تفسير السمعاني

تَفْسِير سُورَة الحاقة

وَهِي مَكِّيَّة
وَذكر النقاش فِي كِتَابه بروايته أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعرضت لرَسُول الله قبل أَن أسلم - فمضيت إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته قد سبقني إِلَيْهِ، وَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْت خَلفه - فَقَرَأَ سُورَة الحاقة، فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن، وَأَقُول: هُوَ شَاعِر كَمَا يَقُوله قُرَيْش حَتَّى بلغ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم مَا هُوَ بقول شَاعِر} إِلَى آخر السُّورَة، فَعلمت أَنه لَيْسَ بشاعر، وَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي.

(6/33)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الحاقة (1) مَا الحاقة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة (3) كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة (4) فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية (5) } .

(6/34)


الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)

قَوْله تَعَالَى {الحاقة مَا الحاقة} هِيَ اسْم للقيامة.
وَسميت الْقِيَامَة حاقة؛ لِأَن فِيهَا حواق الْأُمُور، أَي: حقائقها.
وَيُقَال: لِأَنَّهَا حققت على كل إِنْسَان عمله من خير وَشر، وَتظهر جزاءه من الثَّوَاب وَالْعِقَاب.
قَالَ الْأَزْهَرِي: سميت حاقة؛ لِأَنَّهَا تحق الْكفَّار الَّذين حاقوا الْأَنْبِيَاء فِي الدُّنْيَا إنكارا لَهَا.
تَقول الْعَرَب: حاققت فلَانا فحققته، أَي خاصمته فَخَصمته.
وَقَوله: {مَا الحاقة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم والتفخيم.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فدع عَنْك نهبا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل)
فَمَا للاستفهام، وَهُوَ مَذْكُور فِي هَذَا الْموضع لتعظيم أَمر الرَّوَاحِل.
كَذَلِك هَاهُنَا.

(6/34)


وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة} قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا قَالَ " أَدْرَاك " فقد أعلم النَّبِي، وَمَا قَالَ: " وَمَا يدْريك " فَلم يُعلمهُ.
وَهُوَ مَذْكُور أَيْضا على طَرِيق التَّعْظِيم والتهويل.
وَمثله قَول أبي النَّجْم شعرًا:
(أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري ... )

(6/34)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)

قَوْله تَعَالَى: {كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة} القارعة اسْم للقيامة أَيْضا.
قَالَ الْمبرد: سميت الْقِيَامَة قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب، وتهجم عَلَيْهَا بالشدة وَالْكرب.

(6/34)


فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)

وَقَوله: {فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية} قَالَ مُجَاهِد: بطغيانهم، وَهُوَ قَول أبي

(6/34)


{وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة (6) سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية (7) فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة (8) } . عُبَيْدَة أَيْضا.
وَيُقَال: بالطاغية أَي: بالصيحة.
(وَقيل) : بالرجفة.
وسمى الصَّيْحَة طاغية؛ لِأَنَّهَا زَادَت على الْمِقْدَار الَّذِي تُطِيقهُ الأسماع.

(6/35)


وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)

وَقَوله: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر} أَي: ذَات برد شَدِيد.
وعَلى هَذَا القَوْل أَخذ من الصر وَهُوَ الْبرد.
وَقيل [هِيَ] ذَات صَيْحَة.
وعَلى هَذَا مَأْخُوذ من الصرة وَهِي الصَّيْحَة.
وَقَوله {عَاتِيَة} أَي: عَتَتْ على خزانها.
قَالَ قبيصَة بن ذُؤَيْب.
لم يُرْسل الله ريحًا إِلَّا بِقدر مَعْلُوم غير الرّيح الَّتِي أرسلها على عَاد، فَإِنَّهَا خرجت بِغَيْر قدر مَعْلُوم غَضبا بغضب الله تَعَالَى.
وَقد روى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
وَيُقَال: سمى هَذِه الرّيح عَاتِيَة؛ لِأَنَّهَا جَاوَزت الْمِقْدَار.

(6/35)


سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)

وَقَوله: {سخرها عَلَيْهِم} أَي: سلطها وأرسلها عَلَيْهِم {سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} أَي: متتابعة.
وَقيل: مشائيم.
وَيُقَال: سَمَّاهَا حسوما؛ لِأَنَّهَا قَتلتهمْ وأفنتهم، من الحسم وَهُوَ الْقطع.
وَفِي التَّفْسِير: أَن ابتداءه كَانَ من غَدَاة يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَيُقَال: من غَدَاة يَوْم الْأَحَد.
وَقَوله {فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى} أَي: صرعوا وصاروا {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل} أَي أصُول نخل مُنْقَطِعَة عَن أماكنها.
{خاوية} قَالَ الْأَزْهَرِي: سَمَّاهُ خاوية؛ لِأَنَّهَا إِذا (انقلعت) خلت أماكنها مِنْهَا.

(6/35)


فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

وَقَوله {فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} أَي: من نفس بَاقِيَة.
وَيُقَال: من بَقَاء.

(6/35)


{وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (9) فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية (10) إِنَّا لما طغا المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة (11) لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة (12) } .

(6/36)


وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله} وَقُرِئَ: " وَمن قبله " أَي: الْأُمَم الَّذين كَانُوا قبله.
وَقَوله: {والمؤتفكات} هِيَ قريات لوط.
فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: وَأهل الْمُؤْتَفِكَات.
وَقيل الْمُؤْتَفِكَات: هم قوم لوط؛ لِأَنَّهُ ائتفك بهم.
وَقَوله: {بالخاطئة} أَي: بالْخَطَأ الْعَظِيم، أَي: بالذنب الْعَظِيم.

(6/36)


فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)

وَقَوله: {فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} أَي: زَائِدَة على الأخذات.
وَيُقَال: زَاد الْعَذَاب على قدر أَعْمَالهم.

(6/36)


إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لما طَغى المَاء} قَالَ سعيد بن جُبَير: غضب بغضب الله فطغى.
وَيُقَال: طَغى أَي: جَاوز الْمِقْدَار.
فَيُقَال: إِنَّه زَاد كل شَيْء فِي الْعَالم خَمْسَة [أَذْرع] .
وَقد قيل أَكثر من ذَلِك.
وَقَوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} أَي: السَّفِينَة، وَجَمعهَا الْجَوَارِي وَهِي السفن.

(6/36)


لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

وَقَوله: {لنجعلها لكم تذكرة} أَي: عِبْرَة وعظة.
قَالَ قَتَادَة: أدْرك أَوَائِل هَذِه الْأمة سفينة نوح، وَكم من السفن قد هَلَكت، وَلَكِن الله تَعَالَى أبقى هَذِه السَّفِينَة تذكرة لهَذِهِ الْأمة وعبرة لَهَا.
وَيُقَال: جعلهَا لكم تذكرة، أَي: تَذكرُوا هَذِه الْقِصَّة فَتكون لكم وَلمن سَمعهَا عِبْرَة وعظة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة} أَي: أذن عقلت أَمر الله وعملت بِهِ.
وروى مَكْحُول أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت قَالَ النَّبِي لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " سَأَلت الله أَن يَجْعَلهَا أُذُنك ".
قَالَ عَليّ: فَمَا سَمِعت بعد ذَلِك شَيْئا فَنسيته.

