تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْعَادِيات ضَبْحًا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا
(3) فأثرن بِهِ نقعا (4) فوسطن بِهِ جمعا (5) إِن الْإِنْسَان
لرَبه لكنود (6) }
تَفْسِير سُورَة العاديات
وَهِي مَكِّيَّة
(6/270)
وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا}
قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل.
قَالَ عَليّ: لم يكن يَوْم بدر إِلَّا فرسَان: أَحدهمَا
لِلْمِقْدَادِ، وَالْآخر للزبير.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل.
وَهَذَا القَوْل أظهر.
وَأقسم بِالْخَيْلِ العادية فِي سَبِيل الله، وضبيحها.
صَوت أجوافها، وَقيل: صَوت أنفاسها عِنْد الْعَدو.
قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ بصهيل وَلَا حَمْحَمَة.
(6/270)
فَالْمُورِيَاتِ
قَدْحًا (2)
وَقَوله: {فالموريات قدحا} قَالَ ابْن
مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل تقدح بمناسمها، وعَلى قَول ابْن
عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تقدح الْأَحْجَار بحوافرها، فتورى
النَّار.
(6/270)
فَالْمُغِيرَاتِ
صُبْحًا (3)
وَقَوله: {فالمغيرات صبحا} قَالَ ابْن
مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل حِين يفيضون من جمع، وعَلى قَول ابْن
عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تغير فِي سَبِيل الله، قَالَ قَتَادَة:
أغارت حِين أَصبَحت.
(6/270)
فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {فأثرن بِهِ نقعا} على
قَول ابْن مَسْعُود أثرن بالوادي فكنى عَنهُ وَإِن لم يكن
مَذْكُورا، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس بِالْمَكَانِ المغار.
قَالَ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: النَّقْع التُّرَاب، وَقَالَ
قَتَادَة: هُوَ الْغُبَار.
(6/270)
فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعًا (5)
وَقَوله تَعَالَى: {فوسطن بِهِ جمعا} فعلى
قَول ابْن مَسْعُود أَي: جمع الْمزْدَلِفَة، وعَلى قَول ابْن
عَبَّاس جمع الْعَدو، فأقسم الله تَعَالَى بِرَبّ هَذِه
الْأَشْيَاء، وَقيل: بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِأَعْيَانِهَا،
وَقيل: إِن النَّبِي كَانَ بعث سَرِيَّة إِلَى بني كنَانَة
فَأَغَارُوا عِنْد الصَّباح، وتوسطوا جمع الْعَدو، وَكَانُوا
أَصْحَاب خيل، فأقسم الله تَعَالَى بهم.
(6/270)
إِنَّ الْإِنْسَانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود}
على هَذَا وَقع الْقسم.
(6/270)
{وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد (7) وَإنَّهُ
لحب الْخَيْر لشديد (8) }
وَقَوله: {لكنود} أَي: لكفور، وَقيل: هُوَ الْبَخِيل السيء
الْخلق.
وَفِي بعض الْأَخْبَار مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي بِرِوَايَة
أبي أُمَامَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه
لكنود} قَالَ: " هُوَ الَّذِي يَأْكُل وَحده، وَيمْنَع رفده
وَيضْرب عَبده ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْحَاكِم
مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْقَنْطَرِي، أخبرنَا مُحَمَّد بن
الْحُسَيْن [الحدادي] ، أخبرنَا مُحَمَّد بن يحيى، أخبرنَا
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أخبرنَا (المؤتمن) بن سُلَيْمَان،
عَن جَعْفَر بن الزبير، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة
الحَدِيث.
(6/271)
وَإِنَّهُ عَلَى
ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
وَقَوله: {وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد} أَي:
وَإِن الله على ذَلِك لشهيد أَي: على كفره.
وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس:
(6/271)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد}
مَعْنَاهُ: إِن الْإِنْسَان لأجل حب المَال لبخيل.
