تفسير السمعاني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالسَّمَاء ذَات البروج (1) وَالْيَوْم الْمَوْعُود (2) وَشَاهد ومشهود (3) } .
تَفْسِير سُورَة البروج

وَهِي مَكِّيَّة

(6/194)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات البروج} أَي: النُّجُوم الْعِظَام.
قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْقُصُور.
وَيُقَال: ذَات الْخلق الْحسن، وَيُقَال: ذَات الْمنَازل، وَهِي منَازِل الْقَمَر، وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا ذَكرنَاهَا من قبل.

(6/194)


وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)

وَقَوله: {وَالْيَوْم الْمَوْعُود} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة بالِاتِّفَاقِ.

(6/194)


وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)

وَقَوله: {وَشَاهد ومشهود} فِيهِ أَقْوَال: روى أَبُو إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن الشَّاهِد هُوَ يَوْم الْجُمُعَة، والمشهود يَوْم عَرَفَة.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْأَثر أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك، عَن [أبي] إِسْحَاق.
الْأَثر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الشَّاهِد يَوْم النَّحْر، والمشهود يَوْم عَرَفَة، قَالَه إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّاهِد هُوَ الْمَلَائِكَة، والمشهود هُوَ الْإِنْسَان، قَالَه السّديّ، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ مُحَمَّد، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن بن عَليّ، وَابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْقَوْل الْخَامِس: الشَّاهِد هُوَ الله،

(6/194)


{قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود (4) } . والمشهود هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّادِس: أَن الشَّاهِد هُوَ عِيسَى ابْن مَرْيَم، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ الْجَوَارِح، والمشهود هُوَ نفس الْإِنْسَان، وَالْقَوْل الثَّامِن: أَن الشَّاهِد يَوْم الِاثْنَيْنِ، والمشهود يَوْم الْجُمُعَة، وَشَهَادَة الْأَيَّام شهادتها على الْأَعْمَال وَمعنى الْمَشْهُود فِي الْأَيَّام هُوَ أَنه يشهدها النَّاس، وَهُوَ فِي يَوْم الْقِيَامَة على معنى أَنه تشهده الْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْخَلَائق.

(6/195)


قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)

قَوْله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} وَالْأُخْدُود جمع خد، وَهُوَ شقّ فِي الأَرْض، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة؟ .
قَالَ عَليّ: فِي قوم من الْحَبَشَة، وَعَن مُجَاهِد: فِي قوم من نَجْرَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: فِي قوم من الْيمن، وَعَن بَعضهم قوم بالروم، وَقيل غير ذَلِك.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ بِنَجْرَان قوم على شَرِيعَة عِيسَى بن مَرْيَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يدينون بِالتَّوْحِيدِ، فَجَاءَهُمْ ذُو نواس وأحضرهم - وَهُوَ ملك من مُلُوك الْيمن - وَخَيرهمْ بَين الْيَهُودِيَّة والإحراق بالنَّار، فَاخْتَارُوا الإحراق بالنَّار، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا، وأضرم فِيهَا النَّار، وَأمرهمْ بالتهود أَو يلْقوا أنفسهم فِيهَا، فَألْقوا أنفسهم فِيهَا حَتَّى احترقوا.
وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ فِي آخِرهم امْرَأَة وَمَعَهَا صبي رَضِيع، فَلَمَّا بلغت النَّار توقفت فَتكلم الصَّبِي وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، سيري وَلَا تُنَافِقِي، فَإِنَّمَا هِيَ غُمَيْضَة.
وَقد ذكر مُسلم فِي الصَّحِيح فِي هَذَا قصَّة طَوِيلَة، وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، وذكرا فِيهِ حَدِيث الْملك والراهب والساحر، وَهُوَ مَا روى عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب قَالَ: " كَانَ رَسُول الله إِذا صلى الْعَصْر هَمس، والهمس فِي بعض قَوْلهم تحرّك شَفَتَيْه كَأَنَّهُ يتَكَلَّم، فَقيل لَهُ: إِنَّك يَا رَسُول الله إِذا صليت الْعَصْر همست قَالَ: إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ أعجب بأمته، من يقوم لهَؤُلَاء؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن خَيرهمْ بَين أَن أنتقم مِنْهُم وَبَين أَن أسلط

(6/195)


عَلَيْهِم عدوهم، فَاخْتَارُوا النقمَة، فَسلط عَلَيْهِم الْمَوْت فَمَاتَ مِنْهُم فِي يَوْم سَبْعُونَ ألفا قَالَ: وَكَانَ إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث حدث بِهَذَا الحَدِيث الآخر، قَالَ: كَانَ ملك من الْمُلُوك، وَكَانَ لذَلِك الْملك كَاهِن يكهن لَهُ، فَقَالَ (الكاهن) : انْظُرُوا لي غُلَاما (فهما) - أَو قَالَ فطنا لقفا - فَأعلمهُ علمي هَذَا، فَإِنِّي أَخَاف أَن أَمُوت فَيَنْقَطِع مِنْكُم هَذَا الْعلم، وَلَا يكون فِيكُم من يُعلمهُ.
قَالَ: فنظروا لَهُ على مَا وصف، وأمروه أَن يحضر ذَلِك الكاهن وَأَن يخْتَلف إِلَيْهِ.
قَالَ: فَجعل يخْتَلف إِلَيْهِ، وَكَانَ على طَرِيق الْغُلَام رَاهِب فِي صومعة - قَالَ معمر: أَحسب أَن أَصْحَاب الصوامع كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين - قَالَ: فَجعل الْغُلَام يسْأَل ذَلِك الراهب كلما مر بِهِ، فَلم يزل بِهِ حَتَّى أخبرهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أعبد الله. قَالَ: فَجعل الْغُلَام يمْكث عِنْد الراهب، ويبطئ عَن الكاهن، فَأرْسل الكاهن إِلَى أهل الْغُلَام إِنَّه لَا يكَاد يحضرني، فَأخْبر الْغُلَام الراهب بذلك، فَقَالَ لَهُ الراهب: إِذا قَالَ لَك الكاهن: أَيْن كنت؟ فَقل: عِنْد أَهلِي، فَإِذا قَالَ لَك أهلك: أَيْن كنت؟ (فَأخْبرهُم أَنَّك) كنت عِنْد الكاهن.
قَالَ فَبَيْنَمَا الْغُلَام على ذَلِك إِذْ مر بِجَمَاعَة من النَّاس كثير قد حبستهم دَابَّة - وَقَالَ بَعضهم: إِن الدَّابَّة كَانَت أسدا - قَالَ: فَأخذ الْغُلَام صخرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ مَا يَقُول الراهب حَقًا فأسألك أَن أَقتلهُ، ثمَّ رمى فَقتل الدَّابَّة.
فَقَالَ النَّاس: من قَتلهَا؟ فَقَالُوا: الْغُلَام، فَفَزعَ النَّاس وَقَالُوا: قد علم هَذَا الْغُلَام علما لم يُعلمهُ أحد.
قَالَ: فَسمع بِهِ أعمى، وَقَالَ لَهُ: إِن أَنْت رددت بَصرِي فلك كَذَا كَذَا.
فَقَالَ لَهُ: لَا أُرِيد مِنْك هَذَا، وَلَكِن إِن أَنْت شرطت إِن رَجَعَ إِلَيْك بَصرك أَن تؤمن بِالَّذِي رده عَلَيْك فعلت؟ قَالَ: فَدَعَا الله فَرد عَلَيْهِ بَصَره، فَآمن الْأَعْمَى، فَبلغ الْملك أَمرهم، فَبعث إِلَيْهِم، فَأتي بهم فَقَالَ: لأقتلن كل وَاحِد مِنْكُم قتلة لَا أقتل [بهَا] صَاحبه، فَأمر بِالرَّاهِبِ وَالرجل الَّذِي كَانَ أعمى فَوضع الْمِنْشَار على مفرق أَحدهمَا فَقتله، وَقتل الآخر بقتلة أُخْرَى، ثمَّ أَمر بالغلام فَقَالَ: انْطَلقُوا بِهِ إِلَى جبل كَذَا وَكَذَا فألقوه من رَأسه، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى ذَلِك الْمَكَان الَّذِي أَرَادوا أَن يلقوه مِنْهُ جعلُوا يتهافتون من ذَلِك الْجَبَل ويتردون، حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا

(6/196)


الْغُلَام.
قَالَ: ثمَّ رَجَعَ، فَأمر بِهِ الْملك أَن ينطلقوا بِهِ إِلَى الْبَحْر فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى الْبَحْر، فغرق الله الَّذين كَانُوا مَعَه وأنجاه، فَقَالَ الْغُلَام: إِنَّك لَا تقتلني حَتَّى تصلبني وترميني، وَتقول إِذا رميتني: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَأمر بِهِ فصلب ثمَّ رَمَاه، وَقَالَ: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَوضع الْغُلَام يَده على صُدْغه حِين رمى بِهِ ثمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّاس: لقد علم هَذَا الْغُلَام علما مَا علمه أحد، فَإنَّا نؤمن بِرَبّ الْغُلَام.
قَالَ: فَقيل للْملك: [أجزعت] إِن خالفك ثَلَاثَة، فَهَذَا الْعَالم كلهم قد خالفوك.
قَالَ: فَخدَّ أُخْدُودًا، ثمَّ ألْقى فِيهَا الْحَطب وَالنَّار، ثمَّ جمع النَّاس.
فَقَالَ: من رَجَعَ عَن دينه تَرَكْنَاهُ، وَمن لم يرجع ألقيناه فِي هَذِه النَّار، فَجعل يُلقيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُود.
قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود} حَتَّى بلغ {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَالَ: فَأَما الْغُلَام فَإِنَّهُ دفن.
قَالَ: فَذكر أَنه أخرج فِي زمن عمر بن الْخطاب، وأصبعه على صُدْغه كَمَا وَضعهَا حِين قتل ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن غَرِيب (صَحِيح) .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس [المحبوبي] ، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق، عَن معمر ... الْخَبَر.
وَذكر مُسلم هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، وَخَالف فِي مَوَاضِع أخر مِنْهُ.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن اسْم ذَلِك الْغُلَام كَانَ عبد الله بن التامر.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حفر فِي زمن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حفيرة، فوجدوا عبد الله بن التامر، وَيَده على صُدْغه فَكَانَ كلما أخروا يَده عَن ذَلِك الْموضع (انثعب) دَمًا، وَإِذا تركُوا

(6/197)


{النَّار ذَات الْوقُود (5) إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود (6) وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود (7) وَمَا نقموا مِنْهُم إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد (8) } . الْيَد ارْتَدَّت إِلَى مَكَانهَا، وَكَانَ فِي أُصْبُعه خَاتم حَدِيد مَكْتُوب عَلَيْهِ: رَبِّي الله، فَأمر عمر أَن يرد إِلَى ذَلِك الْموضع كَمَا وجد.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي كَانَ إِذا ذكر هَذِه الْقِصَّة قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من جهد الْبلَاء ".
وَقد ذكر بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} هُوَ جَوَاب الْقسم.

(6/198)


النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)

قَوْله: {النَّار ذَات الْوقُود} على قَول الْبَدَل من الْأُخْدُود كَأَنَّهُ قَالَ: " قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود، والوقود " مَا يُوقد بِهِ النَّار، وَقيل: ذَات الْوقُود أَي: ذَات التوقد، وَهُوَ الْأَصَح.

(6/198)


إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)

قَوْله: {إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود} أَي: جُلُوس، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْملك وَأَصْحَابه كَانُوا قد قعدوا على كراسي عِنْد الأخاديد.

(6/198)


وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

وَقَوله: {وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود} فعل مَا فعل بِالْمُؤْمِنِينَ بحضورهم.

(6/198)


وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

وَقَوله: {وَمَا نقموا مِنْهُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَا كَرهُوا.
وَعَن غَيره: وَمَا عابوا.
وَذكر الزّجاج: مَا أَنْكَرُوا.
قَالَ عبد الله بن قيس (بن) الرقيات:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا ... أَنهم يحملون إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... فَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
وَقَوله: {إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد} وَالْمعْنَى أَنهم مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِم إِلَّا إِيمَانهم بِاللَّه.

(6/198)


{الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد (9) إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق (10) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير (11) إِن بَطش رَبك لشديد (12) إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد (13) وَهُوَ الغفور} .
وَقَوله: {الْعَزِيز الحميد} أَي: الْغَالِب بقدرته، الحميد فِي أَفعاله.

(6/199)


الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد} ظَاهر الْمَعْنى.
قَالَ الزّجاج: وَالْمرَاد من الْآيَة أَن الله تَعَالَى ذكر قوما بلغت بصيرتهم فِي الدّين أَن خيروا بَين الْكفْر وَبَين الإحراق بالنَّار، فصبروا حَتَّى أحرقوا بالنَّار.
وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تشرك بِاللَّه وَإِن قتلت وأحرقت ".

(6/199)


إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَي: أحرقوا، يُقَال: فتنت الذَّهَب بالنَّار إِذا أدخلته فِيهَا، وَيُقَال: حرَّة فتين إِذا كَانَت سَوْدَاء كالمحترقة {ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} بكفرهم ونوعا من الْعَذَاب بإحراقهم الْمُؤمنِينَ.
وَعَن الرّبيع بن أنس: أَن النَّار الَّتِي أحرقوا الْمُؤمنِينَ فِيهَا ارْتَفَعت من الْأُخْدُود، فأحرقت الْملك وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} .

(6/199)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير} أَي: الْعَظِيم، وَهَذَا على مَا جرى أَمر الْقُرْآن، فَإِنَّهُ إِذا ذكر الْوَعْد للْكفَّار يذكر الْوَعْد للْمُؤْمِنين بجنبه، وَهُوَ ظَاهر فِي أَكثر الْقُرْآن.

(6/199)


إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)

قَوْله تَعَالَى: {إِن بَطش رَبك لشديد} الْبَطْش هُوَ الْأَخْذ بعنف وشده.

(6/199)


إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد} أَي: يبدئ الْخلق فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يعيدهم فِي الْآخِرَة.

(6/199)


وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الغفور الْوَدُود} الغفور هُوَ الستور بذنوب عباده، الْوَدُود هُوَ

(6/199)


{الْوَدُود (14) ذُو الْعَرْش الْمجِيد (15) فعال لما يُرِيد (16) هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود (17) فِرْعَوْن وَثَمُود (18) } . الْمُحب للْمُؤْمِنين، وَقيل: المتودد إِلَى الْمُؤمنِينَ بجميل أَفعاله وَكثير إحسانه.
وَذكر الْأَزْهَرِي: أَنه يجوز أَن يكون الْوَدُود، بِمَعْنى المودود كالحلوب وَالرُّكُوب بِمَعْنى المحلوب والمركوب، فعلى هَذَا فِي قَوْله: {الْوَدُود} مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمُحب لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ.
وَالْآخر: الَّذِي يُحِبهُ الْمُؤْمِنُونَ.

(6/200)


ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)

وَقَوله: {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَرَأَ أَكثر الْقُرَّاء بِالرَّفْع، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالخفض.
وَالْعرش هُوَ السرير فِي اللُّغَة، وَأما فِي الْقُرْآن هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف فَوق السَّمَوَات.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه لَا يقدر قدره.
وَعَن بَعضهم: ذُو الْعَرْش ذُو الْملك، يُقَال: كل عرش فلَان أَي: ملك فلَان، وَيُقَال: تبوأ فلَان على سَرِير ملكه أَي: اسْتَقر ملكه، وَإِن لم يكن ثمَّ سَرِير فِي ذَلِك الْوَقْت، حَكَاهُ الْقفال، وَالْقَوْل الصَّحِيح الأول.
وَأما قِرَاءَة الرّفْع فَهُوَ صفة الله تَعَالَى، وَذَلِكَ بِمَعْنى الْعُلُوّ وَالْعَظَمَة، وَأما قِرَاءَة الْخَفْض فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه صفة الْعَرْش، وَمعنى الْمجِيد فِيهِ العالي الرفيع، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صفة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه خفض بالجوار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه رَاجع إِلَى قَوْله: {إِن بَطش رَبك} كَأَنَّهُ قَالَ: إِن بَطش رَبك الْمجِيد لشديد، أوردهُ النّحاس.
وَعَن بَعضهم: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: {إِن بَطش رَبك لشديد} وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين.

