تفسير السمعاني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم (1) }
تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم

وَهِي مَدَنِيَّة

(5/470)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم} فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم رَسُول الله على نَفسه مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَسبب ذَلِك: أَن النَّبِي خلا بهَا فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَت حَفْصَة قد خرجت لزيارة أَبِيهَا، فَلَمَّا رجعت وَعرفت ذَلِك فوقفت على الْبَاب، وَخرج النَّبِي وَرَأى الكآبة فِي وَجههَا. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا راجعته فِي ذَلِك بعض الْمُرَاجَعَة وَقَالَت هَذَا من حقارتي عنْدك وَصغر شأني وَلَو كَانَت فِي بَيت غَيْرِي لم تفعل ذَلِك، فَحرم مَارِيَة على نَفسه لطلب رِضَاهَا وَقَالَ لَهَا: " لَا تُخْبِرِي بذلك عَائِشَة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: " أَن النَّبِي كَانَ يشرب عسلا فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت سَوْدَة، وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت أم سَلمَة فَتَوَاطَأت عَائِشَة وَحَفْصَة على أَن النَّبِي إِذا دخل على وَاحِدَة مِنْهُمَا أَيَّتهمَا كَانَت قَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريح مَغَافِير " وَقد روى أَن صَفِيَّة كَانَت مَعَهُمَا فِي هَذِه المواطأة، فَدخل النَّبِي على عَائِشَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على حَفْصَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على صَفِيَّة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، فَكَانَ النَّبِي يكره أَن يُوجد مِنْهُ ريح لأجل الْمَلَائِكَة فَقَالَ: شربت عسلا عِنْد زَيْنَب. فَقُلْنَ لَهُ: جرست نَخْلَة العرقط والعرقط شَجَرَة يُوجد مِنْهَا ريح

(5/470)


{قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} مَكْرُوه فَحرم الْعَسَل على نَفسه، وَقَالَ: لَا أَعُود إِلَى شربه أبدا ". حكى هَذَا القَوْل عبيد بن عُمَيْر عَن عَائِشَة. وَالْأول قَول عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة وَردت فِي الواهبة نَفسهَا للنَّبِي، وَهُوَ قَول شَاذ، وَمعنى الْآيَة: هُوَ المعاتبة مَعَ النَّبِي فِي تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ لطلب رضَا أَزوَاجه.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} قد بَينا.

(5/471)


قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

قَوْله تَعَالَى: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَي: كَفَّارَة أَيْمَانكُم، وَالْفَرْض هَا هُنَا بِمَعْنى الْبَيَان وَالتَّسْمِيَة وَيُقَال: بِمَعْنى التَّقْدِير؛ لِأَن الْكَفَّارَات مقدرَة مَعْدُودَة، فَإِن قيل: أَيْن الْيَمين فِي الْآيَة، وَالله تَعَالَى قَالَ: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّبِي كَانَ حرم وَحلف فَعَاتَبَهُ على التَّحْرِيم، وَأمره بالتفكير فِي الْيَمين، وَهَذَا قَول مَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم مَسْرُوق وَالشعْبِيّ وَغَيرهمَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كَانَ حرم وَلم يحلف إِلَّا أَن تَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْرِيم الْحَلَال، فَذهب ابْن مَسْعُود أَنه إِذا حرم حَلَالا أَي حَلَال كَانَ، فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ والكوفيين. وَأما مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن تَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء يُوجب الْكَفَّارَة، وَفِي غير النِّسَاء لَا يُوجب شَيْئا. وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ مَسْرُوق: لَا أُبَالِي أَحرمت امْرَأَتي أَو قَصْعَة من ثريد يَعْنِي: أَنه لَيْسَ بِشَيْء. وَعَن بَعضهم: أَنه إِيلَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه ظِهَار. وَعَن بَعضهم: أَنه يلْزمه الطَّلَاق الثَّلَاث بِتَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه على نِيَّته. وتحلة الْيَمين كَفَّارَة الْيَمين، وسماها تَحِلَّة؛ لِأَنَّهُ يتَحَلَّل بهَا عَن الْيَمين أَي: يخرج. وَعَن بَعضهم: أَن تَحِلَّة الْيَمين

(5/471)


{وَالله مولاكم وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (2) وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا فَلَمَّا نبأت بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ عرف بعضه} هُوَ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَنَّهُ يخرج بِهِ عَن الْيَمين. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَبَيَان الْكَفَّارَة فِي سُورَة الْمَائِدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} الْآيَة، فروى " أَن النَّبِي أعتق رَقَبَة ".
وَقَوله: {وَالله مولاكم} أَي: ولي أُمُوركُم، يهديكم إِلَى الأرشد والأقوم وَالْأولَى.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم} أَي: الْعَالم بِأَمْر خلقه، الْحَكِيم بِمَا يدبره لَهُم.

(5/472)


وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} هِيَ حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَالَّذِي أسره إِلَيْهَا هُوَ تَحْرِيمه مَارِيَة. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: أسر إِلَيْهَا هَذَا، وَأسر إِلَيْهَا أَن الْخلَافَة بعده لأبي بكر، ثمَّ لأَبِيهَا بعده، وَهَذَا مَذْكُور فِي كثير من التفاسير عَن مَيْمُون بن مهْرَان وَغَيره.
وَقَوله: {فَلَمَّا نبأت بِهِ} روى أَن النَّبِي قَالَ لحفصة: " لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا " وَكَانَت لَا تكْتم شَيْئا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَذَهَبت وأخبرت عَائِشَة بذلك؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بِمَا كَانَ بَينهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: {وأظهره الله عَلَيْهِ} .
وَقَوله: {عرف بعضه} أَي: عرفهَا بعض مَا كَانَ بَينهمَا، وَأعْرض عَن الْبَعْض تكرما وصفحا، والتغافل عَن كثير من الْأُمُور من شِيمَة الْعُقَلَاء وَأهل الْكَرم. وَيُقَال: الْعَاقِل هم المتغافل. وَالَّذِي أظهره لَهَا هُوَ إخبارها بِتَحْرِيم مَارِيَة، وَالَّذِي أعرض عَنهُ هُوَ حَدِيث أبي بكر وَعمر كَرَامَة أَن يفشو ذَلِك بَين النَّاس. وَقَرَأَ الْكسَائي: " عرف بعضه " بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْفراء: أَي: جازى عَلَيْهِ، ومجازاته إِيَّاهَا أَنه طَلقهَا، ثمَّ إِنَّه نزل جِبْرِيل وَأمره بمراجعتها، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة. وَقَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: لأعرفن مَا عملت أَي: لأجازينك عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضا مثل قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَيْهِ

(5/472)


{وَأعْرض عَن بعض فَلَمَّا نبأها بِهِ قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير (3) إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} لتنبئنهم بأمرهم) أَي: لتجازينهم.
وَقَوله: {وَأعْرض عَن بعض} أَي: لم يجاز عَلَيْهِ.
وَقَوله: {فَلَمَّا نبأها بِهِ} أَي: أخْبرهَا.
وَقَوله: {قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا} أَي: من أخْبرك بِهَذَا.
وَقَوله: {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير} أَي: الله، فَإِنَّهُ الْعَلِيم بالأمور، الْخَبِير بِمَا فِي الصُّدُور.

(5/473)


إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

وَقَوله تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} هَذَا خطاب لعَائِشَة وَحَفْصَة، وَمَعْنَاهُ: إِن تَتُوبَا فقد فعلتما مَا عَلَيْكُمَا، التَّوْبَة فِي ذَلِك، وَالَّذِي فعلنَا: المظاهرة على النَّبِي بالمواطأة على مَا بَينا، وبالسرور بِمَا يكرههُ من تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ، وبشدة الْغيرَة عَلَيْهِ وأذاه بذلك.
وَقَوله: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} أَي: مَالَتْ قُلُوبكُمَا عَن الصَّوَاب. وَقد روى " أَنه كَانَ يصغي الْإِنَاء للهرة " أَي: يمِيل.
وَقَوله: {قُلُوبكُمَا} أَي: قلباكما. قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَول الْعَرَب: ضربت ظهوركما، وهشمت رءوسكما أَي: رأسيكما وظهريكما. وَيُقَال: إِن أَكثر مَا فِي الْإِنْسَان من الْجَوَارِح اثْنَان اثْنَان، وَإِذا هِيَ تذكر باسم الْجمع، فَمَا كَانَ وَاحِدًا جرى ذَلِك المجرى، مثل: الرَّأْس وَالْقلب وَغير ذَلِك، ذكره النقاش.

(5/473)


{وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير (4) عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن}
وَقَوله: {وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ} ثَبت أَن ابْن عَبَّاس سَأَلَ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على النَّبِي أَي: توافقتا على فعل مَا يشْتَد عَلَيْهِ ويؤذيه غَيره عَلَيْهِ، فَقَالَ: هما حَفْصَة وَعَائِشَة.
وَقَوله: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ} أَي: ناصره وحافظه {وَجِبْرِيل} أَي: ينصره أَيْضا ويحفظه.
وَقَوله: {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ الْعَلَاء بن زِيَاد: هم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ قَول قَتَادَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
وَعَن قَتَادَة فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ: هُوَ أَبُو بكر وَعمر، وهما أَبَوا الْمَرْأَتَيْنِ. قَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة وَهُوَ الحاكي ذَلِك عَن قَتَادَة: ذكرت ذَلِك لسَعِيد بن جُبَير فَقَالَ: صدق قَتَادَة. وروى اللَّيْث عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن بَعضهم: هُوَ خِيَار الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير} أَي: ظهراء وَأَعْوَان، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} أَي: رُفَقَاء. قَالَ الشَّاعِر
(إِن العواذل لَيْسَ لي بأمير ... )
أَي: بأمراء. وَرُوِيَ أَن عمر عَاتب حَفْصَة وَقَالَ: لَو أَمرنِي رَسُول الله أَن أضْرب رقبتك لضَرَبْت.

