تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ
أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا}
تَفْسِير سُورَة الممتحنة
وَهِي مَدَنِيَّة، وَالله أعلم
(5/412)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} نزلت
الْآيَة فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب كتابا إِلَى
الْمُشْركين يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، وَالْخَبَر
فِي ذَلِك مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد
الرَّحْمَن بن الْحسن الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن
فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي
مُحَمَّد بن عبد الله ابْن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان
بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن الْحسن بن مُحَمَّد
بن الْحَنَفِيَّة، عَن عبيد الله بن أبي رَافع قَالَ: سَمِعت
غليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " بَعَثَنِي رَسُول الله
وَالزُّبَيْر والمقداد بن الْأسود فَقَالَ: انْطَلقُوا إِلَى
رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب، فخرجنا
[تَتَعَادَى] بِنَا خَيْلنَا حَتَّى بلغنَا رَوْضَة خَاخ،
فَوَجَدنَا بهَا ظَعِينَة وَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكتاب.
فَقَالَت: مَا معي كتاب. فَقُلْنَا: لتخْرجن الْكتاب أَو
لنقلبن ثِيَابك. فأخرجت كتابا من غقاص شعرهَا، فأخذناه وأتينا
بِهِ النَّبِي، فَإِذا هُوَ كتاب من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى
الْمُشْركين بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي،
فَدَعَا حَاطِبًا وَقَالَ لَهُ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا
رَسُول الله، لَا تعجل عَليّ، إِنِّي كنت أمرأ مُلْصقًا فِي
قُرَيْش يَعْنِي حليفا وَلم اكن من أنفسهم، وَكَانَ من مَعَك
من الْمُهَاجِرين لَهُم قراباتهم، قَرَابَات يحْمُونَ بهَا
قراباتهم وَلم يكن لي بِمَكَّة قرَابَة، فَأَحْبَبْت إِذْ
فَاتَنِي ذَلِك أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا
قَرَابَتي، وَالله مَا فعلته شكا فِي الْإِسْلَام، وَلَا رضَا
بالْكفْر، فَقَالَ النَّبِي: " لقد صدقكُم " فَقَالَ عمر: يَا
رَسُول الله، دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق، فَقَالَ
النَّبِي: " إِنَّه قد شهد بَدْرًا، وَلَعَلَّ الله
(5/412)
{بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون
الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم
خَرجْتُمْ} اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم
فقد غفرت لكم ".
قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام إِذا أَرَادَ غزوا ورى بِغَيْرِهِ ". وَكَانَ
يَقُول: " الْحَرْب خدعة " فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَغْزُو
مَكَّة كتم أمره أَشد الكتمان، وَكتب حَاطِب بن أبي بلتعة على
يَدي امْرَأَة تسمى سارة كتابا إِلَى أهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ
بمسير النَّبِي، فَأطلع الله نبيه على ذَلِك، وَكَانَ الْأَمر
على مَا بَينا، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْآيَة
دَلِيل على أَن حَاطِب لم يخرج من الْإِيمَان بِفِعْلِهِ
ذَلِك.
وَقَوله: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} أَي:
أعدائي وأعداءكم، وهم مشركو قُرَيْش.
وَقَوله: {تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} أَي: تلقونَ إِلَيْهِم
أَخْبَار النَّبِي وسره بالمودة الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ.
وَيُقَال: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالنَّصِيحَةِ،
قَالَه مقَاتل. وَقيل: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي:
بِالْكتاب. وَسمي ذَلِك مَوَدَّة وَكَذَلِكَ النَّصِيحَة؛
لِأَن ذَلِك دَلِيل الْمَوَدَّة.
وَقَوله: {وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق} الْوَاو وَاو
الْحَال قَالَه الزّجاج. وَمَعْنَاهُ: وحالهم أَنهم كفرُوا
بِمَا جَاءَكُم من الْحق.
وَقَوله: {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم} أَي: أخرجُوا
الرَّسُول وأخرجوكم، وَمعنى الْإِخْرَاج هَاهُنَا هُوَ الإلجاء
إِلَى الْخُرُوج.
(5/413)
{جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون
إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن
يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (1) إِن يثقفوكم
يَكُونُوا لكم أَعدَاء ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم
بالسوء وودوا لَو تكفرون (2) قد كَانَت لكم}
وَقَوله تَعَالَى: {أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} أَي: لأنكم
آمنتم بِاللَّه ربكُم.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي} قَالُوا:
فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: إِن كُنْتُم
خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي فَلَا تَتَّخِذُوا
عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء. وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تسروا
إِلَيْهِم بالمودة إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي
وابتغاء مرضاتي، فَهُوَ معنى قَوْله: {تسرون إِلَيْهِم
بالمودة} خبر بِمَعْنى النَّهْي.
وَقَوله: {وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم} أَي: بِمَا
أسررتم وَمَا ظهرتم.
وَقَوله: {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل}
أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.
(5/414)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {إِن يثقفوكم يَكُونُوا
لكم أَعدَاء} مَعْنَاهُ: إِن يظفروا بكم، وَالْعرب تَقول:
فلَان ثقف لقف، إِذا كَانَ سريع الْأَخْذ.
وَقَوله: {يَكُونُوا لكم أَعدَاء} أيك يعاملونكم مُعَاملَة
الْأَعْدَاء.
وَقَوله: {ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء} أَي:
أَيْديهم بِالسَّيْفِ، وألسنتهم بالشتم.
وَقَوله: {وودوا لَو تكفرون} أَي: وأحبوا لَو تكفرون كَمَا
كفرُوا.
(5/414)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قَوْله تَعَالَى: {لن تنفعكم أَرْحَامكُم
وَلَا أَوْلَادكُم} يَعْنِي: أَنكُمْ فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ
لأجل قراباتكم وأرحامكم، وَلنْ ينفعكم ذَلِك يَوْم
الْقِيَامَة.
وَقَوله: {يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} أَي: يفصل
بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة؛ فيبعث أهل الطَّاعَة إِلَى
الْجنَّة، وَأهل الْمعْصِيَة إِلَى النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/414)
{أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم
وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم
وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا
وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه
وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك
وَمَا املك لَك من الله من شَيْء رَبنَا عَلَيْك توكلنا
وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير (4) رَبنَا لَا تجعلنا
فتْنَة للَّذين كفرُوا واغفر لنا رَبنَا إِنَّك}
(5/415)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَت لكم فِي
رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أَي: قدوة حَسَنَة.
وَقَوله: {فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا
لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله
كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء
أبدا} الْمَعْنى فِي الْكل: أَنه أَمرهم بِأَن تأسوا بإبراهيم
فِي التبرؤ من الْمُشْركين وَترك الْمُوَالَاة مَعَهم.
وَقَوله: {إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن
لَك} قَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: اقتدوا بإبراهيم إِلَّا فِي
هَذَا [الْموضع] ، وَهُوَ استغفاره لِأَبِيهِ الْمُشرك، وَقد
بَينا سَبَب اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ من قبل.