(6/36)


{فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة وَاحِدَة (13) وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة (14) فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة (15) وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية (16) وَالْملك على أرجائها وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة (17) يَوْمئِذٍ} .

(6/37)


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نفخ فِي الصُّور} قد بَينا معنى الصُّور.
وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} أَي: النفخة الأولى.
وَقَوله: {وَاحِدَة} أَي: لَيست لَهَا مثنوية.

(6/37)


وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)

وَقَوله تَعَالَى: {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} أَي: زلزلتا زَلْزَلَة وَاحِدَة.
وَيُقَال: فتتا فتة وَاحِدَة.
وَقيل: ضرب أَحدهمَا بِالْآخرِ فانهدمتا وهلكتا.

(6/37)


فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)

وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة} أَي: قَامَت الْقِيَامَة.

(6/37)


وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)

وَقَوله: {وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية} أَي: ضَعِيفَة.
قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: تَنْشَق من المجرة.
يُقَال: شقا واه أَي: ضَعِيف متخرق.
وَمن أمثالهم:
(خل سَبِيل من وهى شقاؤه ... وَمن هريق بالفلاة مَاؤُهُ)
وَقيل: فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية، أَي: منشقة منخرقة، لِأَن مَا وهى ينشق ويتخرق.

(6/37)


وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

وَقَوله: {وَالْملك على أرجائها} أَي: على أطرافها.
قَالَ الْكسَائي: على حافتها.
وَقيل: على (مَوَاضِع) شقوقها ينظرُونَ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة يَوْمئِذٍ تعرضون} قيل: ثَمَانِيَة صُفُوف من الْمَلَائِكَة.
وَفِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة الْأَحْنَف بن قيس عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا فِي عِصَابَة من أَصْحَابه، فمرت سَحَابَة فَقَالَ: " هَل تَدْرُونَ مَا اسْم هَذِه؟ قَالُوا: نعم، هَذَا السَّحَاب.
قَالَ رَسُول الله: المزن؟ قَالُوا: والمزن.
قَالَ رَسُول الله: والعنان؟ قَالُوا: والعنان.
قَالَ لَهُم رَسُول الله:

(6/37)


تَدْرُونَ كم بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض؟ قَالُوا: لَا، وَالله مَا نَدْرِي.
قَالَ: فَإِن بعد مَا بَينهمَا إِمَّا وَاحِدَة وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَو ثَلَاث وَسَبْعُونَ سنة، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقهَا كَذَلِك حَتَّى عدهن سبع سموات.
قَالَ: فَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَعْلَاهُ وأسفله كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَفَوق ذَلِك ثَمَانِيَة أوعال بَين أظلافهن وركبهن مَا بَين سَمَاء إِلَى السَّمَاء، ثمَّ فَوق ظهورهن الْعَرْش بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ مَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَالله فَوق ذَلِك.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك وَالِدي أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار السَّمْعَانِيّ، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ أخبرنَا [عبد بن حميد] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد، عَن عَمْرو بن أبي قيس، عَن سماك بن حَرْب، عَن عبد الله بن عميرَة عَن الْأَحْنَف ابْن قيس، عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ... الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن من جملَة حَملَة الْعَرْش ملكا على صُورَة ديك، رِجْلَاهُ فِي تخوم الْأَرْضين وَرَأسه تَحت الْعَرْش، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، إِذا سبح الله تَعَالَى سبح لَهُ كل شَيْء.
وروى الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن النَّبِي قَالَ لجبريل " إِنِّي أُرِيد أَن أَرَاك فِي صُورَتك.
فَقَالَ: إِنَّك لَا تطِيق ذَلِك، فَقَالَ: أَنا أحب أَن تفعل، قَالَ: فَخرج رَسُول الله إِلَى الْبَطْحَاء، وَأرَاهُ جِبْرِيل نَفسه فِي صورته الَّتِي خلقه الله تَعَالَى عَلَيْهَا، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، وَرَأسه فِي السَّمَاء، فغشى على النَّبِي ثمَّ أَفَاق وَرَأسه فِي حجر جِبْرِيل، وَقد وضع إِحْدَى يَدَيْهِ على صَدره وَالْأُخْرَى بَين كَتفيهِ، ثمَّ قَالَ: لَو رَأَيْت إسْرَافيل وَله اثْنَا عشر جنَاحا، وَالْعرش على كَاهِله، وَإنَّهُ لَيَتَضَاءَل أَحْيَانًا من خشيَة الله حَتَّى يصير مثل الْوَضع، فَلَا يحمل الْعَرْش

(6/38)


{تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية (18) فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه (19) إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه (20) } . إِلَّا عَظمَة الله ".

(6/39)


يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية} أَي: فعلة خافية وَالْمعْنَى: أَنه لَا يخفى شَيْء على الله تَعَالَى.
وَقد روى عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: حاسبوا أَنفسكُم قبل أَن تحاسبوا، وزنوا أَنفسكُم قبل أَن توزنوا، وتهيئوا للعرض الْأَكْبَر.
وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات: عرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة فِيهَا تطاير الْكتب.
وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة قَالَت: " يَا رَسُول الله، هَل تذكرُونَ أهاليكم يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا، وَذكر عِنْد تطاير الْكتب، وَعند الْمِيزَان، وعَلى الصِّرَاط ".

(6/39)


فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه} أَي: تَعَالَوْا اقْرَءُوا كِتَابيه.
وَقيل: خُذُوا.
تَقول الْعَرَب للْوَاحِد: هَاء وللاثنين هاؤما، وللجماعة هاؤموا.
وَقد روى: " أَن رجل نَادَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا مُحَمَّد.
فَقَالَ النَّبِي: هاؤم ".

(6/39)


إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)

وَقَوله: {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} أَي: أيقنت.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن

(6/39)


{فَهُوَ فِي عيشة راضية (21) فِي جنَّة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية (24) وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه (25) وَلم أدر مَا حسابيه (26) يَا ليتها كَانَت القاضية (27) مَا أغْنى عني مَالِيَّة (28) هلك عني سلطانيه (29) } . الْمُؤمن أحسن الظَّن بِاللَّه فَأحْسن الْعَمَل، وَإِن الْمُنَافِق أَسَاءَ الظَّن بِاللَّه فأساء الْعَمَل.

(6/40)


فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)

وَقَوله {فَهُوَ فِي عيشة راضية} أَي: ذَات رضَا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مرضية.
وَيُقَال: عيشة راضية: الْجنَّة.

(6/40)


فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)

وَقَوله: {فِي جنَّة عالية} أَي: مُرْتَفعَة.

(6/40)


قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)

وَقَوله تَعَالَى: {قطوفها دانية} قَالَ الْبَراء بن عَازِب: يَتَنَاوَلهَا قَائِما وَقَاعِدا ونائما، أَي: مُضْطَجعا.
وَمعنى دانية: قريبَة المتناول، لَا يمْنَع مِنْهَا بعد وَلَا شوك.

(6/40)


كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)

وَقَوله: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم} أَي: قدمتم {فِي الْأَيَّام الخالية} أَي: الْمَاضِيَة، وَهِي فِي الدُّنْيَا.
وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة فِي الصائمين.

