تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
وأصل"الغفلة" عن الشيء، تركه على وجه السهو
عنه، والنسيان له.
* * *
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه
عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أفتطمعون) يا أصحاب محمد،
أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم،
والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني
إسرائيل؟
* * *
ويعني بقوله: (أن يؤمنوا لكم) ، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم
صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:-
1326 - حُدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع في قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) ، يعني أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم،"أن يؤمنوا لكم" يقول: أفتطمعون أن يؤمن
لكم اليهود؟.
1327 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) الآية، قال: هم اليهود.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: أما"الفريق" فجمع، كالطائفة، لا واحد له من
لفظه. وهو"فعيل" من"التفرق" سمي به الجماع، كما سميت الجماعة
ب"الحزب"، من"التحزب"، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
(2/244)
أجَدّوا فلما خفت أن يتفرقوا ... فريقين،
منهم مُصعِد ومُصوِّب (1)
يعني بقوله: (منهم) ، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين
كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين
قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: (أفتطمعون أن يؤمنوا
لكم) - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم، فجعلهم منهم، إذ كانوا
عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد
مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته،
فيقول:"كان منا فلان"، (2) يعني أنه كان من أهل طريقته أو
مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: (وقد كان فريق منهم) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(75) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:
(وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما
عقلوه وهم يعلمون) . فقال بعضهم بما:-
1328 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من
بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ،
__________
(1) ديوانه: 137، وفي المطبوعة: "أخذوا" خطأ. أجد السير: انكمش
فيه وأسرع مصعد: مبتدئ في صعوده إلى نجد والحجاز. ومُصَوِّب
منحدر في رجوعه إلى العراق والشام وأشباه ذلك وبعد البيت من
تمامه. طلبتهمُ، تَطوى بي البيد جَسْرَة ... شُوَيْقَئةُ
النابين وجَناء ذِعْلب
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38، 39.
(2/245)
فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء
منهم.
1329 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
1330 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون
كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) ، قال: هي التوراة،
حرفوها.
1331 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) ، قال: التوراة التي
أنزلها عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام
فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا، إذا جاءهم
المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برِشوة
أخرجوا له ذلك الكتاب، (1) فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم
شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة:
44] .
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1332 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله
ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ، فكانوا يسمعون من
ذلك كما يسمع أهل النبوة، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم
يعلمون.
1333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:
(وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) الآية، قال: ليس قوله:
(يسمعون كلام الله) ، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم
الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
__________
(1) يعني: "ذلك الكتاب" المحرف، لا"كتاب الله" الصادق.
(2/246)
1334 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى:
يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فأسمعنا كلامه
حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا،
وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور،
فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [أن يسجدوا] فوقعوا
سجودا، (1) وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا
ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق
منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله
قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال
كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله
لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما
بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه
ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى
بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف
ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل
ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون
كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من
البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانا منه تعالى
ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما
أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى، (2) فقال لهم: كيف
تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي
تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم
ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم
يبدله ويحرفه ويجحده، فهؤلاء الذين بين
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من ابن كثير 1: 212.
(2) في المطبوعة"وإيذانا منه. . وقطع أطماعهم" بالعطف بالواو،
وليس يستقيم. وآذنه الأمر وآذنه به يذانا: أعلمه. فقوله: "قطع"
منصوب مفعول ثان للمصدر"إيذانا".
(2/347)
أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما
أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه
منكم - (1) وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد
صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه
ويكذبوا - (2) من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل
ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله:
(يسمعون كلام الله) ، يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله:
(يسمعون كلام الله) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم
وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن
كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن
كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. (3)
فإن ظن ظان [أنه] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: (يحرفونه) ، فقد
أغفل وجه الصواب في ذلك. (4) وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل:
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من
بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من
اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم
يعطه أحد غير الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من
ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء
الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
* * *
ويعني بقوله: (ثم يحرفونه) ، ثم يبدلون معناه وتأويله
ويغيرونه. وأصله من"انحراف الشيء عن جهته"، وهو ميله عنها إلى
غيرها. فكذلك قوله: (يحرفونه)
__________
(1) قوله: "وأقرب"، معطوف على قوله: "أحرى. . ".
(2) قوله: "من أوائلهم. . " متعلق بقوله آنفًا: "أحرى أن
يجحدوا. . وأقرب إلى أن يحرفوا. . ".
(3) سياق العبارة: فخصوص المحرف بأنه. . لا معنى له".
(4) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(2/248)
وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (76)
أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه،
إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على
علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال:
(يحرفونه من بعد ما عقلوه) ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله،
(وهم يعلمون) ، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك
مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على
البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم،
وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله
عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك
في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قَالُوا آمَنَّا}
قال أبو جعفر: أما قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ،
فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
- وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا
بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله،
قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك.
أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا
منهاجهم، كما:-
1335 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قوله: (وإذا لقوا
الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا
إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا:
(2/249)
آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.
1336 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين
آمنوا قالوا آمنا) ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
* * *
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر * وهو ما:-
1337 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد
بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، أي:
بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة.
1338 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية، قال: هؤلاء
ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (76) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) أي: إذا
خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم،
فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه
غيرهم -"قالوا" يعني: قال بعضهم لبعض -:"أتحدثونهم بما فتح
الله عليكم".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (بما فتح الله عليكم) .
فقال بعضهم بما:-
1339 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
(2/250)
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن
عباس: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم) ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ
بهم ونضحك.
* * *
وقال آخرون بما:-
1340 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد
بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، أي: بصاحبكم رسول الله،
ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا
العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. (1)
فأنزل الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا
بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به
عند ربكم) ، أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له
الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر
ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: (أو لا
يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) .
1341 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية في قوله: (أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم) ، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى
الله عليه وسلم.
1342 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد،
عن قتادة: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، أي: بما من
الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فإنكم
إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، (أفلا تعقلون) .
__________
(1) قوله: "فكان منهم"، أي كان منهم النبي الذي كانوا يستفتحون
به على مشركي العرب ويستنصرون، ويرجون أن يكون منهم، فكان من
العرب. وسيأتي خبر استفتاحهم بعد في تفسير الآية: 89 من سورة
البقرة في هذا الجزء.
(2/251)
1343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (أتحدثونهم بما فتح
الله عليكم) ، ليحتجوا به عليكم.
1344 - حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال،
قال قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، يعني: بما أنزل
الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1345 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند
ربكم) قال: قول يهود بني قريظة، (1) حين سبهم النبي صلى الله
عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدثك؟ هذا
حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا، فقال: يا إخوة القردة
والخنازير. (2)
1346 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل
إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه
وسلم فقال:"اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير".
1347 - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:
(أتحدثونهم بما فتح
__________
(1) في المطبوعة: "يهود من قريظة"، ليست بشيء.
(2) من أول قوله: "قالوا من حدثك؟ . . " إلى آخر العبارة،
تفسير للقصة قبله. وقوله"فقال: يا إخوة القردة والخنازير" من
كلام رسول الله صلى الله عليهم وسلم، لا كلام علي رضي الله
عنه. وسيظهر ذلك في الخبرين بعده.
(2/252)
الله عليكم) ، قال: قام النبي صلى الله
عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال:"يا إخوان القردة، ويا
إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت. فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟
ما خرج هذا إلا منكم! (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ! بما
حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن
مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه
وسلم. (1)
* * *
وقال آخرون بما:-
1348 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) - من العذاب
-"ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا،
فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم
لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن
أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم؟
* * *
وقال آخرون بما:-
1349 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالو أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء
قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال:
وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم
تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا
تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن
علينا قصبة المدينة إلا مؤمن (2) . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر
والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا
يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر (3) وقرأ قول
الله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا
بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72]
. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر
رسول الله صلى الله
__________
(1) الأثر: 1347 - في ابن كثير 1: 214 وفيه: "من أخبر بهذا
الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم".
(2) قصبة القرية: وسطها وجوفها. وقصبة البلاد: مدينتها، لأنها
تكون في أوسطها.
(3) البكر جمع بكرة (بضم فسكون) : وهي الغدوة، أول النهار.
(2/253)
عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى
الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم، قطع ذلك
عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال
الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني
الرؤساء]- قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"، الآية. (1)
* * *
وأصل"الفتح" في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال
منه:"اللهم افتح بيني وبين فلان"، أي احكم بيني وبينه، ومنه
قول الشاعر:
ألا أبلغ بني عُصْمٍ رسولا ... بأني عن فُتاحَتكم غني (2)
قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي:"الفتاح" (3) ومنه قول الله
عز وجل: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 89] أي
احكم بيننا وبينهم.
* * *
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: (قالوا
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) إنما هو
أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل
ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه
وسلم، وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم
القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على
المكذبين من اليهود
__________
(1) الأثر: 1349 في ابن كثير 1: 213 - 214، والزيادة بين
القوسين منه.
(2) ينسب للأسعر الجعفي، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر
تعليق الراجكوتي في سمط اللآلئ: 927.
(3) أمالي القالي 2: 281 واللسان (فتح) (رسل) ، وغيرهما، وبنو
عصم، هم رهط عمرو ابن معد يكرب الزبيدي. وقد اختلفت روايات
البيت اختلافا شديدا، وليس هذا مكان تحقيقها، لطولها.
(2/254)
المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [من أحكامه
وقضائه] . (1)
فإذ كان كذلك. (2) فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من
قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى
الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول
هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو
أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم،
فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من
قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان
قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم -فيما
بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين
عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد
صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به، وكان فتح الله الذي
فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن
يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به،
مع علمهم بنبوته.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله: (أفلا تعقلون) ، خبر من الله تعالى ذكره
- عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم:
أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند
ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم
مثل ما قلتم، ولا تخبروهم
__________
(1) ما بين القوسين، زيادة استظهرتها من سابق بيانه، ليستقيم
الكلام.
(2) في المطبوعة: "فإن كان كذلك"، والزيادة ماضية على نهج أبي
جعفر.
(2/255)
بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل
ثناؤه: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) .
* * *
(2/256)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلا
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ (77) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أو لا يعلمون أن الله
يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، أو لا يعلم - هؤلاء اللائمون من
اليهود إخوانهم من أهل ملتهم، على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا
قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه، القائلون لهم: أتحدثونهم بما
فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم - أن الله عالم بما
يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم = من كفرهم، وتلاومهم
بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من
الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قيلهم لهم: آمنا، ونهي
بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم،
وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم ونعته ومبعثه = وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد صلى الله عليه
وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله
ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:-
1350 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) ، من كفرهم وتكذيبهم
محمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلى بعض، (وما يعلنون)
إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليرضوهم
بذلك.
1351 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
(2/256)
وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
الربيع، عن أبي العالية: (أو لا يعلمون أن
الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، يعني ما أسروا من كفرهم
بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا
عندهم، (وما يعلنون) ، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين:
آمنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ومنهم أميون) ، ومن هؤلاء
-اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فقال لهم: أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من
بعد ما عقلوه، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:-
1352 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (ومنهم أميون) ، يعني: من اليهود.
1353 - وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع مثله.
1354 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون) ، قال: أناس من يهود.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بـ "الأميين"، الذين لا يكتبون ولا يقرءون.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا
نحسب" (1) يقال منه:"رجل أمي بين الأمية". (2) كما:-
1356 - حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
__________
(1) الحديث: 1355 - هو حديث صحيح. ورواه البخاري 4: 108 - 109
(من الفتح) ، ورواه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي، كما في
الجامع الصغير للسيوطي، رقم: 2521.
(2) كان في المطبوعة: "أي بين الأمية"، فحذفت"أي"، فليس ذلك
مما يقال.
(2/257)
المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب) ، قال: منهم من لا يحسن أن
يكتب. (1)
1357 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (ومنهم أميون) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود.
* * *
وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول، وهو ما:-
1358 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ومنهم أميون) ،
قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله
الله، فكتبوا كتابا بأيديهم،
__________
(1) قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة
معرفة الكتابة، كما يسبق إلى الوهم. وقديما قام بعض أساتذتنا
يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يعرف الكتابة،
ولكنة لا يحسنها، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به
من أعاجم المستشرقين - وهو ما جاء في تاريخ الطبري 3: 80 في
شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح. روى
الطبري عن البراء بن عازب قال:".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا
ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله
ما منعناك، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال: أنا رسول الله،
وأنا محمد بن عبد الله. قال لعلي: امح"رسول الله". قال: لا
والله لا أمحاك أبدا. فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب
مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد".
فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" -
محمد"، هو رسول الله صلى الله عليه. وليس كذلك بل هو: علي بن
أبي طالب الكاتب. وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن
يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه.
وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا 3:
184:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه
رسول الله صلى عليه وسلم بيده".وأخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"،
فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة، حتى لا ينفي
عنه العلم، وقد جاء في تفسير الطبري 21: 6 في تفسير قوله
تعالى:"أحسن كل شيء خلقه"، ما نصه:"معنى ذلك: أعلم كل شيء
خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما
يحتاجون إليه. وأنه قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا
يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع
اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو
تكرمه للذي تخبر عنه. فمعنى قوله:"ليس يحسن يكتب"، أي ليس يعرف
يكتب. وقد أطال السهيلي في الروض الأنف 1: 230 بكلام ليس يغني
في تفسير هذا الكلمة.
(2/258)
ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند
الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين،
لجحودهم كتب الله ورسله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام
العرب المستفيض بينهم، وذلك أن"الأمي" عند العرب: هو الذي لا
يكتب.
* * *
قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي"أمي"؛ نسبة له بأنه لا يكتب
إلى"أمه"، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا
يكتب ولا يخط من الرجال -إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه،
كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:"إنا أمة أمية
لا نكتب ولا نحسب"، وكما قال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
[الجمعة: 2] . (2) فإذا كان معنى"الأمي" في كلام العرب ما
وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى
قوله: (ومنهم أميون) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا
أَمَانِيَّ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا يعلمون الكتاب) ، لا يعلمون ما
في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده
وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم، كالذي:-
1359 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 215، وساق الخبر وكلام الطبري،
ثم قال: "قلت: في صحة هذا عن ابن عباس - بهذا الإسناد - نظر،
والله أعلم".
(2) اقتصر في المطبوعة على قوله: "رسولا منهم"، وأتممت الآية،
لأنه يستدل بها على أنه جاء يعلم الأمين"الكتاب".
(2/259)
معمر، عن قتادة في قوله، (ومنهم أميون لا
يعلمون الكتاب إلا أماني) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون
شيئا.
1360 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (لا يعلمون الكتاب) ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا
يدرون ما فيه.
1361 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (لا يعلمون الكتاب) لا يدرون ما فيه.
1362 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لا
يعلمون الكتاب) قال: لا يدرون بما فيه.
1363 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا
يعلمون الكتاب) ، لا يعلمون شيئا، لا يقرءون التوراة. ليست
تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن
يقرأ. (1)
1364 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله، (لا
يعلمون الكتاب) ، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عني بـ "الكتاب": التوراة، ولذلك أدخلت
فيه "الألف واللام" لأنه قصد به كتاب معروف بعينه.
* * *
ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي
عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من
أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
[واختلف أهل التأويل في تأويل قوله] (2) (إلا أماني) فقال
بعضهم بما:-
__________
(1) الأثر: 1363 - كان في المطبوعة: "حدثنا بشر قال أخبرنا ابن
وهب. . "، وهو سهو من الناسخ، والإسناد كثير الدوران في
التفسير، أقربه رقم 1357.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام. وكأن الناسخ سها
فأغفلها.
(2/260)
1365 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان
بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن
عباس: (إلا أماني) ، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.
1366 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يعلمون الكتاب إلا
أماني) : إلا كذبا.
1367 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون بما:-
1368 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (إلا أماني) ، يقول: يتمنون على الله ما ليس
لهم.
1369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة: (إلا أماني) ، يقول: يتمنون على الله
الباطل وما ليس لهم.
1370 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، [عن معاوية بن صالح]
، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (لا يعلمون الكتاب
إلا أماني) ، يقول: إلا أحاديث.
1371 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)
، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا
يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب.
أماني يتمنونها.
1372 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (إلا أماني) ، يتمنون على الله ما ليس
لهم.
1373 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (إلا أماني) ، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب.
وليسوا منهم.
* * *
(2/261)
قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل
قوله: (إلا أماني) ، بالحق، وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن
عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن"الأميين" الذين
وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من
الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب
ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا. (1)
* * *
و"التمني" في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال
منه:"تمنيت كذا"، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن
عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما تغنيت ولا تمنيت"، (2) يعني
بقوله:"ما تمنيت"، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.
* * *
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله:
(إلا أماني) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: (وإن هم
إلا يظنون) . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من
الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم"يتلونه"،
لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه:"يشتهونه". لأن الذي
يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن
لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون
شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم
- الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم من اليهود -فيما بلغنا-
__________
(1) في المطبوعة: "وأنهم لا يفقهون" بزيادة الواو، وهو خطأ لا
يستقيم، والصواب ما أثبته من ابن كثير 1: 216.
(2) في الفائق 1: 163 عن عثمان رضي الله عنه: "قد اختبأت عند
الله خصالا: إني لرابع الإسلام، وزوجني رسول الله صلى الله
عليه وسلم ابنته ثم ابنته، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست
بها ذكرى، وما تغنيت ولا تمنيت، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا
إسلام". وروى الطبري في تاريخه في خبر مقتله رضي الله عنه 5:
130، أن الرجل الذي انتدب لقتله دخل عليه فقال له: "اخلعها
وندعك. فقال: ويحك! ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا
تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز
وجل".
(2/262)
شاكين في التوراة أنها من عند الله.
وكذلك"المتمني" الذي هو في معنى"المشتهي" غير جائز أن يقال: هو
ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد
عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم
والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في
حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن
يقال: هو يظن تمنيه. (1)
* * *
وإنما قيل: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ، والأماني من غير
نوع"الكتاب"، كما قال ربنا جل ثناؤه: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157] و"الظن"
من"العلم" بمعزل. وكما قال: (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى)
[الليل: 19-20] ، وكما قال الشاعر: (2)
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكُلَى وضرب الرقاب (3)
وكما قال نابغة بني ذبيان:
حلفت يمينا غير ذي مَثْنَوية، ... ولا علم إلا حسنَ ظن بصاحب
(4)
__________
(1) في المطبوعة: "غير جائز"، والصواب إثبات الفاء.
(2) هو عمرو بن الأيهم التغلبي النصراني، وقيل اسمه: عمير،
وقيل هو أعشى تغلب. روي عن الأخطل أنه قيل له وهو يموت: على من
تخلف قومك؟ قال: على العميرين. يعني القطامي عمير ابن أشيم،
وعمير بن الأهتم.
(3) سيبويه 1: 365، والوحشيات رقم: 55، ومعجم الشعراء: 242،
وحماسة البحتري: 32، وانظر تحقيق الراجكوتي في سمط اللآلئ:
184. والشعر يقوله في هجاء قيس عيلان يقول فيها: قاتل الله قيس
عيلان طرا ... ما لهم دون غدرة من حجاب
ثم إن سيبويه أنشد البيت برفع"غير"، على البدل من"عتاب"،
اتساعا ومجازا.
(4) ديوانه: 42، وسيبويه 1: 365، وغيرهما، وروايتهم جميعا:
"بصاحب"، وكان في الأصل المطبوع"بغائب"، وأظن أن ما كان في
الطبري خطأ من النساخ، لأنه لا يتفق مع الشعر. فالنابغة يمدح
بهذه الأبيات عمرو بن الحارث الأعرج الغساني، فيقول قبله: على
لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده، ليست، بذات عقارب
حلفت يمينا. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
لئن كان للقبرين: قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمسن بالجيش دار المحارب
وقوله: "مثنوية" أي استثناء. فهو يقول لعمرو: حلفت يمينا لئن
كان من هو - من ولد هؤلاء الملوك من آبائه، الذين عدد قبورهم
ومآثرهم - ليغزون من حاربه في عقر داره وليهزمنه، ولم أقل هذا
عن علم إلا ما عندي في صاحبي من حسن الظن. فرواية الطبري لا
تستقيم، إن صحت عنه.
(2/263)
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب.
(1)
ويخرجُ بـ "إلا" ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته، وإن كان
كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض
أهل العربية"استثناء منقطعا"، لانقطاع الكلام الذي يأتي
بعد"إلا" عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع
حسن أن يوضع فيه مكان"إلا""لكن"؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى
الثاني عن معنى الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: (ومنهم أميون لا
يعلمون الكتاب إلا أماني) ثم أردت وضع "لكن" مكان "إلا" وحذف
"إلا"، وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه"إلا"؟ وذلك إذا
قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم
يتمنون. وكذلك قوله: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) ، لكن
اتباع الظن، بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع
من الكلام على ما وصفنا.
* * *
وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: (2) (إلا أماني) مخففة. ومن
خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم"المفتاح""مفاتح"،
و"القرقور"،"قراقر"، (3) وأن
__________
(1) انظر سيبويه 1: 363 - 366"هذا باب يختار فيه النصب، لأن
الآخر ليس من نوع الأول". ثم الباب الذي يليه: "هذا باب ما لا
يكون إلا على معنى: ولكن".
(2) في المطبوعة: "بعض القراء" و"لإجماع القراء"، ورددته إلى
ما جرى عليه الطبري آنفًا.
(3) انظر معاني القرآن للفراء: 1: 49.
(2/264)
ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية -
أعني من"الأماني" - كما جمعوا"الأثفية""أثافي" مخففة، كما قال
زهير بن أبي سلمى:
أثافيَ سُفْعا في مُعَرَّسِ مِرْجَل ... ونُؤْيا كجِذم الحوض
لم يَتَثَلَّم (1)
وأما من ثقل: (أماني) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو
جمعهم"المفتاح مفاتيح، والقرقور قراقير، والزنبور زنابير"،
فاجتمعت ياء"فعاليل" ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما
في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة.
* * *
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد
ياء"الأماني"، لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على
القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته -
وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. (2) وكفى
دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، (3) إجماعها على تخطئته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78)
}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون) ، وما
هم، كما قال جل ثناؤه: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ
إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم: 11] ، يعني بذلك: ما نحن
إلا بشر مثلكم.
* * *
ومعنى قوله: (إلا يظنون) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته
وصحته. و"الظن" - في هذا الموضع- الشك.