(6/200)


فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)

وَقَوله تَعَالَى: {فعال لما يُرِيد} أَي: مَا يَشَاء ويختار.
وَفِي بعض الْآثَار أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مرض فَدخل الْقَوْم يعودونه فَقَالُوا لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: قد دَعوته.
فَقَالُوا: فَمَاذَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو بكر: فَقَالَ أَنا فَاعل لما أُرِيد.

(6/200)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود} أَي قد آتِيك حَدِيث الْجنُود.

(6/200)


فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

وَقَوله: {فِرْعَوْن وَثَمُود} أَي جنود فِرْعَوْن وَثَمُود.
وَذكر النقاش أَن فِرْعَوْن لما أتبع بني إِسْرَائِيل كَانُوا خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة ألف.

(6/200)


{بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب (19) وَالله من ورائهم مُحِيط (20) بل هُوَ قُرْآن مجيد (21) فِي لوح مَحْفُوظ (22) } .

(6/201)


بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)

وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب} أَي فِي تَكْذِيب الرُّسُل.

(6/201)


وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)

وَقَوله: {وَالله من وَرَاءَهُمْ مُحِيط} أَي مُحِيط بأفعالهم وأقوالهم.

(6/201)


بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)

وَقَوله: {بل هُوَ قُرْآن مجيد} فِي بعض التفاسير أَن الرَّسُول لما قَرَأَ عَلَيْهِم مَا ذكرنَا من الْآيَات قَالُوا لَهُ: لَعَلَّك غَلطت أَو سَهَوْت؟ وَلَعَلَّ الَّذِي ينزل عَلَيْك لَيْسَ من قبل الله؟ فَأنْزل الله تَعَالَى {بل هُوَ قُرْآن مجيد} هُوَ المتجمع بخصال الْخَيْر.
وَقَرَأَ مُحَمَّد اليمامي: " بل هُوَ قُرْآن مجيد " على الْإِضَافَة معنى قُرْآن رب مجيد.

(6/201)


فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

وَقَوله: {فِي لوح مَحْفُوظ} قرئَ بِالرَّفْع والخفض مَعَ التَّنْوِين فيهمَا، فَفِي الرّفْع ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن، وَفِي الْخَفْض ينْصَرف إِلَى اللَّوْح.
وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن اللَّوْح الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء دفتاه ياقوت أَحْمَر كِتَابَته نور وقلمه نور ينظر الله فِيهِ كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ نظرة يُمِيت ويحيي، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، وَيفْعل مَا يَشَاء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه مَكْتُوب فِي صَدره لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله.
وَذكر الْحِفْظ هَاهُنَا ليبين أَن مَا يُوحى إِلَيْهِ من الْقُرْآن هُوَ مَحْفُوظ من السَّهْو والغلط، وَأَن مَا يَقُوله النَّبِي يَقُوله عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَعَن فرقد السبخي: أَن قَوْله: {فِي لوح مَحْفُوظ} هُوَ قلب الْمُؤمن، وَهُوَ قَول ضَعِيف، وَالله أعلم.

(6/201)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالسَّمَاء والطارق (1) وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق (2) النَّجْم الثاقب (3) } .
تَفْسِير سُورَة الطارق

وَهِي مَكِّيَّة

(6/202)


وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء والطارق} الطارق هَاهُنَا هُوَ النَّجْم، وَأما فِي لُغَة الْعَرَب فالطارق هُوَ كل مَا يطْرق لَيْلًا، وَقد قيل: هُوَ الَّذِي يطْرق لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا.
وَأما قَول الْقَائِل:
(نَحن بَنَات طَارق ... )
أَي: بَنَات النُّجُوم شرفا وعلوا.
وَقَالَ جرير:
(طرقتك صائدة الْقُلُوب وَلَيْسَ ذَا ... وَقت المقامة فارجعي بِسَلام)

(6/202)


وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الطارق يتَنَاوَل النَّجْم وَغَيره، فَذكر هَاهُنَا قَوْله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} لِأَن الرَّسُول لم يدر أَي طَارق أَرَادَ.

(6/202)


النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)

وَقَوله: {النَّجْم الثاقب} قَالَ ابْن عَبَّاس: المضيء.
وَعَن مُجَاهِد: هُوَ المتوهج.
وَعَن بَعضهم: هُوَ المستدير.
وَعَن بَعضهم: الثاقب النَّجْم الَّذِي يثقب الشَّيَاطِين بالنَّار.
وَذكر الْفراء: أَنه زحل، وَهُوَ أكبر النُّجُوم.
وَقد حكى هَذَا القَوْل عَن عَليّ.
وَعَن بَعضهم: أَنه نجم خلقه الله فِي السَّمَاء السَّابِعَة، لم يخلق فِيهَا غَيره، يطْرق

(6/202)


{إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ (4) فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق (5) خلق من مَاء دافق (6) يخرج من بَين الصلب والترائب (7) إِنَّه على رجعه لقادر (8) } . السَّمَوَات ثمَّ يرجع إِلَى مَكَانَهُ.
وعَلى القَوْل الَّذِي قُلْنَا [أَن زحل هُوَ الثاقب] ، يَعْنِي أَنه يثقب السَّمَوَات بضيائه.
وَعَن ابْن زيد: أَنه الثريا.
وَالْعرب إِذا أطلقت النَّجْم عنت بِهِ الثريا.

(6/203)


إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)

وَقَوله: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} هُوَ جَوَاب الْقسم.
وَقد قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَمَعْنَى التَّشْدِيد: إِلَّا عَلَيْهَا حَافظ، وَمعنى التَّخْفِيف: لَعَلَّهَا حَافظ، و " مَا " زَائِدَة، والحافظ: هُوَ الْملك، وَعَن بَعضهم: قرينه الَّذِي يحفظ عَلَيْهِ عمله، وَقيل: الْحَافِظ هُوَ الله تَعَالَى يحفظ عَلَيْهِم أَعْمَالهم.

(6/203)


فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)

وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق} أَي: من أَي شَيْء خلق.

(6/203)


خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)

وَقَوله: {خلق من مَاء دافق} أَي: مدفوق مثل قَوْله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} أَي: مرضية، وَقيل: {مَاء دافق} أَي: منصب جَار.

(6/203)


يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

وَقَوله: {يخرج من بَين الصلب والترائب} أَي: من صلب الرجل، وترائب الْمَرْأَة.
وَفِي الْخَبَر: أَنه يخرج من كل خرزة من صلبه، والترائب ثَمَانِيَة أضلاع: أَرْبَعَة يمنة، وَأَرْبَعَة يسرة، وَقيل: هُوَ الصَّدْر، وَقيل: بَين الثديين، وَقيل: مَا دون الترقوة.

(6/203)


إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)

وَقَوله: {إِنَّه على رجعه لقادر} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: على رد النُّطْفَة فِي الإحليل لقادر، قَالَه مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ قَادر أَن يردهُ إِلَى حَالَة الطفولية، وَقيل: يرد من (الشيخوخة) إِلَى الكهولة، وَمن الكهولة إِلَى الشَّبَاب، وَمن الشَّبَاب إِلَى الصغر، وَمن الصغر إِلَى الطفولية، وَمن الطفولية إِلَى رحم الْمَرْأَة، وَمن الرَّحِم إِلَى الصلب، فَهُوَ معنى قَوْله: {إِنَّه على رجعه لقادر} .
وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ أولى الْأَقَاوِيل - أَن المُرَاد مِنْهُ، أَنه على إحيائه بعد الإماتة لقادر، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهَا.

