تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا الشَّمْس كورت (1) وَإِذا النُّجُوم انكدرت (2) } .
تَفْسِير سُورَة (كورت)
وَهِي مَكِّيَّة
روى عبد الرَّزَّاق، عَن عبد الله بن بجير، عَن عبد الرَّحْمَن
بن يزِيد الصَّنْعَانِيّ قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: قَالَ
رَسُول الله: " من سره أَن ينظر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
كَأَنَّهُ رأى عين ذَلِك الْيَوْم فليقرأ: {إِذا الشَّمْس
كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} و (إِذا السَّمَاء انشقت) .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد الْقفال،
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السنجي الطَّحَّان، أخبرنَا
الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري، أخبرنَا عبد
الرَّزَّاق.
(6/164)
إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا الشَّمْس كورت}
قَالَ ابْن عَبَّاس: ذهب ضوؤها.
وروى سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَبِيه، عَن الرّبيع بن خثيم
قَالَ: كورت رمى بهَا.
وَعَن سعيد بن جُبَير كور الْعِمَامَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا
لفت وجمعت وَطرح بهَا.
(6/164)
وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ (2)
وَقَوله: {إِذا النُّجُوم انكدرت} أَي:
تناثرت وتساقطت، وَفِي بعض التفاسير: أَن النُّجُوم فِي قناديل
من نور معلقَة بالسماء الدُّنْيَا بسلاسل فِي أَيدي
الْمَلَائِكَة، فَإِذا جَاءَ
(6/164)
{وَإِذا الْجبَال سيرت (3) وَإِذا العشار
عطلت (4) وَإِذا الوحوش حشرت (5) وَإِذا الْبحار سجرت (6) } .
يَوْم الْقِيَامَة تساقطت السلَاسِل من أَيدي الْمَلَائِكَة،
وانتثرت النُّجُوم.
وروى أَن أهل الْأَرْضين يسمعُونَ إدة عَظِيمَة من وُقُوع
النُّجُوم على الأَرْض.
(6/165)
وَإِذَا الْجِبَالُ
سُيِّرَتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الْجبَال سيرت} أَي: سيرت
وَكَانَت سرابا، وَقيل: دقَّتْ دقا، وَصَارَت بِمَنْزِلَة
الهباء، وَالْآيَة فِي معنى قَوْله تَعَالَى {وَترى الْجبَال
تحسبها جامدة وَهِي تمر مر السَّحَاب} .
(6/165)
وَإِذَا الْعِشَارُ
عُطِّلَتْ (4)
وَقَوله: {وَإِذا العشار عطلت} العشار
وَاحِدهَا عشراء، وَهِي النَّاقة الَّتِي أَتَت عشرَة أشهر على
حملهَا، وَهِي أحسن مَا يكون من النوق، وأعزها على
أَرْبَابهَا، وتعطيلها إهمالها وَتركهَا بِلَا رَاع يرعاها،
وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمعْنَى: أَن
كل إِنْسَان يشْتَغل بِنَفسِهِ عَن كل شَيْء، وَإِن كَانَ
عَزِيزًا عِنْده.
(6/165)
وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (5)
وَقَوله: {وَإِذا الوحوش حشرت} فِيهِ
قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى مَاتَت، والحشر هُوَ
الْجمع، فَكَأَنَّهَا جمعت فِي الْمَوْت، وَالْقَوْل
الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهر أَن حشرها إحياؤها يَوْم
الْقِيَامَة.
وَقد ورد فِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
يقْتَصّ للجماء من القرناء ".
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يحْشر كل شَيْء حَتَّى الذُّبَاب.
(6/165)
وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ (6)
وَقَوله: {وَإِذا الْبحار سجرت} قَالَ
الْحسن: يَبِسَتْ، وَعنهُ أَنه قَالَ: فاضت أَي: أَدخل
بَعْضهَا فِي بعض.
وَعَن كَعْب الْأَحْبَار سجرت أَي: ملئت نَارا.
وَقَالَ شمر بن عَطِيَّة: تسجر كَمَا يسجر التَّنور.
(6/165)
{وَإِذا النُّفُوس زوجت (7) وَإِذا
الموءودة سُئِلت (8) بِأَيّ ذَنْب قتلت (9) } .
وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ
رجلا من الْيَهُود عَن جَهَنَّم؟ فَقَالَ: هُوَ الْبَحْر،
فَقَالَ: مَا أرَاهُ إِلَّا صَادِقا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار سجرت} .
وَعَن بَعضهم: أَن بَحر الرّوم وسط الأَرْض، وَفِي أَسْفَله
آبار من نُحَاس مطبقة، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة سجرت
نَارا، وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور}
وَقد بَينا، وَيجوز أَن يجمع بَين هَذِه الْأَقَاوِيل،
فَيُقَال: إِن الْبحار يدْخل بَعْضهَا فِي بعض فَتَصِير بحرا
وَاحِدًا، ثمَّ يفِيض وييبس ثمَّ يمْلَأ نَارا.
(6/166)
وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ (7)
وَقَوله: {وَإِذا النُّفُوس زوجت} قَالَ
الشّعبِيّ: الْأَبدَان بالأرواح، وَقيل: قرنت بأعمالها.
وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الصَّالح مَعَ
الصَّالح، والفاجر مَعَ الْفَاجِر.
وَعَن بَعضهم: الْمُؤْمِنُونَ يقرنون بالحور الْعين،
وَالْكفَّار بالشياطين.
(6/166)
وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
{وَإِذا الموءودة سُئِلت بِأَيّ ذَنْب
قتلت} الموءودة: هِيَ الْوَلَد، كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة
يقتلونه، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا ولد لَهُ ابْن تَركه،
وَإِذا ولد لَهُ بنت دَفنهَا حَيَّة.
وَذكر بَعضهم.
أَن الْمَرْأَة كَانَت إِذا أَخذهَا الْمَخَاض حُفْرَة حفيرة،
وَجَلَست عَلَيْهَا فَإِن ولدت ابْنا حَبسته، وَإِن ولدت
بِنْتا ألقتها فِي الحفيرة، وَقد كَانَ بَعضهم يتْرك
الْجَارِيَة حَتَّى تصير شَدِيدَة، ثمَّ يَقُول لأمها: طيبيها
زينيها، وَقد حفر بِئْرا فِي الصَّحرَاء، ويحملها مَعَ نَفسه،
ويأمرها أَن تطلع فِي الْبِئْر، ثمَّ يَدْفَعهَا من خلفهَا فِي
الْبِئْر، ويهيل التُّرَاب، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك
إِمَّا خشيَة الإملاق، أَو [دفعا] للعار وأنفة عَن أنفسهم.
وَقَوله: {سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} هُوَ سُؤال توبيخ للوائد؛
لِأَن من جَوَاب هَذَا السُّؤَال أَن يَقُول: قتلت بِغَيْر
ذَنْب.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة: " وَإِذا
الموءودة سَأَلت بِأَيّ ذَنْب قتلت " وَالْمعْنَى مَعْلُوم.
وَذكر بَعضهم فِي تَفْسِيره: أَنَّهَا تَأتي متلطخة بالدماء،
وتتعلق بثدي أمهَا وَتقول: يَا رب، هَذِه أُمِّي وَقد قتلتني.
واعم أَنه ورد كثير من الْأَخْبَار فِي أَن أَوْلَاد
الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة.
(6/166)
وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: من قَالَ
الموءودة فِي النَّار فقد كذب، وتلا هَذِه الْآيَة.
وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَأَلت رَبِّي عَن اللاهين من
ذُرِّيَّة الْبشر فأعطانيهم ".
وَعنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَنه سُئِلَ عَن
أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: هم خدم أهل الْجنَّة.
وَقد وَردت أَخْبَار أخر أَن أَوْلَاد الْمُشْركين فِي
النَّار، وَقد ذكرنَا بعض ذَلِك فِيمَا سبق، وَعنهُ أَنه قَالَ
لعَائِشَة: " لَو شِئْت أسمعتك تضاغيهم فِي النَّار "، وَعنهُ
عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: " الوائدة
والموءودة فِي النَّار "، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة
أَن النَّبِي سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: "
الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ".