(6/40)


وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)

قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه} أَي: كتابي

(6/40)


وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)

{وَلم أدر مَا حسابيه} .
أَي: لم أتق حسابي، لِأَنَّهُ لَا يرى لحسابه حَاصِلا، وَيرى كل شَيْء عَلَيْهِ.

(6/40)


يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)

وَقَوله: {يَا ليتها كَانَت القاضية} أَي: يَا لَيْت الْميتَة كَانَت قاضية أَي: لم أَحَي بعْدهَا، فقضت عَليّ الفناء أبدا.
وَقيل: يَا ليتها أَي: يَا لَيْتَني مت الْآن.

(6/40)


مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)

وَقَوله: {مَا أغْنى عني مَالِيَّة} أَي: مَالِي.

(6/40)


هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)

وَقَوله: {هلك عني سلطانية} أَي: بطلت حجتي، وَلم يسمع عُذْري، وَإِنَّمَا لَا يسمع لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُ.
وسمى السُّلْطَان سُلْطَانا؛ لِأَنَّهُ يُقَام عِنْده الْحجَج، أَو لِأَنَّهُ حجَّة على الْخلق ليقيموا أُمُورهم.
قَالَ قَتَادَة: لَيْسَ هُوَ أَن يَلِي قَرْيَة فيجيبها، وَلكنه أَرَادَ بِهِ سُلْطَانه على نَفسه، حَيْثُ ضيع مَا جعله الله لَهُ، وارتكب الْمعاصِي، وضيع الْأَوَامِر.

(6/40)


{خذوه فغلوه (30) ثمَّ الْجَحِيم صلوه (31) ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسلكوه (32) إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم (33) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم (35) وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين (36) لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون (37) فَلَا أقسم بِمَا تبصرون (38) وَمَا لَا تبصرون (39) } .

(6/41)


خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)

قَوْله تَعَالَى: {خذوه فغلوه} هُوَ من غل الْيَد إِلَى الْعُنُق.
وَقيل: يشد قدمه بِرَقَبَتِهِ ثمَّ يجر على وَجهه.

(6/41)


ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)

وَقَوله: {ثمَّ الْجَحِيم صلوه} أَي: اشوه.

(6/41)


ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)

وَقَوله: {ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا} قَالَ نوف الْبكالِي: كل ذِرَاع سَبْعُونَ باعا، وكل بَاعَ من هَاهُنَا إِلَى مَكَّة، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ يَوْمئِذٍ.
وروى نَحوا من ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير.
وَقَوله: (فاسلكوه) فِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تدخل فِي فِيهِ حَتَّى تخرج من دبره، فَهُوَ معنى قَوْله {فاسلكوه} .

(6/41)


إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)

وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحث.
قَالَ الْحسن: أدْركْت أَقْوَامًا يعزمون على أَهْليهمْ إِذا خَرجُوا أَن لَا يردوا سَائِلًا، وَأدْركت أَقْوَامًا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يخلف أَخَاهُ فِي أَهله أَرْبَعِينَ عَاما.

(6/41)


فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)

وَقَوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم} أَي: قريب.

(6/41)


وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)

وَقَوله: {وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} الغسلين: صديد أهل النَّار.
وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: هُوَ شَجَرَة تخرج طَعَاما هُوَ أَخبث أَطْعِمَة أهل النَّار.
وَفِي الْخَبَر أَن دلوا من غسلين لَو صب فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدُّنْيَا.

(6/41)


لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

وَقَوله: {لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون} أَي: الْمُشْركُونَ.
وَيُقَال: أهل الْمعْصِيَة.

(6/41)


فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِمَا تبصرون} أَي: أقسم، و " لَا " صلَة.

(6/41)


وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)

وَقيل معنى (وَمَا لَا تبصرون) أَي: الْمَلَائِكَة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن فِي الْآيَة ردا على الْمُشْركين

(6/41)


{إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم (40) وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون (41) وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ (42) تَنْزِيل من رب الْعَالمين (43) وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل (44) لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) . حَيْثُ قَالَ بَعضهم: إِن مُحَمَّدًا سَاحر، وَهُوَ وليد بن الْمُغيرَة وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ شَاعِر، وَهُوَ أَبُو جهل وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَاهِن، وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط وَمن تبعه.

(6/42)


إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)

وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي: رَسُول كريم على الله.
وَقيل: إِنَّه جِبْرِيل.
وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} وَإِنَّمَا هُوَ قَول الله تَعَالَى؟ .
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ تِلَاوَة رَسُول كريم، وَالثَّانِي: قَول الله وإبلاغ رَسُول كريم، فاتسع فِي الْكَلَام وَاكْتفى بالفحوى.

(6/42)


وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)

وَقَوله: {وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون} أَي: لَا تؤمنون أصلا.
يَقُول الرجل لغيره: قَلِيلا مَا تَأتِينِي، أَي: لَا تَأتِينِي أصلا.

(6/42)


وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)

وَقَوله: {وَلَا بقول كَاهِن} الكاهن هُوَ الَّذِي يخبر عَن الْغَيْب كذبا.
وَقيل: بِظَنّ وحدس لَا عَن علم.
وَقَوله تَعَالَى: {قَلِيلا مَا تذكرُونَ} أَي: لَا تتعظون أصلا كَمَا بَينا.

(6/42)


تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

وَقَوله: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

(6/42)


وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل} يَعْنِي: أَن مُحَمَّدًا لَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل، أَي: قَالَ مَا لم نَقله.

(6/42)


لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

وَقَوله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أَي: بِالْقُوَّةِ.
أَي: انتقمنا مِنْهُ بقوتنا وقدرتنا، قَالَه مُجَاهِد. قَالَ الشماخ:

(6/42)


{ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين (46) فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين (47) وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين (48) وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين (49) وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين (50) وَإنَّهُ لحق الْيَقِين (51) فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (52) } .
(رَأَيْت عرابة الأوسي يسمو ... إِلَى الْخيرَات مُنْقَطع القرين)
(إِذا مَا راية رفعت لمجد ... تلقاها [عرابة] بِالْيَمِينِ)
أَي: بِالْقُوَّةِ.
وَقَالَ مؤرخ: قَوْله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَعَن ثَعْلَب: بِالْحَقِّ.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن السّديّ أَيْضا.
وَعَن الْحسن.
لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، أَي: أذهبنا قوته.
وَيُقَال: " لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " هُوَ مثل قَول الْقَائِل: خُذ بِيَمِينِهِ إِذا فعل شَيْئا - أَي: بِالْقُوَّةِ - يسْتَحق الْعقُوبَة.

(6/43)


ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)

وَقَوله: {ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} أَي: نِيَاط الْقلب؛ فَإِذا انْقَطع لم يحي الْإِنْسَان بعده.
قَالَ الشماخ أَيْضا مُخَاطبا لناقته:
(إِذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بديم الوتين)

(6/43)


فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)

وَقَوله: {فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين} يَعْنِي.
إِنَّكُم تنسبونه إِلَى الْكَذِب عَليّ، وَلَو أَخَذته لم يقدر أحد مِنْكُم على دفعنَا عَنهُ.