(6/203)


{يَوْم تبلى السرائر (9) فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر (10) وَالسَّمَاء ذَات الرجع (11) وَالْأَرْض ذَات الصدع (12) إِنَّه لقَوْل فصل (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) } .

(6/204)


يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبلى السرائر} أَي: تختبر وتمتحن، وَقيل: تظهر، وَهُوَ الأولى.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه يظْهر سر كل إِنْسَان، ويبدو أَثَره على وَجهه، فتبيض بعض الْوُجُوه، وَتسود بعض الْوُجُوه.

(6/204)


فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

وَقَوله: {فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر} أَي: قُوَّة يتقوى بهَا، وناصر ينصره، فَيدْفَع بِهِ الْعَذَاب عَن نَفسه.

(6/204)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)

وَقَوله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع} أَي: الْمَطَر، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، وسمى الْمَطَر رجعا؛ لِأَنَّهُ يرجع مرّة بعد أُخْرَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَسميت رجعا؛ لِأَنَّهَا تطلع وتغيب، وَترجع من الْمغرب إِلَى الْمشرق.

(6/204)


وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)

وَقَوله: {وَالْأَرْض ذَات الصدع} أَي: النَّبَات، وَهُوَ قَول الْجَمِيع، وسمى صدعا؛ لِأَن الأَرْض تنصدع بِهِ.

(6/204)


إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)

وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل فصل} أَي: ذُو فصل، وَهُوَ الْفَصْل بَين الْحق وَالْبَاطِل.

(6/204)


وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

وَقَوله: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَي: باللعب، والعبث، وَالْمعْنَى: أَنه قَول جد.

(6/204)


إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم يكيدون كيدا} أَي: يمكرون مكرا، والكيد فِي اللُّغَة هُوَ صنع يصل بِهِ إِلَى الشَّيْء على الْخفية والاستتار.

(6/204)


وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)

{وأكيد كيدا} الكيد من الله هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ الْكفَّار، والاستدراج هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَقيل: هِيَ الْأَخْذ من حَيْثُ يخفى عَلَيْهِم، وَقيل: {وأكيد كيدا} أَي: أعاقبهم عُقُوبَة كيدهم.

(6/204)


فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

وَقَوله: {فمهل الْكَافرين} أَي: أمْهل الْكَافرين، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف.

(6/204)


{فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا (17) } .
وَقَوله: {أمهلهم رويدا} أَي: أمهلهم قَلِيلا، وَالْعرب تَقول: رويدك يَا فلَان أَي: كن على أودة ورفق، وَأما هَاهُنَا فَهُوَ بِمَعْنى الْقَلِيل على مَا بَينا.
وَقد أَخذهم يَوْم بدر بِالسَّيْفِ، وسيأخذهم بِعَذَاب الْآخِرَة عَن قريب.

(6/205)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (1) } .
تَفْسِير سُورَة الْأَعْلَى

وَهِي مَكِّيَّة
وَفِي رِوَايَة الضَّحَّاك أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَالأَصَح هُوَ الأول، وَالله أعلم.

(6/206)


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)

قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} أَي: عظم رَبك الْأَعْلَى، وَقيل: نزه، وتنزيه الله - عز اسْمه - أَلا يُوصف بِوَصْف لَا يَلِيق بِهِ.
وروى أَبُو صَالح، عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: صل بِأَمْر رَبك، وَقيل: صل لِرَبِّك المتعالي.
وَفِي الْآيَة دَلِيل أَن الِاسْم والمسمى وَاحِد؛ لِأَن الْمَعْنى سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَفِي قِرَاءَة أبي: " سُبْحَانَ رَبك الْأَعْلَى ".
وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر)
أَي: ثمَّ السَّلَام عَلَيْكُمَا.
وروى إِسْرَائِيل، عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة، عَن أَبِيه، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَن الني كَانَ يحب سُورَة سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الصَّمد الترابي، أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد بن حمويه، أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن خُزَيْمٌ الشَّاشِي، أخبرنَا عبد ابْن حميد، أخبرنَا وَكِيع، عَن إِسْرَائِيل الْخَبَر.

(6/206)


{الَّذِي خلق فسوى (2) وَالَّذِي قدر فهدى (3) } .
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن رَسُول الله كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَة: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فِي الثَّالِثَة: سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين ".
وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر أَنهم كَانُوا إِذا قرءوا سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى قَالُوا: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى امتثالا لِلْأَمْرِ.
[وَالْأولَى] أَن يَقُول كَذَلِك.
[و] من الْمَعْرُوف عَن عقبَة بن عَامر أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ النَّبِي: " اجعلوه فِي سُجُودكُمْ، وَلما نزل قَوْله: " سبح اسْم رَبك الْعَظِيم " قَالَ: اجعلوه فِي ركوعكم ".
وَقَوله: {الَّذِي خلق فسوى} أَي: خلقك وجعلك رجلا سويا.

(6/207)


الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)

وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {الَّذِي خلقك فسواك} على مَا بَينا.

(6/207)


وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)

وَقَوله: {الَّذِي قدر فهدى} قَالَ السّديّ: قدر خلق الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهدى أَي:

(6/207)


{وَالَّذِي أخرج المرعى (4) فَجعله غثاء أحوى (5) سنقرئك فَلَا تنسى (6) } . هدى الذّكر إِلَى الْأُنْثَى.
وَقيل: قدر خلق كل شَيْء، وهداه إِلَى مَا يصلحه، وَهَذَا فِي الْحَيَوَانَات.
وَقيل: هداه إِلَى رزقه، كالطفل يَهْتَدِي إِلَى الثدي، وَيفتح فَاه حِين يُولد طلبا للثدي، والفرخ يطْلب الرزق من أمه وَأَبِيهِ وَكَذَلِكَ كل شَيْء.
وَقَالَ مُجَاهِد: هدى الْإِنْسَان لسبيل الْخَيْر، وَالشَّر والسعادة والشقاوة.
وَيُقَال: فِي الْآيَة حذف، وَالْمعْنَى: وَهدى وأضل.

(6/208)


وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)

وَقَوله: {وَالَّذِي أخرج المرعى} أَي: مرعى للأنعام.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَقد ينْبت المرعى على دِمنِ الثرى ... وَتبقى حزازات النُّفُوس كَمَا هيا)

(6/208)


فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

وَقَوله: {فَجعله غثاء أحوى} فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: أخرج المرعى أحوى.
{فَجعله غثاء} أَي: يَابسا.
والغثاء هُوَ مَا حمله السَّيْل من النَّبَات الْيَابِس والحشيش، والطفاط مَا أَلْقَاهُ الْقدر من الزّبد، والأحوى الْأسود، والحوة (السوَاد) .
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ أحوى؛ لِأَن كل أَخْضَر يضْرب إِلَى السوَاد إِذا اشتدت خضرته.
قَالَ ذُو الرمة:
(لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وَفِي اللثات وَفِي أنيابها شنب)
وَيُقَال: أخرج المرعى أَخْضَر، ثمَّ جعله أحوى، ثمَّ جعله غثاء.

(6/208)


سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)

قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} ذكر [ابْن] أبي نجيح بروايته عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي: " كَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل سُورَة من الْقُرْآن فيحرك شَفَتَيْه بِقِرَاءَتِهَا مَخَافَة أَن

(6/208)


{إِلَّا مَا شَاءَ الله إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) فَذكر إِن نَفَعت الذكرى (9) } . يتفلت مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} .
وَالْمعْنَى: أَنَّك كفيت النسْيَان، (فَلم ينس) بعد ذَلِك.

