تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) ،
الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه
بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى، وراء ظهورهم، تجاهلا
منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم
أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى
الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما
فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود
فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (واتبعوا ما تتلوا
الشياطين على ملك سليمان) . فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود
الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا
التوراة للقرآن موافقة، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم
وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان
الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1646 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - على
عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها
مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من
موت أو غيث أو أمر، (1) فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة
الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم
فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب
__________
(1) في تفسير ابن كثير 1: 249: "ما يكون في الأرض. . أو غيب".
(2/405)
الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني
إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك
الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من
الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا اسمع
أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات
سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف
بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني
إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ (1) قالوا:
نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام
ناحية. (2) فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم،
فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها
قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير
بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا،
واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه
وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: (وما كفر سليمان ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . (3)
1647 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
سليمان) ، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم
زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل
الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. (4) فلما رأوا ذلك قالوا:
هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه
به، فأنزل الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
السحر) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر
__________
(1) لا تأكلونه: أي لا تنفدونه أبدا. يقال: أكل فلان عمره: إذا
أفناه.
(2) في المطبوعة: "فقام"، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير.
(3) الأثر: 1646 - في تفسير ابن كثير 1: 249.
(4) خاصمني فخصمته أخصمه: غلبته بالحجة في خصومي.
(2/406)
والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت
مجلس سليمان - (1) وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق
سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا:
هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى
الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض
الله حجتهم. (2)
* * *
1648 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، قال: لما
جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، (نبذ فريق
من الذين أوتوا الكتاب) الآية، قال: اتبعوا السحر، وهم أهل
الكتاب. فقرأ حتى بلغ: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
السحر) .
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد
سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1649 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان،
فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان.
1650 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام،
فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا
وكذا". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، (3) جعلوه في كتاب ثم ختموا
عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب
آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز
العلم"، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني
إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان
سليمان
__________
(1) في تفسير ابن كثير: "تحت كرسي مجلس سليمان".
(2) الأثر: 1647 - في تفسير ابن كثير 1: 249 - 250.
(3) في تفسير ابن كثير: "صنفوا أصناف السحر". وهي أجود.
(2/407)
بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس
وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن
داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود:
ألا تعجبون لمحمد! (1) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله
ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى
الله عليه وسلم: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) . (2)
* * *
قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس
واتبعوا الشهوات، (3) فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام
الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها
تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك، (4) فظهرت الجن والإنس على
الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على
سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله: (ولما
جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا
الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما
تتلوا الشياطين) ، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر
الله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما
تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار
اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا
نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم
تنزيله، وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه
__________
(1) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والذي أثبته
مقتضى سياق كلامهم.
(2) إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر 1:
250، أما سائر الخبر، فإنه رواه في 1: 247، وصدره بقوله: "وقال
العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: "واتبعوا ما تتلو
الشياطين" الآية - وكان حين ذهب ملك سليمان. . "، وساق الخبر
بنصه هذا. فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط، أم هذه جزء من رواية
الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس.
(3) الفئام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه.
(4) حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به.
وهو منصوب على الظرفية.
(2/408)
ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع
أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا
وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في
عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم
يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله:
(واتبعوا) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام
العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن
بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة
تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما
تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية،
على النحو الذي قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما تتلوا الشياطين) ،
الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
* * *
واختلف في تأويل قوله: (تتلو) . فقال بعضهم: يعني بقوله:
(تتلو) ، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو "تِلاوة" الرجل
للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن
الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم.
* ذكر من قال ذلك:
1651 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال،
حدثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: (واتبعوا ما تتلوا
الشياطين على ملك سليمان) ، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي،
فما سمعوا من كلمة زادوا فيها
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38 - 39.
(2/409)
مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا
من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس،
وهو السحر. (1)
1652 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، من
الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت
كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه.
1653 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) ،
قال: نراه ما تحدث.
1654 - حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو
معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت
فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم
أخرجوها فقرأوها على الناس. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ما تتلو) ، ما تتبعه وترويه وتعمل به.
* ذكر من قال ذلك:
1655 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط،
عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: (تتلوا) ، قال: تتبع. (3)
1656 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن
إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. (4)
* * *
__________
(1) الأثر: 1651 - في تفسير ابن كثير 1: 250.
(2) الأثر: 1654 - كان في المطبوعة: "سالم بن جنادة"، وهو خطأ،
وانظر التعليق على الأثر رقم: 48 في الجزء الأول. وهو جزء من
خبر سيأتي برقم: 1660.
(3) الأثر: 1655 - في المطبوعة"العبقري"، وهو خطأ، وانظر
التعليق على الأثر رقم: 1625.
(4) الأثر: 1656 - في المطبوعة"نصر بن عبد الرحمن الأودي"، وهو
خطأ وانظر التعليق على الأثر: 423 في الجزء الأول.
(2/410)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن
يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما
تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين.
* * *
ولقول القائل:"هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان. أحدهما:
الاتباع، كما يقال:"تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما
قال جل ثناؤه: (هُنَالِكَ تتلو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ)
[يونس: 30] ، (1) يعني بذلك تتبع.
والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول:"فلان يتلو القرآن"، بمعنى
أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
(2)
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة
الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر
يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية
وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية. فاتبعت
اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (على ملك سليمان) ، في ملك
سليمان. وذلك أن العرب تضع"في" موضع"على" و"على" في موضع"في".
__________
(1) "هنالك تتلو" إحدى القراءتين، والأخرى"هنالك تبلو"، وهي
التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره 11: 79"إنهما
قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء".
(2) ديوانه: 88، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد، حين خرج
رسول الله مهاجرا إلى المدينة. ورواية الديوان: "في كل مسجد"،
ورواية الطبري أمثل.
(3) كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله" ما تتلو"
الذي سيأتي في: 418
(2/411)
(1) من ذلك قول الله جل ثناؤه:
(وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه: 71]
يعني به: على جذوع النخل، وكما قالوا:"فعلت كذا في عهد كذا،
وعلى عهد كذا"، بمعنى واحد. (2) وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج
وابن إسحاق يقولان في تأويله:
1657 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
ابن جريج: (على ملك سليمان) ، يقول: في ملك سليمان.
* * *
1658 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق
في قوله: (على ملك سليمان) ، أي: في ملك سليمان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ}
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، (3) ولا خبر
معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع
من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن
سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل
بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما
تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود،
نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى
__________
(1) انظر ما سلف 1: 299.
(2) في المطبوعة: "وكما قال: فعلت كذا. . " ولا يستقيم إلا على
تمريض.
(3) قوله: "وما هذا الكلام" الإشارة فيه إلى الآية التي
يؤولها: "وما كفر سليمان" يقولون: ما مكان هذا الكلام - من هذا
الكلام وهو قوله: "واتبعوا ما تتلو الشياطين".
(2/412)
الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود.
وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من
يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر.
فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم،
(1) عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له
بما أنزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان
- من سليمان، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر، (2)
وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ
الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه
إلى السحر والكفر = لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر
باقي ما حضرنا ذكره منها = وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون
بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان
يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو
كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته
الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة
الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات
الله عليه.
* * *
* ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار:
* * *
1659 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي
المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي
الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته.
فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم:
أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير
ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه.
فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان
سليمان
__________
(1) في المطبوعة"لأنفسهم"، والصواب إسقاط هذه اللام، كما يدل
عليه السياق.
(2) سياق العبارة: "وتبرأ. . من سليمان. . منهم بشر".
ولعل"بشر" هذه"نفر"، أي جماعة. يقول: تبرأت جماعة أخرى من
سليمان، إذ نسب إلى السحر، وكفروه.
(2/413)
يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنزل الله جل ثناؤه
على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية، فأنزل الله
براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. (1)
1660 - حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية، عن
الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان
الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها
جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن
يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم
واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو
يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن
يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه،
فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه
فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها
سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف
سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك
الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم
أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس
بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله
محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل جل ثناؤه: (واتبعوا ما تتلوا
الشياطين على ملك سليمان) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر
والكفر - (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، فأنزل الله
جل وعز وعذره. (2)
1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر
بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير، عن أبي مجلز قال: أخذ
سليمان من كل
__________
(1) الثر: 1659 - في تفسير ابن كثير 1: 250.
(2) الأثر: 1660 - انظر الأثر السالف: 1654 والتعليق عليه.
(2/414)
دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد،
خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به
سليمان! فقال الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر) . (1)
1662 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد
الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ
جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال:
من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون
أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا
ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك:
إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة
حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق، (2) كذب معها سبعين كذبة. قال:
فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت
كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا
أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه،
فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به
أهل العراق - (3) فأنزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا
الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا
يعلمون الناس السحر) . (4) .
1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه
سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. (5) فلما سمع
بذلك سليمان نبي الله صلى
__________
(1) الأثر: 1661 - في تفسير ابن كثير 1: 251، وفيه"فزاد
الناس". . مكان"فرأى" والصواب ما في الطبري.
(2) في تفسير ابن كثير: "فإذا جرت منه وصدق"، ولعلها تصحيف.
(3) في تفسير ابن كثير: "حتى بقاياها".
(4) الأثر: 1662 - في تفسير ابن كثير 1: 248 - 249، مع اختلاف
في بعض اللفظ غير الذي أثبته.
(5) في المطبوعة: "وأعلموهم إياه"، وقد مضى في رقم: 1652،
"وعلموهم"، وكذلك أثبتها هنا.
(2/415)
الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب، فأتى بها
فدفنها تحت كرسيه، (1) كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله
نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت
فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان
ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل
ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) .
1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك،
ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج
الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل
وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر
سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) .
1665 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
سليمان) ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما
سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من
ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس.
(2)
1666 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت
الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت:"من أراد أن يأتي
كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل
كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت
عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان
__________
(1) في المطبوعة: "فتتبع تلك الكتب" بزيادة الفاء، ولا موضع
لها.
(2) الأثر: 1665 - كان في المطبوعة: "حدثنا القاسم قال حدثنا
حجاج" أسقط منه"قال حدثنا الحسين"، وهو إسناد دائر في الطبري،
أقربه إلينا رقم: 1657، وسيأتي في الذي يلي.
(2/416)
بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنته
تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها
الناس، إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره
في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا:
والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا، وبهذا
قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي
محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود
وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل!
يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل
الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
الآية. (1)
1667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:
(وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لما ذكر
سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون
من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا!
فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا) ،-أي باتباعهم السحر وعملهم به- (وما أنزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت) . (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وتأويل
قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر
سليمان ولكن الشياطين كفروا) ما ذكرنا = فبين أن في الكلام
متروكا، (3) ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام:
واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى
سليمان، وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا
يعلمون الناس
__________
(1) الأثر: 1666 - في تفسير ابن كثير 1: 251.
(2) الأثر: 1667 - سيرة ابن هشام 2: 192 - 193.
(3) في المطبوعة: "فتبين" وما أثبت أشبه بعبارة الطبري.
(2/417)
السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: (وما كفر
سليمان ولكن الشياطين كفروا) على ما قلنا.
1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، يقول: ما
كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين
دونه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى"تتلو"، (1)
وتوجيه من وجه ذلك إلى أن"تتلو" بمعنى"تلت"، إذ كان الذي قبله
خبرا ماضيا وهو قوله: (واتبعوا) ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى
خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، (2) فأغنى ذلك
عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما معنى قوله: (ما تتلوا) ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو
السحر. (3)
1669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، أي السحر. (4)
* * *
قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام
سليمان؟
قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون
ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم
قالوا لنوح إنه ساحر.
[فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين
على عهد سليمان؟
__________
(1) انظر ما سلف قريبا: 411.
(2) قوله: "وتوجيه من وجه ذلك أن: تتلو - بمعنى: تلت" لم يأت
هنا في تفسير الآية، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة:
91، ص 350 - 352.
(3) هذه الفقرة، والأخرى التي قبلها، والأثر الآتي رقم: 1669،
كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله: "ما تتلو الشياطين" فيما
مضى: 411.
(4) الأثر: 1669 - سيرة ابن هشام 2: 192.
(2/418)
قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما
قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما
نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت
كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر
الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان
دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر
والكفر قبل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل"ما" التي في قوله:
(وما أنزل على الملكين) . فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي
بمعنى"لم".
* ذكر من قال ذلك:
1670 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما أنزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت) فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
1671 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر، عن
الربيع بن أنس: (وما أنزل على الملكين) ، قال: ما أنزل الله
عليهما السحر.
* * *
فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس
والربيع، من توجيههما معنى قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى:
ولم ينزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك
سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على
الملكين = ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ="ببابل،
هاروت وماروت". فيكون حينئذ قوله:" (ببابل هاروت وماروت) ، من
المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
(2/419)
فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان [من السحر] ، وما أنزل [الله السحر] على الملكين، ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت -
فيكون معنيا بـ "الملكين": جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود،
فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل
وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط،
وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل
الشياطين، وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل، وأن اللذين يعلمانهم
ذلك رجلان: (1) اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت.
فيكون"هاروت وماروت"، على هذا التأويل، ترجمة على"الناس" وردا
عليهم. (2)
* * *
وقال آخرون: بل تأويل"ما" التي في قوله: (وما أنزل على
الملكين) -"الذي".
* ذكر من قال ذلك:
1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال
معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: (وما أنزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت) ، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما
بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال:
فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، (3) ثم ذهبا يصعدان، فحيل
بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا
عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر،
فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا
تكفر".
__________
(1) في المطبوعة وابن كثير: "وأن الذين يعلمونهم"، وما أثبت هو
الصواب.
(2) "الترجمة" عند الكوفيين هي"البدل"، وانظر ما سلف 2: 340
وانظر ما سيأتي: 423. والزيادات التي بين الأقواس في هذه
الفقرة، من تفسير ابن كثير 1: 252، وقد نقل كلام الطبري بنصه.
(3) حاف له يحيف حيفا: مال معه فجاز وظلم غيره. وحاف عليه:
ظلمه وجار عليه.
(2/420)
1673 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل
هاروت وماروت) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه
بما أنزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا
علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. (1)
1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الناس ببابل
هاروت وماروت) . فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه
هاروت وماروت.
1675 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ، قال: التفريق بين
المرء وزوجه.
1676 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على
الملكين) ، فقرأ حتى بلغ: (فلا تكفر) ، قال: الشياطين والملكان
يعلمون الناس السحر.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن
ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان
الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من
ملائكة الله، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله
تعالى.
* * *
قال أبو جعفر (2) إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله
السحر، أم
__________
(1) الأثر: 1673 - هو من تتمة الأثر السالف: 1646، ويرجع
الضمير في قوله: "وخاصموه به أيضًا - إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم اليهود، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك.
(2) كان في المطبوعة هنا: "وقالوا: إن قال لنا قائل. . ".
والضمير في"قالوا"، لا يعود إلى مذكورين قبل. وكأن الناسخ
تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر، فحذف ما جرى عليه
في تفسيره من قوله"قال أبو جعفر"، وأقحم"وقالوا" مكانها، ثم
زاد فحشا هذه الفقرات الآتية بكلمته"وقالوا"، كما سنبينه في
مواضعه من التعليق. وهذا أسلوب لم يطرقه أبو جعفر قط في تفسيره
كله.
والذي استبشعه بعض النساخ - فيما نرجح - سيأتي بعد قليل في ص
423 - 426 بأوضح مما قاله هنا. وقد عد ابن كثير قول أبي جعفر
مسلكا غريبا، فقال في تفسيره 1: 253، وذكر ما ذكره أبو جعفر من
قول من قال"ما" بمعنى"لم" فقال: "ثم شرع ابن جرير في رد هذا
القول، وأن"ما" بمعنى"الذي"، وأطال القول في ذلك، وادعى أن
هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في
تعليم السحر، اختبارا لعباده وامتحانا، بعد أن بين لعباده أن
ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت
مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به. وهذا الذي
سلكه غريب جدا".
ولست أستنكر ما قاله أبو جعفر، كما استنكره ابن كثير، ولو أنت
أنصفت وتتبعت كلام أبي جعفر، لرأيت فيه حجة بينه ساطعة على
صواب مذهبه الذي ذهب إليه، ولرأيت دقة ولطفا في تناول المعاني،
وتدبير الألفاظ، لا تكاد تجدهما في غير هذا التفسير الجليل
القدر.
(2/421)
هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟
قلنا له: إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله، وبين جميع
ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما
يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي
التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي
أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
(1) وليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة
الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله
وتسويته. وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل
به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.
(2) فليس في إنزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم
الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه
ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة،
وينهاه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه
منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه
والعمل به. (3) ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم
يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما
__________
(1) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ليس في العلم. . ". انظر
ما سلف.
(2) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) فليس في إنزال الله. . "
انظر ما سلف.
(3) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ولو كان الله أباح. . "
انظر ما سلف.
(2/422)
به. (1) إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله
إليهما. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى"ما" معنى"الذي"، وهي عطف على"ما" الأولى. غير
أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء
وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين
في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على
الملكين ببابل هاروت وماروت.
* ذكر من قال ذلك:
1677 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول
الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) . وكان
يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلم
الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه، كما قال الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: جائز أن تكون"ما" بمعنى"الذي"، وجائز أن تكون"ما"
بمعنى"لم".
* ذكر من قال ذلك:
1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
حدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد -
وسأله رجل عن قول الله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على
الملكين ببابل هاروت وماروت) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل
عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم: ما
أبالي أيتهما كانت.
*
1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض، عن
__________
(1) استعمل أبو جعفر: هو"حرج" - على وزن: هو"فرح" - بمعنى:
آثم. وأهل اللغة ينكرون ذلك. لا يقال للآثم إلا"الحارج" على
النسب. لأن"الحرج" بمعنى الإثم، لا فعل له. ولعل الناسخ أخطأ
فكتب"حرجا. . وحرجين" مكان"حارجا. . وحارجين"، بمعنى: آثم،
وآثمين، ولكني تركتها هنا على حالها مخافة أن تكون من كلام أبي
جعفر خطأ اجتهاد، أو صوابا علمه هو لم يبلغنا.
(2) سيأتي بيان قوله هذا كله بأوفى من هذا وأتم في ص: 423 -
426.
(2/423)
بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عن قول
الله تعالى ذكره: (وما أنزل على الملكين) ، فقيل له: أنزل أو
لم ينزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه"ما"
التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى معنى"الذي"، دون
معنى"ما" التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن"ما"
إن وجهت إلى معنى الجحد، تنفي عن"الملكين" أن يكونا منزلا
إليهما، (2) ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني"هاروت
وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما (3) أو بدلا
من"الناس" في قوله: (يعلمون الناس السحر) ، وترجمة عنهما. (4)
فإن جعلا بدلا من"الملكين" وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: (وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر فيتعلمون
منهما ما يفرقون به من بين المرء وزوجه) . لأنهما إذا لم يكونا
عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يتعلم منهما من
يفرق بين المرء وزوجه؟ (5)
__________
(1) الخبر: 1679 - يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري: إمام
معروف، يروى عنه الطبري كثيرا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة.
وقال ابن أبي حاتم 4 /2 /243: "كتبت عنه، وأقمت عليه سبعة
أشهر". وقال: "سمعت أبي يوثق يونس بن عبد الأعلى، ويرفع من
شأنه". ولد سنة 170، ومات سنة 264.
وأما شيخه هنا فهو: "أنس بن عياض بن ضمرة": وهو ثقة، خرج له
أصحاب الكتب الستة. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1
/2 /34، وابن أبي حاتم 1 /1 /289.
وكتب في المطبوعة"بشر" بدل"أنس". وهو تحريف واضح. صوابه في ابن
كثير 1: 253، نقلا عن هذا الموضع من الطبري. ولم نجد في الرواة
من يسمى"بشر بن عياض" أبدا.
(2) في المطبوعة: "فتنفي. . . " بزيادة فاء لا خير فيها.
(3) انظر معنى "الترجمة" آنفًا: 420 تعليق: 2.
(4) في المطبوعة "يعلمان الناس السحر" وهو خطأ. وانظر ما سلف:
420.
(5) في المطبوعة: "ما يفرق"، والصواب ما أثبت.
(2/424)
وبعد، فإن"ما" التي في قوله: (وما أنزل على
الملكين) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: (وما كفر
سليمان) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: (وما كفر سليمان) ، عن
سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان
الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه -
وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق
به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: (وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ؟ إن خطأ هذا
القول لواضح بين.
وإن كان قوله"هاروت وماروت" ترجمة عن"الناس" الذين في قوله:
(ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) ، فقد وجب أن تكون
الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما
تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن
يكن ذلك كذلك، فلن يخلو"هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة
- من أحد أمرين:
إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من
الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من
الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما
عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا
عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان
أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ما
يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.
أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب
أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني
آدم. (1) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم،
فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول
إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما.
__________
(1) يقول في سياقه: قد ارتفع من بني آدم - السحر، والعلم به
والعمل.
(2/425)
وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين
الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من
بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد
السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. (1)
* * *
فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبَيِّنٌ أن معنى
(ما) التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) بمعنى"الذي"،
وأن"هاروت وماروت"، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر
أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الرد على"الملكين". ولكنهما
لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما.
* * *
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله
أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف
إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما
نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به
وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي
معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير
منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله،
وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان
لمن يتعلم ذلك منهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ليختبر بهما
عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر،
فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر
والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله
مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه =
يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن
ذلك لهم ضائرا،
__________
(1) بطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا. وهذا باطل بين البطول
والبطلان.
(2/426)
إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد
بعضهم والمعبود عنه ناه. (1) فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر
من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له
بقولهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، إذ كانا قد أديا ما أمر
به بقيلهما ذلك، كما:-
1680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف،
عن الحسن في قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)
إلى قوله: (فلا تكفر) ، أخذ عليهما ذلك.
* * *
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين، ومن قال إن هاروت
وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (ببابل)
:
* * *
1681 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني
أبي، عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن
جبير أبي غلاب، عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته
ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا:
يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك،
وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم
مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا!
قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا
هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء،
غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا
الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما
استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال
لها"بيذخت" فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن
تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم!
فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما
__________
(1) هذه حجة رجل يبصر دقيق المعاني، ولا يغفل عن مواضع السقط
في كلام من يتكلم وهو لا يضبط ما يقتضيه كلامه. وقد استخف به
ابن كثير، لأنه لم يضبط ما ضبطه هذا الإمام المتمكن من عقله
وفهمه.
(2/427)
للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا
الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا
فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك!
كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين
عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من
أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. (1)
1682 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حجاج، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن
عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم
والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! (2) فأوحى الله إلى
الملائكة: إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم
لفعلتم أيضا! (3) قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا،
فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت
وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة
امرأة من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمونها"بيذخت". قال: فوقعا
بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. (4) (ربنا
وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا) . فلما وقعا
بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور
الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب
الدنيا. (5)
__________
(1) الخبر: 1681 - أبو شعبة العدوي، هذا الذي يروى هنا عن ابن
عباس: لم أعرف من هو؟ ولا وجدت له ذكرا في شيء من المراجع.
والراجح عندي أن اسمه محرف عن شيء لا أعرفه.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 256، والدر المنثور 1: 99: "ربنا، لا
تمهلهم"، وكأنها هي الصواب، وإن كانت الأولى صحيحة المعنى.
(3) هذه العبارة صحيحة المعنى، ولكنها جاءت في تفسير ابن كثير:
"إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان
في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". وجاءت في الدر المنثور:
"إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم
أيضًا". مختصرا.
(4) في المطبوعة: "وكانت الملائكة" بالواو، والصواب من ابن
كثير والدر المنثور.
(5) الخبر: 1682 - الحجاج بن المنهال الأنماطي: ثقة فاضل، أخرج
له الجماعة. شيخه"حماد": الراجح عندنا أنه"حماد بن سلمة"، وإن
كان في التهذيب أنه يروى عن"الحمادين"، يعني حماد بن زيد وحماد
بن سلمة. ولكن اقتصر البخاري في ترجمته في الكبير 1 /2 / 376
على ذكر"حماد بن سلمة"، وكذلك صنع ابن أبي حاتم 1 /2 /167.
فصنيعهما يدل على أنه عرف بالرواية عنه أكثر - ووقع في
المطبوعة هنا"حجاج" بدل"حماد". والتصحيح من ابن كثير 1: 256،
إذ نقل هذا الخبر عن الطبري.
(2/428)
1683 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج
قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد قال، سمعت
عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها
خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا
أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء.
فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. (1)
1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن
إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق -
جميعا، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن
كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب،
فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه:
اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل
إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي
شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا
من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا
عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي
أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. (2)
__________
(1) الخبر: 1683 - خالد الحذاء: هو"خالد بن مهران"، ثقة كثير
الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 /2 /159، وابن
أبي حاتم 1 /2 / 352 - 353.
عمير بن سعيد النخعي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي
حاتم 3 /1 /376. ووقع في المطبوعة هنا"عمرو" بدل"عمير". وهو
خطأ، صوابه في ابن كثير 1: 255 عن رواية الطبري هذه.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 265 - 266، مطولا، من طريق
إسماعيل بن أبي خالد، "عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت عليا.
. "، فذكره بطوله.
(2) الخبر: 1684 - راه البخاري بإسنادين: من طريق مؤمل بن
إسماعيل، ومن طريق عبد الرازق، كلاهما عن الثوري. موسى بن عقبة
بن أبي عياش الأسدي: هو صاحب المغازي، كان ثقة ثبتا. كان مالك
يقول:"عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة". وهو مترجم في
الكبير للبخاري 4/ 1/ 292 وابن أبي حاتم 4/ 1 /154 - 155.
والذي أثبتنا هو الصواب، وكان في المطبوعة"محمد بن عقبة"،
بدل"موسى". و"محمد ابن عقبة": هو أخو موسى بن عقبة. وهو ثقة
أيضًا، مترجم في التهذيب، والكبير 1/1 /198 - 199، وابن أبي
حاتم 4/1/35.
وكان من المحتمل أن يكون ما في المطبوعة صحيحا، لأن سفيان
الثوري يروي عن محمد بن عقبة، كما يروي عن أخيه موسى. لولا
الدلائل والقرائن، التي جزمنا معها بخطأ ذلك:
فأولا: أن محمد بن عقبة لم يذكر في ترجمته بالرواية عن سالم بن
عبد الله بن عمر.
وثانيا: أن ابن كثير نقل هذا الخبر عن تفسير عبد الرزاق، عن
الثوري، عن موسى بن عقبة 1: 255، ثم ذكر أن الطبري رواه من
طريق عبد الرزاق. وثالثا: الخبر ثابت في تفسير عبد الرزاق، في
نسخة مصورة عندي، عن مخطوطة دار الكتب المصرية، المكتوبة سنة
724. وفيها"عن موسى بن عقبة".
فاتفق على هذا الكتابان: الكتاب الذي نقل عنه الطبري، والكتاب
الذي نقل عن الطبري.
ورابعا: أن ابن كثير قال أيضًا:"رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن
عصام، عن مؤمل، عن سفيان الثوري، به".
والطبري هنا رواه - كما ذكرنا - عن مؤمل بن إسماعيل، عن
الثوري. فاتفقت روايته مع رواية ابن أبي حاتم.
وليس بعد هذا ثبت ويقين.
(2/429)
1685 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن
أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة قال،
حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن
الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي،
فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب،
فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما:
إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى
الأرض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب
بيده، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله
عليهما. (1)
__________
(1) الخبر: 1685 - هو تكرار للخبر قبله، من رواية عبد العزيز
بن المختار، عن موسى ابن عقبة. وعبد العزيز بن المختار الدباغ:
ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم /2/393
- 394.
(2/430)
1686 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا
عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت
أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت
ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت:
ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال
لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين
الناس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا
فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم
زوجها، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية،"الزُّهَرة"،
وبالنبطية"بيذخت"، واسمها بالفارسية"أناهيذ" - فقال أحدهما
لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك
فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم،
ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما
جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي
على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب
يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها، قالت:
ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء،
وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله
ما تنزل به فبقيت مكانها، (1) وجعلها الله كوكبا - فكان عبد
الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت
وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا
الهلك، (2) فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب
الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس
كلامهما، وهو السحر.
1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا
ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد
آدم فيما وقعوا فيه من
__________
(1) في ابن كثير 1: 259: "فثبتت مكانها".
(2) في ابن كثير 1: 259: "الهلكة"، وهما سواء.
(2/431)
المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في
السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد
ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة
والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل
لهم: إنهم في غيب. (1) فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم
ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت
وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، (2) وأمرا
أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام،
وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على
ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان
إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة
في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، (3) فخضعا لها بالقول،
وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها،
وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت:
هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء
الله، (4) ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها،
فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في
عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما:
اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا
النفس، أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة
شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها.
فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه.
فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا
أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف
الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا
فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو
أقل خشية (5) فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما
لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب
الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع،
وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا
ببابل، فهما يعذبان. (6)
1688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن
فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر،
فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت:
لا -مرتين أو ثلاثا- (7) ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا
أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك
إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (8) وقال: قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة قالت: يا رب،
كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم
وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا
ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت
وماروت. (9)
__________
(1) ما أدري ما يعني بقوله: "إنهم في غيب"، إلا أن يكون أراد
الغيب: وهو ما غيبك من الأرض، لبعده وانقطاعه، وهبوطه عما
حوله. كأنه يقول: إنهم في مكان غيبهم عما تشهدون أنتم - أيتها
الملائكة - من آيات ربكم. وانظر ص: 433.
(2) في تفسير ابن كثير 1: 257: "فجعل لهما. . ".
(3) في تفسير ابن كثير: "أتيا عليها".
(4) في المطبوعة: "فصبرا ما شاء الله"، وفي ابن كثير: "فعبرا".
وغبر: مكث وبقى.
(5) انظر ص: 432 تعليق: 1.
(6) الأثر: 1687 - في تفسير ابن كثير 1: 257 - 258 عن أبي حاتم
قال: "أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر،
حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس رضي الله
عنهما"، وهو غير إسناد ابن جرير، وكلاهما من طريق أبي جعفر عن
الربيع بن أنس، ولكن ابن جرير لم يرفعه إلى ابن عباس. ونصهما
واحد إلا بعض خلاف يسير في بعض اللفظ.
(7) في المطبوعة: "قالها مرتين أو ثلاثا"، والصواب من ابن كثير
في تفسيره 1: 255، والدر المنثور 1: 97.
(8) في ابن كثير: "أو قال - قال لي رسول الله. . ".
(9) الفرج بن فضالة التنوخي القضاعي: ضعيف قال البخاري: "منكر
الحديث"، وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1/134، والصغير:
192، 199، والضعفاء للبخاري: 29، والنسائي: 25، وابن أبي حاتم
3 /2 /85 - 86.
وهذا الحديث هنا مختصر. وقد رواه الخطيب في ترجمة سنيد، مطولا،
من طريق عبد الكريم بن الهيثم، عن سنيد، بهذا الإسناد.
وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت
امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث. وقد جاء
هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند: 6178، من
طريق موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر. وقد فصلت القول في
تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير 1:
255"وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب
الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم". واستدل بروايتي
الطبري السالفتين: 1684، 1685 عن سالم عن ابن عمر عن كعب
الأحبار.
وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ 1: 37 - 38 قال: "فهذا
أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار،
وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث
عن بني إسرائيل ":. وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر:
"وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من
رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول
عليها".
وقال في التفسير أيضًا 1: 260، بعد ذكر كثير من الروايات التي
في الطبري وغيره: "وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من
التابعين، كمجاهد، والسدي والحسن البصري، وقتادة، وأبي
العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم،
وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع
في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع
صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن
الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة" من غير بسط ولا إطناب
فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى.
والله أعلم بحقيقة الحال".
وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله.
(2/432)
1689 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت
وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل
والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما
يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال
لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم،
وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، (1) وأنتما ليس بيني
وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر
ونهاهما. (2) ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما
__________
(1) في ابن كثير 1: 259: "أعجبتم من بني آدم. . وإنكما ليس
بيني وبينكم رسول".
(2) في ابن كثير: "فأمرهما بأمور ونهاهما".
(2/434)
فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم،
فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان
فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة
امرأة - تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في
نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا
إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالالها -وقضيا لها-:
ائتينا! فأتتهما، (1) فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت
شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء
ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت
حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، (2) ولم
تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا ادع
لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا
ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا
لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر
أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا
وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. (3) فأمرا أن ينزلا
ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان،
يصفقان بأجنحتهما. (4)
* * *
قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وما أنزل على
الملكين) ، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ
القراءة بذلك من جهة الاستدلال، (5) فأما من جهة النقل، فإجماع
الحجة - على خطأ القراءة بها - من
__________
(1) في ابن كثير: "قالا وقضيا لها فأتتهما"، وليس بصواب.
(2) في ابن كثير: "فزجرا ولم يؤذن لهما، وهما سواء.
(3) في ابن كثير: "فقالا: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله. . وفي
الدنيا تسع مرات مثلها". وفي الدر المنثور: "فقالا: نعلم أن
أفواج عذاب الله. . نعم، ومع الدنيا سبع مرات. . " وقوله"ومع
الدنيا. . " أي إذا قيس بعذاب الدنيا، كان سبعة أمثال عذابها.
(4) الأثر: 1689 - في تفسير ابن كثير 1: 259 - 260، وفي الدر
المنثور 1: 102
(5) انظر ما سلف ص: 425 - 426.
(2/435)
الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى
بذلك شاهدا على خطئها.
* * *
وأمأ قوله (ببابل) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض.
وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها"بابل
دُنْبَاوَنْد".
1690 - حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي. (1)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك"بابل العراق".
* ذكر من قال ذلك:
1691 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - في قصة
ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق
ببابل، فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. (2)
قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع
ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه
بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه
ماء، ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته.
وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من
الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته:
يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله
بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-
__________
(1) الأثر: 1690 - هو الأثر السابق 1686.
(2) الأثر: 1691 الحسين: هو سنيد، كما مضى مرارا.
حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة رفيع الشأن، من
شيوخ أحمد وابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري
1/2/376، وابن أبي حاتم 1/2/166، وتاريخ بغداد 8: 236 - 239.
وهذا الخبر قطعة من خبر مطول، سيأتي: 1692، من طريق ابن أبي
الزناد أيضًا.
(2/436)
1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن
وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه
أنه يفعل الشيء ولم يفعله. (1)
1693 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة،
عن أبيه، عن عائشة قالت، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم
يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله.
(2)
__________
(1) الحديث: 1692 - أحمد بن الوليد، شيخ الطبري: لم أعرف من
هو؟ وسفيان بن وكيع بن الجراح: ضعيف قال البخاري في التاريخ
الصغير، ص: 246"يتكلمون فيه لأشياء لقنوه". وقال النسائي في
الضعفاء، ص: 16"ليس بشيء". بل اتهمه أبو زرعة بالكذب. ودفع عنه
أبو حاتم هذه السبة، وإنما جاءه ذلك من وراقه، أفسد عليه
حديثه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/1/231 - 232،
والمجروحين لابن حبان (مخطوط مصور) ، رقم: 470. وليس ضعفه بسبب
لضعف هذا الحديث فقد جاء بأسانيد صحاح، سنشير إليها في الحديث
التالي.
يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام الحافظ.
(2) الحديث: 1693- هو تكرار للحديث السابق بإسناد آخر، رواه
سفيان بن وكيع عن ابن نمير.
ابن نمير: هو عبد الله بن نمير الهمداني: ثقة صاحب سنة، روى
عنه الأئمة، أحمد، وابن المديني. مترجم في التهذيب، وابن سعد
6: 274 - 275. وابن أبي حاتم 2 /2 /186.
وهذا الحديث - بطريقيه - مختصر من حديث مطول: أما من رواية ابن
نمير، فقد رواه أحمد في المسند 6: 57 (حلبي) عن ابن نمير.
ورواه مسلم في صحيحه 2: 180، عن أبي كريب. ورواه ابن ماجه:
3545، عن أبي بكر بن شيبة - كلاهما عن ابن نمير، به مطولا.
وقد رواه كثير من الثقات الأثبات عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة:
فرواه أحمد في المسند 6: 63، من طريق معمر. ورواه أحمد أيضًا
6: 63، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، وكذلك رواه البخاري
10: 201، ومسلم 2: 180 - كلاهما من طريق أبي أسامة. ورواه أحمد
أيضًا 6: 96، وابن سعد 2 /2 /4 - كلاهما من طريق وهيب. ورواه
البخاري 10: 192 - 197، من طريق عيسى بن يونس. و10: 199 - 201،
من طريق ابن عيينة. و 10: 400، من طريق سفيان، وهو ابن عيينة.
و11: 163، من طريق أنس ابن عياض أبي ضمرة. ورواه أيضًا 6: 239،
معلقا من رواية الليث بن سعد، - كل هؤلاء رووه عن هشام بن
عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقال البخاري 10: 197، عقب رواية
عيسى بن يونس: أنه سمعه قبل ذلك من ابن جريح"يقول: حدثني آل
عروة عن عروة".، وأنه - أي ابن عيينة - سأل هشاما عنه، فحدثه
به عن أبيه عن عائشة.
وذكر ابن كثير بعض طرقه، في تفسير سورة الفلق 9: 353 - 354.
وإنما فصلنا القول في طرقه هنا، لأن الطبري لم يذكره هناك في
موضعه.
وقد ثبت مثل هذه القصة من حديث زيد بن أرقم. رواه أحمد في
المسند 4: 367 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن
حيان، عن زيد بن أرقم، به وهذا إسناد صحيح. يزيد بن حيان أبو
حيان التيمي: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/
2/324 - 325، وابن أبي حاتم 4 /2 /255 - 256.
ورواه أيضًا ابن سعد 2/2/6، عن موسى بن مسعود، عن سفيان
الثوري، عن الأعمش، عن ثمامة المحلمي، عن زيد بن أرقم. وهذا
إسناد صحيح أيضًا. موسى بن مسعود النهدي: سبق توثيقه: 280.
و"ثمامة بن عقبة المحلمي": ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير
للبخاري 1 /2 /176، والجرح 1/1/465 - 466. و"المحلمي"بضم الميم
وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة بعدهما ميم، نسبة
إلى"محلم بن تميم".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 281، بروايتين، وقال:"رواه
النسائي باختصار"، ثم قال:"رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها
رجال الصحيح".
وذكره الحافظ في الفتح 10: 194 أنه"صححه الحاكم وعبد حميد".
وقصة السحر هذه عرض لها كثير من أهل عصرنا بالإنكار؛ وهم في
إنكارهم مقلدون، ويزعمون أنهم بعقلهم يهتدون. وقد سبقهم إلى
ذلك غيرهم، ورد عليهم العلماء:
فقال الحافظ في الفتح 10: 192"قال المازري: أنكر بعض المبتدعة
هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها! 10:
192"قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا
يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أنه يخيل
إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم! وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح
إليه بشيء!! قال المازري: وهذا كله مردود. لأن الدليل قد قام
على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى،
وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما
قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا
التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها - فهو في ذلك
عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل إليه في
أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك من
أمور الدين". ثم أفاض الحافظ في هذا البحث الدقيق، بقوته
المعروفة، في جمع الروايات وتفسيرها، بما لا يدع شكا عند من
ينصف. وعقد القاضي عياض فصلا جيدا في هذا البحث، في كتاب
الشفاء. انظره في شرح العلامة على القارئ2: 190 - 193 من طبعة
بولاق سنة 1257.
(2/437)
1694 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد
بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول
الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان
(2/438)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني
يهود بني زريق. (1)
* * *
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء
عن حقيقته، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر
عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى
المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي
وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق
الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل،
(2) ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت
أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله:
(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [سورة طه: 66] ، وفي خبر عائشة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذْ سحر يخيل إليه
أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين
=: أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر
استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان =
وصحة ما قلنا. (3)
* * *
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا، وأن
يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك
بما:-
1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال،
أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة زوج
__________
(1) الحديث: 1694 - هذا في معنى الحديثين قبله. ولكن هذا مرسل.
وقد روى ابن سعد 2/2/5، نحوه مختصرا، عن الزهري، "عن ابن
المسيب وعروة بن الزبير قالا: فكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق". وقد أشار الحافظ في الفتح
10: 193 إلى أن مرسل سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق، وذكر من
بعض ألفاظه ما يدل على أنه أطول مما هنا. وقوله"بئر حزم"، لا
يعرف. والذي في الروايات جميعا: "بئر ذروان".
(2) في المطبوعة: "فضل"، وهو خطأ.
(3) سياق العبارة: "أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين. .
وصحة ما قلنا" معطوفا.
(2/439)
النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت
علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، (1) تسأله عن شيء دخلت فيه من
أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي،
فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيشفيها، (2) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن
أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك
إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان
الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم
يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، (3) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما،
فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا
تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور
فبولي فيه. (4) فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا
أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا
لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت، (5)
فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت. ثم
رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا.
فقالا كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس
أمرك! (6) فأربيت وأبيت، فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي
فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني
حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد
فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في
السماء حتى ما أراه، (7) فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك،
اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا!
فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري.
فبذرت، وقلت: أطلعي! فأطلعت، وقلت: أحقلي! فأحقلت، ثم قلت:
أفركي! فأفركت، ثم قلت: أيبسي! فأيبست، ثم قلت: أطحني! فأطحنت،
ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (8) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا
كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت
شيئا قط ولا أفعله أبدا. (9)
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا:
لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما
قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره
عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان،
لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم
يفرقون على صحة.
* * *
وقال آخرون: بل"السحر" أخذ بالعين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس
الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له:
إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-
1696 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) يقال: "كان في حدثان كذا وكذا" (بكسر فسكون) ، و"في
حداثته": أي على قرب عهد به.
(2) يشفيها: أي يجيبها بما يبلغ بها سكينة القلب فتبرأ من
حيرتها. ومنه: "شفاء العي السؤال". والجهل والحيرة مرض القلوب
والنفوس.
(3) في ابن كثير 1: 260: "فلم يكن شيء"، والصواب ما هنا وفي
الدر المنثور 1: 101 وقولها: "فلم يكن كشيء" عبارة جيدة،
بمعنى: لم يكن ما مضى كشيء يعد، بل أقل من القليل. والعرب
تقول: تأخرت عنك شيئا، أي قليلا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة.
وقالت لهن: اربعن شيئا، لعلني ... وإن لامني فيما ارتأيت مليم
أي قفن قليلا. ويقولون في مثل ذلك أيضًا: "لم يكن إلا كلا
ولا"، كل ذلك بمعنى السرعة الخاطفة.
(4) في المطبوعة: "فقالا، اذهبي. . "، وأثبت ما في الدر
المنثور وابن كثير، فهي أجود.
(5) في المطبوعة: "فأبيت" بحذف"فأرببت". وأرب بالمكان لزمه ولم
يبرحه. والزيادة من ابن كثير في الموضعين.
(6) يقال: أنت على رأس أمرك، وعلى رئاس أمرك: أي في أوله وعلى
شرف منه. وزعم الجوهري أن قولهم: "على رأس أمرك" من كلام
العامة، وهذا الخبر ينقض ما قال.
(7) في تفسير ابن كثير والدر المنثور: "فرأيت فارسا"، وما هنا
صواب جيد.
(8) في هذه الفقرة كلمات لم تثبتها كتب اللغة، سأذكرها في مدرج
شرحها. "أطلعي فأطلعت" أي أخرجي شطأك، من قولهم: أطلع الزرع،
إذا بدا أول نباته من الأرض. "أحقل الزرع: تشعب ورقه من قبل أن
تغلظ سوقه. "أفركي فأفركت"، أي كوني فريكا. وهو حب السنبلة إذا
اشتد وصلح أن يفرك. أفرك السنبل: صار فريكا، وهو حين يصلح أن
يفرك فيؤكل. و"أيبسي فأيبست" أي كوني حبا يابسا، أيبس البقل:
يبس وجف. "أطحني فأطحنت". أي كوني طحينا. ولم يرد في كتب
اللغة: "أطحن"، ولكنها أتبعت هذا الحرف ما مضى من أخواته، وهي
عربية سليمة ماضية على سنن اللغة في هذا الموضع. "أخبزي
فأخبزت"، أي كوني خبزا يؤكل، وهذه أيضًا لم ترد في كتب اللغة،
ولكنها عريقة كأختها السالفة. وقد قال ابن كثير أن إسناد هذا
الحديث جيد إلى عائشة، وأن الحاكم صححه، فإن كان ذلك كما قالا،
فلا شك في عربية هذه الألفاظ من طريق الرواية أيضًا.