__________
(1) ديوانه: 7 المرجل: قدر يطبخ فيها، ومعرس المرجل: حيث يقام
فيه، من التعريس: وهو النزول والإقامة، وسفع جمع أسفع:
والسفعة: سواد تخالطه حمرة، من أثر النار ودخانها. والنؤي: ما
يقام من الحجارة حول الخباء حتى لا يدخله ماء المطر. وجذم
الحوض: حرفه وأصله. يعني: النؤي قد ذهب أعلاه وبقى أصله لم
يتحطم، كبقايا الحوض. يقول: عرفت الدار بهذه الآثار، قبله:
"فلأيا عرفت الدار بعد توهم"، "ونصب"أثافي" بقوله: "توهم".
(2) سياق العبارة: لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة. . وعلى
شذوذ القارئ بتخفيفها" على العطف.
(3) في المطبوعة: "وكفى خطأ على قارئ ذلك"، وهو ليس بكلام
صحيح، والصواب ما أثبته، استظهار من عبارة الطبري، فيما سلف من
أشباه ذلك.
(2/265)
فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا
يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله
الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل.
* * *
وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم
محقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم
أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل
ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله
مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون ما هم فيه شاكون،
وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم
عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا
منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وإن هم
إلا يظنون) ، قال فيه المتأولون من السلف:
1374 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن هم إلا يظنون) إلا
يكذبون.
1375 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1376 - حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد
مثله.
1377 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) ، أي لا
يعلمون ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن.
1378 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وإن هم إلا يظنون) ، قال: يظنون الظنون بغير الحق.
1379 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
(2/266)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الربيع، عن أبي العالية قال: يظنون الظنون
بغير الحق.
1380 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فويل) . فقال
بعضهم بما:-
1381 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس (فويل) ، يقول:
فالعذاب عليهم. (1)
* * *
وقال آخرون بما:-
1382 - حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا
سفيان، عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما
يسيل من صديد في أصل جهنم. (2)
1383 - حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان،
عن زياد بن فياض، عن أبي عياض في قوله: (فويل) ، قال: صهريج في
أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فويل لهم". والصواب حذف"لهم"، ليست من الآية
هنا.
(2) الخبر: 1382 - سفيان: هو الثوري. زياد بن فياض الخزاعي:
ثقة، مات سنة 129. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1
/334، وابن أبي حاتم 1 / 2 /542. أبو عياض: هو عمرو بن الأسود
العنسي، تابعي ثقة، كان من عباد أهل الشأم وزهادهم. مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 220 - 221.
(3) الخبر: 1383 - بشر بن أبان الحطاب، شيخ الطبري: لم أجد له
ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدى من المراجع.
(2/267)
1384 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا
زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض، عن أبي
عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم. (1)
1385 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: (ويل) ،
ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
* * *
وقال آخرون بما:-
1386 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن
صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة بن عبد
الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:"الويل جبل في النار". (2)
__________
(1) الخبر: 1384 - علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: ثقة، مات
سنة 261. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /189. وزيد بن
أبي الزرقاء الموصلي، نزيل الرملة: ثقة، مات سنة 194. مترجم في
التهذيب، والكبير 2 /1 /361، وابن أبي حاتم 1 / 2/ 575. سفيان
هو الثوري. "عن زياد بن فياض"، كالإسنادين اللذين قبله. وفي
المطبوعة: "سفيان بن زياد بن فياض"، وهو تحريف.
(2) الحديث: 1386 - هذا الإسناد مشكل. ووقع فيه هنا خطأ. من
الناسخ أو الطابع، صححناه من الرواية الآتية: 1395 فقد كان
فيه"حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر"؛ وصوابه"عن عبد
الحميد بن جعفر"، كما هو بديهي.
أما ما أشكل علينا فيه: فراويان لم نجد لهما ذكرا ولا ترجمة.
أحدهما:"إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري". وسيأتي في
الإسناد الآخر"إبراهيم بن عبد السلام" فقط. ولم أستطع أن أعرف
من هو؟ وقد نقل ابن كثير 1: 217 الحديث الآتي: 1395، وأكمل نسب
هذا الشيخ، ولكنه وقع فيه هكذا "إبراهيم بن عبد السلام، حدثنا
صالح القشيري"! وأنا لست على ثقة من دقة التصحيح في طبعة تفسير
ابن كثير، وأرى أن ما نسخة الطبري أقرب إلى الصحة.
الراوي الآخر:"على بن جرير". وقد أتعبنى أن أعرف من هو؟ مع
البحث في كل المراجع، وتقليبه على كل الاحتمالات.
أما عبد الحميد بن جعفر: فإنه الأنصاري الأوسى المدني، وهو
ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما، مات سنة 153، مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /10. و"كنانة العدوي":هو كنافة
ابن نعيم، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4
/ 1 /236، وابن أبي حاتم 3 / 2 /169. ولكني أخشى أن لا يكون
أدرك عثمان بن عفان، فإنهم لم يذكروا له رواية إلا عن أبي برزة
الأسلمي وقصيبة بن المخارق، وهما متأخران كثيرا عن عثمان.
وأيا ما كان، فهذا الحديث لا أظنه مما يقوم إسناده. وهو مختصر
من الحديث الآتي: 1395. والحافظ ابن كثير حين ذكره عن الطبري،
وصفه بأنه"غريب جدا". وقد ذكره السيوطي أيضًا 1: 82، ولم
ينسباه لغير الطبري. فالله أعلم.
(2/268)
1387 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، حدثني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي
سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ويل" واد في جهنم،
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره". (1)
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في
تأويل (ويل) -: فالعذاب = الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل
الجحيم = لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا
من عند الله.
* * *
__________
(1) الحديث: 1387 - إسناده صحيح. عمرو بن الحارث بن يعقوب
الأنصاري المصري: ثقة حافظ متقن، مترجم في التهذيب، وابن سعد 7
/ 2 / 203 وابن أبي حاتم 3 / 1 / 225. دراج، بفتح الدال وتشديد
الراء: هو ابن سمعان، أبو السمح، المصري القاص، وهو ثقة، فيه
خلاف كثير. والراجح عندنا أنه ثقة، كما بينا ذلك في شرح
المسند: 6634، وفي تعليقنا على تهذيب السنن: 2388. أبو الهيثم:
هو سليمان بن عمرو العتواري المصري، كان يتيما لأبي سعيد
الخدري، وكان في حجره. وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب،
والكبير للبخاري 2 / 2 / 28 - 29، وابن أبي حاتم 2 /1 / 131 -
132.
والحديث رواه ابن أبي حاتم - كما نقل عنه ابن كثير 1: 217 - عن
يونس بن عبد الأعلى، شيخ الطبري هنا، بهذا الإسناد.
ورواه الحاكم في المستدرك 4: 596، من طريق بحر بن نصر. عن ابن
وهب، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. وقال: "هذا حديث صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه أحمد في المسند: 11735 (ج 3 ص 75 حلبي) ، عن حسن بن
موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به، بزيادة في آخره. وقال ابن
كثير - عقب رواية ابن أبي حاتم: "ورواه الترمذي عن عبد بن
حميد، عن الحسن بن موسى. . وقال هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا
من حديث ابن لهيعة. قلت [القائل ابن كثير] : لم ينفرد به ابن
لهيعة كما ترى. ولكن الآفة ممن بعده! وهذا الحديث بهذا الإسناد
مرفوعا - منكر"!
أقول: وابن كثير يريد بذلك جرح دراج أبي السمح، وجعله علة
الحديث. والصحيح ما ذهبنا إليه. وقد رواه ابن حبان في صحيحه
أيضًا. كما في الدر المنثور 1: 82.
(2/269)
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني
إسرائيل، وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما
أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم باعوه من قوم
لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله -
لطلب عرض من الدنيا خسيس، فقال الله لهم: (فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ، كما:-
1388 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من
عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) ، قال: كان ناس من اليهود
كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند
الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا.
1389 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا
بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:
الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله
الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من
عند الله"ليشتروا به ثمنا قليلا". قال: عرضا من عرض الدنيا.
1390 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) ، قال: هؤلاء الذين عرفوا
أنه من عند الله، يحرفونه.
1391 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: ثم يحرفونه.
(2/270)
1392 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد،
عن قتادة: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) الآية، وهم
اليهود.
1393 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) ، قال: كان ناس من بني
إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس، فقالوا: هذا من
عند الله، وما هو من عند الله. (1)
1394 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) ،
قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله
عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا،
فقال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
1395 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد
السلام قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد
الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله
عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ، الويل: جبل في النار، وهو الذي
أنزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون،
ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من
التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: (فويل
لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) . (2)
1396 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن
أبي
__________
(1) يقال فلان يستأكل الضعفاء: يأخذ أموالهم ويأكلها. أما
قوله: "ليتأكلوا"، فلم أجد في المعاجم"يتأكل"، فإن صح نص
الطبري، وإلا فهي عربية معرقة، صح أو لم يصح.
(2) الحديث: 1395 - مضى الكلام فيه مفصلا: 1386.
(2/271)
أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم،
عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال
لانماعت من شدة حره. (1)
* * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: (2) (فويل للذين
يكتبون الكتاب بأيديهم) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى
احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء -
القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب
بأيديهم؟
قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد، فإنه قد
يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: كتب
فلان إلى فلان بكذا"، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف
إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب.
فأعلم ربنا بقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) عباده
المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله
بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه
من عند الله وفي كتاب الله، (3) تَكَذُّبا على الله وافتراء
عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: (يكتبون الكتاب بأيديهم) ، أن يكون
ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير
قول القائل:"باعني فلان عينُه كذا وكذا، فاشترى فلان نفسه
كذا"، يراد بإدخال"النفس والعين" في ذلك، نفي اللبس عن سامعه،
أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره، (4)
ويوجب حقيقة الفعل للمخبر
__________
(1) سيرت: أدخلت ودفعت لتسير. وانماع الملح في الماء: ذاب. وفي
اللسان روى تفسير عطاء، وفيه: "لماعت"، أي ذابت وسالت.
(2) في المطبوعة: "فما وجه فويل للذين. . "، كأنه سقط حرف من
ناسخ أو طابع.
(3) يقال: نحل فلان فلانا شعرا: نسبه إليه باطلا. وكره الطبري
أن يقول ما لا يجوز لأحد في ذكر ربه سبحانه وتعالى، فانتهج
طريقا في أساليب العربية، فقال: "فنحله إلى أنه من عند الله"
أي نسبه باطلا إلى أنه من عند الله. ولم يعد الفعل إلى
مفعوليه.
(4) كان في المطبوعة: "أن يكون المتولى بيع ذلك وشراءه، غير
الموصوف به بأمره" وهو كلام غير واضح ولا مفهوم، فآثرت أن
أصححه ما استطعت.
(2/272)
عنه، فكذلك قوله: (فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فويل لهم مما كتبت
أيديهم) ، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في
أسفل جهنم - لهم، يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره،
من يهود بني إسرائيل محرفا، ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء
عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.
* * *
وقوله: (مما كتبت أيديهم) ، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك،
وويل لهم أيضا (مما يكسبون) ، يعني: مما يعملون من الخطايا،
ويجترحون من الآثام، ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه
بأيديهم، بخلاف ما أنزل الله، ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن
باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:-
1397 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (وويل لهم مما يكسبون) ، يعني: من
الخطيئة.
1398 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فويل لهم) ،
يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك
الكذب، (وويل لهم مما يكسبون) ، يقول: مما يأكلون به من السفلة
وغيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الكسب": العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه
لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل، كما قال لبيد بن
ربيعة:
(2/273)
وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(80)
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا
يُمَنُّ طعامُها (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وقالوا) ، اليهود، يقول: وقالت
اليهود: (لن تمسنا النار) ، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن
ندخلها،"إلا أياما معدودة". وإنما قيل"معدودة" وإن لم يكن
مبينا عددها في التنزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم
عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك
ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها"معدودة" لما وصفنا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها
اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك * فقال بعضهم بما:-
1399 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا
النار إلا أياما معدودة) ، قال ذلك أعداء الله اليهود، قالوا:
لن يدخلنا الله النار إلا
__________
(1) من معلقته النبيلة. واللام في قوله"لمعفر"، ترده إلى البيت
قبله: خنساء ضيعت الفَرِيرَ، فلم يَرِم ... عُرض الشقائق طوفها
وبُغَامها
والخنساء: البقرة الوحشية، والفرير: ولدها. والشقائق: أرض
غليظة بين رملتين، أودعت هناك فيه ولدها. وطوفها طوافها حائرة.
بغامها: صوتها صائحة باكية. ظلت تطوف وتنادي
ولدها.وقوله:"لمعفر"، أي طوفها وبغامها من أجل"معفر". والمعفر:
الذي ألقي في العفر، وهو التراب، صادت ولدها الذئاب. قهد: هو
ولد البقر، لطيف الجسم أبيض اللون. والشلو: العضو من اللحم، أو
الجسد كله. وغبس: غبر، وهي الذئاب. لا يمن طعامها: تكسب طعامها
بنفسها، فلا يمن عليها أحد.
(2/274)
تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل:
أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب
والقسم.
1400 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة) ، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
1401 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قال: قالت
اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا
أكلت النار خطايانا واستنقتنا، (1) نادى مناد: أخرجوا كل مختون
من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون
منا في النار أحدا إلا أخرجوه.
1402 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا
في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم
الله.
1403 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدد
الأيام التي عبدنا فيها العجل.
1404 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في
التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن
ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس
يقول: إن الجحيم سقر، وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله،
__________
(1) نقيت الثوب (بتشديد القاف) وأنقيته نقاء فهو نقي: نظيف.
و"استنقيته" ليست في المعاجم، ولكنها صحيحة البناء والمعنى.
(2/275)
أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم
أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل
الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب
جهنم وتهلك. (1) فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)
، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم،
ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام
المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا
أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في
الصَّعود في جهنم يرهقون. (2)
1405 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة) ، إلا أربعين ليلة.
1406 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر،
عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة،
وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم (3) "بل أنتم فيها
خالدون، لا يخلفكم فيها أحد. فأنزل الله جل ثناؤه: (وقالوا لن
تمسنا النار إلا أياما معدودة) .
1407 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: اجتمعت
يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: (لن تمسنا
النار إلا أياما معدودة) ،
__________
(1) خلا يخلو: مضى وذهب وانقضى.
(2) الصعود: مشقة العذاب، ولكنه أراد هنا ما قالوا: جبل في
جهنم من جمرة واحدة، يكلف الكافر ارتقاءه، ويضرب بالمقامع،
فكلما وضع عليه رجله ذابت إلى أسفل دركة، ثم تعود مكانها
صحيحة، والله أعلم.
(3) قال بيده: أشار. وقد مضى مثل ذلك مرارا.
(2/276)
- وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو
يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبتم، بل أنتم
فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله
أبدا". (1)
1408 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد، عن
أبي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة) ، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم
القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.
1409 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"أنشدكم
بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، مَن
أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب
عليهم غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا
فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا
نخلفكم فيها أبدا". فنزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله
عليه وسلم وتكذيبا لهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا) إلى قوله: (هم فيها خالدون) .
(2)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1410 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت يهود
يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس
يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام
الآخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل الله في ذلك من
__________
(1) الحديثان: 1406، 1407 - هما حديث واحد بإسنادين. ونسبه
السيوطي أيضًا 1: 84، لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي
حاتم. وهو حديث مرسل، لا تقوم به حجة.
(2) الحديث: 1409 - هو حديث مرسل أيضًا.
(2/277)
قولهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة) الآية.
1411 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال،
حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن
عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود
تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في
النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من
أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله
عز وجل في ذلك من قولهم: (لن تمسنا النار) الآية.
1412 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قالوا لن تمسنا النار
إلا أياما معدودة) ، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف
سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
1413 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول:
إنما الدنيا، وسائر الحديث مثله.
1414 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة
يوما. يهود تقوله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ
اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) }
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: (لن تمسنا
النار إلا أياما
(2/278)
معدودة) - على ما قد بينا من تأويل ذلك -
قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر
اليهود: (أتخذتم عند الله عهدا) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من
الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده، أم
تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-
1415 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل أتخذتم عند الله عهدا) أي: موثقا
من الله بذلك أنه كما تقولون.
1416 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1417 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة
الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: (أتخذتم عند الله
عهدا) ، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف
الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا
تعلمون؟
1418 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما قالت
اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحم، قل"أتخذتم عند الله
عهدا"، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا
الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها،
وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول:
لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا، ثم متم على
ذلك، لكان لكم ذخرا عندي، ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.
1419 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط
عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله عز وجل: (قل
أتخذتم
(2/279)
بَلَى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) - وقال
في مكان آخر: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ) . [آل عمران: 24] ، ثم أخبر الخبر فقال: (بلى من
كسب سيئة) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد
وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: (قل أتخذتم عند الله
عهدا) . لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به
وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به،
الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به:
أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار،
فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه، فمتفق
المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}
قال أبو جعفر: وقوله: (بلى من كسب سيئة) تكذيب من الله
القائلين من اليهود: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وإخبار
منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه،
فمخلده في النار، (1) فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به
وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده * كما:-
1420 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة،
عن ابن عباس: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) أي: من عمل
مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من
حسنة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *
قال أبو جعفر: وأما (بلى) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله
جحد، كما
__________
(1) في المطبوعة: "أنه يعذب. . فمخلد في النار"، والصواب ما
أثبته.
(2/280)
"نعم" إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه.
وأصلها"بل" التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك:"ما قام عمرو
بل زيد". فزيد فيها"الياء" ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت"بل" لا
يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون -
أعني"بلى" - رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد
الجحد، فدلت"الياء" منها على معنى الإقرار والإنعام. (1) ودل
لفظ"بل" عن الرجوع عن الجحد. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما"السيئة" التي ذكر الله في هذا المكان،
فإنها الشرك بالله * كما:-
1421 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان
قال، حدثني عاصم، عن أبي وائل: (بلى من كسب سيئة) ، قال: الشرك
بالله.
1422 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بلى من كسب سيئة) شركا.
1423 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1424 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، قوله: (بلى من كسب سيئة) ، قال: أما السيئة
فالشرك.
1425 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
1426 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الإنعام: التصديق. يقال: أنعم: أجاب بقوله: نعم. وهو
تصديق.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 52 - 53، وقد عد الطبري الحرف
الآخر من"بلى""ياء"، وعدها الفراء"ألفا".
(2/281)
السدي: (بلى من كسب سيئة) ، أما السيئة،
فهي الذنوب التي وعد عليها النار.
1427 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قلت لعطاء: (بلى من كسب سيئة) ، قال: الشرك -
قال ابن جريج قال، قال مجاهد: (سيئة) شركا.
1428 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله: (بلى من كسب سيئة) ، يعني: الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن"السيئة" - التي ذكر الله جل ثناؤه
أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها
- في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن
كان ظاهرها في التلاوة عاما، (1) لأن الله قضى على أهلها
بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل
الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل
الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله:
(بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) - قوله - (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب
الجنة هم فيها خالدون) . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود
في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من
أهل الإيمان.
* * *
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم
الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار
الله = أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا،
ومدخلُنا المُدخلَ الكريم = ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل
قوله: (بلى من كسب سيئة) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون
عامها.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير
سيئاتنا باجتنابنا
__________
(1) انظر تفسير"الظاهر" فيما سلف: 2: 15 والمراجع.
(2/282)
كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن
الكبائر غير داخلة في قوله: (بلى من كسب سيئة) ؟
قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعنيَّ بالآية
خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على
أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من
بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك
والكفر به، بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل
الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن
الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير
معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة
والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل
الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت
بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من
جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عاما في صنف
ظاهرها، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها. (1)
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا
منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال
الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الظاهر والباطن" آنفًا: 2: 15 والمراجع.
(2) هذا رد على المعتزلة، في إيجابهم خلود أهل الإيمان في
النار. ورجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال
الحيض، مما جاء في الأخبار، ولم يأت به نص قرآن.
(2/283)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وأحاطت به خطيئته) ،
اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.
* * *
وأصل"الإحاطة بالشيء"، الإحداق به، بمنزلة"الحائط" الذي تحاط
به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: (نارا أحاط بهم
سرادقها) [الكهف: 29] .
* * *
فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات
عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون
أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون.
* ذكر من قال ذلك:
1429 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
الأعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: مات
بذنبه.
1430 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا
الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: (وأحاطت به خطيئته)
، قال: مات عليها. (1)
1431 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن
ابن عباس: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: يحيط كفره بما له من
حسنة.
1432 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني
عيسى،
__________
(1) الخبر: 1430 - الربيع بن خثيم الثوري الكوفي: من كبار
التابعين وخيارهم، ثقة لا يسأل عن مثله. مترجم في التهذيب،
والكبير للبخاري 2 / 1 /246 وابن أبي حاتم 1/ 2 /459. وأبوه
"خثيم" بضم الخاء المعجمة مصغر، كما ضبطه ابن دريد في
الاشتقاق: 112 - 113، والحافظ في التقريب، ووقع في
المطبوعة"خيثم" بتقديم الياء على الثاء، وبذلك ضبطه صاحب
الخلاصة. وهو خطأ صرف.
(2/284)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأحاطت به
خطيئته) ، قال: ما أوجب الله فيه النار.
1433 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وأحاطت به خطيئته) ، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.
1434 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [قال، أخبرنا معمر]
، عن قتاده: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: الخطيئة: الكبائر.
1435 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى
بن آدم، عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: (وأحاطت
به خطيئته) ، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن،
فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.
1436 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (بلى
من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) ، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد
الله عليه النار.
1437 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: (وأحاطت به خطيئته) ،
قال: مات بخطيئته.
1438 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش
قال، حدثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله:
(وأحاطت به خطيئته) ، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن
يتوب.
1439 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت
الأعمش يقول في قوله: (وأحاطت به خطيئته) ، مات بذنوبه.
1440 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: (وأحاطت به خطيئته) ، الكبيرة الموجبة.
(2/285)
1441 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد
قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أحاطت به خطيئته) ، فمات ولم
يتب.
1442 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان، عن
ابن جريج قال، قلت لعطاء: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: الشرك، ثم
تلا (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ) [النمل: 90] . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون" فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم،
أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *
ويعني بقوله جل ثناؤه: (أصحاب النار) ، أهل النار، وإنما جعلهم
لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم
سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره =
بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة = لها أصحابا، كصاحب الرجل
الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.
* * *
(هم فيها) ، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: (خالدون)
مقيمون * كما:
1443 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (هم فيها
خالدون) ، أي خالدون أبدا.
1444 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) انظر ما مضى في كلامه عن"الخطيئة" في هذا الجزء 2: 110.