(6/43)


وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)

وَقَوله: {وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين} أَي: الْقُرْآن.

(6/43)


وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

وَقَوله: {وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين} أَي: بِالْقُرْآنِ وبالرسول.

(6/43)


وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

وَقَوله: {وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين} أَي: الْبَعْث حسرة على الْكَافرين.

(6/43)


وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)

وَقَوله: {وَإنَّهُ لحق الْيَقِين} أَي: الْبَعْث مَحْض الْيَقِين وَعين الْيَقِين.

(6/43)


فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي: نزه رَبك الْعَظِيم، واذكره بأوصافه المحمودة اللائقة.
وَفِيه دَلِيل أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى، وَلَا فرق بَينهمَا.

(6/43)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع (1) للْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافع (2) } .
تَفْسِير سُورَة المعارج

وَهِي مَكِّيَّة

(6/44)


سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)

قَوْله تَعَالَى: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} أَي: وَاقع أَي: دَعَا دَاع.
وَالْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة وَأَنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم فَنزلت هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {بِعَذَاب وَاقع} " الْبَاء " صلَة.
وَمَعْنَاهُ: دَعَا دَاع، وَالْتمس ملتمس عذَابا من الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَاقع} أَي: كَائِن حَاصِل فِي حق الْكَافرين، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة يَقع بهم ذَلِك لَا محَالة.
وَقيل: هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَقد وَقع ذَلِك بالنضر بن الْحَارِث، حَيْثُ قتل صبرا يَوْم بدر.
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا معنى قَول مُجَاهِد وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: سَأَلَ سَائل عَن عَذَاب وَاقع، " فالباء " بِمَعْنى " عَن " قَالَه الْفراء وَغَيره.
وَالْمعْنَى: سَأَلَ سَائل بِمن يَقع الْعَذَاب؟ وعَلى من ينزل الْعَذَاب؟

(6/44)


لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)

فَقَالَ الله تَعَالَى: {للْكَافِرِينَ} يَعْنِي: على الْكَافرين.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " سَالَ سَائل " يُقَال: سَالَ بِمَعْنى سَأَلَ على الْهَمْز.
وَقيل: سَالَ سَائل أَي: وَاد فِي جَهَنَّم يسيل على الْكفَّار بِالْعَذَابِ.
وَقَوله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُ دَافع} أَي: لَا يدْفع الْعَذَاب على الْكَافرين أحد، وَلَا يمنعهُ مِنْهُم.

(6/44)


{من الله ذِي المعارج (3) تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة (4) } .

(6/45)


مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)

وَقَوله: {من الله ذِي المعارج} أَي: ذِي السَّمَوَات، وَسميت السَّمَوَات معارج، لِأَن الْمَلَائِكَة يعرجون إِلَيْهَا.
وَيُقَال: ذِي المعارج أَي: ذِي الفواضل.
وَيُقَال: ذِي الدَّرَجَات على معنى إكرامه الْمُؤمنِينَ بالدرجات وإعطائها إيَّاهُم.

(6/45)


تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

وَقَوله: {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} قد بَينا معنى الرّوح.
وَقيل: هم فِي خلق السَّمَاء يشبهون الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا بآدميين.
وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ.
وروى الْحسن مُرْسلا وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مُسْندًا فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: " أَن الله تَعَالَى يخففه على الْمُؤمنِينَ، فَيَجْعَلهُ بِقدر صَلَاة مَكْتُوبَة خَفِيفَة ".
وَفِي بعض الْآثَار: " بِقدر مَا بَين الظّهْر إِلَى الْعَصْر ".
وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: من قَرَار الأَرْض إِلَى فَوق الْعَرْش خمسين ألف سنة.
وَقيل معنى قَوْله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} يَعْنِي: لَو عمل عَامل أَو حاسب محاسب مَا يعْمل الله تَعَالَى فِي سَاعَة أَو فِي يَوْم وَاحِد، لم يَنْقَطِع إِلَى خمسين ألف سنة.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات أَن قَوْله تَعَالَى: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} آيتان لَا يعلم مَعْنَاهُمَا إِلَّا الله.
وَمثله عَن قَتَادَة.

(6/45)


{فاصبر صبرا جميلا (5) إِنَّهُم يرونه بَعيدا (6) ونراه قَرِيبا (7) يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ (8) وَتَكون الْجبَال كالعهن (9) وَلَا يسْأَل حميم حميما (10) يبصرونهم}
وَقَوله: إِن قَوْله: {ألف سنة} هُوَ مَسَافَة مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض صاعدا ونازلا.
وَقَوله: {خمسين ألف سنة} مَسَافَة مَا بَين الأَرْض إِلَى الْعَرْش صاعدا.
وَالله أعلم.

(6/46)


فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)

وَقَوله: {فاصبر صبرا جميلا} أَي: صبرا لَا جزع فِيهِ وَلَا شكوى.
وَعَن قيس بن الْحجَّاج فِي قَوْله: {فاصبر صبرا جميلا} قَالَ: هُوَ أَن يكون صَاحب الْمُصِيبَة فِي الْقَوْم وَلَا يدرى من هُوَ، وَإِنَّمَا أمره بِالصبرِ؛ لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يؤذونه، فَأمره بِالصبرِ إِلَى أَن ينزل بهم عَذَابه.

(6/46)


إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)

وَقَوله: {إِنَّهُم يرونه بَعيدا} أَي: الْعَذَاب.

(6/46)


وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)

وَقَوله: {ونراه قَرِيبا} لكَونه ووقوعه لَا محَالة.

(6/46)


يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} أَي: كدردى الزَّيْت، وَيُقَال: كَعَكرِ القطران.
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: هُوَ الْمُذَاب من جَوَاهِر الأَرْض مثل النّحاس والرصاص وَالْفِضَّة، فَالْكل مهل.

(6/46)


وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} والعهن: الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَشبهه بِهِ فِي ضعفه وَلينه.

(6/46)


وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)

وَقَوله: {وَلَا يسْأَل حميم حميما} أَي: لَا يسْأَل قريب عَن حَال قَرِيبه لشغله بِنَفسِهِ.
وَقُرِئَ: " وَلَا يسْأَل حميم حميما " أَي: لَا يسْأَل أحد أَيْن حميمك؟

(6/46)


يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)

وَقَوله: {يبصرونهم} أَي: يعرفونهم.
وَمَعْنَاهُ: يعرف بَعضهم بَعْضًا، وَلَا يسْأَله عَن حَاله لشغله بِنَفسِهِ.
وَقيل: يعرف بَعضهم بَعْضًا بالسمات والعلامات، فَإِن لأهل الْجنَّة سمات وعلامات، وَكَذَلِكَ لأهل النَّار.

(6/46)


{يود المجرم لَو يفتدي من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته الَّتِي تؤويه (13) وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه (14) كلا إِنَّهَا لظى (15) نزاعة للشوى (16) تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى (17) وَجمع فأوعى}
وَقَوله: {يود المجرم لَو يفتدى من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه وصاحبته} أَي: امْرَأَته.
{وأخيه} هُوَ الْأَخ الْمَعْرُوف.