(9) الخبر: 1695 - مضت قطعة منه، بإسناد آخر إلى ابن أبي
الزناد: 1691.
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 260 - 261، بطوله، عن الطبري.
وقدم له بكلمة قال"وقد ورد في ذلك أثر غريب، وسياق عجيب في
ذلك. أحببنا أن ننبه عليه". ثم قال بعد نقله. "فهذا إسناد جيد
إلى عائشة رضي الله عنها". وذكر أنه رواه ابن أبي حاتم عن
الربيع بن سليمان، بأطول منه.
وذكره السيوطي 1: 101، ونسبه أيضًا للحاكم وصححه. والبيهقي في
سننه.
وهي قصة عجيبة، لا ندري أصدقت تلك المرأة فيما أخبرت به عائشة؟
أما عائشة فقد صدقت في أن المرأة أخبرتها. والإسناد إلى عائشة
جيد، بل صحيح.
الربيع بن سليمان: هو المرادي المصري المؤذن، صاحب الشافعي
وراوية كتبه، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
1/2/464. ابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد
الله بن ذكوان"، وهو ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة، في روايته عن
أبيه، وفي رواية البغداديين عنه. والحق أنه ثقة، وخاصة في حديث
هشام بن عروة. فقد قال ابن معين - فيما رواه أبو داود عنه عند
الخطيب وغيره -"أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي
الزناد". وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في
السنن 3: 59، في حديث له صححه، وفيه حرف لم يروه غيره، فقال:
"وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ثقة حافظ".
(2/440)
السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت
- إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة!
فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج
منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود
كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، (1) فذلك غضب
الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: (وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) الآية.
1697 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
والحسن: (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، قال: أخذ عليهما
أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. (2)
1698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر، فأخذ
عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".
1699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان،
عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى
يتقدما إليه فيقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".
1700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن
الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك.
1701 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى
يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". لا يجترئ على السحر إلا كافر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وقيل شيء أسود. . " كلام بلا معنى. والتصحيح
من ابن كثير 1: 262.
(2) في المطبوعة: أخذ عليها أن لا يعلما" والزيادة من ابن كثير
1: 262.
(2/443)
وأما الفتنة في هذا الموضع، فإن معناها:
الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر. (1)
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا (2)
ومنه قوله:"فتنت الذهب في النار"، إذا امتحنته لتعرف جودته من
رداءته، "أفتنه فتنة وفتونا"، كما:-
1702 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة (إنما نحن فتنة) ، أي بلاء.
* * *
__________
(1) نسبه الطبري في تاريخه 1: 151 - 152 للحتات بن يزيد
المجاشعي عم الفرزدق. ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف 5: 104
إلى: علي بن الغدير بن المضرس الغنوي، وإلى: إهاب بن همام بن
صعصة بن ناجية بن عقال المجاشعي، وإلى: ابن الغريرة النهشلي،
وهو كثير بن عبد الله بن مالك النهشلي، وهو مخضرم، وإليه أيضًا
في معجم الشعراء: 349، وفي الكامل للمبرد 2: 34، وقال أبو
الحسن الأخفش: "ابن الغريرة الضبي"، وهو خطأ محض، إنما هو
النهشلي.
(2) أول هذه القصيدة: نأتك أمامة نأيا طويلا ... وحملك الحب
عبئا ثقيلا
ثم قال: لعمر أبيك فلا تجزعي ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا
أعاذل كل امرئ هالك ... فسيرى إلى الله سيرا جميلا
فإن الزمان له لذة ... ولا بد لذته أن تزولا
وروى الطبري صدر البيت الذي استشهد به هنا في تاريخه: * لقد
سفه الناس في دينهم *
(2/444)
القول في تأويل قوله تعالى:
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (فيتعلمون منهما) ، خبر مبتدأ
عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله:
(وما يعلمان من أحد) ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع
فقيل:"فيتعلمون". فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى
يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما
ما يفرقون به بين المرء وزوجه. (1)
وقد قيل: إن قوله: (فيتعلمون) ، خبر عن اليهود معطوف على
قوله:"ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على
الملكين ببابل هاروت وماروت"،"فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين
المرء وزوجه) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من
الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، (2) أولى من إلحاقه بما قد
حيل بينه وبينه من معترض الكلام.
و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله: (منهما) ، من ذكر
الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به
بين المرء وزوجه.
* * *
و"ما" التي مع"يفرقون" بمعنى"الذي". وقيل: معنى ذلك: السحر
الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم
في ذلك فيما مضى قبل. (3)
__________
(1) يعني الطبري أن في الكلام حذف اجتزأ بفهم سامعه عن ذكره،
وهو قوله: "فيأتون قبول ذلك منهما".
(2) قوله: "ما كان للتأويل. . "، هي ما يقولونه في العربية
الركيكة"ما دام للتأويل. . "
(3) انظر ما سلف: 423 - 424.
(2/445)
وأما"المرء"، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني
آدم، والأنثى منه"المرأة". يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثته على
صورته، (1) يقال منه:"هذا امرؤ صالح، وهذان امرآن صالحان". ولا
يقال: هؤلاء امرؤو صدق، ولكن يقال:"هؤلاء رجال صدق"، وقوم صدق.
وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه
امرأة، وهاتان امرأتان". ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن:"هؤلاء
نسوة".
* * *
وأما"الزوج"، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل:"هي زوجه"
بمنزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: (أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [سورة الأحزاب: 37] ، وتميم وكثير من قيس
وأهل نجد يقولون:"هي زوجته". (2) كما قال الشاعر: (3)
وإن الذي يمشي يحرش زوجتي ... كماش إلى أسد الشرى يستبيلها (4)
فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد
دللنا فيما مضى على أن معنى"السحر": تخييل الشيء إلى المرء
بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق
لفهمه. (5) فإن كان
__________
(1) في المطبوعة: "ولا يجمع ثلاثيه" خطأ محض.
(2) انظر ما سلف 1: 514، ففيه زيادة عما هنا.
(3) هو الفرزدق.
(4) ديوانه: 605، والأغاني 9: 326، و19: 8 (ساسى) ، في قصته مع
النوار، ويقول هذا الشعر لبني أم النسير (طبقات فحول الشعراء:
281، والأغاني) ، وكانت خرجت مع رجل يقال له زهير بن ثعلبة ومع
بني أم النسير، فقال هذا الشعر، وبعد البيت: ومن دون أبوال
الأسود بسالة ... وصولة أيد يمنع الضيم طولها
ورواية الديوان وغيره: وإن امرءا يسعى يخبب زوجتي
وقوله: "يخبب"، أي يفسدها على. ويحرش: يحرض ويغرى بيني وبينها.
و"يستبيلها": أي يطلب أن تبول في يده.
(5) انظر ما سلف: 435 وما بعدها.
(2/446)
ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، (1)
فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص
الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه
عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا.
فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة
ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن
العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل
ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) فكذلك
تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك
قاله عدد من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1703 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء
وزوجه) ، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه، (3)
ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.
* * *
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين
المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: (فيتعلمون منهما)
إلى"فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه،
كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا"، أي مكان كذا، كما قال
الشاعر:
ججَمَعَت من الخيرات وَطبا وعلبة ... وصرا لأخلاف المُزَنَّمة
البزل (4)
__________
(1) في المطبوعة: "فإن كان ذلك صحيحا"، والأجود ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 1: 196.
(3) أخذه تأخيذا. والتأخيذ: حبس السواحر أزواج النساء عن غيرهن
من النساء، ويقال لهذه الحيلة: الأخذة (بضم فسكون) .
(4) لم أعرف قائلهما، ولم أجدها إلا في أمالي الشريف المرتضى
1: 421، وكأنه نقلهما عن الطبري، لأنهما جاءا في تفسير هذه
الآية، على هذا المعنى. والوطب: سقاء اللبن خاصة. والعلبة:
جلدة تؤخذ من جنب البعير، فتسوى مستديرة، ثم تملأ رملا سهلا،
ثم تضم أطرافها بخلال حتى تجف وتيبس، ثم يقطع رأسها وقد قامت
قائمة لجفافها تشبه قصعة مدورة، فكأنها نحتت نحتا، ويعلقها
الراعي ويشرب بها، وله فيها رفق وخفة لأنها لا تنكسر إذا حركها
البعير أو طاحت إلى الأرض. والصر: شد ضرع النوق الحلوبات إذا
أرسلوها للمرعي سارحة، ويسمون ذلك الرباط: صرارا. والأخلاف جمع
خلف (بكسر فسكون) ، وهو ضرع الناقة أو البعير إذا استكمل
الثامنة وطعن في التاسعة، وبزل نابه، أي انشق عن اللحم. وهو
أقصى سنه وتمام قوته. وفي المطبوعة هنا"المذممة"، وفي أمالي
الشريف:"المزممة"، وفي نسخة أخرى منها"المزهمة"، وقد علق أحد
أصحاب الحواشي على الأمالي فقال: "المزممة: التي علق عليها
الزمام ". واخترت أن تكون "المزنمة" فهي أشبه بهذا الشعر.
يقال: ناقة مزنمة وهي التي عليها سمة التزنيم، وهو أن يقطع طرف
أذنه ويترك له زنمة مشرفة. وإنما يفعل ذلك بالكرام من الإبل.
وهذا هجاء يقول له: إنما أنت راع خسيس، ترعى على السادة الكرام
كرام إبلهم، ولا تجمع من خيرات ما يتمتع به سادتك، إلا وطبا
وعلبة وعلاجا لإبلهم التي ترعاها عليهم.
(2/447)
ومن كل أخلاق الكرام نميمة ... وسعيا على
الجار المجاور بالنَّجْل (1)
يريد بقوله:"جمعت من الخيرات"، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق
الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر:
صلدت صفاتك أن تلين حيودها ... وورثت من سلف الكرام عقوقا (2)
يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك.
* * *
__________
(1) الجار: الذي قرب منزله من منزلك، ووصفه بقوله: "المجاور"
للدلالة على شدة قربه، وهو الجار الجنب، فهو أشد حرمة لنزوله
في جواره ومنعته، وركونه إلى أمان عهده. والنجل: تمزيق عرضه
بالغيبة والمعابة والسب بظهر الغيب. وفي الحديث: "من نجل الناس
نجلوه" أي سبهم وقطع أعراضهم بالشتم كما يقطع بالمنجل، جازوه
بمثل فعله.
(2) لم أعرف قائله. صلدت: صلبت وقست. والصفاة: الحجر الصلد
الأملس الضخم الذي لا ينبت شيئا. والحيود جمع حيد: وهو التنوء
في الجبل أو القرن أو غيرهما. وهذا مثل: يقول له أنت غليظ جاف
لا يصلحك شيء، ولا خير فيك، كالصفاة الملساء ذات النتوء، لا
يصلحها شيء ولا تأتي بخير. والسلف: سلف الإنسان: من تقدمه من
آبائه وذوي قرابته ممن هم فوقه في السن والفضل. يقول: ورثت من
والديك مكان مآثر الأسلاف الكرام، عقوقا، فأنت تعقهم، كما عقوا
هم آباءهم. فأنتم خلف يلعن سلفا لئيما عاقا، يلعن أسلافه.
فأنتم معرقون في العقوق، وهو شر أخلاق الناس.
(2/448)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ}
قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما هم بضارين به من أحد
إلا بإذن الله) ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما
يفرقون به بين المرء وزوجه، بضارين - بالذي تعلموه منهما، من
المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا
من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره،
وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى، فإن ذلك غير ضاره، ولا
نائله أذاه.
* * *
ولـ لإذن" في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه
الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: (وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله) ، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين
المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان
الأمة. (1)
ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.
ومنها العلم بالشيء، يقال منه:"قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت
به"آذن به إذنا"، ومنه قول الحطيئة:
ألا يا هند إن جددت وصلا ... وإلا فأذنيني بانصرام (2)
يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ) [سورة البقرة: 279] ، وهذا هو معنى الآية، كأنه قال
جل ثناؤه: وما هم بضارين،
__________
(1) كأنه يريد: حرم التفريق على لسان الأمة: أن تنطق به وتأمر
بفعله
(2) لم أجد البيت في ديوان الحطيئة المطبوع. وقوله"فأذنيني"،
يدل على أن الفعل متعد: "أذنه بالشيء يأذنه إذنا" أعلمه به،
مثل"آذنه به". ولم يرد ذلك في شيء من كتب اللغة، والبيت شاهد
عليه، وشرح الطبري بعد دال أيضًا على مراده.
(2/449)
بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم
الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:-
1704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: (وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله) ، قال: بقضاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ويتعلمون) ، الناس الذين
يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به
بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم،
ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد
كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ
اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) (ولقد علموا لمن
اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، الفريق الذين لما جاءهم
رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم
كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان،
فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه". ويتعلمون أي الناس
الذين يتعلمون. . " وهو كلام غير مستقيم، كأنه تصرف من بعض
النساخ.
(2/450)
إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم =
التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به،
بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم
بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر
الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت = لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على
رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:-
1705 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلاق) ، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن
الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة.
1706 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ،
يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما
له في الآخرة من خلاق.
1707 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في
الآخرة من خلاق) ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه.
1708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، قال: قد
علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك
دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (لمن اشتراه) ، فإن"من" في موضع رفع،
وليس
(2/451)
قوله: (ولقد علموا) بعامل فيها. لأن قوله:
(ولقد علموا) ، (1) بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن
الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق.
ولكون قوله: (قد علموا) بمعنى اليمين، حققت بـ "لام اليمين"،
فقيل: (لمن اشتراه) ، كما يقال:"أقسم لمن قام خير ممن قعد".
وكما يقال:"قد علمت، لعمرو خير من أبيك".
وأما"من" فهو حرف جزاء. وإنما قيل"اشتراه" ولم يقل"يشتروه"،
لدخول"لام القسم" على"من". ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف
الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ "فعل"
دون"يفعل"، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو
مجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) [سورة الحشر: 12] ، وقد يجوز إظهار فعله
بعده على"يفعل" مجزوما، (2)
كما قال الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما له في الآخرة من خلاق)
. فقال بعضهم:"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب.
* ذكر من قال ذلك:
1709 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال،
حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما له في الآخرة من
خلاق) ، يقول: من نصيب.
__________
(1) في المطبوعة: "لأن قوله: علموا، بمعنى اليمين"، وآثرت
إثبات"ولقد"، لأن الجملة كلها بمعنى اليمين.
(2) هذا كله في معاني الفراء 1: 65 - 69، مع تصرف في اللفظ.
(3) رواه الفراء في معاني الفراء 1: 66 غير منسوب، ولكن صاحب
الخزانة 4: 220 نسبه لكميت بن معروف، ولكني لم أجده منسوبا
إليه في كتاب آخر، وأخشى أن يكون صاحب الخزانة قدوهم. هذا،
والبيت وما قبله جميعا في معاني الفراء 1: 65 - 66.
(2/452)
1710 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا
عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما له في الآخرة من خلاق) ،
من نصيب.
1711 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال
سفيان: سمعنا في: (وما له في الآخرة من خلاق) ، أنه ما له في
الآخرة من نصيب.
* * *
وقال بعضهم:"الخلاق" ههنا الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
1712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة: (وما له في الآخرة من خلاق) ، قال: ليس
له في الآخرة حجة.
وقال آخرون: الخلاق: الدين.
* ذكر من قال ذلك:
1713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، قال الحسن: (ما له في الآخرة من خلاق) ، قال:
ليس له دين.
* * *
وقال آخرون:"الخلاق" ههنا القوام.
* ذكر من قال ذلك:
1714 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال ابن عباس: (ما له في الآخرة من خلاق) ، قال:
قوام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال:
معنى"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في
كلام العرب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(2/453)
1715 -"ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا
خلاق لهم". (1)
يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن
أبي الصلت:
يَدْعُون بالويل فيها لا خَلاق لهم ... إلا سرابيلُ من قِطْر
وأغلال (2)
يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال.
* * *
فكذلك قوله: (ما له في الآخرة من خلاق) : ما له في الدار
الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا
عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من
الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: (ما له في الآخرة من خلاق) ، فوصفه
بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء
وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه
أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على
مراده من الخبر، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من
الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
* * *
__________
(1) الحديث: 1715 - هكذا علق الطبري هذا الحديث، بدون إسناد
وقد رواه أحمد في المسند 5: 45 (حلبي) ، من حديث أبي بكرة،
بلفظ: "إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". وذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 302، ثم قال: "رواه أحمد
والطبراني، ورجالهما ثقات". وذكره أيضًا بعده، من حديث أنس،
وقال: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد البزار
ثقات الرجال". (كذا بالأصل) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير:
1838، ونسبه للنسائي وابن حبان من حديث أنس، ولأحمد والطبراني
من حديث أبي بكرة. ونقل شارحه المناوي أن الحافظ العراقي قال:
"إسناده جيد". وحديث أنس رواه أيضًا أبو نعيم في الحلية 6:
262. ورواه قبل ذلك 3: 13، من حديث الحسن مرسلا. ثم أشار إلى
حديث أنس.
(2) ديوانه: 47 بيت مفرد:. وقوله"فيها"، أظنه يعني النار.
والقطر: النحاس الذائب.
(2/454)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ
مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن
معنى"شروا":"باعوا". (1) فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به
نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما:
1716 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
(ولبئس ما شروا به أنفسهم) ، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: (ولبئس ما
شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ؟ وقد قال قبل: (ولقد علموا
لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، فكيف يكونون عالمين بأن
من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا
بالسحر أنفسهم؟
قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون
بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي
معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا
بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به
أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في
الآخرة من خلاق. فقوله: (لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا
يعلمون) ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين
التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما
شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة
أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة
بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف
حلاله وحرامه، وأمره ونهيه.
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 340 - 342.
(2/455)
ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم
أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما
تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر
عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من
خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها،
ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما
أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم،
وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن
فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له
في الآخرة من خلاق) ، يعني به الشياطين، وأن قوله: (لو كانوا
يعلمون) ، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف.
وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ، معني
به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه
التنزيل. لأن الآيات قبل قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ، وبعد
قوله: (لو كانوا يعلمون) ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم
على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء
ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه
ما له في الآخرة من خلاق) ، أحد تلك الأخبار عنهم.
* * *
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: (ولبئس ما شروا
به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم
الله بقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)
. وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: (لو كانوا يعلمون) -
بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: (ولقد علموا) - من أجل
أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه، وأما
إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال
للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما:"لو
علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني، وهو
(2/456)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه
وزاده:
إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه!! ... ألم تعلما أني من الزاد
مرمل (1)
فأخبر أنه قال لهما:"لو تعلمانه"، فنفى عنهما العلم، ثم
استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: (ولقد علموا
لمن اشتراه) و (لو كانوا يعلمون)
* * *
وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم
بنفس الخطاب، أعني بقوله: (ولقد علموا) وقوله: (لو كانوا
يعلمون) ، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر
الخطاب = دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه
الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في
أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن = أولى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) ،
لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء
وزوجه،"آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم،
و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه
وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على
إيمانهم به وتقواهم إياه، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا
به،"لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك
__________
(1) ديوانه: 51، وأمالي الشريف المرتضى 1: 424، وكأنه كان ينقل
كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد
زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض.
(2) يقول: "وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر من الخطاب. .
أولى" وفصل فأطال.
(2/457)
خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما
نفى بقوله: (لو كانوا يعلمون) العلم عنهم: أن يكونوا عالمين
بمبلغ ثواب الله، وقدر جزائه على طاعته.
* * *
و"المثوبة" في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة
وثوابا ومثوبة". فأصل ذلك من:"ثاب إليك الشيء" بمعنى: رجع. ثم
يقال:"أثبته إليك": أي، رجعته إليك ورددته. فكان معنى"إثابة
الرجل الرجل على الهدية وغيرها": إرجاعه إليه منها بدلا (1)
ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو
يد له سلفت منه إليه: مثيبا له. ومنه"ثواب" الله عز وجل عباده
على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع
إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا
لمثوبة من عند الله خير) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه
- عن ذكر جوابه. وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا،
ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله: لأثيبوا.
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: (ولو
أنهم آمنوا واتقوا) ، (لمثوبه) ، وأن"لو" إنما
أجيبت"بالمثوبة"، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب
معناه من معنى"لئن" في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان.
فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت"لو" بجواب
"لئن"، و"لئن" بجواب "لو"، لذلك، وإن اختلفت أجوبتهما،
فكانت"لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل،
وكانت"لئن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما
وصفنا من تقاربهما. فكان يتأول معنى قوله: (ولو أنهم آمنوا
واتقوا) : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إرجاعه إليها" سهو من ناسخ.
(2/458)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(104)
وبما قلنا في تأويل"المثوبة" قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لمثوبة من عند الله) ، يقول:
ثواب من عند الله.
1718 - حدثني يونس قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله) ،
أما"المثوبة"، فهو الثواب.
1719 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من
عند الله خير) ، يقول: لثواب من عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقُولُوا رَاعِنَا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تقولوا
راعنا) . فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافا.
* ذكر من قال ذلك:
1720 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: لا
تقولوا خلافا.
1721 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا خلافا.
1722 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
1723 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد مثله.
1724 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
مجاهد مثله.
* * *
(2/459)
وقال آخرون: تأويله: أَرْعِنَا سمعك. أي:
اسمع منا ونسمع منك.
* ذكر من قال ذلك:
1725 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق،
عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قوله: (راعنا) ، أي: أَرْعِنا سمعك.
1726 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: (يا أيها
الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.
1727 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (راعنا)
، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أَرْعِني سمعك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين
أن يقولوا"راعنا". فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على
وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن
يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1728 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله
اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم.
1729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن
فضيل بن مرزوق، عن عطية: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كان أناس من
اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره
الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا
راعنا) ، كما قالت اليهود والنصارى.
(2/460)
1730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لا تقولوا
راعنا وقولوا انظرنا) ، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان
اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: (لا تقولوا
راعنا وقولوا انظرنا) .
1731 - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق،
عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال:
كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك!
وإنما"راعنا" كقولك، عاطنا.
1732 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)
قال:"راعنا" القول الذي قاله القوم، قالوا: (سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: 46]
قال:"قال: هذا الراعن" - والراعن: الخطاء - قال: فقال
للمؤمنين: لا تقولوا خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا
واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويكلمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها،
فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1733 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا
عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كانت
لغة في الأنصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية: (لا تقولوا
راعنا) ولكن قولوا انظرنا) إلى آخر الآية.