(2/286)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (82)
عن السدي: (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها
أبدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (82) }
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والذين آمنوا) ، أي صدقوا بما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: (وعملوا الصالحات) ،
أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه.
ويعني بقوله: (فأولئك) ، فالذين هم كذلك (أصحاب الجنة هم فيها
خالدون) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها (خالدون) ،
مقيمون أبدا.
* * *
وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء
النار وبقاء أهلها فيها، [وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها] ، (1)
ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبا من الله جل
ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا
أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود
كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة * كما:-
1445 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن
ابن عباس: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم
فيها خالدون) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من
دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر
مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
1446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لسياقة الكلام.
(2/287)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قال ابن زيد: (والذين آمنوا وعملوا
الصلحات) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه -"أولئك أصحاب
الجنة هم فيها خالدون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ}
قال أبو جعفر: قد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على
أن"الميثاق""مفعال" من"التوثق باليمين" ونحوها من الأمور التي
تؤكد القول. (1) فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني
إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-
1447 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة،
عن ابن عباس: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) -أي ميثاقكم- (لا
تعبدون إلا الله) .
* * *
قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله (2) (لا
تعبدون) . فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء،
والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن
يقال (لا تعبدون) و (لا يعبدون) وهم غَيَب، (3) لأن أخذ
الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول:"استحلفت أخاك ليقومن"
فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول:"استحلفته
لتقومن"، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك
- فيكون ذلك صحيحا جائزا.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 414، وهذا الجزء 2: 156.
(2) في المطبوعة: "والقراء مختلفة"، ورددتها إلى ما جرى عليه
الطبري في كل ما سلف.
(3) غيب (بفتح الغين والياء) جمع غائب، مثل خادم وخدم.
(2/288)
فكذلك قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل
لا تعبدون إلا الله) و (لا يعبدون) . من قرأ ذلك"بالتاء" فمعنى
الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ"بالياء" فلأنهم ما
كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
* * *
وأما رفع"لا تعبدون"، فبالتاء التي في"تعبدون"، ولا ينصب بـ
"أن" التي كانت تصلح أن تدخل مع (لا تعبدون إلا الله) . لأنها
إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه
الرفع، كما قال جل ثناؤه: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر: 64] ،
فرفع"أعبد" إذ لم تدخل فيها"أن" - بالألف الدالة على معنى
الاستقبال، وكما قال الشاعر: (1)
ألا أيهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت
مخلدي (2)
فرفع"أحضر" وإن كان يصلح دخول"أن" فيها -إذ حذفت، بالألف التي
تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف"أن" من قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا
تعبدون) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى - بدلالة
الظاهر عليها - منها. (3)
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: (وإذ أخذنا ميثاق
بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، حكاية، كأنك قلت:
استحلفناهم: لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون -
وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من
معنى القول الذي قلنا في ذلك.
__________
(1) هو طرفة بن العبد.
(2) ديوانه: 317 (أشعار الستة الجاهليين) ، من معلقته النفيسة
وسيأتي في 21: 22 / 30: 130 (بولاق) ، وسيبويه 1: 452.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 53 - 54.
(2/289)
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق
بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1448 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا
يعبدوا غيره.
1449 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني
إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا
لله ولا يعبدوا غيره.
1450 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ،
قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (وبالوالدين إحسانا) عطف على
موضع"أن" المحذوفة في (لا تعبدون إلا الله) . فكان معنى
الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله
وبالوالدين إحسانا. فرفع (لا تعبدون) لما حذف"أن"، ثم عطف
بالوالدين على موضعها، كما قال الشاعر: (2)
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا (3)
__________
(1) قوله تعالى في سورة المائدة: 12: (ولقد أخذ الله ميثاق بني
إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) إلى آخر الآية.
(2) عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي إسلامي.
(3) سيبويه 1: 34، 375، 448، والخزانة 1: 343، وسمط اللآلئ:
149 وفيه تحقيق جيد. وهذا البيت مما أخطأ فيه سيبويه، وكان
عقيبة وفد على معاوية، ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات: معاوي
إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد
فهبها أمة ذهبت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد ?
ذروا خَوْنَ الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأراذل والعبيد
وأعطونا السوية، لا تزركم ... جنود مردفات بالجنود
فدعاه معاوية فقال له: ما أجرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك،
وصدقتك إذ كذبوك. فقال معاوية: ما أظنك إلا صادقا.
(2/290)
فنصب"الحديد" على العطف به على
موضع"الجبال"، لأنها لو لم تكن فيها"باء" خافضة كانت نصبا،
فعطف بـ "الحديد" على معنى "الجبال"، لا على لفظها. فكذلك ما
وصفت من قوله: (وبالوالدين إحسانا) .
* * *
وأما"الإحسان" فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: (وبالوالدين)
، إذ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف -:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن
تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: (وبالوالدين) من أن
يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، إذ كان مفهوما أن ذلك
معناه بما ظهر من الكلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا
إحسانا، فجعل"الباء" التي في"الوالدين" من صلة الإحسان، مقدمة
عليه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا
بالوالدين إحسانا. فزعموا أن"الباء" التي في"الوالدين" من صلة
المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف
الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على
كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام
واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو
كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما
يقال:"أحسن فلان
(2/291)
إلى والديه" ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا
على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل
بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان
حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من
نظائره. (1)
* * *
فإن قال قاتل: وما ذلك"الإحسان" الذي أخذ عليهم وبالوالدين
الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف
لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن
عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من
الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وذي القربي) ، وبذي القربى أن
يصلوا قرابته منهم ورحمه.
* * *
و"القربي" مصدر على تقدير"فعلى"، من قولك،"قربت مني رحم فلان
قرابة وقربي وقربا"، بمعنى واحد.
* * *
وأما"اليتامى". فهم جمع"يتيم"، مثل"أسير وأسارى". ويدخل في
اليتامى الذكور منهم والإناث.
* * *
ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله
وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي:
أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم
بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها
الله أموالكم.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 138.
(2/292)
* * *
و"المسكين"، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو"مفعيل"
من"المسكنة". و"المسكنة" هي ذل الحاجة والفاقة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: (وقولوا للناس حسنا) ،
فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول
الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول
الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر
والنهي. فلو كان مكان:"لا تعبدون إلا الله"، لا تعبدوا إلا
الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا
صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن
ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام -لو كان مقروءا كذلك-: وإذ قلنا لبني
إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63] .
فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: (لا تعبدون إلا الله)
، عطف بقوله: (وقولوا للناس حسنا) ، على موضع (لا تعبدون) ،
وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، (2) لما
وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع"لا تعبدون".
فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله،
وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب
تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية
لما أخبرت عنه، (3) ثم تعود إلى الخبر على
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 2: 137.
(2) في المطبوعة:"ومعناه" بزيادة الواو، والصواب حذفها.
(3) في المطبوعة: "في موضع الحكايات كما أخبرت عنه"، والصواب
ما أثبته.
(2/293)
وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب،
ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية
من المعنيين، (1) كما قال الشاعر: (2)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مَقْلِيَّةً إن
تَقَلَّت (3)
يعني: تقليت.
* * *
وأما"الحسن" فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. (4) فقرأته عامة
قَرَأَة الكوفة غير عاصم: (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء
والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: (حُسْنا) بضم الحاء وتسكين
السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: "وقولوا للناس
" حُسْنَى " على مثال "فُعلى".
* * *
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: "حُسْنا"
و"حَسَنا". فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون
يراد بـ"الحَسَن" "الحُسن" وكلاهما لغة، كما يقال: "البُخل
والبَخَل"، وإما أن يكون جعل "الحُسن" هو "الحَسن" في التشبيه.
وذلك أن الحُسن "مصدر" و "الحَسن" هو الشيء الحسن. ويكون ذلك
حينئذ كقولك:"إنما أنت أكل وشرب"، وكما قال الشاعر: (5)
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع (6)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 153 - 154، وسيأتي في هذا الجزء 2: 357.
(2) هو كثير عزة.
(3) ديوانه 1: 53 من قصيدته المشهورة. قلاه يقليه قلى فهو
مقلي: كرهه وأبغضه. وتقلى تبغض، أي استعمل من الفعل أو القول
ما يدعو إلى بغضه.
(4) في المطبوعة: "فإن القراء"، ورددته إلى ما مضى عليه أبو
جعفر في عبارته، كما سلف مرارا.
(5) يقال هو: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. (الخزانة 4: 56) ،
وليس في قصيدته التي على هذا الوزن في الأصمعيات: 43، ولكنه
أتى في نوادر أبي زيد: 149 - 150 أنه لعمرو بن معد يكرب. فكأنه
له، وكأنه سقط من رواية الأصمعي، وهو في رواية غيره.
(6) نوادر أبي زيد: 150، وسيبويه 1: 365، 429 والخزانة 4: 53.
وغيرها.
(2/294)
فجعل"التحية" ضربا.
وقال آخر: بل "الحُسن" هو الاسم العام الجامع جميع معاني
الحسن. و"الحسن" هو البعض من معاني"الحُسن". قال: ولذلك قال جل
ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8] يعني بذلك أنه وصاه
فيهما بجميع معاني الحُسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره
به في والديه، فقال: (وقولوا للناس حسنا) ، يعني بذلك بعض
معاني الحُسن.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى"الحسن" بضم الحاء
وسكون السين، غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به.
وأما"الحسن" فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا
كان الأمر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله: (وقولوا للناس
حَسنا) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل
لهم:"وقولوا للناس" باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني
الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن،
وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته
بضم الحاء وسكون السين.
* * *
وأما الذي قرأ ذلك: (وقولوا للناس حسنى) ، فإنه خالف بقراءته
إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها
كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد
غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك
أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ "فعلى" "وأفعل" إلا بالألف
واللام أو بالإضافة. لا يقال:"جاءني أحسن"، حتى
يقولوا:"الأحسن". ولا يقال:"أجمل"، حتى يقولوا،"الأجمل". وذلك
أن"الأفعل والفعلى"، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف،
كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى". وغير جائز أن
يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن.
* * *
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من
بني إسرائيل
(2/295)
في هذه الآية، أن يقولوه للناس، (1) فهو
ما:-
1451 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقولوا
للناس حسنا) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس
حسنا: أن يأمروا بـ "لا إله إلا الله" من لم يقلها ورغب عنها،
حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال
الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم،
وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
1452 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (وقولوا للناس حسنا) ، قال، قولوا
للناس معروفا.
1453 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: صدقا في شأن محمد صلى
الله عليه وسلم.
1454 - وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في
قوله: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن
المنكر. (2)
1455 - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن
محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت
عطاء بن أبي رباح، عن قول الله جل ثناؤه: (وقولوا للناس حسنا)
، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا
جعفر، فقال مثل ذلك. (3)
1456 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد
الملك،
__________
(1) في المطبوعة: "لأن يقولوه للناس" بزيادة اللام، فاسدة.
(2) الأثر: 1454 - أخشى أن يكون سقط من إسناده شيء.
(3) الخبر: 1455 - هارون بن إدريس الأصم، شيخ الطبري: لم أجد
له ترجمة، ولا وجدته في مكان، إلا في رواية الطبري عنه في
التاريخ أيضًا 1: 253، و2: 126. روى عنه، عن المحاربي. عبد
الملك بن أبي سليمان: هو العرزمي، أحد الأئمة الثقات الحفاظ.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /366 - 368.
(2/296)
عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله:
(وقولوا للناس حسنا) ، قال: للناس كلهم.
1457 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن
عطاء مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وأقيموا الصلاة) ، أدوها بحقوقها
الواجبة عليكم فيها * كما:-
1458 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود قال: (وأقيموا
الصلاة) ، هذه و"إقامة الصلاة" تمام الركوع والسجود والتلاوة
والخشوع، والإقبال عليها فيها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى"الزكاة" وما أصلها.
(2)
* * *
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر
أمرهم في هذه الآية، فهي ما:-
1459 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وآتوا الزكاة) ،
قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من
الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار
__________
(1) انظر ما سلف 1: 241، 573.
(2) انظر ما سلف 1: 573 - 574.
(2/297)
فتحملها، فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل
النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من
ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
1460 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وآتوا
الزكاة) ، يعني"بالزكاة": طاعة الله والإخلاص.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا
مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل،
أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم على
الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء
والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق
أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به
ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا
زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين،
إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-
1461 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله
جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه
من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه
استثقالا له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم، وهم
الذين استثنى الله فقال: (ثم توليتم) ، يقول: أعرضتم عن طاعتي،
(إلا قليلا منكم) ، قال: القليل الذين اخترتهم
(2/298)
لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها
يقول: تركها استخفافا بها. (1) .
1462 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة،
عن ابن عباس: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) ، أي
تركتم ذلك كله.
* * *
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: (وأنتم معرضون) ، اليهود
الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر
الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: (ثم توليتم إلا
قليلا منكم) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا
لبقايا نسلهم -على ما ذكرناه فيما مضى قبل- (2) ثم قال: وأنتم
يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك،
وتاركوه ترك أوائلكم.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون)
، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم
في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
* * *
__________
(1) انظر معنى "تولى" فيما سلف من هذا الجزء 2: 162.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38، 39 ثم: 164، ثم: 245، ثم
302.
(2/299)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}
قال أبو جعفر: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في
المعنى والإعراب نظير قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا
تعبدون إلا الله) .
* * *
(2/299)
وأما"سفك الدم"، فإنه صبه وإراقته.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم
ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على
ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل
الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما [واحدة، فهما]
بمنزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: (1)
1463 -"إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد
الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
(2)
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم) ، أي: لا يقتل
الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا
نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك
إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب
فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة:"أنت جنيت
هذا على نفسك".
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1464 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) ،
أي: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ،
ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام.
(2) الحديث: 1463 - هكذا رواه الطبري معلقا. والظاهر أنه رواه
بالمعنى أيضًا. ولفظه في صحيح مسلم 2: 284، من حديث النعمان بن
بشير: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد،
إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وكذلك
رواه أحمد في المسند (4: 270 حلبي) . ورواه البخاري بنحو معناه
10: 367 (من الفتح) .
(2/300)
1465 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال،
حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ
أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا،
(ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من
الديار.
1466 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
قتادة في قوله: (لا تسفكون دماءكم) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا
بغير حق، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، فتسفك يا ابن آدم
دماء أهل ملتك ودعوتك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ثم أقررتم) ، بالميثاق الذي أخذنا
عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
1467 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (ثم أقررتم) ، يقول: أقررتم بهذا
الميثاق.
1468 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: (وأنتم
تشهدون) . فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود
الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من
التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: (ثم
أقررتم) ،
(2/301)
يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، (وأنتم
تشهدون) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا
دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدقون بأن ذلك حق من
ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس.
1469 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن
ابن عباس قال: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أن هذا حق من ميثاقي
عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه
تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو
الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا
تأويلها فيما مضى. (1)
* * *
وتأولوا قوله: (وأنتم تشهدون) ، على معنى: وأنتم شهود.
* ذكر من قال ذلك:
1470 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية قوله: (وأنتم تشهدون) ، يقول: وأنتم
شهود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن
يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرا عن أسلافهم، وداخلا فيه
المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
كما كان قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) خبرا عن أسلافهم، وإن كان
خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) لأن
الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى
الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في
كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل
الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم
بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم
__________
(1) انظر ما سلف: 2: 298، تعليق: 2، والمراجع.
(2) في المطبوعة: "بأن كان خطابا. . "، وهو لا يستقيم.
(2/302)
ثُمَّ أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (85)
ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم
له بالوفاء من العهود، (1) بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) .
فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى
الله عليه وسلم منهم، (2) فإنه معني به كل من واثق بالميثاق
منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في
التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: (ثم أقررتم وأنتم
تشهدون) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية
محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، (3) فليس
لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية
التي بعدها، أعني قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية.
لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان
يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ
مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ}
قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) وجهان. أحدهما
أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك"يا" استغناء بدلالة
الكلام عليه، كما قال: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [يوسف:
29] ، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ:
ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي
أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم
__________
(1) سياق العبارة: "وتكذيبهم ما وكدوا من العهود على أنفسهم
بالوفاء له. . "، فقدم وأخر.
(2) في المطبوعة: "فإن كان خارجا. . " وهو تصحيف لا يستقيم.
(3) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك"، وهو تصحيف لا يستقيم
أيضًا.
(2/303)
من دياركم، ثم أقررتم = بعد شهادتكم على
أنفسكم = (1) بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به -
تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم،
في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان. (2)
* * *
والتعاون هو"التظاهر". وإنما قيل للتعاون"التظاهر"، (3) لتقوية
بعضهم ظهر بعض. فهو"تفاعل" من"الظهر"، وهو مساندة بعضهم ظهره
إلى ظهر بعض.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم.
فيرجع إلى الخبر عن"أنتم". وقد اعترض بينهم وبين الخبر
عنهم"بهؤلاء"، كما تقول العرب:"أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس"،
(4) وإذْ قيل:"أنا هذا أجلس" كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك
تقوم".
وقد زعم بعض البصريين أن قوله"هؤلاء" في قوله: (ثم أنتم هؤلاء)
، تنبيه وتوكيد لـ "أنتم". وزعم أن"أنتم" وإن كانت كناية أسماء
جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ "هؤلاء" و"أولاء"، (5)
لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يَأطر متنه: ... تبين خُفافا إنني أنا ذلكا (6)
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
__________
(1) في المطبوعة: "ثم أقررتم وبعد شهادتكم. . " والواو لا مكان
لها هنا.
(2) في المطبوعة"متعاونين عليه في إخراجكم. . "، وهذا سهو.
(3) في المطبوعة: " وإنما قيل التعاون التظاهر. . " وهذا لا
شيء.
(4) في المطبوعة: "ولوقيل. أنا هذا أجلس". والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "وأولى"، وهو خطأ. ويعني قوله تعالى في سورة
آل عمران: 119: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وقوله
تعالى في سورة طه: 84: " قال هم أولاء على أثرى".
(6) مضى تخريجه فيما سلف 1: 227.
(2/304)
بِهِمْ) [يونس: 22]
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن
عَني بقوله: (وأنتم تشهدون) * ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
1471 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون
فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) إلى أهل
الشرك، (1) حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم.
(2) قال: أنبهم الله [على ذلك] من فعلهم، (3) وقد حرم عليهم في
التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا
فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير
وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب
خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس،
يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم
بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم.
والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، (4) لا يعرفون جنة ولا
نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما ولا حلالا
فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقا لما في
التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من
أسراهم في أيدي الأوس،
__________
(1) في تفسير ابن كثير 1: 223، والدر المنثور 1: 86: "أي أهل
الشرك"، والصواب ما في الطبري، وقوله: "إلى أهل الشرك"، أي
تخرجون فريقا منكم - إلى أهل الشرك.
(2) في المطبوعة: "فقال أنبهم"، والأجود حذفها.
(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها. وأما ابن كثير في تفسيره
1: 223 فكتب: "أنبأهم الله بذلك من فعلهم"، وهو تحريف.
(4) في المطبوعة: "أهل الشرك"، والصواب في سيرة ابن هشام 2:
188، وابن كثير 1: 224.
(2/305)
وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي
الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء، (1) وقتلى من قتلوا
منهم فيما بينهم، (2) مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله
تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: (3) (أفتؤمنون ببعض الكتاب
وتكفرون ببعض) ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم
التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، (4) ولا يظاهر عليه من
يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا.
ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه
القصة. (5)
1472 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم
ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) قال: إن
الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا،
وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام
ثمنه، فأعتقوه. (6) فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء
الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. (7) فيقاتل بنو قريظة مع
حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها،
فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من
الفريقين كليهما، جمعوا له حتى
__________
(1) طل دمه وأطله: أهدره وأبطله.
(2) في المطبوعة: "وقتلوا من قتلوا. . "، والصواب من ابن هشام
2: 189.
(3) في المطبوعة: "أنباهم بذلك"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن
هشام 2: 189، وسترى ذلك في تفسير الآية نفسها بعد.
(4) في المطبوعة: "من ذلك"، وهو محض خطأ.
(5) هذه الجملة الأخيرة من كلام ابن إسحاق، لا من كلام ابن
عباس.
(6) في المطبوعة: "بما قدم يمينه فأعتقوه". وهو كلام من السقم
بمكان. يقال: قامت الأمة مئة دينار، أي بلغت قيمتها مئة دينار.
ويقال: كم قامت أمتك؟ أي كم بلغت؟ ووجدتها في تفسير البغوي على
الصواب: "بما قام من ثمنه" 1: 224 (بهامش تفسير ابن كثير) .
(7) حرب سُمير. كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج. وسُمير
رجل من بني عمرو بن عوف. وانظر خبر هذه الحرب في الأغاني 3:
18: 26.
(2/306)
يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف
تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا
قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل
حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون
أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم
والعدوان) .
1473 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت
قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، (1) وكان الكتاب
بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة
والنضير، فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس،
فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال الله جل ثناؤه: (ثم أنتم
هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية.
* * *
وقال آخرون بما:-
1474 - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا
استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا
يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما "العدوان" فهو"الفعلان" من"التعدي"، يقال
منه:"عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداء"،
وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا.
* * *
وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: (تظاهرون) . (2) فقرأها
بعضهم:"تظاهرون" على مثال"تفاعلون" فحذف التاء الزائدة وهي
التاء الآخرة. وقرأها آخرون:
__________
(1) المثابة: يعني المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمثابة المنزل، لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه،
يرجعون إليه. وقال الله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس
وأمنا"
(2) في المطبوعة: "وقد اختلف القراء"، ورددتها إلى منهج
الطبري.
(2/307)
(تظَّاهرون) ، فشدد، بتأويل: (تتظاهرون) ،
غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما،
فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما،
فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا
لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى
واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا
أن يختار مختار"تظاهرون" المشددة طلبا منه تتمة الكلمة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن يأتوكم أسارى
تفادوهم) اليهود. يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي
كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق
الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من
دياركم - تقتلون أنفسكم = يعني به: يقتل بعضكم بعضا = وأنتم،
مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم
من أعدائكم، تفدونه، (1) ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم
إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي
عدوكم [حرام عليكم] ، (2) فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون
ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم،
وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم -
سواء. (3) لأن الذي حرمت عليكم
__________
(1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(2) الزيادة بين القوسين لا معدى عنها لاستقامة الكلام.
(3) في المطبوعة: "وهم جميعا"، والصواب ما أثبت.