(6/47)


وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)

وَقَوله: {وفصيلته الَّتِي تؤويه} أَي: عشيرته الَّتِي يأوي إِلَيْهِم، وَقيل: أقربائه الأدنون.
والفصيلة أحضر وَأدنى من الْفَحْل.
وَيُقَال: الْعَبَّاس هُوَ من فصيلة الرَّسُول.

(6/47)


وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)

وَقَوله: {وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه} أَي: لَو يفتدى بِمن فِي الأَرْض جَمِيعًا لينجو فَلَا ينجو.

(6/47)


كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)

وَقَوله: {كلا} هُوَ مَا بَينا من الْمَعْنى.
وَعَن عمر بن عبد الله مولى غفرة: أَن كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن " كلا " هُوَ بِمَعْنى كذبت.
وَقَوله: {إِنَّهَا لظى} اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.
وَيُقَال: " إِنَّهَا لظى " عَذَاب لَازم لَا ينجو مِنْهَا أبدا.

(6/47)


نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)

وَقَوله: {نزاعة للشوى} الْأَكْثَرُونَ أَن الشوى هُوَ الْأَطْرَاف مثل الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَغير ذَلِك.
وَذكر الْفراء أَنَّهَا جلدَة الرَّأْس.
وَقيل: قحف الرَّأْس.
وَيُقَال: الْجلد وَاللَّحم حَتَّى يبْقى الْعظم.
وَقيل: الْجلد وَاللَّحم والعظم إِلَى أَن يصل إِلَى الْقلب، وَهُوَ نضيج، ذكره مُجَاهِد.

(6/47)


تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)

وَقَوله: {تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى} أَي: تنادي من أدبر وَتَوَلَّى من الْكفَّار فَتَقول: يَا فلَان وتذكر اسْمه أقبل إِلَيّ وتأخذه.
وَقَالَ الْمبرد فِي قَوْله: {تَدْعُو} أَي: تعذب.
وروى عَن النَّضر عَن الْخَلِيل أَنه سمع أَعْرَابِيًا يَقُول لآخر: دعَاك الله، أَي: عذبك الله.
وَأما ثَعْلَب فَإِنَّهُ قَالَ: تناديهم وَاحِدًا وَاحِدًا بِأَسْمَائِهِمْ.
وَهُوَ الْأَظْهر.

(6/47)


وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

وَقَوله: {وَجمع فأوعى} أَي: جمع المَال فأوعاه، أَي: جعله فِي وعَاء وأوكأ

(6/47)


( {18) إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا (19) إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا (20) وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا (21) إِلَّا الْمُصَلِّين (22) الَّذين هم على صلَاتهم دائمون (23) وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم (24) للسَّائِل والمحروم (25) وَالَّذين} عَلَيْهِ، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْبُخْل وَمنع الْحق.

(6/48)


إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)

قَوْله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} أَي: جزوعا.
قَالَ ثَعْلَب: سَأَلَني مُحَمَّد ابْن عبد الله بن طَاهِر عَن هَذِه الْآيَة، فَقلت: الْهَلَع أَسْوَأ الْجزع.
وَقيل: هلوعا: ضجرا.
وَعَن الْحسن: ضَعِيفا.
وَقَالَ الضَّحَّاك: بَخِيلًا.
وَعَن غَيرهم: حَرِيصًا.

(6/48)


إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

وَيُقَال تَفْسِيره هُوَ قَوْله: {إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} أَي: إِذا مَسّه الشَّرّ لم يصبر، وَإِذا مَسّه الْخَيْر لم يشْكر.

(6/48)


إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)

وَقَوله: {إِلَّا الْمُصَلِّين الَّذين هم على صلَاتهم دائمون} هَذَا الِاسْتِثْنَاء منصرف إِلَى ابْتِدَاء الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن هَؤُلَاءِ ينجون من الْعَذَاب.
وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: الْآيَة فِي الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة.
وَقيل: إدامتها هُوَ إِقَامَتهَا فِي أَوْقَاتهَا.
وَيُقَال: لَيست إدامتها أَن يُصَلِّي أبدا، وَلَكِن إدامتها أَنه إِذا صلى لم يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالا.
وَيُقَال: إدامة الصَّلَوَات: أَلا يَتْرُكهَا، وَهَذَا قَول حسن.
وَعَن بعض السّلف هُوَ أَلا يؤخرها عَن الْمَوَاقِيت؛ فَأَما إِذا تَركهَا كفرز

(6/48)


وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)

وَقَوله: {وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم للسَّائِل} وَهُوَ الطّواف الَّذِي يسْأَل (عَن) النَّاس.
وَقَوله: {والمحروم} هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل، وَيُقَال: هُوَ المحارف، وَقيل: الْمَحْدُود.
وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
يُقَال: فلَان مجدود، وَفُلَان مَحْدُود، والمجدود الَّذِي يُوَافقهُ الْجد، والمحدود المحروم.
قَالَ ابْن عمر: المحروم هُوَ الْكَلْب.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: أعياني أَن أعرف معنى المحروم.
وَقيل: هُوَ الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء لَهُ.

(6/48)


وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)

وَقَوله: {وَالَّذين يصدقون بِيَوْم الدّين} أَي: يُؤمنُونَ بِهِ.

(6/48)


{يصدقون بِيَوْم الدّين (26) وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون (27) إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون (28) وَالَّذين هم لفروجهم حافظون (29) إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين (29) فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون (31) وَالَّذين هم لأمانتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ (32) } .

(6/49)


وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)

وَقَوله: {وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون} أَي: خائفون.
وَعَن معَاذ بن جبل قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي مُنَاد أَيْن الخائفون؟ فيحشرون فِي كنف الرَّحْمَن لَا يحتجب الله مِنْهُم.
ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى: " لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أمنين، فَإِذا خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة، وَإِذا أمنني فِي الدُّنْيَا خوفته فِي الْآخِرَة ".

(6/49)


إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)

قَوْله: {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} ظَاهر الْمَعْنى.

(6/49)


وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)

وَقَوله: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين} قَالَ ابْن عُيَيْنَة، من لَام أحدا فِيمَا ملكت يَمِينه وَإِن كثر، أَو لامه فِي نِسَائِهِ إِذا بلغ الْأَرْبَع، فقد عصى الله تَعَالَى؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم غير ملومين} وَقَالَ أَيْضا: من تزوج [بِأَرْبَع] نسْوَة، أَو تسرى بمماليك، فَلَا خلل فِي زهده فِي

(6/49)


{وَالَّذين هم بشهاداتهم قائمون (33) وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون (35) فَمَا للَّذين كفرُوا قبلك مهطعين (36) عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين (37) } .
الدُّنْيَا، فَإِن عليا - رَضِي الله - عَنهُ قتل عَن أَربع عقائل [وتسع عشرَة] سَرِيَّة وَكَانَ أزهد الصَّحَابَة.
وَفِي الْآيَة دَلِيل على تَحْرِيم الْمُتْعَة.
وسئلت عَائِشَة عَن الْمُتْعَة فَقَالَت: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله، وتلت هَذِه الْآيَة.
وَسُئِلَ ابْن عمر عَن ذَلِك فَقَالَ: هُوَ زنا.
فَقيل: إِن فلَانا يبيحها، فَقَالَ: أَفلا ترمرم بِهِ فِي زمَان عمر، وَالله لَو أَخذه فِيهَا لرجمه.