(5/474)


عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قَوْله تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَإِن قيل: كَيفَ خيرا مِنْكُن وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت أحد من النِّسَاء خيرا مِنْهُنَّ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: إِن طَلَّقَكُن بإلجائكن إِيَّاه إِلَى الطَّلَاق، وَشدَّة آذاكن لَهُ، وَترك التَّوْبَة فيبدله خير مِنْكُن أَي: أطوع لَهُ مِنْكُن، وَيُقَال: أحب لَهُ مِنْكُن.

(5/474)


{مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا}
وَقَوله: {مسلمات} أَي: خاضعات منقادات.
وَقَوله: {مؤمنات} أَي: مصدقات.
وَقَوله: {قانتات} أَي: مطيعات.
وَقَوله: {تائبات} أَي: تائبات من كل الذُّنُوب، وَمن كل مَا يُؤْذِي النَّبِي.
وَقَوله: {عابدات} أَي: متذللات أَو فاعلات للطاعة كَمَا أمرهن الله تَعَالَى.
وَقَوله: {سائحات} أَي: صائمات، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سمي الصَّائِم سائحا؛ لِأَن السائح يسيح بِغَيْر زَاد، فَإِن وجد شَيْئا أكل على جوع شَدِيد. وَيُقَال: سائحات أَي: مهاجرات.
وَقَوله: {ثيبات وأبكارا} ظَاهر الْمَعْنى. وَيُقَال: الثّيّب مثل آسِيَة، والأبكار مثل: مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام.

(5/475)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} أَي: بفعلكم طَاعَة الله، وأمركم إياهن بِطَاعَة الله. وَيُقَال: أدبوهن وعلموهن ودلوهن على الْخَيْر. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " علق السَّوْط حَيْثُ يرَاهُ أهلك " يَعْنِي: بالتأديب. وَعَن عَمْرو بن قيس الْملَائي قَالَ: " إِن الْمَرْأَة لتخاصم زَوجهَا يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله فَتَقول: إِنَّه كَانَ لَا يؤدبني، وَلَا يعلمني شَيْئا، كَانَ يأتيني بِخبْز السُّوق. وَقيل: قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا أى: قوا أَنفسكُم نَارا وقوا أهليكم نَارا بِمَا ذكرنَا، وَهُوَ تَقْدِير الْآيَة.

(5/475)


{وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون (6) يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (7) }
وَقَوله: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَهُوَ حِجَارَة الكبريت.
وَقَوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد} أَي: غِلَاظ الْقُلُوب، شَدَّاد الْأَيْدِي. وَفِي التَّفْسِير: أَن وَاحِدًا مِنْهُم يلقِي سبعين ألفا بدفعة وَاحِدَة فِي النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى لم يخلق فِي قُلُوب الزَّبَانِيَة شَيْئا من الرَّحْمَة ". وَعَن بَعضهم: أَنه يَأْخُذ العَبْد الْكَافِر بعنف شَدِيد، فَيَقُول ذَلِك العَبْد: أما ترحمني؟ ! فَيَقُول: كَيفَ أرحمك، وَلم يَرْحَمك أرْحم الرَّاحِمِينَ.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن الله تَعَالَى يغْضب على الْوَاحِد من عبيده، فَيَقُول للْمَلَائكَة: خذوه فيبتدره مائَة ألف ملك، كلهم يغضبون بغضب الله تَعَالَى، فيجرونه إِلَى النَّار، وَالنَّار أَشد غَضبا عَلَيْهِ مِنْهُم بسبعين ضعفا.
وَقَوله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/476)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم} يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: لَا تعتذروا، أَي: لَا عذر لكم فتعتذروا.
وَقَوله: {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بعملكم فِي الدُّنْيَا.

(5/476)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} قَالَ (الزُّهْرِيّ) : كل مَوضِع فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} افعلوا كَذَا فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام فيهم. وَعَن خَيْثَمَة قَالَ: كل مَا فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَهُوَ فِي التَّوْرَاة يَا أَيهَا الْمَسَاكِين. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله يَقُول: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فارعها سَمعك، فَإِنَّهُ شَيْء تُؤمر بِهِ، أَو شَيْء تنْهى عَنهُ.

(5/476)


{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إِنَّك على كل}
وَقَوله: {تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} قَالَ عمر وَابْن مَسْعُود: هُوَ أَن يَتُوب من الذَّنب ثمَّ لَا يعود إِلَيْهِ أبدا، وَيُقَال: نصُوحًا أَي: صَادِقَة، وَيُقَال: خَالِصَة، وَقيل: محكمَة وَثِيقَة. وَهُوَ مَأْخُوذ من النصح وَهُوَ الْخياطَة، كَأَن التَّوْبَة ترقع خرق الذَّنب فيلتئم، كالخياط يخيط بالشَّيْء فيلتئم. وَقُرِئَ: " نصُوحًا " بِضَم النُّون أَي: ذَات نصح.
وَقَوله: {عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِبَة.
وَقَوله: {ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين.
وَقَوله: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي} أَي: لَا يهينه وَلَا يَفْضَحهُ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى كَرَامَة فِي الْآخِرَة؛ يَعْنِي: يُكرمهُ ويشرفه فِي ذَلِك الْيَوْم، وَلَا يهينه، وَلَا يذله.
وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا مَعَه} أَي: كَذَلِك يَفْعَله بالذين آمنُوا مَعَه.
وَقَوله: {نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم} هُوَ نور الْإِيمَان يكون قدامهم على الصِّرَاط يَمْشُونَ فِي ضوئه. وَفِي التَّفْسِير: أَن لأَحَدهم مثل الْجَبَل، وَلآخر على قدر ظفره ينطفئ مرّة ويتقد أُخْرَى.
وَقَوله: {وبأيمانهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وبأيمانهم كتبهمْ، وَالْآخر: وبأيمانهم نورهم كالمصابيح.
وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا} وَفِي [التَّفْسِير] : أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك حِين يخمد وينطفئ نور الْمُنَافِقين، فَيَقُولُونَ ذَلِك إشفاقا على نورهم.
وَقَوله: {واغفر لنا إِنَّك على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

(5/477)


{شَيْء قدير (8) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (9) ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امرأت نوح وامرأت لوط كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا}

(5/478)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار} أَي: بِالسَّيْفِ.
وَقَوله: {وَالْمُنَافِقِينَ} أَي: بِاللِّسَانِ، وَيُقَال: بالغلظة عَلَيْهِم. قَالَ ابْن مَسْعُود: أَن يلقاهم بِوَجْه مكفهر. وَيُقَال: بِإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، ذكره قوم من التَّابِعين.
وَقَوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} أَي: المنقلب.

(5/478)


ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط} فِي بعض التفاسير: أَن اسْم (إحديهما) كَانَت والهة، وَالْأُخْرَى كَانَت والغة.
وَقَوله: {كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين} أَي: نوح وَلُوط عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَقَوله تَعَالَى: {فَخَانَتَاهُمَا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا؛ فأحد الْأَقْوَال: أَنه الْخِيَانَة بالْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخِيَانَة بالنفاق، كَانَتَا تظهران الْإِيمَان وتسران الْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّالِث: بالنميمة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُنُون لنوح، وَالدّلَالَة على الأضياف للوط، فَكَانَت امْرَأَة نوح تَقول لمن يقْصد نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، ليسمع كَلَامه: إِنَّه مَجْنُون، وَامْرَأَة لوط كَانَت تدل قَومهَا على أضياف لوط لقصد الْفَاحِشَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت بِالنَّهَارِ ترسل، وبالليل تدخن وتوقد نَارا ليعلموا. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ أَي: مَا زنت.
وَقَوله: {فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا} أَي: لم (يدْفَعَا) نوح وَلُوط عَنْهُمَا

(5/478)


{وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (10) وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امرأت فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين (11) وَمَرْيَم ابنت عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} أَي: عَن امرأتيهما. وَالْمرَاد تحذير عَائِشَة وَحَفْصَة، يَعْنِي: أنكما إِن عصيتما رَبكُمَا لم يدْفع رَسُول الله عنكما شَيْئا، كَمَا لم يدْفع نوح وَلُوط عَن امرأتيهما.
وَقَوله: {وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين} أَي: قيل للمرأتين.

(5/479)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)

وَقَوله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن} وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَكَانَت آمَنت بِاللَّه وبموسى عَلَيْهِ السَّلَام سرا ثمَّ أظهرت، فعذبها فِرْعَوْن وعاقبها، وَفِي الْقِصَّة: أَنه وتدها بأَرْبعَة أوتاد من حَدِيد، وَفِي الْقِصَّة: أَن أول من آمَنت امْرَأَة خَازِن فِرْعَوْن، وَيُقَال: ماشطة بنت فِرْعَوْن، فعذبها فِرْعَوْن فَصَبَرت على ذَلِك، فأظهرت حِينَئِذٍ آسِيَة إيمَانهَا.
وَقَوله: {إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} أَي: دَارا.
وَقَوله: {ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من شركه، وَالْآخر: من المضاجعة مَعَه. وَيُقَال: من الْجِمَاع.
وَقَوله: {ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: من قوم فِرْعَوْن.

