تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ}
تَفْسِير سُورَة الْجِنّ
وَهِي مَكِّيَّة
(6/62)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه
اسْتمع نفر من الْجِنّ} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا روى
سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي انْطلق فِي
نفر من أَصْحَابه عَامِدين إِلَى سوق عكاظ، فَمر بالنخلة، وَقد
كَانَ الشَّيَاطِين منعُوا من السَّمَاء، وَأرْسلت الشهب
عَلَيْهِم، فَقَالُوا لقومهم: قد حيل بَيْننَا وَبَين خبر
السَّمَاء، فَقَالُوا: إِنَّمَا ذَلِك لأمر حدث فِي الأَرْض.
وروى أَنهم قَالُوا ذَلِك لإبليس، وَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهُم:
اضربوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لتعرفوا مَا
الْأَمر الَّذِي حدث؟ فَمر نفر مِنْهُم نَحْو تهَامَة
فَرَأَوْا النَّبِي يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر
بِبَطن نَخْلَة، وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالُوا: هَذَا
هُوَ الْأَمر الَّذِي حدث، وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وأخبروهم
بذلك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد روى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح نَحوا (من رِوَايَة) ابْن
عَبَّاس.
وَذكر ابْن جريح فِي تَفْسِيره عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله
بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود " أَن النَّبِي انْطلق إِلَى
الْجِنّ ليقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن ويدعوهم إِلَى الله،
فَقَالَ لأَصْحَابه: من يصحبني مِنْكُم؟ وَفِي رِوَايَة: ليقمْ
مِنْكُم رجل معي لَيْسَ فِي قلبه حَبَّة خَرْدَل من كبر.
فَسكت الْقَوْم.
فَقَالَ ذَلِك ثَانِيًا وثالثا، فَقَامَ عبد الله بن مَسْعُود،
قَالَ ابْن مَسْعُود: فَانْطَلَقت مَعَ رَسُول الله قبل
الْحجُون حَتَّى دَخَلنَا شعب أبي دب، فَقَالَ: فَخط لي خطا
فَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط، وَنزل عَلَيْهِ الْجِنّ مثل
الحجل.
قَالَ فَقَرَأَ عَلَيْهِم
(6/62)
الْقُرْآن وَعلا صَوته، فلصقوا بِالْأَرْضِ
حَتَّى لَا أَرَاهُم " وَفِي رِوَايَة: انهم قَالُوا لَهُ: "
مَا أَنْت؟ مَا أَنْت؟ قَالَ: نَبِي.
قَالُوا: وَمن يشْهد لَك؟ فَقَالَ: هَذِه الشَّجَرَة، قَالَ:
فَدَعَا الشَّجَرَة فَجَاءَت تجر عروقها، لَهَا قعاقع، وَشهِدت
الشَّجَرَة لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، ثمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانهَا
" وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أَنهم سَأَلُوهُ الزَّاد
فَأَعْطَاهُمْ الْعظم والبعر، فَكَانُوا يَجدونَ الْعظم أوقر
مَا يكون لَحْمًا، والبعر علفا لدوابهم، وَنهى الرَّسُول
حِينَئِذٍ الِاسْتِنْجَاء بالعظم والروث ".
قَالَ جمَاعَة من أهل التَّفْسِير: أَن أَمر الْجِنّ كَانَ
مرَّتَيْنِ، مرّة بِمَكَّة وَمرَّة بِبَطن نَخْلَة، فَالَّذِي
رَوَاهُ ابْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة،
وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّة،
فَأَما الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة فَإِنَّهُم مروا
بِالنَّبِيِّ وَاسْتَمعُوا الْقُرْآن، وَأما الَّذِي كَانَ
بِمَكَّة فَإِن الرَّسُول انْطلق إِلَيْهِم، وَقَرَأَ
عَلَيْهِم الْقُرْآن ودعاهم إِلَى الْإِيمَان، فَهَذَا هُوَ
الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقد روى أَن عبد الله بن مَسْعُود رأى بالعراق قوما من الزط،
فَقَالَ: أشبههم بالجن لَيْلَة الْجِنّ.
وَفِي رِوَايَة عَلْقَمَة: أَنه قَالَ لعبد الله بن مَسْعُود:
هَل كَانَ مِنْكُم أحد مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ؟
قَالَ: لَا، مَا شهده منا أحد، وسَاق خَبرا ذكره مُسلم فِي
كِتَابه.
وَفِي الْبَاب اخْتِلَاف كثير فِي الرِّوَايَات، وَأما مَا
ذَكرْنَاهُ هُوَ الْمُخْتَصر مِنْهَا، وَيحْتَمل أَن ابْن
مَسْعُود كَانَ مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ إِلَّا أَنه
لم يكن مَعَه عِنْد خطاب الْجِنّ وَقِرَاءَة الْقُرْآن،
عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ روى أَنه قَالَ: " خطّ رَسُول الله لي
خطا وَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط وَانْطَلق فِي الْجَبَل،
قَالَ فَسمِعت لَغطا وصوتا عَظِيما، فَأَرَدْت أَن أذهب فِي
أَثَره، فَذكرت قَول رَسُول الله: لَا تَبْرَح الْخط فَلم
أذهب، فَلَمَّا رَجَعَ ذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لي: لَو خرجت
من الْخط لم ترني أبدا ".
قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من
الْجِنّ} قَالَ الْفراء: النَّفر اسْم لما بَين الثَّلَاثَة
إِلَى عشرَة.
وَحَكَاهُ ابْن السّكيت أَيْضا عَن ابْن زيد.
يَقُولُونَ: عشرَة نفر، وَلَا يَقُولُونَ: عشرُون نَفرا، وَلَا
ثَلَاثُونَ نَفرا.
وَقد روى أَنهم كَانُوا تِسْعَة نفر، وَذكروا أَسْمَاءَهُم،
وَقد بَينا.
وروى عَاصِم عَن زر أَنه كَانَ فيهم زَوْبَعَة.
(6/63)
{فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا
(1) يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا (2)
وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا}
وَقَوله تَعَالَى: {فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا}
أَي: عجبا فِي نظمه وتأليفه وَصِحَّة مَعْنَاهُ، وَلَا يَصح
قَوْله: {إِنَّا سمعنَا} إِلَّا بِالْكَسْرِ.
(6/64)
يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا
(2)
قَوْله: {يهدي إِلَى الرشد} أَي: إِلَى
الصَّوَاب وَطَرِيق الْحق.
وَقَوله تَعَالَى: {فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا} أَي:
لَا نجْعَل أحدا من خلقه شَرِيكا لَهُ.
(6/64)
وَأَنَّهُ تَعَالَى
جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
قَوْله تَعَالَى {وَأَنه تَعَالَى جد
رَبنَا} قرئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ
فَهُوَ أَن الْجِنّ قَالُوا، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فنصبه على
معنى: آمنا وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا، فانتصب بِوُقُوع
الْإِيمَان عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَة بِالْكَسْرِ أحسن
الْقِرَاءَتَيْن.
وَقَوله تَعَالَى: {جد رَبنَا} أَي: عَظمَة رَبنَا، هَذَا قَول
قَتَادَة وَغَيره.
وَالْجد: العظمة، وَهُوَ البخت أَيْضا، وَهُوَ أَب الْأَب.
وَفِي حَدِيث أنس: كَانَ الرجل منا إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة
وَآل عمرَان جد فِينَا، أَي: عظم [فِينَا] .
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَلَا ينفع ذَا
الْجد مِنْك الْجد " أَي: لَا ينفع ذَا البخت مِنْك بخته إِذا
أردْت بِهِ سوءا أَو مَكْرُوها.
وَعَن الْحسن قَالَ: تَعَالَى جد رَبنَا أَي: غَنِي رَبنَا.
وَعَن إِبْرَاهِيم وَالسُّديّ قَالَا: جد رَبنَا أَي: أَمر
رَبنَا.
(6/64)
{مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا (3) وَأَنه
كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا (4) وَأَنا ظننا أَن لن
تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا (5) وَأَنه كَانَ رجال
من}
وَقَوله تَعَالَى: {مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا} أَي:
زَوْجَة وَولدا.
(6/65)
وَأَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ يَقُول
سفيهنا على الله شططا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن
السَّفِيه هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَهُوَ قَول
مُجَاهِد، وَالْآخر: أَنه كل عَاص متمرد من الْجِنّ.
وَقَوله: {شططا} أَي: كذبا.
وَقيل: جورا.
(6/65)
وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
(5)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن
تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا} وَقَرَأَ يَعْقُوب: "
أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ " أَي: لن تَقول، مَعْنَاهُ
ظَاهر، كَأَنَّهُمْ ظنُّوا أَن كل من قَالَ على الله شَيْئا
فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَأَنه لَا (يجزى) الْكَذِب على الله.
(6/65)
وَأَنَّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ رجال من
الْإِنْس} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قرئَ هَذَا كُله بِالنّصب،
فَمَا وَجه النصب فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قد بَينا وَجه
النصب فِيمَا سبق، وَبَاقِي الْآيَات نصبت بِحكم الْمُجَاورَة
والعطف، أَو بِتَقْدِير آمنا أَو ظننا أَو شَهِدنَا، وَالْعرب
قد تتبع الْكَلِمَة الْكَلِمَة فِي الْإِعْرَاب بِنَفس
الْمُجَاورَة والعطف مثل قَوْلهم: جُحر ضَب خرب.
وَقَوله {يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ} فِي التَّفْسِير: أَن
الرجل كَانَ يُسَافر وَالْقَوْم كَانُوا يسافرون، فَإِذا
بلغُوا مَكَانا قفرا من الْبَريَّة وأمسوا قَالُوا: نَعُوذ
بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه.
وَحكى عَن بَعضهم - وَهُوَ السَّائِب بن أبي كردم - أَنه
قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي فِي سفر ومعنا قِطْعَة من الْغنم،
فنزلنا وَاديا قَالَ: فجَاء ذِئْب وَأخذ حملا من الْغنم،
فَقَامَ أبي وَقَالَ: يَا عَامر الْوَادي، نَحن فِي جوارك،
فحين قَالَ ذَلِك أرسل الذِّئْب الْحمل، فَرجع الْحمل إِلَى
الْغنم فَلم تصبه كدمة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بِرِجَال من
(6/65)
{الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ
فزادوهم رهقا (6) وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن
يبْعَث الله أحدا (7) وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا
ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يسمون
رجَالًا؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا يجوز على طَرِيق الْمجَاز، وَقد
ورد فِي بعض أَخْبَار الْعَرَب فِي حِكَايَة أَن قوما من
الْجِنّ قَالُوا: نَحن أنَاس من الْجِنّ، فَإِذا جَازَ أَن
يسموا أُنَاسًا جَازَ أَن يسموا رجَالًا.
وَأما قَوْله: {فزادوهم رهقا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا:
إِلَّا أَن الْإِنْس زادوا الْجِنّ رهقا أَي: عَظمَة فِي
أنفسهم، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن ازدادوا الْجِنّ
فِي أنفسهم عَظمَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَن الْإِنْس ازدادوا رقها
بالاستعاذة من الْجِنّ.
