تفسير السمعاني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{عَم يتساءلون (1) عَن النبأ الْعَظِيم (2) الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ (3) كلا سيعلمون (4) ثمَّ كلا سيعلمون (5) ألم نجْعَل الأَرْض مهادا (6) } .
تَفْسِير سُورَة النبأ

وَهِي مَكِّيَّة

(6/135)


عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)

قَوْله تَعَالَى: {عَم يتساءلون عَن النبأ الْعَظِيم} مَعْنَاهُ: عَن مَا يتساءلون فأدغمت النُّون فِي الْمِيم، وأسقطت الْألف فَصَارَ عَم.
قَالَ الزّجاج: لَفظه لفظ الِاسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى تفخيم الْقِصَّة مثل الْقَائِل: أَي شَيْء زيد؟
وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله لما بعث ودعا الْمُشْركين إِلَى التَّوْحِيد جعل بَعضهم يسْأَل بَعْضًا فبماذا بعث مُحَمَّد؟ وَإِلَى مَاذَا يَدْعُو؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمعنى يتساءلون أَي: يسْأَل بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: {عَن النبأ الْعَظِيم} قيل مَعْنَاهُ: عَن النبأ الْعَظِيم: وَاخْتلف القَوْل فِي النبأ الْعَظِيم: روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الْقُرْآن، وَعَن قَتَادَة: أَنه الْبَعْث، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس وَجَمَاعَة، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ النُّبُوَّة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ معروفان.

(6/135)


الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)

وَقَوله: {الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ} أَي: مِنْهُم الْمُصدق، وَمِنْهُم المكذب.

(6/135)


كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)

وَقَوله: {كلا سيعلمون ثمَّ كلا سيعلمون} قَالَ الْحسن: هُوَ تهديد بعد تهديد.
وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: قَوْله: {كلا سيعلمون} أَي: الْكفَّار.
وَقَوله: {ثمَّ كلا سيعلمون} أَي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا جَمِيعًا للْكفَّار.

(6/135)


أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)

قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض مهادا} لما أخبر الله تَعَالَى باختلافهم فِي الْقُرْآن وَالْقِيَامَة - وَكَانَ اخْتلَافهمْ فِي الْبَعْث بالتصديق والتكذيب - وَاخْتِلَافهمْ فِي الْقُرْآن

(6/135)


{وَالْجِبَال أوتادا (7) وخلقناكم أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلنَا نومكم سباتا (9) وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا (10) } . أَنه سحر أَو شعر أَو كهَانَة، فَذكر الله تَعَالَى الدَّلَائِل عَلَيْهِم فِي التَّوْحِيد، وَأَن مَا أنزلهُ حق وَصدق، وَعدد نعمه عَلَيْهِم، ليعترفوا بِهِ ويشكروه.
قَوْله تَعَالَى: {مهادا} أَي: بساطا وفراشا وَالنعْمَة فِي تذليلها وتوطئتها لَهُم.

(6/136)


وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)

وَقَوله: {وَالْجِبَال أوتادا} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما خلق الله تَعَالَى الأَرْض جعلت تكفأ - وحرك ابْن عَبَّاس يَده - فخلق الله الْجبَال وأرساها بهَا - أَي: أثبتها - فَهِيَ أوتاد الأَرْض، كَمَا يثبت الشَّيْء على الْحَائِط بالوتد.

(6/136)


وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)

وَقَوله: {وخلقناكم أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا وَمَوْضِع النِّعْمَة هِيَ سُكُون بَعضهم إِلَى بعض، فالرجل وَالْمَرْأَة زوج، وَكَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَغير ذَلِك من الْخلق، وَقيل: أَزْوَاجًا أَي: متآلفين، تألفون أزواجكم، وتألفكم أزواجكم.

(6/136)


وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)

وَقَوله: {وَجَعَلنَا نومكم سباتا} قَالَ ثَعْلَب: قطعا لأعمالكم، وأصل السبات هُوَ التمدد والسكون.
وَالْمعْنَى: أَنهم ينقطعون عَن الْحَرَكَة بِاللَّيْلِ فيسكنون ويستريحون، وَقيل: سباتا أَي: رَاحَة.
وَقَالَ الشَّاعِر:
ومطوية (الأقتاب) أما نَهَارهَا ... فسبت وَأما لَيْلهَا فزميل)
أَي قطيع.

(6/136)


وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)

وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا} أَي: سترا لكم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْمجَاز، وَوَجهه أَن ظلمَة اللَّيْل لما غشيت كل إِنْسَان كَمَا يَغْشَاهُ اللبَاس، سَمَّاهُ لباسا

(6/136)


{وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا (11) وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا (12) وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا (14) على طَرِيق الْمجَاز.

(6/137)


وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)

وَقَوله: {وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا} أَي: مبتغى معاش ومطلب معاش، وَالْمعْنَى: أَنه الزَّمَان الَّذِي يعيشون وينصرفون فِيهِ.

(6/137)


وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)

وَقَوله: {وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا} أَي: السَّمَاوَات السَّبع.
وَقَوله: {شَدَّاد} أَي: صلبة، وَفِي الْآثَار: أَن غلط كل سَمَاء مسيرَة خَمْسمِائَة عَام.

(6/137)


وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)

وَقَوله: {وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا} أَي: جعلنَا الشَّمْس وقادا متلألئا.

(6/137)


وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)

وَقَوله: {وأنزلنا من المعصرات مَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الرِّيَاح، وتسميتها بِهَذَا الِاسْم؛ لِأَن الرِّيَاح تلقح السَّحَاب ليَكُون فِيهِ الْمَطَر، فَكَأَن الْمَطَر كَانَ من الرِّيَاح، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المعصرات هِيَ السَّحَاب، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة.
قَالَ الْمبرد: تَسْمِيَته بالمعصرات، لِأَنَّهُ ينعصر بالمطر شَيْئا فَشَيْئًا، وَقيل: من المعصرات أَي: بالمعصرات مَاء ثجاجا.
وَقَوله: {ثجاجا} أَي: منصبا بعضه فِي إِثْر بعض.
وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْحَج العج والثج " فالعج رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، والثج إِرَاقَة الدِّمَاء.
وَعَن

(6/137)


{لنخرج بِهِ حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16) إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا (17) يَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفتحت السَّمَاء فَكَانَت أبوابا (19) وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا (20) إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا (21) قَتَادَة: أَن المعصرات هُوَ السَّمَاء، وَهُوَ قَول غَرِيب.

(6/138)


لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)

قَوْله: {لنخرج بِهِ حبا ونباتا وجنات ألفافا} أَي: ملتفة، وَوَاحِد الألفاف لف، والملتفة هِيَ الدَّاخِل بَعْضهَا فِي بعض.

(6/138)


إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)

قَوْله تَعَالَى: {إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا} أَي: ميعادا لِلْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.

(6/138)


يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)

وَقَوله: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن إسْرَافيل - عَلَيْهِ السَّلَام - ينزل فيجلس على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، وَتجْعَل الْأَرْوَاح فِي الصُّور كأمثال النَّحْل، واستدارة فَم الصُّور كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، ثمَّ ينْفخ فَتخرج الْأَرْوَاح مِنْهَا، وَترجع إِلَى أجسادها.
وَقَوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} قَالَ مُجَاهِد: زمرا زمرا.

(6/138)


وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)

وَقَوله: {وَفتحت السَّمَاء} أَي: جعلت طرقا، وَقيل: فتحت أَبْوَاب السَّمَاء لنزول الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {فَكَانَت أبوابا} أَي كَانَت طرقا على مَا بَينا.