(5/479)


وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قَوْله تَعَالَى: {وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا} أشهر الْقَوْلَيْنِ أَنه الْفرج بِعَيْنِه. وَالْعرب تَقول: أحصنت فُلَانَة فرجهَا إِذا عفت عَن الزِّنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفرج هَاهُنَا هُوَ الجيب. قَالَ الْفراء: كل خرق فِي درع أَو غَيره فَهُوَ فرج، وَيُقَال: فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " فنفخنا فِي جيبها من رُوحنَا "
وَقَوله: {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها فَحملت بِعِيسَى، وَرُوِيَ أَنه دخل عَلَيْهَا فِي صُورَة شَاب أَمْرَد جعد قطط، وَهِي فِي مدرعة صوف. قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: فِي مدرعتها. وعَلى القَوْل الأول إِذا

(5/479)


{وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين (12) } قُلْنَا إِنَّه الْفرج بِعَيْنِه يصير النفخ فِي جيب درعها كالنفخ فِي فرجهَا بِعَيْنِه.
وَقَوله: {وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا} وَقُرِئَ: " بِكَلِمَة رَبهَا " فَمَعْنَى الْكَلِمَات مَا أخبر الله تَعَالَى من الْبشَارَة بِعِيسَى وَصفته وكرامته على الله وَغير ذَلِك. وَيُقَال: بِكَلِمَات رَبهَا أَي: بآيَات رَبهَا. وَأما قَوْله: {بِكَلِمَة رَبهَا} هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {وَكتابه} أَي: الْإِنْجِيل، وَقُرِئَ: " وَكتبه " أَي: التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {وَكَانَت من القانتين} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ {من القانتين} وَلم يقل: " من القانتات "؟ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كَانَت من قوم قَانِتِينَ. والقنوت هُوَ الطَّاعَة على مَا بَينا. وَيُقَال: قنوتها هَاهُنَا هُوَ صلَاتهَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَهُوَ أَيْضا فعل القانتين على هَذَا القَوْل، وَالله أعلم.

(5/480)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك}
تَفْسِير سُورَة الْملك

وَهِي مَكِّيَّة
روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " إِن سُورَة من الْقُرْآن ثَلَاثُونَ آيَة شفعت لصَاحِبهَا حَتَّى غفر لَهُ، وَهِي {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} ".
وروى أَبُو الزبير عَن جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: {الم تَنْزِيل الْكتاب} ، و {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} قَالَ طَاوس: يفضلان سَائِر السُّور بسبعين حَسَنَة.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا ضرب خباءه على قبر وَهُوَ لَا يحْسب أَنه قبر، فَسمع قَارِئًا: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} حَتَّى ختم السُّورَة، فَأتى النَّبِي فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ المنجية، هِيَ الْمَانِعَة، تنجيه من عَذَاب الْقَبْر " ذكر هَذِه الْأَخْبَار أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي غَيره أَن الزُّهْرِيّ روى عَن حميد ابْن عبد الرَّحْمَن أَن النَّبِي قَالَ: " سُورَة الْملك تجَادل عَن صَاحبهَا يَوْم الْقِيَامَة ".

(6/5)


{وَهُوَ على كل شَيْء قدير (1) الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا}
وروى مرّة الْهَمدَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن رجلا أَتَى فِي قَبره من جوانبه، فَجلت سُورَة من الْقُرْآن تجَادل عَن صَاحبهَا حَتَّى الْجنَّة.
قَالَ مرّة: فَنَظَرت أَنا وخيثمة فَإِذا هِيَ سُورَة الْملك، وَالله أعلم.

(6/6)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

قَوْله تَعَالَى: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ} قد بَينا أَن تبَارك تفَاعل من الْبركَة، وَالْمعْنَى: أَن جَمِيع البركات مِنْهُ تَعَالَى.
وَيُقَال: تبَارك أَي: تعظم وتقدس وَتَعَالَى، وَمِنْه البرك فِي الصَّدْر.
وَقَوله {الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} أَي: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَيُقَال: ملك النُّبُوَّة، يعز بِهِ من اتبعهُ، ويذل بِهِ من خَالفه، حكى ذَلِك عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وَقَوله {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

(6/6)


الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة} أَي: الْمَوْت فِي الدُّنْيَا، والحياة فِي الْآخِرَة.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت أَي: النُّطْفَة فِي الرَّحِم لِأَنَّهَا ميتَة، والحياة هُوَ أَنه نفخ فِيهَا الرّوح من بعد.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت والحياة، أَي: الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: " أَن الله تَعَالَى خلق الْمَوْت على صُورَة كَبْش أغبر، لَا يمر بِشَيْء، وَلَا يطَأ على شَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إِلَّا مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء لَا تمر على شَيْء، وَلَا تطَأ على شَيْء وَلَا تَجِد [رِيحهَا] شَيْء إِلَّا حيى.
قَالَ: وَهِي دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها مد الْبَصَر، وَكَانَ جِبْرِيل رَاكِبًا [عَلَيْهَا] يَوْم غرق فِرْعَوْن، وَمن تَحت حافرها أَخذ السامري القبضة.
وَقَالَ بَعضهم: خلق الدُّنْيَا للحياة ثمَّ للْمَوْت، وَخلق الْآخِرَة للجزاء ثمَّ للبقاء.
وَقَوله {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} أَي: ليختبركم فَيظْهر مِنْكُم أَعمالكُم الْحَسَنَة وَأَعْمَالكُمْ السَّيئَة ويجازكم عَلَيْهَا.
وَقَوله {أحسن عملا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أتم عقلا وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَهُوَ

(6/6)


{وَهُوَ الْعَزِيز الغفور (2) الَّذِي خلق سبع سموات طباقا مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور (3) ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين}
قَول مأثور.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أحسن عملا أخْلص عملا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أحسن عملا أَي: أزهد فِي الدُّنْيَا وأترك لَهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن وسُفْيَان الثَّوْريّ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أحسن عملا أَي: أَشدّكُم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنُكُمْ لَهَا اسْتِعْدَادًا.
وَيُقَال: أَشدّكُم لله مَخَافَة.
وَيُقَال: أبصركم بعيوب نَفسه.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الغفور} قد بَينا.

(6/7)


الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق سبع سموات طباقا} أَي: بَعْضهَا فَوق بعض، بَين كل سماءين أَمر من أمره، وَخلق من خلقه.
وَقَوله {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} أَي: من خلل وعيب.
وَيُقَال: من اضْطِرَاب وتباين.
وَقُرِئَ " تفوت " وَاخْتَارَهُ أَبُو عبيد.
قَالَ الْفراء: تفوت وتفاوت بِمَعْنى وَاحِد كَمَا يُقَال: تعهد وتعاهد وَغير ذَلِك.
وَيُقَال: تفوت أَي: لَا تفوت بعضه بَعْضًا.
وَقَوله: {فَارْجِع الْبَصَر} أَي: رد الْبَصَر.
وَقَوله: {هَل ترى من فطور} أَي: صدوع وشقوق وخروق.
وَيُقَال: فطر نَاب الْبَعِير أَي: انْشَقَّ.

(6/7)


ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

وَقَوله: {ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين} أَي: مرَّتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مرّة بعد مرّة، وَإِن زَاد على الْمَرَّتَيْنِ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: قد قلت لَك هَذَا القَوْل مرّة بعد مرّة، وَقد كَانَ قَالَ لَهُ مَرَّات، ذكر الْقفال.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا ذكر الْمَرَّتَيْنِ، لِأَن الْإِنْسَان فِي الْمرة الثَّانِيَة يكون أحد بصرا وَأكْثر بصرا وَأكْثر نظرا.
وَيُقَال: الكرة الأولى بِالْعينِ.
وَالْأُخْرَى بِالْقَلْبِ.
قَالَ الْفراء: يجوز أَن يكون معنى كرتين كرة وَاحِدَة وأنشدوا:

(6/7)


{يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خاسئا وَهُوَ حسير (4) وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}
(مهمهين قذفين مرَّتَيْنِ ... قطعته [بالسمت] لَا بالسمتين)
وَأَرَادَ مهمها وَاحِدًا.
وَقَوله: {يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر} أَي: يرجع إِلَيْك الْبَصَر {خاسئا} أَي: صاغرا {وَهُوَ حسير} أَي: كليل يَعْنِي ضَعِيف عَن إِدْرَاك مَا أَرَادَهُ من طلب الْعَيْب والخلل.
وَيُقَال: دَابَّة حسرى أَي: كالة.
قَالَ الشَّاعِر:
(بِهِ جيف الحسرى فَأَما عظامها ... فبيض وَأما جلدهَا فصليب)
قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَنه يُبَالغ فِي النّظر، فَرجع الْبَصَر إِلَيْهِ خاسئا وَلم ينل مَا أَرَادَهُ، وَلم ير عَيْبا وخللا.
وَقَوله: {خاسئا} من ذَلِك قَوْلهم للكلب اخْسَأْ وابعد، قَالَ الفرزدق فِي جرير:
(اخْسَأْ إِلَيْك جَرِيرًا يَا معر ... نلنا السَّمَاء نجومها وهلالها)

(6/8)


وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} أَي: بسرج، وسمى النُّجُوم مصابيح لإضاءتها.
وَقَوله: {وجعلناها رجوما للشياطين} أَي: رجمنا بهَا الشَّيَاطِين عَن استراق السّمع.
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: إِن النَّجْم لَا يطلع لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلكنه زِينَة الدُّنْيَا ورجوم الشَّيَاطِين.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: جعلهَا زِينَة للسماء الدُّنْيَا، ورجوما للشياطين، وهاديا للنَّاس فِي الطّرق، فَمن تكلّف غير ذَلِك فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.

