تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل (1) }
تَفْسِير سُورَة الْفِيل
وَهِي مَكِّيَّة
(6/283)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك
بأصحاب الْفِيل} الْفِيل دَابَّة مَعْلُومَة، وَمعنى قَوْله:
{ألم تَرَ} أَي: ألم تعلم؟ وَقيل: ألم تَرَ آثَار مَا فعل رَبك
بأصحاب الْفِيل. وَأَصْحَاب الْفِيل هم جند من الْحَبَشَة
أَمِيرهمْ أَبْرَهَة بن الصَّباح أَبُو يكسوم وَقيل: غَيره.
غزوا الْكَعْبَة، وقصدوا تخريبها وهدمها، وَأَصَح مَا حكى فِي
سَببه أَن أَبْرَهَة كَانَ نَصْرَانِيّا بني بيعَة بِصَنْعَاء
الْيمن، وزينها بالفاخر من الثِّيَاب والجواهر، وَقَالَ: بنيت
هَذَا، يحجه الْعَرَب وأكفهم عَن حج الْكَعْبَة، وَأمر النَّاس
بذلك وأجبرهم عَلَيْهِ، فجَاء رجل من الْعَرَب - وَقيل: إِنَّه
كَانَ من بني كنَانَة - وَدخل الْبيعَة، وأحدث فِيهَا وهرب،
فَذكر ذَلِك لأبرهة فَغَضب غَضبا شَدِيدا وَحلف بالنصرانية
والمسيح ليغزون الْكَعْبَة، وليهدمنها حجرا حجرا، ثمَّ إِنَّه
غزا الْكَعْبَة مَعَ جَيش عَظِيم.
وَفِيه قصَّة طَوِيلَة، وسَاق مَعَ نَفسه فيلا يُقَال لَهُ:
مَحْمُود، وَقيل: كَانَت ثَمَانِيَة من الفيلة أكبرها هَذَا
الْفِيل، وَلَقي فِي الطَّرِيق جندا من الْعَرَب وَهَزَمَهُمْ،
وَقتل مِنْهُم حَتَّى أَتَى الطَّائِف، ثمَّ إِنَّه توجه من
الطَّائِف إِلَى مَكَّة، وَدَلِيله أَبُو رِغَال، فَمَاتَ
أَبُو رِغَال فِي الطَّرِيق فقبره هُوَ الْقَبْر الَّذِي
تَرْجمهُ الْعَرَب، وَهُوَ بَين مَكَّة والطائف، وَنزل
أَبْرَهَة والجند بالمغمس، وَسمع أهل مَكَّة بذلك، وسيدهم
يَوْمئِذٍ عبد الْمطلب بن هَاشم، وأغار الْجند على مَا وجدوا
من أَمْوَال أهل مَكَّة وإبلهم، وَأخذُوا مِائَتي بعير لعبد
الْمطلب ثمَّ إِنَّه جَاءَ عبد الْمطلب، إِلَى أَبْرَهَة فِي
طلب بعيره - وَكَانَ رجلا جسيما وسيما - فَلَمَّا رَآهُ
أَبْرَهَة أعجبه حسنه وجماله فَقَالَ: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ:
أَن ترد على إبلي.
فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل
(6/283)
{ألم يَجْعَل كيدهم فِي تضليل (2) } لَهُ:
أعجبني مَا رَأَيْت من هيئتك، ثمَّ رغبت عَنْك حِين سَمِعت
كلامك، فَقَالَ عبد الْمطلب: وَمَا الَّذِي رغب الْملك عني؟
فَقَالَ: جِئْت لأهدم شرفك وَشرف آبَائِك، فَتركت ذكره
وَسَأَلتنِي إبِلا أخذت لَك! فَقَالَ لَهُ عبد الْمطلب: أَنا
رب الْإِبِل، وَإِن للبيت رَبًّا يمنعهُ، فَأمر برد الْإِبِل
عَلَيْهِ، فَعَاد عبد الْمطلب، وَأمر أهل مَكَّة حَتَّى
تَنْصَرِف فِي رُءُوس الْجبَال، وَقَالَ: قد جَاءَكُم مَالا
قبل لكم بِهِ.