وَمَعْنَاهُ: طغيانا وإثما، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن
وأمنوا على أنفسهم ازدادوا كفرا، وظنوا أَن أَمنهم كَانَ من
الْجِنّ.
وَقيل: رهقا أَي: غشيانا للمحارم.
وَقيل: مُفَارقَة اللائم.
قَالَ الْأَعْشَى:
لَا شَيْء يَنْفَعنِي من دون رؤيتها ... هَل يشتفي عاشق مَا لم
يصب رهقا)
(6/66)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّهُمْ ظنُّوا
كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا} فِي الْآيَة دَلِيل على
أَنه كَانَ فِي الْجِنّ قوم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا
فِي الْإِنْس.
(6/66)
وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا
وَشُهُبًا (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لمسنا السَّمَاء
فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا} أَي: ملئت حرسا
بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقَوله: {شهبا} جمع شهَاب، وَهُوَ قِطْعَة من النَّار، وَقد
ذكرنَا من قبل صُورَة كَيْفيَّة استراق الشَّيَاطِين السّمع من
السَّمَاء، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسمعُونَ الْكَلِمَة فيضمون
إِلَيْهَا عشرَة ويلقونها إِلَى الكهنة، فَلَمَّا كَانَ فِي
زمَان النَّبِي حرست السَّمَاء، وَرمى الشَّيَاطِين
بِالشُّهُبِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم يزل هَذَا الْأَمر معهودا قبل
الرَّسُول، وَهُوَ انقضاض الْكَوَاكِب، وَذكره شعراء
الْجَاهِلِيَّة فِي أشعارهم، وَقَالَ بَعضهم.
(6/66)
( {8) وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد
للسمع فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا (9) وَأَنا لَا
نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم
رشدا (10) } .
(فانقض كالدري يتبعهُ ... نقع (يثور) تخاله طنبا)
(قَالَه لاقوه إِلَّا وروى) .
وَإِذا كَانَ هَذَا أمرا معهودا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا معنى
تَعْلِيقه بنبوة مُحَمَّد، وعندكم أَنه كَانَ معْجزَة لَهُ
وأساسا لنبوته؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَنه لم يكن هَذَا من قبل، وَإِنَّمَا حدث فِي زمَان نبوة
الرَّسُول، والأشعار كلهَا منحولة على الْجَاهِلِيَّة، أَو
قالوها بعد مولده حِين قرب مبعثه.
وَذكر السّديّ: أَن أول من تنبه للرمي بِالشُّهُبِ هُوَ هَذَا
الْحَيّ من ثَقِيف، فخافوا خوفًا شَدِيدا وظنوا أَن
الْقِيَامَة قد قربت، فَجعلُوا يعتقون العبيد ويسيبون
الْمَوَاشِي، فَقَالَ لَهُم ابْن عبد يَا ليل: لَا تعجلوا،
وانظروا إِلَى النُّجُوم الْمَعْرُوفَة هَل هِيَ فِي أماكنها؟
فَقَالُوا: هِيَ فِي أماكنها.
قَالَ: فَإِن هَذَا لأمر هَذَا الرجل الَّذِي خرج بِمَكَّة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن الرَّمْي
بِالشُّهُبِ قد كَانَ من قبل، وَلكنه لما كَانَ فِي زمَان
الرَّسُول كثر وَقَوي.
قَالَ معمر: قلت لِلزهْرِيِّ: أَكَانَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ
قبل الرَّسُول فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: نعم، وَلكنه لما
كَانَ زمَان الرَّسُول كثر وَاشْتَدَّ.
(6/67)
وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا كُنَّا نقعد
مِنْهَا مقاعد للسمع} أَي: مقاعد للاستماع.
وَقَوله: {فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا} أَي: يجد
شهابا أرصد لَهُ [وهيء] ليرمى بِهِ.
(6/67)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لَا نَدْرِي أشر
أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} أَي:
أُرِيد بهم الصّلاح فِي ذَلِك أَو الْفساد أَو الْخَيْر أَو
الشَّرّ.
(6/67)
{وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك
كُنَّا طرائق قددا (11) وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي
الأَرْض وَلنْ نعجزه هربا (12) وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا
بِهِ فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا (13) وَأَنا
منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا
رشدا (14) .
(6/68)
وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا
(11)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الصالحون
وَمنا دون ذَلِك} أَي: سوى ذَلِك.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فِي الْجِنّ قدرية ومرئجة وروافض
وخوراج، وَغير ذَلِك من الْفرق، وَفِيهِمْ العَاصِي والمطيع
والمصلح، وَغير ذَلِك من الْمُؤمن وَالْكَافِر.
وَقَوله: {كُنَّا طرائق قددا} أَي: ذَا أهواء مُخْتَلفَة.
وقددا مَعْنَاهُ: مُتَفَرِّقَة.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْقَابِض الباسط الْهَادِي بِطَاعَتِهِ ... فِي فتْنَة
النَّاس إِذْ أهواؤهم قدد)
أَي: مُتَفَرِّقَة.
(6/68)
وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ
هَرَبًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن نعجز
الله فِي الأَرْض} معنى الظَّن هَاهُنَا: الْيَقِين أَي: أيقنا
أَن لن نعجزه فِي الأَرْض أَي: لن نفوته، وَلَا يعجز عَنَّا
بِأَخْذِهِ إيانا.
وَقَوله: {وَلنْ نعجزه هربا} قد بَينا.
(6/68)
وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ
فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لما سمعنَا
الْهدى آمنا بِهِ} أَي: بِالْهدى، وَالْهدى هُوَ الْقُرْآن
لِأَنَّهُ يهدي النَّاس.
وَقَوله: {فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا} أَي:
نُقْصَانا من حَسَنَاته وَلَا زِيَادَة فِي سيئاته.
وَقيل: أَي: ظلما.
(6/68)
وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الْمُسلمُونَ
وَمنا القاسطون} أَي: الجائرون هم الْكفَّار.
يُقَال: أقسط إِذا عدل، وقسط إِذا جَار.
فَمن أقسط مقسط، وَمن قسط قاسط.
قَالَ الفرزدق:
(قومِي هم قتلوا ابْن هِنْد عنْوَة ... عمرا وهم قسطوا على
النُّعْمَان)
(6/68)
{وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا
(15) وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا
(16) لنفتنهم فِيهِ وَمن يعرض عَن ذكر ربه يسلكه عذَابا} .
أَي: جاروا.
وَقَوله: {فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا} أَي: طلبُوا الرشد
(وتوخوا) لَهُ.
والمتحري والمتوخي بِمَعْنى وَاحِد.
(6/69)
وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
وَقَوله: {وَأما القاسطون فَكَانُوا
لِجَهَنَّم حطبا} أَي: الْكَافِرُونَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله
تَعَالَى: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} .
(6/69)
وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَو استقاموا على
الطَّرِيقَة} فِي الطَّرِيقَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا
الْإِيمَان، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة
وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن أهل
الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحتنا عَلَيْهِم بَرَكَات من
السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا} .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الطَّرِيقَة هَاهُنَا طَريقَة
الْكفْر والضلالة، وَهَذَا قَول أبي مجلز لَاحق بن حميد من
التَّابِعين، وَهُوَ قَول الْفراء وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى
قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة} الْآيَة.
فَجعل تماديهم فِي الْكفْر سَببا لتوسيع النعم عَلَيْهِم،
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ
فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} الْآيَة، وَمَعْنَاهُ:
أَبْوَاب كل شَيْء من الْخيرَات وَالنعَم.
قَالُوا: وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَنَّهُ عرف الطَّرِيقَة
بِالْألف وَاللَّام، فَيَنْصَرِف إِلَى الطَّرِيقَة
الْمَعْرُوفَة الْمَعْهُودَة شرعا وَهِي الْإِيمَان.
وَقَوله: {لأسقيناهم مَاء غدقا} أَي: كثيرا.
تَقول الْعَرَب: فرس غيداق إِذا كَانَ كثير الجري وَاسِعَة.
وَمَعْنَاهُ: أكثرنا لَهُم المَال وَالنعْمَة؛ لِأَن كَثْرَة
المَاء سَبَب لِكَثْرَة المَال.
(6/69)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا
صَعَدًا (17)
وَقَوله: {لنفتنهم فِيهِ} أَي: لنبتليهم
فِيهِ، ونختبرهم فِيهِ.
(6/69)
{صعدا (17) وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا
تدعوا مَعَ الله أحدا (18) } .
وَاسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن معنى الطَّرِيقَة هُوَ
الْكفْر والضلالة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {ولنفتنهم فِيهِ} وَهَذَا
لَا يلْزم من قَالَ بالْقَوْل الأول؛ لِأَن كَثْرَة النعم
فتْنَة للْمُؤْمِنين والكفرة جَمِيعًا.
وَقَوله: {وَمن يعرض عَن ذكر ربه} أَي: عَن الْإِيمَان بربه
{يسلكه عذَابا صعدا} أَي: شاقا.
وَالْعَذَاب الشاق هُوَ النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلهُ
النَّار.
وَمِنْه قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء مَا
تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح.
أَي شقَّتْ.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله: {صعدا} هُوَ جبل فِي
جَهَنَّم.
وَقيل: هُوَ صَخْرَة من نَار يُكَلف الصعُود عَلَيْهَا، فَإِذا
صعد عَلَيْهَا وَقع فِي الدَّرك الْأَسْفَل.
(6/70)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن الْمَسَاجِد لله
فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} اتّفق الْقُرَّاء على فتح الْألف
فِي هَذِه الْآيَة، وَعلة النصب أَن مَعْنَاهُ: وَلِأَن
الْمَسَاجِد لله، ثمَّ حذفت اللَّام فانتصب الْألف.
وَقيل: انتصبت لِأَن مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَن الْمَسَاجِد
لله. وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْجِنّ قَالُوا للنَّبِي:
نَحن نود أَن نصلي مَعَك، فَكيف نَفْعل وَنحن ناءون عَنْك؟
فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَأَن الْمَسَاجِد لله}
وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ إِن صليتم فمقصودكم حَاصِل من عبَادَة
الله تَعَالَى، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أحدا، وَهُوَ معنى
قَوْله: {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَيُقَال: هُوَ
ابْتِدَاء كَلَام.
وَالْمعْنَى: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى يشركُونَ فِي البيع
والصوامع، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ فِي عبَادَة الْأَصْنَام،
فَأنْتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ اعلموا أَن الصَّلَوَات
وَالسُّجُود والمساجد كلهَا لله، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَه أحدا.
وَفِي الْمَسَاجِد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى
السُّجُود، وَهِي جمع مَسْجِد.
يُقَال: سجدت سجودا ومسجدا وَالْمعْنَى: أَن السُّجُود لله
يَعْنِي: هُوَ الْمُسْتَحق للسُّجُود.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْمَوَاضِع
المبنية للصَّلَاة المهيأة لَهَا، وَهِي جمع مَسْجِد، وَمعنى
قَوْله: {لله} نفي الْملك عَنْهَا، أَو مَعْنَاهُ: الْأَمر
بإخلاص الْعِبَادَة فِيهَا لله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْأَعْضَاء
الَّتِي يسْجد عَلَيْهَا الْإِنْسَان من جَبهته وَيَديه
وركبتيه وقدميه، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْجد
على هَذِه الْأَعْضَاء إِلَّا لله.