(2/308)
من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي
حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب
- الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت
عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به، فتفادون أسراكم من
أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم
قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم
أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:-
1475 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا
منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم
أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب
وتكفرون ببعض) ، [أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض
قاتلين ومخرجين] ؟ (1) والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم
لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي
عدوهم أفتكوهم.
1476 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة،
عن ابن عباس: (وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم) ، قد علمتم أن ذلكم
عليكم في دينكم، (وهو محرم عليكم) في كتابكم (إخراجهم،
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك،
وتخرجونهم كفرا بذلك.
1477 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم)
يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟
__________
(1) كان في المطبوعة: ". . وتكفرون ببعض فادين والله إن فداء
لإيمان"، وهو كلام مضطرب فزدت ما بين القوسين استظهارا، حتى
يستقيم الكلام.
(2/309)
1478 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في
قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، فكان إخراجهم
كفرا، وفداؤهم إيمانا.
1479 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون
أنفسكم) الآية، قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما
أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا
دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق: إن
أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا
ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا
بالإخراج من الديار فأخرجوا.
1480 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال،
حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن
سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم
يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد
الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.
1481 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، قال: كفرهم
القتل والإخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا
كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا
تفدونهم؟ (1) وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل:
إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة (2) في قراءة قوله: (وإن
يأتوكم أسارى تفدوهم) .
__________
(1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(2) في المطبوعة: "واختلف القراء"، ورددته إلى نهج أبي جعفر.
(2/310)
فقرأه بعضهم: (أسرى تَفْدوهم) ، وبعضهم:
(أُسارى تُفادوهم) ، وبعضهم (أُسارى تَفدوهم) ، وبعضهم: (أسرى
تفادوهم) .
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى) ، فإنه أراد
جمع"الأسير"، إذ كان على"فعيل"، على مثال جمع أسماء ذوي
العاهات التي يأتي واحدها على تقدير"فعيل"، إذ كان"الأسر" شبيه
المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني
العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل: أسير
وأسرى"، كما قيل:"مريض ومرضى، وكسير وكَسرى، وجريح وجرحى".
* * *
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى) ، فإنهم أخرجوه
على مخرج جمع "فَعلان"، إذ كان جمع "فَعلان" الذي له "فَعلى"
قد يشارك جمع "فعيل" كما قالوا: "سَكارى وسَكرى، وكَسالى
وكَسلى"، فشبهوا"أسيرا" - وجمعوه مرة"أسارى"، وأخرى"أسرى" -
بذلك.
* * *
وكان بعضهم يزعم أن معنى"الأسرى" مخالف معنى"الأسارى"، ويزعم
أن معنى"الأسرى" استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم، وأن
معنى"الأسارى" معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين
بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب.
ولكن ذلك على ما وصفت من جمع"الأسير" مرة على "فَعلى" لما بينت
من العلة، ومرة على"فُعالى"، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه
بجمع"سكران وكسلان" وما أشبه ذلك.
* * *
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ (وإن يأتوكم أسرى) ،
لأن"فعالى" في جمع"فعيل" غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان
ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان
من الصفات - التي بمعنى
(2/311)
الآلام والزمانة - وواحده على تقدير"فعيل"،
على"فعلى"، كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك"الأسير"، كان الواجب
أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.
* * *
وأما من قرأ: (تفادوهم) ، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم،
ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم.
* * *
وأما من قرأ ذلك (تفدوهم) ، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود،
إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم
فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: (أسرى تفادوهم) - (1)
لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى
الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
* * *
وأما قوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم) ، فإن في قوله: (وهو)
وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم
ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم
عليكم. ثم كرر"الإخراج" الذي بعد"وهو محرم عليكم" تكريرا
على"هو"، لما حال بين"الإخراج" و"هو" كلام.
والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت "الواو" التي مع
"هو" تقتضي اسما يليها دون الفعل. (2) فلما قدم الفعل قبل
الاسم - الذي تقتضيه "الواو" أن يليها - أُولِيَتْ "هو"، لأنه
اسم، كما تقول: "أتيتك وهو قائم أبوك"، بمعنى:"وأبوك قائم"، إذ
كانت"الواو" تقتضي اسما، فعمدت بـ "هو"، إذ سبق الفعل الاسم
ليصلح الكلام. (3) كما قال الشاعر:
__________
(1) في المطبوعة: "أسرى تفدوهم"، وهو غير الصواب، فيما اختاره
أبو جعفر من القراءة.
(2) العماد، هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم: "ضمير الفصل"،
ويسمى أيضًا: "دعامة"، "صفة". وأراد بقوله: "الفعل" هنا:
المشتق الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. وسيتبين مراده في
العبارات الآتية.
(3) قد استوفى هذا كله الفراء في معاني القرآن 1: 50 - 52.
(2/312)
فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس
في آباطها عَرَق يَبْسُ (1) بأن السُّلامِيَّ الذي بِضَرِيَّة
... أميرَ الحمى، قد باع حَقِّي بني عبسِ (2) بثوب ودينار وشاة
ودرهم ... فهل هو مرفوع بما ههنا رَأْسُ (3)
فأوليت"هل""هو" لطلبها الاسم العماد. (4)
* * *
__________
(1) سيأتي الشطر الثاني من البيت الأخير في 11: 34، 17: 73 ولم
أجد الشعر في غير معاني القرآن للفراء 1: 52، ولم أعرف قائله.
والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس
يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة.
(2) السلامي: يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على
الزكاة، وأميرا على حمى ضرية، ولست أعرف نسبته، أهي قبيلة أم
إلى بلد. وحمى ضرية: في نجد، على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى
مكة أقرب، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم. وفي البيت إقواء.
(3) سيأتي الشطر الثاني بعد قليل: 374 قوله: "بثوب"، متعلق
بقوله آنفًا "باع". يقول: أخذ هذه الرشى التي عددها من بني
عبس، فأسلم إليهم حقي. وقوله: "فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس"
يقوله لأبي يحيى الذي ذكره، ويقول: فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ
لناحقنا، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم. وهذه كلمة
يقولونها في مثل ذلك. قال الراعي (طبقات فحول الشعراء: 442) :
فإن رفعت بهم رأسا نَعَشْتُهم ... وإن لَقُوا مثلها في قابل
فسدوا
وقال أعرابي: فتى مثل ضوء الشمس، ليس بباخل ... بخير، ولا مهد
ملاما لباخل
ولا ناطق عوراء تؤذى جليسه ... ولا رافع رأسا بعوراء قائل
وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى
الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري 1: 23) :
"فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم
وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت
به".
(4) في المطبوعة: "فأوليت هل لطلبها"، وزيادة"هو" لا بد منها.
(2/313)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ
مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (فما جزاء من يفعل ذلك
منكم) : فليس لمن قتل منكم قتيلا = فكفر بقتله إياه، بنقض عهد
الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من
ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا
لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى = جزاء -
يعني"بالجزاء": الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه
- (1) إلا خزي في الحياة الدنيا. و"الخزي": الذل والصغار، يقال
منه:"خزي الرجل يخزى خزيا"، (في الحياة الدنيا) ، يعني: في
عاجل الدنيا قبل الآخرة.
* * *
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه.
فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا،
والانتقام للمظلوم من الظالم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم،
ذلة لهم وصغارا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول
الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل
مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في
الآخرة عذاب عظيم.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 27 - 28 من هذا الجزء.
(2/314)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ويوم القيامة يردون إلى أشد
العذاب) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي
الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب
الذي أعد الله لأعدائه.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب
الدنيا. (1)
ولا معنى لقول قائل ذلك. (2) ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر
أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه"الألف
واللام"، لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (85) }
قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم:
(وما الله بغافل عما يعملون) بـ "الياء"، على وجه الإخبار
عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم
إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب
وما الله بغافل عما يعملون) ، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله
عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا،
ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.
* * *
وقرأه آخرون: (وما الله بغافل عما تعملون) بـ "التاء" على وجه
المخاطبة.
__________
(1) في المطبوعة: "إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا"، والصواب
حذف"العذاب".
(2) في المطبوعة: "ولا معنىلقول ذلك بأن. . " والصواب
زيادة"ذلك".
(2/315)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: (أفتؤمنون ببعض
الكتاب وتكفرون ببعض) . وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما
تعملون أنتم.
* * *
وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بـ "الياء"، اتباعا لقوله:
(فما جزاء من يفعل ذلك منكم) ، ولقوله: (ويوم القيامة يردون) .
لأن قوله: (وما الله بغافل عما يعملون) إلى ذلك، أقرب منه إلى
قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، فاتباعه الأقرب
إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من
الصواب.
* * *
وتأويل قوله:"وما الله بغافل عما يعملون"، (1) وما الله بساه
عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم
بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم
يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض،
فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره
من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في
التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [هم] الذين اشتروا
رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل
ملتهم، (3) وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان،
الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر
- الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه
__________
(1) في المطبوعة: "وتأويل قوله: وما الله بساه"، لم يذكر
الآية، والصواب إثباتها.
(2) مضى تفسير معنى"الغفلة" فيما سلف من هذا الجزء 2: 244
(3) ما بين القوسين زيادة، لا يستقيم الكلام بطرحها.
(2/316)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم
رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضا من نعيم الآخرة الذي
أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله،
ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، (1) كما:-
1482 - حدثنا بشر، حدثنا يزيد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا
بالآخرة) ، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. (2)
* * *
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من
نعيم الآخرة - بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من
الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في
الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه
فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء،
لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم. (3)
* * *
وأما قوله: (ولا هم ينصرون) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في
الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا
بشفاعته ولا غيرهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (آتينا موسى الكتاب) :
أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى"الإيتاء" الإعطاء، فيما مضى
قبل. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما مضى 1: 312: - 315 في معنى"الاشتراء".
(2) الأثر: 1482 - كان في المطبوعة: "حدثنا يزيد. . " بإسقاط:
"حدثنا بشر قال"، وهذا إسناده إلى قتادة، كثير الدوران، وأقربه
فيما مضى رقم: 1475.
(3) في المطبوعة: "لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم
بآخرتهم"، وهو كلام سقيم، ولعل الصواب ما أثبت.
(4) انظر ما سلف 1: 574.
(2/317)
و"الكتاب" الذي آتاه الله موسى عليه
السلام، هو التوراة.
وأما قوله: (وقفينا) ، فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف
بعض، كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله
من"القفا"، يقال منه:"قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما
يقال:"دبرته": إذا صرت في دبره.
* * *
ويعني بقوله: (من بعده) ، من بعد موسى.
* * *
ويعني بـ (الرسل) : الأنبياء، وهم جمع"رسول". يقال:"هو رسول
وهم رسل"، كما يقال:"هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم
قوم شكر.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: (وقفينا من بعده بالرسل) ، أي
أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من
بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن
مريم، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما
فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل: (وقفينا من بعده
بالرسل) ، يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) ،
أعطينا عيسى ابن مريم.
* * *
ويعني بـ "البينات" التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من
الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه،
ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه
وصحة نبوته، كما:-
1483 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو
عكرمة، عن ابن
(2/318)
عباس: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) : أي
الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين
كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وإبراء
الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد
عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ}
قال أبو جعفر: أما معنى قوله: (وأيدناه) ، فإنه قويناه فأعناه،
كما:-
1484 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك: (وأيدناه) ، يقول: نصرناه. يقال منه:"أيدك
الله"، أي قواك،"وهو رجل ذو أَيْد، وذو آد"، يراد: ذو قوة.
ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا (1) *
يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر: (2)
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو جَلَد وبطش أيِّد
__________
(1) زيادة ديوانه: 76، واللسان (آود) (أيد) ومجاز القرآن: 46،
وأمالي الزجاجي: 39 في خبر، ورواه: فإن تبدلت بآدي آدا ... لم
يك ينآد فأمسى انآدا
فقد أراني أصل القعادا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
والقعاد: القواعد من النساء، جمع على جمع المذكر، كما قال
القطامي: أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهن عني غير صداد
يعني: غير صواد.
(2) ينسب البيت - من أبيات - لعبد الملك بن مروان، والصواب أنه
لعبد الله بن عبد الأعلى ابن أبي عمرة الشيباني. مولى بني
شيبان (تاريخ الطبري 4: 22 / وسمط اللآلئ: 963 ترجمته) .
(2/319)
(1)
يعني بالأيد: القوي.
* * *
ثم اختلف في تأويل قوله: (بروح القدس) . فقال بعضهم:"روح
القدس" الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل
عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
1485 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وأيدناه بروح القدس) قال: هو
جبريل.
1486 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: هو
جبريل عليه السلام.
1487 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: روح
القدس، جبريل.
1488 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح
القدس.
1489 - وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب
الأشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند
بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [الذي]
__________
(1) البيت من أبيات جياد رواها أبو العباس المبرد في التعازي
والمراثي ورقة: 105، 106، والمسعودى في مروج الذهب 3: 104،
ولباب الآداب: 31، وجاء بيت الشاهد في تاريخ الإسلام للذهبي 3:
280، وتاريخ ابن كثير 9: 67، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 147،
واختلفت رواية البيت الشاهد. وقد أوصى عبد الملك بن مروان بنيه
وصية جليلة، ثم قال لهم احفظوا عني هذه الأبيات - يعني شعر عبد
الله بن عبد الأعلى - أمرهم أن يجتمعوا ولا يتفرقوا فتذهب
ريحهم. وبعد البيت: عزت ولم تكسر، وإن هي بددت ... فالوهن
والتكسير للمتبدد
(2/320)
يأتيني؟ قالوا: نعم. (1)
وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
1490 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل
روحا، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله، كما قال الله:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)
[الشورى: 52] .
* * *
وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
1491 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق،
عن الضحاك، عن ابن عباس: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: هو الاسم
الذي كان يحيي عيسى به الموتى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من
قال:"الروح" في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه
أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا
__________
(1) الحديث: 1489 - وقع في المطبوعة "حدثنا سلمة، عن إسحاق".
وهو خطأ، صوابه"عن ابن إسحاق". عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
الحسين المكي: ثقة فقيه، من شيوخ الليث ومالك. مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /97. شهر بن حوشب الأشعري: تابعي
ثقة، ومن تكلم فيه فلا حجة له. وقد فصلنا القول في توثيقه، في
شرح المسند: 5007. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري. 2
/2 / 659 - 260، وابن سعد 7 /2 /158، وابن أبي حاتم 2 / 1 382
- 383. ولكن هذا الحديث مرسل، فإن شهرا تابعي كما قلنا. ومعناه
- في تفسير"الروح" بأنه جبريل - ثابت في أحاديث صحاح متكاثرة.
ذكر منها ابن كثير 1: 227 حديث ابن مسعود، في صحيح ابن حبان،
مرفوعا: "إن روح القدس نقث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى
تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقد
ذكرنا في شرحنا رسالة الشافعي. رقم: 306 كثيرا من هذا المعنى.
وهذا الحديث جزء من حديث مطول، سيأتي بهذا الإسناد رقم: 1606.
(2/321)
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ) [المائدة: 110] ،
فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله:"إذ
أيدتك بروح القدس"، و"إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة
والإنجيل"، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من
قال: معنى (إذ أيدتك بروح القدس) ، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل
- وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو
مُعَلَّمُه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في
أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام، (1) والله تعالى ذكره
يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذْ كان
ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ فساد قول من زعم أن"الروح" في هذا الموضع،
الإنجيل، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه
لأنها تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية،
وتهتدي بها الأحلام الضالة.
* * *
وإنما سمى الله تعالى جبريل"روحا" وأضافه إلى"القدس"، لأنه كان
بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده، فسماه
بذلك"روحا"، وأضافه إلى"القدس" - و"القدس"، هو الطهر - كما سمي
عيسى ابن مريم"روحا" لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير
ولادة والد ولده.
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى"التقديس": التطهير،
و"القدس"- الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في
هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه. (2)
1492 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: القدس، البركة.
1493 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال:
القدس، وهو الرب تعالى ذكره.
__________
(1) الخلف: الرديء الفاسد من القول. يقال في المثل: "سكت ألفا
ونطق خلفا"، للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ والخطل.
(2) انظر ما سلف 1: 475 - 476.
(2/322)
1494 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: الله، القدس،
وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل
ثناؤه: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ) [الحشر: 23] ، قال: القدس والقدوس، واحد.
1495 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن
الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، [عن هلال] بن أسامة، عن عطاء بن
يسار قال، قال كعب: الله، القدس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ
بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أفكلما جاءكم رسول بما لا
تهوى أنفسكم) ، اليهود من بني إسرائيل.
1496 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
* * *
قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني
إسرائيل، لقد آتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بالرسل
إليكم، وآتينا عيسى ابن مريم
__________
(1) الخبر: 1495 - هو كلمة من كلام كعب الأحبار. أما الإسناد
إليه ففيه إشكال. ولعله خطأ من الناسخين. فليس في الرواة -
فيما علمنا - من يسمى"سعيد بن أبي هلال بن أسامة" كما كان في
المطبوعة. وإنما صوابه ما رجحنا إثباته، بزيادة [عن هلال] .
فسعيد بن أبي هلال الليثي المدني المصري: ثقة من أتباع
التابعين، يروي عنه عمرو بن الحارث (الذي سبقت ترجمته في 1387)
. وسعيد مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2 / 1 /475،
وابن أبي حاتم 2 / 1 / 71. وهلال بن أسامة: هو: "هلال بن علي
بن أسامة المدني "، وبعضهم نسبه إلى جده، فقال: ابن أسامة"،
كما في التهذيب، وهو ثقة. مترجم أيضًا في الكبير للبخاري 4 / 2
/204 - 205، وابن أبي حاتم 4 /2 /76. وقد فصلنا القول في
ترجمته، في شرح المسند: 7346.
(2/323)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا
مَا يُؤْمِنُونَ (88)
البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم، وقويناه
بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي
تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار
إمامكم إبليس، فكذبتم بعضا منهم. وقتلتم بعضا. فهذا فعلكم
أبدا برسلي.
* * *
وقوله: (أفكلما) ، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب،
فهو بمعنى الخبر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}
قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه
بعضهم: (وقالوا قلوبنا غُلْف) مخففة اللام ساكنة. وهي
قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم:"وقالوا
قلوبنا غُلُف" مثقلة اللام مضمومة.
* * *
فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها،
أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلْف. و"الغلْف" -على
قراءة هؤلاء- جمع"أغلف"، وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال
للرجل الذي لم يختتن"أغلف"، والمرأة"غلفاء". وكما يقال
للسيف إذا كان في غلافه:"سيف أغلف"، وقوس غلفاء"
وجمعها"غُلْف"، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على"أفعل"
وأنثاه على"فعلاء"، يجمع على"فُعْل" مضمومة الأول ساكنة
الثاني، مثل:"أحمر وحمر، وأصفر وصفر"، فيكون ذلك جماعا
للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين"فعل" منه، إلا في
ضرورة شعر، كما قال طرفة بن العبد: (1)
أيها الفتيان في مجلسنا ... جردوا منها وِرادا وشُقُر
__________
(1) ديوانه (أشعار الستة الجاهليين) : 331، من قصيدة
نفيسة.
(2/324)
(1)
يريد: شُقْرًا، إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه.
ومنه الخبر الذي:-
1497 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان
قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي،
عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة - ثم ذكرها -
فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه، فذلك قلب الكافر.
(2)
* * *
* ذكر من قال ذلك، يعني أنها في أغطية.
1498 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق
__________
(1) جردوا: قدموا للغارة. وتجرد الفرس: تقدم الحلبة فخرج
منها. وتجرد في الأمر: جد فيه. وراد جمع ورد (بفتح فسكون)
وهو من الخيل، بين الكميت والأشقر. والأشقر: الأحمر حمرة
صافية، يحمر منها السبيب والمعرفة والناصية. والعرب تقول:
أكرم الخيل وذوات الخير منها شقرها.
(2) الخبر: 1497 - هذا موقوف على حذيفة، وإسناده جيد، إلا
أنه منقطع، كما سنبين، إن شاء الله. الحكم بن بشير بن
سلمان النهدي الكوفي: ثقة، مترجم في التهذيب، ووقع هناك
خطأ مطبعي في اسمي أبيه وجده. وله ترجمة عند البخاري في
الكبير 2/1/340، وابن أبي حاتم 1 / 2 /114. عمرو بن قيس
الملائي": مضت ترجمته: 886. و"عمرو بن مرة الجملي"و"أبو
البختري" واسمه"سعيد بن فيروز" مضيا في: 175.
انقطاع الإسناد، هو بين أبي البختري، المتوفي سنة 83، وبين
حذيفة بن اليمان، المتوفى أوائل سنة 36 بعد مقتل عثمان
بأربعين يوما. ونص في التهذيب على أن أبا البختري لم يدرك
حذيفة.
هذا الخبر ذكره الطبري مختصرا - كما ترى - وجاء به السيوطي
كاملا 1: 87، ونسبه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب
الإخلاص، وابن جرير، فذكر نحوه، موقوفا على حذيفة.
وقد ورد معناه مرفوعا: فروى أحمد في المسند: 11146 (ج3 ص
17 حلبي) ، عن أبي النضر، عن أبي معاوية، وهو شيبان بن عبد
الرحمن النحوي، عن ليث، وهو ابن أبي سليم، عن عمرو بن مرة،
عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري. وهذا إسناد صحيح.
ويظهر منه أن أبا البختري كان عنده هذا الحديث، عن أبي
سعيد مرفوعا متصلا، وعن حذيفة بن اليمان موقوفا منقطعا.
ومثل هذا كثير، ولا نجعل إحدى الروايتين علة للأخرى.
وحديث أبي سعيد هذا: ذكره السيوطي 1: 87، ونسبه لأحمد"بسند
جيد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 63، وقال:"رواه
أحمد، والطبراني في الصغير، وفي إسناده ليث بن أبي سليم".
كأنه يريد إعلاله بضعف ليث. وليث بن أبي سليم: ليس بضعيف
بمرة، ولكن في حفظه شيء وحديثه عندنا صحيح، إلا ما ظهر
خطؤه فيه، كما بينا في شرح المسند: 1199، وقد ترجمة
البخاري في الكبير 4 / 1 /246، فلم يذكر فيه جرحا.
(2/325)
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن
جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (وقالوا قلوبنا غلف) ، أي في
أكنة.
1499 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا
معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (قلوبنا
غلف) ، أي في غطاء.
1500 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،: (وقالوا قلوبنا
غلف) ، فهي القلوب المطبوع عليها.
1501 - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن
جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قوله: (وقالوا
قلوبنا غلف) ، عليها غشاوة.
1502 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل
قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (وقالوا قلوبنا
غلف) ، عليها غشاوة.
1503 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا شريك عن الأعمش قوله: (قلوبنا غلف) ،
قال: هي في غُلُف.