ثمَّ أَخذ عبد الْمطلب بِحَلقَة الْكَعْبَة وَقَالَ:
(يَا رب: لَا أَرْجُو لَهُم سواكا ... يَا رب، فامنع مِنْهُم
حماكا)
(إِن عَدو الْبَيْت من عاداك ... )
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه قَالَ:
(يَا رب إِن الْمَرْء يمْنَع ... حلّه فامنع حلالك)
(لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك)
والمحال: الْعقُوبَة.
(إِن كنت تاركهم وكعبتنا ... فامر مَا بدالك)
ثمَّ خرج مَعَ الْقَوْم وخلوا مَكَّة، فروى أَن الْفِيل كَانَ
إِذا أحس التَّوَجُّه قبل مَكَّة امْتنع، فَإِذا وَجه نَحْو
الْيمن أسْرع وهرول، وَحبس الله الْفِيل عَن الْبَيْت، وَهُوَ
معنى مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة
حِين بَركت نَاقَته - وَهِي الْقَصْوَاء - وَقَالَ النَّاس:
خلأت الْقَصْوَاء فَقَالَ النَّبِي: " لَا، لَكِن حَبسهَا
حَابِس الْفِيل " ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث عَلَيْهِم طيرا
خرجت من قبل الْبَحْر، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا خراطيم الطير
وأنف الْكلاب، وَقيل: كَانَت سَوْدَاء، وَقيل: حَمْرَاء،
وَمَعَ كل طير ثَلَاثَة أَحْجَار: حجران فِي كفيه، وَحجر فِي
منقاره، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ دون الحمص وَفَوق
(6/284)
{وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل (3) ترميهم
بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مَأْكُول (5) العدس، فَجَاءَت
الطير ورمتهم بالأحجار، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ
يُصِيب رَأس الْإِنْسَان، فَيخرج من دبره، فَيسْقط وَيَمُوت،
وَكَانَ إِذا وَقع على جَانب مِنْهُ خرج من الْجَانِب الآخر،
وهرب الْقَوْم وتساقطوا فِي الطَّرِيق.
وَقيل: إِن الْحجر إِذا أصَاب الْوَاحِد مِنْهُم نفط مَوْضِعه
وأصابه الجدري، فَهُوَ أول مَا رئى الجدري فِي ديار الْعَرَب،
وَالله أعلم.
وَأما أَبْرَهَة فتساقط فِي الطَّرِيق أُنْمُلَة أُنْمُلَة،
ثمَّ إِنَّه انصدع صَدره عَن قلبه وَمَات.
وعام الْفِيل هُوَ الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ النَّبِي، وَقد
قيل: إِنَّه ولد بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ، وَالصَّحِيح هُوَ
الأول، وَقَالَ أهل الْعلم: كَانَ ذَلِك إرهاصا لنبوة النَّبِي
وتأسيسا بهَا.
(6/285)
أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يَجْعَل كيدهم فِي
تضليل} أَي: أبطل مَكْرهمْ وسعيهم، وَيُقَال: قَوْله: {فِي
تضليل} أَي: ضل عَنْهُم، وفاتهم مَا قصدُوا.
(6/285)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ
طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
وَقَوله: {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل}
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جماعات فِي تَفْرِقَة، وَعند أبي
عُبَيْدَة وَالْفراء: لَا وَاحِد لَهَا، وَعند الْكسَائي:
وَاحِدهَا: أبول مثل عجاجيل وعجول.
وَيُقَال: طيرا أبابيل أَي: كَثِيرَة، وَيُقَال: أقاطيع يتبع
بَعْضهَا بَعْضًا.
(6/285)
تَرْمِيهِمْ
بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
وَقَوله: {ترميهم بحجارة من سجيل} قَالَ
ابْن عَبَّاس: السجيل بِالْفَارِسِيَّةِ (سنك) كل، وَيُقَال:
من سجيل من السَّمَاء، وَهُوَ اسْم سَمَاء الدُّنْيَا.