(6/70)
{وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ
كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا (19) قل إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلَا أشرك بِهِ أحدا (20) } .
وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أمرت أَن
أَسجد على سَبْعَة أعظم، وَألا أكف ثوبا وَلَا شعرًا ".
(6/71)
وَأَنَّهُ لَمَّا
قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد
الله} فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ ينْصَرف إِلَى قَول الْجِنّ،
وَمَعْنَاهُ: قَالَ الْجِنّ: {وَإنَّهُ} وَقيل: ينْصَرف إِلَى
قَول الله أَي: قَالَ الله تَعَالَى: وَإنَّهُ لما قَامَ عبد
الله وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَنه لما
قَامَ عبد الله.
فعلى القَوْل الأول قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا}
ينْصَرف إِلَى أَصْحَاب النَّبِي وَعبد الله هُوَ الرَّسُول،
وَالْمعْنَى: أَن الْجِنّ لما رأو النَّبِي وَأَصْحَابه خَلفه
وشاهدوا طواعيتهم لَهُ قَالُوا: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ
لبدا أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا من الطواعية.
وعَلى القَوْل الثَّانِي الْمَعْنى: هُوَ أَن الله تَعَالَى
حكى عَن الْجِنّ أَن الرَّسُول لما قَرَأَ الْقُرْآن عَلَيْهِم
- يَعْنِي: على الْجِنّ - كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي:
على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَي: يركب
بَعضهم بَعْضًا لحب الإصغاء إِلَى قِرَاءَته وَالِاسْتِمَاع
إِلَيْهَا.
وَيُقَال: إِن الرَّسُول كَانَ صلى بهم وازدحموا عَلَيْهِ،
وَكَاد يركب بَعضهم بَعْضًا.
وَفِي بعض التفاسير: كَادُوا يسقطون عَلَيْهِ.
وَأما على قِرَاءَة الْفَتْح قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ
عَلَيْهِ لبدا} ينْصَرف إِلَى الْجِنّ أَيْضا، و (هُوَ) أظهر
الْقَوْلَيْنِ أَن الِانْصِرَاف إِلَى الْجِنّ.
وَمن اللبد قَالُوا: تلبد الْقَوْم إِذا اجْتَمعُوا، وَمِنْه
اللبد، لِأَن بعضه على بعض.
وَقيل: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: تلبدت الْجِنّ
وَالْإِنْس واجتمعوا على أَن يطفئوا نور الله لما قَامَ
الرَّسُول يَدعُوهُ أَي: يَدْعُو الله، وَقُرِئَ: " لبدا "
أَي: كثيرا.
واللبد أَيْضا اسْم آخر نسر من نسور (نعْمَان) بن عَاد،
وَكَانَ عَاشَ سَبْعمِائة سنة.
وَقيل فِي الْمثل: طَال لبد على أمد.
(6/71)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أدعوا
رَبِّي} وَقُرِئَ: " قَالَ إِنَّمَا أدعوا رَبِّي " فِي
التَّفْسِير: أَن
(6/71)
{قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا
(21) قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد وَلنْ أجد من دونه
ملتحدا (22) إِلَّا بلاغا من الله ورسالاته وَمن يعْص الله
وَرَسُوله} النَّضر بن الْحَارِث قَالَ للنَّبِي: إِنَّك جِئْت
بِأَمْر عَظِيم، وخالفت دين آبَائِك، وَأَن الْعَرَب لَا
يوافقونك على هَذَا، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك فَأنْزل الله
تَعَالَى قَوْله: {قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي} أَي: أوحد رَبِّي
{وَلَا أشرك بِهِ أحدا} أَي: مَعَه أحدا.
وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه مَعَ الْجِنّ، وَهُوَ نسق على مَا
تقدم.
(6/72)
قُلْ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لَا أملك لكم
ضرا وَلَا رشدا} يَعْنِي: لَا أملك ذَلِك بنفسي، وَإِنَّمَا
هُوَ من الله تَعَالَى وبعونه وتوفيقه) .
(6/72)
قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَدًا (22)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من
الله أحد} روى أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ لَهُ: ارْجع
إِلَى دين آبَائِك وَلَا تخف من أحد، فَإنَّا نجيرك ونمنعك،
فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد}
أَي: لن ينصرني ويمنعني من عَذَاب الله أحد.
وَيُقَال: إِنَّه خطاب الْجِنّ نسقا على مَا تقدم.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن ابْن مَسْعُود خرج
مَعَ النَّبِي لَيْلَة الْجِنّ، فازدحم الْجِنّ على النَّبِي
وتعاووا عَلَيْهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ وردان:
يَا مُحَمَّد، لَا تخف فَأَنا أجيرك مِنْهُم، فَأنْزل الله
تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} .
وَقَوله: {وَلنْ أجد من دونه ملتحدا} أَي: ملْجأ.
وَقيل: مهربا.
وَيُقَال: متعرجا.
(6/72)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ
اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
وَقَوله: {إِلَّا بلاغا من الله} أَي: لَا
أملك شَيْئا من الضّر والرشد إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي
أَي: لَيْسَ بيَدي إِلَّا هَذَا وَهَذَا التَّبْلِيغ.
وَقد قيل: ضرا وَلَا رشدا أَي: لَا أدفَع عَنْكُم ضرا، وَلَا
أسوق إِلَيْكُم خيرا، وَلَيْسَ بيَدي إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة
رَبِّي.
وَقَوله: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم
خَالِدين فِيهَا أبدا} أَي: دَائِما.
(6/72)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا
مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا
وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا
يوعدون} أَي: الْقِيَامَة، قَالَه سعيد بن جُبَير وَغَيره.
وَقيل: الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا، قَالَه قَتَادَة وَغَيره.
(6/72)
{فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا
أبدا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون فسيعلمون من أَضْعَف
ناصرا وَأَقل عددا (24) قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم
يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا (25) عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على
غيبه أحدا (26) إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَإِنَّهُ يسْلك من
بَين يَدَيْهِ}
وَقَوله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} أَي: وَأَقل
جندا وأعوانا.
وَيُقَال: معنى قَوْله: {وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يُعْطي الْمُؤمنِينَ من
الْأزْوَاج والولدان والحور والقهارمة (و) وَمَا يكثر عَددهمْ
ويزيدوا على أهل بَلْدَة كَثِيرَة من بِلَاد الدُّنْيَا،
فَهُوَ معنى قَوْله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا}
فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعيرون النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ
بقلة النَّاصِر وَقلة الْعدَد، فَقَالَ: {فسيعلمون من أَضْعَف
ناصرا وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة، وَإِذا وصل كل أحد
إِلَى مستقره.
(6/73)
قُلْ إِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا
(25)
قَوْله تَعَالَى {قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب
مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا} أَي: مُدَّة
وَغَايَة، وَالْمعْنَى: لَا أَدْرِي أَنه يعجل لكم الْعَذَاب
أَو يُؤَخِّرهُ، ويعجل لكم مُدَّة ومهلة.
وَقد روى أَن الْمُشْركين كَانُوا يستعجلونه الْعَذَاب،
وَيَقُولُونَ: إِلَى مَتى توعدنا الْعَذَاب؟ فَأَيْنَ
الْعَذَاب؟ فَأمره الله تَعَالَى أَن يكل ذَلِك إِلَى الله
تَعَالَى، وَأَن يَقُول: إِنَّه بيد الله لَا بيَدي.
(6/73)
عَالِمُ الْغَيْبِ
فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب فَلَا
يظْهر على غيبه أحدا} أَي: هُوَ عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر
على غيبه أحدا
(6/73)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
{إِلَّا من ارتضى من رَسُول} فَإِنَّهُ
يطلعه على غيبه بِمَا ينزله عَلَيْهِ من الْآيَات والبينات.
وَقَوله: {فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ} أَي: يَجْعَل من
بَين يَدَيْهِ {وَمن خَلفه رصدا} أَي: حفظَة.
وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مَلَائِكَة
يحرسونه.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى مَا بعث وَحيا من
السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَة يحرسونه.
فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن مَاذَا يَحْفَظُونَهُ ويحرسونه؟
وَالْجَوَاب: أَن الْحِفْظ والحراسة لخطر شَأْن
(6/73)
{من خَلفه رصدا (27) ليعلم أَن قد أبلغوا
رسالات رَبهم وأحاط بِمَا لديهم وأحصى كل شَيْء عددا (28) } .
الْوَحْي ولتعظيمه فِي النُّفُوس، لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى
الحراسة والحفظة.
يُقَال: إِن الْحِفْظ والحراسة من المسترقين للسمع، لِئَلَّا
يسرقوا شَيْئا من ذَلِك ويلقوه إِلَى الكهنة.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل
سُورَة الْأَنْعَام بعث مَعهَا سبعين ألف ملك يحرسونها ".
وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن من قَالَ بالنجوم شَيْئا وَادّعى
علما من الْغَيْب بجهتها فَهُوَ كَافِر بِالْقُرْآنِ.
وَقد قَالَ بَعضهم: الطّرق والجبت والكهان كلهم مضللون وَدون
الْغَيْب أشاروا.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى عَن النّظر فِي
النُّجُوم ".
وَالْمعْنَى هُوَ النّظر فِيهَا لِلْقَوْلِ بِالْغَيْبِ
عَنْهَا، فَأَما النّظر فِيهَا للاهتداء أَو للاعتبار أَو
لمعْرِفَة الْقبْلَة وَمَا أشبه ذَلِك مُطلق جَائِز.
(6/74)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
وَقَوله تَعَالَى: {ليعلم أَن قد أبلغوا
رسالات رَبهم} وَقُرِئَ: " رِسَالَة رَبهم " وَهِي وَاحِد
الرسالات.
وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى: {ليعلم} فأحد
الْأَقْوَال هُوَ أَن مَعْنَاهُ: ليعلم مُحَمَّد أَن الرُّسُل
الَّذين كَانُوا قبله قد أبلغوا رسالات رَبهم على مَا أنزل
إِلَيْهِم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه منصرف إِلَى الْجِنّ.
وَقُرِئَ: " ليعلم الْجِنّ أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم
على مَا أنزل إِلَيْهِم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: ليعلم الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: ليعلم الله، أوردهُ الزّجاج وَغَيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ليعلم الله، وَهُوَ
عَالم
(6/74)
بالأشياء قبل كَونهَا ووجودها؟
وَالْجَوَاب: أَنا قد بَينا الْجَواب فِيمَا سبق فِي مَوَاضِع
كَثِيرَة.
وَقد قيل: ليعلم الله تَعَالَى أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات
رَبهم شَهَادَة ووجودا، وَقد كَانَ يعلم ذَلِك غيبا.
وَقَوله: {وأحاط بِمَا لديهم} أَي: أحَاط علمه بِمَا عِنْدهم.
وَقَوله: {وأحصى كل شَيْء عددا} أَي: وأحصى كل شَيْء معدودا.