(6/50)


فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)

وَقَوله: {فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} هُوَ دَلِيل على مَا بَينا.
والعادي والمتعادي وَاحِد.

(6/50)


وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)

وَقَوله: {وَالَّذين هم لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدهمْ رَاعُونَ} أَي: حافظون.
وَقيل: أصل الْأَمَانَة أَن كلمة التَّوْحِيد ائْتمن الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ عَلَيْهَا.

(6/50)


وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)

وَقَوله: {وَالَّذين هم بِشَهَادَتِهِم قائمون} وَقُرِئَ: " بشهاداتهم " إِحْدَاهمَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْأُخْرَى بِمَعْنى الوحدان.
وَمعنى {قائمون} أَي: يؤدونها على وَجههَا.

(6/50)


وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)

وَقَوله: {وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.

(6/50)


أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون} أَي: بساتين يكرمهم الله بأنواع النعم.

(6/50)


فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)

وَقَوله تَعَالَى: {فَمَال الَّذين كفرُوا قبلك مهطعين} أَي: مُسْرِعين.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَالْآيَة فِي الْمَعْنى مشكلة، وَالْمرَاد وَالله أعلم: فَمَا للَّذين كفرُوا يسرعون إِلَيْك لاستماع الْقُرْآن، ثمَّ يتفرقون بِلَا قبُول لَهُ وَالْإِيمَان بِهِ.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يأْتونَ ويجلسون حول النَّبِي وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نظر الْبغضَاء والعداوة، ويستمعون الْقُرْآن اسْتِمَاع الِاسْتِهْزَاء والتكذيب.

(6/50)


عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)

وَقَوله: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين} أَي: مُتَفَرّقين حلقا حلقا.
وروى أَن

(6/50)


{أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة النَّعيم (38) كلا إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ (39) فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب إِنَّا لقادرون (40) على أَن نبدل خيرا مِنْهُم}
النَّبِي خرج إِلَى الْمَسْجِد وَأَصْحَابه متفرقون كل جمَاعَة فِي مَوضِع، فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُم عزين ".
وَالسّنة أَن يجلسوا حَلقَة وَاحِدَة، أَو بَعضهم خلف بعض، وَلَا يتفرقون فِي الْجُلُوس.

(6/51)


أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

قَوْله تَعَالَى: {أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة نعيم} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما ذكر الله تَعَالَى الْجنَّة للْمُؤْمِنين قَالَ الْكفَّار: وَنحن أَيْضا ندخل مَعكُمْ؛

(6/51)


كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)

فَأنْزل الله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَا يكون الْأَمر كَمَا يطْمع ويظن.
وَقَوله: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: من الأقذار والنجاسات.
وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ إِدْخَال من يدْخل الْجنَّة بِكَوْنِهِ مخلوقا؛ لِأَنَّهُ خلق من شَيْء نجس قذر، فَلَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة، وَإِنَّمَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة بالتقوى وَالدّين.
وَيُقَال: إِنَّا خلقناهم من أجل مَا [يعلمُونَ] ، وَهُوَ عبَادَة الله وَالْإِيمَان بِهِ.
قَالَ الشَّاعِر:
(أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذِي هوى أَن تزارا)
أَي: من أجل آل ليلى.
وَقيل: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: مِمَّن يعلمُونَ.
وَالْقَوْل الْأَصَح هُوَ الأول.

(6/51)


{وَمَا نَحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون (42) يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون (43) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون (44) } .

(6/52)


فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب} مَعْنَاهُ: أقسم، وَهُوَ على مَذْهَب الْعَرَب، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَكَذَا.
وَذكر هَاهُنَا الْمَشَارِق والمغارب؛ لِأَن الشَّمْس فِي كل يَوْم تشرق من مَكَان آخر غير مَا كَانَ فِي الْيَوْم الأول، وَكَذَلِكَ فِي الْمغرب.
وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تطلع كل يَوْم من كوَّة أُخْرَى، وتغرب من كوَّة أُخْرَى.
وَقَوله: {إِنَّا لقادرون على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} أَي: أطوع لله مِنْهُم، وأمثل مِنْهُم.
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمسبوقين} أَي: معاجزين، وَقد بَينا من قبل.

(6/52)


فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)

قَوْله تَعَالَى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق التهديد لَا على طَرِيق الْإِطْلَاق وَالْإِذْن.

(6/52)


يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا} أَي: من الْقُبُور. والجدث: الْقَبْر، والأجداث الْجمع.
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون} أَي: يخرجُون سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى علم نصب لَهُم يسرعون، وَقُرِئَ: " نصب يوفضون " بِضَم النُّون، والنُصُب والنَصَب بِمَعْنى الْأَصْنَام، وَقد كَانُوا يسرعون إِلَى أصنامهم إِذا ذَهَبُوا إِلَيْهَا، فيعظموها ويستلموها.

(6/52)


خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم {ترهقهم ذلة} أَي: مذلة.
وَقَوله: {ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون} أَي: يُقَال لَهُم: هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي وعدتم فِي الدُّنْيَا.
وَالله أعلم.

(6/52)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم (1) قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين (2) أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغْفر لكم}
تَفْسِير سُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام

وَهِي مَكِّيَّة
وَهُوَ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أَخْنُوخ.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه بعث وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة.
وَعَن عَوْف بن أبي شَدَّاد: أَنه بعث وَهُوَ ابْن ثلثمِائة وَخمسين سنة.
وَيُقَال: سمي نوحًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينوح على نَفسه.
وَالله أعلم.

(6/53)


إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك} مَعْنَاهُ: بِأَن أنذر قَوْمك إِلَّا أَنه حذف الْبَاء.
وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود {أنذر قَوْمك} من غير " أَن " وَمَعْنَاهُ: وَقُلْنَا لَهُ أنذر قَوْمك.
وَقَوله {من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم} قيل: هُوَ الْغَرق فِي الدُّنْيَا.
وَقيل هُوَ النَّار فِي الْآخِرَة.

(6/53)


قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين} أَي: بَين النذارة.

(6/53)


أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)

وَقَوله {أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وَهَذَا هُوَ الَّذِي بعث الله لأَجله الرُّسُل، فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث رَسُولا إِلَّا ليعبدوه ويتقوه ويطيعوا رَسُوله.