(6/285)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ (5)
وَقَوله: {فجعلهم كعصف مَأْكُول} العصف:
هُوَ ورق الزَّرْع، وَمَعْنَاهُ: كعصف قد أكل مَا فِيهِ،
وَقيل: كل ثمره.
وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى شبههم بالزرع الَّذِي أَكلته
الدَّوَابّ وراثته وَتَفَرَّقَتْ، وَلم يبْق من ذَلِك شَيْء
فَشبه هلاكهم بذلك، وَالله أعلم.
(6/285)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{لِإِيلَافِ قُرَيْش (1)
تَفْسِير سُورَة لِإِيلَافِ
وَهِي مَكِّيَّة
(6/286)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} روى
سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لِإِيلَافِ
قُرَيْش} قَالَ: نعمتي على قُرَيْش بإيلافهم رحْلَة الشتَاء
والصيف.
والإيلاف فِي اللُّغَة هُوَ ضد الإيجاش، وَهُوَ نَظِير
الإيناس، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى ابْتِدَاء السُّورَة
بِاللَّامِ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن
مَعْنَاهُ: اعجبوا لِإِيلَافِ قُرَيْش وتركهم الْإِيمَان بِي،
كَأَنَّهُ يذكر نعْمَته عَلَيْهِم، وَيذكر كفرانهم لنعمته بترك
الْإِيمَان، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: أَن هَذَا
مُتَّصِل فِي الْمَعْنى بالسورة الْمُتَقَدّمَة، وَكَأَنَّهُ
قَالَ: {فجعلهم كعصف مَأْكُول لِإِيلَافِ قُرَيْش} أَي: ليبقى
لَهُم مَا ألفوه من رحلتي الشتَاء والصيف.
وَذكر القتيبي فِي معنى السُّورَة: أَن الْقَوْم لم يكن لَهُم
زرع وَلَا ضرع إِلَّا الْقَلِيل، وَكَانَت مَعَايشهمْ من
التِّجَارَة وَكَانَت لَهُم رحلتان: رحْلَة فِي الصَّيف إِلَى
الشَّام، ورحلة فِي الشتَاء إِلَى الْيمن، وَقيل: غير هَذَا،
وَكَانُوا إِذا خَرجُوا من مَكَّة لَا يتَعَرَّض لَهُم أحد،
فَإِذا لَقِيَهُمْ قوم قَالُوا: نَحن أهل الله فيكفون عَنْهُم
وَلَا يحاجون.
وروى أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن من حرم الله، فَتَقول
الْعَرَب: هَؤُلَاءِ أهل الله فيكفون عَنْهُم، وَهُوَ معنى
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا
وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} فَذكر الله تَعَالَى فِي
هَذِه السُّورَة وَالسورَة الْمُتَقَدّمَة منته عَلَيْهِم فِي
دفع أَصْحَاب الْفِيل عَنْهُم، ليبقى لَهُم مَا ألفوه من
التِّجَارَة فِي رحلتي الشتَاء والصيف.
وَأما قُرَيْش: فهم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، فَكل من
كَانَ من أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة فَهُوَ
(6/286)
{إيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف (2)
فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أطْعمهُم من جوع
وآمنهم من خوف (4) } قرشي وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق هَذَا
الِاسْم، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: سموا قُريْشًا للتِّجَارَة،
وَكَانُوا أهل تِجَارَة، والقرش: الْكسْب، يُقَال: كَانَ فلَان
يقرش لِعِيَالِهِ ويقترش أَي: يكْتَسب.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سميت قُرَيْش قُريْشًا بِدَابَّة
تكون فِي الْبَحْر، يُقَال لَهَا: القرش، لَا تمر بغث وَلَا
سمين إِلَّا أَكلته وأنشدوا فِي ذَلِك:
(وقريش هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر ... وَبهَا سميت قُرَيْش
قُريْشًا)
(تَأْكُل الغث والسمين وَلَا تتْرك ... فِيهِ لذِي الجناحين
ريشا)
(هَكَذَا فِي الْبِلَاد هِيَ قُرَيْش ... يَأْكُلُون الْبِلَاد
أكلا كميشا)
(وَلَهُم آخر الزَّمَان نَبِي ... يكثر الْقَتْل فيهم
والخموشا)
(6/287)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وَقَوله: {فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت
الَّذِي أطْعمهُم من جوع} قَالَ ذَلِك لأَنهم كَانُوا يجلبون
الطَّعَام من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة وَكَانَ هُوَ الَّذِي
يسهل لَهُم ذَلِك، ويرزقهم إِيَّاهَا بتيسير أَسبَابهَا لَهُم.
