت عقيب الظِّهَار، وَلم يحرمها على
نَفسه بِالطَّلَاق، فَهُوَ عَائِد عَمَّا قَالَ. وَيجوز أَن
يكون على هَذَا قَول ابْن عَبَّاس الَّذِي ذكرنَا.
وَأما مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ:
الْعود هُوَ أَن يعزم على إِِمْسَاكهَا، فَإِذا فعل ذَلِك فقد
تحقق الْعود. وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين قَول الشَّافِعِي
أَنه إِذا مضى عقيب الظِّهَار وَقت يُمكنهُ أَن يطلقهَا فِيهِ
وَلم يُطلق فَهُوَ عَائِد، وَإِن لم يعزم على إِِمْسَاكهَا.
وَعند أبي حنيفَة مَا لم يعزم على إِِمْسَاكهَا لَا يكون
عَائِدًا.
وَفِي الْآيَة قَول رَابِع، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة
وَبُكَيْر بن عبد الله الْأَشَج: أَن الْعود هُوَ أَن يُكَرر
لفظ الظِّهَار وأولا الْعود لما قَالُوا بِهَذَا. وَقَالَ
القتيبي: ثَبت الظِّهَار بِنَفس القَوْل وَتجب الْكَفَّارَة.
وَمعنى الْعود فِي هَذَا هُوَ الْعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
أهل الْجَاهِلِيَّة من فعل
(5/383)
{توعظون بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِير (3) فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل
أَن يتماسا فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا ذَلِك
لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وَتلك حُدُود} الظِّهَار،
وَكَأَنَّهُ قَالَ: " ويعودون لما قَالُوا " يَعْنِي: إِلَى
مَا قَالَه أهل الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْأَخْفَش سعيد بن
مسْعدَة: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها:
وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون فَتَحْرِير
رَقَبَة بِمَا قَالُوا.
وَقَوله: {من قبل أَن يتماسا} يَعْنِي: الْوَطْء، وَأما
اللَّمْس فِيمَا دون الْفرج اخْتلفُوا فِيهِ، فحكي عَن الْحسن
الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: يجوز.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يجوز، وَالأَصَح أَنه لَا يجوز
حَتَّى يكفر.
وَقَوله: {ذَلِكُم توعظون بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {فَتَحْرِير رَقَبَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مُؤمنَة.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: رَقَبَة قد صلت وَعرفت الْإِيمَان.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي دَعَا أَوْس بن الصَّامِت
وَقَالَ: " اعْتِقْ رَقَبَة. فَقَالَ: لَا أَجدهَا. فَقَالَ:
صم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ: لَا أَسْتَطِيع وَكَانَ
شَيخا قد أسن وَكبر فَقَالَ: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا،
فَقَالَ: " نعم ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ: " لَا أجد إِلَّا أَن
تعينني، فأعانه رَسُول الله بفرق من تمر، وأعانته الْمَرْأَة
بفرق من تمر ". وَفِي رِوَايَة: " أَنه لما أعطَاهُ رَسُول
الله التَّمْر قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَدِينَة أحد أحْوج
إِلَيْهِ مني، فَقَالَ: كُله أَنْت وَعِيَالك ".
(5/384)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(4)
قَوْله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام
شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل أَن يتماسا} قد بَينا. وَعَن
سعيد بن الْمسيب قَالَ: إِذا أفطر بِعُذْر يقْضِي يَوْمًا
مَكَانَهُ وَلَا يسْتَقْبل. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ:
يسْتَقْبل. وَعَلِيهِ أَكثر الْفُقَهَاء.
(5/384)
{الله وللكافرين عَذَاب أَلِيم (4) إِن
الَّذين يحادون الله وَرَسُوله كبتوا كَمَا كبت الَّذين من
قبلهم وَقد أنزلنَا آيَات بَيِّنَات وللكافرين عَذَاب مهين (5)
يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فينبئهم بِمَا عمِلُوا
أَحْصَاهُ الله ونسوه وَالله على كل شَيْء شَهِيد (6) ألم تَرَ
أَن الله}
وَقَوله: {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} قد
بَينا، وَالأَصَح أَنه يطعم مدا مدا، وَهُوَ قَول ابْن
عَبَّاس.
وَقَوله: {ذَلِك لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وَتلك حُدُود
الله} أَي: سنة الله، وَيُقَال: أوَامِر الله.
وَقَوله: {وللكافرين عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.
(5/385)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحادون الله
وَرَسُوله} أَي: يكونُونَ فِي حد غير حد الْمُؤمنِينَ.
وَيُقَال: إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله أَي: يعادون الله
وَرَسُوله. وَقَوله فِي مَوضِع آخر: {وَمن يُشَاقق الله
وَرَسُوله} أَي: يكون فِي شقّ غير شقّ الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {كبتوا} أَي: أخزوا، قَالَه قَتَادَة. وَيُقَال:
أهلكوا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَيُقَال: لعنُوا، قَالَه السدى.
وَقَوله: {كَمَا كبت الَّذين من قبلهم} أَي: كَمَا أخزى
وَأهْلك وَلعن الَّذين من قبلهم.
وَقَوله: {وَقد أنزلنَا آيَات بَيِّنَات وللكافرين عَذَاب
مهين} أَي: يهينهم، وَهُوَ من الهوان، وَمن عذبه الله فقد
أهانه.
(5/385)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَبْعَثهُم الله
جَمِيعًا فينبئهم بِمَا عمِلُوا} أَي: يُخْبِرهُمْ.
وَقَوله: {أَحْصَاهُ الله ونسوه} أَي: أحَاط بِهِ علم الله،
ونسوه أَي: نَسيَه من عمل بِهِ.
وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء شَهِيد} أَي: شَاهد.
(5/385)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يعلم
مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض مَا يكون من نجوى
(5/385)
{يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي
الأَرْض مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا
خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم إِلَّا وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا
أَكثر إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْن مَا كَانُوا ثمَّ ينبئهم بِمَا
عمِلُوا يَوْم الْقِيَامَة إِن الله بِكُل شَيْء عليم (7) ألم
تَرَ إِلَى الَّذين نهوا عَن النَّجْوَى ثمَّ} ثَلَاثَة إِلَّا
هُوَ رابعهم) ذكر الزّجاج أَن السرَار والنجوى بِمَعْنى
وَاحِد. وَعَن بَعضهم: أَن السرَار يكون بَين اثْنَيْنِ،
والنجوى [تكون] بَين ثَلَاثَة وَأكْثر إِذا إخفي.
وَقَوله: {إِلَّا هُوَ رابعهم} يَعْنِي: بِالْعلمِ
وَالْقُدْرَة.
وَقَوله: {وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم} هُوَ كَمَا
بَينا.
وَقَوله: {وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا أَكثر هُوَ مَعَهم
أَيْنَمَا كَانُوا} هُوَ كَمَا بَينا.
وَقَوله: {ثمَّ ينبئهم بِمَا عمِلُوا يَوْم الْقِيَامَة إِن
الله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.
(5/386)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ
جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين
نهوا عَن النَّجْوَى} نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُنَافِقين
كَانَ رَسُول الله إِذا بعث سَرِيَّة قَالُوا فِيمَا بَينهم:
قد أصَاب السّريَّة، وَكَذَا قد أَسرُّوا وَقتلُوا وَمَا يشبه
ذَلِك إرجافا بِالْمُسْلِمين، فنهاهم النَّبِي عَن ذَلِك،
فَكَانُوا يَقُولُونَ قد نبئنا. [قَوْله] : {ثمَّ يعودون [لما
نهوا عَنهُ] } .
قَوْله: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُول} وَهُوَ
بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيناهُ من قبل.