(6/8)


{وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير (5) وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (6) إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا وَهِي تَفُور (7) تكَاد تميز من الغيظ كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير (8) قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير (9) } .
وَقَوله تَعَالَى: {وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير} أَي: المسعرة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن السعير هُوَ الطَّبَق الرَّابِع من جَهَنَّم.

(6/9)


وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)

وَقَوله: {وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم} إِنَّمَا سمى جَهَنَّم جهنما لبعد قعرها، تَقول الْعَرَب: ركية جهنام أَي: بعيدَة القعر.
وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع.

(6/9)


إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)

قَوْله: {إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا} أَي: لِجَهَنَّم، والشهيق: أول صَوت الْحمار.
وَقيل: الشهيق.
أول صَوته، والزفير.
آخر صَوته.
وَقيل: الشهيق فِي الصَّدْر، والزفير فِي الْحلق.
وَقيل: إِن الشهيق من الْكفَّار حِين يدْخلُونَ جَهَنَّم.
وَالْقَوْل الأول أظهر فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {وَهِي تَفُور} قَالَ ابْن مَسْعُود: تغلي غليان الْقدر بِمَا فِيهِ.
وَعَن مُجَاهِد: تغلي غليان المَاء الْكثير بالحب الْقَلِيل.

(6/9)


تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

وَقَوله: {تكَاد تميز من الغيظ} أَي: تتقد وتتفرق.
يُقَال: فلَان امْتَلَأَ غيظا حَتَّى يكَاد يتقد.
وغيظها حنقا على أَعدَاء الله وانتقامها.
وَقَوله: {كلما ألْقى فِيهَا فَوْج} أَي: قوم {سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير} أَي: رَسُول.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الرُّسُل من الْإِنْس، وَالنّذر من الْجِنّ.
وَهُوَ قَول مهجور.

(6/9)


قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير} أَي: عَظِيم.
وَيُقَال: خاطئين.

(6/9)


{وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير (10) فاعرفوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير (11) إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} .

(6/10)


وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل} أَي: نسْمع سَماع من يُمَيّز ويتفكر، ونعقل عقل من يتدبر وَينظر {مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَالْمعْنَى: أَنا لم نسْمع الْحق وَلم نعقله أَي: لم ننتفع بأسماعنا وعقولنا.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لكل شَيْء دعامة، ودعامة الدّين الْعقل ".
وروى أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل يكون من أهل الْجِهَاد وَأهل الصَّلَاة وَأهل الصّيام، وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وَإِنَّمَا يجازى يَوْم الْقِيَامَة على قدر عقله " وَهُوَ حَدِيث حسن الْإِسْنَاد.

(6/10)


فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَرفُوا بذنبهم} أَي: بِذُنُوبِهِمْ، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقَوله: {فسحقا لأَصْحَاب السعير} أَي: بعدا، يُقَال: مَكَان سحيق أَي: بعيد.
وَعَن مُجَاهِد: السحق اسْم وَاد فِي جَهَنَّم.

(6/10)


إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} أَي: بالوعد والوعيد الَّذِي غَابَ عَنهُ، وَيُقَال: بِالْجنَّةِ وَالنَّار، وَيُقَال: فِي الخلوات.

(6/10)


{لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (12) وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (13) أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (14) هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} .
وَقَوله: {لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} أَي: عَظِيم.

(6/11)


وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)

قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانَ بَعضهم يَقُول لبَعض: أَسرُّوا بقولكم حَتَّى لَا يسمع رب مُحَمَّد فيخبره قَوْلكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.
قَالَ الْحسن: يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة، وَيعلم من الْعَلَانِيَة مَا يعلم من السِّرّ.

(6/11)


أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

قَوْله تَعَالَى: {أَلا يعلم من خلق} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار والتوبيخ، وَالْمعْنَى: أَلا يعلم من فِي الصُّدُور من خلق الصُّدُور.
وَيُقَال: أَلا يعلم مَا خلق " من " بِمَعْنى " مَا "، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَي: وَمن بناها.
وَقَوله: {وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} أَي: اللَّطِيف فِي علمه، يعلم مَا يظْهر وَمَا يسر وكل مَا دق، يُقَال لطيف، وَيُقَال: الْخَبِير هُوَ الْعَالم.

(6/11)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} أَي: مذللة، وتذليلها: تسهيل السّير فِيهَا والقرار عَلَيْهَا.
وَقَوله: {فامشوا فِي مناكبها} أَي: فِي جوانبها، وَيُقَال: فِي فجاجها، وَيُقَال: فِي طرقها، وَقيل: فِي جبالها.
وَعَن بشير بن كَعْب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ هَذِه السُّورَة فَبلغ هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لجارية لَهُ: إِن عرفتي معنى قَوْله: {فِي مناكبها} فَأَنت حرَّة، فَقَالَت: فِي جبالها.
فشح الرجل بالجارية وَجعل يسْأَل أَبَا الدَّرْدَاء فَقَالَ: دع مَا يريبك إِلَى مَالا يريبك خلها.
وَحكى قَتَادَة عَن أبي الْجلد قَالَ: الأَرْض كلهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ، اثْنَا عشر ألفا للسودان، وَثَمَانِية آلَاف للروم، وَثَلَاثَة آلَاف للعجم، وَألف للْعَرَب.

(6/11)


{فامشوا فِي مناكبها وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور (15) أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور (16) أم أمنتم من فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا فستعلمون كَيفَ نَذِير (17) وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فَكيف كَانَ نَكِير (18) أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} .
وَقَوله: {وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور} أَي: فِي الْآخِرَة.

(6/12)


أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)

قَوْله تَعَالَى: {أأمنتم من فِي السَّمَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي: الله.
وَقَوله: {أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور} أَي: تضطرب وتدور، وَيُقَال: تمور أَي: تخسف بكم حَتَّى تجعلكم فِي أَسْفَل الْأَرْضين، قَالَ الشَّاعِر:
(رمين فأقصدن الْقُلُوب وَلنْ ترى ... دَمًا مائرا إِلَّا جرى فِي الحيازم)
أَي: سَائِلًا.

(6/12)


أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)

قَوْله تَعَالَى: {أم أمنتم من فِي السَّمَاء} أَي: أأمنتم ربكُم {أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَيُقَال: حِجَارَة فيهلككم بهَا.
والحصباء الْحِجَارَة.
وَقَوله: {فستعلمون كَيفَ نَذِير} أَي: إنذاري، وَالْمعْنَى: كنت محقا فِي إنذاري إيَّاكُمْ الْعَذَاب.

(6/12)


وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فيكف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري.

(6/12)


أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات} يُقَال: صف الطير جنَاحه إِذا بَسطه، وَقَبضه إِذا ضربه، وَالْمرَاد من الْقَبْض: هُوَ ضرب الجناحين بالجنبين، وَهَذَا الْقَبْض والبسط فِي بعض الطُّيُور لَا فِي جَمِيع الطُّيُور، فَإِن بَعْضهَا يقبض بِكُل حَال، وَبَعضهَا يبسط تَارَة وَيقبض أُخْرَى.
وَقَوله: {مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن} يَعْنِي: مَا يمسكهن عَن الْوُقُوع إِلَّا الرَّحْمَن.
قَالُوا: والهواء للطير بِمَنْزِلَة المَاء للسابح، فَهُوَ يسبح فِي الْهَوَاء بجناحيه كَمَا يسبح الْإِنْسَان فِي المَاء بأطرافه.
وَقَوله: {إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} أَي: عليم.

(6/12)


( {19) أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم من دون الرَّحْمَن إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور (20) أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه بل لجوا فِي عتو ونفور (21) أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم (22) } .

(6/13)


أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم} مَعْنَاهُ: أَيْن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم يمنعكم من عَذَاب الله؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ وَالْإِنْكَار.
وَقَوله تَعَالَى: {إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور} أَي: مَا الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور.

(6/13)


أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)

قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم} الْمَعْنى: أَن الله هُوَ الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه، فَمن ذَا الَّذِي يرزقكم سواهُ؟ .
وَقَوله: {بل لجوا فِي عتو ونفور} العتو هُوَ التَّمَادِي فِي الْكفْر، والنفور هُوَ التباعد عَن الْحق.
وَيُقَال الْمَعْنى: أَن اللجاج حملهمْ على الْكفْر والنفور عَن الْحق، فَإِن الدَّلَائِل أظهر وَأبين من أَن تخفى على أحد، وَالْعرب تسمي كل سَفِيه متمرد متماد فِي الْبَاطِل عاتيا.