يُقَال: شَدِيد ومشدد أَي: بخيل.
قَالَ طرفَة:
(أرى الْمَوْت يعتام الْكِرَام ويصطفى ... عقيلة مَال
الْفَاحِش المتشدد)
أَي: الْبَخِيل
(6/271)
{أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور
(9) وَحصل مَا فِي الصُّدُور (10) إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ
لخبير (11) }
(6/272)
أَفَلَا يَعْلَمُ
إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يعلم إِذا بعثر
مَا فِي الْقُبُور} أَي: أخرج، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " بحث
" وَعَن غَيره وَهُوَ أبي بن كَعْب: " بحثر " أَي: قلب.
(6/272)
وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ (10)
قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَي:
أظهر مَا فِيهَا.
وَقيل: جمع يَعْنِي: مَا فِي صَحَائِف الْأَعْمَال.
(6/272)
إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
وَقَوله: {إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير}
أَي: عَالم، وَيُقَال: أَي: يجازيهم بأعمالهم، وَمثله قَوْله
تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم}
أَي: يجازيهم الله بِمَا فِي قُلُوبهم.
وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} أَي:
يجازي عَلَيْهِ، وَقيل فِي قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور}
أَي: ميز مَا فِيهَا من الْخَيْر وَالشَّر، وَالله أعلم.
(6/272)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{القارعة (1) مَا القارعة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة (3)
يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث (4) وَتَكون الْجبَال
كالعهن المنفوش (5) فَأَما من ثقلت}
تَفْسِير سُورَة القارعة
وَهِي مَكِّيَّة
(6/273)
الْقَارِعَةُ (1) مَا
الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {القارعة مَا القارعة}
هِيَ الْقِيَامَة، سميت قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب
بالهول والشدة.
وَقَوله: {مَا القارعة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم
والتهويل، وَكَذَلِكَ {وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة} .
(6/273)
يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكون النَّاس
كالفراش المبثوث} الْفراش هُوَ صغَار الْحَيَوَان من البق
والبعوض وَالْجَرَاد وَمَا يجْتَمع عِنْد ضوء السراج، والمبثوث
سَمَّاهُ مبثوثا؛ لِأَنَّهُ يركب بعضه بَعْضًا، وَقيل: يمرج
بعضه فِي بعض، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ جَراد
منتشر} وَشبه النَّاس عِنْد الْحَشْر بِهِ؛ لِأَنَّهُ يمرج
بَعضهم فِي بعض.
(6/273)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} أَي:
الصُّوف الَّذِي يدف، والعهن هُوَ الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَهُوَ
أرْخى مَا يكون من الصُّوف، وَذكر هَذَا على معنى أَن الْجبَال
من هول يَوْم الْقِيَامَة مَعَ صلابتها وقوتها تصير كالعهن
المنفوش.
(6/273)
فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من ثقلت
مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} .
قَالَ الْفراء والزجاج: أَي ذَات رضَا.
وَقيل: مرضية.
(6/273)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ (8)
وَقَوله: {وَأما من خفت مَوَازِينه} فِي
بعض التفاسير: أَن لكل إِنْسَان ميزانا على حِدة لعمله من
الْخَيْر وَالشَّر.
(6/273)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
(9)
وَقَوله: {فأمه هاوية} أَي مرجعه إِلَى
الهاوية، وسماها أمه؛ لِأَن الْإِنْسَان يأوي إِلَى
(6/273)
{مَوَازِينه (6) فَهُوَ فِي عيشة راضية (7)
وَأما من خفت مَوَازِينه (8) فأمه هاوية (9) وَمَا أَدْرَاك
مَا هية (10) نَار حامية (11) } أمه؛ فالهاوية تؤوي الْكفَّار،
فَهِيَ أمّهم، وَفِي بعض الْأَخْبَار فِي نعت النَّار: فبئست
الْأُم، وبئست المربية، وَيُقَال: الهاوية كل مَوضِع يهوى
فِيهِ الْإِنْسَان وَيهْلك.