وَقَوله: {وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء} أَي: لَا أدفَع
عَنْك من الله من شَيْء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ.
وَقَوله: {رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك
الْمصير} إِخْبَار عَن إِبْرَاهِيم وَقَومه من الْمُؤمنِينَ
يَعْنِي: إِنَّهُم ذَلِك.
(5/415)
رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تجعلنا
فتْنَة للَّذين كفرُوا} قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: أَي: لَا
تعذبنا بأيدي الْكفَّار وَلَا بِعَذَاب من عنْدك، فيظن
الْكفَّار أَنا على غير الْحق حَيْثُ عذبنا، فَيصير فتْنَة
لَهُم فِي دينهم، ويظنون أَنا كُنَّا على الْبَاطِل؛ لأَنهم
يَقُولُونَ لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على الْحق لم يعذبوا وَلم يظفر
بهم.
وَقَوله: {واغفر لنا رَبنَا إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم}
ظَاهر الْمَعْنى.
(5/415)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فيهم
أُسْوَة حَسَنَة} كرر الْمَعْنى الأول على طَرِيق التَّأْكِيد.
(5/415)
{أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (5) لقد كَانَ
لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم
الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (6) عَسى
الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم
مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم (7) لَا يَنْهَاكُم
الله عَن الَّذين لم يقاتلونكم فِي الدّين وَلم يخرجوكم من
دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب}
وَقَوله: {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} أَي:
يخَاف الله، وَيخَاف يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي:
المستغني عَنْهُم، الحميد فِي فعاله. وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا
خالفوا أمره، وتولوا الْكفَّار لم يعد إِلَى الله من ذَلِك
شَيْء.
(5/416)
عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {عَسى الله} قد بَينا أَن
عَسى من الله وَاجِب.
وَقَوله تَعَالَى: {أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين
عاديتهم مِنْهُم مَوَدَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن
المُرَاد مِنْهُ تَزْوِيج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان من
رَسُول الله. وَقيل: هُوَ إِسْلَام أبي سُفْيَان بن حَرْب،
وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن
حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير:
أَن النَّبِي توفّي وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب أَمِير على بعض
الْيمن، فَلَمَّا ارْتَدَّت الْعَرَب قَاتل هودا الْحمار
وَقَومه على ردتهم، فَكَانَ [هُوَ] أول من يُجَاهد مَعَ
الْمُرْتَدين.
وَقَوله: {وَالله قدير} أَي: قَادر على أَن يَجْعَل بَيْنكُم
وَبينهمْ مَوَدَّة.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} أَي: لما كَانَ مِنْهُم قبل
إسْلَامهمْ، وَقبل حُدُوث الْمَوَدَّة بَيْنكُم وَبينهمْ.
(5/416)
لَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(8)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن
الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من
دِيَاركُمْ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ قوم
كَانُوا على عهد النَّبِي من الْكفَّار من خُزَاعَة، وَهِي
مُدْلِج وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قتيلة [كَانَت
كَافِرَة، و] كَانَت
(5/416)
{المقسطين (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله
عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ
وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك
هم الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم
الْمُؤْمِنَات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن} أم
أَسمَاء، فَلم تقبل أَسمَاء هديتها حَتَّى سَأَلت النَّبِي،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرخّص فِي الْقبُول
والمكافأة، قَالَه عبد الله بن الزبير.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف،
ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف، قَالَ قَتَادَة وَغَيره.
وَقَوله: {أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي: تحسنوا
إِلَيْهِم، وتستعملوا الْعدْل مَعَهم أَي: الْمُكَافَأَة.
وَقَوله: {إِن الله يحب المقسطين} أَي: الفاعلين للعدل.
(5/417)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُم
الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من
دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم} أَي: عاونوا على إخراجكم.
وَقَوله: {أَن تولوهم} مَعْنَاهُ: أَن تتولوهم.
وَقَوله: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ}
أَي: وضعُوا الْمُوَالَاة فِي غير موضعهَا.
(5/417)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا
أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} سماهن مؤمنات قبل
وصولهن إِلَى النَّبِي؛ لِأَنَّهُنَّ على قصد الْإِيمَان
وَتَقْدِيره، ذكره الْأَزْهَرِي.
وَقَوله: {فامتحنوهن} أَي: اختبروهن. قَالَ أهل التَّفْسِير:
نزلت الْآيَة " فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين النَّبِي
وَبَين الْمُشْركين، وَهُوَ عهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ
النَّبِي عَاهَدَ مَعَ الْمُشْركين على أَن من جَاءَهُ مِنْهُم
يردهُ (عَلَيْهِم) ، وَمن لحق بهم من الْمُؤمنِينَ لم يردوا "،
وَأَن الله تَعَالَى نسخ هَذَا الْعَهْد، وَرَفعه فِي
النِّسَاء وَأمره بالامتحان. وَقَالَ
(5/417)
{علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى
الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ
مَا أَنْفقُوا وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ وَلَا تمسكوا بعصم} بَعضهم: كَانَ
الْعَهْد مُطلقًا، وَلم يكن نَص فِي النِّسَاء بردهن
عَلَيْهِم. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ قد نَص فِي النِّسَاء أَن
يردهن عَلَيْهِم وَإِن جئن مؤمنات، ثمَّ نسخ، وَهُوَ
الْأَشْهر، فَكَانَت الَّتِي أَتَت مُؤمنَة مهاجرة بعد
الْعَهْد: أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط، وَأما الأمتحان،
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن يحلفها أَنَّهَا مَا هَاجَرت
إِلَّا جبا لله وَرَسُوله، ورغبة فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا
لم تهَاجر بِحَدَث أحدثته، وَلَا لِبُغْض زوج، وَلَا لرغبة فِي
مَال، وَلَا حبا لإِنْسَان.
وَقَوله: {الله أعلم بإيمانهن} يَعْنِي: إخلاصهن فِي إيمانهن.
وَقَوله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى
الْكفَّار} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التَّوْفِيق بَين
قَوْله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَبَين قَوْله: {وَالله أعلم
بإيمانهن} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {فَإِن
علمتموهن مؤمنات} أَي: إِيمَان الْإِقْرَار والامتحان، كأنهن
أقررن بِالْإِيمَان، وحلفن عِنْد الامتحان.
وَقَوله: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} أَي: لَا ترودهن.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ}
أَي: لَا هن حل للْكفَّار نِكَاحا وَلَا هم يحلونَ للمؤمنات
نِكَاحا.
وَقَوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} أوجب الله على الْمُسلمين
أَن يردوا على أَزوَاجهنَّ مَا أعطوهن من المهور.
وَقَوله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذْ
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن، وَفِيه دَلِيل على
أَن النِّكَاح لَا يكون إِلَّا بِمهْر.
وَقَوله: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} أَي: لَا تمسكوا
بِنِكَاح الكوافر، والكوافر جمع الْكَافِر، وَالْمعْنَى: أَن
الرجل إِذا أسلم وَهَاجَر إِلَيْنَا، وَخلف امْرَأَته فِي دَار
الْحَرْب
(5/418)
{الكوافر واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا
أَنْفقُوا ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم
(10) وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم
فآتوا الَّذين ذهبت} كَافِرَة لم يعْتد بهَا، وَلم يبْق نِكَاح
بَينه وَبَينهَا. وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما هَاجر
خلف امْرَأتَيْنِ بِمَكَّة مشركتين، فَتزَوج (إحديهما)
مُعَاوِيَة، وَالْأُخْرَى صَفْوَان بن أُميَّة.