1504 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف) ، أي لا تفقه.
1505 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: هو
كقوله: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت: 5] .
1506 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: (قلوبنا غلف) قال:
عليها طابَع، قال: هو كقوله: (قلوبنا في أكنة) .
1507 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (قلوبنا غلف) ، أي لا تفقه.
(2/326)
1508 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال:
يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
1509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد
في قوله: (قلوبنا غلف) ، قال يقول: قلبي في غلاف، فلا يخلص
إليه مما تقول شيء، وقرأ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) [فصلت: 5] . (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها "غلف" بتحريك اللام
وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى
أنها أوعية.
قال: و"الغلف" على تأويل هؤلاء جمع"غلاف". كما يجمع"الكتاب
كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل
قراءة من قرأ"غلف" بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود:
قلوبنا غلف للعلم، وأوعية له ولغيره.
* ذكر من قال ذلك:
1510 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي، عن
فضيل بن مرزوق، عن عطية: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: أوعية
للذكر.
1511 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله
بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: (قلوبنا غلف)
قال: أوعية للعلم. (2)
1512 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
قال، حدثنا فضيل، عن عطية مثله.
1513 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي
روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقالوا قلوبنا غلف)
، قال: مملوءة علما، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ولا غيره.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: (قلوبنا غلف) ، هي
قراءة من قرأ (غلف)
__________
(1) في المطبوعة:"شيء" ساقطة، واستدركتها من ابن كثير 1:
229.
(2) الخبر: 1511 - محمد بن عمارة الأسدى، شيخ الطبري: لم
أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه في
التاريخ أيضًا مرارا.
(2/327)
بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية
وأغطية، لاجتماع الحجة من الْقَرَأَة وأهل التأويل على
صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك
بضم"اللام".
وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من
بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما
جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في
غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بل لعنهم الله) ، بل
أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم،
وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم
أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما
كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
وأصل"اللعن" الطرد والإبعاد والإقصاء يقال:"لعن الله فلانا
يلعنه لعنا، وهو ملعون". ثم يصرف"مفعول": فيقال: هو"لعين".
ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مكان الذئب كالرجل اللعين (2)
* * *
قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: (بل لعنهم الله
بكفرهم) تكذيب منه للقائلين من اليهود: (قلوبنا غلف) . لأن
قوله: (بل) دلالة على جحده جل
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 210، 211، 265، 295
(2) ديوانه: 92، ومجاز القرآن 461، وسيأتي في 2: 33
(بولاق) ، وروايته هناك وفي ديوانه،"مقام الذئب" والضمير
في"به" إلى"ماء" في قوله قبله: وماء قد وردت لوصل أروى ...
عليه الطير كالورق اللجين
وأراد في البيت: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. والرجل
اللعين المطرود لا يزال منتبذا عن الناس، شبه الذئب به،
يعني في ذله وشدة مخافته وذعره.
(2/328)
ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت"بل"
لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك،
فبَيِّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما
تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما
زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم
عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلا ما يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ
(88) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فقليلا
ما يؤمنون) . فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن، أي لا
يؤمن منهم إلا قليل.
* ذكر من قال ذلك:
1514 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا
ما يؤمنون) ، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من
أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
1515 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون) ، قال: لا يؤمن
منهم إلا قليل.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في
أيديهم.
* ذكر من قال ذلك:
1516 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو
سفيان، عن معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون) ، قال: لا
يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا
بقليل مما في أيديهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: (فقليلا ما
يؤمنون) بالصواب،
(2/329)
ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل
ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر
عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: (فقليلا) ، لأنه نعت
للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم،
فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذًا بما بينا فساد
القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على
ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل
منهم من يؤمن، لكان"القليل" مرفوعا لا منصوبا. لأنه إذا
كان ذلك تأويله، كان"القليل" حينئذ مرافعا"ما". فإذْ
نصب"القليل" - و"ما" في معنى"من" أو"الذي" -[فقد] بقيت"ما"
لا مرافع لها. (1) وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
* * *
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى"ما" التي في قوله:
(فقليلا ما يؤمنون) . فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها،
وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران:
159] وما أشبه ذلك، فزعم أن"ما" في ذلك زائدة، وأن معنى
الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجا لقوله
ذلك - بيت مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها ... خضب ما أنف خاطب بدم (2)
وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن"ما" زائدة.
* * *
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في"ما"، في الآية وفي
البيت الذي
__________
(1) في المطبوعة: "وإن نصب القليل"، وكأن الأجود ما أثبته.
والزيادة بين القوسين واجبة.
(2) الكامل 2: 68، ومعجم ما استعجم: 96، وشرح شواهد
المغني: 247 وغيرها قال أبو العباس: "أبان جبل: وهما
أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض قال مهلهل، وكان نزل في
آخر حربهم - حرب البسوس - في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن
مالك، وهو مذحج، وجنب حي من أحيائهم وضيع، وخطبت ابنته
ومهرت أدما فزوجها وقال قبله: أنكحها فقدها الأراقم في ...
جنب وكان الحباء من أدم
(2/330)
أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على
ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت"ما"
كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره
بعدها.
* * *
وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من
الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل
ثناؤه.
* * *
ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم
قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير، فيقال
فيهم:"فقليلا ما يؤمنون"؟
قيل: إن معنى"الإيمان" هو التصديق. وقد كانت اليهود التي
أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث
والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته،
وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم، ومما
جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم -
وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم
يكفرون به.
* * *
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل:
(فقليلا ما يؤمنون) ، وهم بالجميع كافرون، كما تقول
العرب:"قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روي عنها سماعا منها:
مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل" يعني: ما تنبت
غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به
بوصف الشيء بـ "القلة"، والمعنى فيه نفي جميعه. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 554، تعليق: 1، وانظر معاني القرآن
للفراء 1: 59 - 60.
(2/331)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم كتاب من
عند الله
(2/331)
مصدق لما معهم) ، ولما جاء اليهود من بني
إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم- (كتاب من عند الله) =
يعني بـ "الكتاب" القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى
الله عليه وسلم = (مصدق لما معهم) ، يعني مصدق للذي معهم
من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن، كما:-
1518 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما
معهم) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد، مصدق لما معهم من
التوراة والإنجيل.
1518 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله
مصدق لما معهم) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا) ، أي: وكان هؤلاء اليهود -
الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب
التي أنزلها الله قبل الفرقان، كفروا به - يستفتحون بمحمد
صلى الله عليه وسلم = ومعنى"الاستفتاح"، الاستنصار = (1)
يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه، أي من قبل
أن يبعث، كما:-
1519 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق، عن
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 524.
(2/332)
عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ
منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار، وفي
اليهود = الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة = يعني:
(ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا) = قالوا: كنا قد علوناهم دهرا
في الجاهلية - (1) ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب - (2)
فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم
قتل عاد وإرم. (3) فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش
واتبعناه، كفروا به. يقول الله: (فلما جاءهم ما عرفوا
كفروا به) . (4)
1520 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت،
عن سعيد بن جبير، أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن
يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا
به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل
وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود،
اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى
الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث،
وتصفونه لنا بصفته! فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير:
ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل
الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: (ولما جاءهم
__________
(1) في سيرة ابن هشام 2: 190"علوناهم ظهرا".
(2) في سيرة ابن هشام 2: 190"ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب".
(3) في سيرة ابن هشام 2: 190"نقتلكم معه. . "، وكذلك هو في
ابن كثير 1: 230، وكأنه الصواب.
(4) الخبر: 1519 - هذا له حكم الحديث المرفوع، لأنه حكاية
عن وقائع في عهد النبوة، كانت سببا لنزول الآية، تشير
الآية إليها. الراجح أن يكون موصولا. لأن عاصم بن عمر بن
قتادة الأنصاري الظفري المدني: تابعي ثقة، وهو يحكي
عن"أشياخ منهم"، فهم آله من الأنصار. وعن هذا رجحنا
اتصاله. وقد نقل السيوطي 1: 87 هذا الخبر، ونسبه لابن
إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي نعيم، والبيهقي،
كلاهما في الدلائل.
(2/333)
كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من
قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا
به فلعنة الله على الكافرين) . (1)
1521 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن
ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس
مثله.
1522 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: (وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا) ، يقول: يستنصرون بخروج محمد
صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني بذلك أهل
الكتاب - فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من
غيرهم، كفروا به وحسدوه.
1523 - وحدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي في قول الله:
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، قال: اليهود،
كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين
الناس، يستفتحون - يستنصرون - به على الناس.
1524 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي - وهو البارقي - في قول
الله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل يستفتحون) ، فذكر مثله. (2)
1525 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين
كفروا) ، كانت اليهود
__________
(1) الخبر: 1520 - فس يرة ابن هشام 2: 196.
(2) الأثر: 1523، 1524 - عليٍ الأزدى البارقي، هو علي بن
عبد الله أبو عبد الله بن أبي الوليد البارقي، روى عن ابن
عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبيد بن عمير، وأرسل عن زيد
بن حارثة. وعنه مجاهد بن جبر، وهو من أقرانه. قال ابن عدى:
ليس عنده كثير حديث، وهو عندي لا بأس به (تهذيب 7: 358،
359) .
(2/334)
تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار
العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في
التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا صلى الله
عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب،
وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)
.
1526 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد
صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث
هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين
ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا
به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم: فقال الله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة
الله على الكافرين) .
1527 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا
كفروا به) . قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا
يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويسألون الله
أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب. فلما جاءهم محمد كفروا به،
حين لم يكن من بني إسرائيل.
1528 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون
على الذين كفروا) ، قال: كانوا يستفتحون على كفار العرب
بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجون أن يكون منهم.
فلما خرج ورأوه ليس منهم، كفروا وقد عرفوا أنه الحق، وأنه
النبي. قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على
الكافرين) .
1529 - قال حدثنا ابن جريج، وقال مجاهد: يستفتحون بمحمد
صلى الله
(2/335)
عليه وسلم تقول: إنه - يخرج. (فلما جاءهم
ما عرفوا) -وكان من غيرهم- كفروا به. (1)
1530 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
قال: قال ابن جريج - وقال ابن عباس: كانوا يستفتحون على
كفار العرب.
1531 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثني شريك،
عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قوله:
(فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) ، قال: هم اليهود عرفوا
محمدا أنه نبي وكفروا به.
1532 - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن
الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على
الذين كفروا) ، قال: كانوا يستظهرون، يقولون: نحن نعين
محمدا عليهم. وليسوا كذلك، يكذبون.
1533 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد
عن قول الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين
كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . قال: كانت يهود
يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله لو قد جاء
النبي الذي بشر به موسى وعيسى، أحمد، لكان لنا عليكم!
وكانوا يظنون أنه منهم، والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون
عليهم به، ويستنصرون به. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
وحسدوه، وقرأ قول الله جل ثناؤه: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ) [سورة البقرة: 109] . قال: قد تبين لهم أنه
رسول، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون
منهم أن نبيا خارج.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: (ولما
جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه. فقال بعضهم: هو مما
ترك جوابه، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه، وبما قد
ذكر من أمثاله في سائر القرآن. (2)
__________
(1) الأثر: 1529 - هذا إسناد قد سقط صدره، فما أدري ما هو.
وهو مضطرب اللفظ أيضًا.
(2) أنا في شك من هذه الجملة الأخيرة، أن يكون فيها تحريف.
(2/336)
وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي
بأشياء لها أجوبة، فتحذف أجوبتها، لاستغناء سامعيها -
بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه:
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى
بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) [سورة الرعد: 31] ، فترك
جوابه. والمعنى:"ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به
الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه.
قالوا: فكذلك قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما
معهم) .
* * *
وقال آخرون: جواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله)
في"الفاء" التي في قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) ،
وجواب الجزاءين في"كفروا به"، كقولك:"لما قمت، فلما جئتنا
أحسنت"، بمعنى: لما جئتنا إذْ قمت أحسنت. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89) }
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة، وعلى
معنى"الكفر"، بما فيه الكفاية. (2)
* * *
فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا
من الحق عليهم لله ولأنبيائه، المنكرين لما قد ثبت عندهم
صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عز
وجل عن اليهود - بما أخبر الله عنهم بقوله: (فلما جاءهم ما
عرفوا كفروا به) - البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد
صلى الله عليه وسلم، بعد قيام الحجة بنبوته عليهم، وقطع
الله عذرهم بأنه رسوله إليهم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 59.
(2) انظر ما سلف (الكفر) 1: 255، 382، 522، وهذا الجزء
(اللعنة) 2: 328
(2/337)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
القول في تأويل قوله تعالى: {بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا
أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا}
قال أبوجعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: (بئس ما اشتروا به
أنفسهم) : ساء ما اشتروا به أنفسهم.
* * *
وأصل"بئس" "بَئِس" من"البؤس"، سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها
إلى"الباء"، كما قيل في"ظللت""ظلت"، وكما
قيل"للكبد"،"كِبْد" - فنقلت حركة"الباء" إلى"الكاف" لما
سكنت"الباء".
وقد يحتمل أن تكون"بئس"، وإن كان أصلها"بَئِس"، من لغة
الذين ينقلون حركة العين من"فعل" إلى الفاء، إذا كانت عين
الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من"لعب" "لِعْب"،
ومن"سئم""سِئْم"، وذلك -فيما يقال- لغة فاشية في تميم.
ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ "ما".
واختلف أهل العربية في معنى"ما" التي مع"بئسما". فقال بعض
نحويي البصرة: هي وحدها اسم، و"أن يكفروا" تفسير له، (1)
نحو: نعم رجلا زيد، و"أن ينزل الله" بدل من"أنزل الله".
وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به
أنفسهم أن يكفروا، ف"ما" اسم"بئس"، و"أن يكفروا" الاسم
الثاني. وزعم أن:"أن يكفروا" إن شئت جعلت"أن" في موضع رفع،
وإن شئت في موضع خفض. (2) أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن
يفعلوه. وأما الخفض: فبئس
__________
(1) "التفسير" هو ما اصطلح البصريون على تسميته"التمييز"،
ويقال له التبيين أيضًا، (همع الهوامع 1: 250) .
(2) في المطبوعة: "وزعم أن أن ينزل من فضله إن شئت جعلت. .
. "، وهو سهو من النساخ، وصوابه ماأثبته من معاني القرآن
للفراء 1: 56.
(2/338)
الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل
الله بغيا. قال: وقوله: (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [سورة
المائدة: 80] كمثل ذلك. والعرب تجعل"ما" وحدها في هذا
الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: (فنعما هي) [سورة
البقرة: 271] ، و"بئسما أنت"، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض
الرجاز:
لا تعجلا في السير وادْلُوها ... لبئسما بطءٌ ولا نرعاها
(1)
قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر"،
فيجعلون"ما" وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا
يجيز أن يكون الذي يلي"بئس" معرفة مُوَقَّتَة، وخبره معرفة
موقتة. وقد زعم أن"بئسما" بمنزلة: بئس الشيء اشتروا به
أنفسهم، فقد صارت"ما" بصلتها اسما موقتا، لأن"اشتروا" فعل
ماض من صلة"ما"، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض
من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام
حينئذ:"بئس شراؤهم كفرهم". وذلك عنده غير جائز: فقد تبين
فساد هذا القول. (2)
وكان آخر منهم يزعم أن"أن" في موضع خفض إن شئت، ورفع إن
شئت. فأما الخفض: فأن ترده على"الهاء" التي في،"به" على
التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما
الرفع: فأن يكون مكرورا على موضع"ما" التي تلي"بئس". (3)
قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك:"بئس الرجل عبد الله.
(4)
وقال بعضهم:"بئسما" شيء واحد يرافع ما بعده (5) كما حكي عن
العرب:
__________
(1) لم أعرف الراجز، والبيتان في اللسان (دلو) . دلوت
الناقة دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا ورعى الماشية
وأرعاها: أطلقها في المرعى.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 56 - 57، كأنه قول
الكسائي. والمعرفة الموقتة: وهي المعرفة المحددة. وانظر
شرح ذلك فيما سلف 1: 181، تعليق: 1.
(3) في المطبوعة: "مكررا"، والصواب من معاني القرآن للفراء
1: 56.
(4) هذه الفقرة هي نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 56.
(5) في المطبوعة: "يعرف ما بعده"، والصواب ما أثبت.
(2/339)
"بئسما تزويج ولا مهر"
فرافع"تزويج""بئسما"، (1) كما يقال:"بئسما زيد، وبئس ما
عمرو"، فيكون"بئسما" رفعا بما عاد عليها من"الهاء". كأنك
قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون"أن" مترجمة
عن"بئسما". (2)
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل"بئسما" مرفوعا
بالراجع من"الهاء" في قوله: (اشتروا به) ، كما رفعوا ذلك
بـ "عبد الله" إذ قالوا:"بئسما عبد الله"، وجعل"أن يكفروا"
مترجمة عن"بئسما". (3) فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء
باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن
ينزل الله من فضله. وتكون"أن" التي في قوله:"أن ينزل
الله"، في موضع نصب. لأنه يعني به"أن يكفروا بما أنزل
الله": من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
موضع "أن" جزاء. (4) وكان بعض أهل العربية من الكوفيين
يزعم أن"أن" في موضع خفض بنية"الباء". وإنما اخترنا فيها
النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف
الخافض لا يخفض مضمرا.
* * *
وأما قوله: (اشتروا به أنفسهم) ، فإنه يعني به: باعوا
أنفسهم * كما:-
1534 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: (بئسما اشتروا به أنفسهم) ، يقول: باعوا
أنفسهم"أن يكفروا بما أنزل الله بغيا".
1535 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال مجاهد: (بئسما اشتروا به أنفسهم) ،
يهود، شروا الحق
__________
(1) في المطبوعة: "فرفع"، والصواب ما أثبت.
(2) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان"
و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.
(3) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان"
و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.
(4) الجزاء: المفعول لأجله هنا، وفي المطبوعة: "جر"، وهو
خطأ، وصوابه في معاني القرآن للفراء 1: 58.
(2/340)
بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم بأن يبينوه. (1)
قال أبو جعفر: والعرب تقول:"شريته"، بمعنى بعته.
و"اشتروا"، في هذا الموضع،"افتعلوا" من"شريت". وكلام العرب
-فيما بلغنا- أن يقولوا:"شريت" بمعنى: بعت، و"اشتريت"
بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي"الشاري"،"شاريا"، لأنه باع
نفسه ودنياه بآخرته. (2)
ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني ... من قبل برد كنت هامة (3)
ومنه قول المسيب بن علس:
يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشري? (4)
__________
(1) في المطبوعة: "بأن بينوه"، وهو خطأ، والصواب من تفسير
ابن كثير 1: 231. والمعنى اشتروا الكتمان بالبيان.
(2) الشاري واحد الشراة (بضم الشين) ، وهم الخوارج، وقال
قطري بن الفجاءة الخارجي في معنى ذلك، ويذكر أم حكيم، وذلك
في يوم دولاب: فلو شهدتنا يوم ذاك، وخيلنا ... تبيح من
الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
وقال الخوارج: نحن الشراة، لقول الله عز وجل: "ومن الناس
من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيعها ويبذلها في
الجهاد، وثمنها الجنة، وقيل: سموا بذلك لقولهم: "إنا شرينا
أنفسنا في طاعة الله حين فارقنا الأئمة الجائرة"، أي:
بعناها بالجنة.
(3) طبقات فحول الشعراء: 555 من قصيدة له، في هجاء عباد بن
زياد، حين باع ما له في دين كان عليه، وقضى الغرماء، وكان
فيما باع غلام لابن مفرغ، يقال له"برد"، وجارية يقال
لها"أراكة". وقوله: "كنت هامة" أي هالكا. يقال: فلان هامة
اليوم أو غد، أي قريب هلاكه، فإذا هو"هامة"، وذلك زعم
أبطله الله بالإسلام كان في الجاهلية: أن عظم الميت أو
روحه تصير هامة (وهو طير كالبومة) فتطير. ورواية غيره: "من
بعد برد".
(4) ديوانه: 352 (من ملحق ديوان الأعشى - والمسيب خال
الأعشى، والأعشى راويته) ، ورواية الديوان"ويقول صاحبه"،
وهي الصواب. والبيت من أبيات آية في الجودة، يصف الغواص
الفقير، قد ظفر بدرة لا شبيه لها، فضن بها على البيع، وقد
أعطى فيها ما يغنى من الثمن، فأبى، وصاحبه يحضضه على
بيعها، وبعده: وترى الصراري يسجدون لها ... ويضمها بيديه
للنحر
والصراري: الملاحون، من أصحاب الغواصين.
(2/341)
يعني به: بعت بردا. وربما استعمل"اشتريت"
بمعنى: بعت، و"شريت" في معنى:"ابتعت". والكلام المستفيض
فيهم هو ما وصفت.
* * *
وأما معنى قوله: (بغيا) ، فإنه يعني به: تعديا وحسدا،
كما:-
1536 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد
عن قتادة: (بغيا) ، قال: أي حسدا، وهم اليهود.
1537 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (بغيا) ، قال: بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم
وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال
هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من
يشاء من عباده.
1538 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (بغيا) ، يعني: حسدا أن ينزل
الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما
أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
1539 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم،
الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن
أنزل الله من فضله = وفضله: حكمته وآياته ونبوته = على من
يشاء من عباده - يعني به: على محمد صلى الله عليه وسلم -
بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه كان من
ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل.
* * *
فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: (بئس
ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله) ؟ وهل يشتري
بالكفر شيء؟
قيل: إن معنى:"الشراء" و"البيع" عند العرب، هو إزالة مالك
ملكه
(2/342)
إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل
العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا،
فتقول:"نعم ما باع به فلان نفسه" و"بئس ما باع به فلان
نفسه"، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا
أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل
ثناؤه: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) - لما أوبقوا أنفسهم
بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها، خاطبهم الله
والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: (بئس ما اشتروا به
أنفسهم) ، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس
العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذْ
كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا
آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم
بكفرهم بذلك.
* * *
وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى
الله عليه وسلم وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة
والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك
إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول
مرسل - (1) نظيره الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله،
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ
الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا
يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا
آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 51-54] .
* * *
__________
(1) قوله"- نظيره الآية. . " خبر قوله في صدر هذه الفقرة:
"وهذه الآية-".
(2/343)
القول في تأويل قوله: {أَنْ يُنزلَ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر
الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:-
1540 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم،
قوله: (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) ،
أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. (1) .
1541 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: هم اليهود. لما بعث الله نبيه محمدا صلى الله
عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به - حسدا للعرب
- وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة.
1542 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
1543 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع مثله.