وَيُقَال: عد كل شَيْء عددا، وَهَذَا على معنى أَنه لَا يخفى
على الله شَيْء كثير أَو قَلِيل، جليل أَو دَقِيق.
وَالله أعلم.
(6/75)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا المزمل (1) قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) } .
تَفْسِير سُورَة المزمل
وَهِي مَكِّيَّة.
وَعند بَعضهم هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {إِن
رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل} إِلَى آخر
السُّورَة.
(6/76)
يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل}
مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتزمل، أدغمت التَّاء فِي الزَّاي،
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} أَي: يَا أَيهَا
المتدثر، أدغمت التَّاء فِي الدَّال.
قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تراء لَهُ جِبْرِيل - صلوَات الله
عَلَيْهِ - فِي ابْتِدَاء الْوَحْي فرق مِنْهُ فرقا شَدِيدا،
فَرجع إِلَى بَيته وتزمل بثيابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى
قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} ثمَّ إِن جِبْرِيل - عَليّ
السَّلَام - أَكثر الْمَجِيء إِلَيْهِ حَتَّى أنس.
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: وَكَانَ متزملا فِي قطيفة.
وَعَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} يَا أَيهَا
النَّائِم.
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام -
جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم، فَقَالَ: يَا أَيهَا المزمل -
أَي النَّائِم - قُم، وَاتخذ لنَفسك ظلا يَوْم لَا ظلّ إِلَّا
ظله.
وَفِي بعض التفاسير عَن عِكْرِمَة: {يَا أَيهَا المزمل} يَا
أَيهَا المتزمل بِالنُّبُوَّةِ.
وَهُوَ غَرِيب.
وَأنْشد فِي المزمل:
(كَأَن ثبيرا فِي عرانين وبلة ... كَبِير أنَاس فِي بجاد مزمل)
.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا أَيهَا المزمل ".
(6/76)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا (2)
وَقَوله: {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا}
أَي: إِلَّا شَيْئا يَسِيرا مِنْهُ.
قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ الثُّلُث، وَمَعْنَاهُ: قُم (ثُلثي)
اللَّيْل.
وَعَن وهب بن مُنَبّه: إِلَّا
(6/76)
{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا (3) أَو زد
عَلَيْهِ ورتل الْقُرْآن ترتيلا (4) } . قَلِيلا هُوَ دون
السُّدس.
(6/77)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلًا (3)
وَقَوله: {نصفه} يدل على اللَّيْل أَي: قُم
نصفه إِلَّا قَلِيلا.
وَقيل فِي الْقَلِيل على هَذَا القَوْل: نصفه السُّدس.
وَقَوله: {أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} أَي: من النّصْف إِلَى
الثُّلُث.
(6/77)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
وَقَوله {أَو زد عَلَيْهِ} أَي: زد على
النّصْف إِلَى الثُّلثَيْنِ.
وَالْمعْنَى من الْآيَة: إِيجَاب الْقيام عَلَيْهِ مَعَ توسيع
الْأَمر فِي الْمِقْدَار.
وَذكر النقاش أَن قَوْله: " نصفه " مَعْنَاهُ: أَو نصفه.
وَقَوله: {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} أَي: بَينه تبيينا.
قَالَ الضَّحَّاك: حرفا حرفا.
وَحَقِيقَة الترتيل هُوَ الترسل فِي الْقِرَاءَة وإلقاء
الْحُرُوف حَقّهَا من الإشباع بِلَا عجل وَلَا (هذرمة) .
وروى أَبُو جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لِأَن أَقرَأ
سُورَة الْبَقَرَة أرتل ترتيلا أحب إِلَيّ من أَن أَقرَأ
جَمِيع الْقُرْآن هذرمة.
وَعَن أنس أَنه سُئِلَ عَن قِرَاءَة النَّبِي فَقَالَ: " كَانَ
يمد مدا ".
وَفِي الحكايات عَن صَدَقَة المقابري أَنه قَالَ: قُمْت
لَيْلَة وقرأت أحدر حدرا فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي
أزرع شَعِيرًا، ثمَّ رتلت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي
أزرع حِنْطَة، ثمَّ حققت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي
أزرع سمسما.
وَقد صَحَّ بِرِوَايَة سعد بن هِشَام أَنه قَالَ: قلت
لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَخْبِرِينِي عَن قيام رَسُول
الله بِاللَّيْلِ.
فَقَالَت: أَلَسْت تقْرَأ سُورَة المزمل؟ قلت: نعم.
قَالَت:
(6/77)
{إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا (5) إِن
ناشئة اللَّيْل هِيَ أَشد وطئا}
" فرض الله تَعَالَى قيام اللَّيْل على النَّبِي وَأَصْحَابه،
فَقَامُوا سنة حَتَّى تورمت أَقْدَامهم، ثمَّ أنزل الله
تَعَالَى قَوْله: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي
اللَّيْل} فنسخ قيام اللَّيْل ".
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه أنزل أول السُّورَة وَأمْسك خاتمتها
سنة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: سِتَّة عشر شهرا.
وَفِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: عشر سِنِين.
(6/78)
إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك
قولا ثقيلا} قَالَ الْحسن: ثقيلا الْعَمَل بِهِ.
وَقَالَ الزّجاج: هُوَ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَسَائِر
الْأَوَامِر والنواهي، لَا يَفْعَلهَا الْإِنْسَان إِلَّا
بتكلف يثقل عَلَيْهِ.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: ثقيل وَالله حُدُوده وفرائضه.
وَقيل: ثقيلا فِي الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه الْحسن
فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الْفراء: هُوَ قَول ثقيل، أَي: لَيْسَ بخفيف وَلَا
بسفساف، وَهُوَ ثقيل، أَي: لَهُ وزن بِصِحَّتِهِ وَبَيَانه
وتقشعه.
يُقَال: هَذَا كَلَام رزين صين أَي: لَيْسَ بقول لَا معنى
لَهُ.
(6/78)
إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِن ناشئة اللَّيْل}
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُجاهد وَسَعِيد ابْن
جُبَير: أَنه اللَّيْل كُله.
وَعَن ابْن عمر وَأنس: هُوَ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء.
وَعَن الْكسَائي: أول اللَّيْل.
وَعَن بَعضهم: من صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة إِلَى الصُّبْح،
قَالَه الْحسن وَالْحكم بن عتيبة.
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ أَن يَسْتَيْقِظ بعد أَن ينَام.
وناشئة اللَّيْل: سَاعَات اللَّيْل، وَحَقِيقَته هِيَ أَن
سَاعَات الناشئة من اللَّيْل، أَي: الَّتِي ينشأ بَعْضهَا فِي
إِثْر بعض.
وَقَوله: {هِيَ أَشد وطئا} وَقُرِئَ: " وطاء " أما قَوْله:
{وطأ} قَالَ الْأَخْفَش سعيد ابْن مسْعدَة: أَشد قيَاما.
وَالْوَطْء فِي اللُّغَة هِيَ الثّقل.
قَالَ النَّبِي " اشْدُد وطأتك على مُضر ".
يُقَال: اشْتَدَّ وَطْء السُّلْطَان فِي بلد كَذَا، أَي: ثقله.
فعلى هَذَا معنى
(6/78)
{وأقوم قيلا (6) إِن لَك فِي النَّهَار
سبحا طَويلا (7) } .
قَوْله: {أَشد وطئا} أَي: ثقلا.
وَالْمعْنَى: أَنه أثقل على الْبدن؛ لِأَنَّهُ وَقت الرَّاحَة
والسكون، فَيكون الْقيام فِيهِ أثقل، وَإِذا كَانَ الْقيام
أثقل فالثواب أعظم، فَإِن الْجهد إِذا كَانَ أَشد، وَالْعَمَل
أتعب، فالثواب أكبر، وَهُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ فِي هَذِه
الْقِرَاءَة.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَي: أَشد مواطأة، وَمَعْنَاهُ:
مُوَافقَة بَين السّمع وَالْبَصَر وَالْقلب، وَذَلِكَ لقلَّة
الحركات وهدء الْأَصْوَات، فَإِن بِالنَّهَارِ تكون الْعين
مشتغلة بِالنّظرِ، وَالْأُذن بِالسَّمْعِ، وَالْقلب مشتغل
بالتصرفات، فَلَا تقع الْمُوَافقَة بالاستماع والتفهم.
قَالَ الْفراء: {أَشد وطأ} أَي أَجْدَر أَن تُحْصُوا مقادير
قيامكم لفراغ قُلُوبكُمْ.
وَقَوله: {وأقوم قيلا} قَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: أبين
قولا.
وَعَن أنس أَنه قَرَأَ قَوْله: {أَشد وطاء} " أهيأ وطاء "
وَهُوَ قريب الْمَعْنى من الأول.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: ناشئة اللَّيْل هُوَ جَمِيع
اللَّيْل بالحبشية، وَهِي معربة.
(6/79)
إِنَّ لَكَ فِي
النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لَك فِي النَّهَار
سبحا طَويلا} أَي: فراغا طَويلا للاستراحة.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: سبحا طَويلا، أَي: تَصرفا وإقبالا
وإدبارا فِي أمورك.
وَقَرَأَ يحيى بن يعمر " سبخا طَويلا " بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَة.
قَالَ ثَعْلَب: السبح هُوَ الِاضْطِرَاب، والسبخ هُوَ
السّكُون.
وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعَائِشَة -
رَضِي الله عَنْهَا - فِي السَّارِق مِنْهَا: " لَا تستبخي
بِرَأْيِك عَلَيْهِ "، أَي: لَا تخففي.
(6/79)
{وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا
(8) رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه
وَكيلا (9) واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا (10)
وذرني}
(6/80)
وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
وَقَوله: وَقَوله {وَاذْكُر اسْم رَبك}
قَالَ مقَاتل: إِذا قَرَأت فَقل: بِسم الله الرَّحْمَن
الرَّحِيم عِنْد افْتِتَاح السُّورَة.
وَقيل: اذكر رَبك.
وَقَوله: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: انْقَطع إِلَيْهِ
انْقِطَاعًا.
وَمِنْه الْعَذْرَاء البتول لِمَرْيَم، أَي: المنقطعة إِلَى
الله تَعَالَى فِي النّسك.
وَكَذَلِكَ الزهراء البتول لفاطمة، أَي: المنقطعة عَن أقرانها
فِي الْفضل، وَمِنْه صَدَقَة بتلة، أَي: مُنْقَطِعَة خَارِجَة
من مَال الْمُتَصَدّق بهَا.
وَقيل: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: أخْلص لَهُ إخلاصا.
وَذكر النقاش عَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: أَنه رفع
الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة.
وَعَن زيد بن أسلم: أَنه رفض الدُّنْيَا، وَطلب مَا عِنْد الله
تَعَالَى.
(6/80)
رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
(9)
قَوْله تَعَالَى: {رب الْمشرق وَالْمغْرب
لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا} قَالَ الْفراء: كَفِيلا.
وَقيل: إِلَهًا.
وَقيل: كل أمورك.
(6/80)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {واصبر على مَا
يَقُولُونَ} وَهَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قبل نزُول آيَة
السَّيْف، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {واهجرهم هجرا جميلا}
وَقد نسخ بِآيَة السَّيْف.