وَقَوله: {وَإِذا جاءوك وحيوك بِمَا لم يحيك بِهِ الله} هَذَا
فِي الْيَهُود. وَيُقَال: إِن أول الْآيَة فِي الْيَهُود
أَيْضا، وتحيتهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: السام عَلَيْك يَا
مُحَمَّد، وَكَانَ السام فِي لغتهم الْمَوْت والهلاك، وَكَانَ
رَسُول الله يَقُول: " وَعَلَيْكُم ". فَروِيَ فِي بعض
الْأَخْبَار: " أَن عَائِشَة سمعتهم يَقُولُونَ ذَلِك، فَجعلت
تسبهم وتلعنهم، فزجها النَّبِي عَن ذَلِك وَقَالَ لَهَا: " يَا
عَائِشَة، إِن الله لَا يحب الْفُحْش والتفحش، وَقَالَت:
(5/386)
{يعودون لما نهوا عَنهُ ويتناجون بالإثم
والعدوان ومعصيت الرَّسُول وَإِذا جاءوك حيوك بِمَا لم يحيك
بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا
نقُول حسبهم جَهَنَّم يصلونها فبئس الْمصير (8) يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان
ومعصيت الرَّسُول وتناجوا بِالْبرِّ وَالتَّقوى وَاتَّقوا الله
الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} يَا رَسُول الله، ألم تسمع مَا
قَالُوا؟ ! فَقَالَ رَسُول الله: ألم تسمعي مَا قلت، قلت:
وَعَلَيْكُم، وَإِنَّا نستجاب فيهم، وَلَا يستجابون فِينَا ".
وَقَوله: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا
نقُول} الْمَعْنى: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: لَو كَانَ
مُحَمَّد نَبيا لعذبنا الله بِمَا نقُول.
وَقَوله: {حسبهم جَهَنَّم} أَي: كافيهم عَذَاب جَهَنَّم.
وَقَوله: {يصلونها} أَي: يدْخلُونَهَا.
وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: المنقلب والمرجع.
(5/387)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية
الرَّسُول وتناجوا بِالْبرِّ وَالتَّقوى} أَي: وَمَا تَتَّقُون
بِهِ.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} يَوْم
الْقِيَامَة. وَإِذا حملنَا الْآيَة على الْمُنَافِقين
فَقَوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} أَي: آمنُوا بألسنتهم،
وَالأَصَح أَن الْخطاب للْمُؤْمِنين، أَمرهم الله تَعَالَى
أَلا يَكُونُوا كالمنافقين وكاليهود.
(5/387)
إِنَّمَا النَّجْوَى
مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى من
الشَّيْطَان} يَعْنِي: أَن النَّجْوَى بَينهم على مَا بَينا
[هِيَ] من الشَّيْطَان.
وَقَوله: {ليحزن الَّذين آمنُوا} أَي: ليحزنوا بِمَا يسمعُونَ
من الإرجاف بالسرية.
(5/387)
((9} إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان
ليحزن الَّذين آمنُوا وَلَيْسَ بضارهم شَيْئا إِلَّا بِإِذن
الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا إِذا قيل لكم تَفَسَّحُوا فِي)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ بضارهم شَيْئا} يَعْنِي: أَن
الإرجاف لَا يضر السّريَّة.
وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا بِإِذن الله} أَي: بِعلم الله.
وَقَوله: {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} أَي:
فليتق الْمُؤْمِنُونَ.
(5/388)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا قيل لكم تَفَسَّحُوا فِي الْمجْلس فافسحوا يفسح
الله لكم} مَعْنَاهُ: إِذا قيل لكم توسعوا فِي الْمجْلس أَي:
فِي مجْلِس رَسُول الله فوسعوا يُوسع الله لكم. أَي: فِي
الْجنَّة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي ثَابت بن قيس بن
شماس، وَكَانَ بِهِ صمم، فجَاء يَوْمًا وَقد (جلس) النَّاس
عِنْد النَّبِي، فَطلب أَن يوسعوا لَهُ ليقرب من النَّبِي
وَيسمع، فوسعوا لَهُ إِلَّا رجلا وَاحِدًا وَكَانَ قَرِيبا من
النَّبِي لم يُوسع لَهُ، وَقَالَ لَهُ: قد أصبت موضعا
فَاقْعُدْ، فَعَيَّرَهُ ثَابت بن قيس بِأم كَانَت لَهُ فِي
الْجَاهِلِيَّة، فَسمع النَّبِي ذَلِك فَقَالَ: " يَا ثَابت،
انْظُر من الْقَوْم فَلَيْسَ لَك على أحد مِنْهُم فضل إِلَّا
بالتقوى ". وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمر
الْمُسلمين أَن يتوسعوا فِي الْمجْلس. قَالَ الْحسن
الْبَصْرِيّ: نزلت الْآيَة فِي صُفُوف الْجِهَاد. وَالْمرَاد
من التفسح هَاهُنَا هُوَ الْقعُود فِي الْمَكَان من (اختباء)
لَا للحرب. وَالْقَوْل الأول أظهر.
وَقَوله: {وَإِذا قيل انشزوا فانشزوا} قَالَ قَتَادَة
مَعْنَاهُ: إِذا دعيتم إِلَى خير فأجيبوا. وَقَالَ الْحسن:
هُوَ فِي الْحَرْب. وَقيل: هُوَ النهوض فِي جَمِيع الْأَشْيَاء
بعد أَن يكون من الْخيرَات، وَذَلِكَ مثل: الْجِهَاد، وصفوف
الْجَمَاعَات، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن
الْمُنكر، وَمَا أشبه ذَلِك.
(5/388)
{الْمجَالِس فافسحوا يفسح الله لكم وَإِذا
قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم
وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِير (11) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نَاجَيْتُم
الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة ذَلِك خير لكم
وأطهر فَإِن لم تَجدوا}
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن قَوْله: {فانشزوا} هُوَ إِذا
فرغ النَّبِي فاخرجوا من عِنْده، وَلَا تلبثوا عِنْده فتثقلوا
عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أطعمْتُم
فَانْتَشرُوا وَلَا مستأنسين لحَدِيث} .
وَقَوله: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا
الْعلم دَرَجَات} أَي: بإيمَانهمْ وعلمهم. وَقيل: كَانَ
النَّبِي يسْتَحبّ أَن يكون بِالْقربِ مِنْهُ أولُوا الْعلم
وَالنَّهْي من أَصْحَابه، فَكَانَ غَيرهم يَأْتِي وَيقرب من
النَّبِي، ثمَّ إِذا حضر الأكابر وَأولُوا الْعلم من أَصْحَابه
كَانَ يَقُول: " يَا فلَان، قُم، وَيَا فلَان، قُم وَتَأَخر؛
ليقعد أولُوا الْعلم وَالنَّهْي بِالْقربِ مِنْهُ، فعلى هَذَا
معنى قَوْله: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين
أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ يرفعهم
النَّبِي ويقعدهم بِالْقربِ. يَعْنِي: أَنهم أَصَابُوا مَا
أَصَابُوا من الرّفْعَة والرتبة بِالْإِيمَان وَالْعلم.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عليم.
(5/389)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ
صَدَقَة} سَبَب نزُول الْآيَة أَن النَّاس كَانُوا يستكثرون من
السُّؤَال على النَّبِي، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَتَنَاجَى
مَعَ رَسُول الله طَويلا، فَأَرَادَ الله أَن يُخَفف عَن نبيه،
فَأنْزل هَذِه الْآيَة. وَعَن مُجَاهِد عَن عَليّ رَضِي الله
عَنْهُمَا أَنه قَالَ: لم يعْمل بِهَذِهِ الْآيَة غَيْرِي،
كَانَ عِنْدِي دِينَار فتصدقت بِهِ، وانتجيت مَعَ الرَّسُول.
