تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ،
وليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب
ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما
بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل
إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك
إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية،
والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية
(2/562)
في شخص واحد في حال واحدة، واليهود
والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا،
وذلك مما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك
دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في
وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم
يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى
الألفة عليه سبيل.
* * *
وأما"الملة" فإنها الدين، وجمعها الملل.
* * *
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد -
لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) - (إن هدى
الله هو الهدى) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء
الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه
لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من
عند الله، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل
الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ.
وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى
الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن
الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى
الله عليه وسلم، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولئن اتبعت) ، يا محمد،
هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر،
فصرت من ذلك
(2/563)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم - من بعد
الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي
اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي =
يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به =
ولا نصير، ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته،
ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى"الولي"
و"النصير" فيما مضى قبل. (1)
وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال
كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه، غيرنا من
سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة
بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه
بقوله: (الذين آتيناهم الكتاب) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من أصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
1878- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، هؤلاء أصحاب نبي الله
صلى الله عليه وسلم، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل، الذين آمنوا
بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله
فيها من اتباع محمد صلى
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 488، 489.
(2/564)
الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق بما
جاء به من عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
1879- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ، قال: من كفر بالنبي صلى
الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون.
* * *
وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات
قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله،
وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم
يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر،
فيكون قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، موجها إلى الخبر عنهم،
ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى
أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد
انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم
له. (1)
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها
إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [قصصهم] في الآية قبلها
والآية بعدها، (2) وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ
كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد
عرفته يا محمد -وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه، فصدقوك
وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حق تلاوته.
* * *
__________
(1) رحم الله أبا جعفر، فهو لا يدع الاحتجاج الصحيح عند كل
آية، ولكن بعض أهل التفسير يتجاوزون ويتساهلون، فليتهم نهجوا
نهجه في الضبط والحفظ والاستدلال.
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها.
(2/565)
وإنما أدخلت الألف واللام في"الكتاب" لأنه
معرفة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي
الكتب عنى به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل:
(يتلونه حق تلاوته) ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.
*ذكر من قال ذلك:
1880- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي، وعبد
الأعلى، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا، عن
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) ، يتبعونه حق
اتباعه.
1881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن
عكرمة بمثله.
1880- وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
داود بن أبي هند، عن عكرمة بمثله.
1883- حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط،
عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل:
(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، قال: يحلون حلاله ويحرمون
حرامه، ولا يحرفونه. (1)
1884- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: (يتلونه حق تلاوته) ،
فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه.
1885- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان
قال:
__________
(1) الأثر: 1883 - في المطبوعة: "الحسن بن عمرو العبقري"،
وانظر التعليق على الأثر رقم: 1625 وكذلك مضى في الأثر:
1655"الحسن"، وهو خطأ، نصححه.
(2/566)
حدثنا يزيد، عن مرة، عن عبد الله في قول
الله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) : قال: يتبعونه حق اتباعه.
1886- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي
نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه
كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا
على غير تأويله.
1887- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود في قوله:
(يتلونه حق تلاوته) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن
مواضعه.
1888- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال،
حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عباس:
(يتلونه حق تلاوته) يتبعونه حق اتباعه.
1889- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
عباد بن العوام، عن الحجاج، عن عطاء، بمثله.
1890- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ،
قال: يتبعونه حق اتباعه.
1891- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان
-وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان-
وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم،
عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله.
1892- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد:
(يتلونه حق تلاوته) ، قال: عملا به. (1)
__________
(1) الأثر: 1892 - في المطبوعة: "أبو حميد"، والصواب ما اثبت،
وهو محمد بن حميد، وهو كثير ذكره فيما سلف.
(2/567)
1893- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال:
يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا
تَلاهَا) [سورة الشمس: 2] ، يعني الشمس إذا تَبعها القمر.
1894- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء وقيس بن سعد، عن
مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يعملون به حق عمله.
1895- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال، يتبعونه حق
اتباعه.
1896- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
1897- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، يعملون به حق
عمله.
1898- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال،
حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق
تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.