والهجر الْجَمِيل قيل: هُوَ الَّذِي لَا جزع فِيهِ.
(6/80)
وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا
(11)
قَوْله تَعَالَى {وذرني والمكذبين} فَإِن
قَالَ قَائِل: أيش معنى قَوْله: {وذرني والمكذبين} وَلَا
حَائِل يحول عَنْهُم؟
وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول ذَلِك وَإِن لم يكن ثمَّ
حَائِل وَلَا مَانع على مَا بَينا.
وَقَوله: {أولي النِّعْمَة} أَي: التنعم.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " إِن
(6/80)
{والمكذبين أولي النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا
(11) إِن لدينا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا
غُصَّة وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) } . عباد الله لَيْسُوا
بمتنعمين ".
وَقَوله: ومهلهم قَلِيلا) أَي: أمهلهم مُدَّة قَليلَة.
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: لم يكن بَين نزُول هَذِه
الْآيَة ووقعة بدر إِلَّا شَيْئا (يَسِيرا) .
وَقد قيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بني الْمُغيرَة، وَهُوَ
مُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم.
وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي اثْنَي عشر رهطا من قُرَيْش، هم
المطعمون يَوْم بدر.
(6/81)
إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لدينا أَنْكَالًا}
أَي: قيودا.
وَقَالَت الخنساء:
(دعَاك فَقطعت أنكاله ... ولولاك يَا صَخْر لم تقطع) .
وَقَالَ أَبُو عمرَان الْجونِي: إِن لدينا أَنْكَالًا أَي:
اللجم من النَّار.
وَقَوله: {وَجَحِيمًا} قد بَينا.
(6/81)
وَطَعَامًا ذَا
غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
وَقَوله: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّة} قَالَ
مُجَاهِد: هُوَ الزقوم، وَقيل: هُوَ شوك يحصل فِي الْحلق،
فَلَا ينزل وَلَا يخرج.
وَقيل: هُوَ الضريع.
وَفِي الحكايات أَن الْحسن الْبَصْرِيّ طوى ثَلَاث لَيَال وَلم
يفْطر، وَكَانَ كلما قدم إِلَيْهِ الطَّعَام ذكر هَذِه الْآيَة
فيأمر بِرَفْعِهِ، حَتَّى أكره من بعد على شربة سويق.
وَقد ورد فِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار " أَن النَّبِي قرئَ
عِنْده هَذِه الْآيَة فَصعِقَ صعقة "،
(6/81)
{يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال وَكَانَت
الْجبَال كثيبا مهيلا (14) إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا
شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15)
فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فَكيف
تَتَّقُون إِن كَفرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا (17)
} . وَهُوَ غَرِيب جدا.
قَوْله: {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أَي: موجعا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن الله تَعَالَى يحب النكل على النكل.
أَي: الرجل الْقوي المجرب على الْفرس المجرب.
(6/82)
يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
مَهِيلًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الأَرْض
وَالْجِبَال} أَي: تتزلزل، وَمِنْه الرجفة، أَي: الزلزلة.
وَقَوله: {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} أَي: رملا سَائِلًا.
وَيُقَال: المهيل هُوَ الَّذِي إِذا أَخذ الطّرف مِنْهُ انهال
الطّرف الآخر.
(6/82)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا
إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم} وَهُوَ مُحَمَّد.
وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا}
هُوَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.
(6/82)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
وَقَوله: {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} أَي:
خرج عَن أمره.
وَقَوله: {فأخذناه أخذا وبيلا} أَي: شَدِيدا.
يُقَال: طَعَام وبيل إِذا أكله الْإِنْسَان فَلم يستمرئه.
وَقيل وبيلا: ثقيلا.
(6/82)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ
إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَكيف تَتَّقُون إِن
كَفرْتُمْ يَوْمًا} أَي: كَيفَ تَتَّقُون [إِن كَفرْتُمْ من
عَذَاب يَوْم؟] ثمَّ وصف الْيَوْم فَقَالَ: {يَجْعَل الْولدَان
شيبا} وَهَذَا على طَرِيق كَلَام الْعَرَب فِي ذكر شدَّة
الْيَوْم، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: هُوَ يَوْم تشيب [فِيهِ]
النواصي، وَيَوْم يبيض فِيهِ القار.
فَالْمُرَاد من الْآيَة هُوَ الْإِخْبَار عَن شدَّة الْأَمر.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه يشيب فِيهِ ولدان الْكفَّار لَا ولدان
الْمُؤمنِينَ.
(6/82)
{السَّمَاء منفطر بِهِ كَانَ وعده
مَفْعُولا (18) إِن هَذِه تذكرة فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه
سَبِيلا (19) إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي
اللَّيْل وَنصفه وَثلثه وَطَائِفَة من}
(6/83)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
وَقَوله: {السَّمَاء منفطر بِهِ} قد ورد
عَن كثير من السّلف أَن قَوْله: {منفطر بِهِ} أَي: بِاللَّه،
وَهُوَ نزُول يَوْم الْقِيَامَة لفصل الْقَضَاء بِلَا كَيفَ.
وَقيل: السَّمَاء منفطر بِهِ أَي: فِيهِ، يَعْنِي أَن
السَّمَاء منشقة فِي يَوْم الْقِيَامَة.
ذكره أَبُو جَعْفَر النّحاس، وَذكر أَنه أحسن الْمعَانِي.
وَقَوله: {كَانَ وعده مَفْعُولا} أَي: متحققا كَائِنا لَا
محَالة.
(6/83)
إِنَّ هَذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه تذكرة} أَي:
السُّورَة تذكرة عِبْرَة عظة.
قَوْله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا} أَي: طَرِيقا
ووجهة إِلَى الله تَعَالَى.
(6/83)
إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك
تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه} وَقُرِئَ: " وَنصفه "
فَمن قَرَأَ بِفَتْح الْفَاء نَصبه على تَفْسِير الْأَدْنَى،
وَمن قَرَأَ بِكَسْر الْفَاء، أَي: أدنى من نصفه.
وَقَوله: {وَثلثه} مَعْطُوف [على] النّصْف فِي
الْقِرَاءَتَيْن.
وَقَوله: {وَطَائِفَة من الَّذين مَعَك} قد بَينا أَن النَّبِي
وَأَصْحَابه قَامُوا حولا حَتَّى تورمت أَقْدَامهم.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يقومُونَ جَمِيع اللَّيْل
مَخَافَة أَن ينقصوا من الْمِقْدَار الْمَفْرُوض.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه كَانَ الْقيام مَفْرُوضًا على
النَّبِي وَجَمِيع أَصْحَابه أَو على النَّبِي وَحده؟
فَفِي أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ
وعَلى جَمِيع أَصْحَابه.
وَفِي قَول آخر: كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ وَحده [ذكره] أَبُو
الْحسن الْمَاوَرْدِيّ، وَذكر أَيْضا قَوْلَيْنِ فِي أَنه هَل
بَقِي عَلَيْهِ قيام اللَّيْل بعد النّسخ؟
(6/83)
{الَّذين مَعَك وَالله يقدر اللَّيْل
وَالنَّهَار علم أَن لن تحصوه فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرءوا مَا
تيَسّر من الْقُرْآن}
فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن النّسخ كَانَ فِي حق الصَّحَابَة،
وَأما فِي حَقه بَقِي إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حَقه
وَالصَّحَابَة جَمِيعًا، وَإِنَّمَا بقى التَّنَفُّل والتطوع
بِهِ فَحسب.
وَقَوله: {وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: لَا يفوت
عَن علمه سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار، فَيعلم مَا يقومُونَ
من ذَلِك وَمَا يتركون.
وَقَوله: {علم أَن لن تحصوه} أَي: لن [تطيقوه] .
وَالْمعْنَى: أَنه يشق عَلَيْكُم معرفَة مِقْدَار الْمَفْرُوض
وَالْقِيَام بِالْأَمر، وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان إِذا نَام
ثمَّ اسْتَيْقَظَ لَا يدْرِي وَكم نَام وَكم بَقِي من
اللَّيْل، وَقد كَانَ الله تَعَالَى فرض قيام اللَّيْل على
مِقْدَار مَعْلُوم، وَهُوَ لَا ينقص من الثُّلُث، ويبلغ
الثُّلثَيْنِ إِن أَرَادَ.
وَقَوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} أَي: نُسْخَة عَلَيْكُم ورفضه،
وَمعنى التَّوْبَة هُوَ الرّفْع وَالْعَفو هَاهُنَا.
وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: صلوا مَا تيَسّر من (الصَّلَاة) ، وَهَذَا على
طَرِيق النَّافِلَة والتطوع لَا على طَرِيق الْفَرْض.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: يجب قيام اللَّيْل وَلَو حلب شَاة
لهَذِهِ الْآيَة. وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول؛ " لِأَنَّهُ
قد ثَبت أَن النَّبِي جَاءَهُ أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسمع
دوِي صَوته، وَلَا يفهم مَا يَقُول ... الْخَبَر إِلَى أَن
قَالَ: هَل على غَيْرهنَّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَن
(6/84)
{علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى وَآخَرُونَ
يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله وَآخَرُونَ
يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله}
تطوع ".
فَدلَّ هَذَا الْخَبَر أَن قيام اللَّيْل لَيْسَ بمفروض،
وَفِيه إِجْمَاع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: [أَن] قَوْله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من
الْقُرْآن} أَي: فاقرءوا فِي الصَّلَاة مَا تيسير من الْقُرْآن
من غير تَوْقِيف وَلَا تَقْدِير.
وَهَذَا على قَول الشَّافِعِي وَعَامة الْعلمَاء فِيمَا وَرَاء
الْفَاتِحَة.
وَقد ذكر أَبُو [الْحسن] الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابه
بِإِسْنَادِهِ عَن قيس بن أبي حَازِم أَنه قَالَ: صليت خلف
ابْن عَبَّاس فَقَرَأَ الْفَاتِحَة فِي الرَّكْعَة الأولى،
وَقَرَأَ الْآيَة الأولى من سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ قَامَ فِي
الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَقَرَأَ الْفَاتِحَة وَالْآيَة
الثَّانِيَة من سُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا فرغ قَرَأَ قَوْله
تَعَالَى: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} يَعْنِي: أَنه
الَّذِي تيَسّر.
قَالَ عَليّ بن عمر وَهُوَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ دَلِيل على
قَول من يَقُول أَن مَا تيسير هُوَ مَا وَرَاء الْفَاتِحَة.
وَقَوله: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} أَي: (ذَوُو) مرض.
قَوْله: {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل
الله} أَي: التُّجَّار وَسَائِر الْمُسَافِرين.
وَقَوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} أَي:
الْغُزَاة.
وَالْكل بَيَان وُجُوه الْمَشَقَّة فِي قيام اللَّيْل.
(6/85)
{فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ وَأقِيمُوا
الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وَمَا
تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله هُوَ خيرا وَأعظم
أجرا وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم (20) } .
وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ} مَعْنَاهُ على مَا
بَينا.