1544 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني
إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟
1545- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي. قال: نزلت في
اليهود. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 1540 - سيرة ابن هشام 2: 190
(2) الأثر: 1545 - انظر التعليق على رقم: 1523، 1524.
(2/344)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فباءوا بغضب على غضب) ، (1)
فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من
الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به، وبعد
الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث -
مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب
من الله = استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم
نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في
كتابهم، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب = على غضب
سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابقٍ غضبه الثاني،
لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو
لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من
الله، كما:-
1546 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال،
حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما روى عن سعيد
بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (فباءوا بغضب على غضب) ،
فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة
وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.
(2)
1547 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد
الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا
بغضب على غضب) قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد صلى الله عليه
وسلم. (3)
1548 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا
سفيان،
__________
(1) انظر تفسير. "باء" فيما سلف من هذا الجزء 2: 138.
(2) الأثر: 1546- سيرة ابن هشام 2: 190.
(3) الأثر: 1547 - في الدر المنثور: "كفرهم" في الموضعين،
وهما سواء.
(2/345)
عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا بغضب على
غضب) ، قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
1549 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله.
1550 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن
الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان
مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل
كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجر.
ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل
كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى
الله عليه وسلم، فباء بغضب.
1551 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (فباءوا بغضب على غضب) ، غضب الله
عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن
وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
1552 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فباءوا بغضب) ، اليهود بما
كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه
وسلم، (على غضب) ، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم،
وكفرهم بما جاء به.
1553 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (فباءوا بغضب على غضب) ، يقول:
غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم
بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
1554 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (فباءوا بغضب على غضب) ، أما الغضب الأول فهو حين
غضب الله عليهم في العجل؛ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم
حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(2/346)
1555 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله:
(فباءوا بغضب على غضب) ، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا
فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من تبديلهم
وكفرهم -، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم - إذ
خرج، فكفروا به.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"الغضب" من الله على من غضب
عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من
كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ (90) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وللكافرين عذاب مهين)
، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم،
عذاب من الله، إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة،
(مهين) هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هوانا وذلة.
* * *
فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين
المهين منه؟
قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة
وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز
وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله.
وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه.
وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به
القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما
أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب
التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 188 - 189، وما مضى في هذا الجزء 2:
138 هذا وقد كان في المطبوعة بعد قوله: "عن إعادته" ما
نصه: "والله تعالى أعلم"، وليس لها مكان هنا، وهي بلا شك
زيادة بعض النساخ، فلذلك تركتها.
(2/347)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير
جرائمهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون
الجنة. فإن كل ذلك، وإن كان عذابا، فغير مهين من عذب به.
إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن
العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا
بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ
عَلَيْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذا قيل لهم) ، وإذا
قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (آمنوا) ، أي صدقوا، (بما
أنزل الله) ، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى
الله عليه وسلم، (قالوا: نؤمن) ، أي نصدق، (بما أنزل
علينا) ، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا
وَرَاءَهُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ويكفرون بما وراءه) ،
ويجحدون،"بما وراءه"، يعني: بما وراء التوراة.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل"وراءه" في هذا الموضع"سوى". كما يقال
للرجل المتكلم بالحسن:"ما وراء هذا الكلام شيء" يراد به:
ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله:
(ويكفرون بما وراءه) ، أي
(2/348)
بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله
التي أنزلها إلى رسله، (1) كما:-
1556 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: (ويكفرون بما وراءه) ، يقول: بما بعده.
1557 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (ويكفرون بما وراءه) ، أي بما
بعده - يعني: بما بعد التوراة.
1558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ويكفرون بما وراءه) ، يقول:
بما بعده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهو الحق مصدقا) ،
أي: ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 60.
(2/349)
التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق.
وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد
صلى الله عليه وسلم، كما:-
1559 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما
أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) ، وهو القرآن. يقول الله جل
ثناؤه: (وهو الحق مصدقا لما معهم) . وإنما قال جل ثناؤه:
(مصدقا لما معهم) ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. ففي
الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم،
والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى
عليه السلام. فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذْ أخبرهم عما
وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه، من
الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه -: إنه الحق مصدقا للكتاب
الذي معهم، يعني: أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون.
قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة، على مثل
الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادا لله،
وخلافا لأمره، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (قل فلم تقتلون أنبياء
الله) ، قل يا محمد، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت
لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا-: لم
تقتلون = إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله
عليكم = أنبياءه، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم
قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من
الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا)
وتعيير لهم، كما:-
1560 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي قال: قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني
اليهود: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) ؟
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: (فلم تقتلون أنبياء الله من
قبل) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد
مضى؟
قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض
البصريين: معنى
(2/350)
ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما
قال جل ثناؤه: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)
[سورة البقرة: 102] ، أي: ما تلت، (1) وكما قال الشاعر:
(2)
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني
(3)
يريد بقوله:"ولقد أمر" ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك،
بقوله:"فمضيت عنه"، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن"فعل"
و"يفعل" قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول
الشاعر: (4)
وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى ... من الأمر، واسْتِيجابَ
ما كان في غد (5)
يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر (6)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 60 - 61.
(2) هو رجل من بني سلول.
(3) سيبويه 1: 416، الخزانة 1: 173، وشرح شواهد المغني:
107 وغيرها كثير. وروايتهم جميعا"ثمت قلت". وبعده بيت آخر:
غضبان ممتلئا علي إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني
(4) هو الطرماح بن حكيم الطائي.
(5) ديوانه: 146، وسيأتي في 4: 97 (بولاق) ، وحماسة
البحتري: 109، واللسان (كون) وقد كان في هذا
الموضع"بشكرى"، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على
الصواب. وروى اللسان: "واستنجاز ما كان". وصواب الرواية:
"فإني لآتيكم" فإنه قبله: من كان لا يأتيك إلا لحاجة ...
يروح بها فيما يروح ويغتدى
فإني لآتيكم. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
(6) ديوانه: 85، ونسب قريش: 138، والاستيعاب: 604، وأنساب
الأشراف 5: 32، وسمط اللآلئ: 674. قالها الحطيئة في الوليد
بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء.
استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا
عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا
شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله: شهد
الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر
فنزعت، مكذوبا عليك، ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر
قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها
من غير قول الحطيئة: نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم?
ثملا ولا يدري
ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا ... مرت صلاتهم على العشر
وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر
الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن
البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له
في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن
عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو
العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: 196) قال:: "قال
الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة:
"اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك
روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا
ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا
يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من
عقلاء الرجال وأشرافهم.
(2/351)
يعني: يشهد. وكما قال الآخر:
فما أضحي ولا أمسيت إلا ... أراني منكم في كَوَّفان (1)
فقال: أضحي، ثم قال:"ولا أمسيت".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: (فلم تقتلون أنبياء
الله من قبل) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه
الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول
له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال
الشاعر:
__________
(1) لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي: 187.
والكوفان (بتشديد الواو) : الاختلاط والشدة والعناء. يقال:
إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط.
(2/352)
إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ... ولم
تجدي من أن تُقِري به بُدَّا (1)
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى
معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام:"إذا نظرت في سيرة
عمر، لم تجده يسيء". (2) المعنى: لم تجده أساء. فلما كان
أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل.
فلذلك صلحت"من قبل" مع قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من
قبل) . قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل
الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتولوهم على ذلك ورضوا به،
فنسب القتل إليهم. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب
الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني
إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور
- بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران
أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى
أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب
بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم
كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا
هذا -، (4) يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن
أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: (فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل) ، إذْ كان قد خرج على لفظ
الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن
__________
(1) سلف تخريجه في هذا الجزء 2: 165.
(2) في معاني القرآن للفراء: "لم يسئ"، بحذف"تجده".
(3) في المطبوعة: "فتلوهم على ذلك ورضوا. فنسب. . "،
والصواب ما أثبته من معاني القرآن للفراء 1: 60 - 61، وهذا
الذي نقله الطبري هو نص كلامه.
(4) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 302 تعليق: 1 والمراجع.
(2/353)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
فعل السالفين منهم - (1) على نحو الذي بينا
- جاز أن يقال"من قبل"، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل
أسلافكم أنبياء الله من قبل"؟ وكان معلوما بأن قوله: (فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم.
* * *
وتأويل قوله: (من قبل) ، أي: من قبل اليوم.
* * *
وأما قوله: (إن كنتم مؤمنين) ، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين
بما نزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود
الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن
كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم
جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم:
(آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. لأنهم
كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم:
نؤمن بما أنزل علينا - متولين، وبفعلهم راضين. فقال لهم:
إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون
قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى
بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد جاءكم موسى
بالبينات) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة
نبوته، (3) كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا، ويده التي
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان قد خرج على لفظ الخبر. . "،
والصواب: "إذ. . " كما أثبته.
(2) في المطبوعة: "أي وترضون. . " بزيادة واو لا خير فيها.
(3) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، وليست مما يقوله أبو
جعفر، وقد مضى آنفًا مثل هذا التبديل من النساخ، وكان في
المخطوطة العتيقة، على مثل الذي أثبته، وانظر ما سلف 2:
318.
(2/354)
أخرجها بيضاء للناظرين. وفلق البحر ومصير
أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمل والضفادع، وسائر
الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته. (1)
وإنما سماها الله"بينات" لتبينها للناظرين إليها أنها
معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك
له. وإنما هي جمع"بينة"، مثل"طيبة وطيبات". (2)
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم - يا معشر يهود
بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة
نبوته. (3)
* * *
وقوله:"ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون" يقول جل
ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها. فالهاء التي
في قوله:"من بعده"، من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى،
لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه
لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا. (4)
وقد يجوز أن تكون"الهاء" التي في"بعده" إلى ذكر المجيء.
فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم
اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون. كما تقول:
جئتني فكرهته، يعني كرهت مجيئك.
* * *
وأما قوله: (وأنتم ظالمون) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما
فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الذي كان
ينبغي لكم أن تعبدوه. لأن العبادة لا تنبغي لغير الله.
وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه
لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها
وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو
الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 354.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 319.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 354.
(4) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 60 - 69.
(2/355)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه، من
الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر
عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما
عاينوا من عجائب حِكَم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله
عليه وسلم وجحود ما في كتبهم = التي زعموا أنهم بها مؤمنون
= من صفته ونعته، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة
- أسرع (1) وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم) ،
واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة
- التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري، وتنتهوا
عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط، فأعطيتم على
العمل بذلك ميثاقكم، إذ رفعنا فوقكم الجبل. (2)
وأما قوله: (واسمعوا) ، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به
وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر:"سمعت
وأطعت"، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال
الراجز:
السمع والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني ميمْ (3)
__________
(1) سياق هذه الجملة المفصلة:. . "وإخبار منه لهم أنهم إذا
كانوا فعلوا ما فعلوا. . فهم إلى تكذيب محمد. . . أسرع"،
وكل ما بين ذلك فصول متتابعة كدأبه.
(2) سلف شرحه لألفاظ هذه الآية: "ميثاق"، "الطور"،
"الإيتاء"، "قوة"، فاطلبه في المواضع الآتية 2: 156، 157،
160 والمراجع.
(3) قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك،
ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة
في سنة 55، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد
الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى
معاوية فعزله (تاريخ الطبري 6: 167) .
(2/356)
يعني بقوله:"السمع"، قبول ما يسمع،
و"الطاعة" لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: (واسمعوا) ، اقبلوا
ما سمعتم واعملوا به.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما
آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا
فوقكم الطور من أجل ذلك.
* * *
وأما قوله: (قالوا سمعنا) ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن
الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإن ذلك كما وصفنا،
(1) من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه
ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم
تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. (2) فكذلك ذلك في هذه
الآية، لأن قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) ، بمعنى: قلنا لكم،
فأجبتمونا.
* * *
وأما قوله: (قالوا سمعنا) ، فإنه خبر من الله - عن اليهود
الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا
الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك:
سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال
بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل.
* ذكر من قال ذلك:
1561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
حدثنا معمر، عن قتادة: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ، قال:
أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
__________
(1) في المطبوعة: "مما وصفنا"، ليست شيئا.
(2) انظر ما سلف 1: 153 - 154، وهذا الجزء 2: 293، 294.
(2/357)
1562 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال،
حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وأشربوا في
قلوبهم العجل) ، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم.
1563 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر عن أبيه، عن الربيع: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ،
قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة
العجل. (1)
* ذكر من قال ذلك:
1564 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي
وجدهم عاكفين عليه، فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، (2) ثم ذرّاه
في اليم، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم
قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج
على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: (وأشربوا في
قلوبهم العجل بكفرهم) . (3)
1565 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن
ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية
الماء، فشربوا حتى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم
جبنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل
ثناؤه: (وأشربوا
__________
(1) السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما إذا سحلا، أي
بردا بالمبرد.
(2) حرقه: برده بالمبرد، وانظر ما سلف من هذا الجزء 2: 74.
(3) الأثر: 1564 - سلف برقم: 937.
(2/358)
في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في
قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في
قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه:"أشرب قلب
فلان حب كذا"، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما
قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل ... والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء
(1)
قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر"الحب" اكتفاء بفهم السامع
لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب،
وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه:
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) [سورة الأعراف: 163] ، (وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنَا فِيهَا) [يوسف: 82] ، وكما قال الشاعر: (2)
ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا ... ألا بَجَلِي من الشراب
ألا بَجَل (3)
__________
(1) ديوانه: 339، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين
وكسر الراء ونصب"فؤادك"، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه
قال: "تدخله" وقال: "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري،
كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع"فؤادك". وحب
داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل
والبدن.
(2) هو طرفة بن العبد.
(3) ديوانه: 343 (أشعار الستة الجاهليين) ، ونوادر أبي
زيد: 83، واللسان (سود) . واختلف فيما أراد بقوله: "أسود".
قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره:
"يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو
الماء، يدعى الأسود". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن
يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء
حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل
البيت: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل
من وصل
ألا إنما أبكى ليوم لقيته ... بجرثم قاس، كل ما بعده جلل
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي - لا كذاب
ولا علل
ألا إنني. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
ويروى: "ألا بجلى من الحياة"، وهي أجود. . ورواية الديوان
واللسان: (ألا إنني شربت) ، والتي هنا أجود. وقوله: "بجل"،
أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة.
(2/159)
يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر"أسود"
عن ذكر"السم" لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله:"سقيت
أسود". ويروى:
ألا إنني سقيت أسود سالخا (1)
وقد تقول العرب:"إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى
هرم، أو إلى حاتم"، (2)
فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو
سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وإن جهادا طيئ وقتالها (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ
بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني
إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل
أنبياء الله ورسله،
__________
(1) السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما
يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام.
(2) هرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي
الذي لا يخفى له ذكر. وأكثر هذا في معاني القرآن للفراء 1:
61 - 62.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 62، ومجالس ثعلب: 76، واللسان
(غزا) ، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في
البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون: جاهد يا جميل بغزوة!
... وأي جهاد غيرهن أريد?
ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد
الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ.
(2/360)
والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده.
ومعنى"إيمانهم": تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من
كتاب الله، إذْ قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. فقالوا:
نؤمن بما أنزل علينا. وقوله: (إن كنتم مؤمنين) ، أي: إن
كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، (1) وإنما
كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر
بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك،
فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن
التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم،
وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله،
وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي
يحملهم عليه البغي والعدوان.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" 1: 235، 2: 143 وغيرهما.
(2/361)
قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (94)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني
مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة
بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره
الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى
صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من
المباهلة. (1) وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا
الموت، فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من
الإيمان وقرب المنزلة
__________
(1) وذلك ما جاء في سورة آل عمران: 61، وانظر خبره في
التفسير والسير.
(2/361)
من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت
إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها
وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما
تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم
تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا،
وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي
صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت،
فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع
فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في
عيسى، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.
فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن اليهود
تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج
الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا
يجدون أهلا ولا مالا".
1566 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال،
حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن
عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) الحديث: 1566 - إسناده صحيح. أبو كريب: هو محمد بن
العلاء. زكريا بن عدي ابن زريق التيمي الكوفي: ثقة جليل
ورع قال ابن سعد: " كان رجلا صالحا صدوقا". وهو مترجم في
التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2 /1 / 387 - 388، والصغير:
232، وابن سعد 6: 284، وابن أبي حاتم 1/2/600، ووقع هنا في
المطبوعة"أبو زكريا" وزيادة"أبو" خطأ من ناسخ أو طابع،
عبيد الله بن عمرو: هو أبو وهب الجزري الرقي، ثقة معروف
أخرج له أصحاب الكتب الستة، وترجمته في التهذيب، وابن سعد
7 /2 /182، والصغير للبخاري: 203، وابن أبي حاتم 2 /2 /
328 - 329. عبد الكريم: هو ابن مالك الجزري الحراني، وهو
ثقة ثبت صاحب سنة، من شيوخ ابن جريج ومالك والثوري
وأضرابهم. ترجمته في التهذيب، والصغير للبخاري: 148، وابن
أبي حاتم 3 / 1 /58 - 59.
والحديث رواه أحمد في المسند: 2226، عن أحمد بن عبد الملك
الحراني، عن عبيد الله، وهو ابن عمرو، بهذا الإسناد، ولكن
لم يذكر لفظه، أحاله على الرواية قبله: 2225، من طريق فرات
بن سلمان الحضرمي، عن عبد الكريم، به، بزيادة في أوله.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 228، عن الرواية
المطولة، وقال: "في الصحيح طرف من أوله"، ثم قال: "رواه
أحمد، أبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح". أقول: ورجال
أحمد في الإسناد: 2226 - رجال الصحيح أيضًا. وذكر السيوطي
1: 89 بعضه، ونسبه أيضًا إلى الشيخين، والترمذي، والنسائي،
وابن مردويه، وأبي نعيم.
(2/362)
1567 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن
علي، عن الأعمش، عن ابن عباس في قوله: (فتمنوا الموت إن
كنتم صادقين) ، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. (1)
1568 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة في قوله:
(فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، قال: قال ابن عباس: لو
تمنى اليهود الموت لماتوا. (2)
1569 - حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي، عن ابن عباس مثله.
1570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما
أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لو
تمنوه يوم قال ذلك لهم، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا
مات. (3)
قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود
يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل
والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.
__________
(1) الخبر: 1567 - هو موقوف على ابن عباس، في معنى الحديث
قبله. ولكن إسناده هذا منقطع. الأعمش: لم يدرك ابن عباس.
(2) الخبر: 1568- هو بعض الحديث السابق: 1566، وإسناده
صحيح. وظاهره هنا أنه موقوف على ابن عباس، ولكنه مرفوع
بالروايات الأخر.
(3) الأثر: 1570 - في ابن هشام 2: 191.
(2/363)
وإنما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يقول لهم: (تمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، لأنهم -فيما
ذكر لنا- قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18] ، وقالوا: (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)
[البقرة: 111] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان
الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت،
وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه
على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.
* ذكر من قال ذلك:
1571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد، أو عكرمة، عن
ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إن
كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا
الموت إن كنتم صادقين) ، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين
أكذب. (1)
* * *
وقال آخرون بما:-
1572 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة
عند الله خالصة من دون الناس) ، وذلك أنهم قالوا: (لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى) [البقرة: 111] ، وقالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18] فقيل لهم: (فتمنوا
الموت إن كنتم صادقين) .
1573 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن
__________
(1) الأثر: 1571 - في سيرة ابن هشام 2: 191، وفيها: "أكذب
عند الله"، وانظر رقم: 1578.
(2/364)
الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود:
(لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، وقالوا: (نحن
أبناء الله وأحباؤه) فقال الله: (قل إن كانت لكم الدار
الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم
صادقين) ، فلم يفعلوا.
1574 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (قل إن كانت لكم الدار
الآخرة عند الله خالصة) الآية، وذلك بأنهم قالوا: (لن يدخل
الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، وقالوا: (نحن أبناء
الله وأحباؤه) . (1) .
* * *
وأما تأويل قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله
خالصة) ، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة
ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر"الدار"،
من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا
معنى"الدار الآخرة". فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (2)
* * *
وأما تأويل قوله: (خالصة) ، فإنه يعني به: صافية. كما
يقال:"خلص لي فلان" بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال
منه:"خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة، و"الخالصة"
مصدر مثل"العافية". ويقال للرجل:"هذا خُلْصاني"، يعني
خالصتي من دون أصحابي.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: (خالصة) : خاصة.
وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.
1575 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:
(قل إن كانت لكم
__________
(1) الأثر: 1574 - في المطبوعة". . حدثنا إسحاق قال حدثني
أبو جعفر عن الربيع" وهذا إسناد فاسد، وهو كثير الدوران في
التفسير، وأقرب ذلك رقم: 1563
(2) انظر ما سلف 1: 245.
(2/365)
الدار الآخرة) ، قال:"قل" يا محمد لهم -
يعني اليهود -: إن كانت لكم الدار الآخرة" - يعني: الجنة
(1) - (عند الله خالصة) ، يقول: خاصة لكم.
* * *
وأما قوله: (من دون الناس) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر
التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من
دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء
منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم
قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، إلا
أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك:
1576 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:
(من دون الناس) ، يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم،
وأن الدار الآخرة لكم دونهم.
* * *
وأما قوله: (فتمنوا الموت) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد
روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا
يعرف"التمني" بمعنى"المسألة" في كلام العرب. ولكن أحسب أن
ابن عباس وجه معنى"الأمنية" - إذ كانت محبة النفس وشهوتها
- إلى معنى الرغبة والمسألة، إذْ كانت المسألة، هي رغبة
السائل إلى الله فيما سأله.
1577 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس:
(فتمنوا الموت) ، فسلوا الموت، (إن كنتم صادقين) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يعني الخير"، وهو تصحيف وتحريف، صوابه
ما أثبت.
(2/366)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95)
القول في تأويل قوله تعالى {وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود
وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من
تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل،
والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه
رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم
خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت،
خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب،
كالذي:-
1578 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو
جعفر، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (قل إن
كانت لكم الدار الآخرة) الآية، أي: ادعوا بالموت على أي
الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه
وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولن
يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) ، أي: لعلمهم بما عندهم من
العلم بك، والكفر بذلك. (1)
1579 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:
(ولن يتمنوه أبدا) ، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا،
لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا
في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت
أيديهم.