__________
(1) قوله"الراعن: الخطاء" لم أجده في غيره بعد. والذي في كتب
التفسير واللغة. وربما كانت"الخطأ". وقد قالوا: "راعنا: الهجر
من القول". وقالوا اشتقوه من الرعونة: وهي الحمق والجهل
والاسترخاء.
(2/461)
1734 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو
أحمد قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: (لا تقولوا
راعنا) ، قال: كانت لغة في الأنصار.
1735 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء
مثله.
1736 - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (لا تقولوا راعنا) ،
قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم
لصاحبه: أَرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك.
1737 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج:"راعنا"، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول
محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له:
رفاعة بن زيد. كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه
السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن
قيله للنبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1738 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ،
كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع -
كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر: هذا خطأ،
إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى
الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: (1) أَرْعِني سمعك،
واسمع غير مسمع = فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم
بهذا، فكان
__________
(1) في المطبوعة: "فقال"، والفاء لا مكان لها.
(2/462)
ناس منهم يقولون:"اسمع غير مسمع"، كقولك
اسمع غير صاغر = وهي التي في النساء (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة
النساء: 46] ، يقول: إنما يريد بقوله طعنا في الدين. ثم تقدم
إلى المؤمنين فقال:"لا تقولوا راعنا". (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين
أن يقولوا لنبيه:"راعنا" أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن
يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
1739 -"لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة". (2)
1740 - و"لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". (3)
وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد
في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما،
واختيار الأخرى عليها في المخاطبات.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه
وسلم في "العنب" أن يقال له"كرم"، وفي"العبد" أن يقال له"عبد"،
فما المعنى الذي في قوله: (راعنا) حينئذ، الذي من أجله كان
النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين
__________
(1) تقدم إليه: أمره.
(2) الحديث: 1739 - ذكره الطبري معلقا دون إسناد. وقد رواه
أحمد في المسند: 7509، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: "ولا تسموا
العنب الكرم". ورواه الشيخان وغيرهما، كما بينا هناك. ورواه
أيضًا قبل ذلك إشارة موجزا: 7256.
وروى مسلم 2: 197، من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه، مرفوعا:
"لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، يعني العنب".
(3) الحديث: 1740 - وهذا معلق أيضًا. وهو جزء من حديث طويل.
رواه البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: ". .
ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل: فتاى، فتاتي، غلامي". انظر
البخاري 5: 128 - 131 (فتح) ، ومسلم 2: 197.
(2/463)
عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله:
(انظرنا) ؟
قيل: الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل:"الكرم" للعنب،
و"العبد" للمملوك. وذلك أن قول القائل:"عبدي" لجميع عباد الله،
فكره للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى
العبودية - إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير
المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال:"فتاي". وكذلك وجه
نهيه في"العنب" أن يقال:"كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرَم، وإن
كانت مُسَكَّنَة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت
على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل
المؤمنين أن يقولوا:"راعنا"، لما كان قول القائل:"راعنا"
محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول
العرب بعضهم لبعض:"رعاك الله": بمعنى حفظك الله وكلأك -
ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم:"أرعيت سمعي
إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة"، بمعنى: فرغته
لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم أو ما
شاءه ابتدعا (1)
يعني بقوله"يرعى"، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.
وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه
وسلم وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع
أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض،
وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. (2)
__________
(1) ديوانه: 86، وسيأتي في هذا الجزء 2: 540 وقد سلف تخريج
أبيات من هذه القصيدة في 1: 106، 2: 94، وهي في هوذة بن علي
كما سلف. يقول قبله: يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم ... بحر
المواهب للوراد والشرعا
وابتدع: أحدث ما شاء.
(2) اقرأ قول الله تعالى في صدر"سورة الحجرات".
(2/464)
فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من
القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ
أحسنها، ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم: (راعنا) لما
فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون
إلا من اثنين، كما يقول القائل:"عاطنا، وحادثنا، وجالسنا"،
بمعنى: افعل بنا ونفعل بك - (1) ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك
وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك
كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه
بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه
الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم
باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له:
(اسمع غير مسمع وراعنا) .
يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: (ما يود الذين كفروا من أهل
الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) ، (2) فدل
بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين.
* * *
فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: (راعنا) أنه بمعنى:
خلافا، فمما لا يعقل في كلام العرب. لأن"راعيت" في كلام العرب
إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى"فاعلت" من "الرِّعْية"
وهي الرِّقبة والكَلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع،
بمعنى"أرعيته سمعي". وأما"راعيت" بمعنى"خالفت"، فلا وجه له
مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه
إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك
عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء
- معنى مفهوم حينئذ.
* * *
وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله:
(راعنا)
__________
(1) قوله: "ومعنى" معطوف على قوله آنفًا: "لما فيه من احتمال
معنى: ارعنا نرعاك. . ".
(2) وهي الآية التي تلي الآية التي يفسرها.
(2/465)
كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية،
فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في
صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون
معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة
صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير
اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك
وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في
كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى
الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى
المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا
تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة.
وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ
كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره.
* * *
وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (لا تقولوا راعنا)
بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا"راعنا"، من"الرعونة" وهي
الحمق والجهل. وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز
لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين
والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين.
ومن نون"راعنا" نونه بقوله: (لا تقولوا) ، لأنه حينئذ عامل
فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم
كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا) ، بمعنى
مسألته: إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما
قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم
إياه"راعنا". فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ
سقوط الياء التي كانت
(2/466)
تكون في"يراعيه" ويدل عليها - أعني
على"الياء" الساقطة - كسرة"العين" من"راعنا".
* * *
وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) ، بمعنى حكاية
أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا، وجه
أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم
بعضا، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره. ولا نعلم
ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقولوا انظرنا) ، وقولوا
يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا،
نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما:
1741 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين
لنا يا محمد.
1742 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا
محمد.
1743 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد مثله.
* * *
يقال منه:"نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه
قول الحطيئة:
(2/467)
وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ ... للخِمس،
طال بها حَوْزي وتَنْساسي (1)
ومنه قول الله عز وجل: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد: 13] ، يعني به: انتظرونا.
* * *
وقد قرئ"أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع"الألف" في الموضعين جميعا (2)
فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه: (قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة ص: 79] ،
أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض
الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب -
إذْ كان ذلك كذلك - (3) من القراءة قراءة من وصل الألف من
قوله: (انظرنا) ، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا.
* * *
وقد قيل: إن معنى (أنظرنا) بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن
بعض
__________
(1) ديوانه: 53، واللسان (نظر) (حوز) (نس) (عشا) . من قصيدة
يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس.
والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون) : وهو ما تتعشاه الإبل.
والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل،
وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في
الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقا رويدا.
والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقا شديدا
لورود الماء. ويروى"إيتاء صادرة". والإيتاء مصدر آنيت الشيء:
إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار
بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: 96 - 98) : انتظرت
خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت
تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف
طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. وقد شكاه
الزبرقان إلى عمر لهذه القصيدة، ولقوله فيها: دع المكارم لا
ترحل لبغيتها ... واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي
(2) زدت قول الله تعالى: "أنظرونا"، من أجل اختلاف" الحرفين.
(3) في المطبوعة: "إن كان ذلك. . "، ليست بشيء.
(2/468)
العرب سماعا:"أنظرني أكلمك"، وذكر سامع ذلك
من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن
يكن ذلك صحيحا عنهم"فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع"الألف" ووصلها -
متقاربا المعني. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي
لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ: (وقولوا انظرنا) ، بوصل"الألف"
بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من
القراآت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واسمعوا) ، واسمعوا ما
يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعُوه وافهموه، كما:-
1744 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (واسمعوا) ، اسمعوا ما يقال لكم.
* * *
فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم:
راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا:
انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا
منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن
لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله،
العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب
أليم. يعني بقوله:"الأليم"، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك
فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 283، ثم هذا الجزء 2: 140، 377.
(2/469)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (105)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ما يود) ، ما يحب، أي: ليس يحب
كثير من أهل الكتاب. يقال منه:"ود فلان كذا يوده ودا وودا
ومودة".
* * *
وأما"المشركين" (1) فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب".
ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين
أن ينزل عليكم من خير من ربكم.
* * *
وأما (أن) في قوله: (أن ينزل) فنصب بقوله: (يود) . وقد دللنا
على وجه دخول"من" في قوله: (من خير) وما أشبه ذلك من الكلام
الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا
الموضع. (2)
* * *
فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين
بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند
الله فنزله عليكم. (3) فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا
ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه
وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين
ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.
وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى
المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين،
والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة
لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل
الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف
ما هم مستبطنون.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأما المشركون"، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 126، 127، وكان ينبغي أن
يذكره في تفسير الآية: 102 أو يحيل كما أحال هنا.
(3) كان في المطبوعة: "الذي كان عند الله ينزله عليهم"، ولا
يستقيم الكلام إلا كما أثبتنا.
(2/470)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (105) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من
يشاء) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من
يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له.
و"اختصاصه" إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما
جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من
عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها
بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.
* * *
وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم) . فإنه خبر من الله جل
ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده
ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.
* * *
وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه،
(1) وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من
يشاء من خلقه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "تفضلا منه"، وهو خطأ، بل هذا خبر"أن".
(2/471)
مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية) : ما
ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. (1) وذلك أن يحول
الحلال حراما، والحرام
__________
(1) كان في المطبوعة: "ما نسخ من آية إلى غيره فنبد له"،
والزيادة من تفسير ابن كثير 1: 273.
(2/471)
حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا
يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع
والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
* * *
وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها.
فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته
عنه إلى غيرها. (1) فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا
نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم
بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، (2) إذ هي
حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم
الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ
الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي
قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول:
1745 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن
الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (ما ننسخ من
آية أو ننسها نأت بخير منها) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه
وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، (3) ومن القرآن ما قد
نسخ وأنتم تقرءونه.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما ننسخ)
فقال بعضهم بما:-
__________
(1) في المطبوعة: "عنه إلى غيره"، وفي تفسير ابن كثير: "ونقل
عبارة إلى غيرها". والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "أوفر حظها فترك، أو محي أثرها فعفي أو نسي"،
وهي جملة حشيت تصحيفا وخلطا. ومراد الطبري أن النسخ، وهو تغير
الحكم، قد يكون مع إقرار الخط كما هو، والإتيان بحكم آخر في
عبارة أخرى - أو رفع الخط، ونسيان الناس ما حفظوه عند التنزيل.
وقوله"عفي"، من قولهم: عفا الأثر يعفو: درس وذهب. وعفاه يعفيه
(بالتشديد) : طمسه وأذهبه.
هذا والجملة التالية: "إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"، وحديث
الحسن الآتي، يدل على صواب ما أثبته في قراءة نص الطبري.
(3) في المطبوعة: "قال أقرئ قرآنا"، سقط منه ما أثبته، وسيأتي
على الصواب في الأثر برقم: 1754، ومنه زدت هذه الزيادة.
(2/472)
1746 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا
عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما ننسخ من آية) ،
أما نسخها، فقبضها.
* * *
وقال آخرون بما:-
1747 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:
(ما ننسخ من آية) ، يقول: ما نبدل من آية.
* * *
وقال آخرون بما:
1748 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم
قالوا: (ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، [ونبدل حكمها] .
1749 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، ونبدل
حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.
1750 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: (ما ننسخ من
آية) نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا}
قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل
المدينة والكوفة: (أو ننسها) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من
التأويل.
__________
(1) الأثر: 1750 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1:
273 ثم 274.
(2/473)
أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد
من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله:
(ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها) ، فذلك
تأويل:"النسيان". وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1751 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها
أو مثلها) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله صلى
الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.
1752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ،
قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما
شاء، وينسخ ما شاء.
1753 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) ،
نرفعها من عندكم.
1754 - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال،
حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) ، قال: إن
نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه. (1)
* * *
وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها:
(أو تَنسها) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه
عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك:
1755 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
يعلى
__________
(1) الأثر: 1754 - انظر الأثر السالف: 1745 والتعليق عليه.
(2/474)
بن عطاء، عن القاسم [بن ربيعة] قال، سمعت
سعد بن أبي وقاص يقول: (ما ننسخ من آية أو تنسها) ، قلت له:
فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: (أو تُنْسها) ، (1) قال: فقال سعد:
إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله:
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذَا نَسِيتَ) (2) [سورة الكهف: 24] .
1756 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن
ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. (3)
1757 - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن
شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول:
قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: (ما ننسخ من
آية أو تُنسها) فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب
ولا على ابنه! إنما هي: (ما ننسخ من آية أو تنسها) يا محمد. ثم
قرأ: (سنقرئك فلا تنسى) و (واذكر ربك إذا نسيت) . (4)
1758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن
__________
(1) في المطبوعة: "أو ننسها". والصواب ما أثبت، وفي ابن كثير
1: 275"أو ننساها، ولكن أبا حيان نص في البحر المحيط 1: 334
على أن قراءة سعيد"أو تنساها" بغير همزة بضم التاء، وأما ابن
خالوية فقد نص في شواذ القراآت: 9 قال: "أو تنسها" كذلك، إلا
أنه لم يسم فاعله. سعيد بن المسيب". فأثبت هذا، لأنها هي رسم
ما في نص الطبري. وانظر الآثار الآتية: 1756، 1757، والمستدرك
للحاكم 2: 242.
(2) الأثر: 1755 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1:
275. والقاسم بن ربيعة، هو القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن
قانف الثقفي، وربما نسب إلى جده. وهو ابن ابن أخي ليلى بنت
قانف الصحابية. روى عن سعد بن أبي وقاص في قوله: "ما ننسخ من
آية"، وعنه يعلى بن عطاء العامري. ذكره ابن حبان في الثقات.
قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: ما حدث عنه سوى يعلى (تهذيب
التهذيب 8: 320) . وانظر رقم: 1756، 1757.
(3) الأثر: 1756 - في المطبوعة: "بن قانف" وهو"قانف" بقاف ثم
نون ثم فاء. هكذا نص عليه في الإصابة في ترجمة: "ليلى بنت
قانف".
(4) الأثر 1757 - انظر الأثرين السالفين. وقال الحاكم في
المستدرك 2: 242: "هذا حديث صحيح عى شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
(2/475)
أبيه، عن الربيع في قوله: (ما ننسخ من آية
أو نُنسها) ، يقول:"ننسها": نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى
أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها.
* * *
والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى"الترك"، من قول الله جل
ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67] ، يعني به:
تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل:
ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي
نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1759 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (أو نَنسها)
، يقول: أو نتركها لا نبدلها. (1)
1760 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله: (أو ننسها) ، نتركها لا ننسخها.
1761 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن
الضحاك في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ، قال: الناسخ
والمنسوخ.
* * *
قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:-
1762 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: (نُنسها) ، نمحها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتح النون وهمزة بعد السين،
بمعنى نؤخرها، من قولك:"نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء"،
إذا أخرته، وهو من قولهم:"بعته
__________
(1) الأثر: 1759 - في تفسير ابن كثير: "أو ننساها". والصواب ما
في الطبري، بفتح النون.
(2/476)
بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن
العبد:
لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى ... لكالطِّوَل المُرْخى
وثِنْياه باليد (1)
يعني بقوله"أنسأ"، أخر.
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء
الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1763 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال،
أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (ما ننسخ من آية أو
نَنْسأها) ، قال: نؤخرها.
1764 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: (أو ننسأها) ،
قال: نُرْجئها.
1765 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو ننسأها) ، نرجئها ونؤخرها.
1766 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية: (أو ننسأها) ، قال: نؤخرها
فلا ننسخها.
1767 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن
عبيد بن عمير (أو ننسأها) ، إرجاؤها وتأخيرها.
هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير،"عن عبيد الأزدي"،
وإنما هو عن"علي الأزدي".
1768 - حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال،
حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الأزدي،
عن عبيد
__________
(1) ديوانه: 318 (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته
المشهورة. وروايتهم: "ما أخطأ الفتى". والطول: حبل يطول للدابة
لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه" طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال
المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى!
(2/477)
بن عمير أنه قرأها: (ننسأها) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية
أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها
فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو
مثلها.
* * *
وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) . وتأويل هذه
القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: (أو نُنسها) ، إلا أن معنى
(أو تُنسها) ، أنت يا محمد.
* * *
وقد قرأ بعضهم: (ما نُنسخ من آية) ، بضم النون وكسر السين،
بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من"أنسختك فأنا أنسخك".
وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من
الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسها) أو
(تَنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من
قراء الأمة.
وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب، من قرأ: (أو
نُنْسها) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله
عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره،
فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان
ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر
__________
(1) الخبران: 1767، 1768 - أبان الطبري في الإسناد الأول أن
شيخه القاسم قال في الإسناد:"عبد الله بن كثير، عن عبيد
الأزدي"، وبين أن صوابه"عن علي الأزدي". ثم ساق الإسناد الثاني
على الصواب. وهو كما قال عبد الله بن كثير الداري المكي: هو
القارئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 2/2 /144.
علي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، وهو تابعي
ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1/193.عبيد بن عمير -
بالتصغير فيهما -: هو الليثي الجندعي المكي، ثقة من كبار
التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، وأثنى عليه الناس خيرا في
مجلس ابن عمر، في المسند: 5359. مترجم في التهذيب، والإصابة 5:
79، وابن سعد 5: 341 - 342،وابن أبي حاتم 2/2/409.
(2/478)
عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن
يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير.
فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) . قوله:
أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع
أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على
معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك، (1) ومعنى "النَّساء" الذي
هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.
* * *
وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أو نَنْسها) ، إذا عني به
النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه
وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه
شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن
الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه.
قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: (وَلَئِنْ شِئْنَا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [الإسراء: 86]
، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من
العلم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار
المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي
قلنا.
1769 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من
الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:"بلغوا
عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". ثم إن ذلك رفع.
(2)
__________
(1) قد رد أهل اللغة أن يكون الإنساء بمعنى الترك، وقالوا:
إنما يقال نسيت: إذا تركت، لا يقال: أنسيت، تركت. وانظر ما جاء
في ذلك في اللسان (نسي) ، وسائر كتب التفسير.
(2) الحديث: 1769 - يزيد بن زريع - بضم الزاي - العيشي: ثقة
حافظ حجة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار. مترجم في
التهذيب، والكبير 4/2/335، وابن سعد 7 / 2 / 44 وابن أبي حاتم
4/2/263 - 265. وسعيد: هو ابن أبي عروبة.
وهذا الحديث مختصر من حديث لأنس، في قصة القراء الذين قتلوا في
بئر معونة. ورواه الأئمة عن أنس، من أوجه مختلفة.
فمن ذلك: أنه رواه البخاري 7: 297 (فتح الباري) ، عن عبد
الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، بهذا الإسناد. وفي آخره:
"قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا،
أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا".
وروى مسلم 1: 187 - 188، من رواية مالك، عن إسحاق بن عبد الله
بن أبي طلحة، عن أنس. وانظر تفصيل ذلك في تاريخ ابن كثير4: 71
- 74.
(2/479)
1770 - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري
أنهم كانوا يقرءون:"لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما
ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من
تاب". ثم رفع. (1)
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.
وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله
نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان
ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول:
ذلك غير جائز.
وأما قوله: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) ، فإنه جل
ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء
لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة
بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد
قال الله تعالى ذكره: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا
شَاءَ اللَّهُ) [الأعلى: 6-7] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما
شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله.
فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام
على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان
أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 1770 - ذكره الطبري تعليقا. وهو جزء من حديث طويل،
رواه مسلم 1: 286، من حديث أبي موسى الأشعري. وذكره السيوطي في
الدر المنثور1: 105، ونسبه أيضًا لابن مردويه، وأبي نعيم في
الحلية، والبيهقي في الدلائل.
وقد أفاض السيوطي في الإتقان 2: 29 - 32 (طبعة المطبعة
الموسوية بمصر سنة 1287) - في هذا البحث، ونقل روايات كثيرة
فيه.
(2) في المطبوعة: "قد كان آتى نبيه بعض ما ننسخ"، والصواب ما
أثبت.
(2/480)
القول في تأويل قوله تعالى: {نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (نأت بخير
منها أو مثلها) . فقال بعضهم بما:-
1771 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (نأت بخير
منها أو مثلها) ، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
* * *
وقال آخرون بما:
1772 - حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ،
يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، (1) فيها أمر، فيها نهي.
* * *
وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي
تركناها فلم ننسخها.
* ذكر من قال ذلك:
1773 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (نأت بخير منها) ، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو
مثلها، أو مثل التي تركناها.
* * *
"فالهاء والألف" اللتان في قوله: (منها) - عائدتان على هذه
المقالة - على الآية في قوله: (ما ننسخ من آية) . و"الهاء
والألف" اللتان في قوله: (أو مثلها) ، عائدتان على"الهاء
والألف" اللتين في قوله: (أو ننسها) .
* * *
وقال آخرون بما:-
1774 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن
__________
(1) في تفسير ابن كثير: 1: 275"فيها رخصة" مكان: "فيها رحمة".
(2/481)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن
عمير يقول: (ننسها) : نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير
منها. (1)
1775 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (أو نُنسها) ، نرفعها، نأت بخير
منها أو بمثلها. (2)
1776 - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن
شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله.
* * *
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية
فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم - من
حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته
عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك
كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع
عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله
عنهم = وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه
على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة،
فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم
شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير
أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر،
لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على
الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره،
الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: (نأت
بخير منها) . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه،
أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.
أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب
عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس،
إلى فرضها شطر المسجد الحرام.
__________
(1) الأثر: 1774 - مضى شطره برقم: 1753.
(2) الأثر: 1775 - مضى شطره برقم: 1758.
(2/482)
فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه
شطر المسجد، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن
الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره، نظير
الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو
معنى"المثل" الذي قال جل ثناؤه: (أو مثلها) .
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) : ما
ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان
مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر"الآية" من ذكر"حكمها".
وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا،
كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: 93]
، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك. (1)
* * *
فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا
نبدله، نأت بخير لكم -أيها المؤمنون- حكما منها، أو مثل حكمها
في الخفة والثقل والأجر والثواب.