وَقَوله: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} أَي:
الصَّلَوَات الْخمس الْمَفْرُوضَة، وَالزَّكَاة الْمَفْرُوضَة.
وَقيل بِأَن الزَّكَاة هَاهُنَا: زَكَاة الرُّءُوس، وَهِي
زَكَاة الْفطر.
وَقيل: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} قد ذكرنَا من قبل.
وَقيل: هُوَ جَمِيع النَّوَافِل ووجوه الصَّلَاة.
وَقيل: هُوَ قَوْله: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا
إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر.
وَيُقَال: إِنَّه النَّفَقَة على الْأَهْل.
وَقَوله: {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله}
أَي: ثَوَابه عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {هُوَ خيرا وَأعظم} نَصبه على أَنه مفعول ثَان من
تَجِدُوهُ.
وَقيل: هُوَ فصل كَلَام، ذكره الْأَزْهَرِي.
وَقَوله: {وَأعظم أجرا} مَعْطُوف على الأول.
وَقَوله: {وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر
الْمَعْنى وَالله أعلم.
(6/86)
تَفْسِير سُورَة المدثر
وَهِي مَكِّيَّة
وَذكر جَابر بن عبد الله أَنَّهَا أول سُورَة أنزلت من
الْقُرْآن.
وروى أَن النَّبِي قَالَ: " جَاوَرت بحراء شهرا، فَلَمَّا نزلت
واستبطنت الْوَادي نوديت يَا مُحَمَّد، فَنَظَرت من قدامي
وَخَلْفِي ويميني وشمالي فَلم أر أحدا، فنوديت ثمَّ نوديت ثمَّ
نوديت، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا هُوَ فِي الْعَرْش فِي
الْهَوَاء.
يَعْنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فجئثت مِنْهُ فرقا،
فَرَجَعت إِلَى الْبَيْت وَقلت: زَمِّلُونِي دَثرُونِي ".
وَفِي رِوَايَة: " صبوا عَليّ مَاء بَارِدًا، ثمَّ جَاءَنِي
جِبْرِيل فَقَالَ: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر} .
وَمن الْمَعْرُوف أَن أول مَا نزل من الْقُرْآن سُورَة اقْرَأ،
ونبين من بعد وَيُمكن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ فَيُقَال:
إِن سُورَة اقْرَأ أول مَا نزل من الْقُرْآن حِين بُدِئَ
بِالْوَحْي، وَسورَة المدثر أول مَا نزل بعد فتور الْوَحْي،
وَالله أعلم.
(6/87)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا المدثر (1) ثمَّ فَأَنْذر (2) } .
(6/88)
يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر}
مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتدثر، مثل قَوْله: {يَا أَيهَا
المزمل} أَي: المتزمل.
وَالْفرق بَين الشعار والدثار، أَن الشعار هُوَ الثَّوْب
الَّذِي يَلِي جلد الْإِنْسَان، والدثار هُوَ الثَّوْب الَّذِي
فَوق ذَلِك.
وَقد روى معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن
عبد الله قَالَ: سَمِعت رَسُول الله يحدث عَن فَتْرَة
الْوَحْي، فَقَالَ فِي حَدِيثه: " بَيْنَمَا أَنا أَمْشِي
سَمِعت صَوتا من السَّمَاء، فَرفعت رَأْسِي، فَإِذا الْملك
الَّذِي جَاءَنِي بحراء [جَالِسا] على كرْسِي بَين السَّمَاء
وَالْأَرْض، فجئثت مِنْهُ رعْبًا، فَرَجَعت وَقلت: زَمِّلُونِي
دَثرُونِي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} ،
وَهَذَا خبر مُتَّفق على صِحَّته.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله
بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن
عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن
زَكَرِيَّا [العذافري] ، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
الدبرِي أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر ... الْخَبَر.
(6/88)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قُم فَأَنْذر} قَالَ
أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: الْقيام فِي لُغَة الْعَرَب على
وَجْهَيْن: قيام جد وعزم، وَقيام انتصاب، فقيام الانتصاب
مَعْلُوم، وَقيام الْجد والعزم فَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر:
(قد رضيناه فَقُمْ فسمه ... )
قَالَه لبَعض الْخُلَفَاء فِي بعض وُلَاة الْعَهْد.
وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ النَّبِي قَائِما فَنزل
(6/88)
{وَرَبك فَكبر (3) وثيابك فطهر (4) } .
{يَا أَيهَا المدثر} أَي: النَّائِم.
{قُم فَأَنْذر} أَي: قُم من النّوم وأنذر النَّاس.
(6/89)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(3)
وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} أَي: عظمه، وَدخلت
الْفَاء بِمَعْنى جَوَاب الْجَزَاء.
وَقيل: رَبك فَكبر، أَي قل: الله أكبر.
(6/89)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
(4)
وَقَوله: {وثيابك فطهر} قَالَ مُجَاهِد
وَقَتَادَة مَعْنَاهُ: لَا تلبسها على غدر وفجور.
وَقَالَ السّديّ: وعملك فَأصْلح.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي القَوْل الأول:
(وَإِنِّي بِحَمْد الله لَا ثوب فَاجر ... لبست وَلَا من غدرة
أتقنع)
وَقَالَ السّديّ: تَقول الْعَرَب فلَان نقي الثِّيَاب إِذا
كَانَت أَعماله صَالِحَة، وَفُلَان دنس الثِّيَاب إِذا كَانَت
أَعماله خبيثة.
وَقيل: " وثيابك فطهر " أَي: قَلْبك فَأصْلح.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فَإِن يَك قد ساءتك مني خَلِيقَة ... فسلي ثِيَابِي من
ثِيَابك تنسل)
وَقَالَ طَاوس: وثيابك فطهر، أَي: قصر، فَإِن الثَّوْب إِذا
طَال انجر على الأَرْض فَيُصِيبهُ مَا يُنجسهُ.
وَقَالَ عمر فِي رجل يجر ثِيَابه: قصر من ثِيَابك فَإِنَّهُ
أنقى وَأبقى وَأتقى.
وَعَن ابْن سِيرِين فِي قَوْله: {وثيابك فطهر} أَي: [اغسلها] ،
من النَّجَاسَات.
وَهُوَ قَول مُخْتَار عِنْد الْفُقَهَاء.
وَذكر الزّجاج أَن التَّطْهِير هُوَ التَّقْصِير على مَا
ذكرنَا عَن طَاوس.
وَقيل: ونساءك فَأصْلح، أَي: تزوج الْمُؤْمِنَات العفيفات.
وَقد بَينا أَن اللبَاس يكنى
(6/89)
{وَالرجز فاهجر (5) وَلَا تمنن تستكثر (6)
ولربك فاصبر (7) فَإِذا نقر فِي الناقور (8) فَذَلِك يَوْمئِذٍ
يَوْم عسير (9) على الْكَافرين غير يسير (10) } . بِهِ عَن
النِّسَاء، فَكَذَلِك يجوز فِي الثِّيَاب.
(6/90)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
(5)
وَقَوله: {وَالرجز فاهجر} قَالَ مُجَاهِد
وَإِبْرَاهِيم مَعْنَاهُ: فاهجر، أَي: ابعد، وَالْقَوْل
الثَّانِي: فِي الْأَوْثَان فاهجر، وَهُوَ قَول مَعْرُوف.
وَقد قرئَ: " وَالرجز فاهجر " لهَذَا الْمَعْنى.
وَقَالَ الْفراء: الرجز وَالرجز بِمَعْنى وَاحِد.
وَقيل: الرجز هُوَ الرجس، يَعْنِي: اجْتنب الرجاسات والنجاسات.
وعَلى هَذَا القَوْل أبدلت السِّين بالزاي.
وَيُقَال: الرجز هُوَ الْعَذَاب، وَالْمعْنَى: اجْتنب مَا
يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَاب.
(6/90)
وَلَا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ (6)
وَقَوله {وَلَا تمنن تستكثر} وَقَرَأَ ابْن
مَسْعُود: " وَلَا تمنن أَن تستكثر ".
قَالَ الْكسَائي: سَقَطت " أَن " فارتفع.
وَقَالَ الْحسن مَعْنَاهُ: لَا تمن بِعَطَائِك على أحد.
وَذكر الاستكثار لِأَنَّهُ إِنَّمَا يمن إِذا رَآهُ كثيرا.
وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: لَا تعط أحدا لتعطي أَكثر مِمَّا
تُعْطِي.
قَالَ إِبْرَاهِيم: وَهَذَا فِي حق النَّبِي خَاصَّة؛ لِأَن
الله تَعَالَى أمره بأشرف الْآدَاب وَأجل الْأَخْلَاق، فَأَما
فِي حق غَيره فَلَا بَأْس بِهِ.
رَوَاهُ الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ عَن إِبْرَاهِيم.
وَقد حكى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ عَن غير إِبْرَاهِيم.
(6/90)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
(7)
وَقَوله: {ولربك فاصبر} قَالَ مُجَاهِد:
على مَا أوذيت.
وَقيل: على الْحق وإبلاغ الرسَالَة.
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: ولربك فاصبر حَتَّى تثاب على عَمَلك.
أوردهُ النّحاس عَنهُ.
(6/90)
فَإِذَا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ (8)
قَوْله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور}
أَي: الصُّور.
وَيُقَال: هُوَ النفخة الأولى.
وَيُقَال: هُوَ الثَّانِيَة.
وَقد روى أَن زُرَارَة بن أبي أوفى كَانَ يُصَلِّي بِقوم
فَقَرَأَ: {فَإِذا نقر فِي الناقور} فَخر مغشيا [عَلَيْهِ] .
وَقيل: إِنَّه شبه البوق.
(6/90)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
وَقَوله: {فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير}
أَي: شَدِيد
(6/90)
عَلَى الْكَافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
{على الْكَافرين غير يسير} أَي:
(6/90)
{ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا (11) وَجعلت لَهُ
مَالا ممدودا (12) وبنين شُهُودًا (13) } . غير هَين وَلَا
لين.
(6/91)
ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
{قَوْله تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمن خلقت
وحيدا} قَوْله: {ذَرْنِي} مَعْنَاهُ: دَعْنِي.
وَقد بَينا وَجه ذَلِك.
وَقَوله: {وحيدا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خلقته وَحده لَا
مَال لَهُ وَلَا ولد.
وَالثَّانِي: خلقته وحدي لم يشركني فِي خلقه غَيْرِي، وَهُوَ
الْوَلِيد بن الْمُغيرَة على قَول أَكثر الْمُفَسّرين.
(6/91)
وَجَعَلْتُ لَهُ
مَالًا مَمْدُودًا (12)
وَقَوله: {وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا} فِيهِ
أَقْوَال كَثِيرَة: أَحدهَا: أَنه ألف دِينَار، قَالَه ابْن
عَبَّاس
وَعَن سُفْيَان: أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وَقَالَ قَتَادَة:
سِتَّة آلَاف دِينَار.
وَعَن مُجَاهِد فِي بعض الرِّوَايَات: مائَة ألف دِينَار.
وَالْقَوْل الأول مَعْرُوف؛ لِأَن الْحساب يَمْتَد إِلَيْهِ
فَيقطع.
وَعَن عمر بن الْخطاب: غلَّة شهر بِشَهْر.