1580 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن
__________
(1) الأثر: 1578 - مضى في رقم: 1571، وهنا تمامه. وفي سيرة
ابن هشام 1: 191"أكذب عند الله". وفي المطبوعة: "وقالوا
ذلك على رسول الله. . " وهو خطأ، صوابه ما في سيرة ابن
هشام. وفي المطبوعة: "أي لعلمهم بما عندهم. . " والذي
أثبته هو نص ابن هشام.
(2/367)
ابن جريج قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم
صادقين) ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا
ليتمنوه أبدا.
* * *
وأما قوله: (بما قدمت أيديهم) ، فإنه يعني به: بما أسلفته
أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في
كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها
فيعاقب عليها:"نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك،
وبما قدمت يداك"، فتضيف ذلك إلى"اليد". ولعل الجناية التي
جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو
بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.
قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى"اليد"، لأن
عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة
الجنايات التي يجنيها الناس إلى"أيديهم"، حتى أضيف كل ما
عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها
عقوبة على ما جنته يده.
فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت
أيديهم) ، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا
أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته
في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله،
وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي
مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته
أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه
وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم،
وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها
وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها
وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
1581 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:
(بما قدمت أيديهم) ، يقول: بما أسلفت أيديهم.
(2/368)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ
يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
1582 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (بما قدمت أيديهم) ، قال:
إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه.
* * *
وأما قوله: (والله عليم بالظالمين) ، فإنه يعني جل ثناؤه:
والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل
الملل غيرها - وما يعملون.
وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع
محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به
وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله
إليهم.
وقد دللنا على معنى"الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ
النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولتجدنهم أحرص الناس
على حياة) - اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس
حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود *
كما:-
1583 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
إسحاق، عن محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد
بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على
حياة) ، يعني اليهود.
1584 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
حدثنا الربيع، عن أبي العالية: (ولتجدنهم أحرص الناس على
حياة) ، يعني اليهود. (2)
1585 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن
__________
(1) انظر ما سلف 1: 523 - 524.
(2) الأثر: 1584 - في المطبوعة: "حدثنا أبو جعفر عن أبي
العالية"، سقط منه"حدثنا الربيع"؛ وهو إسناد دائر، وأقربه
في رقم: 1573.
(2/369)
أبيه، عن الربيع مثله. (1)
1586 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي
والهوان الطويل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن الذين أشركوا) ،
وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال:"هو أشجع
الناس ومن عنترة" بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة.
فكذلك قوله: (ومن الذين أشركوا) . لأن معنى الكلام: ولتجدن
-يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [من] الناس على
حياة ومن الذين أشركوا. (2) فلما أضيف"أحرص" إلى"الناس"
وفيه تأويل"من"، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل
الذي ذكرنا.
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على
الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا
يقر به أهل الشرك، (3) فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين
لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم
هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب،
(4) فاليهود أحرص
__________
(1) الأثر: 1585 - في المطبوعة: "حدثني المثنى قال حدثنا
ابن أبي جعفر" سقط منه"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر،
وأقربه رقم: 1574.
(2) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، يدل عليها سياقه.
(3) في المطبوعة: "مما لا يقر به"، والصواب ما أثبته.
(4) في المطبوعة: "وإن المشركين لا يصدقون. . "، و"إن" لا
مكان لها هنا.
(2/370)
منهم على الحياة وأكره للموت.
* * *
وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن
اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس
الذين لا يصدقون بالبعث * ذكر من قال هم المجوس:
1587 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم
لو يعمر ألف سنة) ، يعني المجوس.
1588 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو
يعمر ألف سنة) ، قال: المجوس.
1589 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد:
(ومن الذين أشركوا) ، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على
الحياة.
* * *
* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:
1590 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر-
عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص
الناس على حياة ومن الذين أشركوا) ، وذلك أن المشرك لا
يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد
عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم.
(1)
* * *
__________
(1) الأثر: 1590 - سيرة ابن هشام 2: 191.
(2/371)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين
أشركوا (1) - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة.
يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء
دنياه وانقضاء أيام حياته، (2) أن يكون له بعد ذلك نشور أو
محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم
تحية بعض:"عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة، كما:-
1591 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي
عليا، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس
في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: هو قول
الأعاجم:"سال زه نوروز مهرجان حر". (3)
__________
(1) في المطبوعة: "هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن
الذين أشركوا" والصواب حذف"بقوله"، والنسخة المطبوعة
ومخطوطاتها مضطربة في هذا الموضع من الكتاب اضطرابا شديدا.
(2) في المطبوعة: "يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا ما. .
بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته"، بياض فيها وفي الأصل.
واستظهرت قراءتها كما أثبت، فإنه هو المعنى الذي يدور عليه
تفسير أبي جعفر: أن هذا المشرك قد يئس أن يكون له بعد فناء
الدنيا وانقضاء الحياة نشور أو محيا أو فرح أو سرور، فهو
يود لو يعمر ألف سنة.
(3) الأثر: 1591 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وأبوه:
ثقتان، ترجمنا لهما في شرح المسند: 7437. أبو حمزة: هو
السكري، محمد بن ميمون، ثقة إمام. وهذا الإسناد صحيح متصل.
وانظر الإسناد الآتي. في تفسير ابن كثير 1: 238، ونص
الكلام الفارسي فيه:"هزار سال نوروز مهرجان". وقد سألت أحد
أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على
قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها:"زه در مهرجان نو وروز
هزار سال" ومعنى"زه": عش، و"در" ظرف بمعنى"في"، ومهرجان هو
عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. و"هزار" ألف،
و"سال": سنة. فكأن"حر" التي في آخر الكلام في نص الطبري
هي:"در" مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش
ألف سنة.
وفي المستدرك للحاكم 2: 264"هزار سال سرور مهرجان بخور"،
وقال مصححه: يعني"تمتع ألف سنة كمثل عيد مهرجان. وهو عيد
لهم"، وكأن هذا هو الصواب.
(2/372)
1592 - وحدثت عن نعيم النحوي، عن عطاء بن
السائب، عن سعيد بن جبير: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ،
قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:"زه هزار سال".
1593 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا
حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في
قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: حَبَّبَتْ إليهم
الخطيئةُ طولَ العمر.
1594 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد،
عن ابن علية، عن ابن أبي نجيح في قوله: (يود أحدهم) ، فذكر
مثله.
1595 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) حتى بلغ: (لو يعمر ألف
سنة) ، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو
يعمر أحدهم ألف سنة.
1596 - وحدثت عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعيد، عن ابن
عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: هو قول
أحدهم إذا عطس:"زه هزار سال"، يقول: عشرة آلاف سنة. (1)
* * *
__________
(1) الخبر: 1596 - ذكره الطبري هكذا مجهول الإسناد، بقوله:
"حدثت عن أبي معاوية"، إلخ. والعلة في ذلك - فيما أرى - أن
الأعمش لم يسمعه من سعيد بن جبير، وإن كان أدركه وروى عنه.
فقد روى الحاكم هذا الخبر، في المستدرك 2: 263 - 264، من
طريق إسحاق بن إبراهيم"حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس" - بنحوه. ثم قال الحاكم: "رواه
قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس". ثم رواه بإسناده إلى محمد بن يوسف،
حدثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس. . " وهذا إسناد صحيح متصل، دل على
انقطاع الإسناد: "الأعمش عن سعيد بن جبير".
(2/373)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وما هو بمزحزحه من
العذاب أن يعمر) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه
من عذاب الله.
* * *
وقوله: (هو) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل،
(1) كما قال الشاعر:
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس * (2)
و"أن" التي في: (أن يعمر) ، رفع، بـ "مزحزحه"، و"هو" الذي
مع"ما" تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل
المعرفة.
* * *
وقد قال بعضهم: إن"هو" الذي مع"ما" كناية ذكر العمر. كأنه
قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من
العذاب. وجعل"أن يعمر" مترجما عن"هو"، يريد ما هو بمزحزحه
التعمير. (3)
* * *
وقال بعضهم: قوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ،
نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.
* * *
قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما
قلنا، وهو أن يكون"هو" عمادا، نظير قولك:"ما هو قائم
عمرو".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 312 في معنى"الاسم"
و"الفعل"، و"العماد"، تعليق رقم: 2، وانظر معاني الفراء 1:
50 - 52.
(2) هذا شطر بيت مضى من أبيات ثلاثة، في هذا الجزء 2: 313.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 340 معنى"الترجمة".
(2/374)
وقد قال قوم من أهل التأويل: إن"أن" التي
في قوله:"أن يعمر" بمعنى: وإن عمر، وذلك قول لمعاني كلام
العرب المعروف مخالف.
* ذكر من قال ذلك:
1597 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن
يعمر) ، يقول: وإن عمر.
1598 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
1599 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"أن يعمر"- ولو عمر.
* * *
وأما تأويل قوله: (بمزحزحه) ، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه، كما
قال الحطيئة:
وقالوا: تزحزح ما بنا فضل حاجة ... إليك، وما منا لوَهْيِك
راقع (1)
يعني بقوله::"تزحزح"، تباعد، يقال منه:"زحزحه يزحزحه زحزحة
وزحزاحا،"وهو عنك متزحزح"، أي متباعد.
* * *
فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا
مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى
الله، كما:-
__________
(1) البيت ليس للحطيئة، وإنما هو لقيس بن الحدادية، من
قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه 13: 6.
يقول قبل البيت، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك. وما راعنى
إلا المنادى: ألا اظعنوا ... وإلا الرواغى غدوة والقعاقع
فجئت كأني مستضيف وسائل ... لأخبرها كل الذي أنا صانع
فقالت: تزحزح! ما بنا كبر حاجة ... إليك، ولا منا لفقرك
راقع
فما زلت تحت الستر حتى كأنني ... من الحر ذو طمرين في
البحر كارع
(2/375)
1600 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة
قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما
أروي- (1) عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس:
(وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، أي: ما هو بمنحيه من
العذاب.
1601 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن
يعمر) ، يقول: وإن عُمِّر، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا
منحيه.
1602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
1603 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (يود أحدهم لو يعمر
ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب) ، فهم الذين عادوا
جبريل عليه السلام.
1604 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن
يعمر) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو
يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر
كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك
عن العذاب.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله بصير بما
يعملون) ، والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفي عليه شيء من
أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم
بها العقاب جزاءها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيما أرى"، خطأ، والصواب ما أثبت. وانظر
الإسناد رقم: 1590.
(2/376)
قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
وأصل"بصير""مبصر" - من قول القائل:"أبصرت
فأنا مبصر"، ولكن صرف إلى"فعيل"، كما صرف"مسمع" إلى"سميع"،
و"عذاب مؤلم" إلى"أليم"،"ومبدع السموات" إلى بديع، وما
أشبه ذلك. (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ}
قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه
الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن
جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب
الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم
ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أمر نبوته.
* ذكر من قال ذلك:
1605 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، (2) عن
عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس أنه
قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا
يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا
عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على
بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على
الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك
عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن
تنزل التوراة؟ وأخبرنا
__________
(1) انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2: 140.
(2) في المطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ محض.
(2/377)
كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون
الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن
وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما
شاء من عهد وميثاق. فقال:"نشدتكم بالذي أنزل التوراة على
موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه،
فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام
والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو
جعفر: فيما أروي: (1) وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا:
اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله
عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل
التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن
ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه
بإذن الله، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا
بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى
بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال:
وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا
النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم!
قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من
الملائكة، (2) فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي
جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها
نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك.
قال:"فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله
عز وجل: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن
الله) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون) ، فعندها باءوا بغضب على
غضب. (3)
1606 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن
إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين
-يعني المكي-، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود
جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد،
أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك
وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك
عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا:
نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه
الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل
تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء
رقيقة، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ (4) نعم.
قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند
بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا
ينام قلبه؟
__________
(1) في المطبوعة: "فيما أرى" - وانظر ما سلف قريبا: 376.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 239"أنت الآن فحدثنا. . "، وهي
جيدة.
(3) الأثر: 1605 - إسناده صحيح. يونس بن بكير بن واصل
الشيباني: ثقة، من تكلم فيه فلا حجة له، وأخرج له مسلم في
صحيحه. وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 411،
وابن سعد 6: 279، وابن أبي حاتم 4 /2 /236. ووقع في
المطبوعة هنا"يونس عن بكير" وهو خطأ واضح. عبد الحميد بن
بهرام - بفتح الباء وسكون الهاء - الفزاري: ثقة، وثقه أحمد
وابن معين وغيرهما. وتكلم فيه بعضهم من أجل روايته عن شهر
بن حوشب، وهو راويته، ولكن شهر ثقة أيضًا، كما أشرنا في:
1489.
والحديث رواه أحمد في المسند، مطولا: 2514، وابن سعد في
الطبقات 1/1/115 - 116، كلاهما من هاشم بن القاسم، عن عبد
الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد. ثم رواه أحمد: 2515، عن
محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، به ولم يذكر لفظه،
إحالة على ما قبله. ورواه أحمد أيضًا: 2471، مختصرا، عن
حسين، هو ابن محمد المروزي عن عبد الحميد بن بهرام.
ورواه أيضًا: 2483، من وجه آخر، أطول قليلا. وكذلك رواه
أبو نعيم في الحلية 4: 304 - 305 من هذا الوجه. وذكر
الهيثمي الرواية: 2483، وأشار إلى ما في الرواية: 2514 من
الزيادة، في مجمع الزوائد 8: 241 - 242، وقال:"رواه أحمد
والطبراني، ورجالهما ثقات".ونقل ابن كثير في التفسير 1:
238 - 239 رواية الطبري التي هنا، ثم أشار إلى رواية
المسند: 2514. ثم نقل رواية المسند: 2483 فيه 1: 240، ونقل
روايتي المسند أيضًا 2: 186 - 187.
(4) في المطبوعة: "فأيهما غلبت صاحبتها"، والصواب من نص
سيرة ابن هشام 2: 191 - 192.
(2/378)
(1) قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد!
قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن
تنزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب
إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله
منها، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على
نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا:
فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني
إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، (2) وهو الذي يأتيني؟
قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك
الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله فيهم: (قل من كان
عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى قوله (كأنهم لا
يعلمون) . (3)
1607 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا
النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينزل عليه
بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا
بالحرب والشدة والقتال! فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية.
قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل
جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! (4) فنزل: (من
كان عدوا لجبريل) الآية. (5)
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين
__________
(1) نص ابن إسحاق في رواية ابن هشام 2: 192: "هل تعلمون أن
نوم الذي تزعمون أني لست به، تنام عيناه وقلبه يقظان؟
فقالوا: اللهم نعم. قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي
يقظان. قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ " وبعد
ذلك اختلاف أيضًا في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق.
(2) في سيرة ابن هشام: "هل تعلمونه"، وهو أشبه بالصواب.
(3) الأثر: 1606 - هو حديث مرسل، مضى جزء منه، بهذا
الإسناد: 1489. وأشار إليه ابن كثير 239:1 - 240، عقب حديث
ابن عباس الذي قبله، وصرح أيضًا بأنه رواه محمد بن إسحاق
مرسلا. وفي سيرة ابن هشام 2: 191 - 192، وفيه اختلاف في
بعض اللفظ. وقد ساق ابن كثير هذين الأثرين (1605، 1606)
وخرجهما، وواستوفى الكلام في هذه القصة في تفسيره 1: 238 -
245.
(4) في تفسير ابن كثير 1: 240: "إلا بشدة وحرب وقتال فإنه
لنا عدو".
(5) الأثر: 1607 - وهذا منقطع، وقد ذكره ابن كثير 1: 240،
عن هذا الموضع و"القاسم بن أبي بزة": سبق في: 631، وهو
يروى عن التابعين.
(2/380)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر
النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1608 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية، عن
داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى
رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا:
يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره
ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته
الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! (1) ثم أنشأ يحدثهم
فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف
تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا
عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب
إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال:
قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن
التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به.
قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو
وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول
الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم
عليكم فأجيبوه. (2) قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت.
قال: أما إذ نشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال:
قلت: ويحكم! إذا هلكتم! (3) قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت:
كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟
__________
(1) في المطبوعة: "وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه
وسلم أدركته الصلاة"، وهي عبارة ركيكة. وأثبت ما جاء في
تفسير ابن كثير عن الطبري 1: 240. وقوله"أيما" استفهام
وتعجب، وأكثر ما تكتب: "أيم" (بفتح فسكون ففتح) ، وبحذف
الألف. تقول: أيم تقول؟ أي: أي شيء تقول؟ وانظر اللسان
(أيم) . يتعجب عمر من فعلهم.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 242: "قد غلظ عليكم".
(3) في المطبوعة: "أي هلكتم"، والصواب في تفسير ابن كثير.
(2/381)
قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من
الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. (1) قال: قلت:
ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا
ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم
ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار
والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة
والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من
ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال:
قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو
لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم
عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم
قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من
مخرفة لبني فلان، (2) فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك
آيات نزلن؟ فقرأ على: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات.
قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، (3) والذي بعثك
بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف
الخبير قد سبقني إليك بالخبر! (4)
1609 - حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية، عن
داود، عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في
يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. (5)
1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق
ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر:
أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع
منكم. فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم:
جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على
سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة (6) ولكن صاحب صاحبنا
ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم، فقال لهم عمر:
أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه
نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد
أنزل عليه هذه الآية: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله) .
1611 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود
يوما، فذكر نحوه.
1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (من كان عدوا لجبريل) ،
قال: قالت اليهود:
__________
(1) السلم: المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمني. رجل سلم،
وقوم سلم، وامرأة سلم.
(2) في المطبوعة: "خرقة"، وفي تفسير ابن كثير"خوخة"
والصواب"مخرفة" كما أثبتها. والمخرفة: البستان، أو سكة بين
صفين من نخل. خرف النخل والثمر: اجتناه، واجتناء الثمر
هـ"الخرفة" (بضم فسكون) .
(3) في المطبوعة: "بأبي وأمي يا رسول الله" بإسقاط"أنت"،
وأثبت ما في تفسير ابن كثير
(4) الحديث: 1608 - وهذا مرسل أيضًا. ذكره ابن كثير 1: 241
- 243، عن هذا الموضع، ثم عن تفسير ابن أبي حاتم، من رواية
مجالد عن عامر - وهو الشعبي - وسيأتي نحوها أيضًا من رواية
مجالد رقم: 1614. ثم قال ابن كثير:"وهذان الإسنادان يدلان
على أن الشعبي حدث به عن عمر. ولكن فيه انقطاع بينه وبين
عمر، فإنه لم يدرك زمانه". وقال السيوطي في الدر المنثور
1: 90"صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر".
رِبْعِي، بكسر الراء والعين المهملة، بينهما باء موحدة
ساكنة، وآخره ياء تحتية مشددة: هو"ربعي بن إبراهيم بن مقسم
الأسدي" عرف"بابن علية"، كأخيه"إسماعيل بن علية". وربعي:
ثقة مأمون، من شيوخ أحمد وأبي خيثمة وغيرهما. وقال عبد
الرحمن بن مهدي:"كنا نعد ربعي بن علية من بقايا شيوخنا".
وفي المسند: 7444 أن أحمد بن حنبل قال:"كان يفضل على
أخيه". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 /299، وابن
أبي حاتم 1 /2 /509 - 510.داود بن أبي هند: ثقة، جيد
الإسناد، رفع، من حفاظ البصرين. ترجمته في التهذيب،
والكبير 2/1/211 -212، والصغير: 160، وابن أبي حاتم 1 /2
/411 - 412.
الشعبي: هو عامر بن شراحيل الهمداني، إمام جليل الشأن، من
كبار التابعين. ولكنه لم يدرك عمر، كما قال ابن كثير. فإنه
ولد سنة 19، أو سنة 20.
(5) الأثر: 1609 - في المطبوعة: "حدثني يعقوب قال حدثنا
إبراهيم قال حدثنا ابن علية" والصواب ما أثبته، يعقوب بن
إبراهيم الدورقي، وقد سلف مرارا بهذا الإسناد، وروايته عن
ابن علية
(6) السنة: الجدب والقحط.
(2/382)
إن جبريل هو عدونا، لأنه ينزل بالشدة
والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب،
فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: (من كان عدوا لجبريل) .
1613 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) ، قال: كان لعمر
بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممره على
طريق مدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه
دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا
فيؤذوننا، وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك. فقال لهم
عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة
على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي
أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله
عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. (1) فقال: تكلموا، ما شأنكم؟
فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى
بعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو
لأخبرنه. قالوا: نعم، إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه
من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا،
وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو أنه كان وليه
ميكائيل، إذًا لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل
غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على
موسى بطور سيناء، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن
يمينه، وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو
عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو
للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان
عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله
عليه وسلم،
__________
(1) سكت الرجل: صمت. وأسكت الرجل (غير متعد) : انقطع كلامه
فلم يتكلم، وأطرق من فكرة انتابته وقطعته.
(2/384)
فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي
صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فقال عمر: والذي بعثك
بالحق، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك! (1)
1614 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي
قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير، عن مجالد، عن
الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي
أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا:
نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث
رسولا إلا كان له كفل من الملائكة، وإن جبريل هو الذي
يتكفل لمحمد، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، فلو
كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنزل
التوراة على موسى، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا:
جبريل عن يمينه، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد
ما يقولان إلا بإذن الله، (2) وما كان لميكائيل أن يعادي
سلم جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [فبينما هو
عندهم] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم، (3) فقالوا:
هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنزل عليه:
(من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى
قوله: (فإن الله عدو للكافرين) . (4)
__________
(1) الأثر: 1613 - في الدر المنثور 1 - 91 مع اختلاف يسير
في اللفظ واختصار في روايته.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 243: "ما ينزلان إلا بإذن الله"،
وكأنه هو الصواب.
(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، زدتها من تفسير ابن
كثير 1: 242، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره.
(4) الحديث: 1614 - وهذا إسناد مرسل أيضًا، ووقع فيه في
المطبوعة خطأ في موضعين أثبتنا الصواب لليقين به. وكان في
المطبوعة"حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال حدثنا زهير عن
مجاهد عن الشعبي". فلا يوجد في شيوخ ابن مغراء، ولا في
الرواة عن"مجاهد" أو"مجالد" من يسمى"زهيرا". و"مجاهد عن
الشعبي" خطأ أيضًا، وكلاهما من كبار التابعين، من طبقة
واحدة، ومجاهد أقدم قليلا. وعبد الرحمن بن مغراء لا يدرك
أن يروى عن مجاهد، ولا عن الشعبي.