(6/209)


إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)

وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن ينساه، وَالْمرَاد مِنْهُ نسخ التِّلَاوَة، وَقيل: النسْيَان هَاهُنَا بِمَعْنى التّرْك، أَي: لَا يتْرك إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن يتْرك بالنسخ.
وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} ذكر مَشِيئَته على التَّعْلِيم حَتَّى يقرن لفظ الْمَشِيئَة بِجَمِيعِ أَقْوَاله مثل قَوْله: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله [آمِنين] } قد قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: أَن تنسى، وَلم يَشَأْ.
مثل قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} وَلم يَشَأْ، ذكره ابْن فَارس.
وَقَوله: {إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى} أَي: السِّرّ والعلن، وَيُقَال: مَا فِي الْقلب، وَمَا على اللِّسَان.

(6/209)


وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

وَقَوله: {ونيسرك لليسرى} الْيُسْرَى فعلى من الْيُسْر، وَمَعْنَاهُ: للأيسر من الْأُمُور.

(6/209)


فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)

وَقَوله: {فَذكر إِن نَفَعت الذكرى} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن نَفَعت الذكرى، وَهُوَ مَأْمُور بالتذكير على الْعُمُوم نَفَعت أَو لم تَنْفَع؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {إِن نَفَعت الذكرى} إِذْ نَفَعت الذكرى، مثل قَوْله تَعَالَى: {وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} وَمَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم مُؤمنين.

(6/209)


{سَيذكرُ من يخْشَى (10) ويتجنبها الأشقى (11) الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى (12) ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى (13) قد أَفْلح من تزكّى (14) وَذكر اسْم ربه فصلى} .
وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكر بِكُل حَال، فقد نَفَعت الذكرى، فَهُوَ تَعْلِيق بمتحقق وَالْمعْنَى: إِن نَفَعت، وَقد نَفَعت.

(6/210)


سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)

قَوْله تَعَالَى: {سَيذكرُ من يخْشَى} يُقَال: نزل هَذَا فِي عبد الله بن أم مَكْتُوم.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم وَالْمعْنَى: من يخْشَى الله.

(6/210)


وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)

وَقَوله: {ويتجنبها الأشقى الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى} يُقَال: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَعتبَة بن ربيعَة.
وَقَوله: {يصلى النَّار الْكُبْرَى} أَي: يدْخل النَّار الْكُبْرَى.
قَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الطَّبَق الْأَسْفَل من جَهَنَّم.

(6/210)


ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

وَقَوله: {ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} أَي: لَا يَمُوت فيستريح، وَلَا يحيا حَيَاة فِيهَا رَاحَة، وَيُقَال: لَا يَمُوت، وَلَا يجد (روح الْحَيَاة) .

(6/210)


قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} أَي: تطهر بِالْعَمَلِ الصَّالح، وَيُقَال: فلَان تزكّى بقول لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: آمن ووحد ربه.
وَعَن عَطاء: أَي أعْطى زَكَاة مَاله.
[و] قَالَ ابْن مَسْعُود من لم يزك لم تقبل الصَّلَاة مِنْهُ.
وَعَن ابْن عمر: أَنَّهَا صَدَقَة الْفطر.
وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز.
وَكَانَ ابْن عمر يَقُول لنافع حِين يصبح يَوْم الْعِيد: أخرجت زَكَاة الْفطر؟ فَإِن قَالَ: نعم، توجه إِلَى الصَّلَاة، وَإِن قَالَ: لَا، يَأْمُرهُ بِالْإِخْرَاجِ، ثمَّ يتَوَجَّه، وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا أَن السُّورَة مَدَنِيَّة، فَأَما إِذا قُلْنَا: مَكِّيَّة، وَهُوَ الْأَصَح، فَلَا يرد هَذَا القَوْل؛ لِأَن صَدَقَة الْفطر لم تكن وَاجِبَة بِمَكَّة، وَإِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ صَلَاة الْعِيد، إِنَّمَا صليت بِالْمَدِينَةِ.

(6/210)


وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

وَقَوله: {وَذكر اسْم ربه فصلى} أَي: ذكر ربه فصلى، وَيُقَال: الذّكر هُوَ التَّكْبِير،

(6/210)


( {15) بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَة خير وَأبقى (17) إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى (18) صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى (19) } . وَالصَّلَاة هِيَ الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة، وَقيل: صَلَاة الْعِيد.

(6/211)


بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)

قَوْله تَعَالَى: {بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: تختارون.
قَالَ ابْن مَسْعُود: عجلت لَهُم الدُّنْيَا، وغيبت عَنْهُم الْآخِرَة، فَاخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَلم عاينوا الْآخِرَة مَا اخْتَارُوا عَلَيْهَا شَيْئا.
وروى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحب دُنْيَاهُ أضرّ بآخرته، وَمن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا مَا يبْقى على مَا يفنى ".

(6/211)


وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

وَقَوله: {وَالْآخِرَة خير وَأبقى} أَي: أدوم [وَأبقى] .

(6/211)


إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)

وَقَوله: {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى} أَي: مَا ذكره الله فِي هَذِه السُّورَة، وَقيل: من قَوْله - تَعَالَى -: {قد أَفْلح من تزكّى} إِلَى قَوْله: {وَأبقى} قَالَ قَتَادَة: فِي جَمِيع كتب الْأَوَّلين أَن الْآخِرَة خير وَأبقى.

(6/211)


صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

وَقَوله: {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} أَي: الْكتب الَّتِي أنزلهَا الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم ومُوسَى، وَقد أنزل على إِبْرَاهِيم صحفا، وَأنزل على مُوسَى التَّوْرَاة، فَهِيَ المُرَاد بِالْآيَةِ، وَالله أعلم.

(6/211)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية (1) وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نَارا حامية (4) } .
تَفْسِير سُورَة الغاشية

وَهِي مَكِّيَّة بِالْإِجْمَاع

(6/212)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} أَي: الْقِيَامَة، وَسميت غاشية؛ لِأَنَّهَا تغشى كل شَيْء بالأهوال، وَيُقَال: تغشى كل كَافِر وَفَاجِر بِالْعَذَابِ، والغاشية هِيَ المجللة، وَمعنى هَل أَتَاك: قد أَتَاك.

(6/212)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)

وَقَوله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} أَي: ذليلة لما ترى من سوء الْعَاقِبَة، وَالْمعْنَى: ركبهَا الذل.

(6/212)


عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)

وَقَوله: {عاملة ناصبة} أَي: عملت فِي الدُّنْيَا لغير الله، فَنصبت وتعبت فِي الْآخِرَة بِعَذَاب الله.
وَعَن السّديّ وَجَمَاعَة: أَنهم الرهبان وَأَصْحَاب الصوامع من النَّصَارَى وَالْيَهُود.
وَقد روى عَن عمر أَنه لما قدم الشَّام فَمر بصومعة رَاهِب فناداه فَاطلع عَلَيْهِ، وَقد تنْحَل من الْجُوع والضر وَالْعِبَادَة، وَعَلِيهِ برنس، فَبكى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَمَا يبكيك؟ ! فَقَالَ: مِسْكين طلب أمرا، وَلم يصل إِلَيْهِ، وسلك طَرِيقا وأخطأه، ثمَّ قَرَأَ قَوْله: {عاملة ناصبة} الْآيَة.

(6/212)


تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)

وَقَوله: {تصلى نَارا حامية} أَي: تقاسي حرهَا.

(6/212)


تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)

وَقَوله: {تسقى من عين آنِية} أَي: انْتَهَت فِي الْحر.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أوقدت عَلَيْهَا جَهَنَّم مُنْذُ خلقت، فدفعوا إِلَيْهَا وردا، أَي: عطاشا.

(6/212)


{تسقى من عين آنِية (5) لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع (6) لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع (7) وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) فِي جنَّة عالية} ) .
قَالَ النَّابِغَة:
(ويخضب نحبة (غدرت) وهانت ... بأحمر من جَمِيع الْجوف آن)
وَفِي بعض التفاسير: أَنهم إِذا دنوا ذَلِك من وُجُوههم سلخت وُجُوههم، فَإِذا شربوا مِنْهَا قطعت أمعاءهم.