وَقَوله: {واسألوا مَا أنفقتم} أَي: مَا أعطيتم، وَهَذَا فِي
الْمَرْأَة من المسلمات إِذا لحقت بالمشركين، فطالب زَوجهَا
الْمُشْركين بِالْمهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا.
وَقَوله: {وليسألوا مَا أَنْفقُوا} أَي: مَا أعْطوا من الْمهْر
وَهُوَ مَا قدمنَا، وَلَيْسَ هَذَا معنى الْأَمر وَالْوَاجِب
أَن يسْأَلُوا لَا محَالة، وَلَكِن مَعْنَاهُ: إِن سَأَلُوا
أعْطوا، وكل هَذَا مَنْسُوخ، وَقد كَانَ ذَلِك عهدا بَين
الرَّسُول وَبينهمْ، وَقد ارْتَفع ذَلِك.
وَقَوله: {ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم}
ظَاهر الْمَعْنى.
(5/419)
وَإِنْ فَاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا
أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن فاتكم شَيْء من
أزواجكم إِلَى الْكفَّار} أَي: [التحقت] وَاحِدَة من أزواجكم
إِلَى الْكفَّار، يَعْنِي: النِّسَاء {فعاقبتم} أَي:
غَنِمْتُم. قَالَ القتيبي: مَعْنَاهُ: كَانَت لكم عُقبى خير
فِي الْغَنِيمَة والظفرة. وَقُرِئَ: " فعقبتم ". وَهُوَ (بذلك)
الْمَعْنى أَيْضا.
قَوْله: {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا}
أَي: مثل الَّذِي أعْطوا من الْمهْر. وَمعنى الْآيَة: أَن
امرآة الْمُسلم إِذا التحقت بالمشركين وَلم يردوا الْمهْر،
وظفر الْمُسلمُونَ بهم وغنموا، يردون من الْغَنِيمَة الَّتِي
أخذُوا مهر الزَّوْج الَّذِي أعطَاهُ.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ}
أَي: مصدقون، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ أَيْضا.
(5/419)
{أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا وَاتَّقوا
الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (11) يَا أَيهَا النَّبِي
إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ
بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن
أَوْلَادهنَّ}
(5/420)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {يَا ايها النَّبِي إِذا
جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه
شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن
أَوْلَادهنَّ} الْآيَة وَردت فِي بيعَة النِّسَاء، وَكَانَ قد
بَايع الرِّجَال على الْإِيمَان وَالْجهَاد فَحسب، وَبَايع
النِّسَاء على هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا، فَروِيَ " أَن
النَّبِي قعد على الصَّفَا حِين فتح مَكَّة، وَقعد دونه عمر،
وجاءته النِّسَاء يبايعنه، وفيهن هِنْد بنت عتبَة منتقبة
مُتَنَكِّرَة، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " إِنَّا نبايعكن على
أَن لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا " قَالَت هِنْد: مَا
جِئْنَا إِلَيْك وَقد بَقِي فِي قُلُوبنَا شرك، فَلَمَّا
قَالَ: " وعَلى أَن لَا تسرقن " قَالَت هِنْد: إِنِّي قد أخذت
من مَال أبي سُفْيَان هَنَات وهنات وَلَا أَدْرِي أتحللها لي
أَو لَا؟ وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا، فَقَالَ: حللتك
عَمَّا مضى وَعَما بَقِي. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا لما قَالَت
ذَلِك عرفهَا النَّبِي فَقَالَ: " أَو هِنْد بنت [عتبَة] ؟ "
قَالَت: نعم، اعْفُ عَمَّا سلف يَا نَبِي الله، عَفا الله
عَنْك، فَقَالَ: " إِن الْإِسْلَام يجب مَا قبله "، فَلَمَّا
قَالَ النَّبِي: " وعَلى أَن لَا تزنين " قَالَت هِنْد: أَو
تَزني الْحرَّة؟ ! فَضَحِك عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا
قَالَ: " وعَلى أَلا تقتلن أَوْلَادكُنَّ وَالْمعْنَى: لَا
تئدن أَوْلَادكُنَّ قَالَت هِنْد: رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا
فَقَتَلْتُمُوهُمْ كبارًا وَكَانَ قتل ابْنهَا حَنْظَلَة بن
أبي سُفْيَان يَوْم بدر فَلَمَّا _ كَانَ) قَالَ: {وَلَا
يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ
وَأَرْجُلهنَّ} قَالَت هِنْد: مَا علمت الْبُهْتَان إِلَّا
قبيحا ". وَمعنى الْآيَة: لَا تلْحق الْمَرْأَة
(5/420)
{وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ
بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف
فبايعهن} بزوجها ولدا لَيْسَ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: أَن
تلْتَقط ولدا، وَتقول لزَوجهَا: هَذَا وَلَدي مِنْك. وَمن حمل
على هَذَا قَالَ: هَذَا أولى، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ:
{وَلَا يَزْنِين} فقد تضمن الْيَمين عَن الزِّنَا الْيَمين على
الْمَعْنى الأول، فَلَا بُد لهَذَا من معنى آخر.
وَقَوله: {يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ}
قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْوَلَد إِذا سقط من الْمَرْأَة سقط بَين
يَديهَا ورجليها. وَقيل: لِأَن الثدي بَين يدين، والفرج بَين
الرجلَيْن، وَالْمَرْأَة تضع وترضع. وَقيل: إِن ذكر
الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ على طَرِيق التَّأْكِيد، مثل قَوْله
تَعَالَى: {ذَلِك بِمَا [قدمت] أَيْدِيكُم} يَعْنِي: بِمَا
كسبتم، وَذكر الْأَيْدِي على طَرِيق التَّأْكِيد، فَلَمَّا
قَالَ النَّبِي: " وَلَا تعصينني فِي مَعْرُوف " قَالَت هِنْد:
مَا جئْنَاك لنعصيك. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: إِنَّك لتأمر
بمكارم الْأَخْلَاق ".