(6/138)


وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)

وَقَوله: {وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا} أَي: هباء منبثا، وَقيل: هُوَ يصير كالسراب ترى أَنه شَيْء وَلَيْسَ بِشَيْء.

(6/138)


إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)

وَقَوله: {إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا} قَالَ أهل اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ أمامك فَهُوَ رصد، وَالْمرَاد أَنه الْمَكَان الَّذِي يرصد فِيهِ الْكفَّار لنزول الْعَذَاب بهم.
وَعَن بَعضهم: يَا صَاحب الرصد، اذكر الرصد، وَقيل: مرصادا أَي: يرصدون بِالْعَذَابِ أَي: على معنى أَنه يعد لَهُم.

(6/138)


لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)

وَقَوله: {للطاغين مآبا} أَي: منقلبا، يُقَال: آب إِلَى مَكَان كَذَا أَي: رَجَعَ وانقلب.

(6/138)


{للطاغين مآبا (22) لابثين فِيهَا أحقابا (23) لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا (24) } .

(6/139)


لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

وَقَوله: {لابثين فِيهَا أحقابا} الحقبة فِي اللُّغَة قِطْعَة من الزَّمَان مثل الْحِين.
قَالَ متمم بن نُوَيْرَة يرثي أَخَاهُ مَالِكًا:
(وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا)
أَي: قِطْعَة، وَأما الْمَنْقُول فِي التفاسير عَن السّلف فِي معنى الحقب: فأظهر الْأَقْوَال أَنه ثَمَانُون سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم ألف سنة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَتَادَة وَغَيرهم، وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة.
وَعَن بَعضهم: أَنه ثلثمِائة سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم مثل مُدَّة الدُّنْيَا، وَعَن بَعضهم: بضع وَثَمَانُونَ عَاما، فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْكفَّار يَنْقَطِع عِنْد مُضِيّ الأحقاب؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: (أَحدهَا) : أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا أَي: يُعَذبُونَ بِهَذَا النَّوْع من الْعَذَاب أحقابا، وَثمّ أحقاب أخر لسَائِر أَنْوَاع الْعَذَاب، قَالَه الْمبرد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ أَن معنى لابثين فِيهَا أحقابا لَا تخبو عَنْهُم النَّار، فَإِذا خبت النَّار وزيدوا سعيرا لَبِثُوا أبدا وَالْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن كيسَان، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا إِلَى أحقاب لَا تَنْقَطِع أبدا.
قَالَ النّحاس: وَهُوَ أبين الْأَقْوَال.

(6/139)


لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)

وَقَوله: {لَا يذوقون فِيهَا بردا} قَالَ ثَعْلَب، نوما، وَتقول الْعَرَب: منع الْبرد، وَالْبرد أَي: نوم، وَقَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم ... وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا)
النقاخ المَاء الزلَال وَقيل: " بردا " أَي: (رَاحَة) ، وَقيل: " بردا " لَا يبرد عَنْهُم حر السعير ولهبه.
وَقَوله: {وَلَا شرابًا} أَي: لَا يسكن مِنْهُم الْعَطش.

(6/139)


{إِلَّا حميما وغساقا (25) جزاءا وفَاقا (26) إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا (27) وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا (28) وكل شَيْء أحصيناه كتابا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا (30) } .

(6/140)


إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)

وَقَوله: {إِلَّا حميما وغساقا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْحَمِيم المَاء الْحَار، وَمِنْه الْحمى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وظل من يحموم} وَقيل: الْحَمِيم هُوَ أَنه تجمع دموعهم فيسقون.
وَقَوله: {وغساقا} أَي: الْقَيْح الغليظ، وَقيل: [هُوَ] صديد أهل النَّار، وَقيل: الْحَمِيم مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْحر، والغساق مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْبرد وَهُوَ الزَّمْهَرِير، فيعذبون بِكُل وَاحِد من العذابين.

(6/140)


جَزَاءً وِفَاقًا (26)

وَقَوله: {جزاءا وفَاقا} أَي: جَزَاء يُوَافق أَعْمَالهم.
قَالَ ابْن زيد: عمِلُوا شرا، فجوزوا شرا.

(6/140)


إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا} أَي: لَا يخَافُونَ، وَقد بَينا الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف فِيمَا سبق.

(6/140)


وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)

وَقَوله: {وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا} أَي: تَكْذِيبًا، قَالَ الْفراء: هِيَ لُغَة فصيحة يَمَانِية.

(6/140)


وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)

وَقَوله: {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} أَي: بَيناهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

(6/140)


فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)

وَقَوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} أَي: يُقَال لَهُم: فَذُوقُوا الْعَذَاب فَهُوَ غير مُنْقَطع عَنْكُم، وَلَا تزادون إِلَّا الْعَذَاب.
قَالَ الشَّاعِر:

(6/140)


{إِن لِلْمُتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب أَتْرَابًا (33) وكأسا دهاقا (34) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا (35) جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} .
(فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه)

(6/141)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)

قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين مفازا} أَي: فوزا، والمفاز: مَوضِع الْفَوْز.

(6/141)


حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)

وَقَوله: {حدائق وأعنابا} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا.

(6/141)


وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)

وَقَوله: {وكواعب أَتْرَابًا} الكواعب: هِيَ النواهد، يُقَال: جَارِيَة كاعب أَي خرج ثديها مثل الكعب وَهِي ناهد.
وَقَوله: {أَتْرَابًا} أَي لدات، وَقيل: بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.

(6/141)


وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)

وَقَوله: {وكأسا دهاقا} أَي ممتلئة، قَالَه مُجَاهِد، وَقَالَ عِكْرِمَة: صَافِيَة، وَعَن بَعضهم: متتابعة، وَالْقَوْل الأول أظهر، وَهُوَ محكي عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَنه قَالَ: كثيرا سَمِعت الْعَبَّاس يَقُول: اسقيني يَا جَارِيَة الكأس وادهقي، وَعنهُ أَيْضا: أَنه دَعَا بكأس فَجَاءَت بِهِ الْجَارِيَة ملآن فَقَالَ: هَذَا هُوَ الدهاق.

(6/141)


لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)

وَقَوله: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا} اللَّغْو: هُوَ الْكَلَام المطرح.
وَقَوله: {كذابا} أَي: لَا يكذب بَعضهم بَعْضًا، وَقُرِئَ " كذابا " بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهُ: الْكَذِب لَا غير، قَالَ الشَّاعِر:
(فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه)
أَي: كذبه.

(6/141)


جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} أَي: عَطاء كَافِيا يُقَال: أَعْطَانِي فلَان حَتَّى أحسبني، يَعْنِي: حَتَّى قلت حسبي، وَقَالَ قَتَادَة: عَطاء حسابا أَي: كثيرا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمَعْنى الأول.
(ونقفي وليد الْحَيّ إِن كَانَ جائعا ... ونحسبه إِن كَانَ لَيْسَ بجائع)
وَقَوله: {جَزَاء من رَبك عَطاء} أَي: جوزوا جَزَاء، وأعطوا عَطاء.

(6/141)


( {36) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا (37) يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا (38) ذَلِك الْيَوْم الْحق} .