فَالْأولى أَن يتَوَقَّف، ويوكل علم ذَلِك إِلَى الله
تَعَالَى، وهم على مَشِيئَته يفعل بهم مَا يَشَاء.
وَاعْلَم أَنه قد كَانَ فِي الْعَرَب من يحيي الْأَطْفَال
الموءودة، وَذَلِكَ بِأَنَّهُم (يفرون) من آبَائِهِم.
وَقَالَ الفرزدق يفتخر:
(وَمنا الَّذِي منع لوائدات ... فأحيا الوئيد فَلم يوأد)
قَالَه فِي جده صعصعة بن مجاشع.
(6/167)
{وَإِذا الصُّحُف نشرت (10) وَإِذا
السَّمَاء كشطت (11) وَإِذا الْجَحِيم سعرت (12) وَإِذا
الْجنَّة أزلفت (13) علمت نفس مَا أحضرت (14) فَلَا أقسم} .
(6/168)
وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الصُّحُف نشرت}
يَعْنِي: على الْخَلَائق، فَمنهمْ من يُعْطي بِيَمِينِهِ،
وَمِنْهُم من يُعْطي بِشمَالِهِ.
(6/168)
وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ (11)
وَقَوله: {وَإِذا السَّمَاء كشطت} وَقَرَأَ
ابْن مَسْعُود: " قشطت " وهما بِمَعْنى وَاحِد، كالكافور
والقافور.
وَقَوله: {كشطت} أَي: قلعت، وَقيل: نزعت.
(6/168)
وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ (12)
وَقَوله: {وَإِذا الْجَحِيم سعرت} أَي:
أوقدت، وَهِي توقد مرّة بعد مرّة فاستقام على هَذَا الْكَلَام.
قَالَ قَتَادَة: سعره غضب الله وخطايا بني آدم.
(6/168)
وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ (13)
وَقَوله: {وَإِذا الْجنَّة أزلفت} أَي:
قربت وأدنيت، وَهِي لِلْمُتقين.
(6/168)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
أَحْضَرَتْ (14)
وَقَوله: {علمت نفس مَا أحضرت} قَالَ
الرّبيع بن خثيم: إِلَى هَذَا جرى الْكَلَام، وَحكى معنى هَذَا
عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْمعْنَى: أَنه إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء علمت نفس مَا
أحضرت يَعْنِي: من الْخَيْر وَالشَّر.
(6/168)
فَلَا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس}
قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - هِيَ خَمْسَة كواكب:
بهْرَام، وَعُطَارِد، وزحل، والزهرة، وَالْمُشْتَرِي، وَذكر
بَعضهم الشَّمْس وَالْقَمَر فِي ذَلِك.
وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا جَمِيع النُّجُوم.
وَقَوله: {الخنس} أَي: تغيب فِي سَيرهَا، وَقيل: تغيب فِي
النَّهَار، وَتظهر بِاللَّيْلِ، وَقيل: ترجع فِي مسيرها من
الْمغرب، وَذَلِكَ ظَاهر فِي الْكَوَاكِب الْخَمْسَة.
(6/168)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
(16)
وَقَوله: {الْجوَار الكنس} أَي: النِّسَاء
السائرات الكنس، والكنس المستترات عَن الْأَبْصَار.
وَقيل: بالغروب، وَقيل: بِالنَّهَارِ.
وَهَذِه الْكَوَاكِب هِيَ الْكَوَاكِب الَّتِي يسميها المنجمون
الْمُتَحَيِّرَة، وَقد تفردت حَيْثُ تسير بِخِلَاف سَائِر
الْكَوَاكِب؛ لِأَن سَائِر الْكَوَاكِب تسير من الْمشرق إِلَى
الْمغرب، وَهِي تسير من الْمغرب إِلَى الْمشرق، ويحيلون
(6/168)
{بالخنس (15) الْجوَار الكنس (16)
وَاللَّيْل إِذا عسعس (17) وَالصُّبْح إِذا تنفس (18) إِنَّه
لقَوْل رَسُول كريم (19) ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين
(20) } . عَلَيْهَا الْأَفْعَال فِي الْعَالم، وَنحن نتبرأ
إِلَى الله تَعَالَى من هَذَا الِاعْتِقَاد، ونحيل الْجَمِيع
على الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا النُّجُوم آيَات وَدَلَائِل
ومسخرات خلقت لمعاني ذَكرنَاهَا من قبل، وَفِي الْآيَة قَول
آخر: وَهُوَ أَن الخنس هِيَ بقر الوحوش.
قَالَ عَمْرو بن شُرَحْبِيل: قَالَ لي عبد الله بن مَسْعُود:
أَنْتُم قوم عرب، فَمَا معنى {الخنس الْجوَار الكنس} ؟ قَالَ
عَمْرو: هِيَ بقر الْوَحْش، قَالَ ابْن مَسْعُود: وَأَنا أرى
ذَلِك وَهُوَ أَيْضا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن
عَبَّاس، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.
والخنس على هَذَا القَوْل: هِيَ صغَار الْأنف، والكنس من
استتارها فِي كنسها.
(6/169)
وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ (17)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا عسعس} أَي: أقبل
بظلامه، وَقيل: أدبر، وَهُوَ من الأضداد.
وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.
(6/169)
وَالصُّبْحِ إِذَا
تَنَفَّسَ (18)
وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا تنفس} أَي: ظهر
وطلع، وَقيل: ارْتَفع.
(6/169)
إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي
قَول أنزلهُ رَسُول كريم أَي كريم على مرسله وَهُوَ جِبْرِيل
صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَحمل الْآيَة على مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
على الرَّسُول من غير الْقُرْآن.
فعلى هَذَا يجوز أَن يُقَال: هُوَ قَول جِبْرِيل.
وَقيل: إِن قَوْله {رَسُول كريم} وَهُوَ مُحَمَّد وَالْقَوْل
الأول هُوَ الْمَشْهُور.
(6/169)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
وَقَوله: {ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش
مكين} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن قوته
وأمانته؟ .
فَقَالَ: " أما قوتي فَإِن الله تَعَالَى أَرْسلنِي إِلَى
مَدَائِن لوط، وَهِي أَربع مَدَائِن فِي كل مَدِينَة
أَرْبَعمِائَة ألف مقَاتل سوى الذُّرِّيَّة فأدخلت جناحي
تحتهَا ورفعتها إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل
السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وصياح الديكة ثمَّ قلبتها.
وَأما أمانتي فَإِنِّي لم أعد مَا أمرت بِهِ إِلَى غَيره.
(6/169)
{مُطَاع ثمَّ أَمِين (21) وَمَا صَاحبكُم
بمجنون (22) وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين (23) وَمَا هُوَ
على الْغَيْب بضنين (24) وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم (25)
فَأَيْنَ تذهبون (26) } .
وَقَوله: {مكين} هُوَ بِمَعْنى المكانة أَو الْمنزلَة عِنْد
الله تَعَالَى.
وَذي الْعَرْش: هُوَ الله تَعَالَى.
(6/170)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
(21)
وَقَوله: {مُطَاع ثمَّ أَمِين} فِي
التَّفْسِير أَن الْمَلَائِكَة يطيعونه فِيمَا يَأْمُرهُم
بِهِ.
وَقد قيل: إِن مَعْنَاهُ أَنه قَالَ: لرضوان خَازِن الْجنان
لَيْلَة الْمِعْرَاج: افْتَحْ الْبَاب لمُحَمد ففتحه.
وَقَالَ لمَالِك خَازِن النَّار: افْتَحْ اللّبَاب لمُحَمد
ففتحه.
وَقَوله: {أَمِين} قد ذكرنَا.
وَقيل فِي معنى الْأَمَانَة، أَنه يرفع سبعين سرادقا من غير
اسْتِئْذَان.
وَقيل: يلج سبعين حِجَابا من نور من غير اسْتِئْذَان.
(6/170)
وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ (22)
وَقَوله تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون}
معنى الرَّسُول.