وَأما الْمَعْرُوف فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَمِيع
الطَّاعَات، وَالْآخر: أَنه النِّيَاحَة وَمَا يَفْعَله
النِّسَاء على الْمَوْتَى من شقّ الْجُيُوب، وخمش الْوُجُوه،
وَقطع الشُّعُور، وَمَا أشبه ذَلِك. وَهَذَا القَوْل هُوَ
الْأَشْهر، وَقد روته أم عَطِيَّة مُسْندًا إِلَى النَّبِي فسر
بالنياحة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " مَا وفت بذلك امْرَأَة
إِلَّا أم عَطِيَّة ". وروى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي
جَامعه بِرِوَايَة شهر ابْن حَوْشَب عَن أم سَلمَة
الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة من النسْوَة قَالَت: " مَا
هَذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْبَغِي لنا أَن نَعْصِيك
فِيهِ؟ قَالَ: " لَا تنحن " فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن
بني فلَان قد أسعدوني على عمي وَلَا بُد من قضائهن، فعاتبته
مرَارًا، فَأذن لي فِي قضائهن، فَلم أنح بعد فِي قضائهن وَلَا
غَيره حَتَّى السَّاعَة، وَلم يبْق من النسْوَة امْرَأَة
إِلَّا وَقد ناحت غَيْرِي ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا
بذلك عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا
أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس المحبوبي
(5/421)
{واستغفر لَهُنَّ الله إِن الله غَفُور
رَحِيم (12) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما
غضب الله} أخبرنَا أَبُو عِيسَى، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن أبي
نعيم، عَن يزِيد بن عبد [الله] الشَّيْبَانِيّ، عَن شهر بن
حَوْشَب. . الحَدِيث: قَالَ أَبُو عِيسَى: وَأم سَلمَة
الْأَنْصَارِيَّة هِيَ أَسمَاء بنت يزِيد السكني.
وَقَوله: {فبايعهن واستغفر لَهُنَّ الله} أَي: قد غفر الله
لَكِن.
وَقَوله: {إِن الله غَفُور رَحِيم} قد بَينا. وَقد ثَبت
بِرِوَايَة عَائِشَة " أَن النَّبِي مَا مس بِيَدِهِ يَد
امْرَأَة قطّ إِلَّا يَد امْرَأَة يملكهَا ". وَالْمَشْهُور
فِي بيعَة النِّسَاء " أَنه دَعَا بِإِنَاء فِيهِ مَاء وغمس
فِيهِ يَده فَجعل كل من بَايَعت غمست فِيهِ يَدهَا " وَقد قيل:
" إِنَّه أَخذ بيدهن وَرَاء الثَّوْب " وَالأَصَح هُوَ الأول.
(5/422)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم} فِيهِ
رُجُوع إِلَى قصَّة حَاطِب بن أبي بلتعة، وتأكيد النَّهْي عَن
مُوالَاة الْكفَّار. وَقيل: إِن الْآيَة عَامَّة.
وَقَوله: {قوما غضب الله عَلَيْهِم} قيل: هم المُنَافِقُونَ.
وَقيل: هم الْيَهُود، وعَلى
(5/422)
{عَلَيْهِم قد يئسوا من الْآخِرَة كَمَا
يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور (13) .} القَوْل الأول هم
الْمُشْركُونَ.
وَقَوله: {قد يئسوا من الْآخِرَة} أَي: يئسوا من الْبَعْث بعد
الْمَوْت، وَهَذَا فِي الْمُشْركين ظَاهر؛ لأَنهم كَانُوا
يُنكرُونَ الْبَعْث، وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم أَنهم
قَالُوا: {مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا
يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وَكَذَلِكَ فِي الْمُنَافِقين
ظَاهر. وَأما إِذا حملنَا على الْيَهُود، فَالْمُرَاد من
الْآيَة هم الْيَهُود الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي،
ويعلمون أَنه نَبِي الله، وَيُنْكِرُونَ نبوته حسدا وبغيا.
وَمعنى إياسهم من الْآخِرَة هُوَ الْيَأْس من الثَّوَاب؛
لأَنهم إِذا عرفُوا الْحق [وأنكروه] متعنتين عرفُوا حَقِيقَة
أَنهم فِي النَّار فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِن الْمَعْنى على
هَذَا القَوْل هُوَ أَن الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ
فِي الْجنَّة أكل وَلَا شرب وَلَا استمتاع، فَمَعْنَى الْيَأْس
هُوَ يأسهم عَن هَذِه النعم لمَكَان اعْتِقَادهم.
وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب
الْقُبُور} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: كَمَا يئس الْكفَّار من
أَصْحَاب الْقُبُور عَن إصابتهم الثَّوَاب، ووصولهم إِلَى
الْجنَّة؛ لأَنهم عاينوا الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم أهل النَّار
قطعا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب
الْقُبُور أَنهم لَا يعودون إِلَيْهِم، فعلى القَوْل الأول
المُرَاد من الْكفَّار هم الْكفَّار الَّذين مَاتُوا، وعَلى
القَوْل الثَّانِي المُرَاد من الْكفَّار هم الْأَحْيَاء
مِنْهُم. وَالله أعلم.
(5/423)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ
الْعَزِيز الْحَكِيم (1) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم
تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كبر مقتا عِنْد الله أَن
تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِن الله}
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ
وَهِي مَدَنِيَّة
(5/424)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي
السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْكَلَام إِلَى الله تَعَالَى
سُبْحَانَ الله، ولحبه هَذِه الْكَلِمَة ألهمها أهل
السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.
(5/424)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس:
اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله وتذاكروا الْبَعْث وَأمر
الْآخِرَة ثمَّ قَالُوا: لَو علمنَا مَا يُحِبهُ الله
فَفَعَلْنَا وَلَو نبذل نفوسنا. وَفِي رِوَايَة: أَن عبد الله
بن رَوَاحَة كَانَ يَقُول لمن يلقاه: تعال نؤمن سَاعَة،
وَنَذْكُر الله تَعَالَى، وَيَقُول: وددت أَن لَو عرفت مَا
يُحِبهُ الله فأفعله؛ فَلَمَّا فرض الله الْجِهَاد وَأمرهمْ
ببذل النَّفس وَالْمَال، وَكتب عَلَيْهِم الْقِتَال أَحبُّوا
الْحَيَاة وكرهوا الْقِتَال، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
وَعَن قَتَادَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما فروا يَوْم أحد
إِلَّا نَفرا يَسِيرا مِنْهُم أنزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة. وَالْآيَة وَإِن كَانَت عَامَّة فَإِنَّهَا فِي بعض
الصَّحَابَة دون الْبَعْض، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي
مَوضِع آخر: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا وَمَا عَاهَدُوا
الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر وَمَا
بدلُوا تبديلا} وَهَذَا دَلِيل ظَاهر على أَن الْآيَة فِي
هَذِه السُّورَة لم ترد فِي حق جَمِيعهم على الْعُمُوم. وَفِي
التَّفْسِير: أَن عبد الله بن رَوَاحَة قَالَ: لما نزلت آيَة
الْجِهَاد حبست نَفسِي فِي سَبِيل الله، ثمَّ إِنَّه لما خرج
إِلَى غَزْوَة مُؤْتَة، " وَكَانَ النَّبِي أَمر زيد بن
حَارِثَة، فَإِن
(5/424)
{يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا
كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص (4) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
يَا قوم لم تؤذونني وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله
إِلَيْكُم فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم وَالله لَا يهدي
الْقَوْم الْفَاسِقين (5) وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا
بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله} اسْتشْهد فجعفر بن أبي
طَالب، فَإِن اسْتشْهد فعبد الله بن رَوَاحَة [قَالَ: فاستشهد
زيد] بن حَارِثَة، ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر فاستشهد، ثمَّ
أَخذ الرَّايَة عبد الله بن رَوَاحَة فاستشهد، ثمَّ إِنَّه
أَخذ الرَّايَة خَالِد بن الْوَلِيد وَقَاتل حَتَّى رَجَعَ
بِالْمُسْلِمين ".