وَفِي رِوَايَة: أَنه صَارف الدِّينَار بِعشْرَة دَرَاهِم،
فَكَانَ كلما أَرَادَ أَن يَتَنَاجَى مَعَ الرَّسُول عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام تصدق بدرهم.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن الْمُنَافِقين قَالُوا: قد
طَال نجوى مُحَمَّد مَعَ ابْن عَمه
(5/389)
{فَإِن الله غَفُور رَحِيم (12)
أَأَشْفَقْتُم أَن تقدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صدقَات فَإِذا
لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا
الزَّكَاة وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَالله خَبِير بِمَا}
فَقَالَ النَّبِي: " مَا انتجيته أَنا وَلَكِن الله انتجاه ".
فِي بعض التفاسير: أَن هَذَا لأمر لم يبْق إِلَّا سَاعَة من
النَّهَار حَتَّى نسخ.
وَفِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن النَّبِي قَالَ لعَلي: " كم
تقدر فِي الصَّدَقَة؟ فَقَالَ: شعيرَة، فَقَالَ: إِنَّك
لَزَهِيد "، " وَكَانَ الرَّسُول قد قَالَ: " يتصدقون
بِدِينَار. فَقَالَ عَليّ: إِنَّهُم لَا يطيقُونَهُ ".
وَذكر بَعضهم: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا يأْتونَ النَّبِي
[ويتناجون] مَعَه طَويلا تصنعا ورياء، فَأنْزل الله تَعَالَى
هَذِه الْآيَة، فبخلوا بِأَمْوَالِهِمْ وَكفوا عَن النَّجْوَى.
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك خير لكم وأطهر} أَي: أزكى.
وَقَوله: {فَإِن لم تَجدوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} أَي: إِن
لم تَجدوا مَا تتصدقون بِهِ فَإِن الله غفر لكم، وَرَحِمَكُمْ
بِإِسْقَاط الصَّدَقَة عَنْكُم.
(5/390)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
وَقَوله تَعَالَى: {أَأَشْفَقْتُم أَن
تقدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صدقَات} مَعْنَاهُ:
أَأَشْفَقْتُم على أَمْوَالكُم وبخلتم بهَا؟
وَقَوله: {فَإِذا لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا
الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله} نسخ
ذَلِك الْأَمر بِهَذِهِ الْآيَة، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا لم
تَفعلُوا ونسخناه مِنْكُم {فأقيموا الصَّلَاة} أَي: حَافظُوا
عَلَيْهَا {وَآتوا الزَّكَاة} أَي: أدوها {وَأَطيعُوا الله
(5/390)
{تَعْمَلُونَ (13) ألم تَرَ إِلَى الَّذين
توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم
ويحلفون على الْكَذِب وهم يعلمُونَ (14) أعد الله لَهُم عذَابا
شَدِيدا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (15) اتَّخذُوا
أَيْمَانهم جنَّة فصدوا عَن سَبِيل الله فَلهم عَذَاب مهين
(16) لن} وَرَسُوله) فِيمَا يأمران من الْأَمر {وَالله خَبِير
بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي: عليم بأعمالكم.
(5/391)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين
توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم} نزلت فِي الْمُنَافِقين
كَانُوا [يتولون] الْيَهُود، وَقَالُوا لَهُم: نَحن مَعكُمْ
فِي السِّرّ.
وَقَوله: {مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم} أَي: الْمُنَافِقين.
وَقَوله: {ويحلفون على الْكَذِب وهم يعلمُونَ} رُوِيَ " أَن
النَّبِي دَعَا عبد الله ابْن نَبْتَل وَكَانَ أحد
الْمُنَافِقين فَقَالَ لَهُ: مَالك تَشْتمنِي وتؤذيني وقومك
وَأَصْحَابك، فَذهب وَجَاء بِأَصْحَابِهِ يحلفوا أَنهم لم
يَقُولُوا لَهُ إِلَّا خيرا "، فَهُوَ معنى قَوْله: {ويحلفون
على الْكَذِب وهم يعلمُونَ} .
(5/391)
أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (15)
وَقَوله: {أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا
إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: ساءت أَعْمَالهم.
(5/391)
اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
قَوْله تَعَالَى: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم
جنَّة} مَعْنَاهُ: اتَّقوا بأيمانهم كَمَا يَتَّقِي الْمُحَارب
(5/391)
{تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم
من الله شَيْئا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا
خَالدُونَ (17) يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فَيحلفُونَ
لَهُ كَمَا يحلفُونَ لكم وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا
إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ (18) استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان
فأنساهم ذكر الله أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان أَلا إِن حزب
الشَّيْطَان هم الخاسرون (19) إِن الَّذين يحادون الله
وَرَسُوله} بجنته، وَهِي ترسه.
وَقَوله: {فصدوا عَن سَبِيل الله} أَي: أَعرضُوا عَن سَبِيل
الله.
وَقَوله: {فَلهم عَذَاب مهين} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/392)
لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(17)
قَوْله: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا
أَوْلَادهم من الله شَيْئا} أَي: لن تدفع عَنْهُم أَمْوَالهم
وَلَا أَوْلَادهم من عَذَاب الله شَيْئا.
وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ}
أَي: دائمون.
(5/392)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَبْعَثهُم الله
جَمِيعًا فَيحلفُونَ لَهُ كَمَا يحلفُونَ لكم} أَي: يحلفُونَ
لله كذبا كَمَا حلفوا لكم كذبا.
وَقَوله: {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء} أَي: يظنون أَنهم على
شَيْء.
وَقَوله: {آلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ} أَي: الْكَاذِبُونَ
على الله وعَلى رَسُوله.
(5/392)
اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
قَوْله: {استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان}
أَي: غلب عَلَيْهِم الشَّيْطَان. وَفِي صِفَات عمر رَضِي الله
عَنهُ أَنه كَانَ أحوذيا نَسِيج وَحده. وَفِي رِوَايَة أحوزيا.
وَمَعْنَاهُ بِالذَّالِ أَي: غَالِبا على الْأُمُور.
وَقَوله: {فأنساهم ذكر الله} أَي: أنساهم الشَّيْطَان ذكر
الله.
وَقَوله: {أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان أَلا إِن حزب الشَّيْطَان
هم الخاسرون} أَي: خسروا رضَا الله تَعَالَى وَالْجنَّة.
(5/392)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحادون الله
وَرَسُوله} قد بَينا.
(5/392)
{أُولَئِكَ فِي الأذلين (20) كتب الله
لأغلبن أَنا ورسلي إِن الله قوي عَزِيز (21) لَا تَجِد قوما
يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله
وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو
إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان
وأيدهم بِروح مِنْهُ}
وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي الأذلين} أَي: الأقلين. وكل كَافِر
ذليل، وكل مُؤمن عَزِيز. وَمَعْنَاهُ: هم أقل دَرَجَة ورتبة.
(5/393)
كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
(21)
وَقَوله: {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي} أما
غَلَبَة الله مَعْلُومَة؛ لِأَن كل الْأَشْيَاء على مُرَاده
ومشيئته، أما غَلَبَة رسله فَهِيَ بالنصر تَارَة وبالحجة
أُخْرَى.
وَقَوله: {إِن الله قوي عَزِيز} أَي: قوي فِي الْأُمُور، غَالب
عَلَيْهَا.
(5/393)
لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِد قوما
يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله
وَرَسُوله} أَي: لَا يكون من صفة الْمُؤمنِينَ أَن يوادوا من
حاد الله وَرَسُوله {وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم
أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم} فِي نزُول الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب
إِلَى مَكَّة يؤذنهم بغزو النَّبِي؛ وَسَتَأْتِي قصَّة ذَلِك
فِي سُورَة الممتحنة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت
فِي غَيره.