وَقَوله: {وآمنهم من خوف} أَي: من خوف الْغَارة وَالْقَتْل على
مَا قُلْنَا، وَقيل: من خوف الجذام، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَفِي بعض التفاسير: أَن أول من جمع قُريْشًا على رحلتي
الشتَاء والصيف هَاشم بن عبد منَاف، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ فِي
بضائعهم باسم الْفُقَرَاء شَيْئا مَعْلُوما فَإِذا رجعُوا
أعطوهم ذَلِك تقربا إِلَى الله.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَاشم:
(عَمْرو الْعلَا هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة
مسنتون عجاف)
(الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حَتَّى يصير فقيرهم كالكاف)
(6/287)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ (1) فَذَلِك الَّذِي يدع
الْيَتِيم (2) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (3) فويل
للمصلين (4) }
تَفْسِير سُورَة أَرَأَيْت
وَهِي مَكِّيَّة
وَقيل: إِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَقيل: نصفهَا مَكِّيَّة،
وَنِصْفهَا مَدَنِيَّة، فالنصف الأول إِلَى قَوْله {فويل
للمصلين} مَكِّيَّة، وَالنّصف الْبَاقِي مَدَنِيَّة، وَالله
أعلم.
(6/288)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي يكذب
بِالدّينِ} أَي: بالجزاء، وَقيل: بِالْحِسَابِ، قَالَه
مُجَاهِد، وَالْمعْنَى: أَرَأَيْت من يكذب بِالدّينِ أمخطئ
هُوَ أم مُصِيب؟ يَعْنِي: أَنه مُخطئ فَلَا توافقه وَلَا
تتبعه.
(6/288)
فَذَلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
وَقَوله: {فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم}
وَورد فِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " من ضم يَتِيما من
بَين الْمُسلمين إِلَى نَفسه، وَجَبت لَهُ الْجنَّة ".
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَدعُ الْيَتِيم " أَي: يتْرك الْعَطف
عَلَيْهِ وَالرَّحْمَة لَهُ.
(6/288)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحض على طَعَام
الْمِسْكِين} قيل: لَا يطعم بِنَفسِهِ، وَلَا يَأْمر بِهِ
غَيره.
(6/288)
فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5)
قَوْله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم
عَن صلَاتهم ساهون} قَالَ قَتَادَة: غافلون.
وروى الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مضيعون للْوَقْت،
وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَهُوَ وَارِد عَن جمَاعَة من
التَّابِعين، وَذكروا أَن المُرَاد بالسهو هَاهُنَا هُوَ
تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا، وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ
أَن الْآيَة وَردت فِي الْمُنَافِقين.
وَمعنى قَوْله: {الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} يَعْنِي: أَنهم
إِن صلوها لم يرجوا
(6/288)
{الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون (5) الَّذين
هم يراءون (6) وَيمْنَعُونَ الماعون (7) } ثَوابًا، وَإِن
تركوها لم يخَافُوا عقَابا.
قَالَ ابْن زيد: هم المُنَافِقُونَ صلوها، وَلَيْسَت الصَّلَاة
من شَأْنهمْ.
وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هم المُنَافِقُونَ،
كَانُوا إِذا حَضَرُوا صلوها رِيَاء، وَإِذا غَابُوا تركوها.