(5/425)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
وَقَوله: {كبر مقتا عِنْد الله} أَي: بغضا
{أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَالْمعْنَى: أَن الله
تَعَالَى يبغض من يَقُول شَيْئا وَلَا يفعل.
(5/425)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يحب الَّذين
يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} أَي:
ملزق بعضه بِبَعْض. وَقيل: يثبتون فِي الْحَرْب مَعَ الْكفَّار
ثبات الْبُنيان الَّذِي وضع بعضه على بعض وسد بالرصاص.
وَالْعرب إِذا بنت الْبناء بِالْحِجَارَةِ يرصون الْحِجَارَة
ثمَّ يجعلونه فِي خلال الْبناء، ويسمونه الْبناء المرصوص.
(5/425)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني} قد بَينا مَا كَانَ يُؤْذونَ
بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
وَقَوله: {وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم} أَي:
وتعلمون، " وَقد " صلَة.
وَقَوله: {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} أَي: مالوا عَن
الْحق [فأمال] الله قُلُوبهم، أَي: زادهم ميلًا عَن الْحق.
وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي:
الْكَافرين.
(5/425)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن
مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم
مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي
من بعد اسْمه أَحْمد} وَقد ثَبت
(5/425)
{إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من
التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد
فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين
(6) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى
إِلَى الْإِسْلَام وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (7)
يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله} بِرِوَايَة مُحَمَّد بن جُبَير
بن مطعم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي قَالَ: " لي خَمْسَة
أَسمَاء: أَنا مُحَمَّد، وَأَنا أَحْمد، وَأَنا الماحي يمحو
الله بِي الْكفْر، وَأَنا الحاشر الَّذِي يحْشر النَّاس على
قدمي، وَأَنا العاقب الَّذِي لَا نَبِي بعدِي ". قَالَ رَضِي
الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ
الشَّافِعِي، أخبرنَا [ابْن] فراس، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر
الديبلي، أخبرنَا سعيد بن (جُبَير) عبد الرَّحْمَن
المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مُحَمَّد بن
جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه. . الحَدِيث.
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا
سحر مُبين} أَي: ظَاهر. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن اسْم
الرَّسُول فِي الْإِنْجِيل فار قليطا، وَبشر عِيسَى بِهِ بِمَا
أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد، والعهد الْمَأْخُوذ هُوَ فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النبين لما آتيتكم
من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ
لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} الْآيَة وَأما معنى اسْمه أَحْمد على
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لِأَنَّهُ كَانَ يحمد الله كثيرا.
وَالثَّانِي: لِأَن النَّاس حمدوه فِي فعاله.
(5/426)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى
إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى
على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَالله
(5/426)
{بأفواههم وَالله متم نوره وَلَو كره
الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين
الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ (9)
يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من
عَذَاب أَلِيم (10) تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله وتجاهدون فِي
سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن
كُنْتُم تعلمُونَ (11) يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجْرِي
من تحتهَا الْأَنْهَار ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن ذَلِك
الْفَوْز} لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين) قد بَينا من قبل.
(5/427)
يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ ليطفئوا نور
الله بأفواههم} يُقَال: هُوَ الْقُرْآن. وَيُقَال: هُوَ
مُحَمَّد.
وَقَوله: {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} أَي: يتم
أَمر نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ.
(5/427)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل
رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو
كره الْمُشْركُونَ} أَي: على جَمِيع الْأَدْيَان شرقا وغربا،
ومصداق هَذِه الْآيَة على الْكَمَال إِنَّمَا يكون عِنْد نزُول
عِيسَى ابْن مَرْيَم حَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا دين الْإِسْلَام.
(5/427)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم}
وَالتِّجَارَة أَن تبذل شَيْئا وَتَأْخُذ شَيْئا، فَكَأَنَّهُ
جعل بذل النَّفس وَالْمَال وَأخذ الثَّوَاب تِجَارَة، وَهُوَ
على طَرِيق الْمجَاز.
(5/427)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {تؤمنون بِاللَّه
وَرَسُوله} فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " آمنُوا بِاللَّه
وَرَسُوله " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة،
وَجَوَابه: يغْفر لكم ذنوبكم.
وَقَوله: {وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ
ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/427)
يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْله: {يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات
تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين، والأنهار هِيَ
الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة تجْرِي من غير أخدُود.
وَقَوله: {ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن} أَي: يسطيبونها،
والعدن مَوضِع الْإِقَامَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ بطْنَان
الْجنَّة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله غرس جنَّة عدن
(5/427)
{الْعَظِيم (12) وَأُخْرَى تحبونها نصر من
الله وَفتح قريب وَبشر الْمُؤمنِينَ (13) يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا كونُوا أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم
للحواريين من أَنْصَارِي إِلَى الله} بِيَدِهِ.
وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة
الْعَظِيمَة.
(5/428)
وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَأُخْرَى تحبونها} أَي:
تودونها.
وَقَوله تَعَالَى: {وَأُخْرَى} أَي: خصْلَة أُخْرَى. وَقيل:
تِجَارَة آخرى.
وَقَوله: {نصر من الله وَفتح قريب} هُوَ فتح مَكَّة. وَقيل:
هُوَ فتح فَارس وَالروم.
وَقَوله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} أَي: بالنصر فِي الدُّنْيَا،
وبالجنة فِي الْآخِرَة.
(5/428)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا
انصار الله} وَقُرِئَ: " أنصارا لله ".
وَقَوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين}
الحواريون صفوة الْأَنْبِيَاء وخالصتهم، وَمِنْه قَول النَّبِي
للزبير: " هُوَ ابْن عَمَّتي وحواري من أمتِي ". وَمِنْه
الْخبز الْحوَاري لبياضه ونفائه. وَالْعرب تسمي نسَاء
الْأَمْصَار الحواريات، قَالَ الشَّاعِر:
(فَقل للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكنا إِلَّا
الْكلاب النوابح)
وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جمع الحواريين
فِي بَيت وهم اثْنَا عشر رجلا وَقَالَ: إِن أحدكُم يكفر بِي
الْيَوْم اثْنَتَيْ عشر مرّة، فَكَانَ كَمَا قَالَ: وَقَالَ:
من يخْتَار مِنْكُم أَن يلقِي عَلَيْهِ شبهي فَيقْتل ويصلب؟
فَقَامَ شَاب مِنْهُم وَقَالَ: أَنا. فَقَالَ: اقعد. ثمَّ
قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، وَفِي الْجَمِيع يقوم ذَلِك
الشَّاب، فَقَالَ عِيسَى: أَنْت هُوَ. ثمَّ إِن الله تَعَالَى
رَفعه من الروزنة إِلَى السَّمَاء، وَدخل الْيَهُود وَألقى
الله تَعَالَى شبه عِيسَى على ذَلِك الرجل فَقَتَلُوهُ وصلبوه.