وَقَوله: {وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم} نزل فِي أبي عُبَيْدَة بن
الْجراح، وَكَانَ قتل أَبَاهُ الْكَافِر وَجَاء بِرَأْسِهِ
إِلَى النَّبِي. وَقد قيل: إِن أَبَاهُ مَاتَ قبل أَن يسلم
أَبُو عُبَيْدَة، وَالله أعلم.
وَقَوله: {أَو أَبْنَاءَهُم} نزل فِي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ
أَرَادَ أَن يخرج إِلَى ابْنه عبد الرَّحْمَن فيبارزه، فَمَنعه
النَّبِي عَن ذَلِك وَقَالَ: " نبله مِنْهُ غَيْرك ".
وَقَوله: {أَو إخْوَانهمْ} نزل فِي عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ قتل أَخَاهُ هِشَام بن الْعَاصِ يَوْم بدر، وَكَانَ
أَخَاهُ من أمه.
وَقَوله: {أَو عشيرتهم} نزل فِي حَمْزَة وَعلي وَعبيدَة بن
الْحَارِث رَضِي الله عَنْهُم بارزوا مَعَ عتبَة وَشَيْبَة
والوليد بن عتبَة، وَقد كَانُوا عشيرتهم وقرابتهم.
(5/393)
{ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ
أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون (22) .}
وَقَوله: {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} أَي: أَدخل
فِي قُلُوبهم الْإِيمَان. وَقيل: كتب أَي: جعل فِي قُلُوبهم
عَلامَة تدل على إِيمَانهم.
وَقَوله: {وأيدهم بِروح مِنْهُ} أَي: قواهم بنصر مِنْهُ.
وَقيل: بِنَظَر مِنْهُ. وَقيل: برحمة مِنْهُ.
وَقَوله: {ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار
خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} مَعْلُوم
الْمَعْنى.
وَقَوله: {أُولَئِكَ حزب الله} أَي: جند الله. وَقيل: خَاصَّة
الله وصفوته. وَتقول الْعَرَب: أَنا فِي حزب فلَان أَي: فِي
شقّ فلَان وجانبه.
وَقَوله: {أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} أَي: هم السُّعَدَاء
الْبَاقُونَ فِي نعيم الْأَبَد. وَقيل: هم الَّذين نالوا رضَا
الله تَعَالَى، وَالله أعلم.
(5/394)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز
الْحَكِيم (1) هُوَ الَّذِي أخرج}
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر
وَهِي مَدَنِيَّة
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سَمَّاهَا سُورَة النَّضِير، وَالله
اعْلَم
(5/395)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي
السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: صلى وَتعبد لله.
وَالتَّسْبِيح لله تَعَالَى: هُوَ تنزيهه من كل سوء. وَذكر
بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كل تَسْبِيح ورد فِي
الْقُرْآن فَهُوَ بِمَعْنى الصَّلَاة. وَمِنْه قَوْله: سبْحَة
الضُّحَى أَي: صَلَاة الضُّحَى.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على
الْأَشْيَاء، الْحَكِيم فِي الْأُمُور.
(5/395)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أخرج
الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ} قَالَ جمَاعَة
الْمُفَسّرين: هم بَنو النَّضِير من الْيَهُود، وَكَانَ رَسُول
الله وادعهم وَشرط عَلَيْهِم أَن لَا ينصرُوا مُشْركي قُرَيْش،
فنقضوا الْعَهْد. وَرُوِيَ أَن نقضهم الْعَهْد كَانَ هُوَ أَن
النَّبِي أَتَاهُم يَسْتَعِين بهم فِي دِيَة التلاديين وَقيل
الْعَامِرِيين قَتْلَى عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فجَاء وَقعد
فِي أصل حصنهمْ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بك يَا مُحَمَّد؟ ! فَذكر
لَهُم مَا جَاءَ فِيهِ، واستعان بهم، فدبروا ليلقوا عَلَيْهِ
صَخْرَة ويقتلوه؛ فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
وَأخْبرهُ، فَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ حَاصَرَهُمْ وأجلاهم
".
وَقَوله: {لأوّل الْحَشْر} قَالَ الْحسن: معنى أول الْحَشْر:
هُوَ أَن الشَّام أَرض الْحَشْر والمنشر، وَكَانَ رَسُول الله
أجلاهم إِلَى الشَّام، فإجلاءه إيَّاهُم كَانَ هُوَ الْحَشْر
الأول، والحشر الثَّانِي يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ قَول
عِكْرِمَة أَيْضا. وَقَالَ عِكْرِمَة: من شكّ أَن الشَّام أَرض
الْمَحْشَر فليقرأ قَوْله تَعَالَى: {لأوّل الْحَشْر} . وَقيل:
إِن بني النَّضِير كَانُوا أول من
(5/395)
{الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من
دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر مَا ظننتم أَن يخرجُوا وظنوا أَنهم
مانعتهم حصونهم من الله فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا
وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي
الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار (2) وَلَوْلَا
أَن} أجلوا عَن بِلَادهمْ من الْيَهُود فَقَالَ: {لأوّل
الْحَشْر} بِهَذَا الْمَعْنى. ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ
أجلى بَاقِي الْيَهُود عَن جَزِيرَة الْعَرَب اسْتِدْلَالا
بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يجْتَمع دينان
فِي جَزِيرَة الْعَرَب " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وجزيرة
الْعَرَب من حفر أبي مُوسَى إِلَى أقْصَى حجر بِالْيمن طولا،
وَمن رمل يبرين إِلَى مُنْقَطع السماوة عرضا. وَالْقَوْل
الثَّانِي قَول مُجَاهِد وَغَيره.
وَقَوله: {مَا ظننتم أَن يخرجُوا} مَعْنَاهُ: مَا ظننتم أَيهَا
الْمُؤْمِنُونَ أَن يخرجُوا؛ لأَنهم كَانُوا أعز الْيَهُود
بِأَرْض الْحجاز وأمنعهم جانبا.
قَوْله: {وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله} أَي: من عَذَاب
الله.
وَقَوله: {فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا} قَالَ السدى:
هُوَ بقتل كَعْب بن الْأَشْرَف، قَتله مُحَمَّد بن مسلمة
الْأنْصَارِيّ حِين بَعثه رَسُول الله وَكَانَ صديقا لكعب فِي
الْجَاهِلِيَّة فَجَاءَهُ لَيْلًا ودق عَلَيْهِ بَاب الْحصن،
فَنزل وفاغتاله وَقَتله، وَرُوِيَ أَن مُحَمَّد بن مسلمة قَالَ
لكعب: أَلَسْت كنت تعدنا خُرُوج هَذَا النَّبِي؟ وَتقول: هُوَ
الضحوك الْقِتَال يركب الْبَعِير، ويلبس الشملة، يجترئ
بالكسرة، سَيْفه على عَاتِقه، لَهُ ملاحم وملاحم. فَقَالَ:
نعم، وَلَكِن لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ. فَقَالَ كذبت يَا عَدو
الله، بل حسدتموه.
وَقَوله: {وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} أَي: الْخَوْف، وَقد ثَبت
أَن النَّبِي قَالَ: " نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر ".