(6/274)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
هِيَهْ (10)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا هية} الْهَاء
فِي قَوْله: {مَا هية} هَاء الْوَقْف على فَتْحة الْيَاء.
(6/274)
نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
وَقَوله: (نَار حامية) أَي: حامية على
الْكفَّار محرقة لَهُم، وَالله أعلم.
(6/274)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{أَلْهَاكُم التكاثر (1) حَتَّى زرتم الْمَقَابِر (2) كلا سَوف
تعلون (3) ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ (4) كلا لَو تعلمُونَ علم
الْيَقِين (5) لترون الْجَحِيم (6) ثمَّ}
تَفْسِير سُورَة التكاثر
وَهِي مَكِّيَّة
(6/275)
أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ (1)
قَول تَعَالَى: {أَلْهَاكُم التكاثر} أَي:
شغلكم التكاثر بالأموال وَالْأَوْلَاد عَمَّا أمرْتُم بِهِ.
(6/275)
حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ (2)
وَقَوله: {حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} فِيهِ
قَولَانِ: أَحدهمَا: حَتَّى متم، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ
أَنه تفاخر حَيَّان من قُرَيْش، وهما بَنو عبد منَاف، وَبَنُو
الزهرة، وَقيل: بَنو زهرَة وَبَنُو جمح - وَهُوَ الْأَصَح -
فعدوا الْأَحْيَاء فكثرتهم بَنو زهرَة فعدوا الْأَمْوَات
فكثرتهم بَنو جمح، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى زرتم
الْمَقَابِر} أَي: عددتم من فِي الْقُبُور.
وروى شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير،
عَن أَبِيه قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله وَهُوَ
يَقُول: " أَلْهَاكُم التكاثر " قَالَ: يَقُول ابْن آدم:
مَالِي مَالِي، وَمَا لَك من مَالك إِلَّا مَا أكلت فأفنيت،
أَو لبست فأبليت، أَو تَصَدَّقت فأمضيت؟ ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو
مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني الْمَعْرُوف بِابْن
هزارمرد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا
الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شُعْبَة. .
الحَدِيث، خرجه مُسلم عَن بنْدَار، عَن غنْدر، عَن شُعْبَة.
(6/275)
كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (3)
وَقَوله تَعَالَى: {كلا سَوف تعلمُونَ}
تهديد ووعيد.
(6/275)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (4)
وَقَوله: {ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ} تهديد
بعد تهديد، ووعيد بعد وَعِيد، وَالْمعْنَى: ستعلمون عَاقِبَة
تفاخركم وتكاثركم إِذا نزل بكم الْمَوْت.
(6/275)
{لترونها عين الْيَقِين (7) }
(6/276)
كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
قَوْله تَعَالَى: {كلا لَو تعلمُونَ عل
الْيَقِين} جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: كلا لَو تعلمُونَ
علم الْيَقِين لارتدعتم عَمَّا تَفْعَلُونَ، وَقيل: مَا
أَلْهَاكُم التكاثر.
(6/276)
لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
وَقَوله: {لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها
عين الْيَقِين} قَالَ بَعضهم: الثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ،
وَالْمعْنَى فيهمَا وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: لترون الْجَحِيم
عَن بعد إِذا أبرزت، ثمَّ لترونها عين الْيَقِين إِذا
دخلتموها.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: كُنَّا نتحدث أَن علم الْيَقِين أَن
يعلم أَن الله باعثه بعد الْمَوْت.
وَيُقَال: لترون الْجَحِيم فِي الْقَبْر، ثمَّ لترونها عين
الْيَقِين فِي الْقِيَامَة.
(6/276)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
وَقَوله: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن
النَّعيم} قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس:
النَّعيم صِحَة الْأَبدَان والأسماع والأبصار، يسْأَل الله
تَعَالَى عباده يَوْم الْقِيَامَة فيمَ استعملوها؟ وَهُوَ أعلم
بذلك مِنْهُم.