(6/142)


رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)

قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن} كِلَاهُمَا بِالرَّفْع، وَقُرِئَ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " الأول بِالْجَرِّ، وَالْآخر بِالرَّفْع.
وَقُرِئَ كِلَاهُمَا بِالْكَسْرِ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " فَوجه الْقِرَاءَة الأولى أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} رفع بِالِابْتِدَاءِ والرحمن خَبره، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} وَقَوله: {الرَّحْمَن} ابْتِدَاء، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّالِثَة، أَن كليهمَا مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} .
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا} أَي: لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الله، وَيمْنَعُونَ من الْكَلَام مَعَه، وَقيل: لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا أَي: لَا يشفعون لأحد إِلَّا بِإِذْنِهِ، على مَا قَالَ من بعد

(6/142)


يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يقوم الرّوح} قَالَ مُجَاهِد: الرّوح خلق يشبهون بني آدم، وَلَيْسوا بني آدم، وَقيل: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقيل: هُوَ خلق من خلق الله لم يخلق بعد الْعَرْش أعظم مِنْهُ يقوم يَوْم الْقِيَامَة صفا وَجَمِيع الْمَلَائِكَة صفا، وَقيل: صفا، أَي: صُفُوفا وَمَوْضِع صَلَاة العَبْد يُسمى صفا، لِأَنَّهُ مَوضِع الصُّفُوف.
وَقَوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ} أَي: لَا يشفعون، أَي: الْمَلَائِكَة وَقيل: لَا يَتَكَلَّمُونَ مُطلقًا.
قَوْله: {إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} أَي: بالشفاعة وَالْكَلَام.
وَقَوله: {وَقَالَ صَوَابا} أَي: حَقًا، وَقيل: هُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْإِذْنِ أَو كلَاما صَوَابا، وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله.

(6/142)


ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الْيَوْم الْحق} أَي: الْقِيَامَة هُوَ الْيَوْم الْحق، وَمعنى الْحق هَاهُنَا: أَنه

(6/142)


{فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا (39) إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا (40) } . كَائِن لَا محَالة.
وَقَوله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا} أَي منقلبا حسنا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة.

(6/143)


إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا} أَي النَّار وكل آتٍ فَهُوَ قريب.
وَقَوله {يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ} أَي مَا قدمت يَدَاهُ من الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَوله {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} روى [جَعْفَر بن برْقَان] عَن ابْن الأحم عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى يجمع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة من الدَّوَابّ والطيور وَالنَّاس وَالْجِنّ فرذا نزل الثقلَيْن مَنَازِلهمْ، قَالَ للطيور والبهائم وَالدَّوَاب: كوني تُرَابا، فَتكون تُرَابا فَحِينَئِذٍ يَقُول الْكَافِر: يَا لَيْتَني كنت تُرَابا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن البرَاز أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الغدافري أخبرنَا الدبرِي هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا عبد الرازق عَن معمر عَن جَعْفَر بن برْقَان. . الحَدِيث.
وَقيل: إِن الْكَافِر هَاهُنَا هُوَ أَبُو جهل.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن الْحسن بن وَاقد قَالَ: إِن الْكَافِر يَقُول: يَا لَيْتَني كنت خنزيرا فأصير تُرَابا، فَيَقُول التُّرَاب لَهُ: لَا وَلَا كَرَامَة لَك - يَعْنِي لَا يكون مثلي.
وَحكى مثل هَذَا عَن السّديّ أَيْضا.
وَعَن بَعضهم أَن معنى قَوْله {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} أَي يَا لَيْتَني لم أبْعث.
وَقد ورد فِي الحقب الَّذِي ذكرنَا أثران عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: ليعْمَل أحدكُم بِالطَّاعَةِ وَلَا يتكلمن على أَنه يدْخل النَّار ثمَّ يخرج مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يدْخل النَّار أحد فَيخرج مِنْهَا إِلَّا بعد أَن يمْكث أحقابا وَذكر الحقب كَمَا بَينا من ذكر الثَّمَانِينَ.

(6/143)


والأثر الثَّانِي مَا روى عَن ابْن مَسْعُود فِي بَقَاء النَّعيم لأهل الْجنَّة وَالْعَذَاب لأهل النَّار وَهُوَ مَا روى السّديّ عَن مرّة عَن عبد الله أَنه قَالَ: لَو علم أهل النَّار أَنهم يمكثون فِي النَّار عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لفرحوا وَلَو علم أهل الْجنَّة أَنهم يمكثون عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لحزنوا.
والأثران غَرِيبَانِ.

(6/144)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) } .
تَفْسِير سُورَة والنازعات

وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.

(6/145)


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)

قَوْله تَعَالَى: {والنازعات غرقا} فِيهِ أَقْوَال: أظهرها: أَنَّهَا الْمَلَائِكَة تنْزع أَرْوَاح الْكفَّار بِشدَّة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة وَرُوِيَ مثله عَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة مَسْرُوق.
قَوْله: {غرقا} أَي: إغراقا يُقَال: أغرق فِي النزع إِذا بلغ الْغَايَة.
وَعَن الْحسن: أَنَّهَا النُّجُوم تنْزع من أفق إِلَى أفق، أَي: تطلع وتغرب، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَنَّهَا القسي وَهُوَ من نزع الْقوس والإغراق فِيهِ.

(6/145)


وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)

وَقَوله: {والناشطات نشطا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة أَيْضا تنشط أَرْوَاح الْكفَّار أَي: تجذبها بِسُرْعَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أمست همومي تنشط المناشطا ... الشَّام بِي طورا وطورا واسطا)
والنشط فِي اللُّغَة: هُوَ الجذب، وَيُقَال: تجذب روح الْكفَّار كَمَا يجذب السفود من الصُّوف الرطب، وَقيل: إِن معنى الناشطات أَخذ الْمَلَائِكَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بسهولة كَمَا ينشط الْبَعِير من العقال.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تَأْخُذ روح الْكفَّار بغاية الشدَّة، فَإِذا بلغت ترقوته ردوا الرّوح فِي جسده، ثمَّ نَزَعته هَكَذَا مَرَّات عُقُوبَة لَهُ، وَتَأْخُذ روح الْمُؤمن سرعَة وسهولة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الناشطات هِيَ النُّجُوم على مَا ذكرنَا عَن الْحسن، وَالْمرَاد سرعَة

(6/145)


{والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) } . سَيرهَا، وَيُقَال: رُجُوعهَا من الْمغرب إِلَى مطالعها، وَذَلِكَ فِي السَّبع السيارة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس} على مَا سنبين، ذكره النقاش.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الأوهاق.

(6/146)


وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)

وَقَوله تَعَالَى: {والسابحات سبحا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبحها سَيرهَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنَّهَا النُّجُوم، وسبحها فِي الْفلك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْخَيل، وسبحها سرعَة جريها، يُقَال للْفرس الْجواد: سابح.

(6/146)


فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)

وَقَوله: {فالسابقات سبقا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبقها مبادرتها إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة والخيرات.
وَيُقَال: سبقها: هُوَ الْمُسَابقَة إِلَى تَبْلِيغ الْوَحْي قبل استراق الشَّيَاطِين السّمع، وعَلى القَوْل الثَّانِي هِيَ النُّجُوم تسبق بَعْضهَا بَعْضًا فِي السّير، وعَلى القَوْل الثَّالِث هِيَ الْخَيل أَيْضا يسْبق بَعْضهَا بَعْضًا عِنْد الْمُسَابقَة، وَيُقَال: إِنَّهَا النُّفُوس تسبق إِلَى الْخُرُوج عِنْد الْمَوْت.
وَقد ذكر السّديّ أَيْضا أَن معنى النازعات: هِيَ النُّفُوس والأرواح تنْزع عِنْد الْمَوْت.