* * *
فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه
لا يلتبس على من سمع قوله: (وأشربوا في قلوبهم العجلَ) ، أن
معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) - لذلك نظير؟
قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: (نأت بخير منها أو مثلها)
، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام
الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل
من بعض، وبعضها خير من بعض. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف من هذا الجزء 2: 357 - 360.
(2) من شاء أن يرى كيف كان أبو جعفر رضي الله عنه يبصر معنى كل
حرف، متحريا للحق والصواب حريصا على دلالة كل كلمة، فليقرأ
أمثال هذا القول فيما مضى وفيما يستقبل.
(2/483)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ألم تعلم أن الله على كل
شيء قدير) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من
أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما
هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في
الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله
في النفع لهم = عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة = وشبيهه في
الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء
قدير.
* * *
ومعنى قوله: (قدير) في هذا الموضع: قوي. يقال منه:"قد قدرت على
كذا وكذا"، إذا قويت عليه"أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا
ومقدرة"، وبنو مرة من غطفان تقول:"قدِرت عليه" بكسر الدال. (1)
فأما من"التقدير" من قول القائل:"قدرت الشيء"، فإنه يقال
منه"قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) }
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات
والأرض، حتى قيل له ذلك؟
__________
(1) انظر ما سلف 1: 361.
(2/484)
قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من
الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج
الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا،
فيقول أحدهما لصاحبه:"ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ " بمعنى
إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس
قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه:
(ألم تعلم) ، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف
استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى
الاستثبات، وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير
معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن
ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم،
فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: (لا تقولوا
راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) . والذي يدل على أن ذلك كذلك
قوله جل ثناؤه: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) ، فعاد
بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات
والأرض) . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك
من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على
وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب
لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم -
وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله
جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
[الأحزاب: 1-2] ، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام
بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد
في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(2/485)
إلى السراج المنير أحمد، لا ... يَعْدِلني
رغبة ولا رهب (1) عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إليّ
العيونُ وارتقبوا (2) وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو ... عنفني
القائلون أو ثَلَبُوا (3) لج بتفضيلك اللسان، ولو ... أكثر فيك
الضِّجاج واللجَب (4) أنت المصفي المحض المهذب في الن ... سبة،
إن نص قومَك النسب (5)
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو
قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى
الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم
أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم
وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. (6)
__________
(1) الهاشميات: 34، والحيوان للجاحظ 5: 170 - 171.
(2) "عنه إلى غيره" متعلق بقوله: لا يعدلني. . "، في البيت
قبله.
(3) أفرطت: أي جاوزت الحد. و"قصدت" من القصد: وهو العدل بين
الإفراط والتقصير. والثلب: العيب والذم.
(4) قوله"فيك" أي بسببك ومن أجلك. والضجاج مصدر: ضاجه يضاجه
(بتشديد الجيم) مضاجة وضجاجا: وهو المشاغبة مع الصياح والضجيج.
واللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة.
(5) هذب الشيء: نقاء وخلصه وطهره من كل ما يعيبه. وقوله"المهذب
في النسبة"، أي المهذب النسبة، وأدخل"في" للتوكيد، بمعنى
الزيادة. ونص الشيء: رفعه وأظهره وأبانه. يعني أبان فضلهم على
غيرهم.
(6) من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء
والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين
قول الجاحظ في استطالته بذكائه حيث يقول في كتابه الحيوان 5:
169 - 171.
ومن المديح الخطأ، الذي لم أر قط أعجب منه قول الكميت بن زيد،
وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فلو كان مديحه لبني أمية
لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم،
لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال الخارجي
لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه
المخالف، أو لو مدح المهلب، لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف، فأما
مديح النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هذا الذي يسوؤه ذلك؟ " ثم
أنشد الأبيات السالفة، وقال:"ولو كان لم يقل فيه عليه السلام
إلا مثل قوله: وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به وله أهل بذلك
يثرب
لقد غيبوا برا وحزما ونائلا ... عشية واراك الصفيح المنصب
فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح
في عامة العرب، لما كان بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟
".
والجاحظ تأخذ قلمه أحيانا مثل الحكة، لا تهدأ من ثوراتها عليه
حتى يشتفى منها ببعض القول، وببعض الاستطالة، وبفرط العقل! ومع
ذلك، فإن النقاد يتبعون الجاحظ ثقة بفضله وعقله، فربما هجروا
من القول ما هو أولى، فتنة بما يقول.
(2/486)
وكما قال جميل بن معمر:
ألا إن جيراني العشية رائح ... دعتهم دواع من هوى ومنادح (1)
فقال:"ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم
قال:"رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه -
الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته
الأخرى:
خليلي فيما عشتما، هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
(2)
وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها،
وهو يعنيها. فكذلك قوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير *
ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) ، وإن كان ظاهر
الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصود
به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: (وما لكم من دون الله من
ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى
__________
(1) لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه.
والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت
ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها
... ركبت، ولم تعجز على المنادح
وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه،
والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض.
(2) الأمالي 2: 74، والأغاني 1: 117، 7: 140، وهي قصيدة من جيد
شعر جميل.
(2/487)
من قبل) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك
كذلك. (1)
* * *
أما قوله: (له ملك السموات والأرض) ولم يقل: ملك السموات، فإنه
عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "المِلك". والعرب إذا
أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان، قالت: "ملك
الله الخلق مُلكا". وإذا أرادت الخبر عن "المِلك" قالت: "ملك
فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا.
* * *
فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض
وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر
فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل
وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء،
وأقر منها ما أشاء؟
* * *
وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب
لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى،
وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا به من
عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن
له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته
وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم
بما شاء ونهيَهم عما شاء، ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء، وإنساء
ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه
وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما
أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا
يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا
قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم،
والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من
ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم،
__________
(1) انظر ما سيأتي بعد قليل: 499 - 500.
(2/488)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
وأجعلها عليهم لكم.
* * *
و"الولي" معناه"فعيل" من قول القائل:"وَلِيت أمر فلان"، إذا
صرت قيِّما به،"فأنا أليه، فهو وليه" وقَيِّمُه. ومن ذلك
قيل:"فلان ولي عهد المسلمين"، يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه
من أمر المسلمين.
* * *
وأما"النصير" فإنه"فعيل" من قولك:"نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك
ونصيرك"، وهو المؤيد والمقوي.
* * *
وأما معنى قوله: (من دون الله) ، فإنه سوى الله، وبعد الله،
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يا نفس مالك دون الله من واقي ... وما على حدثان الدهر من باقي
(1)
يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره.
* * *
فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم
بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا
رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت
هذه الآية. فقال بعضهم بما:
1777 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا
__________
(1) ديوانه: 43. ومثله قول ابن أحمر: إن نحن إلا أناس أهل
سائمة ... وما لهم دونها حرث ولا غُرر
يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل.
(2/489)
ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- (1)
قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن
ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع
بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا
بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك
ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: (2) (أم تريدون أن
تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، الآية. (3)
* * *
وقال آخرون بما:-
1778 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
، وكان موسى يسأل، فقيل له: (أرنا الله جهرة) .
1889 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ،
أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.
* * *
وقال آخرون بما:-
1780 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: (أم تريدون أن
تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة.
فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا
ذهبا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم"! فأبوا
ورجعوا.
1781 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "قال حدثنا إسحاق" والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "من قولهم"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن
هشام.
(3) الأثر 1777 - في سيرة ابن هشام 2: 197.
(2/490)
ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا
أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال:"نعم! وهو لكم كالمائدة لبني
إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: (أم تريدون أن
تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة.
1782 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون بما:-
1783 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال رجل: يا
رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي
صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما
أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة
وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في
الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم
الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110] . قال:
وقال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن".
وقال:"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له
عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك".
فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 1783 - هذا حديث مرسل، من مراسيل أبي العالية. وقد
نقله ابن كثير 1: 279، عن الطبري. ونقله السيوطي 1: 107، ونسبه
للطبري وابن أبي حاتم.
وأبو العالية الرياحي: ثقة من كبار التابعين، كما قلنا في:
184. ونزيد هنا أنه مترجم في التهذيب والكبير 2/1/298،
والصغير: 109، وابن سعد 7 /1 /81 - 85، وابن أبي حاتم 1/510
والإصابة 2: 221. ولكن الاحتجاج بحديثه - كغيره من التابعين
فمن بعدهم - هو في الإسناد المتصل، أما المرسل والمنقطع، فلا
حجة فيهما.
(2/491)
واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في
قوله: (أم تريدون) . فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام.
وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
* * *
وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام،
كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء"
و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ " قال: وليس قوله: (أم
تريدون) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله
ذلك ببيت الأخطل:
كذبَتْك عينُك أم رأيت بواسط ... غَلَس الظلام من الرَّباب
خيالا (1)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: (أم تريدون)
استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ
الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: 1-3] ، فجاءت"أم" وليس قبلها
استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام
سبقه. وقال قائل هذه المقالة:"أم" في المعنى تكون ردا على
الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى"أي"، (2)
والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، والذي ينوي بها
الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. (3) فلو ابتدأت كلاما
ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ "الألف" أو بـ "هل".
(4)
__________
(1) ديوانه: 41، ونقائض جرير والخطل: 70. وواسط: قرية غربي
الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة، وهي من منازل بني تغلب،
وهي غير واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة. الغلس:
ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بتباشير الصباح، فهي سواد مختلط
ببياض وحمرة.
(2) في المطبوعة: "تعرف معنى أي"، وفي لسان العرب (أمم 14:
300) : "أن تفارق معنى أم" وكلتاهما خطأ صرف. والصواب في معاني
القرآن للفراء1: 71. وذلك أن قولك: أزيد عندك أم عمرو"، معناه
أيهما عندك. وبين أن"أم" تفرق الاستفهام، وأن"أي" تجمع متفرق
الاستفهام. وقد قال الطبري فيما سلف في هذا الجزء 2: 198: "إن
أصل"أي" و"ما" جمع متفرق الاستفهام".
(3) في المطبوعة: "وتكون على جهة النسق، وللذي ينوى به
الابتداء"، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(4) هذا نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 71.
(2/492)
قال: وإن شئت قلت في قوله: (أم تريدون) ،
قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله: (ألم تعلم أن الله على كل
شيء قدير) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به
الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ،
بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن
يستفهم القوم بـ "أم"، وإن كانت"أم" أحد شروطها أن تكون نسقا
في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما
مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام
بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ
الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: 1-3] وقد تكون"أم" بمعنى"بل"،
إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه"أي"، فيقولون:"هل لك قِبَلَنا
حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ " (2) وقال الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت ... أم النوم أم كل إلي حبيب (3)
يعني: بل كل إلي حبيب.
وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن"أم" في قوله: (أم
تريدون)
__________
(1) وهذا أيضًا بعض نص الفراء في معاني القرآن.
(2) هذا أيضًا ذكره الفراء. ثم قال بعده: "يريدون: بل أنت رجل
معروف بالظلم".
(3) لم أعرف قائله. وسيأتى في تفسيره 20: 6 (بولاق) على
الصواب، وفي معاني القرآن للفراء 1: 72، واللسان (أمم) ،
والصاحبي: 98. وفي المطبوعة هنا: "تقولت. . أم القول، وهو خطأ
محض. وقوله: "تغولت"، أي تصورت في صورة امرأة أحسها وأراها. من
تغول الغول: وهي أن تتلون وتتخيل في صور شتى. يعنى أنها بعيدة
لا شك في بعدها، ولكنه يخال أنه يراها أمامه ماثلة قائمة. وقال
الأخطل: وتعرضت لك بالأباطح بعد ما ... قطعت بأبرق خلة ووصالا
وتغولت لتروعنا جنية ... والغانيات يرينك الأهوالا
ثم يقول: "أم النوم" أي: أم هو حلم. بل كلاهما حبيب إلى، يعني
أي ذلك كان، فهو حبيب إلى.
(2/493)
استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها
إلى أوله -: إن الأول خبر، والثاني استفهام، والاستفهام لا
يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك
- بزعمه - بعد مضي الخبر، فاستفهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإذا كان معنى"أم" ما وصفنا، فتأويل الكلام:
أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل
قوم موسى من قبلكم، فتكفروا -إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا
يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في
حكمته عطاؤكموه، (1) فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك
من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها
مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد
إعطاء الله إياها سؤلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإِيمَانِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يتبدل) ، ومن يستبدل
"الكفر"، (2) ويعني بـ "الكفر"، الجحود بالله وبآياته، (3)
(بالإيمان) ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به. (4)
وقد قيل: عنى بـ "الكفر" في هذا الموضع: الشدة، وبـ "الإيمان"
الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني"الكفر"، ولا الرخاء في
معنى"الإيمان"، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله"الكفر"
بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله"الإيمان" في معنى الرخاء
-: ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله
لأهل
__________
(1) في المطبوعة: "أو أتهلكوا" خطأ.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 130.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 1: 255، 382، 552 وغيرها بعدها.
(4) انظر ما سلف 1: 234 - 235، 271، 560 وغيرها بعدها.
(2/494)
الإيمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجها،
وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب.
* ذكر من قال ذلك:
1784 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) ،
يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.
1785 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله.
* * *
وفي قوله: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) ،
دليل واضح على ما قلنا: (1) من أن هذه الآيات من قوله: (يا
أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، خطاب من الله جل ثناؤه
المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) وعتاب
منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك،
وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم
المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من
ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
(108) }
قال أبو جعفر: أما قوله: (فقد ضل) ، فإنه يعني به ذهب وحاد.
وأصل"الضلال عن الشيء"، الذهاب عند والحيد، (3) ثم يستعمل في
الشيء الهالك،
__________
(1) انظر ما سلف قريبا: 462 - 466، 484 - 488، وانظر ما سيأتي
قريبا: 498، 499
(2) في المطبوعة: "المؤمنين به أصحاب رسول الله. . "،
وزيادة"به" خطأ.
(3) انظر ما سلف 1: 195.
(2/495)
والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل
الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: "ضُل بن ضُل"، و "قُل بن
قُل"، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:
كنتَ القَذَى في موجِ أكدر مُزْبدٍ ... قذف الأتِيُّ به فضل
ضلالا (1)
يعني: هلك فذهب.
* * *
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: (فقد ضل سواء السبيل) ، فقد
ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.
* * *
وأما تأويل قوله: (سواء السبيل) ، فإنه يعني بـ "السواء"،
القصد والمنهج.
وأصل"السواء" الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال:"ما
زلت أكتب حتى انقطع سوائي"، يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:
يا ويح أنصار النبي ونسله ... بعد المغيب في سواء الملحد (2)
__________
(1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 83 وسيأتي في تفسير
الطبري 3: 219 / 21: 61 (بولاق) . وقوله: "كنت"، يعني جريرا،
وهو جواب"إذا"، فقبل البيت: وإذا سما للمجد فرعا وائل ...
واستجمع الوادي عليك فسالا
" فرعا وائل" يعني بكرا وتغلب رهط الأخطل. والقذي" ما يكون فوق
الماء من تبن وورق وأعواد. وفي المطبوعة هنا: "أكبر"
مكان"أكدر"، وهو تصحيف، وأتى على صوابه في الموضعين الآخرين من
التفسير. وقوله"أكدر" يعني بحرا متلاطما، فكدر بعد صفاء.
ومزبد: بحر هائج مائج يقذف بالزبد. والأتي: السيل الذي يأتي من
مكان بعيد. وقوله: "قذف الآتي به"، صفة للقذى. يقول: كنت عندئذ
كالقذى رمى به السيل في بحر مزبد لا يهدأ موجه، فهلك هلاكا.
ورواية الديوان: "في لج أكدر".
(2) ديوانه: 98، وسيأتي في تفسير الطبري 10: 20 (بولاق) ،
وهكذا جاءت الرواية هنا"نسله"، وأظنها خطأ من ناسخ أو خطأ في
رواية. ورواية الديوان وما سيأتي في الطبري، وغيرهما"ورهطه".
وهو من رثاء حسان رسول الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وعنى بقوله: "ورهطه" المهاجرين رضي الله عنهم. والمغيب مصدر
غيبه في الأرض: واراه. و"الملحد" بضم الميم وفتح الحاء بينهما
لام ساكنة: هو اللحد، والقبر.
(2/496)
يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول:"هو في
سواء السبيل"، يعني في مستوى السبيل،"وسواء الأرض": مستواها،
عندهم.
وأما"السبيل"، فإنها الطريق المسبول، صرف من"مسبول" إلى"سبيل".
(1)
* * *
فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر،
فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول.
(2)
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن
الطريق، والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي
ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلا
يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق -
الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا
وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا
لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم، (3) كالذي يدرك
اللازم محجة السبيل = بلزومه إياها = طلبته من النجاة منها،
والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه،
الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - (4) في إخطائه ما
رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، (5) وذهابه
عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه، مثلَ الحائد عن منهج
الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه،
(6) إلا ازداد من موضع حاجته بعدا،
__________
(1) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى
الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم
يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون
ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم
يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل
سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى
بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.
(2) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى
الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم
يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون
ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم
يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل
سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى
بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.
(3) في المطبوعة: "لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم. .
" وقوله: "إدراكهم" زائدة من ناسخ.
(4) في المطبوعة: "والحائد عن اتباع ما دعاه. . "، وأظن الصواب
ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "في حياته ما رجا أن يدركه. . "، وهي مصحفة
ولا شك، وأثبت ما أداني إليه اجتهادي في قراءته. لأنهم يقول
أخطأ الطريق، وأخطأ ما ابتغى، إلى أشباه ذلك.
(6) الوغول، مصدر"وغل يغل وغولا"، إذا ذهب فأبعد المذهب.
(2/497)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا.
وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان
فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم"، الذي أمرنا بمسألته
الهداية له بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت
عليهم) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا}
قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن
خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا
تقولوا راعنا) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى
الله عليه وسلم، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، (1)
وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك
وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا
استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى
الله عليه وسلم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، (2) تأسيا
باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال
ذلك: (3) لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له
اليهود:"راعنا"، تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا:"انظرنا واسمعوا"،
فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي
الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم;
فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم
__________
(1) في المطبوعة: "للمؤمنين وأصحابه"، وكأنه الصواب ما أثبت.
(2) سياق العبارة: أو من استعمل. . الجفاء، واستعمل ما لم يكن
له استعماله معه، تأسيا باليهود.
(3) في المطبوعة: "قال لهم ربهم"، والصواب زيادة الفاء.
(2/498)
من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم
يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم
محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر
محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.
* * *
وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب)
، كعب بن الأشرف.
1786 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب) ، هو
كعب بن الأشرف.
1787 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان
العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة: (ود كثير من أهل الكتاب) ،
قال: كعب بن الأشرف. (1)
وقال بعضهم بما:-
1788 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق -
وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن
أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله
برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن
الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل
الكتاب لو يردونكم) الآية. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: (ود كثير من أهل
الكتاب)
__________
(1) الأثر: 1787 - في المطبوعة: "أبو سفيان المعمري". وهو محمد
بن حميد اليشكري المعمري البصري نزيل بغداد، قيل له المعمري"
لأنه رحل إلى معمر بن راشد الأزدي. وهو ثقة صدوق، وذكره ابن
حبان في الثقات. وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: "في حديثه
نظر" مات سنة 182 (تهذيب التهذيب 9: 132) .
(2) الأثر: 1788 - في سيرة ابن هشام 2: 197.
(2/499)
كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن
الأشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو
يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له"كثير"،
بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة
التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز
ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال:"فلان في الناس
كثير"، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد
أخطأ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: (لو
يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا) ، فذلك دليل على أنه عنى
الكثرة في العدد = أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج
الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا
آنفا في بيت جميل، (1) فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا
كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه،
ولا دلالة تدل في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب) أن المراد به
واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة
دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ}
قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: (حسدا من عند أنفسهم) ،
أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه
عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا
منهم وبغيا عليهم.
* * *
و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر
الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر،
كقول القائل لغيره:"تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك"،
فيكون"الحسد" مصدرا
__________
(1) انظر ما سلف قريبا: 487 قوله: "ألا إن جيراني العشية
رائح".
(2/500)
من معنى قوله:"تمنيت من السوء". لأن في
قوله تمنيت لك ذلك، معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب"الحسد"،
لأن في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد
إيمانكم كفارا) ، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله
من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم
به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما، ولم
يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: (حسدا) ، مصدرا من
ذلك المعنى.
* * *
وأما قوله: (من عند أنفسهم) ، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم،
كما يقول القائل:"لي عندك كذا وكذا"، بمعنى: لي قبلك، وكما:
1789 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع بن أنس، قوله: (من عند أنفسهم) ، قال: من قبل أنفسهم.
(1)
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك
للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك
في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي
الله إياهم عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (من بعد ما تبين لهم الحق)
، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب -الذين يودون
أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى
الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها
فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-
__________
(1) الأثر: 1789 - كان هذا الإسناد مبتورا، فأتممه استظهارا من
الإسناد الدائر في التفسير في مئات المواضع السالفة، أقربها
رقم: 1647 وسيأتي أيضًا رقم: 1792، وكان الأثر نفسه مبتورا
فأتممته من تفسير ابن كثير 1: 280، والدر المنثور 1: 107.
(2/501)
1790 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (من بعد ما تبين لهم الحق)
، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والإسلام دين الله.
1791 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: (من بعد ما تبين
لهم الحق) ، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل.
1792 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذْ كان من
غيرهم.
1793 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، قال: الحق هو محمد صلى
الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.
1794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (من
بعد ما تبين لهم الحق) ، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.
* * *
قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه
الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على
الله مفترون، كما:-
1795 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا
بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (من بعد ما
تبين لهم الحق) ، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم
الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم
الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.
* * *
(2/502)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فاعفوا) فتجاوزوا عما كان
منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة
صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من
قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ،
[النساء: 46] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي
الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما
يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله
عليه وسلم، وللمؤمنين به: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) . [التوبة: 29] .
فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على
المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا
الجزية عن يد صغارا، كما:-
1796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فاعفوا واصفحوا
حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) ، ونسخ ذلك
قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ،
[التوبة: 5]
1797- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، فأتى الله
بأمره فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)
، حتى بلغ (وهم صاغرون) ، أي: صغارا
(2/503)
ونقمة لهم. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها:
(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) .
1798- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله
بأمره) ، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث
الله بعد فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر) ، إلى: (وهم صاغرون) .
1799- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)
قال: نسختها: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
1800- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، قال: هذا منسوخ، نسخه
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى قوله:
(وهم صاغرون) .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (109) }
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"القدير"، وأنه
القوي. (1)
فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم
أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم
ربهم، (2) وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا
يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له
الخلق والأمر.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف قريبا: 484 وفي 1: 361.