(6/13)


أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} فِي الضَّلَالَة لَا يبصر الْحق.
وَيُقَال: مكبا على وَجهه أَي: لَا ينظر من بَين يَدَيْهِ وَلَا عَن يَمِينه وَلَا عَن يسَاره وَلَا من خَلفه.
وَقيل: إِن هَذَا فِي الْآخِرَة، فَإِن الله تَعَالَى يحْشر الْكفَّار على وُجُوههم على مَا نطق بِهِ الْقُرْآن فِي غير هَذَا الْموضع، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الَّذِي قدر أَن يُمشيهمْ على أَرجُلهم قَادر على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ".
وَقَوله: {أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: يمشي فِي طَرِيق الْحق بِنور الْهدى.
وَيُقَال: ينظر من بَين يَدَيْهِ وَعَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَمن خَلفه.
وَقيل: هُوَ فِي الْآخِرَة.
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: قَوْله {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} هُوَ أَبُو جهل، وَقَوله: {أم من يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} هُوَ عمار بن يَاسر.
وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه حَمْزَة بن عبد الْمطلب وكنيته أَبُو عمَارَة.

(6/13)


{قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (23) قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (24) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (25) قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون (27) } .

(6/14)


قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: قل شكركم لهَذِهِ النعم.

(6/14)


قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

قَوْله تَعَالَى (قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض) أَي: خَلقكُم فِي الأَرْض {وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: فِي الْآخِرَة.

(6/14)


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: الْقِيَامَة.

(6/14)


قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله} أَي: علم السَّاعَة عِنْد الله.
وَقَوله: {وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين} أَي: مُنْذر بَين النذارة.

(6/14)


فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

قَوْله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة} قَالَ الْمبرد وثعلب: أَي: رَأَوْا الْعَذَاب حَاضرا.
وَقيل: قَرِيبا.
وَقَوله: {سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا} أَي: تبين السوء والكآبة فِي وجهوهم.
وَيُقَال: اسودت وُجُوههم.
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " تدعون " بِغَيْر تَشْدِيد.
وَعَن بَعضهم: أَن تدعون وتدعون بِمَعْنى وَاحِد، فَقَوله: {تدعون} أَي: تدعون الله بِهِ.
وَقَوله: {تدعون} أَي: تتداعون بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: {قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا} أَي: نصيبنا من الْعَذَاب.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تدعون افتعال من الدُّعَاء.
وَعَن بَعضهم: تدعون أَي: تكذبون.
وَيُقَال: تَسْتَعْجِلُون

(6/14)


{قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم (28) قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين (29) قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين (30) } . وتمترون وتختلفون.
وَقيل: تدعون تمنون.
تَقول الْعَرَب لغيره: ادْع مَا شِئْت أَي: تمن، وَهَذَا القَوْل يقرب من القَوْل الأول.

(6/15)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْكفَّار يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه أَكلَة رَأس، يهْلكُونَ عَن قريب، وكل يرجون الأباطيل فِي حق الرَّسُول وَأَصْحَابه، فَقَالَ الله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} يَعْنِي: إِن نجونا أَو هلكنا {فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم} أَي: فَمن يجيركم من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد كَفرْتُمْ بِهِ.

(6/15)


قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين} أَي: خطأ بَين، وتباعد من الْحق وضلال عَنهُ.
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا} أَي: غائرا، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا.
قَالَ قَتَادَة: وَيُقَال: لَا تناله الدلاء، قَالَه سعيد بن جُبَير.
وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بِئْر زَمْزَم وبئر مَيْمُون، وهما بِمَكَّة.

(6/15)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

وَقَوله: {فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} قَالَ ثَعْلَب: أَي ظَاهر.
وَهُوَ مَنْقُول عَن الْحسن وَقَتَادَة وَمُجاهد وَغَيرهم.
وَيُقَال: بِمَاء عذب، وَيُقَال: بِمَاء جَار.
يَعْنِي: أَن الله هُوَ الْقَادِر أَن يَأْتِي بِهِ، وَلَا تصلونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِكُمْ.

(6/15)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْقَلَم

وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين.
وَعَن بَعضهم: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.

(6/16)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)

قَوْله تَعَالَى: {ن} اخْتلف القَوْل فِيهِ؛ قَالَ مُجَاهِد: هِيَ السَّمَكَة الَّتِي عَلَيْهَا قَرَار الْأَرْضين.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن جَمِيع الْمِيَاه تنصب من شدقها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اسْم من أَسمَاء السُّورَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه حرف من حُرُوف التهجي.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن " الر " و " حم " و " ن " مَجْمُوع من اسْم الرَّحْمَن.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن النُّون هِيَ الدواة، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَفِيه خبر مأثور بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله خلق أول مَا خلق الْقَلَم، ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة، ثمَّ قَالَ للقلم: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ ! فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يكون وَمَا كَانَ من عمل وَأجل ورزق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
فَكتب الْقَلَم وَختم الله على فيِّ الْقَلَم فَلم ينْطق، وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ خلق الْعقل، وَقَالَ لَهُ: مَا خلقت خلقا أعجب إِلَيّ مِنْك، وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت، ولأنقصنك فِيمَن أبغضت، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " أكمل النَّاس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بِطَاعَتِهِ، وأنقص النَّاس عقلا أطوعهم للشَّيْطَان وأعملهم بِطَاعَتِهِ ".

(6/16)


{ن والقلم وَمَا يسطرون (1) مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون (2) وَإِن لَك لأجرا} .
قَوْله {والقلم} فِي التَّفْسِير: أَنه خلق من نور، وَطوله مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَفِي خبر عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الدواة والقلم، الْأَكْثَرُونَ أَنه الدواة والقلم الَّذِي كتب بِهِ الذّكر فِي السَّمَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الدواة والقلم الَّذِي يكْتب بِهِ بَنو آدم.
وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه.
وَقَالَ قَتَادَة: لَوْلَا الْقَلَم مَا قَامَ لله دين، وَلَا كَانَ لِلْخلقِ عَيْش.
وَقَوله: {وَمَا يسطرون} أَي: مَا يَكْتُبُونَ من أَعمال بني آدم يَعْنِي: الْمَلَائِكَة.
وَحكى النقاش عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكفَّار لَا يكْتب لَهُم حَسَنَات وَلَا سيئات، وَإِنَّمَا يكْتب ذَلِك للْمُؤْمِنين وَمَا يَفْعَلُونَ من الْحَسَنَات فِي الدُّنْيَا ويكافئون عَلَيْهَا، وَمَا يَفْعَلُونَ من السَّيِّئَات، فالشرك أعظم من ذَلِك كُله.

(6/17)


مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)

قَوْله تَعَالَى: {مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون} هَذَا مَوضِع الْقسم، وَهُوَ جَوَاب لقَولهم على مَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون} .
وَقَوله: {بِنِعْمَة رَبك} أَي: برحمة رَبك.
وَيُقَال: بإنعامه عَلَيْك، كَأَنَّهُ نفى عَنهُ الْجُنُون بِمَا أنعم الله عَلَيْهِ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: أَنْت عَاقل أَو غَنِي بِنِعْمَة الله عَلَيْك.

(6/17)


وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)

وَقَوله: {وَإِن لَك لأجرا غير ممنون} أَي: غير مُنْقَطع.
وَيُقَال: غير مَحْسُوب.
وَيُقَال: غير ممتن بِهِ عَلَيْك.

(6/17)


{غير ممنون (3) وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم (4) } .

(6/18)


وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

وَقَوله: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} أَي: على الْخلق الَّذِي أدبك الله بِهِ مِمَّا نزل بِهِ الْقُرْآن من الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وَالْعَفو، والتجاوز، وصلَة الْأَرْحَام، وَإِعْطَاء النصفة، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي حَدِيث سعد بن هِشَام أَنه سَأَلَ عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن خلق النَّبِي فَقَالَت: " كَانَ خلقه الْقُرْآن ".
أَي: كَانَ مُوَافقا لما نزل بِهِ الْقُرْآن.
وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا قَالَت: " لم يكن رَسُول الله فحاشا وَلَا متفحشا، وَلَا يُجزئ السَّيئَة بِمِثْلِهَا، وَلَكِن يعْفُو ويصفح ".
وَقَالَ السّديّ: وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم أَي: على الْإِسْلَام.
وَقَالَ زيد بن أسلم: على دين عَظِيم، وَهُوَ الدّين الَّذِي رضيه الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ أحب الْأَدْيَان إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا، فَمن جَاءَ بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " بعثت لأتمم مصَالح

(6/18)


{فستبصر ويبصرون (5) بأيكم الْمفْتُون (6) } . الْأَخْلَاق ".
وَقيل: على خلق عَظِيم أَي: طبع كريم.

(6/19)


فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)

قَوْله: {فستبصر ويبصرون بأيكم الْمفْتُون} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْبَاء صلَة.
وَمَعْنَاهُ: أَيّكُم الْمفْتُون، وَأنْشد شعرًا:
(نضرب بِالسَّيْفِ ونرجوا بالفرج ... )
أَي: الْفرج.
وَأما الْفراء والزجاج وَسَائِر النَّحْوِيين لم يرْضوا هَذَا القَوْل، وَذكروا قَوْلَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم الْفِتْنَة يُقَال: مَا لفُلَان مَعْقُول وَلَا مجلود أَي: عقل وَلَا جلد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيكم الْمفْتُون أَي: فِي أَيّكُم الْمفْتُون (يَعْنِي) : فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه، أَو فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا أَبُو جهل وذووه.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تبصرون يَوْم الْقِيَامَة، وتعلمون أَن الْمَجْنُون كَانَ فِيكُم، لَا فِي رَسُول الله وَأَصْحَابه أَي: فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه.
وَذكر النّحاس قَوْلَيْنِ أَيْضا قَالَ: معنى قَوْله {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم فتْنَة الْمفْتُون مثل قَوْله

(6/19)


{إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (7) فَلَا تُطِع المكذبين (8) ودوا لَو تدهن فيدهنون (9) وَلَا تُطِع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء} . تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.