(6/146)


فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)

وَقَوله تَعَالَى: {فالمدبرات أمرا} هِيَ الْمَلَائِكَة فِي قَول الْجَمِيع، إِلَّا مَا روى فِي رِوَايَة غَرِيبَة بِرِوَايَة خَالِد بن معدان، عَن معَاذ بن جبل: أَنَّهَا النُّجُوم.
فَمَعْنَى التَّدْبِير من الْمَلَائِكَة هُوَ مَا جعل الله إِلَيْهَا من الْأُمُور.
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن سابط: فَإلَى جِبْرِيل الْجنُود، وَإِلَى مِيكَائِيل الْقطر والنبات، وَإِلَى عزرائيل قبض الْأَرْوَاح، وَإِلَى إسْرَافيل إِنْزَال

(6/146)


{يَوْم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة (8) أبصارها خاشعة (9) يَقُولُونَ} . لأمور إِلَيْهِم فِي هَذِه الْأَشْيَاء [إِلَى] : الْمَلَائِكَة، وَأما إِذا حملناه على النُّجُوم، فَيجوز أَن يعلق الله تَعَالَى على مطالعها وَمَغَارِبهَا وسيرها أَشْيَاء، وأضاف التَّدْبِير إِلَيْهَا على طَرِيق الْمجَاز.
وَاخْتلف القَوْل فِي الْمقسم بِهِ والمقسم عَلَيْهِ: فأحذ الْقَوْلَيْنِ: أَنه أقسم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَللَّه أَن يقسم من خلقه بِمَا شَاءَ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَرب النازعات، فَذكر الرب مُضْمر فِي هَذِه الْكَلِمَات، وَإِنَّمَا أقسم بِنَفسِهِ لَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء.
وَأما الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: لتبعثن ولتحاسبن، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يغشى} .

(6/147)


يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة} الرجف والراجفة هِيَ الِاضْطِرَاب والزلزال الشَّديد، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} وَقيل: الراجفة هِيَ الصَّيْحَة الأولى الَّتِي يُمِيت بهَا الْخَلَائق.

(6/147)


تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)

وَقَوله: {تتبعها الرادفة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْقِيَامَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الصَّيْحَة الثَّانِيَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن بَينهمَا أَرْبَعِينَ سنة، وتمطر السَّمَاء فِي هَذِه الْأَرْبَعين فتهتز الأَرْض، وتنبت النَّاس فِي الْقُبُور، ثمَّ ترد إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فِي الصَّيْحَة الثَّانِيَة.

(6/147)


قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)

وَقَوله تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} أَي: مضطربة، يُقَال: وجف يجِف، وَوَجَب يجب بِمَعْنى وَاحِد وَقيل: واجفة أَي: وَجلة.

(6/147)


أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)

وَقَوله: {أبصارها خاشعة} أَي: ذليلة.

(6/147)


يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)

وَقَوله: {يَقُولُونَ} هَذَا إِخْبَار عَن قَوْلهم فِي الدُّنْيَا أَي: يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: {أئنا

(6/147)


{أئنا لمردودون فِي الحافرة (10) أءذا كُنَّا عظاما نخرة (11) قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة (13) فَإِذا هم بالساهرة (14) } . لمردودون فِي الحافرة) أَي: إِلَى أول أمرنَا، وَالْمعْنَى: أنرد أَحيَاء بعد أَن متْنا على طَرِيق الْإِنْكَار، يُقَال: رَجَعَ فلَان على حافرته إِذا رَجَعَ من حَيْثُ جَاءَ.
الْعَرَب تَقول: النَّقْد عِنْد الحافرة أَي: عِنْد أول كلمة، أَي: فِي السّوم.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(أحافرة على صلع وشيب ... معَاذ الله من سفه وعار)
وَقَالَ السّديّ: {أئنا لمردودون فِي الحافرة} أَي: إِلَى الْحَيَاة، وَهُوَ على مَا قُلْنَا وَقيل: إِلَى النَّار.

(6/148)


أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)

وَقَوله تَعَالَى: {أئذا كُنَّا عظاما نخرة} وَقُرِئَ: " ناخرة "، قَالَ الْفراء: هما وَاحِدَة، وَهِي البالية الفانية.
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن النخرة هِيَ الَّتِي قد بليت، والناخرة هِيَ الَّتِي لم تبل بعد، وَعَن وَكِيع قَالَ: هِيَ الَّتِي تدخل الرّيح فِي جوفها فتنخر، وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن أهل اللُّغَة.

(6/148)


قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)

وَقَوله: {قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة} أَي: رَجْعَة ذَات خسران، وَالْمعْنَى: أَنا نَكُون فِي خسار إِن رَجعْنَا، وَيجوز أَن يكون المُرَاد أَنهم يخسرون إِذا رجعُوا.
وَعَن الْحسن قَالَ: خاسرة أَي: كَاذِبَة يَعْنِي: لَيست بكائنة.

(6/148)


فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)

وَقَوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} هُوَ إِخْبَار عَن سهولة الْأَمر على الله فِي الْفَهم، والزجرة: الصحية.

(6/148)


فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

وَقَوله: {فَإِذا هم بالساهرة} القَوْل الْمَعْرُوف أَنَّهَا وَجه الأَرْض يَعْنِي: أَنهم يخرجُون من بَطنهَا إِلَى ظهرهَا، وَسميت الأَرْض ساهرة، لِأَن عَلَيْهَا سهر الْخلق ونومهم، وَقَالَ النَّخعِيّ " فَإِذا هم بالساهرة " أَي: فَوق الأَرْض.
وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: الساهرة جبل بِجنب بَيت الْمُقَدّس، قَالَ الشَّاعِر فِي الساهرة:
(فَإِنَّمَا قصرك ترب الساهرة ... ثمَّ تعود بعْدهَا فِي الحافرة)

(6/148)


{هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى (18) وأهديك إِلَى رَبك فتخشى (19) فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى (20) } .
(من بعد مَا كُنَّا عظاما ناخرة ... )

(6/149)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} أَي: قد أَتَاك.

(6/149)


إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)

وَقَوله: {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس} أَي: المطهر.
وَقَوله: {طوى} أَي: طوى بِالْبركَةِ وَالتَّقْدِيس مرَّتَيْنِ، وَقيل: سَمَّاهُ طوى لِأَن مُوسَى وَطئه بقدمه، وَقيل: إِنَّه اسْم الْوَادي وَقيل: هُوَ الأَرْض الَّتِي بَين الْمَدِينَة ومصر.
وَقَرَأَ الْحسن: " طوى " بِكَسْر الطَّاء، وَالْمَعْرُوف طوى، وَهُوَ غير مَصْرُوف لِأَنَّهُ اسْم الْبقْعَة من الْوَادي وَهُوَ مَعْرُوف وَعَن الزّجاج قَالَ: يجوز أَن يكون معدولا من طاو، فَلهَذَا لم يصرف مثل: عَمْرو معدول عَامر، وَقُرِئَ: مصروفا وأنشدوا:
{أعاذل إِن اللوم فِي غير كنهه ... على طوى من غيك المتردد} .

(6/149)


اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)

وَقَول: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} قد بَينا، والطغيان هُوَ مُجَاوزَة الْحَد.

(6/149)


فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)

وَقَوله: {فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} وَقُرِئَ: " تزكّى " بالتشديدين.
قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الْعَلَاء: لَا يجوز بالتشديدين، وَيجوز بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن تزكّى هُوَ من إِعْطَاء الزَّكَاة.
وَقَوله: {تزكّى} هُوَ الدُّخُول فِي طَهَارَة الْإِسْلَام، وَتَابعه أَبُو عبيد على هَذَا [وَذكر] النّحاس فِي تَفْسِيره: أَن هَذَا غلط، وتزكى وتزكى بِمَعْنى وَاحِد، فتزكى مدغم، وتزكى مَحْذُوف مِنْهُ يُقَال: زَكَّاهُ الله أَي: طهره بِالْإِسْلَامِ فتزكى وَيُقَال أَيْضا لمن أعْطى زَكَاة مَاله: تزكّى.