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: هُوَ الْمُنَافِق، إِذا
رأى النَّاس صلى، وَإِذا لم ير النَّاس لم يصل.
وَقيل: ساهون أَي: لاهون، وَالْمعْنَى أَنهم يشتغلون
بِغَيْرِهِ عَنْهَا.
(6/289)
الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ (6)
وَقَوله: {الَّذين هم يراءون} قد بَينا.
(6/289)
وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ (7)
وَقَوله: {وَيمْنَعُونَ الماعون} قَالَ
عَليّ: هُوَ الزَّكَاة، حَكَاهُ مُجَاهِد عَنهُ، وَهَذَا
القَوْل محكي أَيْضا عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْعَارِية، وَسميت ماعونا: لِأَن
النَّاس يعين بَعضهم بَعْضًا.
وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَنه مثل المَاء وَالْملح والفأس
وَالْقدر والمقدحة وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -
أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي مَا الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: "
المَاء وَالْملح وَالنَّار ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات زِيَادَة: " وَالْحجر والدلو ".
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن أَبِيه فَارس، أَن
الماعون هُوَ المَاء، حَكَاهُ عَن أهل اللُّغَة، وَقد ذكره
النّحاس أَيْضا فِي كِتَابه.
وأنشدوا:
(يمج صبيرة الماعون مجا ... )
وأنشدوا فِي الماعون بِمَعْنى الزَّكَاة:
(قوم على الْإِسْلَام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا
التهليلا)
(6/289)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر (1) }
تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر
وَهِي مَكِّيَّة
روى الْمُخْتَار بن فلفل عَن أنس قَالَ: " بَينا رَسُول الله
ذَات يَوْم بَين أظهرنَا، إِذا أغفى إغْفَاءَة، ثمَّ رفع رَأسه
مُتَبَسِّمًا، فَقلت: مَا أضْحكك يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ:
أنزلت عليَّ آنِفا سُورَة " فَقَرَأَ: بِسم الله الرَّحْمَن
الرَّحِيم {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فَصلي لِرَبِّك وانحر
إِن شانئك هُوَ الأبتر} ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا
الْكَوْثَر؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم.
قَالَ: فَإِنَّهُ نهر وعدنيه رَبِّي خيرا كثيرا، هُوَ حَوْضِي
ترد عَلَيْهِ أمتِي يَوْم الْقِيَامَة، آنيته عدد نُجُوم
السَّمَاء، فيختلج العَبْد مِنْهُم، فَأَقُول: رب إِنَّه من
أمتِي، فَيَقُول: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك ".
رَوَاهُ مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن عَليّ بن مسْهر
عَن الْمُخْتَار بن فلفل.
(6/290)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أعطيناك
الْكَوْثَر} قد بَينا.
وروى همام، عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله قَالَ: "
بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا بنهر حافتاه قباب
اللُّؤْلُؤ المجوف، فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ:
هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك رَبك، فَضرب الْملك
بِيَدِهِ، فَإِذا طينه مسك أذفر ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ:
(6/290)
{فصل لِرَبِّك وانحر (2) } أخبرنَا بِهَذَا
الحَدِيث أَبُو الْحسن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن
حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة، عَن همام. .
الحَدِيث.
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن هدبة، وَذكره أَبُو عِيسَى فِي
كِتَابه بروايته عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول
الله: " بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا عرض [لي] نهر
حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ، قلت للْملك: مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا
الْكَوْثَر الَّذِي أعطاكه الله، قَالَ: ثمَّ ضرب بِيَدِهِ
إِلَى طينه فاستخرج مسكا، ثمَّ رفعت لي (سِدْرَة الْمُنْتَهى)
فَرَأَيْت عِنْدهَا نورا عَظِيما ".
قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وروى أَيْضا بطرِيق [محَارب]
بن دثار عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله: "
الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة، حافتاه من ذهب وَمَجْرَاهُ على
الدّرّ والياقوت، [و] ترتبه أطيب من الْمسك، وماؤه أحلى من
الْعَسَل، وأبيض من الثَّلج ".