(6/53)


يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

وَقَوله: {يغْفر لكم من ذنوبكم} أَي: من ذنوبكم الَّتِي أوعدكم عَلَيْهَا الْعقُوبَة.
وَقد كَانَت لَهُم ذنُوب أخر عَفا الله عَنْهَا.
وَقَالَ الْفراء: " من " لَيست هَاهُنَا للتَّبْعِيض،

(6/53)


{من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر لَو كُنْتُم تعلمُونَ (4) قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا (6) } . وَلكنهَا للتخصيص على معنى تَخْصِيص الذُّنُوب بالغفران.
وَقَوله: {ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى} أَي: إِلَى الْمَوْت.
فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَنه يجوز أَن يكون للْإنْسَان أجلان، وَأَن الْعقُوبَة تقع قبل الْأَجَل الْمَضْرُوب للْمَوْت.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يجوز أَن يُقَال: إِن الْأَجَل أجلان: أَحدهمَا: إِلَى سنة أَو سنتَيْن إِن عصوا الله، وَالْآخر: إِلَى عشر سِنِين أَو عشْرين سنة إِن أطاعوا الله، فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر} أَي: فِي حالتي الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْأَجَل وَاحِد بِكُل حَال.
وَقَوله {ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: يميتكم غير ميتَة الاستئصال والعقوبة، وَهُوَ الْمَوْت الَّذِي يكون بِلَا غرق وَلَا قتل وَلَا حرق.
وَقيل: يؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى، أَي: عنْدكُمْ، وَهُوَ الْأَجَل الَّذِي تعرفونه، وَذَلِكَ موت من غير هَذِه الْوُجُوه.
وَهَذَا القَوْل أقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، فعلى هَذَا قَوْله: إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر) هُوَ الْأَجَل الْمُسَمّى الْمَضْرُوب لكل إِنْسَان) .
وَقَوله {لَو كُنْتُم تعلمُونَ} [أَي] : إِن كُنْتُم تعلمُونَ.

(6/54)


قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} قَالَ الْفراء: أَي: من كل وَجه وَفِي كل زمَان أمكنت فِيهِ الدعْوَة من ليل أَو نَهَار.

(6/54)


فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)

وَقَوله تَعَالَى: {فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا} أَي: فِرَارًا من الْإِيمَان.

(6/54)


{وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا (8) ثمَّ إِنِّي أعلنت}

(6/55)


وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)

وَقَوله: {وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم} أَي: ليؤمنوا فتغفر لَهُم، فكنى بالمغفرة عَن الْإِيمَان؛ لِأَن الْإِيمَان سَبَب الْمَغْفِرَة.
وَقَوله: {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم} يَعْنِي: فعلوا ذَلِك لِئَلَّا يسمعوا.
وَقَوله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: تغطوا بثيابهم لِئَلَّا يرَوا نوحًا، وَلَا يسمعوا كَلَامه، وَذكر النّحاس قولا آخر وَقَالَ: إِن معنى قَوْله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: أظهرُوا الْعَدَاوَة.
وَيُقَال: لبس فلَان ثِيَاب الْعَدَاوَة على معنى إِظْهَار الْعَدَاوَة.
وَقَوله: {وأصروا} قَالَ (أَبُو عبيد) : [أَي] : أَقَامُوا عَلَيْهِ.
والإصرار أَن يفعل الْفِعْل ثمَّ لَا ينْدَم.
وَفِي بعض الغرائب من الْآثَار؛ " لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار ".
وَقَوله: {واستكبروا استكبارا} أَي: تكبروا تكبرا.
وَقد بَينا أَن الشّرك وَترك الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ استكبار.

(6/55)


ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد دخل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: (رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ؟ قُلْنَا: كَلَام بِحَيْثُ يجوز أَن يكون قَالَ هَذَا على وَجه التَّأْكِيد، والإعلان والجهر بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ كَلَام بِحَيْثُ يسمع الْجَمَاعَة، وَأَن الْإِسْرَار هُوَ أَن يَقُوله مَعَ الْإِنْسَان وَحده فِي خلْوَة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} إِلَى التَّوْحِيد، وَأما قَوْله: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} هُوَ دعاؤه إيَّاهُم إِلَى الاسْتِغْفَار لما يتلوه من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَقلت اسْتَغْفرُوا

(6/55)


{لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا (9) فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا (10) يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا (12) مَا لكم لَا ترجون لله وقارا (13) } . ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا) .

(6/56)


يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)

وَقَوله: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} أَي: ليرسل.
ومدرارا، أَي: مُتَتَابِعًا.
وَالسَّمَاء: الْمَطَر.
وَقيل هُوَ الْمَطَر فِي إبانه.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: إِذا أَرَادَ الله بِقوم خيرا أمطرهم فِي وَقت الزَّرْع، وَحبس عَنْهُم فِي وَقت الْحَصاد، وَإِذا أَرَادَ بِقوم سوءا أمطرهم فِي وَقت الْحَصاد وَحبس فِي وَقت الزَّرْع.
وروى الشّعبِيّ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - خرج (مرّة) للاستسقاء فَلم يزدْ على الاسْتِغْفَار ثمَّ نزل.
فَقيل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّك لم تستسق! فَقَالَ: لقد طلبت الْغَيْث بِمَجَادِيح السَّمَاء الَّتِي يسْتَنْزل بهَا الْمَطَر، وتلا قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} .

(6/56)


وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)

وَقَوله: {ويمددكم بأموال وبنين} قَالَ قَتَادَة: علم أَن الْقَوْم أَصْحَاب دنيا، فحركهم بهَا ليؤمنوا.
وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أعقم أَرْحَام نِسَائِهِم أَرْبَعِينَ سنة، وَحبس عَنْهُم الْمَطَر أَرْبَعِينَ سنة، فَهُوَ معنى قَول نوح: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين} .
وَقَوله تَعَالَى: {وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} أَي: بساتين وأنهارا تجْرِي فِيمَا بَينهَا.

(6/56)


مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)

قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} أَي: تخافون لله عَظمَة وقدرة.
وَقَالَ قطرب: مالكم لَا تبالون من عَظمَة الله تَعَالَى.
وَقيل: وقارا، أَي: طَاعَة، وَمَعْنَاهُ: مالكم لَا ترجون طَاعَة الله، أَي: لَا تستعملونها.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا، وَقد يذكر الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف؛ لِأَنَّهُ لَا يكون الرَّجَاء إِلَّا وَمَعَهُ خوف الْفَوْت.

(6/56)


{وَقد خَلقكُم أطوارا (14) ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا (15) وَجعل الْقَمَر}
قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا لسعته النَّحْل لم يرج لسعها ... وخالفها فِي بَيت نوب (عوامل))
وَقَالَ آخر:
(إِذا أهل الْكَرَامَة أكرموني ... فَلَا أَرْجُو الهوان من اللئام) .
أَي: لَا أَخَاف.

(6/57)


وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)

وَقَوله: {وَقد خَلقكُم أطوارا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الطّور: الْحَال.
وَذكره ابْن الْأَنْبَارِي أَيْضا.
قَالَ الشَّاعِر:
(والمرء يخلق طورا بعد (أطوار)
)
وَمعنى الْحَالَات هَاهُنَا: أَنه خلقه نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظما ولحمها إِلَى أَن أتم خلقه.

(6/57)


أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)

قَوْله تَعَالَى: {ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا} قد بَينا.

(6/57)


وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)

وَقَوله: {وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا} فَإِن قَالَ قَائِل: الْقَمَر إِنَّمَا خلق فِي سَمَاء الدُّنْيَا، فَكيف قَالَ: {فِيهِنَّ نورا} ؟
وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهمَا: أَنه يجوز فِي لِسَان الْعَرَب أَن (يُقَال) : فِيهِنَّ نورا، وَإِن كَانَ فِي إحديهن، كَالرّجلِ يَقُول: توارى فلَان فِي دور فلَان، وَإِن كَانَ توارى فِي إحديها.
وَيَقُول الْقَائِل: وَنزلت على بني تَمِيم، وَإِن كَانَ نزل عِنْد بَعضهم.