(6/149)


وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)

وَقَوله: {وأهديك إِلَى رَبك فتخشى} أَي: إِذا أصبت الْهِدَايَة حسنت مِنْك.

(6/149)


فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)

وَقَوله: {فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى} يُقَال: (هِيَ) الْعَصَا، وَقيل: إِنَّهَا الْيَد الْبَيْضَاء، وَيُقَال: كِلَاهُمَا.

(6/149)


{فكذب وَعصى (21) ثمَّ أدبر يسْعَى (22) فحشر فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى (24) فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى (25) إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى (26) أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها (27) } .

(6/150)


فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)

وَقَوله: {فكذب وَعصى ثمَّ أدبر يسْعَى} أَي: أعرض وَجعل يسْعَى فِي إبِْطَال أَمر مُوسَى.

(6/150)


فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

وَقَوله: {فحشر فَنَادَى} الْحَشْر هُوَ الْجمع من كل جِهَة.
وَقَوله: {فَنَادَى} أَي ناداهم، وَقَالَ لَهُم {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} أَي: لَا رب فَوقِي.
قَالَ الْحسن: كَانَ فِرْعَوْن علجا من أهل أَصْبَهَان طوله أَرْبَعَة أشبار، وَعَن مُجَاهِد: علج من أهل همذان، وَعَن بَعضهم: أَنه من أهل اصطخر.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى قَالَ لفرعون: لَك ملك لَا يَزُول، وشباب لَا هرم فِيهِ، وَلَك الْجنَّة فِي الْآخِرَة فَقل: هُوَ رَبِّي وَأَنا عَبده فَقَالَ: حَتَّى استشير هامان، فَلَمَّا اسْتَشَارَ هـ قَالَ: أتصير عبدا بعد أَن كنت معبودا، لَا تقل هَذَا.
فَأبى أَن يَقُول.
ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.

(6/150)


فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)

وَقَوله: {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى} أَي: أَخذه أخذا نكالا لمقالته الْآخِرَة وَالْأولَى، فمقالته الأولى قَوْله: {مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} ، ومقالته الْآخِرَة، قَوْله {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} وَيُقَال: نكل بِهِ وعاقبه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَفِي الدُّنْيَا هُوَ الْغَرق، وَفِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.

(6/150)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} أَي: اعْتِبَارا لمن يخَاف الله تَعَالَى.

(6/150)


أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)

قَوْله تَعَالَى: {أأنتم أَشد خلقا} اسْتدلَّ عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْآيَات فِي قدرته على الْبَعْث، وَالْمعْنَى بِأَن إعادتكم خلقا جَدِيدا أَشد أم خلق السَّمَاء؟ وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} .
وَقَوله: {أم السَّمَاء بناها} مَعْنَاهُ: أم السَّمَاء الَّتِي بناها؟ وَقيل الْمَعْنى: أأنتم أَشد

(6/150)


{رفع سمكها فسواها (28) وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها (29) وَالْأَرْض بعد ذَلِك} . خلقا أم السَّمَاء؟ وَتمّ الْكَلَام ثمَّ قَالَ: {بناها} أَي: بناها الله تَعَالَى.

(6/151)


رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)

وَقَوله: {رفع سمكها فسواها} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {هَل ترى من فطور} أَي: من شقوق وفروج، وَقيل: معنى التَّسْوِيَة هَاهُنَا هُوَ أَنه لَيْسَ بَعْضهَا أرفع من بعض وَلَا أَخفض من بعض، والسمك الِارْتفَاع.

(6/151)


وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)

وَقَوله: {وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها} أَي: أظلم لَيْلهَا.
وَقَوله: {وَأخرج ضحاها} أَي: أبرز نَهَارهَا، وَقيل: أظهر ضوءها، وأضاف الظلمَة والضوء إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهُمَا يظهران من جَانب السَّمَاء عِنْد طُلُوع الشَّمْس وغروبها

(6/151)


وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)

{وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} أَي: بسطها.
قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت:
(وَبث الْخلق فِيهَا إِذْ دحاها ... فهم قطانها حَتَّى التنادي)
وَقَالَ سعيد بن زيد:
(أسلمت بوجهي لمن أسلمت ... لَهُ الأَرْض تحمل صخرا ثقالا)
دحاها فَلَمَّا اسْتَوَت شدها ... وأرسى عَلَيْهَا جبالا)
وَقَوله: {بعد ذَلِك} أَي: مَعَ ذَلِك، وَقيل: إِنَّه خلق الأَرْض قبل السَّمَاء على مَا قَالَ فِي " حم السَّجْدَة "، ثمَّ بسطها بعد خلق السَّمَاء.
وَفِي الْأَثر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لم يكن إِلَّا الْعَرْش وَالْمَاء، فخلق على المَاء حجرا كالفهر، ثمَّ خلق عَلَيْهِ دخانا ملتصقا بِهِ، ثمَّ خلق موجا على المَاء، ثمَّ رفع الدُّخان من الْحجر، وَخلق من الْحجر الأَرْض، وَمن الدُّخان السَّمَاء، وَمن الموج الْجبَال.

(6/151)


{دحاها (30) أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها (31) وَالْجِبَال أرساها (32) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (33) فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى (34) يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى (35) وبرزت الْجَحِيم لمن يرى (36) فَأَما من طَغى (37) وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا (38) فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى (39) } .

(6/152)


أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)

وَقَوله: {أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها} أَي: أخرج من الأَرْض المَاء لحياة النُّفُوس، والمرعى للأنعام.

(6/152)


وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)

وَقَوله: {وَالْجِبَال أرساها} أَي: أثبتها.

(6/152)


مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

وَقَوله: {مَتَاعا لكم} أَي: إمتاعا لكم {ولأنعامكم} وَإِنَّمَا انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: للإمتاع، ثمَّ نزعت اللَّام الخافضة فانتصب.

(6/152)


فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} الطامة فِي اللُّغَة: هِيَ الداهية الْعَظِيمَة، وَقيل: هِيَ الْأَمر الَّذِي لَا يُسْتَطَاع وَلَا يُطَاق، يُقَال: طم الْوَادي إِذا جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُطَاق وَعلا كل شَيْء، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الطامة اسْم الْقِيَامَة، وَسميت الْقِيَامَة طامة؛ لِأَنَّهَا تطم كل شَيْء أَي: فَوق كل شَيْء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من طامة إِلَّا وفوقها طامة " وَهُوَ خبر غَرِيب.

(6/152)


يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)

وَقَوله: {يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى} أَي: يذكر.

(6/152)


وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)

قَوْله: {وبرزت الْجَحِيم لمن يرى} وَفِي التَّفْسِير: أَن الْحِكْمَة فِي إِظْهَار الْجَحِيم مُشَاهدَة الْكفَّار مَكَان عقوبتهم، وليعلم الْمُؤْمِنُونَ من أَي عَذَاب نَجوا.

(6/152)


فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)

وَقَوله: {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: على الْآخِرَة.
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره عَن حُذَيْفَة: أَن من أكل على مائدة ثَلَاثَة ألوان من الطَّعَام، فقد آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَأورد فِي خبر مَرْفُوع أَن النَّبِي قَالَ: " من آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة شتت الله عَلَيْهِ همه، ثمَّ لم يبال بأيها هلك ".

(6/152)


فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)

وَقَوله: {فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى} أَي: مَأْوَاه الْجَحِيم، وَهُوَ مُعظم النَّار.

(6/152)


{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى (40) فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى (41) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها (42) فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا (43) إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها (45) } .