قَالَ: هُوَ حَدِيث حسن.
وَفِي بعض التفاسير بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا
- أَن النَّبِي قَالَ: " من أَرَادَ أَن يسمع خرير الْكَوْثَر،
فَلْيدْخلْ أُصْبُعه فِي أُذُنه ".
وَهُوَ غَرِيب جدا.
وَفِي الْكَوْثَر قَول آخر، وَهُوَ أَنه الْخَيْر الْكثير،
فَهُوَ فوعل من الْكَثْرَة، وَقد أعْطى الله
(6/291)
{إِن شانئك هُوَ الأبتر (3) } رَسُوله
مُحَمَّدًا من الْخَيْر مَا لَا يُحْصى وَلَا يعد كَثْرَة فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ
الْقُرْآن، وَقيل: الْعلم وَالْقُرْآن.
(6/292)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (2)
وَقَوله: {فصل لِرَبِّك وانحر} أَي: صل
الصَّلَوَات الْخمس، وانحر الْبدن، وَقيل: صل بِجمع، وانحر
بمنى، قَالَه مُجَاهِد وَعَطَاء، وَعَن عَليّ - رَضِي الله
عَنهُ - أَن معنى قَوْله: {وانحر} هُوَ وضع الْيَمين على
الشمَال فِي الصَّلَاة على النَّحْر.
وَقيل: وانحر واستقبل الْقبْلَة بنحرك.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَبَا حكم هَل أَنْت عَم مجَالد ... وَسيد أهل الأبطح
المتناحر)
أَي: المتقابل.
وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن الْأَصْبَغ بن نباتة، عَن عَليّ
بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لما نزلت على
النَّبِي {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فصل لِرَبِّك وانحر}
قَالَ النَّبِي لجبريل - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَا هَذِه
النحيرة الَّتِي أَمرنِي بهَا رَبِّي؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيست
بنحيرة، وَلكنه يَأْمُرك إِذا (تحرمت) بِالصَّلَاةِ، أَن ترفع
يَديك إِذا كَبرت، وَإِذا ركعت، وَإِذا رفعت رَأسك من
الرُّكُوع، فَإِنَّهَا من صَلَاتنَا وَصَلَاة الْمَلَائِكَة
فِي السَّمَوَات السَّبع.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَن قوما كَانُوا يصلونَ
وينحرون
(6/292)
لغير الله، فَقَالَ الله تَعَالَى: {فصل
لِرَبِّك وانحر} أَي: اجْعَل صَلَاتك ونحرك لله.
(6/293)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ (3)
وَقَوله: {إِن شانئك هِيَ الأبتر} أَكثر
الْمُفَسّرين أَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل
السَّهْمِي، كَانَ إِذا ذكر لَهُ رَسُول الله قَالَ: دعوا
ذكره، فَإِنَّهُ أَبتر يَعْنِي: أَنه لَا ولد لَهُ، فَإِذا
مَاتَ انْقَطع ذكره، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، وَكَانَت قُرَيْش
تَقول لمن مَاتَ ابْنه، أَو لم يكن لَهُ ابْن: أَبتر.
فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} يَعْنِي:
مبغضك هُوَ الأبتر أَي: الَّذِي انْقَطع خَيره وَذكره فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والبتر هُوَ الْقطع.
وَقيل إِن الْآيَة فِي عقبَة بن أبي معيط وَقيل: إِن المُرَاد
بِهِ كَعْب بن الْأَشْرَف، قدم مَكَّة، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش:
مَا تَقول أَيهَا الحبر فِي هَذَا (الصنبور) ؟ أهوَ خير أم
نَحن؟ إِنَّه سبّ ألهتنا، وَفرق جَمعنَا، وَنحن أهل حرم الله
وحجيج بَيته وسدنته، فَقَالَ: بل أَنْتُم خير مِنْهُ، فَأنْزل
الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} فِيهِ.