وَعَن عَطِيَّة أَن نَبِي الله سَأَلَ جِبْرِيل أَن يرِيه
نَفسه على مَا يكون فِي السَّمَاء؟ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك
إِلَيّ حَتَّى اسْتَأْذن رَبِّي، فَأذن الله تَعَالَى لَهُ فِي
ذَلِك.
فَلَمَّا رأى جِبْرِيل على مَا خلقه الله من العظمة وَكَثْرَة
الأجنحة على مَا ذكرنَا غشي عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ قُرَيْش
مغشيا عَلَيْهِ قَالُوا: مَجْنُون مَجْنُون فَأنْزل الله
تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} .
(6/170)
وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
وَقَوله: {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين}
فِي التَّفْسِير أَنه عِنْد مطلع الشَّمْس، وَالَّذِي رَآهُ
جِبْرِيل، وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة والنجم.
(6/170)
وَمَا هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَقَوله: {وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين}
قرئَ بالضاد والظاء.
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بظنين بالظاء، بمتهم، وبضنين
بالضاد، ببخيل.
أوردهُ النّحاس وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُفَسّرين والغيب:
هُوَ الْوَحْي.
(6/170)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
وَقَوله {وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم}
قَالَ: هَذَا لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا يَقُول
مَا يَقُول عَن الشَّيْطَان.
(6/170)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
(26)
وَقَوله: {فَأَيْنَ تذهبون} أَي: أَيْن
تذهبون عَن هَذَا الْحق الَّذِي ظهر بدلائله؟ .
(6/170)
{إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (27) لمن
شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم (28) وَمَا تشاءون إِلَّا أَن
يَشَاء الله رب الْعَالمين (29) } .
(6/171)
إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين}
أَي: تذكرة وعظة للْعَالمين.
(6/171)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن
يَسْتَقِيم} فِي التَّفْسِير أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة،
قَالَ أَبُو جهل: الْأَمر إِلَيْنَا إِن شِئْنَا استقمنا،
وَإِن شِئْنَا لم نستقم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله، {وَمَا
تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} ردا عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا مَا رُوِيَ عَن
مَالك عَن زيد بن أبي أنيسَة أَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن
بن زيد بن الْخطاب أخبرهُ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ أَن
عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة
{وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ} إِلَى أَن قَالَ:
{أَلَسْت بربكم} الْآيَة.
فَقَالَ عمر بن الْخطاب: سَمِعت رَسُول الله سُئِلَ عَنْهَا؟
فَقَالَ: " إِن الله خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج
مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل
الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظَهره فاستخرج، فَقَالَ: خلقت
هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقَالَ رجل:
يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل؟ فَقَالَ رَسُول الله: إِن
الله تَعَالَى إِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل
الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل أهل الْجنَّة، فيدخله بِهِ
الْجنَّة، وَإِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل
النَّار حَتَّى يَمُوت، وَهُوَ على عمل أهل النَّار فيدخله
بِهِ النَّار، وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا
إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم
كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن
الله} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو
مُحَمَّد هياج بن عبيد الخطيبي بِمَكَّة قَالَ: أخبرنَا أَبُو
مُحَمَّد الْحسن بن جَمِيع، أخبرنَا جدي، أخبرنَا مُحَمَّد بن
عَبْدَانِ الْقَزاز، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك الحَدِيث.
وَالله أعلم.
(6/171)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا السَّمَاء انفطرت (1) وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت (2)
وَإِذا الْبحار فجرت (3) وَإِذا الْقُبُور بعثرت (4) علمت نفس
مَا قدمت وأخرت (5) يَا أَيهَا} .
تَفْسِير سُورَة (انفطرت)
وَهِي مَكِّيَّة
(6/172)
إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انفطرت}
مَعْنَاهُ: انشقت، وَمِنْه انفطر نَاب الْبَعِير.
(6/172)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انْتَثَرَتْ (2)
وَقَوله: {وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت} أَي:
تساقطت.
(6/172)
وَإِذَا الْبِحَارُ
فُجِّرَتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الْبحار فجرت} قَالَ
الْحسن: يَبِسَتْ.
وَعَن غَيره: ملئت، وَالْمَعْرُوف فجر بَعْضهَا فِي بعض، العذب
فِي المالح، والمالح فِي العذب، وَقيل: فجرت أَي: جعلت بحرا
وَاحِدًا، وَذَلِكَ بتفجير بَعْضهَا فِي بعض.
(6/172)
وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ (4)
وَقَوله: {وَإِذا الْقُبُور بعثرت} أَي:
بحثرت وبحثت، وَالْمعْنَى: قلبت ترابها، وَأخرج مَا فِيهَا من
الْمَوْتَى.
وَفِي الْخَبَر: أَن الأَرْض تلقى أفلاذ كَبِدهَا يَوْم
الْقِيَامَة، فَتخرج كنوزها وموتاها وكل مَا فِيهَا.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " يُوشك أَن يحسر
الْفُرَات على جبل من ذهب، فيقتتل النَّاس عَلَيْهِ ".
قَالَ الْقفال: يجوز أَن يكون مَا ذكره الله تَعَالَى من هَذِه
الْأَشْيَاء قبل قيام السَّاعَة، وَيجوز أَن يكون بعد قيام
السَّاعَة.
(6/172)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
وَقَوله: {علمت نفس مَا قدمت وأخرت} أَي:
{مَا قدمت} فَعمِلت من عمل {وأخرت} أَي: ترك من الْعَمَل،
وَقيل: مَا قدمت وأخرت أَي: مَا عملت من قديم
(6/172)
الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم
(6)) . وَحَدِيث، وَقيل فِي قَوْله: {وأخرت} أَي: من سنة
سَيِّئَة عمل بهَا بعده.
(6/173)
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان
مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قيل: نزلت الْآيَة فِي
الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: فِي أبي جهل، وَقيل: فِي
غَيرهمَا.
وَقَوله: {مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} أَي: أَي شَيْء
غَرَّك وجرأك وسول لَك حَتَّى ارتكبت مَا ارتكبت؟
وَقَوله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} يتَجَاوَز عَنْك، وَذَلِكَ فِي
الدُّنْيَا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة نزلت فِي أبي الْأسد، وَكَانَ
قد ضرب النَّبِي، فَلم يُعَاقِبهُ الله تَعَالَى فِي
الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} الَّذِي
تجَاوز عَنْك، وَلم يعاقبك فِي الدُّنْيَا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز
الجنوجردي: أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الثعالبي: أخبرنَا أَبُو
عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن فَنْجَوَيْهِ: أخبرنَا
أَبُو عَليّ بن حبش الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن
الْفضل الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن الْحُسَيْن:
أخبرنَا الْمقدمِي، أخبرنَا كثير بن هِشَام: أخبرنَا جَعْفَر
بن برْقَان قَالَ: حَدثنِي صَالح بن مِسْمَار، قَالَ: "
بَلغنِي أَن النَّبِي تَلا هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا
الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قَالَ: جَهله ".
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: مَا
مِنْكُم من أحد إِلَّا سيخلو الله بِهِ يَوْم الْقِيَامَة
فَيَقُول: يَا ابْن آدم، مَا غَرَّك بِي؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا
عملت فِيمَا عملت؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا أجبْت الْمُرْسلين؟
وَعَن السّديّ (بن الْمُفلس) قَالَ: غره رفقه بِهِ.
وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْأَشْعَث أَن الفضيل بن عِيَاض قيل
لَهُ: لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: مَا غَرَّك بِي فَمَاذَا
تَقول لَهُ؟ قَالَ: أَقُول ستورك المرخاة.
ونظم ذَلِك بَعضهم:
(6/173)
{الَّذِي خلقك فسواك فعدلك (7) فِي أَي
صُورَة مَا شَاءَ ركبك (8) } .
(يَا كاتم الذَّنب أما تَسْتَحي ... وَالله فِي الْخلْوَة
ثأنيكا)
(غَرَّك من رَبك إمهاله ... وستره طول مساويكا)
وَعَن يحيى بن معَاذ قَالَ: لَو يَقُول الله تَعَالَى: مَا
غَرَّك بِرَبِّك؟ فَأَقُول: تَركك لي سالفا وآنفا.