وَقَوله: {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ}
وَقُرِئَ: " يخربون " من
(5/396)
{كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي
الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار (3) ذَلِك
بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يشاق الله فَإِن الله
شَدِيد الْعقَاب (4) مَا قطعْتُمْ من لينَة} الإخراب، فَمنهمْ
من قَالَ: هما وَاحِد، وَالتَّشْدِيد للتكثير. وَقَالَ أَبُو
عَمْرو: يخربون من فعل التخريب، ويخربون بِالتَّخْفِيفِ أَي:
يتركوها خرابا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {يخربون بُيُوتهم
بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ} وَلَا يتَصَوَّر أَن يخربوا
بُيُوتهم بأيدي الْمُؤمنِينَ؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا أضَاف
إِلَيْهِم؛ لأَنهم هم الَّذين ألجأوا الْمُؤمنِينَ إِلَى
التخريب، وحملوهم على ذَلِك بامتناعهم عَن الْإِيمَان. فَإِن
قَالَ قَائِل: لم يخربوا بُيُوتهم؟ قُلْنَا: طلبُوا من ذَلِك
توسيع مَوضِع الْقِتَال. وَعَن الزُّهْرِيّ: أَن الْمُسلمين
كَانُوا يخربون من خَارج الْحصن، وَالْيَهُود كَانُوا يخربون
من دَاخل الْحصن، وَكَانَ تخريبهم ذَلِك ليحملوا مَا استحسنوه
من سقوف بُيُوتهم مَعَ أنفسهم. وَقيل: لِئَلَّا تبقى
للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ
النّظر فِي الشَّيْء ليعرف بِهِ جنسه وَمثله. وَقيل مَعْنَاهُ:
فانظروا وتدبروا يَا ذَوي الْعُقُول والفهوم، كَيفَ سلط الله
الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم، وسلطهم على أنفسهم؟ وَقد اسْتدلَّ
بِهَذِهِ الْآيَة على جَوَاز الْقيَاس فِي الْأَحْكَام، لِأَن
الْقيَاس نوع اعْتِبَار؛ إِذْ هُوَ تَعْبِير شَيْء بِمثلِهِ
بِمَعْنى جَامع بَينهمَا ليتفقا فِي حكم الشَّرْع.
(5/397)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله
عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا} أَي: بِالسَّيْفِ.
وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِخْرَاج من
الدَّار بِمَنْزِلَة الْقَتْل؛ وَعَلِيهِ يدل قَوْله تَعَالَى:
{أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ} .
وَقَوله: {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار} أَي: عَذَاب
جَهَنَّم.
(5/397)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا
الله وَرَسُوله} أَي: خالفوا الله وَرَسُوله. وَقد ذكرنَا أَن
مَعْنَاهُ: صَارُوا فِي شقّ غير شقّ الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {وَمن يشاق الله} أَي: يُخَالف الله {فَإِن الله
شَدِيد الْعقَاب} .
(5/397)
{أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على
أُصُولهَا فبإذن الله وليخزي الْفَاسِقين (5) وَمَا أَفَاء
الله على}
(5/398)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة}
قَالَ سعيد بن جُبَير: اللينة كل تمر سوى البرني والعجوة،
وَأهل الْمَدِينَة يسمون التمور الألوان. وَقيل: اللينة:
النَّخْلَة. وَعَن بَعضهم أَن اللينة: جمع الْأَشْجَار، سميت
لينَة للينها بِالْحَيَاةِ. وَعَن سُفْيَان قَالَ: اللينة
كرائم النخيل. وَقيل: هُوَ الفسيل، سمي لينَة لِأَنَّهُ لَا
يكون فِي شدَّة الْحر. وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: "
الْعَجْوَة من الْجنَّة وفيهَا شِفَاء من السم ".
وَفِي الْقِصَّة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما حاصروا بني
النَّضِير كَانَ بَعضهم يقطع النخيل وَبَعْضهمْ يَتْرُكهَا.
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي أَمرهم بِقطع النخيل، فَخرج
الْيَهُود حِين رَأَوْا ذَلِك وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد،
أَلَسْت تنْهى عَن الْفساد، وَهَذَا من الْفساد، فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر " أَن النَّبِي حرق
نخيل بني النَّضِير وقطعها، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا
قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا
فبإذن الله} " أَي: بِأَمْر الله، قَالَ رَضِي الله عَنهُ:
أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق،
أخبرنَا جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، عَن
قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن نَافِع. الْخَبَر. وَفِي
رِوَايَة: أَن النَّبِي حرق البويرة، وَقَالَ شَاعِرهمْ شعرًا:
(وَهَان على سراة بني لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير)
والبويرة: مَوضِع بني النَّضِير
(5/398)
{رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ
عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من
يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (6) مَا أَفَاء الله على
رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ}
وَقَوله: {وليخزي الْفَاسِقين} هم الْيَهُود، وإخزاؤهم هُوَ
رُؤْيَتهمْ كَيفَ يتحكم الْمُؤْمِنُونَ فِي أَمْوَالهم.
(5/399)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاء الله على
رَسُوله مِنْهُم} أَي: من بني النَّضِير، والفيء كل مَال رد
الله تَعَالَى من الْكفَّار إِلَى الْمُسلمين، وَهُوَ مَأْخُوذ
من الْفَيْء بِمَعْنى الرُّجُوع يُقَال: فَاء إِذا رَجَعَ،
وَمِنْه فَيْء الظل، وَالْفرق بَين الْفَيْء وَالْغنيمَة: أَن
الْغَنِيمَة هِيَ مَا أَخذه الْمُسلمُونَ من الْكفَّار
بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء مَا صَار إِلَى الْمُسلمين
من أَمْوَال الْكفَّار من غير إيجَاف خيل وركاب.
وَقَوله: {فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب}
الركاب: الْإِبِل، وَالْمعْنَى: أَن أَمْوَالهم صَارَت إِلَى
رَسُول الله من غير إيجافكم بخيل أَو إبل. والإيجاف:
الْإِسْرَاع. فَجعل الله تَعَالَى أَمْوَال بني النَّضِير
للنَّبِي خَاصَّة، لِأَن النَّبِي ظهر عَلَيْهِم من غير قتال
من الْمُسلمين، وَكَانَ يدّخر مِنْهَا قوت سنة لِعِيَالِهِ،
وَالْبَاقِي يتَّخذ مِنْهُ الكراع وعدة فِي سَبِيل الله ".
وَفِي تَفْسِير قَتَادَة: أَن الْمُسلمين طلبُوا أَن يقسم
بَينهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَجعل مَا
أَصَابُوهُ للرسول خَاصَّة، وَكَانَ رَسُول الله لما أجلاهم
شَرط أَن لَهُم مَا تحمله إبلهم إِلَّا الْحلقَة، يَعْنِي:
السِّلَاح.
وَقَوله: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} أَي:
رَسُوله على من يَشَاء.
وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.
(5/399)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (7)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاء الله على
رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} فِي
الْآيَة بَيَان مصارف الْخمس، وَقد بَينا من قبل،
(5/399)
{وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى
وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل كي لَا يكون دولة بَين
الْأَغْنِيَاء مِنْكُم وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ
وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد
الْعقَاب (7) للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من
دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا
وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون (8) وَالَّذين
تبوءوا الدَّار} والقرى هِيَ الْقرى الْعَرَبيَّة مثل:
خَيْبَر، ووادي الْقرى، وفيماء، وَغَيرهَا. وَمن الْمَشْهُور
فِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن النَّبِي قسم أَمْوَال بني
النَّضِير بَين الْمُهَاجِرين، وَلم يُعْط الْأَنْصَار مِنْهَا
شَيْئا إِلَّا ثَلَاثَة نفر: سهل بن حنيف، وَأَبا دُجَانَة،
والْحَارث بن الصمَّة، وَهَذَا قَول غير القَوْل الأول الَّذِي
ذكرنَا، وَهُوَ الْأَشْهر، فعلى هَذَا جعل الله أَمْوَال بني
النَّضِير للرسول خَاصَّة قسمهَا بَين الْمُهَاجِرين ليكفي
الْأَنْصَار مؤنتهم.
وَقَوله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء
مِنْكُم} أَي: لِئَلَّا يتداوله الْأَغْنِيَاء مِنْكُم.
والتداول هُوَ النَّقْل من يَد إِلَى يَد.