1899- حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن
أبي جعفر، عن أبي أيوب، عن أبي الخليل، عن مجاهد: (يتلونه حق
تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه. (1)
__________
(1) الخبر: 1899 - أبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح
الشين المعجمة - الخراساني، وهو ثقة مأمون، أخرج له البخاري
وأصحاب السنن. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/160، وابن أبي
حاتم 2/1/1226.
الحسن بن أبي جعفر الجفري: حسن الحديث، تكلموا فيه، ورجحنا
تحسين أحاديثه مفصلا في شرح المسند: 5818. مترجم في التهذيب،
والكبير 1/2/286 وابن أبي حاتم 1/2/29. و"الجفري": بضم الجيم
وسكون الفاء، نسبة إلى"جفرة خالد" بالبصرة. كما في الأنساب
واللباب والمشتبه. أيوب: هو السختياني، وفي المطبوعة"عن أبي
أيوب". وهو خطأ. استقينا تصويبه من التراجم. أبو الخليل: هو
صالح بن أبي مريم الضبعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير
2/2/290 وابن أبي حاتم 2/1/415 - 416.
(2/568)
1900- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان،
عن عبد الملك، عن عطاء قوله: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه
حق اتباعه، يعملون به حق عمله.
1901- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن المبارك، عن
الحسن: (يتلونه حق تلاوته) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون
بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. (1)
1902- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: أحلوا حلاله،
وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول:
إن حق تلاوته: أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله
الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه.
1903- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن
عطية، سمعت قتادة يقول: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق
اتباعه. قال: اتباعه: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما
أنزل.
1904- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم
عن داود، عن عكرمة في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه
حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: (وَالْقَمَرِ إِذَا
تَلاهَا) [سورة الشمس: 2] ، قال: إذا تبعها.
* * *
وقال آخرون: (يتلونه حق تلاوته) ، يقرءونه حق قراءته. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى:
يتبعونه حق اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره، إذا اتبع
أثره، (3) لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
__________
(1) الخبر: 1901 - مبارك: هو ابن فضالة. وهو من أخص الناس
بالحسن البصري. كما قلنا في: 611.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 411.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 411.
(2/569)
وإذ كان ذلك تأويله، فمعنى الكلام: الذين
آتيناهم الكتاب، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما
جئتهم به من الحق من عندي، يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي
موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك
وصفتك، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق
بما جئتهم به من عندي، ويعملون بما أحللت لهم، ويجتنبون ما
حرمت عليهم فيه، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا
يغيرونه - كما أنزلته عليهم - بتأويل ولا غيره.
* * *
أما قوله: (حق تلاوته) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب
ولزومهم العمل به، كما يقال:"إن فلانا لعالم حق عالم"، وكما
يقال:"إن فلانا لفاضل كل فاضل" (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في إضافة"حق" إلى المعرفة، فقال بعض
نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى"أي"،
وبمعنى قولك:"أفضل رجل فلان"، و"أفعل" لا يضاف إلى واحد معرفة،
لأنه مبعض، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن
يقال:"مررت بالرجل حق الرجل"، و"مررت بالرجل جِدِّ الرجل"، كما
أحالوا"مررت بالرجل أي الرجل"، وأجازوا ذلك في"كل الرجل" و"عين
الرجل" و"نفس الرجل". (2) وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه
الحروف كانت في الأصل توكيدا، فلما صرن مدوحا، تركن مدوحا على
أصولهن في المعرفة.
وزعموا أن قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، إنما جازت إضافته إلى
التلاوة، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب"الهاء" -إذا
عادت إلى نكرة - بالنكرة، فيقولون:"مررت برجل واحد أمه، ونسيج
وحده، وسيد قومه"، قالوا: فكذلك قوله: (حق تلاوته) ، إنما جازت
إضافة"حق" إلى"التلاوة" وهي مضافة إلى
__________
(1) انظر سيبويه 1: 223 - 224.
(2) في المطبوعة"غير الرجل".
(2/570)
"الهاء"، لاعتداد العرب ب"الهاء" التي في
نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك"حق التلاوة"،
لوجب أن يكون جائزا:"مررت بالرجل حق الرجل".
فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق
تلاوة.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة"حق" إلى النكرات مع
النكرات، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول
القائل:"مررت بالرجل غلام الرجل"، و"برجل غلام رجل".
فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق
تلاوته (1)
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: (حق
تلاوته) ، أي تلاوة، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها
وتفضيلها."وأي" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم.
وكذلك"حق" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة.
وإنما أضيف في (حق تلاوته) إلى ما فيه"الهاء" لما وصفت من
العلة التي تقدم بيانها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك) ، هؤلاء الذين
أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته، وأما
قوله: (يؤمنون) ، فإنه يعني: يصدقون به. و"الهاء" التي في
قوله:"به" عائدة على"الهاء" التي في"تلاوته"، وهما جميعا من
ذكر الكتاب الذي قاله الله: (الذين آتيناهم الكتاب) .
فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة، هو المتبع ما فيها من
حلالها وحرامها، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها
فيها على أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته،
دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها، مغيرا
__________
(1) الصواب أن يقول: "حق تلاوة الكتاب"، ولعل الناسخ أخطأ.
(2/571)
سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة،
وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي
الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه، لأن التوراة تأمر أهلها
بذلك، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته، وفرض طاعته على جميع
خلق الله من بني آدم، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر
جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه
وسلم، وهم العاملون بما فيها، كما:-
1905- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (أولئك يؤمنون به) ، قال: من آمن برسول الله صلى الله
عليه وسلم من بني إسرائيل، وبالتوراة، وإن الكافر بمحمد صلى
الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر، كما قال جل ثناؤه: (ومن
يكفر به فأولئك هم الخاسرون) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يكفر به) ، ومن يكفر
بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق
تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: (يكفر) ، يجحد ما فيه من فرائض
الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه، ويبدله فيحرف
تأويله، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم، فبخسوا أنفسهم
حظوظها من رحمة الله، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن
زيد في قوله، بما:-
1906- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الخاسر" 1: 417 ثم هذا الجزء 2: 166.
(2/572)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
(ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) ، قال:
من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود، (فأولئك هم
الخاسرون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين
كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكير
منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم، استعطافا
منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال:
يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم، وصنائعي عندكم، واستنقاذي
إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المن والسلوى
في تيهكم، وتمكيني لكم في البلاد، بعد أن كنتم مذللين مقهورين،
واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين
ظهرانيه، أيام أنتم في طاعتي- (1) باتباع رسولي إليكم، وتصديقه
وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التمادي في الضلال والغي.
وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل،
والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم، والعالم الذي
فضلوا عليه - فيما مضى قبل، بالروايات والشواهد، فكرهنا تطويل
الكتاب بإعادته، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك
واحدا. (2)
* * *
__________
(1) إن لم يكن قد سقط هنا قوله: "وأعظكم باتباع رسولي. . "،
فإن قوله" باتباع رسولي" متعلق بقوله في صدر الخطاب: "اذكروا
أيادي لديكم. . ".
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 23 - 26.
(2/573)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123)
القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(123) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت
عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم:
واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنزيلي،
المحرفين تأويله عن وجهه، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه
وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا تغني عنها
غناء، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي، وتكذيبكم
رسولي، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها
فدية، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع، ولا هي ينصرها
ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه. (1)
* * *
وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل، فأغنى
ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولا هم ينصرهم"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 26 - 36.
(2/574)
وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذ ابتلى) ، وإذا اختبر.
* * *
يقال منه:"ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء"، ومنه قول الله عز وجل:
(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) [سورة النساء: 6] ، يعني به:
اختبروهم. (1) .
* * *
وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها
عليه، وأمر أمره به. وذلك هو"الكلمات" التي أوحاهن إليه، وكلفه
العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"الكلمات" التي ابتلى الله بها
إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.
* * *
فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما. (2)
* ذكر من قال ذلك:
1907- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات" قال،
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 2: 48، 49.
(2) السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي
القداح. ثم سمى ما يفوز به الفالج سهما، ثم كثر حتى سمى كل
نصيب سهما. وقوله هنا يدل على أنهم استعملوه في كل جزء من شيء
يتجزأ وهو جملة واحدة. فقوله: "سهما" هنا، أي خصلة وشعبة.