(5/428)
{قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت
طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين
آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين (14) .}
وَقَوله: {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي: مَعَ الله. وَقيل
مَعْنَاهُ: من أَنْصَارِي ينصر مِنْهُ إِلَى: نصر أَي: مضموم
إِلَيْهِ.
وَقَوله: {قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة}
فِي التَّفْسِير: أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ لما رَفعه
الله تَعَالَى إِلَى السَّمَاء اخْتلف أَصْحَابه؛ فَقَالَ
بَعضهم: كَانَ هُوَ الله فَنزل إِلَى الأَرْض ثمَّ رَفعه إِلَى
السَّمَاء، وهم النسطورية. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ هُوَ ابْن
الله أنزلهُ إِلَى الأَرْض فَفعل مَا شَاءَ ثمَّ إرتفع إِلَى
السَّمَاء، وهم اليعقوبية. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث
ثَلَاثَة، وَثَلَاثَة هُوَ أَب وَابْن وَزوج، وَقَالُوا:
ثَلَاثَة قدما أقانيم، وَعِيسَى أحد الثَّلَاثَة، وهم
الملكانية؛ وَعَلِيهِ أَكثر النَّصَارَى. وَقَالَ قوم: هُوَ
عبد الله وَرَسُوله فَغلبَتْ الطَّائِفَة الثَّلَاثَة هَذ
الطَّائِفَة قبل النَّبِي فَلَمَّا بعث عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام غلبت الطَّائِفَة المؤمنة الطوائف الثَّلَاث،
فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فأيدنا الَّذين آمنُوا على
عدوهم} أَي: نصرنَا وقوينا.
وَقَوله: {فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} أَي: غَالِبين. وَالله أعلم.
(5/429)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك
القدوس الْعَزِيز الْحَكِيم (1) هُوَ}
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة
مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع، وَذكر بَعضهم: أَنَّهَا
مَكِّيَّة، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
(5/430)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يسبح لله} قد بَينا معنى
التَّسْبِيح، وَهُوَ تَنْزِيه الرب عَن كل مَا لَا يَلِيق
بِهِ. وَيُقَال: التَّسْبِيح لله هُوَ ذكر الله. وَذكر الْقفال
الشَّاشِي: أَن معنى تَسْبِيح الجمادات هُوَ مَا جعل فِيهَا من
دَلَائِل حدثها، وَأَن لَهَا صانعا وخالقا. وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيح، وَقد ذكرنَا من قبل مَا قَالَه أهل السّنة فِيهَا.
وَقَوله: {مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك
القدوس} أَي: الطَّاهِر من كل عيب وَآفَة.
وَقَوله: {الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي أمره،
الْعدْل فِي فعله.
(5/430)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بعث فِي
الْأُمِّيين رَسُولا} روى مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم: أَن
الْأُمِّي هُوَ الَّذِي لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ. وروى ابْن عمر
أَن النَّبِي قَالَ: " نَحن أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب
الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ". وَأَشَارَ بأصابعه
الْعشْر، وَحبس إبهامه فِي الْمرة الثَّالِثَة.
وَيُقَال: سمي الْأُمِّي أُمِّيا نِسْبَة إِلَى مَا وَلدته
عَلَيْهِ أمه. وَيُقَال: سمي أُمِّيا لِأَنَّهُ الأَصْل فِي
جبلة الْأمة، وَالْكِتَابَة لَا تكون إِلَّا بتَعَلُّم. وَعَن
بَعضهم: سميت قُرَيْش أُمِّيين نِسْبَة إِلَى أم الْقرى وَهِي
[مَكَّة] فَإِن قَالَ قَائِل: لم يكن كل قُرَيْش أُمِّيا، وَقد
قَالَ: {فِي الْأُمِّيين} وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى
سماهم أُمِّيين بِاعْتِبَار غَالب أَمرهم، وَقد كَانَت
الْكِتَابَة نادرة فيهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تسمي من علم
الْكِتَابَة والسباحة وَالرَّمْي شَاعِرًا الْكَامِل. قَالَ
ابْن عَبَّاس: تعلمت قُرَيْش الْكِتَابَة من أهل
(5/430)
{الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا
مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب
وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين (2) وَآخَرين
مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ} لحيرة، وتعلمها أهل الْحيرَة
من أهل الأنبار.
وَالْحكمَة فِي كَون الرَّسُول أُمِّيا انْتِفَاء التُّهْمَة
عَنهُ فِي تعلم أَخْبَار الْأَوَّلين ودراستها من كتبهمْ.
وَيُقَال: ليَكُون مُوَافقا لصفته فِي كتب الْأَوَّلين.
وَقَوله: {يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَيُعلمهُم الْكتاب} أَي: كتاب الله. وَعَن ابْن
عَبَّاس: هُوَ الْخط بالقلم، فَإِن الْكِتَابَة كثرت فِي
قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب بعد رَسُول الله، وَهَذَا مُوَافق
لقَوْله تَعَالَى: {علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} .
وَقَوله: {وَالْحكمَة} أَي: السّنة. وَيُقَال: الْفِقْه فِي
الدّين.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} أَي:
فِي ضلال من الْحق بَين.
(5/431)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين مِنْهُم} قَالَ
الْأَزْهَرِي: هُوَ فِي مَوضِع الْخَفْض يَعْنِي: بعث فِي
الْأُمِّيين وَفِي آخَرين.
وَقَوله: {لما يلْحقُوا بهم} أَي: لم يلْحقُوا بهم وسيلحقون.
وَيُقَال فِي قَوْله: {وَآخَرين} أَي: يعلمهُمْ الْكتاب
وَالْحكمَة، وَيعلم آخَرين، أوردهُ النقاش.
وَاخْتلفت الْأَقْوَال فِي المُرَاد بالآخرين من هم؟ قَالَ
عِكْرِمَة: هم التابعون. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هم الْعَجم.
(وَقَائِل) هَذَا القَوْل مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة " أَن
النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَأَشَارَ إِلَى سلمَان،
وَقَالَ: لَو كَانَ الدّين مُعَلّقا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ
رجال من قوم
(5/431)
{الْعَزِيز الْحَكِيم (3) ذَلِك فضل الله
يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (4) مثل الَّذين
حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا
بئس مثل الْقَوْم} هَذَا " أَي: الْعَجم. وَقَالَ الضَّحَّاك:
هُوَ كل من آمن وَعمل صَالحا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.
(5/432)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(4)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من
يَشَاء} أَي: النُّبُوَّة. وَيُقَال: مَا سبق ذكره من تَعْلِيم
الْكتاب وَالْحكمَة.
وَقَوله: {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ظَاهر. وَقد ورد فِي
الْخَبَر " أَن الْفُقَرَاء شكوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا:
ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، فَأَرْشَدَهُمْ الرَّسُول
إِلَى التَّسْبِيح والتهليل وأنواع من الذّكر؛ فَسمع
الْأَغْنِيَاء بذلك فَجعلُوا يَقُولُونَ مثل مَا يَقُول
الْفُقَرَاء؛ فجَاء الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله وَذكروا
لَهُ ذَلِك؛ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة، وَهُوَ وَقَوله: {ذَلِك
فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} وَهُوَ
خبر مَشْهُور.