(6/213)


لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)

وَقَوله: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} هُوَ شجر يُسمى بالحجاز: الشبرق، لَهُ شوك كثير، فَإِذا يبس يُسمى الضريع.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الضريع شَيْء إِذا وَقعت عَلَيْهَا الْإِبِل فأكلته هَلَكت هزلا.
وَيُقَال: الضريع هُوَ الْحِجَارَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن سعيد بن جُبَير وَغَيره، وَهُوَ قَول غَرِيب.
وَيُقَال: نبت فِيهِ سم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل النَّار سلط الله عَلَيْهِم الْجُوع حَتَّى يعدل بِمَا هم فِيهِ من الْعَذَاب، فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بالضريع، ثمَّ يستغيثون فَيُغَاثُونَ بِطَعَام [ذِي] غُصَّة، ثمَّ يذكرُونَ أَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا يدْفَعُونَ الغصة بِالْمَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ فيتركون ألف سنة يستسقون ثمَّ يسقون الْحَمِيم

(6/213)


لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

وَقَوله: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن إبلنا تسمن على الضريع، وَقد كذبُوا فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} .

(6/213)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)

قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} أَي: ذَات نعْمَة.

(6/213)


لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)

وَقَوله: {لسعيها راضية} أَي: مرضية.

(6/213)


فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)

وَقَوله: {فِي جنَّة عالية لَا تسمع فِيهَا لاغية} أَي: لَغوا فاعلة بِمَعْنى الْمصدر، وَهُوَ

(6/213)


( {10) لَا تسمع فِيهَا لاغية (11) فِيهَا عين جَارِيَة (12) فِيهَا سرر مَرْفُوعَة (13) وأكواب مَوْضُوعَة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) أَفلا} .
فِي معنى قَوْله: {لَا تسمع فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما} .

(6/214)


فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)

وَقَوله: {فِيهَا عين جَارِيَة} قد قد بَينا من قبل.

(6/214)


فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)

وَقَوله: {فِيهَا سرر مَرْفُوعَة} أَي: مُرْتَفعَة عَن أَرض الْجنَّة.
وَيُقَال فِي التَّفْسِير: السرر مُرْتَفعَة، عَلَيْهَا فرش محشوة، كل فرش كجنبذ.
وَفِيه أَيْضا أَنَّهَا تتطامن لِلْمُؤمنِ، فَإِذا صعد عَلَيْهَا ارْتَفَعت.

(6/214)


وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

وَقَوله: {وأكواب مَوْضُوعَة} قد بَينا معنى الأكواب، وَهِي الأباريق الَّتِي لَا خراطيم لَهَا.

(6/214)


وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)

وَقَوله: {ونمارق مصفوفة} أَي: وسائد صف بَعْضهَا إِلَى بعض، قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِنَّا لنجري الكأس بَين شروبنا ... وَبَين أبي قَابُوس فَوق النمارق)

(6/214)


وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

وَقَوله: {وزرابي مبثوثة} أَي: بسط، وَاحِدهَا زربية.
وَقَوله: {مبثوثة} مُتَفَرِّقَة، وَمعنى المتفرقة: أَنَّهَا قد فرقت فِي الْمجَالِس، وفرشت الْمجَالِس بهَا.

(6/214)


أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)

وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا ينظرُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ يَلِيق هَذَا بِالْأولِ؟ .
وَالْجَوَاب: أَن النَّبِي لما ذكر لَهُم مَا أوعده الله للْكفَّار ووعده للْمُؤْمِنين استبعدوا ذَلِك غَايَة الاستبعاد.
وَقَالُوا: لَا نفهم حَيَاة بعد الْمَوْت، وَلَا نَدْرِي وَعدا وَلَا وعيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر لَهُم من الدَّلَائِل مَا هِيَ مجْرى أَبْصَارهم.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ - رَضِي الله عَنْهُم - ذكر الله تَعَالَى هَذِه الْأَرْبَع وَهِي الْإِبِل، وَالسَّمَاء، وَالْأَرْض، وَالْجِبَال، وخصها بِالذكر من بَين سَائِر الْأَشْيَاء؛ لِأَن الْأَعرَابِي إِذا ركب بعيره، وَخرج إِلَى الْبَريَّة،

(6/214)


{ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت (18) وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت (19) وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت (20) فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر (21) لست عَلَيْهِم بمسيطر (22) إِلَّا من تولى وَكفر (23) فيعذبه الله} فَلَا يرى إِلَّا بعيره الَّذِي هُوَ رَاكِبه، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقه، وَالْأَرْض الَّتِي تَحْتَهُ، وَالْجِبَال الَّتِي هِيَ نصب عينه.
وَقَوله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} فِي الْإِبِل من أعجوبة الْخلق مَا لَيْسَ فِي غَيرهَا؛ لِأَنَّهَا مَعَ كبرها وعظمها تنقاد لكل وَاحِد يَقُودهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تبرك وَيحمل عَلَيْهِ الْحمل الثقيل، وَتقوم من بروكها، وَلَا يُوجد هَذَا فِي غَيره، والطفل الصَّغِير يَقُودهُ فينقاد، وينخه فيستنخ.
وَفِي بعض الحكايات أَن فارة جرت بزمام بعير، وَدخلت جحرها، فَنزل الْبَعِير، وَجَرت الْفَأْرَة الزِّمَام، فَوضع فاها على الْجُحر.

(6/215)


وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت} أَي: بسطت.
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن قَوْله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} أَنَّهَا السَّحَاب، وَهُوَ قَول شَاذ، وَيجوز أَن يحمل هَذَا على هَذَا إِذا شدد وَمد.
وَقُرِئَ فِي الشاذ بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَالَ الْمبرد: قد قيل الْإِبِل: الْقطع الْعِظَام من السَّحَاب، يُقَال: فلَان يوبل على فلَان أَي: يكبر عَلَيْهِ ويعظم.

(6/215)


فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)

قَوْله تَعَالَى: {فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر} فِي التَّفْسِير: أَنه عظة لِلْمُؤمنِ، وَحجَّة على الْكَافِر، وَيُقَال: ذكر أَي: اذكر دَلَائِل تَوْحِيد الله تَعَالَى، وَمَا أنعم عَلَيْهِ من النِّعْمَة.

(6/215)


لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)

وَقَوله: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} أَي: بمسلط، وَقيل: إِن هَذَا قبل آيَة السَّيْف، فَأَما بعد نُزُولهَا فقد سلط عَلَيْهِم.

(6/215)


إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)

وَقَوله: {إِلَّا من تولى وَكفر} اسْتثِْنَاء مُنْقَطع كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن من تولى وَكفر {فيعذبه الله الْعَذَاب الْأَكْبَر} .

(6/215)


إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)

وَقَوله: {إِن إِلَيْنَا إيابهم} أَي: رجوعهم، يُقَال: آب يئوب إِذا رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِر:
(وكل ذِي غيبَة يئوب ... وغائب الْمَوْت لَا يؤوب)

(6/215)


{الْعَذَاب الْأَكْبَر (24) إِن إِلَيْنَا إيابهم (25) ثمَّ إِن علينا حسابهم (26) } .

(6/216)


ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

وَقَوله: (ثمَّ إِن علينا حسابهم) أَي: فِي الْقِيَامَة.
فَإِن قيل: قَالَ: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} فَكيف وَجه الْجمع بَينهمَا؟ .
وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الضريع والغسلين وَاحِد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا لقوم، وَذَاكَ لقوم آخَرين.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الغسلين طَعَام لَا ينفع، وَلَا يغنيهم من شَيْء، فَوضع الضريع مَوضِع ذَلِك؛ أَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد، ذكره النّحاس، وَالله أعلم.