(6/20)


إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين} ظَاهر الْمَعْنى.

(6/20)


فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تُطِع المكذبين} يَعْنِي: المكذبين بآيَات الله.

(6/20)


وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

وَقَوله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تضعف فِي أَمرك فيضعفون، أَو تلين لَهُم فيلينون.
والمداهنة معاشرة فِي الظَّاهِر، ومحالمة من غير مُوَافقَة الْبَاطِن.
وَقَالَ القتيبي فِي معنى الْآيَة: إِن الْكفَّار قَالُوا للنَّبِي نعْبد مَعَك إلهك مُدَّة، وَتعبد مَعنا إلهنا مُدَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تميل إِلَى مُرَادهم فيميلون إِلَى مرادك.

(6/20)


وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع كل حلاف مهين} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة.
وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الْأسود بن عبد يَغُوث.
وَعَن بَعضهم: هُوَ الْأَخْنَس بن شريق.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم.
وَقَوله: {كل حلاف} أَي: كثير الْحلف.
وَقَوله: {مهين} أَي: حقير، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: قلَّة الرَّأْي والتمييز.

(6/20)


هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)

وَقَوله: {هماز} أَي: (عتاب) مغتاب طعان فِي النَّاس.
وَقَوله: {مشاء بنميم} أَي: بالنميمة، وَهُوَ نقل الحَدِيث من قوم إِلَى قوم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة حُذَيْفَة أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات) أَي: نمام.
وَعنهُ

(6/20)


{بنميم (11) مناع للخير مُعْتَد أثيم (12) عتل} . عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " شرار النَّاس المشاءون بالنميمة الباغون للبراء الْعَنَت ".
وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: يفْسد النمام فِي يَوْم مَا لَا يُفْسِدهُ السَّاحر فِي شهر.

(6/21)


مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)

وَقَوله: {مناع للخير} أَي: بخيل: وَيُقَال: مناع من الْإِسْلَام.
وَكَانَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ لِبَنِيهِ وَأَهله: من أسلم مِنْكُم قطعت مِنْهُ رفدي ورفقي.
وَقَوله: {مُعْتَد} أَي: متجاوز فِي الظُّلم.
وَقَوله: {أثيم} أَي: كثير الْإِثْم.

(6/21)


عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)

قَوْله: {عتل} أَي: الْفَاحِش الْخلق.
وَقيل: الجافي الغليظ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من يعْمل السوء وَيعرف بِهِ.
أوردهُ النقاش.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا أنبئكم بِأَهْل النَّار؟ كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بِاللَّيْلِ حمَار بِالنَّهَارِ، وعالم بالدنيا جَاهِل بِالآخِرَة ".
فَمَعْنَى الجعظري: هُوَ الأكول الشروب الظلوم، وَهُوَ كالعتل.
والجواظ: هُوَ الْجِمَاع المناع، ذكره شَدَّاد بن أَوْس، وَقَالَ ثَعْلَب: الجواظ: هُوَ الْكثير اللَّحْم المختال فِي مشيته.
وَيُقَال: فلَان جظ، أَي: ضخم.

(6/21)


{بعد ذَلِك زنيم (13) أَن كَانَ ذَا مَال وبنين (14) إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (15) سنسمه على الخرطوم (16) إِنَّا بلوناهم}
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " تبْكي السَّمَاء من عبد أصح الله جِسْمه، وأرحب جَوْفه، وَأَعْطَاهُ مقضما ثمَّ يكون ظلوما، وتبكي السَّمَاء من شيخ زَان، وتكاد الأَرْض لَا تقله ".
وَقَوله: {بعد ذَلِك زنيم} أَي: دعِي.
وَقيل: ملصق بالقوم وَلَيْسَ مِنْهُم.
وَيُقَال: الَّذِي لَهُ زنمة فِي الشَّرّ يعرف بهَا مثل زنمة الشَّاة.
قَالَ حسان فِي الزنيم:
(زنيم تداعاه الرِّجَال زِيَادَة ... كَمَا زيد فِي عرض الْأَدِيم الأكاريع)

(6/22)


أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)

قَوْله تَعَالَى: {أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} وَقُرِئَ: " أأن كَانَ ".
فَقَوله: {أَن} أَي: لِأَن كَانَ ذَا مَال وبنين يفعل كَذَا وَيَقُول كَذَا أَي: لأجل أَنه.
وَقَوله: " أأن كَانَ " أَي: وَلَا تطعه، وَإِن كَانَ ذَا مَال وبنين.

(6/22)


إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

وَقَوله: {إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} قد بَينا.
والأساطير وَاحِدهَا أسطورة.
وَقَالَ الْكسَائي: ترهات من الْكَلَام لَا نظام لَهَا.

(6/22)


سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

وَقَوله تَعَالَى: {سنسمه على الخرطوم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة والمبرد وَغَيرهمَا: الخرطوم: الْأنف.
وَمَعْنَاهُ: يَجْعَل على أَنفه سمة يعرف بهَا أَنه من أهل النَّار.
قَالَ جرير:
(لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعَلى البعيث جدعت أنف الأخطل)
وَيُقَال: معنى قَوْله: {سنسمه على الخرطوم} أَي: سنسود وَجهه، (وَوصف) الْأنف مَوضِع الْوَجْه لِأَنَّهُ مِنْهُ.
وَقيل: يلصق بِهِ عارا ومسبة وشيئا لَا يُفَارِقهُ أبدا.

(6/22)


إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا بلوناهم} أَي: أهل مَكَّة، وَذَلِكَ حِين دَعَا رَسُول الله

(6/22)


{كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة إِذْ أَقْسمُوا ليصرمنها مصبحين (17) وَلَا يستثنون (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك وهم نائمون (19) } وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنى يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الْجُوع حَتَّى أكلُوا العلهز وَالْعِظَام الْمُحْتَرِقَة ".
وَقَوله: {كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة} فِي أَكثر التفاسير أَن هَذَا رجل شيخ بِالْيمن كَانَ لَهُ بنُون، وَله بُسْتَان يتَصَدَّق مِنْهُ على الْمَسَاكِين، وَينْفق مِنْهُ على نَفسه وَأَوْلَاده.
وَيُقَال: كَانَ يتَصَدَّق بِالثُّلثِ، وَينْفق على نَفسه وَأَوْلَاده الثُّلُث، وَيرد الثُّلُث فِي عمَارَة الْجنَّة، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخ قَالَ بنوه: الْعِيَال كثير، والدخل قَلِيل وَلَا يَفِي بِإِعْطَاء الْمَسَاكِين، فتوافقوا على أَن يذهبوا إِلَى الْبُسْتَان حِين يُصْبِحُونَ على سدفة من اللَّيْل، فيصرموا ويقطعوا قبل أَن يعلم الْمَسَاكِين.
وَكَانَ الْمَسَاكِين قد اعتادوا الْحُضُور عِنْد الْجذاذ والصرام؛ فحين اتَّفقُوا على ذَلِك أرسل الله تَعَالَى نَارا من السَّمَاء فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَاحْتَرَقَ الْبُسْتَان وَالْأَشْجَار، وَيُقَال: إِن هَذَا الرجل هُوَ رجل من ثَقِيف.
وَقَوله: {إِذا أَقْسمُوا} أَي: حلفوا.
وَقَوله: {ليصرمنها مصبحين} أَي: يقطعون فِي الْوَقْت الَّذِي قُلْنَا.

(6/23)


وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)

وَقَوله: {وَلَا يستثنون} أَي: لم يَقُولُوا: إِن شَاءَ الله.

(6/23)


فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)

وَقَوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك} أَي: طرق طَارق من الْعَذَاب، وَهِي النَّار الَّتِي أرسلها الله تَعَالَى.
وَالْعرب لَا تسْتَعْمل الطَّائِف إِلَّا فِي الْعَذَاب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى أَمر ملكا حَتَّى اقتلع تِلْكَ الْجنَّة بأشجارها وغروسها فوضعها فِي مَوضِع الطَّائِف الْيَوْم.
وَقَوله: {وهم نائمون} ذكرنَا.

(6/23)


{فَأَصْبَحت كالصريم (20) فَتَنَادَوْا مصبحين (21) أَن اغدوا على حَرْثكُمْ إِن كُنْتُم صارمين (22) فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون (23) أَن لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين (24) } .

(6/24)


فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)

قَوْله: {فَأَصْبَحت كالصريم} أَي: كالليل المظلم.
وَيُقَال: كالنهار الَّذِي لَا شَيْء فِيهِ.
وَالْعرب تسمي العامر من الأَرْض نَهَارا لبياضه، والغامر لَيْلًا لسواده وخضرته.
والصريم من الأضداد، هُوَ اسْم لِليْل وَالنَّهَار جَمِيعًا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يقطع عَن صَاحبه.
وَيُقَال: كالصريم أَي: المصروم فَاعل بِمَعْنى مفعول يَعْنِي: أَنه لم يبْق شَيْء فِيهَا.