وَقَوله: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم
عَنهُ فَانْتَهوا} حث الله تَعَالَى الْمُسلمين فِي هَذِه
الْآيَة على التَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى وَنَهْيه؛ لِأَن
الْمَعْنى وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول عَن الله فَخُذُوهُ، وَمَا
نهاكم عَن الله فَانْتَهوا.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب} أَي:
الْعقُوبَة.
(5/400)
لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء
الْمُهَاجِرين} يَعْنِي: مَا أَفَاء الله على رَسُوله
للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين {الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ
وَأَمْوَالهمْ} فديارهم مَكَّة وَغَيرهَا، وَأَمْوَالهمْ مَا
خلفوها عِنْد هجرتهم.
وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} أَي: يطْلبُونَ
فضل الله وَرضَاهُ.
وَقَوله: {وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} أَي:
الصادقون عقدا وقولا وفعلا.
(5/400)
وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين تبوءوا
الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم} أجمع أهل التَّفْسِير على أَن
المُرَاد بهم الْأَنْصَار.
(5/400)
{وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر
إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا
ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح
نَفسه فَأُولَئِك هم}
وَقَوله: {تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان} أَي: استوطنوا
الْمَدِينَة، وقبلوا الْإِيمَان. وَقيل: تبوءوا الدَّار أَي:
أعدُّوا الديار للمهاجرين وواسوهم فِي كل مَالهم.
وَقَوله: {وَالْإِيمَان} أَي: جعلُوا دُورهمْ دور الْإِيمَان،
وَذَلِكَ بإظهارهم الْإِيمَان فِيمَا بَينهم، فَإِن قيل: كَيفَ
يَسْتَقِيم قَوْله: {من قبلهم} وَالْأَنْصَار إِنَّمَا آمنُوا
من بعد الْمُهَاجِرين؟ وَالْجَوَاب أَن قَوْله: {من قبلهم}
ينْصَرف إِلَى تبوء الدَّار لَا إِلَى الْإِيمَان وَالثَّانِي
أَن قَوْله {من قبلهم} وَإِن انْصَرف إِلَى الْإِيمَان
فَالْمُرَاد مِنْهُ قبل هجرتهم؛ لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا قد
آمنُوا قبل هجرتهم.
وَقَوله: {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم} أَي: من أهل مَكَّة
وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا}
قَالَ قَتَادَة: وَعند كثير من الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: حسدا
مِمَّا أعْطوا، وَقيل: ضيقا فِي قُلُوبهم مِمَّا أعطي
الْمُهَاجِرين، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَقد ذكرنَا مَا أعْطى
رَسُول الله الْمُهَاجِرين من أَمْوَال بني النَّضِير،
فَالْمَعْنى ينْصَرف إِلَيْهِم.
وَقَوله: {ويؤثرون على أنفسهم} أَي: يقدمُونَ الْمُهَاجِرين
على أنفسهم.
وَقَوله: {وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} أَي: فقر وحاجة. وَمن
الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن بعض الْأَنْصَار
أضَاف رجلا من الْفُقَرَاء، وَلم يكن عِنْده فضل عَمَّا
يَأْكُلهُ وَيَأْكُل أَهله وصبيانه. وَفِي رِوَايَة: أَن ذَلِك
الرجل كَانَ جَاع ثَلَاثَة أَيَّام وَلم يجد شَيْئا، وَطلب
رَسُول الله لَهُ شَيْئا فِي بيُوت أَزوَاجه وَلم يجد، فأضافه
هَذَا الْأنْصَارِيّ، حمله إِلَى بَيته وَقَالَ لأَهله: نومي
الصبية وأطفئي السراج [بعلة] الْإِصْلَاح، فَفعلت ذَلِك،
وَجعلا يمدان أَيْدِيهِمَا ويضربان على (الصحفة) ؛ ليظن
الضَّيْف أَنَّهُمَا يأكلان، وَلَا يأكلان ففعلا ذَلِك وَأكل
الضَّيْف حَتَّى شبع، فَلَمَّا غَدا
(5/401)
{المفلحون (9) وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ
يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين
سبقُونَا} على النَّبِي قَالَ: " لقد عجب الله من صنيعتكم
البارحة " فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ للْأَنْصَار: " إِنَّكُم
لتكثرون عِنْد الْفَزع، وتقلون عِنْد الطمع ".
وَقَوله: {وَمن يُوقَ شح نَفسه} أَي: بخل نَفسه {فَأُولَئِك هم
المفلحون} أَي: السُّعَدَاء الفائزون. وَعَن ابْن مَسْعُود أَن
رجلا قَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أعطي من مَالِي
شَيْئا أفتخش الْبُخْل. قَالَ: ذَلِك الْبُخْل، وَبئسَ
الشَّيْء الْبُخْل، وَإِنَّمَا الشُّح أَن تَأْخُذ المَال من
غير حَقه. وَقيل: الْبُخْل أَن يبخل بِمَالِه نَفسه وَالشح أَن
يبخل بِمَال غَيره وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان وَمن يُوقَ شح
نَفسه أَي: حرص نَفسه. وَقيل: هوى نَفسه. وَقَالَ سعيد بن
جُبَير: هُوَ منع الزَّكَاة. وَعَن ابْن زيد: هُوَ أَن يَأْخُذ
مَا لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ، وَيمْنَع مَا لَا يجوز لَهُ
مَنعه.
(5/402)
وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من
بعدهمْ} هم التابعون. وَقيل: الَّذين يُؤمنُونَ إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة.
وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا
للَّذين آمنُوا} أَي: خِيَانَة وحقدا، وَفِي الْآيَة دَلِيل
على أَن الترحم للسلف
(5/402)
{بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا
غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم (10) ألم تَرَ
إِلَى} وَالدُّعَاء لَهُم بِالْخَيرِ وَترك ذكرهم بالسوء من
عَلامَة الْمُؤمنِينَ. وَرُوِيَ أَن رجلا جَاءَ إِلَى مَالك بن
أنس فَجعل يَقع فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة مثل: أبي بكر،
وَعمر، وَعُثْمَان، وَغَيرهم، فَقَالَ لَهُ: أَنْت من
الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ
وَأَمْوَالهمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَنْت من الَّذين تبوءوا
الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أشهد
أَنَّك لست من الَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا
اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ لمن يَقع فِي
الصَّحَابَة وَيذكرهُمْ بالسوء فِي الْفَيْء نصيب، وتلا هَذِه
الْآيَات الثَّلَاث. وَرُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز سُئِلَ
عَمَّا جرى بَين الصَّحَابَة من الْقِتَال وَسَفك الدِّمَاء
فَقَالَ: تِلْكَ دِمَاء طهر الله يَدي عَنْهَا، فَلَا أحب أَن
أغمس لساني فِيهَا.
من الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا ذكر أَصْحَابِي
فأمسكوا، وَإِذا ذكر الْقدر فأمسكوا " وَالْمرَاد بِهِ
الْإِمْسَاك عَن ذكر المساوئ لَاعن ذكر المحاسن. وَفِي بعض
الرِّوَايَات: " إِذا ذكر النُّجُوم فأمسكوا ".
وَقَوله: {رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/403)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين
نافقوا} هم عبد الله بن أبي سلول، وَعبد الله بن نفَيْل، وَزيد
بن رِفَاعَة وَغَيرهم.
(5/403)
{الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم
الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ
مَعكُمْ وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا وَإِن قوتلتم لننصرنكم
وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (11) لَئِن أخرجُوا لَا
يخرجُون مَعَهم وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم وَلَئِن نصروهم
ليولن}
وَقَوله: {يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب}
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم بَنو النَّضِير، قَالَ لَهُم
المُنَافِقُونَ ذَلِك قبل أَن أجلوا.