وَعَن أبي بكر الْوراق قَالَ: أَقُول غرني كرم الْكَرِيم.
وَعَن مَنْصُور بن عمار قَالَ: أَقُول غرني مَا علمت من سَابق
أفضالك.
وَقَالَ بَعضهم:
(يَا من خلا فِي الغي والتيه ... وغره طول تماديه)
أمل لَك الله فبارزته ... وَلم تخف غب مَعَاصيه)
(6/174)
الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ
رَكَّبَكَ (8)
وَقَوله: {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي
أَي صُورَة} قَالَ عَطاء: جعلك قَائِما معتدلا حسن الصُّورَة،
وَقيل: سواك أَي: سوى بَين يَديك ورجليك وعينيك وأذنيك، [و]
وَوضع كل شَيْء مَوْضِعه، وَهُوَ أَيْضا معنى قَوْله: {فعدلك}
ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره.
وَقيل: عدلك أَي عدل خلقك، وَهُوَ على مَا بَينا.
وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَي: صرفك فِي أَي صُورَة شَاءَ من
حسن وقبيح، وطويل وقصير.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى إِذا
أَرَادَ خلق عبد أحضر خلقه كل عرق كَانَ بَينه وَبَين آدم،
فيخلقه على مَا يُرِيد من الشّبَه بِمن شَاءَ ".
وَقد قيل: فَعدل فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك أَي: من شبه
أَب وَأم وَعم وخال، وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: معنى
عدلك
(6/174)
{كلا بل تكذبون بِالدّينِ (9) وَإِن
عَلَيْكُم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ (12) إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار
لفي جحيم} . بِالتَّخْفِيفِ أَي: فِي عدل بعضك بِبَعْض، فَكنت
معتدل الْخلق مناسبها فَلَا تفَاوت فِيهَا.
(6/175)
كَلَّا بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {كلا بل تكذبون
بِالدّينِ} أَي: بِيَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: بِالْحِسَابِ.
(6/175)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
وَقَوله: {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما
كاتبين} فِي بعض الْأَحَادِيث " أَن النَّبِي قَالَ: أكْرمُوا
الْكِرَام الْكَاتِبين فَإِنَّهُم مَعكُمْ، إِلَّا عِنْد
الْجَنَابَة والتبرز للْحَاجة ".
وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كرام بررة}
أَنهم الْمَلَائِكَة، يكرموا أَن يَكُونُوا مَعَ ابْن آدم
عِنْد خلوته بأَهْله، وَعند حَاجته.
وَقَوله: {كاتبين} هم الْمَلَائِكَة يَقْعُدُونَ عَن يَمِين
الْإِنْسَان ويساره، فيكتبون مَا عَلَيْهِ وَله، وَقيل: وَاحِد
عَن يَمِينه، وَوَاحِد عَن يسَاره، فَالَّذِي عَن يَمِينه
يكْتب الْحَسَنَات، وَالَّذِي عَن يسَاره يكْتب السَّيِّئَات،
وَقيل: إِن الَّذِي عَن يَمِينه أَمِين على الَّذِي على يسَاره
لَا يكْتب إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي: " إِن
العَبْد إِذا هم بحسنة يكْتب لَهُ الْملك حَسَنَة، فَإِذا
عَملهَا كتب لَهُ عشر حَسَنَات، وَإِذا هم بسيئة لم تكْتب
عَلَيْهِ شَيْئا، فَإِذا عَملهَا كتب سَيِّئَة ".
(6/175)
يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ (12)
وَقَوله: {يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ظَاهر
الْمَعْنى.
(6/175)
إِنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ (13)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي
نعيم} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " هم الَّذين بروا
آبَاءَهُم وأبناءهم ".
وَظَاهر الْمَعْنى أَنهم المطيعون.
(6/175)
( {14) يصلونها يَوْم الدّين (15) وَمَا هم
عَنْهَا بغائبين (16) وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (17)
ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (18) يَوْم لَا تملك نفس
لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله (19) } .
(6/176)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ (14)
وَقَوله: {وَإِن الْفجار لفي جحيم} هِيَ
النَّار، نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا.
وَفِي الحكايات: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك حج، فلقي أَبَا
حَازِم سَلمَة بن دِينَار فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِم، كَيفَ
الْقدوم على الله؟ فَقَالَ: أما المحسنون فكالغائب يقدم على
أَهله، وَأما الْمُسِيء فكالعبد الْآبِق يرد إِلَى سَيّده،
فَبكى سُلَيْمَان، ثمَّ قَالَ: لَيْت شعري نعلم مَا حَالنَا
عِنْد الله؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: اعرضها على كتاب الله
تَعَالَى، فَقَالَ: وعَلى أَي ذَلِك أعرض؟ فَقَالَ على قَوْله
تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم}
قَالَ سُلَيْمَان: فَأَيْنَ رَحْمَة الله؟ قَالَ: قريب من
الْمُحْسِنِينَ.
(6/176)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ
الدِّينِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {يصلونها يَوْم الدّين}
أَي: يدْخلُونَهَا يَوْم الْقِيَامَة.
(6/176)
وَمَا هُمْ عَنْهَا
بِغَائِبِينَ (16)
وَقَوله: {وَمَا هم عَنْهَا بغائبين} أَي:
مبعدين.
(6/176)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ
(18)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين
ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين} هُوَ على معنى تفخيم
الْأَمر وتعظيمه.
(6/176)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَقَوله: {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس
شَيْئا} أَي: لَا تغني نفس عَن نفس شَيْئا.
وَيَوْم مَنْصُوب على الظّرْف، وَقُرِئَ " يَوْم " بِالرَّفْع،
وَهُوَ ظَاهر.
وَقَوله: {وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} أَي: الْأَمر يَوْم
الْقِيَامَة لله لَيْسَ لأحد مَعَه أَمر، وَالله أعلم.
(6/176)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ويل لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس
يستوفون (2) وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون (3) } .
سُورَة المطففين
وَهِي مَدَنِيَّة
قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، قدم
رَسُول الله الْمَدِينَة، وهم أَخبث النَّاس كَيْلا ووزنا،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فاستقاموا، فهم أوفى
النَّاس كَيْلا ووزنا إِلَى (الْيَوْم) .
(6/177)
وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ}
الويل: هُوَ الدُّعَاء بالشدة والهلاك.
وَعَن السّديّ هُوَ وَاد فِي جَهَنَّم، يسيل فِيهِ صديد أهل
النَّار.
وَقَوله: {لِلْمُطَفِّفِينَ} هم الَّذين لَا يُوفونَ الْكَيْل
وَالْوَزْن ويبخسون.
قَالَ الزّجاج: سمى مطففا، لِأَنَّهُ لَا يطف بِهَذَا الْفِعْل
بالشَّيْء الطفيف أَي: الْيَسِير وَقد بَينا أَنَّهَا نزلت فِي
أهل الْمَدِينَة، وَقيل: نزلت فِي أبي جُهَيْنَة، كَانَ رجلا
من أهل الْمَدِينَة لَهُ صَاعَانِ يَكِيل بِأَحَدِهِمَا على
النَّاس أَي: عَن النَّاس وَيُقَال: اكتلت على فلَان أَي:
استوفيت مَا عَلَيْهِ.
وَقَوله: {يستوفون} أَي: يستوفون حُقُوقهم على الْكَمَال،
وَقيل: يستوفونه راجحا.
(6/177)
وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وَقَوله: {وَإِذا كالوهم} كالوا لَهُم.
وَكَذَلِكَ: {أَو وزنوهم} أَي: وزنوا لَهُم.
[قَالَه] أَبُو عُبَيْدَة والأخفش وَالْفراء - والأخفش هُوَ
سعيد بن [مسْعدَة] ، وَهُوَ الْأَخْفَش الْكَبِير - وَقَالَ
الْفراء: هُوَ لُغَة حجازية سَمِعت بَعضهم بِمَكَّة يَقُول:
إِذا
(6/177)
{أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون (4)
ليَوْم عَظِيم (5) يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين (6) } .