وسيأتي شاهدها في الأخبار الآتية.
(2/7)
قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين
فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب
الله له البراءة فقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة
النجم: 37] . قال: عشر منها في"الأحزاب"، وعشر منها في"براءة"،
وعشر منها في"المؤمنون" و"سأل سائل"، وقال: إن هذا الإسلام
ثلاثون سهما. (1)
1908- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان، عن داود،
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به
كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة
فقال:"وإبراهيم الذي وفى"، فذكر عشرا في"براءة" [112] فقال:
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) إلى آخر الآية،
(2) وعشرا في"الأحزاب" [35] ، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ) ، وعشرا في"سورة المؤمنون" [1-9] إلى قوله:
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ، وعشرا
في"سأل سائل" [22-34] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ) .
1909- حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن
الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتلي بهذا
الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم، قال الله: (وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) ، فكتب الله له براءة من النار. (3)
* * *
__________
(1) سيأتي بيانها في الأثر التالي.
(2) في المطبوعة: "الآيات"، والصواب ما أثبت.
(3) الخبر 1909- عبد الله بن أحمد بن شبويه: هو عبد الله بن
أحمد بن محمد بن ثابت بن مسعود بن يزيد، أبو عبد الرحمن، عرف
بابن شبويه، وهو من أئمة الحديث، كما قال الخطيب. مترجم في
تاريخ بغداد 9: 371، وله ترجمة موجزة في ابن أبي حاتم. ووقع في
المطبوعة هنا"عبيد الله بن أحمد بن شبرمة". وهو تحريف وخطأ.
صححناه من التاريخ، ومما سيأتي في التفسير.
علي بن الحسن بن شقيق بن دينار: ثقة، من شيوح أحمد، والبخاري،
وغيرهما. مترجم في التهذيب، وفي شرح المسند: 7437.
وهذا الخبر سيأتي بهذا الإسناد، في التفسير: 27: 43 (بولاق) .
وكذلك رواه أبو جعفر بهذا الإسناد، في التاريخ 1: 144.
وذكره ابن كثير 1: 302، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والحاكم.
وذكره السيوطي 1: 111-112، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن
مردويه، وابن عساكر. وهذا الإسناد صحيح.
(2/8)
وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
1910- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في
الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك،
وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان،
ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. (1)
1911- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن
عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول.
1912- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو
هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"
قال، ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر،
والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو
هلال: ونسيت خصلة.
1913- حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
مطر، عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في
الإنسان: سنة:
__________
(1) الخبر: 1910- وهذا الإسناد صحيح أيضًا.
وهو في تفسير عبد الرزاق (مخطوطة دار الكتب المصورة) ، بهذا
الإسناد.
وكذلك رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 144، من تفسير عبد الرزاق.
بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الحاكم 2: 266، من طريق ابن طاوس عن أبيه، به.
وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه
الذهبي.
وذكره ابن كثير 1: 301. وكذلك ذكره السيوطي 1: 111 وزاد نسبته
إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في
سننه.
(2/9)
الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف
الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة،
وغسل الدبر والفرج (1) .
* * *
وقال بعضهم: بل"الكلمات" التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في
تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج.
*ذكر من قال ذلك:
1914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب
قال، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في
قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ستة في
الإنسان، وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة،
والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم
الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة،
ورمي الجمار، والإفاضة. (2)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك:"إني جاعلك للناس إماما"، في مناسك الحج.
* ذكر من قال ذلك:
1915- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل
بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، وآيات النسك.
(3)
1916- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت
إسماعيل
__________
(1) الخبر: 1913- مطر: هو ابن طهمان الوراق. وأبو الجلد: بفتح
الجيم وسكون اللام، سبق بيانه: 434. وفي المطبوعة"أبو الخلد"
بالخاء المعجمة بدل الجيم، وهو تصحيف تكرر فيها كثيرا.
البراجم جمع برجمة (بضم الباء وسكون الراء وضم الجيم) : وهي
ظهور القصب من مفاصل الأصابع.