ومجالد: هو ابن سعيد الهمداني، وهو ثقة، ضعفه بعض الأئمة.
وروى عنه من الأئمة: شعبة والسفيانان وابن المبارك، ورجحنا
تصحيح حديث القدماء عنه، في شرح المسند: 3781، لأن أعدل
كلمة فيه قول عبد الرحمن بن مهدي:"حديث مجالد عند الأحداث،
يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد
بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء،". قال ابن حاتم:"يعني أنه
تغير حفظه في آخر عمره". وذكر ابن سعد في ترجمته 6: 243
جرح يحيى القطان إياه، ثم قال:"وقد روى عنه يحيى بن سعيد
القطان مع هذا، وروى عنه سفيان الثورى، وشعبة، وغيرهم".
وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4/ 2/9، والصغير:
168، 169، وابن أبي حاتم 4 /1/ 361 - 362.
إسحاق بن الحجاج الرازي: هو الطاحوني المقرئ، ترجمنا له
فيما مضى: 230. وعبد الرحمن بن مغراء بن عياض الدوسي، أبو
زهير: ثقة، تكلم بعضهم في روايته عن الأعمش، وهو مترجم في
التهذيب وابن أبي حاتم 2 /2 /290 - 291.
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 242 - 243، من تفسير ابن أبي
حاتم."حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد،
عن عامر.." - وهو الشعبي، فذكر نحوه. ثم بين ابن كثير أنه
منقطع، كما أشرنا آنفًا.
الراجح عندي أن عبد الرحمن بن مغراء ممن روى عن مجالد بعد
تغيره.
(2/385)
1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في
قوله: (من كان عدوا لجبريل) . قال: قالت اليهود للمسلمين:
لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل
بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا
عدو. قال: فنزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل) .
1616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد
الملك، عن عطاء بنحو ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: (قل من كان
عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) - فهو: أن الله
يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل،
الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات
وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبوا اتباعك،
وجحدوا نبوتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي،
من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدو لهم
-: من يكن من الناس
(2/386)
لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله
إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل، ومقر بأنه
صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله
على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي،
ويشد فؤادي، كما:-
1617 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس
في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل) ، قال: وذلك أن اليهود
قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة،
فأخبرهم بها على ما هي عندهم -"إلا جبريل"، فإن جبريل كان
عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي -
يعني: تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل
صاحب وحي الله، وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس
بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا
لهم: (قل) يا محمد: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
قلبك) ، يقول: فإن جبريل نزله. يقول: نزل القرآن - بأمر
الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك"، يعني: بوحينا الذي
نزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين
والأنبياء من قبلك.
1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله) ، يقول: أنزل الكتاب على قلبك بإذن
الله.
1619 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع: (فإنه نزله على قلبك) ، يقول: نزل الكتاب على
قليك جبريل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نزله على قلبك) -
وهو يعني
(2/387)
بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر
محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم
يقل: فإنه نزله على قلبي = ولو قيل:"على قلبي" كان صوابا
من القول = لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل
له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس
المخبر عن نفسه، إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى
اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في
نظير ذلك:"قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم
المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه-: و"قل
للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية
اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب
مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك:"لا تقل للقوم إني قائم"
و"لا تقل لهم إنك قائم"، و"الياء" من"إني" اسم المأمور
بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: (قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) و (تغلبون) [آل عمران:
12] ، بالياء والتاء. (1)
* * *
وأما"جبريل" فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم
يقولون"جبريل، وميكال" بغير همز، بكسر الجيم والراء
من"جبريل" وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل
المدينة والبصرة.
أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون:"جَبرئيل وميكائيل" على
مثال"جبرعيل وميكاعيل"، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة
ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل
الكوفة، كما قال جرير بن عطية:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجَبرَئيل وكذبوا ميكالا
(2)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 63.
(2) ديوانه: 450، ونقائض جرير والأخطل: 87، من قصيدته
الدامغة في هجاء الأخطل، والضمير إلى تغلب، رهط الأخطل،
وقبله: قبح الإله وجوه تغلب، كلما ... شَبَح الحجيج وكبروا
إهلالا
(2/388)
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير
أنهما كانا يقرآن:"جبريل" بفتح الجيم. وترك الهمز.
قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها،
لأن"فعليل" في كلام العرب غير موجود. (1) وقد اختار ذلك
بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال:"سمويل"، وأنشد في
ذلك: (2)
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... ما وازنت ريشة من ريش سمويلا
(3)
وأما بنو أسد فإنها تقول"جِبرين" بالنون. وقد حكي عن بعض
العرب أنها تزيد في"جبريل""ألفا" فتقول: جبراييل وميكاييل.
وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ:"جَبْرَئِلّ" بفتح
الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.
فأما"جبر" و"ميك"، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما
بمعنى:"عبد"، والآخر بمعنى:"عبيد".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فعيل"، هو خطأ.
(2) هو الربيع بن زياد العبسي، أحد الكملة من بني فاطمة
بنت الخرشب الأنمارية.
(3) الأغاني 14: 92، 16: 22، واللسان (سمل) ، من أبيات
أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل، حين
قال لبيد في رجزه: مهلا، أبيت اللعن، لا تأكل معه
وزعم أنه أبرص الخبيثة، وذكر من فعله قبيحا كريها، فرحل
الربيع عن النعمان، وكان له نديما، وأرسل إليه أبياته. لئن
رحلت جمالي لا إلى سعة ... ما مثلها سعة عرضا ولا طولا
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش
سمويلا
ترعى الروائم أحرار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحا
وغسويلا
فاثبت بأرضك بعدي، واخل متكئا ... مع النطاسي طورا وابن
توفيلا
ولخم: هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة.
(2/389)
وأما"إيل" فهو الله تعالى ذكره، كما:-
1620 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني، عن
الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن
عباس:"جبريل" و"ميكائيل"، كقولك: عبد الله.
1621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال:"جبريل" عبد الله؛ و"ميكائيل"، عبيد الله. وكل
اسم"إيل" فهو: الله.
1622 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن
إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس: أن"إسرائيل،
وميكائيل وجبريل، وإسرافيل" كقولك: عبد الله.
1623 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن
المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال:"إيل"، الله،
بالعبرانية.
1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن
منصور قال، حدثنا قيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال:"جبريل"
اسمه: عبد الله؛ و"ميكائيل" اسمه: عبيد الله."إيل": الله.
1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا
أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو بن
عطاء، عن علي بن حسين قال: اسم"جبريل" عبد الله،
واسم"ميكائيل" عبيد الله، واسم"إسرافيل": عبد الرحمن. وكل
معبد،"إيل"، فهو عبد الله. (1)
1626 - حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا
سفيان، عن
__________
(1) الخبر: 1625 - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي: ضعيف
قال أبو زرعة: "لا يصدق". وهو مترجم في لسان الميزان، وابن
أبي حاتم 1/2/61 -62، والأنساب، في الورقة: 401.
و"العنقزي": بفتح العين المهلة والقاف بينهما نون ساكنة
وبالزاي. ووقع في المطبوعة"العبقري"، وهو تصحيف. وكذلك
سيأتي في رقم: 1655، بالتصحيف، وصححناه هناك.
(2/390)
محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه
محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين،
قال: ما تعدون"جبريل" في أسمائكم؟ قال:"جبريل" عبد الله،
و"ميكائيل" عبيد الله. وكل اسم فيه"إيل"، فهو مُعَبَّدٌ
لله.
1627 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: قال لي: هل
تدري ما اسم"جبريل" من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله.
قال: فهل تدري ما اسم"ميكائيل" من أسمائكم؟ قلت: لا. (1)
قال: عبيد الله. وقد سمى لي"إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته،
إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى"إيل" فهو معبد
له.
1628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف،
عن عكرمة في قوله: (جبريل) قال:"جبر" عبد،"إيل" الله،
و"ميكا" قال: عبد."إيل": الله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ"جبرئيل" بالفتح، والهمز،
والمد. وهو -إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام،
فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة"جبر" و"ميكا" إلى اسم
الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني.
وذلك أن"الإلّ" بلسان العرب: الله، كما قال: (لا
يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) [التوبة: 10]
. فقال جماعة من أهل العلم:"الإل" هو الله. ومنه قول أبي
بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما
كان مسيلمة يقول، فأخبروه - فقال لهم: ويحكم"
__________
(1) في المطبوعة: "قال: لا"، والصواب ما أثبت.
(2) لعله"وميكا". قال: "عبيد" بالتصغير، كما سلف آنفًا.
(2/391)
أين ذهب بكم؟ والله، إن هذا الكلام ما خرج
من إل ولا بر. يعني"من إل": من الله * وقد:-
1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن
سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: (لا يرقبون في مؤمن
إلا ولا ذمة) قال: قول"جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل".
كأنه يقول: حين يضيف"جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى"إيل" يقول:
عبد الله. (1) (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول: لا
يرقبون الله عز وجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه)
، القرآن. ونصب "مصدقا" على القطع من"الهاء" التي في قوله:
(نزله على قلبك) . (2)
فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، يا محمد،
مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من
كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى
الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في
الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند
الله، وهي تصدقه. (3) كما:-
1630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس.
(مصدقا لما بين
__________
(1) لعل الصواب أن يقول: "إسراف"، مكان"إسرا"، أو تكون
الأولى"إسرائيل" مكان"إسرافيل".
(2) القطع: الحال هنا. وانظر ما سلف 1: 230 - 232، 330،
561.
(3) في المطبوعة: "وهي تصديقه" والصواب ما أثبت، يريد: وهي
توافقه. كما فسر قبل.
(2/392)
يديه) ، يقول: لما قبله من الكتب التي
أنزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات،
نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى
الله عليهم.
1631 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة: (مصدقا لما بين يديه) ، من التوراة
والإنجيل.
1632 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (97) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدى) ودليل وبرهان.
وإنما سماه الله جل ثناؤه"هدى"، لاهتداء المؤمن به.
و"اهتداؤه به" اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد
لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و"الهادي" من كل شيء: ما تقدم
أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل:"هواديها"، وهو ما تقدم
أمامها، وكذلك قيل للعنق:"الهادي"، لتقدمها أمام سائر
الجسد. (1)
* * *
وأما"البشرى" فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل
ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم
من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم
من ثوابه، وذلك هو"البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في
كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم
يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو
يعلمه من قبل غيره. (2)
وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 166 - 170، 230، 249 ثم 549 - 551.
(2) انظر ما سلف 1: 383.
(2/393)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
1633 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هدى وبشرى للمؤمنين) ،
لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن
إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من
ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله،
من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ (1) وإعلام منه أن من
عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته
ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله
وأهل طاعته، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه
بالمحاربة، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته
وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه، والعدو لأولياء الله
عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا
من الملائكة، وميكائيل ولينا منهم-: (من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) ، من
أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من
كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله
وميكال - عدو، وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي.
وقد:-
1634 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
عبيد الله - يعني العتكي -، عن رجل من قريش قال: سأل النبي
صلى الله عليه وسلم اليهود
__________
(1) هكذا في المطبوعة: "من كان عدوا لله"، وهو لايستقيم،
وكأن الصواب"أن من كان عدوا لله، عاداه وعادى جميع ملائكته
ورسله" بإسقاط"من" من"من عاداه".
(2/394)
فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل
تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه
أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك
تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنزل الله: (من كان عدوا
لله وملائكته) الآية. (1)
1635 - حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن
يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو
عدو لنا. فقال له عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله
وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) . قال: فنزلت على
لسان عمر.
* * *
وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود
في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإخبارا منه لهم أن من
كان عدوا لمحمد فالله له عدو، وأن عدو محمد من الناس كلهم،
لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟
قيل: بلى.
فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما
في الآية في جملة أسماء الملائكة؟
قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما
قالت:"جبريل عدونا، وميكائيل ولينا" - وزعمت أنها كفرت
بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن
__________
(1) الحديث: 1634 - عبيد الله العتكي: هو عبيد الله بن عبد
الله، أبو المنيب العتكي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره.
وذكره البخاري في كتاب الضعفاء، ص: 22، وقال: "عنده
مناكير". وقال ابن أبي حاتم 2 /2 /322 في ترجمته: "سمعت
أبي يقول: هو صالح الحديث. وأنكر على البخاري إدخاله في
كتاب الضعفاء. وقال: "يحول". ولكن هذا الحديث منقطع ضعيف
الإسناد، لأن أبا المنيب إنما يروى عن التابعين.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 265، من طريق إسحاق بن
إبراهيم، عن جرير، به. وصحه الذهبي في مختصره. ونقله ابن
كثير 1: 248 - 249، عن الطبري، ثم أشار إلى رواية الحاكم.
(2/395)
جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم -
أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا، فإن الله له عدو، وأنه
من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا
يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته
ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة
اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه.
وكذلك قوله: (ورسله) ، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله
تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع
بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم
على المنافقين.
* * *
وأما إظهار اسم الله في قوله: (فإن الله عدو للكافرين) ،
وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: (من كان
عدوا لله وملائكته) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية،
فقيل:"فإنه عدو للكافرين"، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ
"الهاء" التي في"فإنه": أألله، أم رسل الله جل ثناؤه، أم
جبريل، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت،
فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك،
لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك
إلى نحو قول الشاعر: (1)
ليت الغراب غداة ينعَب دائما ... كان الغراب مقطع الأوداج
(2)
وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك
بخلاف ما قال. وذلك أن"الغراب" الثاني لو كان مكنى عنه،
لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم "الغراب"
الأول، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه
__________
(1) هو جرير.
(2) ديوانه 89، وأمالي ابن الشجرى 1: 243، وغيرهما. ورواية
ديوانه"ينعت بالنوى" وهو الجيد، فإن قبله: إن الغراب، بما
كرهت، لمولع ... بنوى الأحبة دائم التشحاج
والأوداج جمع ودج: وهو عرق من عروق تكتنف الحلقوم.
(2/396)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا
نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (100)
غير كناية اسم "الغراب" الأول - وأن قبل
قوله: (فإن الله عدو للكافرين) أسماء، لو جاء اسم الله
تعالى ذكره مكنيا عنه، (1) لم يعلم من المقصود إليه بكناية
الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد أنزلنا إليك
آيات) ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على
نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى
محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون
سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما
تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم -
وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت
في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم. (2) فكان، في ذلك من أمره،
الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد
والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى
بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات
البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء
منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن
عباس.
1636 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال،
حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:
(ولقد أنزلنا إليك
__________
(1) في المطبوعة: "وإن قيل قوله فإن الله عدو للكافرين"
اسما لو جاء. . " والصواب ما أثبت. وقد رجم مصححو المطبوعة
رجما لا خير فيه في تصحيح كلام الطبري.
(2) في المطبوعة: "فأطلع الله في كتابه. . " وهو كلام لا
يستقيم، والصواب ما أثبت. يعني فأظهر الله هذه الخفايا،
وتلك الأخبار، وما حرفوه من الأحكام في توراتهم.
(2/397)
آيات بينات) يقول: فأنت تتلوه عليهم،
وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ
كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله:
ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
1637- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن
عكرمة مولى ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من
آية بينة فنتبعك بها! (2) فأنزل الله عز وجل: (ولقد أنزلنا
إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) ! (3)
1638 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن
ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال:
قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
(4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"القطيوني" بالقاف، وهو خطأ، وهو من بني
ثعلبة بن الفطيون (بكسر الفاء وسكون الطاء، وضم الياء) .
قال السهيلي: "الفطيون: كلمة عبرانية تطلق على كل من ولي
أمر اليهود وملكهم". ورواية ابن جرير: "ابن صوريا"، والذي
في سيرة ابن هشام 2: 196"ابن صلوبا الفطيوني". وقد ذكر ابن
هشام فيما روى من سيرة ابن إسحاق 1: 160 - 161"الأعداء من
يهود"، فعد في بني ثعلبة: ابن الفطيون: "عبد الله بن صوريا
الأعور، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوارة منه، وابن
صلوبا، ومخيريق. وكان حبرهم، أسلم"، ولم أستطع أن أرجح
أهو: ابن صوريا، أو - ابن صلوبا - الذي كان من أمره ما
كان. ولعلهما روايتان مختلفتان عن ابن إسحاق. وانظر أيضًا
الأثر: 1638.
(2) في ابن هشام: "من آية فنتبعك لها، فأنزل الله تعالى في
ذلك من قوله: "ولقد أنزلنا إليك. . "
(3) الأثران: 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2: 196.
(4) الأثران: 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2: 196.
(2/398)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا
يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما يكفر بها إلا
الفاسقون) ، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا
هذا على أن معنى"الكفر" الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا.
(1) وكذلك بينا معنى"الفسق"، وأنه الخروج عن الشيء إلى
غيره. (2)
* * *
فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من
الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم -
الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم،
ونبي مبعوث، وما يجحد تلك الآيات = الدالات على صدقك
ونبوتك، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم = إلا
الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب
الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم
حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين
كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
من يهود بني إسرائيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا
عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (100) }
قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم"الواو" التي في
قوله: (أو كلما عاهدوا عهدا) . فقال بعض نحويي البصريين:
هي"واو" تجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل"الفاء" في قوله:
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى
أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة: 87] ، قال: وهما
زائدتان في هذا الوجه،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 255، 382، 552، وهذا الجزء 2: 140،
337.
(2) انظر ما سلف 1: 409 - 410، وهذا الجزء 2: 118.
(2/399)
وهي مثل"الفاء" التي في قوله: فالله لتصنعن
كذا وكذا، (1) وكقولك للرجل:"أفلا تقوم"؟ وإن شئت
جعلت"الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف.
وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف
الاستفهام.
* * *
والصواب في ذلك عندي من القولة أنها"واو" عطف، أدخلت
عليها"ألف" الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: (وإذ أخذنا
ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا
قالوا: سمعنا وعصينا) ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم.
ثم أدخل"ألف" الاستفهام على"وكلما" فقال: (قالوا سمعنا
وعصينا، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم.
وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف
لا معنى له، (2) فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول
من زعم أن"الواو" و"الفاء" من قوله: (أو كلما) و (أفكلما)
زائدتان لا معنى لهما.
* * *
وأما"العهد"، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم
ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة
بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به
أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم
بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد
والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته،
فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم
عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-
1639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت
قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال
مالك بن الصيف - حين بعث
__________
(1) لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا.
(2) انظر ما سلف 1: 439 - 441.
(2/400)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ
عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد
إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا
ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه: (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه
فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) . (1)
1640 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت،
عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأما"النبذ" فإن أصله -في كلام العرب-
الطرح، ولذلك قيل للملقوط:"المنبوذ"، (2) لأنه مطروح مرمي
به. ومنه سمي النبيذ"نبيذا"، لأنه زبيب أو تمر يطرح في
وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله"مفعول" صرف إلى"فعيل"، أعني
أن"النبيذ" أصله"منبوذ" ثم صرف إلى"فعيل" فقيل:"نبيذ"، كما
قيل:"كف خضيب، ولحية دهين" - يعني: مخضوبة ومدهونة. (3)
يقال منه:"نبذته أنبذه نبذا"، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
(4)
* * *
فمعنى قوله جل ذكره: (نبذه فريق منهم) ، طرحه فريق منهم،
فتركه ورفضه ونقضه. كما:-
__________
(1) الأثر: 1639 - في سيرة ابن هشام 2: 196، مع اختلاف
يسير في اللفظ. وقد ذكر ابن هشام في 2: 161"مالك بن الصيف"
وقال: "ويقال: ابن ضيف".
(2) في تفسير ابن كثير 1: 247: "وسمى اللقيط. . " واللقيط
أجود من الملقوط.
(3) انظر ما سلف 1: 112.
(4) ديوانه: 21 (في نفائس المخطوطات: 2) ، وسيأتي في 20:
49 - 50 (بولاق) ، ومجاز القرآن: 48، من أبيات كتب بها إلى
صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان، وكان كتب إليه
في أمر يهمه، فشغل عنه؛ وقبل البيت: وخبرني من كنت أرسلت
أنما ... أخذت كتابي معرضا بشمالكا
(2/401)
1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه
فريق منهم.
1642 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج قوله: (نبذه فريق منهم) ، قال: لم يكن في
الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون
غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: (نقضه فريق منهم) .
* * *
و"الهاء" التي في قوله: (نبذه) ، من ذكر العهد. فمعناه أو
كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.
* * *
و"الفريق" الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنزلة"الجيش"
و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. (1)
* * *
و"الهاء والميم" اللتان في قوله: (فريق منهم) ، من ذكر
اليهود من بني إسرائيل.
* * *
وأما قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) فإنه يعني جل ثناؤه: بل
أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا،
نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.
* * *
ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على
الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على
عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت
اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟
لا - ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر
بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها
عهدا، نبذ ذلك
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 244، 245.
(2/402)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(101)
العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد
فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم
= ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده.
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى"الإيمان"، وأنه
التصديق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(101) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم) ، أحبار
اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - (رسول) ، يعني بالرسول:
محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:-
1643 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي في قوله: (ولما جاءهم رسول) ، قال: لما
جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله: (مصدق لما معهم) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى
الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله
نبي مبعوث إلى خلقه.
* * *
وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما
معهم) ، فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله
جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا
صلى الله عليه وسلم نبي لله، (نبذ فريق) ، يعني بذلك: أنهم
جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا
عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب) . وهم علماء اليهود
الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله:
(كتاب الله) ، التوراة.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 234 - 235، 271، 560، وهذا الجزء 2:
143، 348.
(2/403)
وقوله: (وراء ظهورهم) ، (1) جعلوه وراء
ظهورهم. وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال:"قد
جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره"، يعني به:
أعرض عنه وصد وانصرف، كما:-
1644 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ
فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) ، قال:
لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة
فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة
وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. (2) فذلك قوله الله:
(كأنهم لا يعلمون) .
* * *
ومعنى قوله: (كأنهم لا يعلمون) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا
كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل
بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما
في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم
وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا
الحق على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله
فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:-
1645 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) ،
يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب"كتاب الله وراء
ظهورهم، كأنهم لا يعلمون) : أي أن القوم كانوا يعلمون،
ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وقوله نبذوه وراء ظهورهم"،
فحذفت"نبذوه"، لأن الطبري ساق الآية بتمامها، وهذا لفظ
مقحم فيها.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 247 زيادة، بعد قوله: "وماروت،
فلم يوافق القرآن، فذلك قول الله". وآصف: كان كاتب سليمان.
وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان.
ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين،
فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا (ابن كثير 1: 248) .
(2/404)
|