صدر النَّاس أَتَيْنَا التَّاجِر، فكال الْمَدّ والمدين إِلَى
الْعَام الْمقبل أَي: كال لنا.
و {يخسرون} أَي: ينقصُونَ.
(6/178)
أَلَا يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
وَقَوله: {أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم
مبعوثون} أَي: أَلا يستيقنوا أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: خمس بِخمْس: مَا نقص قوم
الْعَهْد إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم عدوهم، وَمَا حكم قوم
بِغَيْر مَا أنزل الله إِلَّا فَشَا فيهم الْفقر، وَمَا ظَهرت
فيهم الْفَاحِشَة إِلَّا فَشَا فيهم الْمَوْت، وَمَا نَقَصُوا
من الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا منعُوا النَّبَات وأجدبوا
بِالسِّنِينَ، وَمَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس عَنْهُم
الْقطر.
وَعَن مَالك بن دِينَار قَالَ: دخلت على جَار لي أعوده، وَقد
نزل بِهِ الْمَوْت، فَجعلت ألقنه كلمة الشَّهَادَة، وَهُوَ
يَقُول: جبلان من نَار، جبلان من نَار.
فَمَا زَالَ يَقُول حَتَّى مَاتَ، فسالت عَنهُ؟ قَالُوا: كَانَ
لَهُ مكيال وميزان يطفف بهما.
وَقيل فِي قَوْله: {أَلا يظنّ} يَعْنِي: أَنهم لَا يعْملُونَ
عمل من يظنّ أَنهم مبعوثون.
(6/178)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
وَقَوله: {ليَوْم عَظِيم} هُوَ يَوْم
الْقِيَامَة.
سَمَّاهُ عَظِيما لعظم مَا فِيهِ وشدته.
(6/178)
يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
وَقَوله: {يَوْم يقوم النَّاس لرب
الْعَالمين} روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يقومُونَ
مائَة سنة على رُءُوس قُبُورهم "، وَعَن بعض الصَّحَابَة:
ثلثمِائة سنة، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: يقومُونَ
ألف عَام فِي الظلمَة.
وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن
عمر، عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم
النَّاس لرب الْعَالمين} قَالَ: " يقومُونَ حَتَّى يبلغ الرشح
(6/178)
{كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين (7) } .
أَطْرَاف آذانهم ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو
الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص.
أخبرنَا ابْن بنت منيع - هُوَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ -
أخبرنَا أَبُو نصر التمار، أخبرنَا حَمَّاد بن سَلمَة،
الحَدِيث.
خرجه مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي نصر التمار، وَذكر البُخَارِيّ
هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، وَذكر أَنهم يقومُونَ حَتَّى
يبلغ الرشح أَنْصَاف آذانهم، وروى سليم بن عَامر، عَن
الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن النَّبِي قَالَ: " تدنى الشَّمْس
من رُءُوس الْخَلَائق، حَتَّى تكون على قدر ميل من رُءُوسهم "
قَالَ سليم: فَلَا أَدْرِي أَرَادَ ميل الْمسَافَة أم ميل
الَّذِي يكتحل بِهِ - قَالَ: " فتصهرهم الشَّمْس، فيكونون فِي
الْعرق على قدر أَعْمَالهم، فَمنهمْ من يَأْخُذهُ الْعرق إِلَى
كعبيه، وَمِنْهُم إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُم إِلَى حقوه،
وَمِنْهُم من يلجمه إلجاما، وَوضع رَسُول الله يَده على (فَمه)
".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الْعرق يذهب فِي الأَرْض سبعين
ذِرَاعا " وَالله أعلم.
(6/179)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب الْفجار
لفي سِجِّين} كلا ردع وزجر وتنبيه، كَأَنَّهُ يَقُول: لَيْسَ
الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ فَارْتَدَعُوا.
وَقَوله: {إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه كتاب الْأَعْمَال، وَالْآخر: أَنه أَرْوَاح
الْكفَّار، وَالْأَظْهَر هُوَ الأول.
(6/179)
{وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين (8) كتاب
مرقوم (9) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (10) الَّذين يكذبُون
بِيَوْم الدّين (11) وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم
(12) إِذا تتلى عَلَيْهِ} .
وَقَوله: {لفي سِجِّين} هُوَ فعيل من السجْن، قَالَ عَطاء
الْخُرَاسَانِي: هُوَ الأَرْض السفلي فِيهَا إِبْلِيس وَذريته.
وَعَن مُجَاهِد: صَخْرَة تَحت الأَرْض السَّابِعَة تقلب،
وَيجْعَل تحتهَا كتاب الْفجار.
وَعَن الحبر أَنه قَالَ فِي قَوْله: {إِن كتاب الْفجار لفي
سِجِّين} : هُوَ روح الْكَافِر تقبض ويصعد بِهِ إِلَى
السَّمَاء، فتأبى السَّمَاء أَن تقبله، ثمَّ يهْبط بِهِ إِلَى
الأَرْض، فتأبى الأَرْض أَن تقبله، فيهبط بِهِ تَحت
الْأَرْضين، فَيجْعَل تَحت خد إِبْلِيس.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الفلق جب فِي
جَهَنَّم مغطى، والسجين جب فِي جَهَنَّم مَفْتُوح ".
(6/180)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سِجِّينٌ (8)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين}
قَالَ الزّجاج: لم يُعلمهُ رَسُول الله حَتَّى أعلمهُ الله.
(6/180)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَقَوله: {كتاب مرقوم} أَي كتاب الْفجار،
وَقَالَ بَعضهم: كتاب مرقوم يرجع إِلَى السجين، وَالأَصَح مَا
بَينا.
(6/180)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
قَوْله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} قد
بَينا.
(6/180)
الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ
إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
وَقَوله: {الَّذين يكذبُون بِيَوْم الدّين
وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم إِذا تتلى عَلَيْهِ
آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} أَي: أباطيل الْأَوَّلين
وأكاذيبهم.
(6/180)
كَلَّا بَلْ رَانَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {كلا بل ران على
قُلُوبهم} أَي: غلب على قُلُوبهم.
قَالَ الْفراء: استكثروا من الْمعاصِي والذنُوب فأحاطت
بقلوبهم.
وروى الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن أبي صَالح، عَن أبي
هُرَيْرَة، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن العَبْد إِذا
أَخطَأ خَطِيئَة نكتت فِي قلبه نُكْتَة، فَإِن هُوَ نزع
واستغفر وَتَابَ صقلت، وَإِن عَاد زيد فِيهَا حَتَّى يغلق
قلبه، فَهُوَ
(6/180)
{آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (13)
كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كلا
إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون (15) ثمَّ إِنَّهُم
لصالوا الْجَحِيم (16) ثمَّ} . لرين الَّذِي قَالَ الله
تَعَالَى: {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الشريف
أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ الزَّيْنَبِي،
أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا
زغبة، عَن اللَّيْث، عَن ابْن عجلَان، عَن الْقَعْقَاع بن
حَكِيم الحَدِيث.
وَيُقَال: ران أَي: غطى وغشى، وَهُوَ قريب من الأول.
قَالَ الْحسن: هُوَ الذَّنب على الذَّنب حَتَّى يسود قلبه،
وروى نَحْو هَذَا عَن مُجَاهِد.
(6/181)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم
يؤمئذ لمحجوبون} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ
يرَوْنَ الله تَعَالَى، وَقد نقل هَذَا الدَّلِيل عَن مَالك
وَالشَّافِعِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - قَالَ مَالك: لما
حجب الله الْفجار عَن رُؤْيَته دلّ أَنه ليتجلى للْمُؤْمِنين
حَتَّى يروه.
وَمثل هَذَا رَوَاهُ الرّبيع بن سُلَيْمَان، عَن الشَّافِعِي،
قَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: أيرى الله بِهَذَا؟ فَقَالَ:
لَو لم أوقن أَن الله يرى فِي الْجنَّة لم أعبده فِي
الدُّنْيَا.