(2) في المطبوعة: "إن شاء الله الانتقام منهم" والسياق يقتضي
ما أثبت.
(2/504)
وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ
مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"إقامة الصلاة"،
وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل"الصلاة" وما أصلها،
وعلى معنى"إيتاء الزكاة"، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت
ووجبت، وعلى معنى"الزكاة" واختلاف المختلفين فيها، والشواهد
الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ، فإنه
يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم،
فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند
ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به.
* * *
و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: (تجدوه) ،
والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-
1801- حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله: (تجدوه) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.
قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد
منه، كما قال عمر بن لجأ: (2)
وسبحت المدينة لا تلمها ... رأت قمرا بسوقهم نهارا (3)
وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 241 - 242، ثم 1: 573 - 574.
(2) في المطبوعة: "عمرو بن لجأ"، وهو خطأ.
(3) سلف هذا البيت وتخريجه في 1: 279.
(2/505)
وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما
أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات
لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم
اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم
في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (راعنا) ، إذْ
كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس
والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز
برضوان الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (110) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه
الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية،
فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا،
وبالإساءة مثلها. (1)
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا،
وأمرا وزجرا. وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم،
ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم
عليه، كما قال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ،
وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه
فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه،
وما وعد عليه فمأمور به.
* * *
وأما قوله: (بصير) ، فإنه"مبصر" صرف إلى"بصير"، كما صرف"مبدع"
إلى"بديع"، و"مؤلم" إلى"أليم". (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "جزاءه" والصواب من تفسير ابن كثير 1: 281.
(2) انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2: 140، 377.
(2/506)
وَقَالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقالوا) ، وقالت اليهود
والنصارى: (لن يدخل الجنة) .
* * *
فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع
اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها
في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. وإنما عنى به: وقالت
اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن
يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند
المخاطبين به معناه، جُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل:
(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) الآية - أي
قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى:
لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.
* * *
وأما قوله: (من كان هودا) ، فإن في"الهود" قولين: أحدهما أن
يكون جمع"هائد"، كما جاء "عُوط" جمع "عائط"، و "عُوذ" جمع
"عائذ"، و "حُول" جمع"حائل"، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ
واحد. و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق. (1)
والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال:"رجل صَوم وقوم
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143.
(2/507)
صوم"، و "رجل فِطر وقوم فطر، ونسوة فطر".
(1)
وقد قيل: إن قوله: (إلا من كان هودا) ، إنما هو قوله، إلا من
كان يهودا، ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من
اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي:"إلا من كان يهوديا أو
نصرانيا". (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"النصارى"، ولم سميت بذلك، وجمعت كذلك،
بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وأما قوله: (تلك أمانيهم) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن
قول الذين قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ،
أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان،
ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني
النفوس الكاذبة، كما:-
1802- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (تلك أمانيهم) ، أماني يتمنونها على الله
كاذبة.
1803- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: (تلك أمانيهم) ، قال: أماني تمنوا على
الله بغير الحق.
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون أبو جعفر قد زل زلة العجلان. فإنه ذكر آنفًا
(2: 143) مصدر الفعل: "هاد" وهو"هودا" بفتح فسكون، وعلى ذلك
إجماع أهل اللغة، ولم يأت منه مصدر مضموم الهاء، حتى يشبه
بقولهم"صوم"، و"فطر"، فهما مصدران. ولا يستقيم كلام أبي جعفر
حتى يكون مصدر"هاد يهود هودا" بضم الهاء، ولم يقله هو ولا قاله
غيره. فسقط هذا الوجه، حتى تقيمه حجة من رواية صادقة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 73.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143 - 145.
(2/508)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) }
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه
وسلم بدعاء الذين قالوا: (لن يدخل الجنة
(2/509)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل
بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على
دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو
نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قل
للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون
غيرهم من سائر البشر: (هاتوا برهانكم) ، على ما تزعمون من ذلك،
فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها
إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.
* * *
والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-
1804- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (هاتوا برهانكم) ، هاتوا بينتكم.
1805- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(هاتوا برهانكم) ، هاتوا حجتكم.
1806- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد: (قل هاتوا برهانكم) ، قال: حجتكم. (1)
1807- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: (قل هاتوا برهانكم) ، أي: حجتكم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين:
(لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى إحضار حجة على
دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في
دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على
دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، عن أن الذي ذكرنا من
الكلام، (2) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر
الله عنهم.
* * *
وأما تأويل قوله: (قل هاتوا برهانكم) فإنه: أحضروا وأتوا به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ) ،
أنه ليس كما قال الزاعمون (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو
نصارى) ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها
وينعم فيها، كما:-
1809- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.
* * *
وقد بينا معنى (بلى) فيما مضى قبل. (3)
* * *
وأما قوله: (من أسلم وجهه لله) ، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه":
التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام،
لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم"
مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-
1810- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) ، يقول:
أخلص لله.
__________
(1) الأثر: 1806 - كان في المطبوعة"حدثنا الحسن" وهو خطأ،
إسناد دائر، والحسين هو الحسين بن داود المصيصي، ولقبه"سنيد"
عرف به.
(2) في المطبوعة: "على أن الذي ذكرنا"، وهو تحريف.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 280، 281.
(2/510)
وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا (1)
يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له.
* * *
وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: (بَلَى مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه،
لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة
وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره
من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في
منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس
الشيء وعينه، كقول الأعشى:
أَؤُوِّل الحكم على وَجهه ... ليس قضائي بالهوى الجائر (2)
يعني بقوله:"على وجهه": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال
ذو الرمة:
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل ... من الأمر، لم يترك خِلاجا
بُزُولُها (3)
__________
(1) سيرة ابن هشام 1: 246 وغيره.
(2) ديوانه: 106 من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن
علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما.
وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني 15: 50 - 56) . وأول الحكم:
قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل
الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت: علقم، لا تسفه، ولا تجعلن ...
عرضك للوارد والصادر
وبعده: قد قلت قولا فقضى بينكم ... واعترف المنفور للنافر
(3) ديوانه: 560 يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر
التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت: فقالت: عبيد الله من
آل معمر ... إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها
وقوله: "طاوعت همي"، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به
نفسي. وقوله: "بازل من الأمر" يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال:
بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر
والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله"بازل
من الأمر" صفة لما أضمره من قوله"خطة"، وأتى بها على التذكير،
كما أتوا بها على التذكير في قولهم: "ناقة بازل". والخلاج:
الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن
خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد،
إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر.
(2/511)
يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما
أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من
الشيء وجهه بما تصفه به، (1) إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك
معنى قوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ،
إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو
محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه"
من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به
بذكر"الوجه".
* * *
وأما قوله: (وهو محسن) ، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل
الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) }
قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه
وطاعته ربه، عند الله في معاده.
* * *
ويعني بقوله: (ولا خوف عليهم) ، على المسلمين وجوههم لله وهم
محسنون،
__________
(1) الضمير في قوله، "وصفها" إلى العرب، فيما سلف.
(2/512)
المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه
وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم.
* * *
ويعني بقوله: (ولا هم يحزنون) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا
وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد
الله لأهل طاعته.
* * *
وإنما قال جل ثناؤه: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، وقد قال
قبل: (فله أجره عند ربه) ، لأن"من" التي في قوله: (بلى من أسلم
وجهه لله) ، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: (فله
أجره) للفظ، والجمع في قوله: (ولا خوف عليهم) ، للمعنى.
* * *
(2/513)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ
يَتْلُونَ الْكِتَابَ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين
تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض.
* ذكر من قال ذلك:
1811- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب قال،
حدثنا يونس بن بكير، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال،
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن
جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة:
(2/513)
ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى ابن مريم
وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على
شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك
من قولهما: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى
ليست اليهود على شيء) ، إلى قوله: (فيما كانوا فيه يختلفون)
(1)
1812- حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت
النصارى ليست اليهود على شيء) ، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين
كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست
النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في
دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين،
إعلاما، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر
الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله
فيه من فروضه، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى،
يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله
على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين
بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام، وما جاء
به من الله من الأحكام والفرائض.
ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله:
(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود
على شيء) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على
كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال
من ذلك، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون؛ وأتوا ما أتوا
من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.
__________
(1) الأثر: 1811 - في سيرة ابن هشام 2: 197 - 198.
(2/514)
فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى
بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك
للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟
قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار
كل فريق منهم، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه
وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا
دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها
نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك
إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة
نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه
الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من
دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ
دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا.
فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:-
1813- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) ، قال: بلى!
قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وقالت
النصارى: (ليست اليهود على شيء) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.
1814- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست
اليهود على شيء) ، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود
والنصارى على شيء.
* * *
وأما قوله: (وهم يتلون الكتاب) ، فإنه يعني به كتاب الله
التوراة والإنجيل،
(2/515)
وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى
بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:-
1815- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد
بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وهم يتلون الكتاب
كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، أي كل يتلو في كتابه
تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما
أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه
السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى، وما جاء به
من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:
(كذلك قال الذين لا يعلمون) . فقال بعضهم بما:-
1816- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ،
قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
1817- حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة: (قال الذين لا يعلمون مثل
قولهم) ، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
* * *
وقال آخرون بما:-
__________
(1) الأثر: 1815 - في سيرة ابن هشام 2: 198.
(2/516)
1818- حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين
لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة
والإنجيل.
* * *
وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب
فنسبوا إلى الجهل، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم.
* ذكر من قال ذلك:
1819- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، فهم العرب،
قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله
تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما
كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما
قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه
في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى
ليست اليهود على شيء) . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب،
وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى
أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذْ لم يكن في الآية دلالة
على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل، ولا من جهة النقل
المستفيض.
وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل
قولهم) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل
الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوة الأنبياء والرسل،
وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما
يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون، مثل الذي قاله أهل
الجهل بالله وكتبه ورسله، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا
أوحى إليهم كتابا.
(2/517)
وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من
معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم
من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به. لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ
اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله:
(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود
على شيء) ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على
علم منهم أنهم مبطلون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء
المختلفين، = القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم
قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل،
بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة، ومجازاته
المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به = فيما كانوا
فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.
* * *
وأما"القيامة" فهي مصدر من قول القائل:"قمت قياما وقيامة"، كما
يقال:"عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة".
* * *
وإنما عنى"بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم. فمعنى"يوم
القيامة": يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.
* * *
(2/518)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع
الشيء في غير موضعه. (1) وتأويل قوله: (ومن أظلم) ، وأي امرئ
أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره، من امرئ منع مساجد
الله أن يعبد الله فيها؟
* * *
و"المساجد" جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى
السجود فيما مضى. (2) فمعنى"المسجد": الموضع الذي يسجد لله
فيه، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه:"المجلس"، وللموضع الذي
ينزل فيه:"منزل"، ثم يجمع:"منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد.
وقد حكي سماعا من بعض العرب"مساجد" في واحد المساجد، وذلك
كالخطأ من قائله.
* * *
وأما قوله: (أن يذكر فيها اسمه) ، فإن فيه وجهين من التأويل.
أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن
يذكر فيها اسمه، فتكون"أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية
بفقد الخافض، وتعلق الفعل بها.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم
الله في مساجده، فتكون"أن" حينئذ في موضع نصب، تكريرا على موضع
المساجد وردا عليه. (3)
* * *
وأما قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ، فإن معناه: ومن أظلم
ممن منع مساجد الله أن
__________
(1) انظر ما سلف 1: 523 - 524، وهذا الجزء 2: 101 - 102، 369
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 104 - 105.
(3) قوله: "تكريرا"، أي بدل اشتمال.
(2/519)
يذكر فيها اسمه، وممن سعى في خراب مساجد
الله. فـ "سعى" إذًا عطف على "منع".
* * *
فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد
الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ؟ وأي المساجد هي؟
قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى، والمسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
1820- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومن أظلم ممن منع
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أنهم النصارى.
1821- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ومن أظلم ممن
منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، النصارى
كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا
فيه.
1822- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى،
والمسجد: مسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:-
1823- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)
، الآية، أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن
أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
1824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(2/520)
معمر، عن قتادة في قوله: (ومن أظلم ممن منع
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: هو
بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.
1825- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في
خرابها) ، قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت
المقدس، حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه
الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.
* * *
وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ
منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
1826- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال، حدثنا ابن وهب قال: قال
ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها
اسمه وسعى في خرابها) ، قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة
حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم:"ما كان أحد يرد عن
هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما
يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!
وفي قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) قال: إذْ قطعوا من يعمرها
بذكره، (1) ويأتيها للحج والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول
من قال: عنى الله عز وجل بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله
أن يذكر فيها اسمه) النصارى. وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب
بيت المقدس، وأعانوا بختنصر
__________
(1) في المطبوعة: "قالوا إذا قطعوا"، والصواب من تفسير ابن
كثير 1: 285 فهذا جزء من من الأثر، والقائل هو: ابن زيد.
(2/521)
على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من
الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في
معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها، وأن لا
مسجد عنى الله عز وجل بقوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ، إلا
أحد المسجدين، إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ
كان ذلك كذلك = وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في
تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن
الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده، غير الذين
وصفهم الله بعمارتها. إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في
الجاهلية، وبعمارته كان افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه،
كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.
وأخرى، أن الآية التي قبل قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله
أن يذكر فيها اسمه) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم
أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على
ربهم، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام
قبلها، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: (ومن أظلم ممن منع
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) - إليهم وإلى المسجد الحرام.
وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها
إليه، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان
خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها
بخلاف ذلك، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت. (1)
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك، إذْ كان المسلمون لم
يلزمهم
__________
(1) أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري في تفسير الآية،
في تفسيره 1: 285 / 287 وقال:"اختار ابن جرير القول الأول،
واحتج- بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعت في
تخريب بيت المقدس، قال ابن كثير: والذي يظهر والله أعلم، القول
الثاني، كما قاله ابن زيد ... " ثم قال:"وأما اعتماده على أن
قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا
منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها
بأصنامهم وأندادهم وشركهم.."
ثم استدل بآيات من كتاب الله وقال:"ليس المراد بعمارتها،
زخرفتها وإقامة صورتها، فقط، إنما عمارتها بذكر الله وإقامة
شرعه فيها" إلى آخر ما قاله.
هذا الاعتراض من ابن كثير على أبي جعفر رحمهما الله، ليس يقوم
في وجه حجة الطبري على صواب ما ذهب إليه في تأويل الآية.
والطبري لم يغفل عن مثل اعتراض ابن كثير، ولكن ابن كثير غفل عن
سياق تأويل الطبري. وصحيح أن ما كان من أمر أهل الشرك في
الجاهلية في البيت الحرام يدخل في عموم معنى قوله: {وَسَعَى
فِي خَرَابها} ، ولكن سياق الآيات السابقة، ثم التي تليها،
توجب-كما ذهب إليه الطبري- أن يكون معنيا بها من كانت الآيات
نازلة في خبره وقصته.
والآيات السالفة جميعا خبر عن بني إسرائيل الذين كانوا على عهد
موسى، وتأنيب لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان منهم لأهل الإيمان من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحذير لهم من أهل
الكتاب جميعا، يهوديهم ونصرانيهم، وذكر لافتراء الفريقين بعضهم
على بعض، وادعاء كل فريق أنه هو الفريق الناجي يوم القيامة. ثم
أفرد بعد ذلك أخبار النصارى، كما أفرد من قبل أخبار بني
إسرائيل، فعدد سوء فعلهم في منعهم مساجد الله أن يذكر فيها
اسمه، ثم كذبهم على ربهم أنه اتخذ ولدا، ثم قول بعضهم: {لولا
يكلمنا الله أو تأتينا آية} ، وأن ذلك شيبه بقول اليهود: {أرنا
الله جهرة} ، ثم أخبر أنه أرسل رسوله محمدا بشيرا ونذيرا،
وأمره أن يعرض عن أهل الجحيم من هؤلاء وهؤلاء، ثم أعلنه أن
اليهود والنصارى جميعا لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وطريقهم،
في الافتراء على رب العالمين. فالسياق كما ترى، بمعزل عن
المشركين من العرب، ولكن ابن كثير وغيره من أئمتنا رضوان الله
عليهم، تختلط عليهم المعاني حين تتقارب، ولكن أبا جعفر صابر
على كتاب ربه، مطيق لحمله، لا يعجله شيء عن شيء ما استطاع. فهو
يخلص معاني كتاب ربه تخليصا لم أجده قط لأحد بعده، ممن قرأ
كتابه. وأكثرهم يعترض عليه، ولو صبر على دقة هذا الإمام. لكان
ذلك أولى به، وأشبه بخلق أهل العلم، وهم له أهل، غفر الله لنا
ولهم.
(2/522)
قط فرض الصلاة في [المسجد المقدس، فمنعوا
من الصلاة فيه فيلجئون] توجيه قوله (1) (ومن أظلم ممن منع
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) إلى أنه معني به مسجد بيت
المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما
ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني
إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب
المسجد. وإن كان قد دل بعموم قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد
الله أن يذكر فيها اسمه) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، (2)
فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا-، وكل ساع في إخرابه فهو من
المعتدين الظالمين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن
يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في
تخريبها، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها،
ما داموا على مناصبة الحرب، إلا على خوف ووجل من العقوبة على
دخولهموها، كالذي:-
1827- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، وهم اليوم كذلك، لا يوجد
نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة.
1828- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة: قال الله عز وجل: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا
خائفين) ، وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة، إن قدر
عليهم عوقبوا.
1829- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(أولئك ما كان لهم إن يدخلوها إلا خائفين) ، فليس في الأرض
رومي يدخلها
__________
(1) الذي بين القوسين، هكذا جاء في النسخ المطبوعة والمخطوطة
السقيمة. ولم أجد نقلا عن أبي جعفر يهديني إلى تصويب هذا
الخلط. فاجتهدت أن استظهر سياق كلامه. فأقرب ما انتهيت إليه أن
يكون فيه سقطا وتحريفا، وأن يكون سياقه كما يلي:
[إذ كان المسلمون هم المخاطبون بالآيات التي سبقت هذه الآية،
وكان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في مسجد بيت المقدس،
فمنعوا من الصلاة فيه، وكان النصارى واليهود لم يمنعوهم قط من
الصلاة فيه، فيجوز توجيه قوله -:} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} - إلى
أنه معنى به مسجد بيت المقدس] . هذا اجتهادي في قراءة هذا النص
المختلط، والله أعلم.
(2) في المطبوعة: "في مسجد الله"، والصواب ما أثبت.
(2/523)
اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد
أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها.
1830- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، قال: نادى
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحج بعد العام مشرك، ولا
يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا
منعنا أن ننزل!.
* * *
وإنما قيل: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، فأخرج
على وجه الخبر عن الجميع، وهو خبر عن (من منع مساجد الله أن
يذكر فيها اسمه) ، لأن"من" في معنى الجميع، وإن كان لفظه
واحدا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }
قال أبو جعفر: أما قوله عز وجل: (لهم) ، فإنه يعني: الذين أخبر
عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: (لهم
في الدنيا خزي) ، فإنه يعني بـ "الخزي": العار والشر والذلة
(2) إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية،
كما:-
1831- حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن
قتادة: (لهم في الدنيا خزي) ، قال: يعطون الجزية عن يد وهم
صاغرون.
1832- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله: (لهم في الدنيا خزي) ، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا
قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب
العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم
فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان
والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه
وسعيهم
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 513.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 314.
(2/525)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
في خرابها، ولهم = على معصيتهم وكفرهم
بربهم وسعيهم في الأرض فسادا = عذاب جهنم، وهو العذاب العظيم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولله المشرق والمغرب) ،
لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال:"لفلان هذه الدار"، يعني بها:
أنها له، ملكا. فذلك قوله: (ولله المشرق والمغرب) ، يعني أنهما
له، ملكا وخلقا.
* * *
و"المشرق" هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال:
لموضع طلوعها منه"مطلع" بكسر اللام، وكما بينا في
معنى"المساجد" آنفا. (1)
* * *
فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد، حتى
قيل: (ولله المشرق والمغرب) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت
إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل
يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك
معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان
شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول
الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم.
فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه
(2) الخلق خلقه!
__________
(1) انظر ما سلف قريبا: 519.
(2) قوله: "فلله كل ما دونه"، أي كل ما سواه من شيء.
(2/526)
قيل: بلى!
فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا
الموضع، دون سائر الأشياء غيرها؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر
ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل
الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه
ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل
بيت المقدس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة،
ثم حولوا إلى الكعبة. فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى
الله عليه وسلم، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟
فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي، أصرف
وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله.
* ذكر من قال ذلك:
1833- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن
القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى
المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل
بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه
وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب
قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل
الله تبارك وتعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ) [سورة البقرة: 144] إلى قوله: (فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: 144-150] ، فارتاب من ذلك
اليهود، وقالوا: (مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا) [سورة البقرة: 142] ، فأنزل الله عز وجل:
(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، وقال:
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (1)
__________
(1) الحديث: 1833 - علي: هو ابن أبي طلحة الهاشمي: ثقة، تكلموا
فيه. والراجح أن كلامهم فيه من أجل تشيعه. ولكن لم يسمع من ابن
عباس، فروى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 52، عن دحيم قال:"إن
علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير". وروي عن أبيه
أبي حاتم مثل ذلك. وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات،
وقال:"روى عن ابن عباس، ولم يره". فهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه.
ولكن معناه ثابت عن ابن عباس، من وجه صحيح. فرواه أبو عبيد
القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ - فيما نقل ابن كثير
1: 288 -"أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن
عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس.." فذكر نحوه. وهذا إسناد صحيح، من
جهة رواية ابن جريج عن عطاء، وهو ابن أبي رباح. وأما"عثمان ابن
عطاء"، فإنه"الخراساني". وهو ضعيف. وحجاج بن محمد: سمعه منهما،
من ثقة ومن ضعيف، فلا بأس. ورواه الحاكم 2: 267 - 268، من طريق
ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. وهو كما
قالا. وذكره السيوطي 1: 108، ونسبه لأبي عبيد، وابن المنذر،
وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.
(2/527)
1834- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي نحوه.
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى
الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام.
وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك
وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي
المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية،
إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له المشارق
والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، (1) كما قال جل وعز: (وَلا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ
مَا كَانُوا) [سورة المجادلة: 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض
الذي
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 289 تعليقا على كلمة أبي جعفر
رحمه الله: "في قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان - إن أراد
علمه تعالى، فصحيح. فإن علمه تعالى، محيط بجميع المعلومات،
وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله
على ذلك علوا كبيرا". قلت: الذي قاله ابن كثير هو عقيدة أبي
جعفر رحمه الله، وقد بين ذلك في تفسير سورة المجادلة من تفسيره
28: 10، فلا معنى لتشكك ابن كثير في كلام إمام ضابط من أئمة
أهل الحق، وعبارته صحيحة اللفظ، ولكن أهل الأهواء جعلوا الناس
يفهمون من عربية الفصحاء معنى غير المعنى الذي تدل عليه.
(2/528)
فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
1835- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: (ولله المشرق والمغرب فأينما
تولوا فثم وجه الله) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله: (ومن
حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) [سورة البقرة: 149-150]
1836- حدثنا الحسن قال (1) أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ) ، قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى
المسجد الحرام.
1837- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله:
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، قال: كانوا
يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل
الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو
بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت
الحرام. فنسخها الله في آية أخرى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إِلَى (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: 144] ، قال: فنسخت هذه
الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.
1838- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا
- يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء قوم
يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله
النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول:
والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز
وجل:
__________
(1) في المطبوعة: "حدثت عن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد
دائر في تفسيره أقربه رقم: 1731.
(2/529)
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ) الآية [سورة البقرة: 144] .
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم،
إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق
أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف،
والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو
هنالك، بقوله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه
الله) .
* ذكر من قال ذلك:
1839- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد
الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به
راحلته، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك،
ويتأول هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) . (1)
1840- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن
أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال:"إنما نزلت
هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) أن تصلي حيثما توجهت بك
راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة".
(2)
* * *
__________
(1) الحديث: 1839 - ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي،
سبق توثيقه: 438. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان، كما سيأتي في
الإسناد التالي لهذا، وقد سبق توثيقه: 1455.
والحديث رواه أحمد في المسند: 5001، عن عبد الله بن إدريس،
بهذا الإسناد. وسيأتي تمام تخريجه في الذي بعده.
(2) الحديث: 1840 - ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي،
وهو ثقة، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما. بل روى عنه الثوري، وهو
أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 1207 -208، وابن
أبي حاتم 4/1/57 -58.
والحديث رواه أحمد أيضًا: 4714، عن يحيى القطان، عن عبد الملك
بن أبي سليمان، بنحوه. ورواه مسلم 1: 195، من طريق يحيى،
وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 4، بأسانيد من
طريق عبد الملك.
وقد رجحنا في شرح المسند الرواية السابقة، بأن هذه الآية لم
تنزل في ذلك، بل هي في معنى أعم، وإنما تصلح شاهدا ودليلا، كما
يتبين ذلك من فقه تفسيرها في سياقها.
(2/530)
وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم
عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء
مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأنى
وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، (1) وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن
صلاتهم ماضية.
* ذكر من قال ذلك:
1841- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع
السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة،
عن أبيه قال،"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة
سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل
مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير
القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير
القبلة. فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا
فثم وجه الله إن الله واسع عليم) . (2)
__________
(1) في المطبوعة: "فإن وليتم وجوهكم". والصواب ما أثبت.
(2) الحديث: 1841 - أحمد، شيخ الطبري: هو أحمد بن إسحاق بن
عيسى الأهوازي، كما سبق نسبه كاملا في: 159، وهو صدوق، من شيوخ
أبي داود، مترجم في التهذيب، وأبو أحمد: هو الزبيري. واسمه:
محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم، وهو ثقة حافظ، من
شيوخ الإمام أحمد. مترجم في التهذيب. والكبير 1/1/133 - 134،
وابن سعد 6: 281، وابن أبي حاتم 3 /2 /297.أبو الربيع السمان.
هو أشعث بن سعيد، سبق في: 24 أنه ضعيف جدا. عاصم بن عبيد الله
بن عاصم بن عمر بن الخطاب: هو ضعيف، وقد بينا ضعفه في شرح
المسند: 5229.
عبد الله بن عامر بن ربيعة: ثقة من كبار التابعين. وأبوه صحابي
معروف، من المهاجرين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا
والمشاهد كلها.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 289 - 290، عن هذا الموضع. ووقع فيه
خطأ في اسم شيخ الطبري، كتب"محمد بن إسحاق"، بدل"أحمد". وهو
خطأ ناسخ أو طابع. ثم أشار ابن كثير إلى روايته الآتية: 1843.
ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم. ثم
نقل كلام الترمذي قال:"هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا
من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان: يضعف
في الحديث". قال ابن كثير:"قلت: وشيخه عاصم، أيضًا ضعيف قال
البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال
ابن حبان: متروك.
وقد ذهبت في شرحي للترمذي، رقم: 345، إلى تحسين إسناده. ولكني
أستدرك الآن، وأرى أنه حديث ضعيف.
ونقله السيوطي 1: 109، مع تخريجه وبيان ضعفه.
(2/531)
1842- حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال،
حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت،
شك الطبري - (1) فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال:
مضت صلاتك، يقول الله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) .
1843- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن
عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه
قال، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر،
فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، (2)
ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز
وجل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (3)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، لأن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره، من أجل أنه مات قبل
أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها
لي، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي،
وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة،
فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي
بذلك رضا الله عز وجل في صلاته.
* ذكر من قال ذلك:
1844- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي،
عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي
قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ
لِلَّهِ) [سورة
__________
(1) لم يرد في كتب اللغة: "أيقظت" لازما، وأخشى أن يكون الطبري
يصححها، وأشباهها في العربية كثير.
(2) في لسان العرب"فصلى كل منا حياله"، أي تلقاء وجهه،
وزيادة"علي" لا تضر المعنى.
(3) الحديث: 1843 - هو مكرر الحديث: 1841.
(2/532)
آل عمران: 199] ، قال: قتادة، فقالوا: إنه
كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق
والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره
إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا،
وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن
له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم = إذ كان
له ملكهم = طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من
الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم
المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد
به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء
بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه، كما قيل: (وأشربوا في
قلوبهم العجل) ، وما أشبه ذلك. (2)
ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب
يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته، فولوا
وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم
فهنالك وجهي.
* * *
فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا
منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم،
والمراد الخاص، وذلك أن قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ) ، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في
أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم
ومكتوبتكم، فثم وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال
ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.
__________
(1) الحديث: 1844 - هو حديث ضعيف، لأنه مرسل وقد نقله السيوطي
1: 109، ونسبه لابن جرير: وابن المنذر. ونقله ابن كثير 1: 291،
عن هذا الموضع. ثم قال: "هذا غريب". وأقول: وسياقته تدل على
ضعفه ونكارته.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 357 - 360، 483.
(2/533)
= ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله
فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها، لأن
الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال:-
1845 - أبو كريب قال حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك،
والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (فأينما تولوا
فثم وجه الله) ، قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب
فاستقبلها.
1846- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد قال،
حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة.
= ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب
لكم دعاءكم، كما:-
1847- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) [سورة غافر: 60] ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فأينما
تولوا فثم وجه الله) .
* * *
فإذ كان قوله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، محتملا ما
ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة
إلا بحجة يجب التسليم لها.
لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها
بأن قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، مَعْنِيٌّ به: فأينما
توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نزلت بعد صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، أمرا من
الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي
ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس، إذ كان من أهل العلم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون
نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما
وصفت.
(2/534)
= ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا -
قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا: بأن تكون
جاءت بعموم، ومعناها: في حال دون حال - (1) إن كان عني بها
التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك
من المعاني التي ذكرنا.
وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام"، على أن لا
ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما
نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه
غير ذلك. (2) فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى
الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن
الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا
منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه.
ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: (فأينما تولوا فثم وجه
الله) ، بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ.
* * *
وأما قوله: (فأينما) ، فإن معناه: حيثما.
* * *
وأما قوله: (تولوا) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون: تولون
نحوه وإليه، كما يقول القائل:"وليته وجهي ووليته إليه"، (3)
بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية،
لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون
عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة
الله.
* * *
وأما قوله: (فثم) فإنه بمعنى: هنالك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أو معناها في حال دون حال"، وهو فاسد.
ومراده أن الآية جاءت عامة، وتحتمل أحد معنيين: إما في حال دون
حال_ وإما في كل حال، كما فصل بعد.
(2) في المطبوعة: "لظاهره"، وانظر ما سلف في معنى"الظاهر
والباطن" 2: 15 والمراجع
(3) في المطبوعة: "وليت وجهي"، والصواب ما أثبت.
(2/535)
واختلف في تأويل قوله: (فثم وجه الله) (1)
فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي
وجههم إليه.
* ذكر من قال ذلك:
1848- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن
مجاهد: (فثم وجه الله) قال: قبلة الله.
1849- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة
تستقبلونها.
* * *
وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ،
فثم الله تبارك وتعالى.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فثم تدركون
بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.
* * *
وقال آخرون: عنى بـ "الوجه" ذا الوجه. وقال قائلو هذه المقالة:
وجه الله صفة له.
* * *
فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟
قيل: هي لها مواصلة. وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى
الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في
خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه،
فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون،
ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من
ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله، تبتغون
به وجهه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فثم، فقال بعضهم"، والصواب إثبات"وجه الله".
(2/536)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واسع) يسع خلقه كلهم
بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.
وأما قوله: (عليم) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه
منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقالوا اتخذ الله ولدا) ،
الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، (وقالوا) : معطوف
على قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) .
* * *
وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه
وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين
زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما
قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم:
(1) (سبحانه) ، يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد،
وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول
القائل:"سبحان الله"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا.
ومعنى ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "ومنفيا ما نحلوه". وانتفى من الشيء: تبرأ
منه. ونحله الشيء: نسبه إليه. والفرية: الكذب المختلق.
(2) انظر ما سلف 1: 474، 495.
(2/537)
وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو
إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات، وإما في
الأرض، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم، لم
يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده، في ظهور آيات
الصنعة فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم:
معنى ذلك: مطيعون.
* ذكر من قال ذلك:
1850- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله: (كل له قانتون) ، مطيعون.
1851- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (كل له
قانتون) ، قال: مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله.
1852- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو
كاره.
1853- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(كل له قانتون) ، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة.
1854- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد،
عمن ذكره، عن عكرمة: (كل له قانتون) ، قال: الطاعة.
1855- حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن
أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قانتون) ، مطيعون.
* * *
(2/538)
وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون
بالعبودية.
* ذكر من قال ذلك:
1856- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: (كل له قانتون) ،
كل مقر له بالعبودية.
* * *
وقال آخرون بما:-
1857- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (كل له قانتون) ، قال: كل له
قائم يوم القيامة.
* * *
ولِـ "القنوت" في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والآخر
القيام، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.
* * *
وأولى معاني "القنوت" في قوله: (كل له قانتون) ، الطاعة
والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من
آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله
تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين
زعموا أن لله ولدا بقوله: (بل له ما في السموات والأرض) ، ملكا
وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة
بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها.
وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة، بشهادتها له
بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله
ولدا وهذه صفته؟
* * *
وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن
قوله: (كل له قانتون) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير
جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها،
لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام".
* * *
وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه
ابن الله -
(2/539)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (117)
مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما
باللسان، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن
جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية، عقيب قوله:
(وقالوا اتخذ الله ولدا) ، فدل ذلك على صحة ما قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بديع السموات والأرض) ،
مبدعها.
* * *
وإنما هو"مُفْعِل" صرف إلى"فعيل" كما صرف"المؤلم" إلى"أليم"،
و"المسمع" إلى"سميع". (1) ومعنى"المبدع": المنشئ والمحدث ما لم
يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في
الدين"مبتدعا"، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل
محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه
مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، (2) في مدح هَوْذَة بن
علي الحنفي:
يُرعي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم، أو ما
شاءه ابتدعا (3)
أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
فأيها الغاشي القِذَافَ الأتْيَعَا ... إن كنت لله التقي
الأطوعا
فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا (4)
يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 251، وهذا الجزء 2: 140، 377، 506.
(2) في المطبوعة: "الأعشى بن ثعلبة"، وهو خطأ محض.
(3) سلف تخريجه في هذا الجزء: 2: 464.
(4) ديوانه: 87، واللسان (بدع) من رجز طويل يفخر فيه برهطه بني
تميم. ورواية الديوان"القذاف الأتبعا"، وليس لها معنى يدرك،
ورواية الطبري لها مخرج في العربية. "الغاشي" من قولهم: غشي
الشيء: أي قصده وباشره أو نزل به. والقذاف: سرعة السير
والإبعاد فيه، أو كأنه أراد الناحية البعيدة، وإن لم أجده في
كتب العربية. والأتيع: لم أجده في شيء، ولعله أخذه من قولهم:
تتايع القوم في الأرض: إذا تباعدوا فيها على عمى وشدة. يقول:
يا أيها الذاهب في المسالك البعيدة عن سنن الطريق- يعني به: من
ابتدع من الأمور ما لا عهد للناس به، فسلك في ابتداعه المسالك
الغريبة.
(2/540)
فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد
وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه
بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها، وموجدها من
غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه؟
* * *
وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك:
المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم
أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو
الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. (1) وبنحو الذي قلنا في
ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1858- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: (بديع السموات والأرض) ، يقول: ابتدع
خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد.
1859- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
(بديع السموات والأرض) ، يقول: ابتدعها فخلقها، ولم يُخلق
قبلها شيء فيتمثل به. (2)
* * *
__________
(1) نقل ابن كثير في تفسيره 1: 294، عبارة الطبري ثم قال:
"وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد، وعبارة صحيحة"، فاستحسن
ابن كثير ما خف محمله، ولكن ما ثقل عليه آنفًا (انظر ص: 522
تعليق: 1) كان مثارا لاعتراضه، مع أنه أعلى وأجود وأدق وألطف،
وأصح عبارة، وأعمق غورا. وهذا عجب من العجب فيما ناله ابن جرير
من قلة معرفة الناس بسلامة فهمه، ولطف إدراكه.
(2) الأثر: 1859- كان في المطبوعة: "ولم يخلق مثلها شيئا
فتتمثل به"، وهو كلام فاسد. والصواب في الدر المنثور 1: 110.
(2/541)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذا قضى أمرا) ، وإذا
أحكم أمرا وحتمه. (1)
* * *
وأصل كل"قضاء أمر" الإحكام، والفراغ منه. (2) ومن ذلك قيل
للحاكم بين الناس:"القاضي" بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم،
وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. (3) ومنه قيل للميت:"قد
قضى"، يراد به قد فرغ من الدنيا، وفصل منها. ومنه قيل:"ما
ينقضي عجبي من فلان"، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل:"تقضي النهار"،
إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: 23] أي: فصل الحكم
فيه بين عباده، بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: (وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) [سورة الإسراء: 4] ،
أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول
أبي ذؤيب:
وعليهما مسرودتان، قضاهما ... داود أو صَنَعَ السوابغِ تُبَّعُ
(4)
__________
(1) حتم الأمر: قضاه قضاء لازما.
(2) كان في المطبوعة: "قضاء الإحكام"، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة"فراغه" وزيادة"منه" واجبة.
(4) ديوانه: 19، والمفضليات: 881 وتأويل مشكل القرآن: 342،
وسيأتي في تفسير الطبري 11: 65، 22: 47 (بولاق) ، من قصيدته
التي فاقت كل شعر، يرثى أولاده حين ماتوا بالطاعون. والضمير في
قوله: "وعليهما" إلى بطلين وصفهما في شعره قبل، كل قد أعد
عدته: فتناديا فتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مخدع
متحاميين المجد، كل واثق ... ببلائه، واليوم يوم أشنع
وعليهما مسرودتان. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
"مسرودتان"، يعني درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج، قد
نسجت حلقهما نسجا محكما. وداود: هو نبي الله صلى الله عليه
وسلم. وتبع: اسم لكل ملك من ملوك حمير (انظر ما سلف 2: 237) .
قال ابن الأنباري: "سمع بأن الحديد سخر لداود عليه السلام،
وسمع بالدروع التبعية، فظن أن تبعا عملها. وكان تبع أعظم من أن
يصنع شيئا بيده، وإنما صنعت في عهده وفي ملكه". والصنع: الحاذق
بعمله، والمرأة: صناع. ويروى: "وعليهما ماذيتان"، يعني درعين.
والماذية: الدرع الخالصة الحديد، اللينة السهلة.
(2/542)
ويروى:
* وتعاورا مسرودتين قضاهما * (1)
ويعني بقوله:"قضاهما"، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: (2)
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بَوائِق في أكمامها لم
تَفَتَّقِ (3)
ويروى:"بوائج". (4)
* * *
__________
(1) "تعاورا"، يعني - كما قالوا: تعاورا بالطعن، مسرودتين. من
قولهم: تعاورنا فلانا بالضرب: إذا ضربته أنت ثم صاحبك. ورأيي
أنها رواية مرفوضة، لا تساوق لشعر فإنه يقول بعده: وكلاهما في
كفه يزنية ... فيها سنان، كالمنارة أصلع
وكلاهما متوشح ذارونق ... عضبا، إذا مس الضريبة يقطع
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العُبُط التي لا ترفع
فهو يصف، ثم يخبر أنهما قد تضاربا ضربا مهلكا، ولا معنى لتقديم
الطعن ثم العود إلى صفة السلاح، إلا على بعد واستكراه.
(2) هو جزء بن ضرار، أخو الشماخ بن ضرار. وقد اختلف في نسبتها.
نسبت للشماخ، ولغيره، حتى نسبوها إلى الجن (انظر طبقات فحول
الشعراء: 111، وحماسة أبي تمام 3: 65، وابن سعد 3: 241،
والأغاني 9: 159، ونهج البلاغة 3: 147، والبيان والتبيين 3:
364، وتأويل مشكل القرآن: 343، وغيرها كثير) . هذا والصواب أن
يقول: "في رثاء عمر بن الخطاب".
(3) البوائق جمع بائقة: وهي الداهية المنكرة التي فتحت ثغرة لا
تسد. والأكمام جمع كم _ (بضم الكاف وكسرها) . وهو غلاف الثمرة
قبل أن ينشق عنه. وقوله: "لم تفتق"، أصلها: تتفتق، حذف إحدى
التاءين. وتفتق الكم عن زهرته: انشق وانفطر. ورحم الله عمر من
إمام جمع أمور الناس حياته، حتى إذا قضى انتشرت أمورهم.
(4) بوائج جمع بائجة: وهي الداهية التي تنفتق انفتاقا منكرا
فتعم الناس، وتتابع عليهم شرورها من قولهم: باج البرق وانباج
وتبوج: إذا لمع وتكشف وعم السحاب، وانتشر ضوؤه.
(2/543)
وأما قوله: (فإنما يقول له كن فيكون) ،
فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك
الأمر"كن"، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: (وإذا قضى
أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي
يقضيه:"كن"؟ أفي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فيها أمره، (1)
إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور، فإذا لم يكن المأمور
استحال الأمر،؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر، فكذلك محال الأمر
من آمر إلا لمأمور. (2) أم يقول له ذلك في حال وجوده؟ = وتلك
حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث، لأنه حادث موجود، ولا يقال
للموجود:"كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟
قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك، ونحن مخبرون بما قالوا
فيه، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك: (3)
* * *
قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على
وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره
بأمر نفذ فيه
__________
(1) في المطبوعة: "وتلك حال لا يجوز أمره"، بإسقاط"فيها"، وهي
واجبة، واستظرتها من السياق ومن الشطر الآتي من السؤال.
(2) في المطبوعة: "كما محال الأمر"، بإسقاط الواو، وهي واجب
إثباتها. ويعنى بقوله: "المأمور"، أي الموجود المأمور.
(3) أحب أن أنبه قارئ هذا التفسير، أن يلقى باله إلى سياق
أقوال القائلين، وكيف يخلص هو المعاني بعضها من بعض، وكيف يصيب
الحجة بعقل ولطف إدراك، وصحة بيان عن معاني الكلام، وعن تأويل
آيات كتاب ربنا سبحانه وتعالى ثم لينظر بعد ذلك أقوال
المفسرين، وكيف تجنبوا الإيغال فيما توغل هو فيه، ثقة بعون
الله له، ثم اتباعا لأهدى السبل في طلب المقاصد.
(2/544)
قضاؤه، ومضى فيه أمره، نظير أمره من أمر من
بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون في حال أمره
إياهم بذلك، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم، وكالذي خسف به
وبداره الأرض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من
خلقه في حال أمره المحتوم عليه.
فوجه قائلو هذا القول قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون) ، إلى الخصوص دون العموم
* * *.
وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فليس لأحد أن يحيلها إلى
باطن بغير حجة يجب التسليم لها. (1) وقال: إن الله عالم بكل ما
هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك، كانت الأشياء التي لم
تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها، نظائر التي هي موجودة،
فجاز أن يقول لها:"كوني"، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى
حال الوجود، لتصور جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم.
* * *
وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ، فتأويلها
الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور، على ما وصفت قبل.
قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من
إحياء ميت، أو إماتة حي، ونحو ذلك، فإنما يقول لحي:"كن ميتا،
أو لميت: كن حيا"، وما أشبه ذلك من الأمر.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه
ويكونه، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه، كان ووجد - ولا قول هنالك
عند قائلي هذه المقالة، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي -.
وقالوا: إنما قول الله عز وجل: (وإذا
__________
(1) انظر معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف: 2: 15 والمراجع.
(2/545)
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، نظير
قول القائل:"قال فلان برأسه" و"قال بيده"، إذا حرك رأسه، أو
أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم:
وقالت للبَطْنِ الْحَقِ الحق ... قِدْمًا فآضت كالفَنِيقِ
المحنِق (1)
ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال
عمرو بن حممة الدوسي: (2)
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له: قعِ
(3)
ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع، وكما قال
الآخر:
امتلأ الحوض وقال: قطني ... سلا رويدا، قد ملأت بطني (4)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: (وإذا قضى أمرا
فإنما يقول
__________
(1) لم أجد الرجز كاملا، والبيتان في اللسان (حنق) . يصف ناقة
أنضاها السير. والأنساع جمع نسع (بكسر فسكون) ، وهو سير يضفر
عريضا تشد به الرحال. ولحق البطن يلحق لحوقا: ضمر. أي قالت
سيور التصدير لبطن الناقة: كن ضامرا. يعني بذلك ما أضناها من
السير. وقدما: أي منذ القدم قال بشامة بن الغدير. لا تظلمونا،
ولا تنسوا قرابتنا ... إطوا إلينا، فقدما تعطف الرحم
ويعني أبو النجم: أن الضمور قد طال بها، فإن الأنساع قالت ذلك
منذ زمن بعيد. وآض: صار ورجع. والفنيق الجمل الفحل المودع
للفحلة، لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، فهو ضخم شديد
التركيب. والمحنق: الضامر القليل اللحم. والإحناق: لزوق البطن
بالصلب.