وَقد ورد أَنه كَانَ لَهُ بُسْتَان بِالطَّائِف لَا يَنْقَطِع
دخله شتاء وَلَا صيفا.
وَيُقَال: هُوَ المَال الَّذِي يستوعب جَمِيع وُجُوه المكاسب
من التِّجَارَة وَالزَّرْع والضرع وَغير ذَلِك.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: كَانَت لَهُ
الْإِبِل المؤبلة وَالْخَيْل المسومة والأنعام من الْإِبِل
وَالْبَقر وَالْغنم وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَغير ذَلِك.
(6/91)
وَبَنِينَ شُهُودًا
(13)
قَوْله تَعَالَى: {وبنين شُهُودًا} فِي
التَّفْسِير: أَنه كَانَ لَهُ [عشرَة] بَنِينَ، وَقيل:
ثَلَاثَة عشر.
وَقيل: غير ذَلِك.
وَقَوله: {شُهُودًا} أَي: حُضُور لَا يغيبون عَنهُ لحَاجَة أَو
لخوف.
(رَوَاهُ مُسلم) .
(6/91)
{ومهدت لَهُ تمهيدا (14) ثمَّ يطْمع أَن
أَزِيد (15) كلا إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا (16) سَأُرْهِقُهُ
صعُودًا (17) } .
[و] من بنيه أسلم اثْنَان: خَالِد بن الْوَلِيد، وَهِشَام بن
الْوَلِيد، وَالْبَاقُونَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.
(6/92)
وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيدًا (14)
وَقَوله: {ومهدت لَهُ تمهيدا} التَّمْهِيد
هُوَ التهيئة والتوطئة.
وَقيل: وسعت عَلَيْهِ الْأَمر توسيعا.
(وَيُقَال) : بسطت لَهُ مَا بَين الْيمن وَالشَّام.
أَي: فِي التِّجَارَة.
وَقيل: التَّمْهِيد هُوَ تيسير أَسبَاب الْمَعيشَة، كَأَنَّهُ
كَانَ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ كل مَا كَانَ يَطْلُبهُ ويريده من
أَسبَابهَا.
(6/92)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
وَقَوله: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد} وروى أَن
النَّبِي لما ذكر مَا أعد الله تَعَالَى للْمُسلمين من نعيم
الْجنَّة، قَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: أَنا أيسركم وأكثركم
بَنِينَ، فَأَنا أَحَق بِالْجنَّةِ مِنْكُم، فَأنْزل الله
تَعَالَى: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد كلا} أَي: لَا أَزِيد.
وَقيل هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَقد أعْسر من بعد وَاحْتَاجَ.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا} أَي: معاندا.
وَقيل: جاحدا.
(6/92)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
(17)
وَقَوله: {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} الإرهاق
فِي اللُّغَة: هُوَ حمل الرجل على (الشَّيْء) .
وَقَوله: {صعُودًا} روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي
قَالَ: " هُوَ جبل من نَار يتَصَعَّد فِيهِ سبعين خَرِيفًا
ثمَّ يهوى بِهِ كَذَلِك فِيهِ أبدا ".
ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه، وروى أَنه
صَخْرَة من نَار إِذا وضع يَده عَلَيْهَا ذَابَتْ، وَإِذا
رَفعهَا عَادَتْ.
(6/92)
{إِنَّه فكر وَقدر (18) فَقتل كَيفَ قدر
(19) ثمَّ قتل كَيفَ قدر (20) ثمَّ نظر (21) ثمَّ عبس وَبسر
(22) } .
قَالَ الْكَلْبِيّ: يجر من قدامه بالسلاسل وَيضْرب من خَلفه
بالمقامع فَإِذا صعد عَلَيْهَا هوى هَكَذَا أبدا.
وَيُقَال الصعُود: الْعقبَة الشاقة.
وَهَذَا القَوْل قريب مِمَّا ذكرنَا.
(6/93)
إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه فكر} أَي: تدبر.
وَقَوله: {وَقدر} هُوَ بِمَعْنى التفكر أَيْضا.
(6/93)
فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (19)
وَقَوله: {فَقتل كَيفَ قدر} أَي: لعن كَيفَ
قدر.
قَالَ صَاحب النّظم مَعْنَاهُ: لعن على أَي حَال قدر مَا قدر.
(6/93)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (20)
وَقَوله: {ثمَّ قتل كَيفَ قدر} على وَجه
التَّأْكِيد، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.
(6/93)
ثُمَّ نَظَرَ (21)
وَقَوله: {ثمَّ نظر} أَي: بِرَأْيهِ وعقله
فِي أَمر النَّبِي.
وروى إِسْحَاق [بن] إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي فِي كِتَابه
بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا عِنْد
الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَقَالُوا: هَذَا الْمَوْسِم يَأْتِي
وَيقدم فِيهِ النَّاس، ويسألوننا عَن هَذَا الرجل، فَإِن
سألونا نقُول: إِنَّه شَاعِر.
فَقَالَ الْوَلِيد: إِنَّهُم يسمعُونَ كَلَامه ويعلمون أَنه
لَيْسَ بشاعر.
فَقَالُوا: نقُول: إِنَّه مَجْنُون: فَقَالَ: إِنَّهُم
يسمعُونَ حَدِيثه فيعلمون أَنه عَاقل.
فَقَالُوا: نقُول إِنَّه كَاهِن.
فَقَالَ: إِنَّهُم قد رَأَوْا الكهنة فيعلمون أَنه لَيْسَ
بكاهن.
قَالُوا: فَمَاذَا نقُول؟ فَحِينَئِذٍ فكر وَقدر وَنظر.
(6/93)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ عبس وَبسر} أَي:
قطب وَجهه.
يُقَال للقاطب: وَجهه باسر.
وَقيل: العبوس بعد المحاورة، والبسور قبل المحاورة.
وَالأَصَح أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ
ذَلِك؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا أهمه الْأَمر، وَجعل يتفكر
فِيهِ، وَيُؤْتى بعبس وَجهه كالمتكاره بِشَيْء.
ثمَّ إِن الْوَلِيد لما فعل جَمِيع مَا فعل للْقَوْم [قَالَ] :
قُولُوا: إِنَّه سَاحر؛ فَإِن السَّاحر يبغض بَين المتحابين،
ويحبب بَين
(6/93)
{ثمَّ أدبر واستكبر (23) فَقَالَ إِن هَذَا
إِلَّا سحر يُؤثر (24) إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر (25)
سأصليه سقر (26) وَمَا أَدْرَاك مَا سقر (27) لَا تبقي وَلَا
تذر (28) } .
المتباغضين، وَإِن مُحَمَّدًا كَذَلِك، فَخَرجُوا واجتمعوا على
هَذَا القَوْل، وَجعلُوا يَقُولُونَ لكل من يلقاهم: إِنَّه
سَاحر، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ إِن هَذَا
إِلَّا سحر يُؤثر} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {يُؤثر} أَي: يأثره عَن غَيره.
كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه يتَعَلَّم من غُلَام ابْن
الْحَضْرَمِيّ، وَقيل غَيره.
وَقَوله: {ثمَّ أدبر واستكبر} أَي: تولى وتكبر.
(6/94)
إِنْ هَذَا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
قَوْله: {إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر}
أَي: الْقُرْآن قَول الْبشر، لَيْسَ بقول الله تَعَالَى.
(6/94)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
(26)
وَقَوله تَعَالَى: {سأصليه سقر} سأدخله،
وسقر اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّرك الْخَامِس، والدركات سبع
كلهَا فِي الْقُرْآن: جَهَنَّم لظى، والجحيم، وسقر، وسعير،
والهاوية، والحطمة.
(6/94)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سَقَرُ (27)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سقر} قَالَه
تَعْظِيمًا لأمر السقر.
(6/94)
لَا تُبْقِي وَلَا
تَذَرُ (28)
وَقَوله: {لَا تبقي وَلَا تذر} قَالَ
مُجَاهِد: لَا تبقى حَيا فيستريح، وَلَا مَيتا فيتخلص، وَهُوَ
معنى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} .
وَيُقَال: {لَا تبقى وَلَا تذر} أَي لَا تبقى لَحْمًا وَلَا
عظما (وَلَا تذر) أَي: إِذا أحرقت الْكل لم تذر؛ لِأَنَّهُ
يعود خلقا جَدِيدا.
وَقيل: لَا تبقى أحدا من الْكَافرين، أَي: تَأْخُذ جَمِيع
الْكَافرين وَلَا تذرهم من الْعَذَاب وقتا مَا، أَي: تحرقهم
أبدا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن كل شَيْء يسأم ويمل سوى جَهَنَّم.
(6/94)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ
(29)
وَقَوله: {لواحة للبشر} أَي محرقة.
قَالَ أَبُو رزين: تحرقهم حَتَّى يصيروا سُودًا
(6/94)
{لواحة للبشر (29) عَلَيْهَا تِسْعَة عشر
(30) وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَى مَلَائِكَة كالليل
المظلم.
وَقيل: لواحة للبشر أَي: تحرق اللَّحْم حَتَّى تلوح الْعظم.
وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن بشرة أَجْسَادهم تلوح على النَّار،
حكى هَذَا عَن مُجَاهِد.
وَقيل: لواحة للبشر، أَي: معطشة للبشر، قَالَ الشَّاعِر:
(سقتني على لوح من المَاء شربة ... سَقَاهَا بِهِ الله الربَاب
والغواديا}
(6/95)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ (30)
وَقَوله: {عَلَيْهَا تِسْعَة عشر} أَي: من
الزَّبَانِيَة وخزنة النَّار.
وَفِي التَّفْسِير: أَن من منْكب أحدهم إِلَى الْمنْكب الآخر
مسيرَة سنة، وَيَأْخُذ بكفه مثل عدد ربيعَة وَمُضر، وَيدْفَع
فِي النَّار بدفعة وَاحِدَة سبعين ألفا.
وَقيل: تسعين ألفا، وأعينهم كالبرق الخاطف، وأسنانهم كصياص
الْبَقر.
وَذكر الْكَلْبِيّ أَن لَهُم من الأعوان والجند مَا لَا يعلم
عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى.
(6/95)
وَمَا جَعَلْنَا
أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
(31)
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب
النَّار إِلَى مَلَائِكَة} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن
النَّبِي لما أخبر بِعَدَد الزَّبَانِيَة، وَقَالَ أَبُو جهل:
أرى مُحَمَّدًا يوعدكم بِتِسْعَة عشر وَأَنْتُم الدهم، أَفلا
تقرنون مَعَهم ليعمد كل عشرَة مِنْكُم إِلَى وَاحِد فيدفعه.
وَقَالَ أَبُو الْأسد بن كلدة - وَكَانَ رجلا من بني جمح -:
أَنا أتقدمكم على الصِّرَاط، فأدفع عشرَة بمنكبي الْأَيْمن،
وَتِسْعَة بمنكبي الْأَيْسَر، ونمر إِلَى الْجنَّة.