وَقد رُوِيَ هَذَا الدَّلِيل عَن (أَحْمد بن يحيى بن ثَعْلَب
الشَّيْبَانِيّ ابْن عَبَّاس) .
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو عرف الْمُؤْمِنُونَ أَنهم
لَا يرَوْنَ الله فِي الْآخِرَة، لانزهقت أَرْوَاحهم فِي
الدُّنْيَا.
وَفِي الْآيَة أبين دَلِيل من حَيْثُ الْمَعْنى على مَا
قُلْنَا، لِأَنَّهُ ذكر قَوْله: {كلا إِنَّهُم عَن
(6/181)
{يُقَال هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون
(17) كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين (18) وَمَا أَدْرَاك
مَا عليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إِن
الْأَبْرَار لفي نعيم (22) على الأرائك ينظرُونَ (23) تعرف فِي
وُجُوههم نَضرة النَّعيم} . رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون) فِي حق
الْكفَّار عُقُوبَة لَهُم، فَلَو قُلْنَا: إِن الْمُؤمنِينَ
يحجبون، لم يَصح عُقُوبَة الْكفَّار بِهِ.
وَقد ذكر الْكَلْبِيّ فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس فِي
هَذِه الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ يرونه فِي الْجنَّة، ويحجب
الْكفَّار.
وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ: كَمَا حجبهم فِي الدُّنْيَا
عَن توحيده، كَذَلِك فِي الْآخِرَة عَن رُؤْيَته.
(6/182)
ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
وَقَوله: {ثمَّ إِنَّهُم لصالوا الْجَحِيم}
أَي: لداخلوا الْجَحِيم.
(6/182)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
وَقَوله: {ثمَّ يُقَال هَذَا الَّذِي
كُنْتُم بِهِ تكذبون} يُقَال لَهُم ذَلِك على طَرِيق التوبيخ
وَالتَّعْبِير.
(6/182)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب
الْأَبْرَار لفي عليين} قَالَ الْفراء: ارْتِفَاع بعد
ارْتِفَاع.
وَقَالَ كَعْب: يقبض روح الْمُؤمن فيصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء،
فتتلقاه الْمَلَائِكَة إِلَى أَن تبلغ السَّمَاء السَّابِعَة،
فَيُوضَع تَحت الْعَرْش.
يُقَال: إِن الْكتاب هُوَ كتاب الْأَعْمَال، وَقد بَينا أَنه
أظهر الْقَوْلَيْنِ، وَالْمعْنَى: أَنه يوضع فِي أَعلَى
الْأَمْكِنَة إِظْهَارًا لخسة عمل الْفجار.
(6/182)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا عليون} قَالَ
الزّجاج: لم يدر حَتَّى أعلمهُ الله.
(6/182)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ
(20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
وَقَوله: {كتاب مرقوم يشهده المقربون} أَي
كتاب مَكْتُوب، أَو كتاب عَلَيْهِ عَلامَة الْقبُول، يشهده
الْمَلَائِكَة، وَقيل: يشهده مقربو كل سَمَاء.
(6/182)
إِنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي
نعيم} أَي: فِي نعيم الْجنَّة.
(6/182)
عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (23)
وَقَوله: {على الأرائك ينظرُونَ} الأرائك
جمع أريكة، وَهِي السرر فِي الحجال كَمَا بَينا.
(6/182)
تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
وَقَوله: {تعرف فِي وُجُوههم نَضرة
النَّعيم} أَي: بهجة النَّعيم وحسنها.
وَهُوَ
(6/182)
( {24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك
وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ (26) ومزاجه من
تسنيم (27) عينا يشرب بهَا المقربون (28) إِن} . مثل قَوْله
تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} .
(6/183)
يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
وَقَوله: (يسقون من رحيق مختوم) روى
مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَسَعِيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: الرَّحِيق هُوَ الْخمر وَقيل: هُوَ
الشَّرَاب الَّذِي لَا غش فِيهِ.
وَقَوله: {مختوم} أَي: لم تمسسه الْأَيْدِي.
(6/183)
خِتَامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
وَقَوله: {ختامه مسك} قَالَ إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير: آخِره رَائِحَة الْمسك، وطعمه
طعم ألذ الْأَشْرِبَة.
وَعَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين أَنهم قَالُوا: إِذا بلغ آخر
الشّرْب وجد رَائِحَة الْمسك وَالْمعْنَى: أَن الشَّرَاب
الَّذِي يكون فِي الدُّنْيَا يكون فِي آخِره الكدر، وَمَا
تكرههُ النَّفس، فَذكر الله تَعَالَى أَن شراب الْآخِرَة على
خِلَافه.
وَقَرَأَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " خَاتِمَة مسك "
وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر " خاتِمة مسك " بِكَسْر التَّاء، وَقيل
فِي معنى قَوْله تَعَالَى: " خاتَمَهُ مسك " بِفَتْح التَّاء
أَي: (طينته) مسك وَفِي قَوْله: " خاتِمَهُ مسك " بِكَسْر
التَّاء أَي: آخِره وعاقبته.
وَقَوله: {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} أَي:
فليتبادر المتبادرون، والمنافسة إِظْهَار شدَّة الطّلب، وَقيل:
هِيَ الْمُسَابقَة إِلَى التَّحْصِيل.
(6/183)
وَمِزَاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (27)
وَقَوله: {ومزاجه من تسنيم} قَالَ سعيد بن
جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وعلقمة عَن ابْن مَسْعُود: هُوَ أشرف
شراب لأهل الْجنَّة يشربه المقربون صرفا، ويمزج للأبرار،
وَمثله رَوَاهُ مَنْصُور عَن مَالك بن الْحَارِث.
وَقيل فِي التسنيم: هُوَ عين تتسنم على أهل الْجنَّة من الغرف،
وَقيل: هُوَ عين من مَاء.
(6/183)
عَيْنًا يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وَقَوله: {عينا يشرب بهَا المقربون} قد
بَينا، وَنصب عينا بِمَعْنى: أَعنِي عينا، أَو أُرِيد عينا.
(6/183)
{الَّذين أجرموا كَانُوا من الَّذين آمنُوا
يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مروا بهم يتغامزون (30) وَإِذا
انقلبوا إِلَى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ
قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون (32) وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم
حافظين (33) فاليوم الَّذين آمنُوا من الْكفَّار يَضْحَكُونَ
(34) } .
وَقَوله: {بهَا} أَي: مِنْهَا.
(6/184)
إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين أجرموا} هم
الْكفَّار.
وَقيل: هَذَا فِي قوم مخصوصين من قُرَيْش، مِنْهُم أَبُو جهل
والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْأسود بن عبد يَغُوث، وَالنضْر بن
الْحَارِث وَغَيرهم.
وَقَوله: {كَانُوا من الَّذين آمنُوا يَضْحَكُونَ} قيل: إِنَّه
فِي قوم مخصوصين من الْمُؤمنِينَ مِنْهُم خباب وبلال وَأَبُو
ذَر وعمار وَغَيرهم من فُقَرَاء الصَّحَابَة.
(6/184)
وَإِذَا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
وَقَوله: {وَإِذا مروا بهم يتغامزون} أَي:
يشيرون بالأعين والحواجب.
(6/184)
وَإِذَا انْقَلَبُوا
إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَقَوله: {وَإِذا انقلبوا إِلَى أهلهم
انقلبوا فاكهين} أَي معجبين بأفعالهم.
وَقيل: طيبين الْأَنْفس مستبشرين.
وَالْعرب تَقول: رجل فكه وفاكه إِذا كَانَ ضحوكا طيب النَّفس.
(6/184)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ
قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَقَوله: {وَإِذا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِن
هَؤُلَاءِ لضالون} أَي: أخطأوا الْحق وَطَرِيق الرشد وَاتبعُوا
الْبَاطِل.
(6/184)
وَمَا أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
وَقَوله: {وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم
حافظين} أَي مَا أرْسلُوا عَلَيْهِم ليحفظوا أَعْمَالهم.
أَي مَا أرسل الْكفَّار على الْمُؤمنِينَ، وَالْمعْنَى: أَنهم
مَا وكلوا بِالْمُؤْمِنِينَ ليحفظوا عَلَيْهِم مَا
يَفْعَلُونَ.
وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين.
وَقيل: إِنَّهَا نزلت فِي أبي جهل وَأَصْحَابه.
وَقَوله: {من الَّذين آمنُوا} على رضى الله عَنهُ وَأَصْحَابه.
وَهُوَ قَول بعيد.
(6/184)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (35)
وَقَوله: {فاليوم الَّذين آمنُوا} هم
الْمُؤْمِنُونَ من أَصْحَاب الرَّسُول.
(6/184)
{على الأرائك ينظرُونَ (35) هَل ثوب
الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } .
وَقَوله: {من الْكفَّار يَضْحَكُونَ على الأرائك ينظرُونَ} فِي
بعض التفاسير إِن للجنة كوى إِلَى أهل النَّار مَتى شَاءَ أهل
الْجنَّة فتحُوا الكوى ونظروا إِلَى النَّار وَضَحِكُوا
مِنْهُم.
وَقد بَينا معنى الأرائك من قبل.
(6/185)
هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَقَوله: {هَل ثوب الْكفَّار مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ} أَي هَل جوزي الْكفَّار مَا كَانُوا - أَي بِمَا
كَانُوا - يَفْعَلُونَ.
(6/185)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا السَّمَاء انشقت (1) وأذنت لِرَبِّهَا وحقت (2) وَإِذا
الأَرْض مدت (3) } .
تَفْسِير سُورَة الكدح
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم
(6/186)
إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انشقت}
هُوَ فِي معنى قَوْله: {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَيُقَال:
انشقت بالغمام، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء
بالغمام} وَقد ذكرنَا، وَقيل: انشقت لنزول الْمَلَائِكَة.
وَفِي تَفْسِير النقاش: انشقت لنزول الرب عز اسْمه، وَهُوَ
بِلَا كَيفَ، وَقيل: (مزقت) .
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: تَنْشَق
السَّمَاء من المجرة، وَيُقَال: هِيَ بَاب السَّمَاء.
(6/186)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (2)
وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} أَي:
واستمعت لأمر رَبهَا، وَحقّ لَهَا أَن تستمع.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْقلب تعلل بددن ... إِن همي فِي سَماع وَأذن)
وَقَالَ بَعضهم: صم إِذا سمعُوا خيرا ذكرت بِهِ، وَإِن ذكرت
بِسوء عِنْدهم أذنوا، أَي: اسْتَمعُوا.
وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " مَا أذن الله بِشَيْء
كَإِذْنِهِ لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ".
وَأما اسْتِمَاع السَّمَاء فَيجوز أَن يكون على الْحَقِيقَة،
وَيجوز أَن يكون استماعها انقيادها لما تُؤمر بِهِ، وَالله
أعلم.
(6/186)
وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الأَرْض مدت} أَي: مدت مد
الْأَدِيم لَا يبْقى عَلَيْهَا جبل وَلَا شَيْء إِلَّا
(6/186)
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت (4) وأذنت
لِرَبِّهَا وحقت (5) يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح
إِلَى رَبك كدحا فملاقيه (6) } . دخل فِي جوفها، وَقيل: زيد
فِي سعتها لتسعهم.
وَعَن بَعضهم: غيرت عَن هيئتها بالتبديل، وَغير ذَلِك، فَهُوَ
معنى قَوْله: {مدت} .
(6/187)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
وَتَخَلَّتْ (4)
وَقَوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت}
أَي: وَأَلْقَتْ مَا فِي جوفها، من الْكُنُوز والموتى فخلى
جوفها، وَيُقَال: أَلْقَت بِمَا اسْتوْدعت، وتخلت عَمَّا
استحفظت، وَكَأَنَّهَا أَلْقَت مَا على ظهرهَا، وتخلت عَمَّا
فِي جوفها.
(6/187)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (5)
وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} قد
بَينا.
فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: {إِذا السَّمَاء انشقت}
وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: قَالَ
الْفراء: جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: إِذا السَّمَاء انشقت
وَكَانَ كَذَا، رأى كل إِنْسَان مَا وجد من الثَّوَاب
وَالْعِقَاب، وَيُقَال: علم كل مُنكر للبعث أَنه كَانَ فِي
ضَلَالَة وَخطأ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْجَواب قَوْله: {وأذنت} وَالْوَاو
زَائِدَة، فَالْجَوَاب: أَذِنت.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الْجَواب قَوْله: {فملاقيه} أَي:
يلقى عمله من خير وَشر.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا،
وَالْمعْنَى: يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك
كدحا فملاقيه إِذا السَّمَاء انشقت.
(6/187)
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الْإِنْسَان
إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: عَامل
لِرَبِّك عملا.
والكدح هُوَ السَّعْي بتعب وَنصب.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَضَت بشاشة كل عَيْش صَالح ... وَبقيت أكدح للحياة وأنصب)
وَيجوز أَن يكون ذكر الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع،
فَيكون بِمَعْنى يَا أَيهَا النَّاس.
وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: يَا أَيهَا الرجل، وكلكم
ذَلِك الرجل.
(6/187)
{فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ
(7) فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا (8) } .
وَقَوله تَعَالَى: {فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: أَي: فملاق
عَمَلك من خير وَشر.
وَيُقَال: ملاق رَبك.
(6/188)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا (8)
وَقَوله: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه
بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} .
أَي هينا، وَقيل فِي الْيَسِير: هُوَ أَن يقبل الْحَسَنَات،
ويتجاوز عَن السَّيِّئَات.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مليكَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي
قَالَ: " من نُوقِشَ فِي الْحساب هلك، قلت: يَا رَسُول الله،
فَإِن الله عز وَجل يَقُول: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه
بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} قَالَ: ذَلِك
الْعرض " قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث
أَبُو الْحُسَيْن ابْن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر (بن)
المخلص، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد يحيى بن صاعد، أخبرنَا الْحسن
بن الْحُسَيْن الْمروزِي، عَن عبد الله بن الْمُبَارك، عَن
عُثْمَان بن الْأسود، عَن ابْن أبي مليكَة الْخَبَر.
وَأورد أَبُو عِيسَى بِرِوَايَة (ابْن عمر) أَن النَّبِي
قَالَ: " من حُوسِبَ عذب "، وَهُوَ بِإِسْنَاد غَرِيب.
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -
أَن النَّبِي رَآهَا، وَقد رفعت يَديهَا وَهِي تَقول:
اللَّهُمَّ حاسبني حسابا يَسِيرا.
فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، أَتَدْرِينَ
(6/188)
{وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا (9) وَأما
من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره (10) } . مَا ذَلِك الْحساب؟
قَالَت عَائِشَة: فَقلت ذكر الله فِي كِتَابه: {فَأَما من
أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يسير}
فَقَالَ رَسُول الله: من حُوسِبَ خصم، وَذَلِكَ الْمَمَر بَين
يَدي الله تَعَالَى ".
وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي الْمُسْتَدْرك
على الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن
النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث من كن فِيهِ حَاسبه الله حسابا
يَسِيرا، وَأدْخلهُ الْجنَّة برحمته.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قلت يَا رَسُول الله، لمن ذَلِك؟
قَالَ: " أَن تصل من قَطعك، وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك، وَتُعْطِي
من حَرمك ".
(6/189)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
وَقَوله: {وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا}
أَي: فَرحا مُسْتَبْشِرًا، وَيجوز أَن يَنْقَلِب إِلَى أَهله
من الْحور الْعين، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى يَنْقَلِب إِلَى
أَهله الَّذين كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقيل: نزلت فِي
أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، وَكَانَ زوج أم سَلمَة، وَهُوَ أول
من هَاجر إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَوله: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره} نزلت فِي
الْأسود بن عبد الْأسد.
قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره}
قَالَ مُجَاهِد: يخلع يَده الْيُمْنَى، وَيجْعَل يَده
الْيُسْرَى وَرَاء ظَهره، فَيُوضَع كِتَابه فِيهَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: تغل يَده الْيُمْنَى، وَيُوضَع كِتَابه
فِي شِمَاله من وَرَاء ظَهره.