(6/153)


وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)

وَقَوله: {وَأما من خَافَ مقَام ربه} أَي: قِيَامه عِنْد ربه لِلْحسابِ.
وَقَوله: {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} أَي: عَمَّا هَوَاهُ ويشتهيه على خلاف الشَّرْع.

(6/153)


فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

وَقَوله: {فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} أَي: منزلَة ومأواه الْجنَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة الأولى نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَأُميَّة بن خلف وَعقبَة وَعتبَة ابْني أبي لَهب وَجَمَاعَة، وَالْآيَة الثَّانِيَة نزلت فِي مُصعب بن عُمَيْر، وَكَانَ قد وقِي رَسُول الله بِنَفسِهِ يَوْم أحد حَتَّى دخلت المشاقص فِي جَوْفه، وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ صَاحب لِوَاء الْمُهَاجِرين.

(6/153)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مَتى قِيَامهَا؟ وَمرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَالْمعْنَى عَن ماهيتها.

(6/153)


فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)

وَقَوله: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} أَي: مَالك وَمَعْرِفَة وَقت قيام السَّاعَة؟ وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي كَانَ يسْأَل كثيرا جِبْرِيل مَتى السَّاعَة، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ارتدع وكف وَلم يسْأَل بعد ذَلِك " وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَالك وَهَذَا الْأَمر؟ وَفِيه زجر إِيَّاه عَن السُّؤَال.

(6/153)


إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)

قَوْله: {إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا} أَي: مُنْتَهى علم قِيَامهَا، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن كل من يسْأَل عَنهُ يَقُول: الله أعلم، فَيرد علمهَا إِلَى الله.

(6/153)


إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)

وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها} أَي: تنذر بِعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة من يخْشَى الْقِيَامَة.

(6/153)


{كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها (46) } .

(6/154)


كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها} أَي: أول نَهَار أَو آخر نَهَار، فَأول النَّهَار من طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارتفاعها، وَآخر النَّهَار من الْعَصْر إِلَى غُرُوبهَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ} فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف ضحى النَّهَار إِلَى عشيته، وَإِنَّمَا ضحى النَّهَار يُضَاف إِلَى النَّهَار فَبِأَي وَجه تستقيم هَذِه الْإِضَافَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يجوز مثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب، وهم يَفْعَلُونَ كَذَلِك ويريدون بِمثل هَذِه الْإِضَافَة، الْإِضَافَة إِلَى النَّهَار.
قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... عيشة الْهلَال أَو سرارها)
وَقيل معنى ذَلِك: كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها أَي: يَوْمًا من الْأَيَّام، فَالْمُرَاد من العشية هُوَ الْيَوْم، وَالضُّحَى هُوَ الْيَوْم أَيْضا، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا الظَّن، وعندكم أَنهم يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم؟ وَالْجَوَاب: أَنهم يخفتون خفتة بَين النفختين، فَإِذا بعثوا ظنُّوا مَا بَينا، لأَنهم نسوا الْعَذَاب فِي تِلْكَ الخفتة، وَالله أعلم.

(6/154)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{عبس وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) } .
تَفْسِير سُورَة عبس

وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.

(6/155)


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)

قَوْله تَعَالَى: {عبس وَتَوَلَّى} هُوَ الرَّسُول فِي قَول الْجَمِيع، وَمعنى عبس: كلح وَجهه، وَتَوَلَّى أَي: أعرض، وَالْمعْنَى: أظهر الْكَرَاهَة.

(6/155)


أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)

وَقَوله: {أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لِأَن جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَنصب على أَنه مفعول، وَهُوَ عبد الله بن أم مَكْتُوم فِي قَول [الْجَمِيع] .
وَسبب نزُول الْآيَة " هُوَ أَن النَّبِي كَانَ يكلم رجلا من أَشْرَاف الْمُشْركين، ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام - قَالَ عَطاء: كَانَ عتبَة بن ربيعَة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ أبي بن خلف، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَأبي بن خلف - وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَيقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه كَانَ عِنْده جمَاعَة من أَشْرَاف قُرَيْش، وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَاشْتَدَّ طمعه فيهم، فجَاء عبد الله بن أم مَكْتُوم، وَجعل يَقُول: يَا رَسُول الله، عَلمنِي مِمَّا علمك الله، أَرْشدنِي.
وَفِي رِوَايَة، أَنه جَاءَ مَعَ قائده، فَأَشَارَ النَّبِي إِلَى قائده أَن كَفه، فَدفع فِي ظهر قائده، وَأَقْبل النَّبِي ".

(6/155)


{وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى (3) أَو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من اسْتغنى (5) فَأَنت لَهُ تصدى (6) وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى (7) وَأما من جَاءَك يسْعَى (8) وَهُوَ يخْشَى (9) } .
وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَن الَّذِي كَانَ يكلمهُ ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام كَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَلَمَّا دخل ابْن أم مَكْتُوم فِي خطابه، وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ قَوْله: عَلمنِي أَرْشدنِي، كره رَسُول الله ذَلِك حَتَّى ظَهرت الْكَرَاهَة فِي وَجهه، وَعَبس وَأعْرض عَنهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة معاتبا لَهُ فِيمَا فعله.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ وَذهب.

(6/156)


وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)

وَقَوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى} أَي: يتزكى، وَالْمرَاد مِنْهُ ابْن أم مَكْتُوم.
وَقَوله: {يزكّى} أَي: يقبل مَا تذكره بِهِ وتعلمه، وَقيل: يتَطَهَّر.

(6/156)


أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)

وَقَوله: {أَو يذكر} مَعْنَاهُ: أَو يتَذَكَّر.
وَقَوله: {فتنفعه الذكرى} أَي: تَنْفَعهُ التَّذْكِرَة والعظة.
وَالْمعْنَى: أَنَّك تعرض عَنهُ إِعْرَاض من لَا يَنْفَعهُ تَعْلِيمه وتذكيره، وَلَا تَدْرِي لَعَلَّه يَنْفَعهُ التَّعْلِيم والتذكير، فَعَلَيْك أَن تعلمه وتذكره.

(6/156)


أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)

وَقَوله: {أما من اسْتغنى} يَعْنِي: من أظهر الِاسْتِغْنَاء عَنْك.

(6/156)


فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)

وَقَوله: {فَأَنت لَهُ تصدى} أَي: تتعرض وَتقبل عَلَيْهِ، وَقيل: إِن أَصله تصدد فقلبت إِحْدَى الدالين يَاء.

(6/156)


وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)

قَوْله: {وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى} أَي: وَمَا عَلَيْك أَلا يسلم، وَالْمعْنَى أَنه لَو لم يسلم ذَلِك الَّذِي أَقبلت عَلَيْهِ، لم يكن عَلَيْك من ذَلِك شَيْء.

(6/156)


وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)

وَقَوله: {وَأما من جَاءَك يسْعَى} أَي: يطْلب الْخَيْر.

(6/156)


وَهُوَ يَخْشَى (9)

وَقَوله: {وَهُوَ يخْشَى} أَي: يخَاف الله تَعَالَى.

(6/156)


فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

وَقَوله: {فَأَنت عَنهُ تلهى} أَي: تعرض، وَقيل: تشتغل عَنهُ بِغَيْرِهِ.
وَمن هَذَا مَا

(6/156)


{فَأَنت عَنهُ تلهى (10) كلا إِنَّهَا تذكرة (11) فَمن شَاءَ ذكره (12) فِي صحف مكرمَة (13) } . روى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا رَأَيْت الله اسْتَأْثر عَلَيْك بِشَيْء فاله عَنهُ - أَي: اتركه وَأعْرض عَنهُ، وَقد قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: " كَانَ النَّبِي بعد ذَلِك إِذا جَاءَهُ عبد الله بن أم مَكْتُوم بسط رِدَاءَهُ وَقَالَ: يَا من عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ".
واستخلفه على الْمَدِينَة مرَّتَيْنِ، وَقيل مَرَّات حِين خرج إِلَى الْغَزْو.
وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي مَا رئى بعد ذَلِك متصديا لغنى، وَلَا معرضًا عَن فَقير ".