(6/293)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ (2)
وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (3) وَلَا أَنا عَابِد مَا
عَبدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (5) لكم
دينكُمْ}
تَفْسِير سُورَة {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ}
وَهِي مَكِّيَّة
(6/294)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا
الْكَافِرُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما قَرَأَ رَسُول الله
سُورَة والنجم، وَألقى الشَّيْطَان على لِسَانه عِنْد ذكر
أصنامهم: وَإِن شفاعتهن لترتجى، فَقَالَ الْكفَّار: يَا
مُحَمَّد، نصطلح تعبد آلِهَتنَا سنة، ونعبد إلهك سنة، ونعظم
إلهك، وتعظم آلِهَتنَا، وَذكروا من هَذَا النَّوْع شَيْئا
كثيرا، فَحزن النَّبِي لمقالتهم، وَرجع إِلَى بَيته حَزينًا،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَهِي {قل يَا أَيهَا
الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ} أَي: الْيَوْم.
(6/294)
وَلَا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد}
الْيَوْم.
(6/294)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ
مَا عَبَدْتُمْ (4)
{وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} فِي
الْمُسْتَقْبل.
(6/294)
وَلَا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} فِي
الْمُسْتَقْبل.
(6/294)
لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (6)
{لكم دينكُمْ ولي دين} لكم جَزَاء
عَمَلكُمْ، ولي جَزَاء عَمَلي.
قَالُوا: وَهَذَا فِي قوم بأعيانهم، مِنْهُم الْوَلِيد بن
الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَالْعَاص بن وَائِل، وَالْأسود
بن الْمطلب، وَقد كَانَ الله أخبر أَنهم يموتون على الْكفْر.
وَقيل: إِن هَذِه السُّورَة نزلت قبل آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت
بأية السَّيْف.
وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَن قِرَاءَة هَذِه السُّورَة بَرَاءَة
من الشّرك.
روى أَبُو خَيْثَمَة، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن فَرْوَة بن
نَوْفَل، عَن أَبِيه أَنه أَتَى النَّبِي وَقَالَ: جِئْت يَا
رَسُول الله لتعلمني شَيْئا أقوله عِنْد مَنَامِي، فَقَالَ: "
إِذا أخذت مضجعك فاقرأ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} ثمَّ نم
على خاتمتها، فَإِنَّهَا بَرَاءَة من الشّرك ".
وَعَن
(6/294)
{ولي دين (6) } بَعضهم قَالَ: " كنت
أَمْشِي مَعَ النَّبِي فِي لَيْلَة ظلماء، فَسمع رجلا يقْرَأ:
{قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فَقَالَ: أما هَذَا فقد برِئ من
الشّرك، وَسمع رجلا يقْرَأ: {قل هُوَ الله أحد} فَقَالَ: أما
هَذَا فقد غفر لَهُ ".
وَفِي السُّورَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ السُّؤَال عَن معنى
التكرير؟ وَقد أجبنا، وَيُقَال: إِنَّهُم كرروا عَلَيْهِ
الْكَلَام مرّة بعد مرّة، فكرر الله تَعَالَى عَلَيْهِم
الْإِجَابَة.
وَفِي السُّورَة سُؤال آخر، وَهُوَ فِي قَوْله: {قل} كَيفَ
قُرِئت هَذِه الْكَلِمَة، وَهِي أمره بِالْقِرَاءَةِ؟
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: {قل هُوَ الله أحد} .
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {قَول يَا أَيهَا
الْكَافِرُونَ} جَمِيعه قُرْآن، وَنحن أمرنَا بِتِلَاوَة
الْقُرْآن على مَا أنزل، فَنحْن نتلو كَذَلِك.
وَفِي السُّورَة سُؤال ثَالِث وَهُوَ أَنه قَالَ: {وَلَا
أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} وَلم يقل: من أعبد؟
وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه قَالَ ذَلِك على مُوَافقَة قَوْله:
{وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} وَقد قيل: إِن " مَا "
بِمَعْنى " من " هَاهُنَا، وَالله أعلم
(6/295)
|