وروى أَبُو
(6/189)
{فَسَوف يَدْعُو ثبورا (11) وَيصلى سعيرا
(12) إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا (13) إِنَّه ظن أَن لن
يحور (14) } . مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - وَهُوَ عبد الله بن قيس
- أَن النَّبِي قَالَ: " يكون فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات:
فعرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة عِنْد تطاير
الصُّحُف، فآخذ بِيَمِينِهِ وآخذ بِشمَالِهِ ".
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ أَن النَّبِي قَالَ:
" من حاسب نَفسه فِي الدُّنْيَا هون الله عَلَيْهِ الْحساب فِي
الْآخِرَة ".
(6/190)
فَسَوْفَ يَدْعُو
ثُبُورًا (11)
{فَسَوف يَدْعُو ثبورا} مَعْنَاهُ: يَقُول
واثبوراه، وَمعنى قَوْله: واثبوراه: واهلاكاه.
يُقَال: رجل مثبور أَي: هَالك.
(6/190)
وَيَصْلَى سَعِيرًا
(12)
وَقَوله: {وَيصلى سعيرا} أَي: يقاسي
النَّار، وَيُقَال: يدْخل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {اصلوها}
أَي: ادخلوها، وَقُرِئَ: " وَيصلى سعيرا " أَي: يكثر عَذَابه
بِنَار جَهَنَّم، ذكره الْأَزْهَرِي.
(6/190)
إِنَّهُ كَانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ فِي أَهله
مَسْرُورا} أَي: لم يحزن للتقصير فِي أوَامِر الله تَعَالَى،
وَلم يتعب، وَلم ينصب فِي الْعَمَل بِطَاعَة الله، ذكره
الْقفال.
وَيُقَال: كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا، أَي: رَاكِبًا هَوَاهُ،
مُتبعا شَهْوَته.
(6/190)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ (14)
وَقَوله: {إِنَّه ظن أَن لن يحور} أَي: أَن
لن يرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ إِخْبَار عَن إِنْكَاره
بِالْبَعْثِ.
وَقَوله: {يحور} يرجع، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: " أعوذ بِاللَّه من الْحور بعد الكور " أَي:
النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة.
وَفِي رِوَايَة: " من الْحور بعد الكور " أَي: من انتشار أمره
بعد أَن كَانَ مجتمعا، أَو من فَسَاد أمره بعد أَن كَانَ
صَالحا.
(6/190)
{بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ بَصيرًا (15)
فَلَا أقسم بالشفق (16) وَاللَّيْل وَمَا وسق (17) وَالْقَمَر
إِذا اتسق (18) } .
وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَمَا الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ ... يحور رَمَادا بعد
إِذْ هُوَ سَاطِع)
(6/191)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ
كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
وَقَوله: {بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ
بَصيرًا} أَي: عَالما.
(6/191)
فَلَا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالشفق}
أَي: أقسم بالشفق، قَالَ مُجَاهِد: هُوَ النَّهَار كُله.
وَالْمَعْرُوف أَن الشَّفق هُوَ الْحمرَة من عِنْد غرُوب
الشَّمْس إِلَى الْعشَاء الْآخِرَة.
قَالَ الْفراء: سَمِعت الْعَرَب تَقول على فلَان ثوب كَأَنَّهُ
الشَّفق، وَكَانَ عَلَيْهِ ثوب مصبوغ بالحمرة.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الشَّفق
هُوَ الْحمرَة ".
وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين
مِنْهُم: ابْن عمر، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَعَن أبي هُرَيْرَة: أَن الشَّفق هُوَ الْبيَاض، وَهُوَ قَول
عمر بن عبد الْعَزِيز.
(6/191)
وَاللَّيْلِ وَمَا
وَسَقَ (17)
قَوْله: {وَاللَّيْل وَمَا وسق} أَي: وَمَا
جمع ولف، وَضم الْأَشْيَاء بعد انتشارها، وَإِنَّمَا قَالَ
ذَلِك؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ اللَّيْل آوى كل شَيْء إِلَى
مَأْوَاه، وَرجع كل إِنْسَان إِلَى منزله، وَإِذا كَانَ
النَّهَار انتشروا فِي التَّصَرُّف.
(6/191)
وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ (18)
وَقَوله: {وَالْقَمَر إِذا اتسق} أَي: إِذا
اجْتمع ضوءه، وَيُقَال: امْتَلَأَ نورا، وَهُوَ لَيْلَة
الثَّالِث عشر من الشَّهْر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس [عشر]
.
(6/191)
{لتركبن طبقًا عَن طبق (19) فَمَا لَهُم
لَا يُؤمنُونَ (20) وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا
يَسْجُدُونَ (21) } .
قَالَ الشَّاعِر:
(إِن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات (لَو) يجدن سائقا)
(6/192)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَنْ طَبَقٍ (19)
وَقَوله: {لتركبن طبقًا عَن طبق} وَقُرِئَ:
" لتركبن " على الوحدان، فَمن قَرَأَ على الْجمع فَمَعْنَاه:
لتركبن أَيهَا النَّاس حَالا بعد حَال، وَالْحَال هُوَ
بِمَعْنى الطَّبَق.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَبينا الْمَرْء فِي عَيْش لذيذ ناعم ... خفض أَتَاهُ طبق
يَوْمًا على مُنْقَلب دحض)
وَمعنى حَال بعد حَال: هُوَ أَنه يكون نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ
مُضْغَة ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح، وَبعد ذَلِك تتبدل
أَحْوَاله، وَيخْتَلف على الْمَعْهُود الْمَعْلُوم من طفولية،
وشباب، وهرم، وَغير ذَلِك.
وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق أَي: شدَّة على شدَّة،
وَالْمعْنَى: أَنه حَيَاة ثمَّ موت ثمَّ بعث ثمَّ جَزَاء.
فَأَما الْقِرَاءَة على الوحدان فَفِيهِ قَولَانِ.
أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ السَّمَاء، وَالْمعْنَى: أَنه
ينشق وَيكون مرّة كالدهان، وَمرَّة كَالْمهْلِ، وَمرَّة
مشقوقة، وَمرَّة صَحِيحَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود
وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خطاب للنَّبِي، وَالْمعْنَى لتركبن
أطباق السَّمَاء طبقًا على طبق، وَذَلِكَ لَيْلَة الْإِسْرَاء،
وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق يَعْنِي: أصلاب الْآبَاء،
وَذَلِكَ للرسول.
قَالَ الْعَبَّاس فِي مدح النَّبِي:
(من قبلهَا طبت فِي الصلاب ... وَفِي مستودع حِين يخصف
الْوَرق)
(تنقل من صالب إِلَى رحم ... إِذا مضى عَالم بدا طبق)
(6/192)
{بل اللَّذين كفرُوا يكذبُون (22) وَالله
أعلم بِمَا يوعون (23) فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (24) إِلَّا
الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون
(25) } .
(6/193)
فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا
يَسْجُدُونَ (21)
وَقَوله {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا
قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} فِي التَّفْسِير:
أَن النَّبِي سجد وَأَصْحَابه، وَالْكفَّار على رؤوسهم يصفقون
ويصفرون فَأنْزل الله تَعَالَى {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ
وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} وَقد ثَبت
بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة " أَن النَّبِي سجد سجد فِي هَذَا
الْموضع ".
(6/193)
بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
(23)
وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا يكذبُون
وَالله أعلم بِمَا يوعون} أَي: يكتمون ويجمعون فِي صُدُورهمْ.
(6/193)
فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
قَوْله: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} أَي
أجعَل لَهُم النَّار مَوضِع الْبشَارَة للْمُؤْمِنين
بِالْجنَّةِ.
(6/193)
إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (25)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون} أَي غير مَنْقُوص وَلَا
مَقْطُوع.
وَيُقَال: لَا يمتن عَلَيْهِم أحد غير الله تَعَالَى فيكدره
عَلَيْهِم الْمِنَّة وَالله أعلم.
(6/193)
|