(6/24)


فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

وَقَوله: {فَتَنَادَوْا مصبحين} أَي: نَادَى بَعضهم بَعْضًا عِنْد الصَّباح.

(6/24)


أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

وَقَوله: {أَن اغدوا على حَرْثكُمْ} أَي: اقصدوا حَرْثكُمْ.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت لَهُم حروث وأعناب.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} أَي: قاطعين.
يُقَال: فِي الْعِنَب الصرام، وَفِي الزَّرْع الْحَصاد.
قَالَ الشَّاعِر:
(غَدَوْت عَلَيْهِ غدْوَة فَوَجَدته ... قعُودا عَلَيْهِ بالصريم عواذله)
والصريم هَا هُنَا: هُوَ الجرة السَّوْدَاء.
وَقد ذكره ابْن فَارس فِي معنى الصريم الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قبل.
وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: خرجت عنق من النَّار من جَوف وَادِيهمْ فأحرقت جنتهم.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} قَالَ مُجَاهِد: المُرَاد مِنْهُ صرام الْعِنَب.
وَكَانَ حرثهم الْعِنَب.

(6/24)


فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)

قَوْله: {فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون} أَي: يَتَكَلَّمُونَ سرا وخفية، وَكَانَ كَلَامهم لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين أَي: لَا تتركوا الْمَسَاكِين [يدْخلُونَ] عَلَيْكُم.

(6/24)


{وغدوا على حرد قَادِرين (25) فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون (26) بل نَحن محرومون (27) قَالَ أوسطهم ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِن كُنَّا ظالمين} .

(6/25)


وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)

وَقَوله: {وغدوا على حرد قَادِرين} أشهر الْأَقَاوِيل أَن مَعْنَاهُ: على حسد، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَمُجاهد وَالْحسن وَجَمَاعَة.
وَعَن الشّعبِيّ وسُفْيَان أَنَّهُمَا قَالَا: على غضب.
أَي: على الْمَسَاكِين.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " على حرد " أَي: على منع.
يُقَال: حاردت السّنة فَلَيْسَ فِيهَا مطر، وحاردت النَّاقة إِذا لم يكن بهَا لبن.
وَمعنى الْمَنْع هُوَ مَا عقدوه من منع الْمَسَاكِين.
وَعَن الْحسن فِي رِوَايَة: على حرص.
وَقيل: على قصد.
قَالَ الشَّاعِر:
(أقبل سيل جَاءَ من أَمر الله ... يحرد حرد الْجنَّة المغلة)
أَي: يقْصد.
وَعَن السّديّ: أَن الحرد اسْم جنتهم.
وَقَوله: {قَادِرين} أَي: قَادِرين عِنْد أنفسهم على الصرام.
وَقيل: " قَادِرين " أَي: على أَمر أسسوه بَينهم.

(6/25)


فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون} يَعْنِي: أَنهم لما رَأَوْا مَوضِع الْجنَّة وَلَيْسَ فِيهَا شجر وَلَا نَبَات قَالُوا: إِنَّا لضالون أَي: أَخْطَأنَا طَرِيق جنتنا.

(6/25)


بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)

وَقَوله: {بل نَحن محرومون} مَعْنَاهُ: أَنهم تنبهوا على الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم لم يخطئوا الطَّرِيق فَقَالُوا: بل نَحن محرومون أَي: نزل الْعَذَاب وحرمنا ثمار جنتنا.

(6/25)


قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أوسطهم} أَي: خَيرهمْ وأعدلهم.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَي: عدلا خيارا.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: أعقلهم.
وَقَوله: {ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون} أَي: هلا قُلْتُمْ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوضع التَّسْبِيح هَا هُنَا مَوضِع الْمَشِيئَة؛ لِأَن التَّسْبِيح هُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن كل سوء.
وَقَوله: إِن شَاءَ الله فِيهِ معنى التَّنْزِيه، وَهُوَ أَنه لَا يملك أحد فعل شَيْء إِلَّا بِمَشِيئَة، فينزه أَن

(6/25)


( {29) فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون (30) قَالُوا يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين (31) عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون (32) كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (33) إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنا النَّعيم (34) } .
يكون شَيْء فِي ملكه إِلَّا أَن يُريدهُ.
وَعَن عِكْرِمَة: أَنه كَانَ استثناؤهم هُوَ التَّسْبِيح يَعْنِي: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَكَان قَوْلنَا إِن شَاءَ الله: سُبْحَانَ الله.

(6/26)


قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)

وَقَوله: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أَي: بِمَنْع الْمَسَاكِين.

(6/26)


فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)

وَقَوله: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون} أَي: يلوم بَعضهم بَعْضًا، فَيَقُول هَذَا لذاك: أَنْت فعلت والذنب لَك، وَيَقُول ذَلِك لصَاحبه مثله.

(6/26)


قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)

وَقَوله: {قَالُوا يَا ويلنا} دعوا بِالْوَيْلِ على أنفسهم.
وَقَوله: {إِنَّا طنا طاغين} أَي: ظالمين.

(6/26)


عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)

وَقَوله: {عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا} هَذَا إِخْبَار عَن تَوْبَتهمْ وندامتهم، وسؤالهم من الله تَعَالَى أَن يبدلهم بجنتهم خيرا مِنْهَا فيعطوا حق الْمَسَاكِين.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى قبل تَوْبَتهمْ وَأَعْطَاهُمْ جنَّة خيرا مِنْهَا.
وَالله أعلم.
وَقَوله: {إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون} أَي: بسؤالنا.

(6/26)


كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

وَقَوله: {كَذَلِك الْعَذَاب} أَي: كَذَلِك عَذَاب الدُّنْيَا.
وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: عَذَاب الْآخِرَة.
وَيُقَال: كَمَا عذبنا هَؤُلَاءِ وأنزلنا بهم، كَذَلِك نعذب قُريْشًا وننزله بهم.
وروى فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أنزل الْعَذَاب بهم يَوْم بدر، فَإِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بدر قَالُوا: لنقتلنهم ولنقتلن مُحَمَّدًا ولنأسرنهم، وَنَرْجِع إِلَى مَكَّة فنطوف بِالْبَيْتِ ونحلق رءوسنا، وَنَشْرَب الْخمر، وتعزف على رءوسنا القيان، وحلفوا على ذَلِك، فأخلف الله ظنهم وَنزل بهم مَا نزل من الْقَتْل والأسر.

(6/26)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)

قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنَّات النَّعيم} لما ذكر عَذَاب الْكفَّار وَمَا ينزله بهم ذكر مَا وعده للْمُؤْمِنين من هَذِه الْآيَة؛ فروى أَن عتبَة بن ربيعَة قَالَ لما نزلت

(6/26)


{أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين (35) مَا لكم كَيفَ تحكمون (36) أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون (37) إِن لكم فِيهِ لما تخيرون (38) أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِن لكم لما تحكمون (39) سلهم أَيهمْ بذلك زعيم (40) أم لَهُم شُرَكَاء} . هَذِه الْآيَة: لَئِن أَعْطَاكُم الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة جنَّات النَّعيم فيعطينا مثل مَا يعطيكم أَو خيرا مِنْهَا،

(6/27)


أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)

فَأنْزل الله تَعَالَى: {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين} [أَي] : نسوي بَين الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِي إِعْطَاء جنَّات النَّعيم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْإِنْكَار أَي: لَا يفعل كَذَلِك.

(6/27)


مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)

وَقَوله: {مَا لكم كَيفَ تحكمون} أَي: كَيفَ تقضون؟ وَالْمرَاد من الحكم هُوَ حكمهم فِي أنفسهم بِالْجنَّةِ.

(6/27)


أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)

وَقَوله: {أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون} أَي: تدرسون مَا تحكمون بِهِ.
وَقيل: ترددون النّظر فِيهِ، فتحكمون مِنْهُ لأنفسكم مَا حكمتم.

(6/27)


إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)

وَقَوله: {إِن لكم فِيهِ لما تخيرون} أَي: تختارون، وَهُوَ بَيَان لذَلِك الحكم.

(6/27)


أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)

وَقَوله تَعَالَى: {أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة} أَي: مُؤَكدَة، وَمعنى الْبَالِغَة فِي كَلَام الْعَرَب فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع: هُوَ بُلُوغ النِّهَايَة، يُقَال: هَذَا شَيْء جيد بَالغ، أَي: بلغ النِّهَايَة فِي الْجَوْدَة.
وَقَوله: {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} يَعْنِي: اللُّزُوم والثبات، وَقيل: ألكم أَيْمَان مُؤَكدَة أَلا نعذبكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {إِن لكم لما تحكمون} تَفْسِير لما وَقع عَلَيْهِ الْيَمين.

(6/27)


سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)

وَقَوله: {سلهم أَيهمْ بذلك زعيم} أَي: كَفِيل.

(6/27)


أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

وَقَوله: {أم لَهُم شُرَكَاء} هَذَا على توسع الْكَلَام.
وَمَعْنَاهُ: عِنْدهم وَفِي زعمهم.
وَقيل: أم بِهَذَا شهد الشُّرَكَاء بِمَعْنى الشُّهَدَاء، ذكره النقاش.