وَقَالَ: كلدة بن أسيد: أَنا أكفيكم سَبْعَة عشر، فاكفوني
أَنْتُم اثْنَيْنِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا
أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة} أَي: هَؤُلَاءِ
التِّسْعَة عشر من الْمَلَائِكَة، وَكَيف تطيقونهم؟ وروى أَن
الْمُسلمين لما سمعُوا مِنْهُم هَذَا قَالُوا: تقيسون
الْمَلَائِكَة بالحدادين؟ أَي: (السجانين) .
(6/95)
{وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة
للَّذين كفرُوا ليستقين الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد
الَّذين آمنُوا إِيمَانًا وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب
والمؤمنون وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا
أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا كَذَلِك يضل الله من يَشَاء
وَيهْدِي من يَشَاء وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ}
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين
كفرُوا} أَي: منحة وبلية حَتَّى قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَوله: {ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب} أَي: ليستيقن
الَّذين أُوتُوا الْكتاب أَن مُحَمَّدًا قَالَ مَا قَالَ من
الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ وَافق هَذَا الْعدَد الَّذين (وعدوا)
فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} أَي: يزْدَاد
الَّذين آمنُوا من أهل الْكتاب إِيمَانًا.
وَقيل: يزْدَاد جَمِيع الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِذا رَأَوْا
مَا قَالَه النَّبِي مُوَافقا لما حَكَاهُ أهل الْكتاب.
وَقَوله: {وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون}
أَي: لَا يشكوا فِي الْعدَد إِذا وجدوا التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن متفقة على هَذَا الْعدَد.
وَقَوله: {وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا
أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا} أَي: كَيفَ ذكر الله هَذَا الْعدَد
وَخص الزَّبَانِيَة بِهِ؟ وَهُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا} .
وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء}
يَعْنِي: كَمَا أضلّ الْكفَّار بِهَذَا الْعدَد، وَهدى
الْمُؤمنِينَ لقبوله، كَذَلِك يضل الله من يَشَاء، وَيهْدِي من
يَشَاء بِمَا ينزل من الْقُرْآن.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} روى أَن
الْكفَّار لما سمعُوا هَذَا الْعدَد
(6/96)
{وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر (31) كلا
وَالْقَمَر (32) وَاللَّيْل إِذا أدبر (33) وَالصُّبْح إِذا
أَسْفر (34) إِنَّهَا لإحدى الْكبر (35) نذيرا للبشر (36) } .
قَالُوا: مَا أقل هَذَا الْعدَد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} أَي: لَهُ من الْجنُود سوى
هَذَا الْعدَد مَا لَا يعلم عَددهَا إِلَّا هُوَ.
وَقَوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر} أَي: هَذِه الْآيَة
عظة وعبرة للبشر.
(6/97)
كَلَّا وَالْقَمَرِ
(32)
قَوْله تَعَالَى: {كلا وَالْقَمَر} كلا:
هُوَ رد لما قَالُوا.
وَقَوله: {وَالْقَمَر} ابْتِدَاء قسم.
(6/97)
وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ (33)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا أدبر} وَقُرِئَ:
{إِذا أدبر} أَي: تولى وَذهب.
وَقَوله: {إِذا أدبر} أَي: إِذا جَاءَ خلف النَّهَار.
وروى أَن عبد الله بن عَبَّاس سُئِلَ عَن قَوْله: {وَاللَّيْل
إِذا أدبر} فَقَالَ للسَّائِل: امْكُث.
فَلَمَّا أذن الْمُؤَذّن للصبح قَالَ: هَذَا حِين دبر
اللَّيْل.
وَقد أنكر بَعضهم هَذِه الْقِرَاءَة.
وَقَالُوا: إِذا دبر، إِنَّمَا يُقَال فِي ظهر الْبَعِير.
وَالصَّحِيح مَا بَينا، وهما قراءتان معروفتان.
وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: دبر وَأدبر بِمَعْنى وَاحِد.
(6/97)
وَالصُّبْحِ إِذَا
أَسْفَرَ (34)
وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا أَسْفر} أَي:
تبين وأضاء.
يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا، (وسفر) الرجل بَيته إِذا
كنسه حَتَّى كشف عَن تُرَاب الْبَيْت.
(6/97)
إِنَّهَا لَإِحْدَى
الْكُبَرِ (35)
وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي:
الْقِيَامَة لإحدى العظائم.
وَيُقَال: الْكبر دركات جَهَنَّم.
وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي: سقر إِحْدَى دركات
جَهَنَّم، فَيَنْصَرِف (إِلَى مَا) ذكرنَا.
(6/97)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ
(36)
وَقَوله: {نذيرا للبشر} أَي: إنذارا للبشر.
وَذكر النّحاس أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْله:
(6/97)
{لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم أَو
يتَأَخَّر (37) كل نفس بِمَا كسبت رهينة (38) إِلَّا أَصْحَاب
الْيَمين (39) فِي جنَّات يتساءلون (40) عَن الْمُجْرمين (41)
مَا سلككم فِي سقر (42) قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين (43)
وَلم نك نطعم الْمِسْكِين (44) وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين
(45) وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين (46) حَتَّى أَتَانَا
الْيَقِين (47) فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين (48) } .
{قُم} أَي: قُم نذيرا للبشر.
(6/98)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم
أَو يتَأَخَّر} أَي: يتَقَدَّم إِلَى الْإِيمَان أَو يتَأَخَّر
عَنهُ.
(6/98)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
وَقَوله: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} أَي:
مرتهنة.
(6/98)
إِلَّا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ (39)
وَقَوله: {إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين}
فليسوا بمرتهنين؛ لِأَنَّهُ لَيست لَهُم ذنُوب.
قَالَ زَاذَان عَن عَليّ: هم ولدان الْمُسلمين.
وَقيل: هم الْأَنْبِيَاء.
وَقيل: هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بأيمانهم.
وَقيل: هم الَّذين أخذُوا من صلب آدم من الْجَانِب الْأَيْمن،
وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا
أُبَالِي.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنهم الْمَلَائِكَة.
(6/98)
فِي جَنَّاتٍ
يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ
فِي سَقَرَ (42)
وَقَوله: {فِي جنَّات} أَي: بساتين.
وَقَوله: {يتساءلون عَن الْمُجْرمين مَا سلككم فِي سقر} أَي:
مَا أدخلكم فِي سقر، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَن ذَلِك؛ لأَنهم لم
يعرفوا الذُّنُوب، وَهَذَا يَصح إِذا حملنَا على الْمَلَائِكَة
وولدان الْمُسلمين، وَأما إِذا حملنَا على غَيرهم، فَهُوَ
سُؤال مَعَ الْمعرفَة، وَيجوز أَن يسْأَل الْإِنْسَان عَن
غَيره مَعَ معرفَة حَاله.
(6/98)
قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لم نك من
الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ
الخائضين} قَالَ قَتَادَة: كلما غوى قوم غوينا مَعَهم.
وَقيل: كُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين فِي أَمر مُحَمَّد، وننسبه
إِلَى السحر وَالشعر وَغير ذَلِك.
(6/98)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
وَقَوله: {وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} أَي: الْمَوْت.
(6/98)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
وَقَوله: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين}
لأَنهم كفرة، فَلَا يكون لَهُم شَفِيع وَلَو
(6/98)
{فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين (49)
كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يُرِيد كل
امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة (52) كلا بل لَا
يخَافُونَ الْآخِرَة (53) كلا إِنَّه تذكرة (54) فَمن شَاءَ
ذكره (55) } . كَانَ لم يَنْفَعهُمْ.
وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا حِين يخرج قوم من الْمُؤمنِينَ
من النَّار بشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَالْمَلَائِكَة
وَالْعُلَمَاء وَالصديقين، وكل هَذَا مَرْوِيّ [فِي]
الْأَخْبَار، وَيبقى الْكفَّار فِي النَّار على الْخُصُوص.
(6/99)
فَمَا لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
وَقَوله: {فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة
معرضين} أَي: العظة وَالْعبْرَة.
(6/99)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة}
وَقُرِئَ: {مستنفَرة} بِفَتْح الْفَاء.
وَقَوله: {مستنفرة} نافرة.
وَقَوله: {مستنفَرة} أَي: مَذْعُورَة.
(6/99)
فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ (51)
وَقَوله: {فرت من قسورة} قَالَ ابْن
عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: هُوَ الْأسد.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُقَال بِالْعَرَبِيَّةِ الْأسد،
وبالحبشية القسورة، وبالفارسية شير، وبالنبطية أريا.
وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فرت من قسورة: هم النقابون.
وَقيل: هم رُمَاة النبل.
(6/99)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
وَقَوله: {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن
يُؤْتى صحفا منشرة} روى أَن الْكفَّار قَالُوا: لَا نؤمن بك
يَا مُحَمَّد حَتَّى تَأتي كل وَاحِد منا كتابا من الله أَن
آمن بِمُحَمد فَإِنَّهُ رَسُولي.
(6/99)
كَلَّا بَلْ لَا
يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
وَقَوله: {كلا} أَي: لَا يُؤْتونَ هَذِه
الصُّحُف.
وَقيل: كلا أَي: لَو أُوتُوا هَذِه الصُّحُف لم يُؤمنُوا.
وَقَوله: {بل لَا يخَافُونَ الْآخِرَة} أَي: لَو خَافُوا لم
يطلبوا هَذِه الْأَشْيَاء.
(6/99)
كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ (54)
وَقَوله: {كلا إِنَّه تذكرة} أَي:
الْقُرْآن عظة وعبرة.
(6/99)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
(55)
وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: اتعظ بِهِ
وَاعْتبر بِهِ، ثمَّ رد الْمَشِيئَة إِلَى نَفسه فَقَالَ:
(6/99)
{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله
هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة (56) } .
(6/100)
وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ (56)
{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله}
أَي: لَا يعتبرون وَلَا يتعظون إِلَّا بمشيئتي.
وَقَوله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: أهل
أَن أبقى خَالِدا فِي الْجنَّة من اتَّقى، وَلم يَجْعَل معي
إِلَهًا.
{وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: من اتَّقى وَلم يَجْعَل معي إِلَهًا
فَأَنا أهل أَن أَغفر لَهُ.
وَفِي هَذَا خبر مُسْند بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي على نَحْو
هَذَا الْمَعْنى ذكره أَبُو عِيسَى فِي كِتَابه.
وَعَن مُحَمَّد بن النَّضر بن الْحَارِث فِي هَذِه الْآيَة أَن
قَوْله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} الْمَعْنى:
أَنا أهل أَن أتقي بترك الذُّنُوب {وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي:
وَأَنا أهل أَن أَغفر للمذنبين إِن لم يتقوا.
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم
أَن يُؤْتى صحفا منشرة} قولا آخر: هُوَ أَن الْمُشْركين
قَالُوا: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل إِذا أذْنب الْوَاحِد
مِنْهُم ذَنبا ظهر ذَنبه مَكْتُوبًا على بَاب دَاره، فَمَا
بالنا لَا يكون لنا ذَلِك إِن كُنَّا مذنبين؛ فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر على هَذَا الْمَعْنى، وَأخْبر
أَنه لَا يفعل ذَلِك لهَذِهِ الْأمة، وَأَن ذَلِك كَانَ
مَخْصُوصًا ببني إِسْرَائِيل.
وَالله أعلم.
(6/100)
|