وَعَن ابْن مَسْعُود: أَنه الْأَمْن وَالصِّحَّة.
وَعَن قَتَادَة: هُوَ الْمطعم الهني وَالْمشْرَب الروي.
وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي " أَنه الظل
الْبَارِد وَالْمَاء الْبَارِد ".
وروى عمر بن أبي سَلمَة أَن النَّبِي وَأَبا بكر وَعمر أَتَوا
منزل أبي الْهَيْثَم بن التيهَان، وأكلوا عِنْده لَحْمًا
وَتَمْرًا، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " هَذَا من النَّعيم الَّذِي
تسْأَلُون عَنهُ ".
وروى أَن عمر قَالَ: " يَا رَسُول الله، نسْأَل عَن هَذَا؟
قَالَ: نعم إِلَّا كسرة يسد الرجل بهَا جوعه، وخرقة يستر بهَا
عَوْرَته، وحجرا يدْخل فِيهِ من الْحر والقر ".
وروى ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: كل لذات الدُّنْيَا.
وَعَن بَعضهم: النّوم مَعَ الْعَافِيَة.
(6/276)
{ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم (8) }
وَذكر أَبُو عِيسَى أَخْبَارًا فِي هَذِه، مِنْهَا مَا روينَا
من حَدِيث مطرف، وَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَمِنْهَا
حَدِيث الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش، عَن عَليّ
قَالَ: مَا زلنا نشك فِي عَذَاب الْقَبْر حَتَّى نزلت
{أَلْهَاكُم التكاثر} .
قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب.
وَمِنْهَا حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب، عَن عبد
الله بن الزبير بن الْعَوام، عَن أَبِيه قَالَ: " لما نزلت
{ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ الزبير: يَا
رَسُول الله، وَأي النَّعيم يسْأَل عَنهُ، وَإِنَّمَا هما
الأسودان: التَّمْر وَالْمَاء؟ قَالَ: أما إِنَّه سَيكون "
قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن.
وروى عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ: " لما نزلت هَذِه الْآيَة: {ثمَّ لتسألن
يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله، عَن
أَي النَّعيم نسْأَل، وَإِنَّمَا هما الأسودان، والعدو حَاضر،
وسيوفنا على عواتقنا؟ قَالَ: إِن ذَلِك سَيكون ".
روى عَن الضَّحَّاك بن عبد الرَّحْمَن [بن] عَرْزَم
الْأَشْعَرِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ
رَسُول الله: " إِن أول مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة -
يَعْنِي العَبْد من النَّعيم - أَن يُقَال لَهُ: ألم نصحح لَك
جسمك، ونروك من المَاء الْبَارِد ".
قَالَ: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَالله أعلم.
(6/277)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْعصر (1) إِن الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين
آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ (3) }
تَفْسِير سُورَة الْعَصْر
وَهِي مَكِّيَّة
(6/278)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْعصر إِن
الْإِنْسَان} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّهْر، وَفِيه
الْعبْرَة لمرور اللَّيْل وَالنَّهَار أَنَّهُمَا على تَرْتِيب
وَاحِد.
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَنه الْعشي.
قَالَ الشَّاعِر:
(تروح بِنَا عمر وَقد قصر الْعَصْر ... وَفِي الروحة الأولى
المثوبة وَالْأَجْر)
والعصران: هما اللَّيْل وَالنَّهَار، وَيُقَال: هما الْغَدَاة
والعشي.
وَقَالَ مقَاتل: الْعَصْر هُوَ صَلَاة الْعَصْر.
وَعَن بَعضهم: أَنه عصر النَّبِي أقسم بِهِ، وَحكى أَن فِي حرف
عَليّ: " الْعَصْر ونوائب الدَّهْر إِن الْإِنْسَان لفي خسر.
وَهُوَ فِيهِ إِلَى آخر الْعُمر ".
وَقَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى: وَرب الْعَصْر.
وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} مَعْنَاهُ: لفي غبن،
وَيُقَال: فِي شَرّ، وَيُقَال: فِي هَلَاك، والخسران هُوَ
ذهَاب رَأس المَال، وَرَأس مَال الْآدَمِيّ هُوَ عمره وَنَفسه،
فَإِذا كفر فقد ذهب رَأس مَاله، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر،
وَقيل: وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقيل: هُوَ فِي كَافِر
بِعَيْنِه، فَقيل: إِنَّه أبي بن خلف، وَقيل: وليد بن
الْمُغيرَة، وَقيل: أَبُو جهل بن هِشَام.
(6/278)
إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات} أَي: بالطاعات.
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة:
أَي بِالْقُرْآنِ واتباعه، وَقيل: بِالتَّوْحِيدِ.
وَعَن السّديّ: بِاللَّه أَي: تواصوا بِاللَّه، وَعَن الفضيل
بن عِيَاض قَالَ: يحث بَعضهم بَعْضًا على طَاعَة الله.
(6/278)
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عَن
الْمعاصِي، وَقيل: بِالصبرِ على الطَّاعَة، وَقد ورد خبر
غَرِيب بِرِوَايَة أبي أُمَامَة أَن قَوْله: {إِن الْإِنْسَان
لفي خسر} هُوَ أَبُو جهل بن هِشَام.
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} هُوَ أَبُو بكر {وَعمِلُوا
الصَّالِحَات} هُوَ عمر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} هُوَ
عُثْمَان {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} هُوَ عَليّ، رَضِي الله
عَنْهُم.
(6/279)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ويل لكل همزَة لُمزَة (1) الَّذِي جمع مَالا وعدده (2) يحْسب
أَن مَاله أخلده (3) كلا لينبذن فِي الحطمة (4) وَمَا أَدْرَاك
مَا الحطمة (5) نَار الله الموقدة}
تَفْسِير سُورَة الْهمزَة
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم
(6/280)
وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل همزَة} قد بَينا
معنى الويل.
وَقَوله: {همزَة لُمزَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْهمزَة الَّذِي
يطعن فِي النَّاس ويعيبهم، واللمزة هُوَ الَّذِي يغتابهم
وَمثله عَن مُجَاهِد، وَقيل على الْعَكْس، فالهمزة هُوَ
المغتاب، واللمزة الَّذِي يطعن فِي النَّاس، قَالَه السّديّ
وَغَيره، وَعَن بَعضهم: أَن الْهمزَة هُوَ الَّذِي يُؤْذِي
النَّاس بِلِسَان أَو يَد، واللمزة هُوَ الَّذِي يؤذيهم بحاجب
(وَعين) ، وَهُوَ قَول غَرِيب، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي
رِوَايَة: أَن الْآيَة نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق
الزُّهْرِيّ، وَهُوَ قَول مَعْرُوف، وأنشدوا فِي الْهمزَة
واللمزة:
(تدلى بودي إِذا لاقيتني كذبا ... وَإِن تغيبت كنت الهامز
اللمزة)
(6/280)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا
وَعَدَّدَهُ (2)
وَقَوله: {الَّذِي جمع مَالا وعدده}
بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَقَوله: {جمع} بِالتَّخْفِيفِ
مَعْلُوم، وبالتشديد فَالْمَعْنى: أَنه جمع من كل وَجه شَيْئا
فَشَيْئًا.
وَقَوله: {وعدده} أَي أعده لنَفسِهِ ولحوادثه، وَقُرِئَ: "
وعدده " بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ: جمع عددا أَي: قوما
وأنصارا يتقوى بهم.
(6/280)
يَحْسَبُ أَنَّ
مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
وَقَوله: {يحْسب أَن مَاله أخلده} أَي:
يبْقى حَتَّى بَقِيَّته، قَالَه الْحسن، وَقَالَ بَعضهم: أَي:
يمْنَع الْمَوْت عَنهُ.