(2) يقال له أيضًا: كعب بن حممة، وهو أحد المعمرين، زعموا عاش
أربعمائة سنة غير عشر سنين. وهو أحد حكام العرب، ويقال إنه
هو"ذو الحلم" الذي قرعت له العصا، فضرب به المثل.
(3) كتاب المعمرين: 22، وحماسة البحتري: 205 ومعجم الشعراء:
209، وهي أبيات.
(4) أمالي ابن الشجري 1: 313، 2: 140، واللسان (قطط) . وفي
المطبوعة: "سيلا"، والصواب في اللسا وأمالي ابن الشجري،
والرواية المشهورة"مهلا رويدا". وقطني: حسبي وكفاني وللنحاة
كلام كثير في"قطني". وقوله"سلا": كأنه من قولهم: انسل السيل:
وذلك أول ما يبتدئ حين يسيل، قبل أن يشتد. كأنه يقول: صبا
رويدا.
(2/546)
له كن فيكون) ، أن يقال: هو عام في كل ما
قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة
الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في
كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر
الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال
إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه،
(1) إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. (2)
فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو
موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك.
ونظير قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) قوله:
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ
بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ
إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [سورة الروم: 25] بأن خروج القوم
من قبورهم لا يتقدم دعاء الله، ولا يتأخر عنه.
* * *
ويسألُ من زعم أن قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز،
(3) عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده؟ أم هي
في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر
مثله.
ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: (فإنما يقول له كن
فيكون) ، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه
وأومأ، ونظير قول الشاعر: (4)
__________
(1) في المطبوعة: "وجوده" الذي أراد إيجاده" وزيادة الهاء
في"وجوده" لا مكان لها.
(2) يقول: إن وجود الشيء، لا يتقدم إرادة الله وأمره، ولا
يتأخر عنهما.
(3) يقول: "يسأل من زعم. . عن دعوة أهل القبور".
(4) هو المثقب العبدي.
(2/547)
تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه
أبدا وديني (1)
وما أشبه ذلك-: فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله،
وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله
تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له:"كن"،
أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا
من الملة.
وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل:"قال
الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط.
قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول
الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟
فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما
يعرف في لسانها.
وإن قالوا: ذلك غير جائز.
قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا
أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به
الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا
كلام له ولا بيان في مثل قول القائل:"قال الحائط فمال"، فكيف
لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: (وإذا قضى أمرا
فإنما يقول له كن فيكون) ، وقول القائل:"قال الحائط فمال"؟
__________
(1) المفضليات: 586، والكامل 1: 193 وطبقات فحول الشعراء: 231،
وسيأتي في تفسيره 4: 112 (بولاق) من قصيدة جيدة، يقول قبله في
ناقته: إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
ودرأ الوضين لناقته: بسطه على الأرض، ثم أبركها عليه ليشد
عليها رحلها. والوضين: حزام عريض من جلد منسوج يشد به رحل
البعير. والدين: الدأب والعادة.
(2/548)
وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا
نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله.
* * *
وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول
له كن فيكون) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال
وجود المأمور بالوجود، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله:
(فيكون) (1) الرفع على العطف على قوله (2) (يقول) لأن"القول"
و"الكون" حالهما واحد. وهو نظير قول القائل:"تاب فلان فاهتدى"،
و"اهتدى فلان فتاب"، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد، ولا
مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا
بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود.
ولذلك استجاز من استجاز نصب"فيكون" من قرأ: (إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ) [النحل: 40] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن
نقول فيكونَ.
وأما رفع من رفع ذلك، (3) فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله:
(إذا أردناه أن نقول له كن) . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم
قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله:
فيكون، كما قال جل ثناؤه: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) ، [سورة الحج: 5] وكما قال ابن أحمر:
يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوارا (4)
__________
(1) في المطبوعة: "فتبين"، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "فيكون على العطف" سقط من الناسخ قوله:
الرفع".
(3) وهذه هي قراءة مصحفنا اليوم.
(4) المعاني الكبير: 846، 1134، وسيبويه 1: 341، من أبيات يذكر
صديقا كان له، يقول: أرانا لا يزال لنا حميم ... كداء البطن
سِلا أو صُفارا
يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليلقحها، فينتجها حوارا
ويزعم أنه ناز علينا ... بشرته فتاركنا تبارا
جعل هذا الصديق كداء البطن لا يدري من أين يهج ولا كيف يتأتى
له. وهو يعالج من الشر ما لا يقدر عليه، فكأنه يطلب الولد من
عاقر. جعل ذلك مثلا. والحوار: ولد البقرة. والشرة: حدة الشر،
والتبار: الهلاك.
(2/549)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا
آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا.
* * *
فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له
ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقر له
بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد، وهو الذي
ابتدع السموات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير
والد بمقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل
إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه:"كن"، فيكون موجودا كما
أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه، إذْ أراد خلقه
من غير والد.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:
(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
1860- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(2/550)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول
الله جل وعز: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو
تأتينا آية) ، قال: النصارى تقوله.
1861- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله - وزاد فيه (وقال الذين لا
يعلمون) ، النصارى.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1862- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو
عكرمة، عن ابن عباس قال، قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول، فقل لله
عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من
قوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)
، الآية كلها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب.
* ذكر من قال ذلك:
1863- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو
تأتينا آية) ، وهم كفار العرب.
1864- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله)
، قال: هم كفار العرب.
1865- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الأثر: 1862 - سيرة ابن هشام 2: 198.
(2/551)
السدي: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا
الله) ، أما الذين لا يعلمون: فهم العرب.
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى
عنى بقوله: (وقال الذين لا يعلمون) ، النصارى دون غيرهم. لأن
ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له
ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم
أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: (اتخذ الله ولدا) ،
تمنوا على الله الأباطيل، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم
عنده وهم بالله مشركون: (لولا يكلمنا الله) ، كما يكلم رسوله
وأنبياءه، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا
أولياءه، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في
دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده، فأما من كان كاذبا في دعواه
وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له، فغير جائز
أن يكلمه الله جل ثناؤه، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه
وفريته عليه.
وأمّا الزاعم: أن الله عنى بقوله (1) (وقال الذين لا يعلمون)
العرب، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته، ولا برهان على حقيقته في
ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه
ادعى ما لا برهان على صحته، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد.
* * *
وأما معنى قوله: (لولا يكلمنا الله) ، فإنه بمعنى: هلا يكلمنا
الله! كما قال الأشهب بن رميلة: (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وقال الزاعم. . " والصواب ما أثبت، كما
استدركه مصحح المطبوعة.
(2) ليس للأشهب، بل هو لجرير، وقد تابعه ابن الشجري في أماليه
2: 210، كأنه نقله عنه كعادته.
(2/552)
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى،
لولا الكمي المقنعا (1)
بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! كما:
1866- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله: (لولا يكلمنا الله) قال: فهلا يكلمنا
الله!
قال أبو جعفر: فأما"الآية" فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها
العلامة. (2) وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية
على ما نريد ونسأل، (3) كما
__________
(1) ديوان جرير: 338، النقائض: 833، وسيأتي في التفسير 7: 119
(بولاق) غير منسوب، ومجاز القرآن: 52، وأمالي ابن الشجري 1:
279، 334 / 2: 210، والخزانة 1: 461. ورواية الديوان والنقائض:
"أفضل سعيكم". والبيت من قصيدة طويلة في مناقضة جرير والفرزدق.
وقوله: "عقر النيب". عقر الناقة أو الفرس: ضرب قوائمها فقطعها،
وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، ثم نحروه، وإنما يفعلون
به ذلك كيلا يشرد عند النحر. وكان العرب يتكارمون بالمعاقرة.
وهي أن يعقر هذا ناقة، فيعقر الآخر، يتباريان في الجود
والسخاء، ويلحان في ذلك حتى يغلب أحدهما صاحبه. والنيب جمع
ناب: وهي الناقة المسنة، أسموها بذلك لطول نابها. ويشير جرير
بذلك إلى ما كان يفخر به الفرزدق من معاقرة أبيه غالب بن
صعصعة، سحيم بن وثيل الرياحي بمكان يقال له"صوأر"، فعقر سحيم
خمسا ثم بدا له، وعقر غالب مئة، أو مئتين. وهذا أمر من أمور
الجاهلية قال ابن عباس: " لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا
آمن أن يكون مما أهل لغير الله به"، وقال علي رضي الله عنه:
"يا أيها الناس، لا تحل لكم، فإنها أهل بها لغير الله". (انظر
خبر المعاقرة في النقائض: 625 - 626) .
وقوله: "بني ضوطرى"، يعني: يا بني الحمقى. هكذا قيل، وأخشى أن
لا يكون كذلك، فإن: "ضوطرى" نبز لرجل من بني مجاشع بن دارم -
لم يعينوه - فقال جرير للفرزدق: إن ابن شعرة، والقرين، وضوطرى
... بئس الفوارس ليلة الحدثان
فهذا دليل على أنه شخص بعينه، أرجو أن أحققه في غير هذا
المكان. وقد أراد ذمه بأسلافه على كل. والكمي: الشجاع الذي لا
يرهب، فلا يحيد عن قرنه، كان عليه سلاح أو لم يكن.
وقوله: "تعدون" أي تحسبون وتجعلون، فعدى الفعل"عد" إلى
مفعولين، تضمينا لمعنى"جعل وحسب"، كما قال ذو الرمة: أشم أغر
أزهر هبرزي ... يعد القاصدين له عيالا
(2) انظر ما سلف: 1: 106.
(3) في المطبوعة: "عما نريده ونسأل"، والصواب ما أثبت.
(2/553)
أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل: (كذلك
قال الذين من قبلهم مثل قولهم) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: (كذلك
قال الذين من قبلهم مثل قولهم) ، فقال بعضهم في ذلك بما:-
1867- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كذلك قال الذين من قبلهم
مثل قولهم) ، هم اليهود.
1868- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قال الذين من قبلهم) ، اليهود.
* * *
وقال آخرون: هم اليهود والنصارى، لأن الذين لا يعلمون هم
العرب. (1)
* ذكر من قال ذلك:
1869- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة: (قال الذين من قبلهم) ، يعني اليهود والنصارى وغيرهم.
1870- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال، قالوا يعني - العرب- كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم.
1871- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) في المطبوعة: "هم اليهود"، والصواب ما أثبت، كما استظهره
مصحح المطبوعة، ودليل ذلك أنه سيروى بعد عن قتادة، وقد مضى في
رقم: 1763 بإسناده هذا عن قتادة: أن" الذين لا يعلمون"، هم
كفار العرب، والأثر التالي تتمة هذا الأثر السالف.
(2/554)
عن أبيه، عن الربيع: (كذلك قال الذين من
قبلهم مثل قولهم) ، يعني اليهود والنصارى.
* * *
قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره
بقوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله) ، هم النصارى،
والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود (1) سألت موسى صلى الله عليه
وسلم أن يريهم ربهم جهرة، (2) وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد
بينا فيما مضى من كتابنا هذا - (3) وسألوا من الآيات ما ليس
لهم مسألته تحكما منهم على ربهم، وكذلك تمنت النصارى على ربها
تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات.
فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك، مثل
الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها، وأن قولهم الذي
قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في
الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على
الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية
عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما
قلنا في ذلك قال مجاهد.
1872- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تشابهت قلوبهم) قلوب النصارى
واليهود.
* * *
وقال غيره: (4) معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود
والنصارى وغيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
1873- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) في المطبوعة: "والذين قالت". والضمير في قوله"والذين
قالوا" إلى النصارى يعود. وانظر دليله فيما سلف قريبا: 550.
(2) في المطبوعة: "وسألت موسى"، وحذف الواو أولى. وكان أحب أن
يكون"سألوا" مكان"سألت".
(3) انظر ما سلف في تفسير الآية: 55، والأثر: 959.
(4) في المطبوعة: "وقال غيرهم"، والصواب ما أثبت، فإنه روى قول
مجاهد وحده.
(2/555)
قتادة: (تشابهت قلوبهم) ، يعني العرب
واليهود والنصارى وغيرهم.
1874- حدثني المثنى، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع: (تشابهت قلوبهم) ، يعني العرب واليهود
والنصارى وغيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز في قوله: (تشابهت) التثقيل، لأن التاء
التي في أولها زائدة أدخلت في قوله:"تفاعل"، وإن ثقلت صارت
تاءين، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد، وإنما
يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخل
علما للاستقبال، والأخرى منها التي في"تفاعل"، ثم تدغم إحداهما
في الأخرى فتثقل، فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا. (1)
* * *
فمعنى الآية: وقالت النصارى، الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا
الله ربنا، كما كلم أنبياءه ورسله، أو تجيئنا علامة من الله
نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل
ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم، قال
من قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة،
ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الأماني.
فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم
بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي
قالوها.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 75، وعبارة الطبري هنا تصحح
الخطأ الذي هناك.
(2/556)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ
بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قد بينا الآيات لقوم
يوقنون) ، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على
اليهود، وجعل منهم القردة والخنازير، وأعد لهم العذاب المهين
في معادهم، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا، وأعد
لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة، والتي من أجلها جعل سكان
الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة
وغيرها. فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من
الله ما فعل به من ذلك، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون،
لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء
على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه
الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر، إذْ
كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر
سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من
الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفي عن خبر
الله عز وجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا}
قال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ، إنا أرسلناك يا محمد
بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان، وهو الحق؛
مبشرا من اتبعك فأطاعك، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق -
بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الآخرة، والنعيم المقيم
فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد
(2/557)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ (119)
عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في
الدنيا، والذل فيها، والعذاب المهين في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ (119) }
قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: (ولا تسئل عن أصحاب
الجحيم) ، بضم"التاء" من"تسئل"، ورفع"اللام" منها على الخبر،
بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغت ما
أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسئولا عمن كفر
بما أتيته به من الحق، وكان من أهل الجحيم.
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ولا تَسألْ) جزما. بمعنى النهي،
مفتوح"التاء" من"تسأل"، وجزم"اللام" منها. ومعنى ذلك على قراءة
هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا
لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا
هذه القراءة ما:-
1875- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن
محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري
ما فعل أبواي؟ فنزلت: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) .
1876- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
الثوري، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما
فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ " ثلاثا، فنزلت: (إنا
أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم) ، فما
ذكرهما حتى توفاه الله. (1)
__________
(1) الحديثان: 1875، 1876 - هما حديثان مرسلان. فإن محمد بن
كعب بن سليم القرظي: تابعي. والمرسل لا تقوم به حجة، ثم هما
إسنادان ضعيفان أيضًا، بضعف راويهما: موسى بن عبيدة بن نشيط
الربذي: ضعيف جدا، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 /1/
291، والصغير: 172 - 173، وابن أبي حاتم 4 /1 /151، فقال
البخاري: "منكر الحديث قاله أحمد بن حنبل. وقال علي بن
المديني، عن القطان: كنا نتقيه تلك الأيام". وروى ابن أبي حاتم
عن الجوجزاني قال: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية
عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أبا عبد الله، لا يحل؟ قال:
عندي، قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال: لو بان لشعبة ما
بان لغيره ما روى عنه". وقال ابن معين: "لا يحتج بحديثه". وقال
أبو حاتم: "منكر الحديث". وأبوه"عبيدة"، بالتصغير، ووقع في
المطبوعة في الإسنادين"عبدة". وهو خطأ.
(2/558)
1877- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال،
حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم:"ليت شعري أين أبواي؟ "
فنزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب
الجحيم) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ
بالرفع، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود
والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه،
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنا أرسلناك) يا محمد
(بالحق بشيرا) ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم
أقصص عليك أنباءه، (ونذيرا) من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي،
فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة،
ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله:
(ولا تسأل عن
__________
(1) الحديث: 1877 - وهذا مرسل أيضًا، لا تقوم به حجة.
داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة، ويروى
عن بعض التابعين أيضًا. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/210.
والجرح 1/2/421. ووقع في المطبوعة"داو عن أبي عاصم". وهو
تحريف، صححناه من ابن كثير 1: 297.
ونقل ابن كثير 1: 296 عن القرطبي أنه قال: "وقد ذكرنا في
التذكرة أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: إن
أبي وأباك في النار". ثم علق ابن كثير، فقال: "الحديث المروي
في حياة أبويه عليه السلام - ليس في شيء من الكتب الستة ولا
غيرها، وإسناده ضعيف".
وأنا أرى أن الإفاضة في مثل هذا غير مجدية، وما أمرنا أن نتكلف
القول فيه.
(2/559)
أصحاب الجحيم) ، وجه يوجه إليه. وإنما
الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي
دلالة بينة تقوم بها الحجة، على أن المراد به غير ما دل عليه
ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به
الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل -في هذه
الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر
التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل
هذه الآية، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل
الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. (1)
* * *
فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في
استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل
الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن
كعب، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد
قوله: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) ، بـ "الواو" - بقوله:
(ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، وتركه وصل ذلك بأوله بـ "الفاء"،
وأن يكون:"إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب
الجحيم" - (2) أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: (3) "ولا
تسئل"، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها
في قراءة أبي: (وما تسأل) ، وفي قراءة ابن مسعود: (ولن تسأل) ،
وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه، دون النهي. (4)
* * *
__________
(1) حجة قوية لا ترد، وبصر بسياق معاني القرآن وتتابعها. ولكن
كثيرا من الناس يغفلون عن مواطن الحق في موضع بعينه، لاختلاط
الأمر عليهم لمشابهته لموطن آخر في موضع غيره، كما سترى في
التعليق التالي رقم: 40.
(2) كان في المطبوعة: "بالواو يقول: فلا تسئل عن أصحاب الجحيم.
. . بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم" وهو خطأ كما
استدركه مصحح المطبوعة في تعليقه.
(3) في المطبوعة: "أوضح الدلائل" بالجمع، والإفراد هو الصواب،
وكأنه سبق قلم من ناسخ.
(4) قال ابن كثير في تفسيره 1: 297" وقد رد ابن جرير هذا القول
المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك؛ لاستحالة الشك من الرسول
صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى. وهذا
الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره
لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر
عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح. ولهذا أشباه
كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم".
ينسى ابن كثير غفر الله له، ما أعاد الطبري وأبدأ من ذكر سياق
الآيات المتتابعة، والسياق كما قال هو في ذكر اليهود والنصارى
وقصصهم، وتشابه قلوبهم في الكفر بالله، وقلة معرفتهم بعظمة
ربهم، وجرأتهم على رسل الله وأنبيائه، وكل ذلك موجب عذاب
الجحيم، فما الذي أدخل كفار العرب في هذا السياق؟ نعم إنهم
يدخلون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، كما يدخل فيه كل مشرك من
العرب وغيرهم. وقد بينا آنفًا ص: 521 تعليق: 1 أن هذه الآيات
السالفة والتي تليها، دالة أوضح الدلالة على أن قصتها كلها في
اليهود والنصارى، ولا شأن لمشركي العرب بها. وإن دخل هؤلاء
المشركون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، وإذن فسياق الآيات
يوجب أن تكون في اليهود والنصارى، فتخصيص شطر من آية بأنه نزل
في أمر بعض مشركي الجاهلية. تحكم بلا خبر ولا بينة. (وانظر ص:
565) .
إن ابن كثير غفل عن معنى الطبري، فإن الطبري أراد أن يدل على
شيئين: أن خبر محمد بن كعب لا يصح، وأنه إن صح عنه من وجه، فإن
نزول الآية لم يكن لهذا الذي روي عنه. وبيان ذلك: أن الخبر لا
يصح، لأنه جاء على صيغة التشكك من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، في أمر بعض أهل الجاهلية: ما فعل به، في جنة أو نار!
وهذا مما يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرق كبير
بين أن يستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه اللذين
كانا من أهل الجاهلية، وعلى مثل أمرها من الشرك، وبين أن يتشكك
في أمرهما فيقول:"ليت شعري ما فعل أبواي؟ ". وإنما يصح كلام
ابن كثير، إذا كان بين هذا التشكك، وبين الاستغفار رابط يوجب
أن يكون أحدهما ملازما للآخر، أو بسبب منه. ثم يرد الخبر
أيضًا، لأن سياق الآيات يدل ظاهرها البين على أنها في اليهود
والنصارى نزلت، فلا يمكن تخصيص شطر من آية من هذه الآيات
المتتابعة، على خبر لا يصح، لعلة موهنة له. فلست أدري لم أقحم
ابن كثير الاستغفار والتبرؤ في هذا الموضع، مع وضوح حجة الطبري
في الفقرة السالفة. من جهة السياق، وفي هذه الفقرة من جهة
العربية؟
إن بعض المشكلات التي يدور عليها جدال الناس، ربما أغفلت مثل
ابن كثير عن مواطن الدقة والصواب والتحري، وهم يفسرون كتاب
الله الذي لا يخالف بعضه بعضا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، ونستهديك في
البيان عن معاني كتابك.
(2/560)
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: (ولا
تسأل عن أصحاب الجحيم) إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا
أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك
إذا ضم"التاء"، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك
قراءته:"ولا تسأل"، بفتح"التاء" وضم"اللام" على وجه الخبر
بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب
الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك.
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما
روي عن ابن
(2/561)
مسعود وأبي من القراءة، (1) لأن إدخالهما
ما أدخلا من ذلك من"ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله
وابتداء قوله: (ولا تسأل) . وإذا كان ابتداء لم يكن حالا.
* * *
وأما (أصحاب الجحيم) ، ف"الجحيم"، هي النار بعينها إذا شبت
وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
إذا شبت جهنم ثم دارت ... وأَعْرَض عن قوابسها الجحيم (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: يرفعهما ما روي. . . " والصواب ما أثبت.
(2) ديوانه: 53، وروايته: "ثم فارت"، وكأنها هي الصواب، وأخشى
أن يكون البيت محرفا. لم أعرف معنى"قوابسها" هناك،
وأظنه"قدامسها" جمع قدموس، وهي الحجارة الضخمة الصلبة، كقوله
تعالى: "وقودها الناس والحجارة"، وأعرض الشيء اتسع وعرض،
وقوله"عن" أي بسبب قذف هذه الحجارة فيها. هذا أقرب ما اهتديت
إليه من معناه، ويرجح ذلك البيت الذي يليه، وفيه جواب"إذا":
تحش بصندل صم صلاب ... كأن الضاحيات لها قضيم
وكأنه يعني بالضاحيات: النخيل. وشعر أمية مشكل على كل حال.
(2/562)
|