وَالْقَوْل الآخر: أَنهم بَنو قُرَيْظَة، قَالَ لَهُم
المُنَافِقُونَ ذَلِك بعد أَن أَجلي بَنو النَّضِير.
وَقَوله: {لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ} أَي: لَئِن
أخرجتم من الْمَدِينَة لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ فِي الْقِتَال.
وَقَوله: {وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا} أَي: لَا نطيع
مُحَمَّدًا فِيكُم.
وَقَوله: {وَإِن قوتلتم لننصرنكم} مَعْنَاهُ: وَلَئِن قاتلكم
[مُحَمَّدًا] لنكونن مَعكُمْ فِي الْقِتَال.
وَقَوله: {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أَي: فِي هَذَا
القَوْل.
(5/404)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {لَئِن أخرجُوا لَا
يخرجُون مَعَهم} يَعْنِي: لَئِن أخرج الْيَهُود لَا يخرج
مَعَهم المُنَافِقُونَ.
وَقَوله: {وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم} أَي: لَئِن قوتل
الْيَهُود لَا ينصرهم المُنَافِقُونَ.
وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم ليولن الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ}
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {لَا ينصرونهم} ثمَّ قَالَ {وَلَئِن
نصروهم} وَإِذا أخبر الله تَعَالَى أَنهم لَا ينصرونهم كَيفَ
يجوز أَن ينصروهم؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن
قَوْله: {لَا ينصرونهم} فِي قوم من الْمُنَافِقين، وَقَوله:
{وَلَئِن نصروهم} أَي: فِي قوم آخَرين مِنْهُم، وهم الَّذين لم
يَقُولُوا ذَلِك القَوْل.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي:
طائعين.
(5/404)
{الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ (12)
لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله ذَلِك بِأَنَّهُم
قوم لَا يفقهُونَ (13) لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى
مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر بأسهم بَينهم شَدِيد تحسبهم
جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا
يعْقلُونَ (14) كَمثل الَّذين من}
وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: مكرهين.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي: لَا
يدومون على نَصرهم. وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: نصروهم فِي
الِابْتِدَاء.
وَالْوَجْه الرَّابِع كَمَا قَالَه الزّجاج: هُوَ أَنهم لَا
ينصرونهم على مَا قَالَ الله تَعَالَى، وَقَوله: {وَلَئِن
نصروهم} أَي: قصدُوا نصرتهم، لولوا الأدبار أَي: انْهَزمُوا،
وَذَلِكَ بِمَا يلقِي الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم من الرعب.
وَقَوله: {ثمَّ لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا ينصر الْيَهُود.
(5/405)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي
صُدُورهمْ من الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: أَنْتُم
[أَشد] رهبة فِي صُدُورهمْ من الله إِذْ يخَافُونَ مِنْكُم مَا
لَا يخَافُونَ مِنْهُ.
وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} أَي: لَا
يعلمُونَ عَظمَة الله وَقدرته فيخافون مِنْهُ.
(5/405)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ
جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ
جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْقِلُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يقاتلونكم جَمِيعًا
إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر} يَعْنِي: أَنهم لَا
يُمكنهُم أَن يصافوكم فِي الْقِتَال [ويواجهوكم] بِهِ،
وَإِنَّمَا يقاتلونكم فِي الْحُصُون ووراء الْجدر لقتلهم
وَدخُول الرعب عَلَيْهِم.
قَوْله: {بأسهم بَينهم شَدِيد} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي أَنهم
يَقُولُونَ فِيمَا بَينهم: لنفعلن كَذَا ولنفعلن كَذَا.
وَقَوله: {تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى} يَعْنِي: أَن
الْمُنَافِقين قطّ لَا يخلصون للْيَهُود، وَلَا الْيَهُود
لِلْمُنَافِقين.
وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا
يتدبرون بعقولهم، فهم بِمَنْزِلَة من
(5/405)
{قبلهم قَرِيبا ذاقوا وبال أَمرهم وَلَهُم
عَذَاب أَلِيم (15) كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان
اكفر فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي برِئ مِنْك إِنِّي أَخَاف الله
رب الْعَالمين (16) فَكَانَ عاقبتهما} لَا عقل لَهُ.
(5/406)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ
قَالَ للْإنْسَان اكفر} أَي: مثل هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقين مَعَ
الْيَهُود كَمثل الشَّيْطَان مَعَ الْكَافِر. وَأكْثر
الْمُفَسّرين على أَن هَذَا الْكَافِر هُوَ رجل من بني
إِسْرَائِيل يعبد الله تَعَالَى فِي صومعة دهرا طَويلا،
وَكَانَ اسْمه برصيصا العابد، وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل
ثَلَاثَة إخْوَة لَهُم أُخْت حسناء بهَا شَيْء من اللمم،
وَقيل: كَانَت مَرِيضَة، فَعرض لَهُم سفر فَقَالُوا: نسلم
أُخْتنَا إِلَى فلَان العابد فيحفظها إِلَى أَن نرْجِع وَفِي
رِوَايَة: يَدْعُو لَهَا وَيقوم عَلَيْهَا فَإِن مَاتَت
دَفنهَا، وَإِن برأت فَكَانَت عِنْده إِلَى أَن نرْجِع،
فسلموها إِلَيْهِ بِجهْد، فَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى برأت. ثمَّ
أَن الشَّيْطَان جَاءَهُ وزين لَهُ أَن يواقعها فواقعها وحبلت
مِنْهُ، ثمَّ جَاءَ الشَّيْطَان وَقَالَ: إِنَّك تفضح إِذا قدم
إخوتها فَاقْتُلْهَا وادفنها وَقل أَنَّهَا مَاتَت، فَفعل
ذَلِك ودفنها فِي أصل صومعته، فَلَمَّا رَجَعَ الْإِخْوَة
وَجَاءُوا [إِلَيْهِ] ذكر لَهُم أَنَّهَا قد مَاتَت فصدقوه،
ثمَّ أَن الشَّيْطَان أَرَاهُم فِي الْمَنَام أَن العابد قد
قتل أختكم ودفنها فِي مَوضِع كَذَا، فَجَاءُوا إِلَى ذَلِك
الْموضع، وحفروا وَاسْتَخْرَجُوا أختهم مقتولة، فَذَهَبُوا
وَذكروا ذَلِك للْملك، فجَاء الْملك وَالنَّاس واستنزلوا
العابد من صومعته ليقتلوه، فَجَاءَهُ الشَّيْطَان وَقَالَ:
أَنا الَّذِي فعلت بك مَا فعلت فأطعني حَتَّى أنجيك، فَقَالَ:
أيش أفعل؟ فَقَالَ: تسْجد لي سَجْدَة فَفعل، وَقتل على
الْكفْر، وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي هَذِه الْقِصَّة وَقد روى
عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس قَرِيبا من هَذَا وَذكر بَعضهم
هَذِه الْقِصَّة مُسندَة إِلَى الرَّسُول بِرِوَايَة سُفْيَان
بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار بِأَلْفَاظ قريبَة من
هَذَا فِي الْمَعْنى. قَالَ الشَّيْخ: أخبرنَا بذلك أَبُو على
الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا ابْن فراس، أخبرنَا أَبُو
جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن
(5/406)
{أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (17) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا
اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد وَاتَّقوا الله إِن الله
خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا عبد الرَّحْمَن
المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان.
وَقَوله: {فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي
أَخَاف الله رب الْعَالمين} هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى:
{فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي
بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله
وَالله شَدِيد الْعقَاب} وَقيل: إِن خَوفه من الْعقُوبَة فِي
الدُّنْيَا لَا من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة. وَقيل: هُوَ
الْخَوْف من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة إِلَّا أَن خَوفه لَا
يَنْفَعهُ لعدم الْإِيمَان. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي
جَمِيع الْكفَّار لَا فِي كَافِر مَخْصُوص، وَالْمَشْهُور هُوَ
القَوْل الأول.