(6/216)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْفَجْر (1) وليال عشر (2) وَالشَّفْع وَالْوتر (3) }
تَفْسِير سُورَة الْفجْر

وَهِي مَكِّيَّة

(6/217)


وَالْفَجْرِ (1)

قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْر} روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه فجر الْمحرم، وَذَلِكَ أول يَوْم مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَنه فجر يَوْم النَّحْر، وَيُقَال: هُوَ الْفجْر فِي كل الْأَيَّام.

(6/217)


وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)

وَقَوله: {وليال عشر} أَكثر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا عشر ذِي الْحجَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَنَّهَا الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَعَن مَسْرُوق: أَنَّهَا الْعشْر الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى: {وأتممناها بِعشر} وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا الْعشْر الأول من الْمحرم.

(6/217)


وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)

وَقَوله: {وَالشَّفْع وَالْوتر} روى عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي: " (أَنه) الصَّلَاة، مِنْهَا شفع، وَمِنْهَا وتر " رَوَاهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشفع هُوَ يَوْم نحر، وَالْوتر يَوْم عَرَفَة، وروى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا

(6/217)


{وَاللَّيْل إِذا يسر (4) هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر (5) } إِلَى النَّبِي.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا.
وَهُوَ قَول مَعْرُوف.
وَعَن ابْن الزبير: أَن الشفع هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ} فاليومان الْأَوَّلَانِ من أَيَّام الرَّمْي شفع، وَالْيَوْم الثَّالِث وتر.
وروى هشيم، عَن مُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم أَن الشفع هُوَ الزَّوْج، وَالْوتر هُوَ الْفَرد.
قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْعدَد كُله، مِنْهُ الشفع، وَمِنْه الْوتر، وَهُوَ قريب من قَول إِبْرَاهِيم.
وَعَن عَطاء قَالَ: الشفع هُوَ عشر ذِي الْحجَّة، وَالْوتر أَيَّام التَّشْرِيق.
وَعَن جمَاعَة أَنهم قَالُوا: الشفع هُوَ الْخلق، وَالْوتر هُوَ الله تَعَالَى.
وَيُقَال: الشفع هُوَ آدم وحواء، وَالْوتر هُوَ الله.
وَقُرِئَ " وَالْوتر " بِالْفَتْح، وَقَالَ أهل اللُّغَة: بِالْفَتْح وَالْكَسْر بِمَعْنى وَاحِد.

(6/218)


وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)

وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا يسر} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا أقبل، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا اسْتَوَى، وَعَن بَعضهم: " إِذا يسر " يَعْنِي: إِذا يُسرى فِيهِ، فَيذْهب بعضه فِي إِثْر بعض، وَقيل يُسرى فِيهِ.
وَقد أول بليلة جمع، وَهِي لَيْلَة يَوْم النَّحْر.

(6/218)


هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)

وَقَوله: {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} أَي: لذِي عقل.
وَقَالَ الْفراء: " لذِي حجر " أَي: لمن كَانَ ضابطا لنَفسِهِ قاهرا لهواه.
وَيُقَال: " لذِي حجر " أَي لذِي حكم، والحَجْر فِي اللُّغَة: هُوَ الْمَنْع، والحِجْر مَأْخُوذ مِنْهُ، وسمى

(6/218)


{ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد (6) إرم ذَات الْعِمَاد (7) } الْعقل حِجرا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْإِنْسَان من القبائح، وَهَذَا لتأكيد الْقسم، وَلَيْسَ بمقسم عَلَيْهِ.

(6/219)


أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد إرم} هُوَ أَبُو عَاد؛ لأَنهم قَالُوا: هُوَ عَاد ابْن إرم بن عوص بن سَام بن نوح، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ اسْم بَلْدَة، وَلِهَذَا لم يصرف، فَإِن قُلْنَا: هُوَ اسْم رجل، فَلم نصرفه؛ لِأَنَّهَا اسْم أعجمي.
وَعَن مَالك بن أنس: أَن إرم كورة دمشق.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَنه الْإسْكَنْدَريَّة.
وَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْبناء الرفيع، هَذَا إِذا قُلْنَا: إِن إرم اسْم بَلْدَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْأَجْسَام الطوَال.
يُقَال: رجل معمد إِذا كَانَ طَويلا، فعلى هَذَا عَاد اسْم الْقَبِيلَة، فَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} منصرف إِلَى الْقَبِيلَة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الطَّوِيل مِنْهُم كَانَ خَمْسمِائَة ذِرَاع، والقصير ثلثمِائة.
وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يتَّخذ المصراع من الْحجر، فَلَا يَنْقُلهُ خَمْسمِائَة نفر مِنْكُم، وَقَالَ مُجَاهِد: ذَات عماد أَي: ذَات عَمُود، وَالْمعْنَى: أَنهم أهل خيام لَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع وَاحِد، بل ينتجعون لطلب الْكلأ أَي: ينتقلون من مَوضِع إِلَى مَوضِع، وَقَالَ الضَّحَّاك: ذَات الْعِمَاد أَي: ذَات الْقُوَّة، مَأْخُوذ من قُوَّة الأعمدة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن عاج بن عوج كَانَ مِنْهُم.
وَذكر النقاش: أَن طول مُوسَى كَانَ سَبْعَة أَذْرع، وَعَصَاهُ سَبْعَة أَذْرع، ووثب سَبْعَة أَذْرع، فَأصَاب كَعْب عاج بن عوج فَقتله.
وَفِيمَا نقل فِيهِ أَيْضا فِي الْقَصَص: أَن ضلعا من أضلاعه جسر أهل مصر كَذَا كَذَا سنة أَي: كَانَ جِسْرًا لَهُم وَهُوَ على النّيل، وَفِي التَّفْسِير أَن عادا اثْنَان: عادا الأولى، وعادا الْأُخْرَى، فَعَاد الأولى عَاد إرم، وَعَاد الثَّانِيَة هُوَ عَاد الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ الَّذِي أرسل إِلَيْهِم هود النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ ابْن قيس الرقيات:

(6/219)


{الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد (8) وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد (9) وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد (10) الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد (11) فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد (12) فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب (13) إِن رَبك لبالمرصاد (14) }
(مجدا تليدا بناه أَوله ... أدْرك عادا وَقَبله إرما)

(6/220)


الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

وَقَوله: {الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد} أَي: لم يخلق مثل (أجسامهم) فِي الْبِلَاد.
وَفِي رِوَايَة أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " الَّذين لم يخلق مثلهم فِي الْبِلَاد ".

(6/220)


وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)

وَقَوله: {وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد} قطعُوا ونقبوا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين} .

(6/220)


وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)

وَقَوله: {وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد} يُقَال: كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أوتاد، فَإِذا غضب على إِنْسَان وعذبه زند يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ على الأَرْض بِتِلْكَ الْأَوْتَاد.
فِي الْقِصَّة: أَنه عذب امْرَأَته آسِيَة بِمثل هَذَا الْعَذَاب، وَوضع على صدرها صَخْرَة حَتَّى مَاتَت، وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ لَهُ أَربع أساطين، يشد الرجل بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ بهَا.
وَقيل: ذِي الْأَوْتَاد أَي: ذِي الْملك الشَّديد، قَالَ الشَّاعِر:
(فِي ظلّ ملك ثَابت الْأَوْتَاد ... )

(6/220)


الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)

وَقَوله: {الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد} أَي: جاوزوا الْحَد بِالْمَعَاصِي، وَيُقَال: تَمَادَوْا فِيهَا.

(6/220)


فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)

وَقَوله: {فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} أَي: عذبهم وَقيل: إِنَّه جعل عَذَابهمْ مَوضِع السَّوْط فِي الْعُقُوبَات، وَعَن بَعضهم: أَنهم كَانُوا يعدون الضَّرْب بالسياط إِلَى أَن يَمُوت أَشد الْعَذَاب، فَذكر الْعَذَاب بِذكر السَّوْط هَاهُنَا، على معنى أَنه بلغ النِّهَايَة فِي عَذَابهمْ.