(5/432)
مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين حملُوا
التَّوْرَاة} أَي: حملُوا الْقيام بهَا (واستعمالها) ، وَهُوَ
من الْحمالَة وَلَيْسَ من الْحمل أَي: ضمنُوا الْقيام بهَا
وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا.
وَقَوله: {ثمَّ لم يحملوها} أَي: ضيعوها وَلم يعملوا بِمَا
فِيهَا {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: "
كَمثل حمَار يحمل أسفارا " والأسفار جمع سفر، وَالسّفر هُوَ
الْكتاب، فَجعل الْكفَّار لما ضيعوا كتاب الله وَلم يعملوا
بِمَا فِيهِ مثل الْحمر تحمل الْكتب وَلَا تَدْرِي مَا فِيهَا.
(5/432)
{الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَالله لَا
يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (5) قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا
إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس فتمنوا
الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (6) وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا
قدمت أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين (7) قل إِن الْمَوْت
الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ}
وَقَوله: {بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله} أَي:
بئس الْمثل مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَقَوله:
{وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.
(5/433)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الَّذين
هادوا} وَفِي بعض التفاسير: أَن يهود الْمَدِينَة بعثوا إِلَى
يهود خَيْبَر يَسْأَلُونَهُمْ عَن النَّبِي، فَكتب يهود
خَيْبَر إِلَى يهود الْمَدِينَة، وَقَالُوا: إِنَّا لَا
نَعْرِف نَبيا يخرج من الْعَرَب، وَإِن هَذَا الرجل يُرِيد أَن
يضعكم ويصغر شَأْنكُمْ، وَأَنْتُم أَوْلِيَاء الله وأحباؤه
فَلَا تَتبعُوهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس}
هُوَ مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي:
صَادِقين أَنكُمْ أَوْلِيَاء الله، فَإِنَّكُم إِذا متم وصلتم
إِلَى كَرَامَة الله وجنته على زعمكم، فتمنوا لتصلوا. وَفِي
أَكثر التفاسير: أَن الْآيَة معْجزَة للرسول، فَإِن الله كَانَ
قد قضى أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا فِي وقتهم ذَلِك، فَلم يتمن
أحد مِنْهُم، فَفِي صرفهم عَن التَّمَنِّي مَعَ حرصهم على
إِظْهَار كذب الرَّسُول، وَفِي علمهمْ أَنهم لَو تمنوا
مَاتُوا، دَلِيل على صدق الرَّسُول.
(5/433)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يتمنونه أبدا
بِمَا قدمت أَيْديهم} أخبر أَنهم لَا يتمنون، وَلم يتمن أحد
مِنْهُم.
وَقَوله: {وَالله عليم بالظالمين} أَي: بظلمهم على أنفسهم
بكتمانهم وصف الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي
كتبهمْ.
(5/433)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الْمَوْت الَّذِي
تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنهم
لَو تمنوا مَاتُوا، وَإِنَّهُم لم يتمنوا فِرَارًا من
الْمَوْت.
وَقَوله: {فَإِنَّهُ ملاقيكم} أَي: الْمَوْت ملاقيكم.
(5/433)
{ملاقيكم ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب
وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (8) يَا
أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم
الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع ذَلِكُم}
وَقَوله: {ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة}
أَي: عَالم بِمَا ظهر وخفي.
وَقَوله: {فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بِمَا
عملتم.
(5/434)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} أَي:
لصَلَاة الْجُمُعَة من يَوْم الْجُمُعَة، وَسمي الْيَوْم
جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ جمع فِي هَذَا الْيَوْم خلق آدم. وَقد روى
بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
وَقَوله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} قَرَأَ عمر
وَابْن مَسْعُود وَابْن الزبير: " فامضوا إِلَى ذكر الله ".
قَالَ ابْن مَسْعُود: لَو قَرَأت: " فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله
" لسعيت حَتَّى يسْقط رِدَائي. وَالْمَعْرُوف: " فَاسْعَوْا "
وَقد رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين أَنهم كَانُوا يعدون. قَالَ
ثَابت الْبنانِيّ: كنت عِنْد أنس بن مَالك: فَنُوديَ لصَلَاة
الْجُمُعَة فَقَالَ: قُم نسع. وَالصَّحِيح أَن السَّعْي
هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالْفِعْل، قَالَه مُجَاهِد
وَغَيره، وَحكي ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَاسْتشْهدَ بقوله
تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} أَي:
إِلَّا مَا عمل، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِن سعيكم لشتى}
وأمثال هَذَا. وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(أسعى على جلّ بني مَالك ... كل امْرِئ فِي شَأْنه ساعي)
فالسعي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالتَّصَرُّف. وَعَن
الْحسن وَقَتَادَة: أَن المُرَاد من قَوْله: {فَاسْعَوْا} هُوَ
النِّيَّة بِالْقَلْبِ والإرادة لَهَا. وَقَالَ عبد الله بن
الصَّامِت: كنت أَمْشِي مَعَ أبي ذَر إِلَى الْجُمُعَة فسمعنا
النداء للصَّلَاة، فَرفعت فِي مشي، فجذبني جذبة، وَقَالَ:
(5/434)
{خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (9) فَإِذا
قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله
واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (10) وَإِذا رَأَوْا
تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا} أَلسنا نسعى. وَقَوله: {إِلَى
ذكر الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْخطْبَة،
وَالْآخر: أَنه الصَّلَاة. وَهُوَ الْأَصَح.
وَقَوله تَعَالَى: {وذروا البيع} أَي: واتركوا البيع. وَيُقَال
المُرَاد مِنْهُ: إِذا دخل وَقت الصَّلَاة وَإِن لم يُؤذن
لَهَا بعد، وَيُقَال: إِنَّه بعد سَماع النداء. وَالْأول أحسن.
وَمن قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: النداء هُوَ الآذان إِذا جلس
الإِمَام على الْمِنْبَر وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي زمَان
رَسُول الله وَأما الْآذِن الأول أحدثه عُثْمَان رَضِي الله
عَنهُ حِين كثر النَّاس. وَالْمرَاد من قَوْله: {وذروا البيع}
أَي: البيع وَالشِّرَاء وكل مَا يشغل عَن الْجُمُعَة. وَاخْتلف
الْعلمَاء أَنه لَو بَاعَ هَل يجوز ذَلِك البيع؟ فَذهب
أَكْثَرهم إِلَى أَن البيع جَائِز، وَالنَّهْي عَنهُ كَرَاهَة.
وَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَن البيع لَا يجوز أصلا. وَحكى
بَعضهم عَن مَالك أَنه رَجَعَ من التَّحْرِيم إِلَى
الْكَرَاهَة، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الله تَعَالَى
قَالَ: {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} جعل ترك البيع
خيرا، وَهَذَا يُشِير إِلَى الْكَرَاهَة فِي الْفِعْل دون
التَّحْرِيم، وَلِأَن النَّهْي عَن العقد للاشتغال عَن
الْجُمُعَة لَا لعين العقد.