(6/27)


{فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين (41) يَوْم يكْشف عَن سَاق} .
وَقَوله: {فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين} أَي: بشركاء فيهم على زعمهم على القَوْل الأول، وعَلى القَوْل الثَّانِي بشهاداتهم إِن كَانُوا صَادِقين.

(6/28)


يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: عَن الْأَمر الشَّديد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِذا أشكل عَلَيْكُم الْقُرْآن فالتمسوه فِي الشّعْر، فَإِنَّهُ ديوَان الْعَرَب، وَأنْشد:
(وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق ... )
وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْأَمر عبروا بِهَذَا اللَّفْظ؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا وَقع لَهُ الْأَمر وَأَخذه بجد وَجهد يَقُول: شمر عَن سَاقه، فَوضعت السَّاق مَوضِع الشدَّة.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَخُو الْحَرْب إِن عضت بِهِ الْحَرْب عضها ... وَإِن شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا)
وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة:
(كميش الْإِزَار خَارج نصف سَاقه ... صبور على العوراء (طلاع) أنجد)
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: عَن هول وكربة وَشدَّة، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ أول سَاعَة من سَاعَات الْقِيَامَة، وَهِي أفظعها وأشدها على النَّاس.
هَذَا كُله قَول وَاحِد.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يكْشف رَبنَا عَن سَاقه فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيذْهب المُنَافِقُونَ ليسجدوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ".
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ نَحوا من هَذَا.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: السّتْر بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَيُقَال: الغطاء بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ومعناهما قريب.

(6/28)


{وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وهم سَالِمُونَ (43) }
وَقَوله: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أَي: لَا يَسْتَطِيع المُنَافِقُونَ: السُّجُود.
وَفِي الْخَبَر: فيعقم أصلابهم أَي أصلاب الْمُنَافِقين وَقَوله: يعقم أَي: يصير طبقًا وَاحِدًا.
وَفِي رِوَايَة: تصير كسفا قيد الْحَدِيد.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانَ [يعبدونه] فِي الدُّنْيَا فيتبعونه، وَيبقى أهل التَّوْحِيد فَيُقَال لَهُم: قد ذهب النَّاس فَمَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده.
فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفونه لَو رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم.
فَيُقَال [لَهُم] : كَيفَ تعرفونه وَلم تروه؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّه لَا شبه لَهُ.
فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيبقى المُنَافِقُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُود، وَتصير ظُهُورهمْ كصياص الْبَقر.
فَيَقُول الله تَعَالَى للْمُؤْمِنين: ارْفَعُوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل [مِنْكُم رجلا] من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار ".

(6/29)


خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم، وَالْمرَاد مِنْهُ ذل الندامة وَالْحَسْرَة.
وَقَوله: {ترهقهم ذلة} أَي: يَغْشَاهُم الذل والهوان.
وَقَوله: {وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وَهُوَ سَالِمُونَ} أَي: يدعونَ إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة وهم سَالِمُونَ أَي: معافون، والآن السُّجُود لَهُم (مهيات) .

(6/29)


{فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (44) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (45) } .
وَظَاهر الْآيَة أَن مَعْنَاهَا السُّجُود فِي الصَّلَاة.
وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: هُوَ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يدعونَ إِلَى السُّجُود بحي على الْفَلاح وهم سَالِمُونَ فَلَا يجيبون.

(6/30)


فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)

قَوْله تَعَالَى: {فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث} أَي: خَلِّنِي وإياه وَكله إِلَيّ لأجازيه بِعَمَلِهِ.
وَقيل ذَرْنِي أَي: لَا تشغل قَلْبك بِهِ، وَدعنِي وإياه فَإِنِّي مجازيه ومكافئه، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَالْعرب تَقول مثل هَذَا القَوْل، وَإِن لم يكن هُنَاكَ أحد يمنعهُ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر:
(ذَرِينِي والثعلب أم سعد ... تُقِلني الأَرْض (أَو بَيْتك) أمالا)
وَقَوله: {سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} الاستدراج فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الصَّبِي إِذا مَشى قَلِيلا قَلِيلا.
وروى عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْخُرَيْبِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: الاستدراج هُوَ إسباغ النعم، وَمنع الشُّكْر.
وَقيل: هُوَ أَنه كلما جدد ذَنبا جدد الله لَهُ نعْمَة.
وَعَن عقبَة بن مُسلم قَالَ: إِذا كَانَ العَبْد على مَعْصِيّة الله ثمَّ أعطَاهُ الله مَا يحب، فَليعلم أَنه فِي اسْتِدْرَاج.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: كم من مستدرج يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، ومغرور يستر الله عَلَيْهِ.
(وَقيل) : سنستدرجهم أَي: نمكر بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.

(6/30)


وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

وَقَوله: {وأملي لَهُم} أَي: أمهلهم وَلَا أباغتهم جَهرا، بل آخذهم وأمكر بهم قَلِيلا قَلِيلا.
وَقد بَينا معنى الْإِمْهَال والإملاء من قبل.
وَقَوله: {إِن كيدي متين} أَي: شَدِيد.

(6/30)


{أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ (47) فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم (48) لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم (49) فاجتباه ربه فَجعله من الصَّالِحين (59) وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} .

(6/31)


أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)

قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} أَي: أجرا على تَبْلِيغ الرسَالَة فهم من الْغرم مثقلون.

(6/31)


أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

وَقَوله: {أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ} أَي: عِنْدهم اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَسَماهُ غيبا لِأَنَّهُ كتب فِيهِ مَا غَابَ عَن الْعباد.
وَقَوله: {فهم يَكْتُبُونَ} أَي: يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ وَيَقَع بشهواتهم.

(6/31)


فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} أَي: فِي الضجر وَترك الصَّبْر.
وَيُقَال: لَا تغاضب كَمَا غاضب صَاحب الْحُوت، وَهُوَ ذُو النُّون، واسْمه يُونُس بن مَتى صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم} أَي: مَمْلُوء كربا وغما.
وَيُقَال: كظم الْبَعِير بجرته إِذا حَبسهَا، وَالْمعْنَى: أَنه لم يجد للغم الَّذِي فِي قلبه نفاذا ومساغا فكظم عَلَيْهِ أَي: حَبسه.

(6/31)


لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)

وَقَوله: {لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه} أَي: رَحْمَة من ربه.
وَقَوله: {لنبذ بالعراء} العراء هُوَ وَجه الأَرْض.
وَيُقَال: الْمَكَان الْخَالِي البارز.
وَقَوله: {وَهُوَ مَذْمُوم} أَي: نبذ غير مَذْمُوم، وَلَوْلَا رَحْمَة ربه لَكَانَ مذموما.

(6/31)


فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

قَوْله تَعَالَى: {فاجتباه ربه} أَي: اصطفاه وَاخْتَارَهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {فَجعله من الصَّالِحين} أَي: من عباده الصَّالِحين.
وَقد ذكرنَا قصَّته من قبل.

(6/31)


وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس:

(6/31)


{لما سمعُوا الذّكر وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (52) . " ليزهقونك بِأَبْصَارِهِمْ " والزلق هُوَ السُّقُوط، والإزلاق: الْإِسْقَاط.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ أَي: يعتانونك، وَمَعْنَاهُ: يصيبونك بأعينهم.
ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا، وَذكره الْفراء أَيْضا فِي كِتَابه.
وروى أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ يجوع نَفسه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يخرج فتمر عَلَيْهِ إبل جَاره أَو غنمه فَيَقُول: مَا أحْسنهَا، وَمَا أعظمها، وَمَا أسمنها وَمثل هَذَا؛ فَيسْقط (مِنْهَا} الْعدة فتهلك.
وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا كَانَ فِي بني أَسد من الْعَرَب وَكَانَ الرجل يعتان إبل الْوَاحِد مِنْهُم أَو الْغنم، ثمَّ يَقُول لغلامه: اذْهَبْ بمكتل وَدِرْهَم لتأْخذ لنا من لَحْمه، وَكَانَ يتَيَقَّن أَنه يسْقط فينحر.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة - وَهُوَ أحسن الْقَوْلَيْنِ - أَن المُرَاد مِنْهَا هُوَ أَنهم ينظرُونَ إِلَيْك نظر الْبغضَاء والعداوة فيكادون من شدَّة نظرهم أَي: يصرعونك ويسقطونك، وَهَذَا على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب.
تَقول الْعَرَب: نظر فلَان نظرا يكَاد يصرعه أَو يَأْكُلهُ، أَو ينظر إِلَيّ فلَان نظرا يكَاد يصرعني أَو يكَاد يأكلني بِهِ أَي: لَو أمكنه أَن يصرعني بِهِ يصرعني أَو يأكلني بِهِ لأكلني.
وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.
وأنشدوا:
(يتلاحظون إِذا الْتَقَوْا فِي موطن ... نظرا يزِيل (مَوَاطِن) الْأَقْدَام)
وَقَوله: {لما سمعُوا الذّكر} أَي: الْقُرْآن وَكَانَت عداوتهم وبغضاؤهم تشتد إِذا سَمِعُوهُ يقْرَأ الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون} اسْم سموهُ بِهِ.

(6/32)


وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

وَقَوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: شرف للْعَالمين، وَهُوَ كِنَايَة عَن الرَّسُول.
وَالْأَظْهَر أَن الْقُرْآن ذكر للْعَالمين.
وَقيل: الرَّسُول مُذَكّر للْعَالمين، وَقد بَينا معنى الْعَالمين من قبل.

(6/32)