(6/157)


كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)

قَوْله تَعَالَى: {كلا} قَالَ الْحسن: حَقًا، وَقيل: الْمَعْنى هُوَ للردع والزجر يَعْنِي: لَيْسَ يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر على هَذَا، وَهُوَ مَا سبق ذكره.
وَقَوله: {إِنَّهَا تذكرة} أَي: هَذِه السُّورَة تذكرة، وَقيل: الأنباء والقصص تذكرة.

(6/157)


فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)

وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: فَمن شَاءَ الله ألهمه وَذكره.

(6/157)


فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)

وَقَوله: {فِي صحف} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الأنباء والقصص، فعلى القَوْل الأول قَوْله {فَمن شَاءَ ذكره} ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن.
والصحف جمع صحيفَة.
وَقَوله: {مكرمَة} أَي: كَرِيمَة على الله، وَقيل: مكرمَة لِأَنَّهَا نزلت من رب كريم.

(6/157)


مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

وَقَوله: {مَرْفُوعَة} يجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة فِي الْمَكَان، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة الْقدر والمنزلة عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَوله تَعَالَى: {مطهرة} قَالَ الْحسن: مطهرة من كل دنس، وَقيل: مطهرة أَي: مصونة من أَن تنالها أَيدي الْكفَّار الأنجاس.

(6/157)


بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)

وَقَوله: {بأيدي سفرة} السّفر هِيَ الْمَلَائِكَة الَّذين يسفرون بِالْوَحْي بَين الله وَبَين رَسُوله، وَيُقَال للْكتاب سفر، وللمصلح بَين الْجَمَاعَة سفير، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبين الْأَمر وإيضاحه، يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا إِذا كشفته، وَيُقَال: أَسْفر الصُّبْح إِذا أَضَاء،

(6/157)


{مَرْفُوعَة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام بررة (16) قتل الْإِنْسَان مَا أكفره (17) } .
وَمِنْه قَول نوبَة بن حمير:
{إِذا مَا جِئْت ليلى تبرقعت فقد ... رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاة سفورها} .
أَي: ظُهُورهَا.
وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك: {بأيدي سفرة} : هم الْقُرَّاء الَّذين يقرءُون الْآيَات.
وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله: {مَرْفُوعَة مطهرة} سَمَّاهَا مَرْفُوعَة مطهرة؛ لِأَنَّهَا أنزلت من اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقيل: سفرة هم مَلَائِكَة موكلون بالأسفار من كتب الله تَعَالَى، وَمِنْه أسفار مُوسَى، وَاحِدهَا سفر. وَقَالَ الشَّاعِر:
(فَمَا أدع السفارة بَين قومِي ... وَمَا أَمْشِي بغش إِن مشيت)
وَسمي التَّفْسِير بَين الِاثْنَيْنِ سفيرا؛ لِأَنَّهُ يظْهر عَمَّا فِي قلب هَذَا وَعَما فِي قلب الآخر ليصلح بَينهمَا.

(6/158)


كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

وَقَوله: {كرام بررة} فَقَوله: {كرام} صفة الْمَلَائِكَة أَي: كرام على الله، وَقَوله: {بررة} أَي: مُطِيعِينَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} وَفِي بعض الْكتب أَن فِي السَّمَاء مَلَائِكَة بِأَيْدِيهِم الصُّحُف يقرءُون الْقُرْآن وعبادتهم ذَلِك، وَهَذَا رَاجع إِلَى مَا بَينا من قبل قَول الضَّحَّاك.

(6/158)


قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)

قَوْله تَعَالَى: {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} ثمَّ بَين الله تَعَالَى من العبر والآيات فِي الْآدَمِيّ مَا لَا يَنْبَغِي أَن يكفر مَعهَا.
وَقَوله: {قتل} أَي: لعن، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر، وَقيل: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: أُميَّة بن خلف.
وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس " أَن الْآيَة نزلت فِي عتبَة بن أبي لَهب لما أنزل الله تَعَالَى سُورَة " والنجم " قَالَ عتبَة: أَنا أكفر بِالنَّجْمِ إِذا هوى، فَقَالَ النَّبِي: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك "، وروى أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ أَسد الغاضرة " - والغاضرة مَوضِع - ثمَّ إِنَّه خرج بعد ذَلِك فِي رفْقَة، فَلَمَّا بلغ ذَلِك

(6/158)


{من أَي شَيْء خلقه (18) من نُطْفَة خلقه فقدره (19) ثمَّ السَّبِيل يسره (20) ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره (21) ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره (22) } . الْموضع ذكر قَول الرَّسُول، فَأمر أهل الرّفْقَة أَن يحرسوه تِلْكَ اللَّيْلَة فَفَعَلُوا، وَجَاء الْأسد وثب وثبة وَصَارَ على ظَهره وافترسه ".
وَقَوله: {مَا أكفره} وَيجوز أَن يكون أَيْضا على وَجه التوبيخ، وَإِن كَانَ اللَّفْظ لفظ الِاسْتِفْهَام فَالْمَعْنى: أَي شَيْء أكفره بِاللَّه، وَقد أرَاهُ من قدرته مَا أرَاهُ.

(6/159)


مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)

وَقَوله: {من أَي شَيْء خلقه} مَعْنَاهُ: أَفلا يتفكر هَذَا الْكَافِر من أَي شَيْء خلقه الله تَعَالَى، ثمَّ بَين من أَي شَيْء خلقه،

(6/159)


مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)

وَقَوله: {من نُطْفَة خلقه} ، وَقَوله تَعَالَى: {فقدره} قَالَ الْكَلْبِيّ: سوى خلقه من يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِر جوارحه الظَّاهِرَة والباطنة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {خلقك فسواك} وَقيل: فقدره أَي: وضع كل شَيْء مَوْضِعه، وهيأ لَهُ مَا يصلحه.

(6/159)


ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)

وَقَوله: {ثمَّ السَّبِيل يسره} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الْخُرُوج من الرَّحِم، وَقيل مَعْنَاهُ: يسر لَهُ سَبِيل الْخَيْر، وَقيل: بَين لَهُ سَبِيل الشقاوة والسعادة، قَالَه مُجَاهِد، وَالَّذِي تقدمه قَول الْحسن.

(6/159)


ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)

وَقَوله: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} أَي: جعل لَهُ قبرا يدْفن فِيهِ، يُقَال: قبرت فلَانا إِذا دَفَنته، وأقبرته إِذا جعلت لَهُ موضعا يدْفن فِيهِ.
قَالَ الْأَعْشَى:
(لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر)

(6/159)


ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)

وَقَوله: {ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره} أَي: أَحْيَاهُ وَبَعثه.
قَالَ الْأَعْشَى:
(حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت الناشر)

(6/159)


{كلا لما يقْض مَا أمره (23) فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه (24) أَنا صببنا المَاء صبا (25) ثمَّ شققنا الأَرْض شقا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا (27) } .

(6/160)


كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)

وَقَوله: {كلا لما يقْض مَا أمره} يَعْنِي: لم يفعل مَا أمره الله تَعَالَى.
قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ أحد من الْخلق يفعل كل مَا أمره الله تَعَالَى.
وَعَن ابْن عَبَّاس: {كلا لما يقْض مَا أمره} أَي: مَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق.