(5/435)
فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة}
أَي: فرغ مِنْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل
الله} هُوَ أَمر ندب لَا أَمر حتم وَإِيجَاب، مثل قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَعَن ابْن محيريز قَالَ:
يُعجبنِي أَن يكون لي حَاجَة بعد الْجُمُعَة فأنصرف إِلَيْهَا،
وابتغى من فضل الله مِنْهَا. وَعَن عبد الله [بن] بسر: أَنه
كَانَ يخرج من الْمَسْجِد إِذا صلى الْجُمُعَة، ثمَّ يعود
وَيجْلس إِلَى أَن يُصَلِّي الْعَصْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار
عَن النَّبِي فِي معنى قَوْله
(5/435)
تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض
وابتغوا من فضل الله} قَالَ: " لَيْسَ هُوَ طلب دنيا،
وَإِنَّمَا هُوَ عِيَادَة مَرِيض، أَو شُهُود جَنَازَة، أَو
زياح أَخ فِي الله ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/436)
وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ
وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة
أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن
رَسُول الله كَانَ على الْمِنْبَر يخْطب، وَقد كَانَ أصَاب أهل
الْمَدِينَة غلاء ومجاعة، فَقدمت عير تحمل الطَّعَام وَيُقَال:
كَانَت لدحية بن خَليفَة الْكَلْبِيّ فنزلوا عِنْد أَحْجَار
الزَّيْت، وضربوا بالطبل ليعلم النَّاس، فَسمع الْمُسلمُونَ
ذَلِك فِي الْمَسْجِد فَذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَبَقِي النَّبِي
مَعَ اثْنَي عشر نَفرا فيهم أَبُو بكر وَعمر. وَأورد
البُخَارِيّ خَبرا فِي هَذَا، وَأورد هَذَا الْعدَد. وَقيل:
فِي [ثَمَانِيَة] رجال، وَالْأول أصح، فَانْزِل الله تَعَالَى
هَذِه الْآيَة.
وَالتِّجَارَة مَعْلُومَة، وَهِي التِّجَارَة فِي الطَّعَام
وتحصيلها، وَاللَّهْو هُوَ الطبل، قَالَه مُجَاهِد. وَيُقَال:
هُوَ المزامير، وَكَانَ الْأَنْصَار يستعملون ذَلِك إِذا زفوا
امْرَأَة إِلَى زَوجهَا، وَذَلِكَ مثل الدُّف والطبل وَمَا
يُشبههُ، فعلى هَذَا القَوْل سمع الْمُسلمُونَ صَوتهَا فِي
السُّوق وَكَانُوا يزفون امْرَأَة فَذَهَبُوا إِلَيْهَا،
وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ الثَّابِت.
وَقَوله: {وَتَرَكُوك قَائِما} لِأَنَّهُ كَانَ يخْطب، وَفِيه
دَلِيل على أَن السّنة أَن يخْطب قَائِما، وَأول من خطب
قَاعِدا مُعَاوِيَة وَتَبعهُ على ذَلِك مَرْوَان. وَالسّنة مَا
بَينا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {انْفَضُّوا
إِلَيْهَا} وَقد تقدم سببان؛ التِّجَارَة وَاللَّهْو، وَلم
يقل: " انْفَضُّوا إِلَيْهِمَا "؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهُ:
وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَإِذا رَأَوْا
لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر.
وَقد ذكرنَا من قبل أَن الْعَرَب قد تذكر شَيْئَيْنِ وَترد
الْكِنَايَة إِلَى أَحدهمَا، وَالْمرَاد كِلَاهُمَا، قَالَ
الشَّاعِر:
(5/436)
{إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما قل مَا
عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة وَالله خير
الرازقين (11) .}
نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي
مُخْتَلف)
وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ:
وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا
والانفضاض هُوَ الذّهاب بِسُرْعَة.
وَقَوله: {قل مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن
التِّجَارَة} أَي: ذكر الله تَعَالَى والاشتغال فِي الصَّلَاة
خير من اللَّهْو وَالتِّجَارَة، وَقَوله: {وَالله خير
الرازقين} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: أَنه يرزقكم وَلَا يمسِكهُ
عَنْكُم فَلَا تشتغلوا بِطَلَبِهِ عَن الصَّلَاة وَعَن ذكر
الله. وَيُقَال: الرزق مسجلة للبر والفاجر. وروى الْحُسَيْن
الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ حِين نفر النَّاس إِلَى العير
وَبَقِي فِي اثْنَي عشر رجلا: " لَو لحق آخِرهم أَوَّلهمْ
لاضطرم الْوَادي عَلَيْهِم نَارا ".
وَقد وَردت أَخْبَار كَثِيرَة فِي فضل الْجُمُعَة وثوابها
مِنْهَا: مَا روى سعيد بن الْمسيب، عَن جَابر، عَن عبد الله
أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى ربكُم
من قبل أَن تَمُوتُوا، وَبَادرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة
قبل أَن تشْغَلُوا، وصلوا الَّذِي بَيْنكُم وَبَين ربكُم
بِكَثْرَة ذكركُمْ لَهُ وَالصَّدَََقَة فِي السِّرّ
وَالْعَلَانِيَة تنصرُوا وَتجبرُوا وترزقوا، وَاعْلَمُوا أَن
الله تَعَالَى قد فرض عَلَيْكُم الْجُمُعَة فِي مقَامي هَذَا
فِي يومي هَذَا فِي شَهْري هَذَا فِي عَامي هَذَا إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة، فَمن تَركهَا فِي حَياتِي أَو بعد موتِي وَله
إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا،
أَلا فَلَا جمع الله شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا
لَا ... ".
(5/437)
وروى مَالك، عَن سمي، عَن أبي صَالح، عَن
أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم
الْجُمُعَة ثمَّ رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا
قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة
فَكَأَنَّمَا قرب بقرة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة
فَكَأَنَّمَا قرب كَبْشًا أقرن، وَمن رَاح فِي السَّاعَة
الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قرب دجَاجَة، وَمن رَاح فِي
السَّاعَة الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا قرب بَيْضَة، فَإِذا [شرع]
الإِمَام طويت الصُّحُف، وَحَضَرت الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُون
الذّكر ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو
الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص أخبرنَا
يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك
الْخَبَر.
وَورد أَيْضا بِرِوَايَة عمرَان بن الْحصين، عَن أبي بكر
الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل
يَوْم الْجُمُعَة غسلت ذنُوبه وخطاياه، فَإِذا رَاح كتب الله
بِكُل قدم عمل عشْرين سنة، فَإِذا قضيت الصَّلَاة أُجِيز
بِعَمَل مِائَتي سنة " وَالْخَبَر غَرِيب جدا.
وَالْخَبَر الثَّالِث أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم
الْجُمُعَة من الْجَنَابَة، وَلبس من صَالح ثِيَابه، وَمَسّ من
طيب بَيته، وَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ غفر لَهُ مَا بَينه
وَبَين الْجُمُعَة
(5/438)
الْأُخْرَى وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام ".
ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه.
وَورد أَيْضا فِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من
ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات من غير عذر طبع الله على قلبه
". وَالله أعلم.
(5/439)
|