(6/57)


{فِيهِنَّ نورا وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا (16) وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا (17) ثمَّ يعيدكم فِيهَا ويخرجكم إخراجا (18) .
وَالْوَجْه الثَّانِي: مَا قَالَه عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن وَجه الْقَمَر إِلَى السَّمَوَات السَّبع وَقَفاهُ إِلَى الأَرْض، وَكَذَا قَالَ فِي الشَّمْس، فعلى هَذَا قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: نوره فِيهِنَّ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن السَّمَوَات فِي الْمَعْنى كشيء وَاحِد، فَقَالَ: {فِيهِنَّ نورا} لهَذَا، وَإِن كَانَ فِي سَمَاء وَاحِد.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن معنى قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: مَعَهُنَّ نورا.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(وَهل ينعمن من كَانَ آخر عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)
أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال.
وَقَوله: {وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا} أَي: فِيهِنَّ، وَالْمعْنَى مَا بَينا.
وَعَن عبد الله بن عَمْرو أَيْضا قَالَ: مَا خلق الله شَيْئا أَشد حرارة من الشَّمْس، وَلَوْلَا أَن السَّمَاء تحول بَين الأَرْض وَبَين ضوئها وَإِلَّا (لأحرقت) كل شَيْء فِي الأَرْض.
وروى أَنه سُئِلَ لماذا يبرد الزَّمَان فِي الشتَاء، وَبِمَ يكون الْحر فِي الصَّيف؟ فَقَالَ: تكون الشَّمْس فِي الصَّيف فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَفِي الشتَاء فِي السَّمَاء السَّابِعَة.

(6/58)


وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)

قَوْله تَعَالَى: {وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا} يجوز فِي اللُّغَة إنباتا ونباتا.
وَقيل: أنبتكم فنبتم نباتا.

(6/58)


ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)

وَقَوله: {ثمَّ يعيدكم فِيهَا} أَي: بِالْمَوْتِ.
وَقَوله: {ويخرجكم إخراجا} عِنْد النشور.

(6/58)


وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)

قَوْله تَعَالَى: (وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا) أَي: بسطها بسطا.

(6/58)


{وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا (19) لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا (20) قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارًا (22) وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم لَا تذرن ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق}

(6/59)


لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

وَقَوله: {لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا} أَي: طرقا وَاسِعَة.
والسبيل قد يذكر وَيُؤَنث.
قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: بِوَاحِد.

(6/59)


قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)

وَقَوله: {قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا} يَعْنِي: أَن الضُّعَفَاء اتبعُوا الْأَشْرَاف والأكابر والرءوس من الْكفَّار الَّذين لم تزدهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَّا خسارا.

(6/59)


وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)

وَقَوله: {ومكروا مكرا كبارًا} أَي: كَبِيرا، وكبار فِي اللُّغَة أَشد من الْكَبِير.

(6/59)


وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)

وَقَوله: {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم} أَي: لَا تذروا آلِهَتكُم، {وَلَا تذرن} أَي: وَلَا تذروا {ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق ونسرا} هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء أصنامهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها.
وَفِي التَّفْسِير: أَن ودا كَانَت لكَلْب، والسواع كَانَت لهذيل، ويغوث كَانَت لبني غطيف بن دارم، ويعوق كَانَت لهمدان، ونسرا كَانَت لحمير، وَقد قيل على خلاف هَذَا.
وَكَانَت بَقِيَّة هَذِه الْأَصْنَام لَهُم من زمَان نوح قد غرقت، فاستخرجها لَهُم إِبْلِيس حَتَّى عبدوها.
وَعَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: كَانَت يَغُوث من رصاص رَأَيْته، وَكَانُوا يحملونه على جمل أجرد إِذا سافروا وَلَا يهيجون الْجمل ويجعلونه قدامهم، فَإِذا برك فِي مَوضِع نزلُوا، وَقَالُوا: رضى ربكُم بالمنزل.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء قوم صالحين قبل نوح، فَلَمَّا مَاتُوا زين الشَّيْطَان لأبنائهم ليتخذوا أشخاصا على صورهم، فَيكون نظرهم إِلَيْهَا حثا لَهُم على الْعِبَادَة، ثمَّ إِنَّهُم عبدوها من بعد لما تطاول لَهُم الزَّمَان.

(6/59)


{ونسرا (23) وَقد أَضَلُّوا كثيرا وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا (24) مِمَّا خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نَارا فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا (25) وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا (26) إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا (27) .

(6/60)


وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

قَوْله تَعَالَى: {وَقد أَضَلُّوا كثيرا} أَي: ضل كثير من النَّاس بسببهم.
وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا} دَعَا عَلَيْهِم هَذَا الدُّعَاء عُقُوبَة لَهُم، وَهُوَ مثل دُعَاء مُوسَى على قوم فِرْعَوْن {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} .

(6/60)


مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)

قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا خطيئاتهم} أَي: من خطيئاتهم، {أغرقوا فأدخلوا نَارا} يَعْنِي: أغرقوا فِي الدُّنْيَا، وأدخلوا نَارا فِي الْآخِرَة.
وَقيل: هُوَ فِي الْقَبْر.
وَعَن الْحسن قَالَ: الْبَحْر طبق جَهَنَّم.
وَقيل: الْبَحْر نَار ثمَّ نَار.
وَقَوله: {فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا} أَي: أحدا يمنعهُم من عَذَاب الله.

(6/60)


وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} أَي: أحدا.
وَقيل: ديارًا أَي: من ينزل دَارا، مَأْخُوذ من الدَّار.

(6/60)


إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)

وَقَوله: {إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} وَهَذَا على مَا أخبرهُ الله تَعَالَى عَنْهُم {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} وَعَن مُجَاهِد: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي نوحًا فيضربه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ، فَإِذا أَفَاق قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ.
ثمَّ إِنَّه لما أخبر الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن أحد مِنْهُم دَعَا عَلَيْهِم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يحمل ابْنه على كتفه إِلَيْهِ وَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ الْمَجْنُون، فَإِن أَبى أحذرني إِيَّاه كَمَا حذرتك، فَفَعَلُوا كَذَلِك حَتَّى مضى سَبْعَة قُرُون،

(6/60)


{رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا (28) } . فروى أَن آخر من جَاءَهُ مِنْهُم قَالَ كَذَلِك لِابْنِهِ، فَقَالَ ذَلِك الصَّبِي: أنزلني فأنزله، فَجعل يرميه بِالْحجرِ حَتَّى شجه، فَغَضب حِينَئِذٍ ودعا عَلَيْهِم.

(6/61)


رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

قَوْله تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} قَرَأَ سعيد بن جُبَير: " لوالِدِي " وَفِي بعض الْقرَاءَات: " لِوالَدَيَّ ".
وَقَوله: {وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا} أَي: سفينتي.
وَقيل: صومعتي.
وَقيل: بَيْتِي الَّذِي أسْكنهُ.
وَقَوله: {وَلِلْمُؤْمنِينَ} أَي: لكل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا} أَي: هَلَاكًا.

(6/61)