(6/160)


فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)

وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} أَي: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى الطَّعَام والعلف الَّذِي خلقه الله تَعَالَى لحياة الْخلق، وَعَن ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه أَي: إِلَى مَا يخرج مِنْهُ كَيفَ انْقَلب من الطّيب إِلَى الْخَبيث.
وَعَن الْحسن: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا فَإِذا جلس الْإِنْسَان على حَاجته ثنى رقبته لينْظر إِلَى مَا يخرج مِنْهُ ذكره النقاش.
وَأورد أَيْضا: أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي سَأَلَ عمرَان بن الْحصين لم ينظر الْإِنْسَان إِلَى مَا يخرج مِنْهُ؟ فَلم يدر عمرَان مَا يجِيبه بِهِ، ثمَّ ذهب عمرَان إِلَى الْمَدِينَة، فَذكر ذَلِك لأبي بن كَعْب فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} ثمَّ قَالَ: ينظر ليعلم إِلَى مَا صَار مَا بخل بِهِ.

(6/160)


أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)

وَقَوله: {أَنا صببنا المَاء صبا} قرئَ بِكَسْر الْألف وَفتحهَا؛ فَقَوله بِالْكَسْرِ " إِنَّا " على الِابْتِدَاء، وَقَوله: {أَنا} بِالْفَتْح مَنْصُوب على الْبَدَل من الطَّعَام كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى أَنا صببنا، ذكره الْفراء.
وَقيل مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه لأَنا صببنا.
وَقَوله: {صببنا المَاء صبا} أَي: أجريناه إِجْرَاء.

(6/160)


ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)

وَقَوله: {ثمَّ شققنا الأَرْض شقا} أَي: بِخُرُوج النَّبَات.

(6/160)


فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)

وَقَوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا} هُوَ الْبر وَالشعِير، وكل مَا هُوَ قوت النَّاس.

(6/160)


وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)

وَقَوله: {وَعِنَبًا} هُوَ الْعِنَب الْمَعْرُوف.
وَقَوله: {وَقَضْبًا} هُوَ القت بلغَة أهل مَكَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الرّطبَة - وَهُوَ

(6/160)


{وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِق غلبا (30) وَفَاكِهَة وَأَبا (31) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (32) فَإِذا جَاءَت الصاخة (33) } . قَول مَعْرُوف - وَسمي قضبا؛ لِأَنَّهُ يقضب أَي: يقطع وينبت، ثمَّ يقطع وينبت هَكَذَا.

(6/161)


وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)

وَقَوله: {وَزَيْتُونًا} وَهُوَ الزَّيْتُون الْمَعْرُوف.
وَقَوله: {وَنَخْلًا وَحَدَائِق غلبا} الحديقة كل بُسْتَان يتحوط عَلَيْهِ، وَمَا لَا يكون محوطا عَلَيْهِ لَا يكون حديقة.
وَقَوله: {غلبا} أَي: غِلَاظ الْأَعْنَاق، يُقَال: رجل أغلب إِذا كَانَ شَدِيدا غليظ الرَّقَبَة.
وَقيل: " غلبا " ملتفة أَي: دخل بَعْضهَا فِي بعض.

(6/161)


وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)

وَقَوله: وَفَاكِهَة وَأَبا) الْفَاكِهَة هِيَ الثِّمَار، وَالْأَب هِيَ الْكلأ.
قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: الْأَب مرعى الْأَنْعَام، وَقيل: الْأَب للبهائم بِمَنْزِلَة الْفَاكِهَة للنَّاس.
وَقَالَ (الضَّحَّاك) : الْأَب التِّين، وَعَن الْحسن: أَن الْفَاكِهَة مَا طَابَ واحلو لي من الثِّمَار.
وَمن الْمَعْرُوف أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة وَأَبا} ثمَّ قَالَ: قد عرفت الْفَاكِهَة فَمَا الْأَب؟ ثمَّ قَالَ: يَا ابْن الْخطاب، هَذَا وَالله هُوَ (التَّكْذِيب) ، وَألقى الْعَصَا من يَده.

(6/161)


مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

وَقَوله: {مَتَاعا لكم ولأنعامكم} أَي: مَنْفَعَة لكم ولأنعامكم.

(6/161)


فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

وَقَوله: {فَإِذا جَاءَت الصاخة} هِيَ اسْم من أَسمَاء يَوْم الْقِيَامَة، ذكره ابْن عَبَّاس مثل الطامة والحاقة وَالْقَارِعَة وأشباهها، وَقيل: الصاخة هِيَ الداهية الَّتِي يعجز عَنْهَا الْخلق، وَقيل: الصاخة الصاكة، يُقَال: صخ فلَانا إِذا صَكه.

(6/161)


{يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه (34) وَأمه وَأَبِيهِ (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه (37) وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة (38) } .
قَالَ الشَّاعِر:
(يَا جارتي هَل لَك أَن تجالدي ... جلادة كالصخ بالجلامد)
أَي: كالصك، وَقيل: إِن الصاخة صَيْحَة إسْرَافيل تصك الأسماع، وَعَن بَعضهم: أَن الصاخة مَا يصخ لَهُ كل شَيْء أَي: ينصت يُقَال: رجل أصخ أَي أَصمّ.

(6/162)


يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)

وَقَوله: {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه وَأمه وَأَبِيهِ وصاحبته وبنيه} يفر مِنْهُم لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يَنْفَعهُمْ وَينْتَفع بهم.
قيل: يفر لِئَلَّا يرَوا الهوان الَّذِي ينزل فِيهِ، وَقيل: يفر مِنْهُم ضجرا لعظم مَا هُوَ فِيهِ، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {من أَخِيه} قابيل من هابيل.
وَقَوله: {وَأمه} هُوَ الرَّسُول من أمه.
وَقَوله: {وَأَبِيهِ} هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - من أَبِيه.
وَقَوله: {وصاحبته} هُوَ لوط - عَلَيْهِ السَّلَام - من زَوجته.
وَقَوله: {وبنيه} هُوَ آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - من بنيه المفسدين، وَقيل: هُوَ نوح - عَلَيْهِ السَّلَام - من ابْنه.

(6/162)


لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)

وَقَوله: {لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه} أَي: شَيْء يَكْفِيهِ ويشغله، وَقَالَ القتيبي: شَيْء يصرفهُ عَن غَيره، والشأن: هُوَ الْأَمر الْعَظِيم، يُقَال: فلَان فِي شَأْن، أَي: فِي أَمر عَظِيم.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يعنيه " من عَنى يَعْنِي بِالْعينِ غير مُعْجمَة.

(6/162)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)

قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} أَي: [ذَات] فرحة مسرورة، وَقيل: نيرة، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبيض وُجُوه} أَي: وُجُوه يَوْمئِذٍ تبيض.

(6/162)


{ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة (40) ترهقها قترة (41) أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة (42) } .

(6/163)


ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)

وَقَوله: {ضاحكة مستبشرة} أَي: من السرُور والفرح.

(6/163)


وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)

وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} أَي: كسوف وَسَوَاد.

(6/163)


تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)

وَقَوله: {ترهقها قترة} أَي: تعلوها الكآبة والحزن، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَتسود وُجُوه} عَن عَطاء الخرساني: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} لِكَثْرَة مَا أغبرت فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ.
وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} من كَثْرَة مَا ضحِكت فِي الْبَاطِل.

(6/163)


أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة} يَعْنِي: أَصْحَاب الْوُجُوه هم الَّذين كفرُوا بِاللَّه وفجروا، وَالله أعلم.

(6/163)