(6/220)


إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: إِلَيْهِ مرجع الْخلق ومصيرهم، وَالْمعْنَى: أَنه

(6/220)


{فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن (15) وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن (16) كلا بل لَا تكرمون الْيَتِيم (17) وَلَا تحاضون على طَعَام الْمِسْكِين (18) } لَا يفوت مِنْهُ أحد، وَعَن الْحسن: أَنه بمرصاد أَعمال الْعباد، وَعَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: يسمع وَيرى، وَعنهُ أَيْضا: أَن على جَهَنَّم سبع قناطر، فَيسْأَل على القنطرة الأولى عَن الْإِيمَان، وَعَن الثَّانِيَة عَن الصَّلَاة، وعَلى الثَّالِثَة عَن الزَّكَاة، وعَلى الرَّابِعَة عَن صِيَام رَمَضَان، وعَلى الْخَامِسَة عَن الْحَج وَالْعمْرَة، وعَلى السَّادِسَة عَن صلَة الرَّحِم، وعَلى السَّابِعَة عَن الْمَظَالِم.
وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَقع الْقسم.

(6/221)


فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن} نزلت الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف الجُمَحِي، وَيُقَال: هَذَا على الْعُمُوم.
وَقَوله: {فَيَقُول رَبِّي أكرمن} أَي: أَنا كريم عَلَيْهِ حَيْثُ أَعْطَانِي هَذِه النعم.

(6/221)


وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

وَقَوله: {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} أَي: ضيق عَلَيْهِ.
[وَقَوله] {فَيَقُول رَبِّي أهانن} أَي: فعل مَا فعل بِي لهواني عَلَيْهِ، وَالْمعْنَى: أَنهم زَعَمُوا أَن الله يكرم بالغني، ويهين بالفقر.

(6/221)


كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

وَقَوله: {كلا} رد لما قَالُوا يعْنى: أَن الله لَا يكرم بالغنى، وَلَا يهين بالفقر، وَإِنَّمَا يكرم بِالطَّاعَةِ، ويهين بالمعصية، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: إِنِّي لأجد فِي بعض الْكتب أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَوْلَا أَنه يحزن عَبدِي الْمُؤمن، لكللت رَأس الْكَافِر بالأكاليل، فَلَا يصدع، وَلَا ينبض مِنْهُ عرق يوجع.
وَقَوله: {بل لَا تكرمون الْيَتِيم} ذكر مَا يَفْعَله الْكفَّار، واستحقوا بِهِ الْعَذَاب فِي قَوْله: {لَا تكرمون الْيَتِيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: هُوَ أكل مَالهم أَي: الْيَتَامَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه ترك الْإِحْسَان إِلَيْهِم.

(6/221)


وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)

وَقَوله: {وَلَا تحضون على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحثون، وَقُرِئَ: " وَلَا تحاضون

(6/221)


{وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المَال حبا جما (20) كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا (21) وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا (22) وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى (23) يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي (24) } على طَعَام الْمِسْكِين " أَي: لَا يحض بَعضهم بَعْضًا.

(6/222)


وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)

وَقَوله: {وتأكلون التراث أكلا لما} التراث وَالْوَارِث بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الْمِيرَاث.
وَقَوله: {أكلا لما} أَي: بخلط الْحَلَال بالحرام.
وَقَالَ مُجَاهِد: {لما} أَي: سفا، فَيجمع الْبَعْض إِلَى الْبَعْض ويسف سفا.

(6/222)


وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

وَقَوله: {وتحبون المَال حبا جما} أَي: كثيرا، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ وَالْيَاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فعلى الْخَبَر، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فَهُوَ على الْخطاب.

(6/222)


كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا} أَي: فتت ودقت.

(6/222)


وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)

وَقَوله: {وَجَاء رَبك} وَهُوَ من الْمُتَشَابه الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يُفَسر، وَقد أول بَعضهم: وَجَاء أَمر رَبك، وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا.
وَقَوله: {وَالْملك صفا صفا} أَي: صُفُوفا.

(6/222)


وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)

وَقَوله: {وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَنه يجاء بجهنم مزمومة بسبعين ألف زِمَام، ويقودها الْمَلَائِكَة، فتقام على سَائِر الْعَرْش فَحِينَئِذٍ يجثوا الْأَنْبِيَاء على ركبهمْ، وَيَقُول كل وَاحِد: نَفسِي، نَفسِي ".
وَالْخَبَر غَرِيب، وَهُوَ مَعْرُوف عَن غير الرَّسُول.
قَوْله: {يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى} أَي: يتعظ، وأنى لَهُ الاتعاظ، أَي: نفع الاتعاظ.

(6/222)


يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)

وَقَوله: {يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} أَي: لآخرتي، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} أَي الْحَيَاة الدائمة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا: لحياتي فِي الْآخِرَة.

(6/222)


فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد وَلَا يوثق وثَاقه أحد} بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْأَشْهر

(6/222)


{فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد (25) وَلَا يوثق وثَاقه أحد (26) يَا أيتها النَّفس المطمئنة (27) ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية (28) فادخلي فِي عبَادي (29) } من الْقِرَاءَتَيْن، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد فِي الدُّنْيَا بِمثل مَا يعذبه الله فِي الْآخِرَة، وَلَا يوثق أحد فِي الدُّنْيَا مثل مَا يوثقه الله فِي الْآخِرَة، وَقُرِئَ: " فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد " بِفَتْح الذَّال، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الْكَافِر، أَو لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الصِّنْف من الْكفَّار، وَكَذَلِكَ قَوْله: {يوثق} بِفَتْح الثَّاء.

(6/223)


يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} أَي: المؤمنة الساكنة، وَيُقَال: المطمئنة إِلَى وعد رَبهَا، وَقيل: إِن المُرَاد بِالنَّفسِ هُوَ الرّوح هَاهُنَا، وَيُقَال: هُوَ جملَة الْإِنْسَان إِذا كَانَ مُؤمنا.

(6/223)


ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)

وَقَوله: {ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} أَي: رضيت عَن الله، وأرضاها الله تَعَالَى عَن نَفسه.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن ملكَيْنِ يأتيان الْمُؤمن عِنْد قبض روحه، فَيَقُولَانِ: أخرج أَيهَا الرّوح إِلَى روح وَرَيْحَان، وَرب غير غَضْبَان.

(6/223)


فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)

وَقَوله: {فادخلي فِي عبَادي} أَي: مَعَ عبَادي.

(6/223)


وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

{وادخلي جنتي} وَهَذَا القَوْل يَوْم الْقِيَامَة.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فادخلي فِي عَبدِي " أَي: يُقَال للنَّفس - أَي: الرّوح - ادخلي فِي عَبدِي أَي: فِي جسده، وادخلي فِي جنتي، وَذَلِكَ عِنْد الْبَعْث.
وَعَن عِكْرِمَة: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو بكر: إِن هَذَا لخير كثير، فَقَالَ النَّبِي: " أما إِن الْملك سيقولها لَك ".
وَعَن (أبي بُرَيْدَة) : أَن الْآيَة نزلت فِي حَمْزَة بن عبد الْمطلب.

(6/223)


{وادخلي جنتي (30) }
وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا نزلت فِي خبيب بن عدي، وَهُوَ الَّذِي أسر وصلب بِمَكَّة، وَهُوَ أول من سنّ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ عِنْد الصلب، وَهُوَ الْقَائِل:
(فلست أُبَالِي حِين أقتل مُسلما ... على أَي جنب كَانَ فِي الله مصرعي)
(وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ
(يُبَارك فِي شلو الْأَدِيم الممزع))
وَعَن عَامر بن قيس: أَنه وَفد على عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَجَلَسَ على بَابه، فَخرج عَلَيْهِ عُثْمَان فَرَأى أَعْرَابِيًا فِي بت، فَلم يعرفهُ، فَقَالَ: أَيْن رَبك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بالمرصاد.
فأفحم عُثْمَان، وَهَذَا على قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَالله أعلم.

(6/224)