(5/407)
فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ عاقبتهما
أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا} يَعْنِي: عَاقِبَة
الْكَافِر وإبليس (خَالِدين فِيهَا) أَي: دائمين فِيهَا.
وَقَوله: {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.
(5/407)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد} قَالَ قَتَادَة:
مَا زَالَ يقرب السَّاعَة حَتَّى جعل كالغد.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ}
الْأَمر بالتقوى على طَرِيق التَّأْكِيد.
(5/407)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أَي: تركُوا أَمر الله
فتركهم من نظره وَرَحمته. وَقيل مَعْنَاهُ: تركُوا طلب الْحَظ
لأَنْفُسِهِمْ فِي الْآخِرَة بِمَا تركُوا من أَمر الله، وَنسب
إِلَى الله تَعَالَى؛ لِأَن تَركهم طلب الْحَظ لأَنْفُسِهِمْ
وفواته إيَّاهُم كَانَ لأجل مَا توجه عَلَيْهِم من أَمر الله،
وَقيل مَعْنَاهُ: أغفلهم عَن حَظّ أنفسهم عُقُوبَة لَهُم.
قَالَ النّحاس: ويستقيم فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال: نسيهم
فلَان بِمَعْنى تَركهم. وَلَا يَسْتَقِيم أنساهم بِمَعْنى
تَركهم.
(5/407)
{كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب
النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون
(20) لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا
متصدعا من خشيَة الله وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس
لَعَلَّهُم يتفكرون
وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي: الخارجون عَن
طَاعَة الله.
(5/408)
لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب
النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هُوَ الفائزون}
أَي: الناجون.
(5/408)
لَوْ أَنْزَلْنَا
هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {لَو أنزلنَا هَذَا
الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله} أَي:
إِذا جعلنَا لَهُ مَا يُمَيّز وَيعْقل. قيل: هُوَ مَذْكُور على
طَرِيق التَّمْثِيل لَا على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَعند أهل
السّنة: أَن لله تَعَالَى فِي الْموَات والجمادات علما (لَا)
يقف عَلَيْهِ النَّاس. وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَلَكِن
لَا تفقهون تسبيحهم} وَهُوَ دَلِيل على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: {خَاشِعًا} أَي: ذليلا، وَقيل: متصدعا أَي: متشققا من
خشيَة الله.
وَقَوله: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم
يتفكرون} أَي: يتدبرون.
(5/408)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الَّذِي لَا
إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ
وَالْعَلَانِيَة، وَقيل: عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَي:
مَا كَانَ وَمَا يكون.
وَقَوله: {هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} قد بَينا.
(5/408)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قَوْله: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه
إِلَّا هُوَ الْملك} أَي: المقتدر على الْأَشْيَاء.
وَقَوله: {القدوس} أيك الطَّاهِر، وَقيل: المنزه من كل نقص
وعيب، وَقيل القدوس: الْمُقَدّس، يَعْنِي: يقدسه الْمَلَائِكَة
ويسبحونه، وَفِي تَسْبِيح الْمَلَائِكَة: سبوح
(5/408)
{هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (22)
هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس
السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر
قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح. وَمِنْه بَيت الْمُقَدّس،
وَمِنْه حَظِيرَة الْقُدس، وَهِي الْجنَّة. قَالَ رؤبة:.
(دَعَوْت رب الْعِزَّة القدوسا ... دُعَاء من لَا يقرع
الناقوسا}
وَقَوله: {السَّلَام} قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: مُسلم من
الْآفَات والعيوب. وَقَالَ مُجَاهِد: سلم النَّاس من ظلمه.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " السَّلَام اسْم
من أَسمَاء الله تَعَالَى [وَوَضعه] بَيْنكُم فأفشوه ".
وَقَوله: {الْمُؤمن} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُؤمن
الْمُؤمنِينَ من النَّار وَالْعَذَاب. وَالْآخر: أَن
الْمُؤمنِينَ أمنُوا من ظلمه فَهُوَ مُؤمن. وَالْقَوْل
الثَّالِث: أَنه شهد لنَفسِهِ بالوحدانية، فَهُوَ مُؤمن
بِهَذَا الْمَعْنى، وشهادته لنَفسِهِ بالوحدانية هُوَ قَوْله
تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ}
وَقَوله: {الْمُهَيْمِن} قَالَ قَتَادَة: أَي: الشَّهِيد.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْأمين، وَمعنى كَونه أَمينا: أَنه لَا
يضيع أَعمال الْعباد، فَكَأَن أَعمال الْعباد فِي أَمَانَته
لَا يضيعها. وَقيل: هُوَ الرَّقِيب. وَقيل: إِن الْمُهَيْمِن
أَصله المؤيمن إِلَّا أَنه قد قلبت الْهمزَة هَاء مثل قَوْلهم:
أرقت المَاء وهرقته.
وَقَوله: {الْعَزِيز} أَي الْغَالِب. وَقيل: القاهر. وَقيل:
المنيع.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمُهَيْمِن.
(5/409)
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ (23) هُوَ
الله الْخَالِق البارئ المصور لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى يسبح
لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز
الْحَكِيم (24) .}
(مليك على عرش السَّمَاء مهيمن ... [لعزته] تعنو الْوُجُوه
وتسجد)
وَقَوله: {الْجَبَّار} أَي: جبر الْخلق على مُرَاده ومشيئته.
وَقيل: الْجَبَّار أَي: الْعَظِيم. وَقيل: هُوَ الَّذِي يفوت
عَن الأوهام والإدراك.
يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة لَا يُوصل
إِلَيْهَا بِالْأَيْدِي.
قَوْله: {المتكبر} أَي: الْكَبِير. وَقيل: المتكبر هُوَ
الَّذِي أَعلَى نَفسه وعظمها، وَهَذَا ممدوح فِي صِفَات الله،
مَذْمُوم فِي صِفَات الْخلق؛ لِأَن الْخلق لَا يخلون عَن
نقيصة، فَلَا يَلِيق بهم إعظامهم أنفسهم وإعلاؤهم إيَّاهُم،
وَالله تَعَالَى لَا يجوز عَلَيْهِ نقص فَيصح مدحه لنَفسِهِ
وإعظامه.
وَقيل: مدح نَفسه ليعلم خلقه مدحهم إِيَّاه ليثيبهم عَلَيْهِ،
إِذْ لَا يجوز أَن يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع.
وَقَوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ} قد بَينا فِي كثير
من الْمَوَاضِع.
(5/410)
هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الْخَالِق
البارئ} أَي: مُقَدّر الْأَشْيَاء ومخترعها.
وَقَوله: {البارئ} قيل: هُوَ فِي معنى الْخَالِق على طَرِيق
التَّأْكِيد، وَقيل: إِن مَعْنَاهُ المحيي بعد الإماتة. قَالَ
الشَّاعِر:
(وكل نفس على سلامتها ... يميتها الله ثمَّ يبرؤها)
ذكره أَبُو الْحسن بن فَارس.
وَقَوله: {المصور} هُوَ التَّصْوِير الْمَعْلُوم يصور كل خلق
على مَا يَشَاء. وَقيل:
(5/410)
التَّصْوِير هُوَ تركيب مَخْصُوص فِي مَحل
مَخْصُوص من الْخلق.
وَقَوله تَعَالَى: {لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} الْحسنى: هُوَ
تَأْنِيث الْأَحْسَن، وَهِي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعليا.
وَقَوله: {يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ
الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد ورد فِي بعض
المسانيد بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
إِن اسْم الله الْأَعْظَم فِي ثَلَاث آيَات من آخر سُورَة
الْحَشْر ". وَالله أعلم.
(5/411)
|