(6/280)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ
فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَقَوله: {كلا لينبذن فِي الحطمة} هُوَ
اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم، وَقَرَأَ ابْن مصرف:
(6/280)
( {6) الَّتِي تطلع على الأفئدة (7)
إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة (8) فِي عمد ممددة (9) " لينبذن فِي
الحطمة " يَعْنِي: نَفسه وَمَاله، وَسميت النَّار حِكْمَة؛
لِأَنَّهَا تَأْكُل كل شَيْء.
يُقَال: رجل حُطَمة أَي: أكول، وَقيل: لِأَنَّهَا تكسر كل
شَيْء من الحطم وَهُوَ الْكسر.
(6/281)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْحُطَمَةُ (5)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحطمة} قد
بَينا.
(6/281)
نَارُ اللَّهِ
الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
وَقَوله: {نَار الله الموقدة الَّتِي تطلع
على الأفئدة} يَعْنِي: يصل ألمها ووجعها إِلَى الْفُؤَاد.
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: تَأْكُل النَّار
أَجْسَادهم، فَإِذا وصلت النَّار إِلَى الْقلب أعيدوا كَمَا
كَانُوا، وتعود النَّار إِلَى أكلهم فَهَكَذَا أبدا.
(6/281)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ (8)
وَقَوله: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} قَالَ
ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: مطبقة، وَقيل: مغلقة.
يُقَال: أصدت الْبَاب أَي أغلقته.
(6/281)
فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ (9)
وَقَوله: {فِي عمد} وَقُرِئَ " فِي عمد
ممددة " بِفَتْح الْعين وَرَفعه، وَقَرَأَ الْأَعْمَش
وَطَلْحَة وَيحيى بن وثاب: " بعمد ممدة " وَهُوَ معنى
الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَعَن بَعضهم: أَن الْعمد الممدة
هِيَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم، وَعَن بَعضهم: [هُوَ] الْقُيُود
فِي أَرجُلهم، وَعَن بَعضهم: قيود على قبرهم من نَار
يُعَذبُونَ فِيهَا، وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ أَنَّهَا مطبقة
بعمد يَعْنِي: مسدودة لَا يخرج مِنْهَا غمر، وَلَا يدخلهَا
روح.
وَعَن قَتَادَة: يُعَذبُونَ بالعمد، وَهِي جمع عَمُود.
وَعَن أبي جَعْفَر الْقَارئ: أَنه بَكَى مرّة حِين قُرِئت
هَذِه السُّورَة عَلَيْهِ، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك يَا أَبَا
جَعْفَر؟ قَالَ: أَخْبرنِي زيد بن أسلم أَن أهل النَّار لَا
يتنفسون فَذَلِك أبكاني.
وَقَوله: {ممدة} وَقيل: مُطَوَّلَة، وَيُقَال: ممدودة.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه يبْقى رجل من الْمُؤمنِينَ
فِي النَّار ألف سنة يَقُول: يَا حنان، يَا منان، وَهُوَ فِي
شعب من شعاب النَّار، فَيَقُول الله لجبريل: أخرج عَبدِي من
النَّار، فَيَجِيء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فيجد
النَّار مؤصدة أَي: مطبقة، فَيَعُود وَيَقُول: يَا رب، إِنِّي
وجدت النَّار مؤصدة،
(6/281)
فَيَقُول: يَا جِبْرِيل عد وَفَكهَا،
وَأخرج عَبدِي من النَّار، فَيَعُود جِبْرِيل ويخرجه، وَهُوَ
مثل الْخلال (أسود) فيلقيه على سَاحل الْجنَّة حَتَّى ينْبت
الله لَهُ شعرًا وَلَحْمًا ودما ويدخله الْجنَّة.
رَوَاهُ عَن سعيد بن جُبَير، وَذكر أَن النَّار تطبق عَلَيْهِم
لييأسوا من الْخُرُوج مِنْهَا، وَالله أعلم.
(6/282)
|