(2) الخبر: 1914- ابن هبيرة: هو عبد الله بن هبيرة السبائي
المصري، وهو ثقة، وثقه أحمد وغيره، وخرج له مسلم في الصحيح.
حنش، بفتحتين وبالشين المعجمة: هو ابن عبد الله السبائي
الصنعاني، من صنعاء دمشق -وهي قرية بالغوطة من دمشق- وهو تابعي
ثقة.
وهذا الخبر رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى.
عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد - كما في ابن كثير 1:
302. وهو إسناد صحيح.
(3) يأتي بيان آيات النسك في الخبرين التاليين.
(2/10)
بن أبي خالد، عن أبي صالح مولى أم هانئ في
قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن"إني جاعلك
للناس إماما" ومنهن آيات النسك: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة: 127] .
1917- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما
هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال:
لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال:
نعم. [قال] : وأمنا. قال: نعم. [قال] : وتجعلنا مسلمين لك، ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [قال] : وترينا مناسكنا وتتوب
علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال:
وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.
1918- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
1919- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.
1920- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول
مجاهد وعكرمة جميعا.
1921- حدثنا سفيان قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ابتلي
بالآيات التي بعدها:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال
لا ينال عهدي الظالمين".
1922- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
(2/11)
الربيع في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن"، فالكلمات:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وإذ
جعلنا البيت مثابة للناس"، وقوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى" وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية، وقوله:"وإذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت" الآية. قال: فذلك كله من
الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. (1)
1923- حدثني محمد بن سعد (2) قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"،
ومنهن:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، ومنهن الآيات في
شأن النسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو
البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
1924- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر
بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات" قال، مناسك الحج. (3)
1925- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله:"وإذ ابتلى
إبراهيم ربه بكلمات" قال، المناسك.
__________
(1) في المطبوعة: "فذلك كلمة من الكلمات"، والصواب من ابن كثير
1: 303.
(2) في المطبوعة: "محمد بن سعيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في
الطبري، وانظر رقم: 305.
(3) الخبر: 1924- هذا الإسناد ضعيف من ناحيتين. أما سلم -بفتح
السين وسكون اللام- ابن قتيبة أبو قتيبة: فإنه ثقة، خرج له
البخاري في صحيحه. وأما الضعف، فلأن"عمر بن نبهان الغبري" بضم
الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة: ضعيف جدا، ذمه الإمام أحمد،
وقال ابن معين: ليس بشيء. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
3/1/138. والوجه الآخر من الضعف: أنه منقطع، لأن قتادة لم يدرك
ابن عباس.
(2/12)
1926- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه
بالمناسك.
1927- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي
بها إبراهيم، المناسك.
1928- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله:"وإذ
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، مناسك الحج.
1929- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى
إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن مناسك الحج. (1)
* * *
وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.
* ذكر من قال ذلك:
1930- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن
أبي إسحاق، عن الشعبي:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال،
منهن الختان.
1931- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس
بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.
1932- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول
الله:"وإذ ابتلى
__________
(1) الخبران: 1928، 1929- أبو إسحق: هو السبيعي، عمرو بن عبد
الله الهمداني، الإمام التابعي الثقة، التميمي: هو"أربدة"
بسكون الراء وكسر الباء الموحدة. ويقال"أربد" بدون هاء. وهو
تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/64، وابن
أبي حاتم 1/1/345، وقد عرف بأني راوي التفسير عن ابن عباس. وفي
المسند: 2405- في حديث آخر"عن أبي إسحاق، عن التميمي الذي يحدث
التفسير". لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي.
(2/13)
إبراهيم ربه بكلمات" - قال، منهن الختان،
يا أبا إسحاق.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس،
والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن.
* ذكر من قال ذلك:
1933- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي
رجاء، قال: قلت للحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن".
قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛
وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه
بالهجرة، وابتلاه بالختان.
1934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا
سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر
فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف
أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه
حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة،
فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.
1935- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، وبالكوكب،
والشمس، والقمر.
1936- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو
هلال، عن الحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه
بالكوكب، وبالشمس والقمر، فوجده صابرا.
* * *
وقال آخرون بما:
1937- حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا
(2/14)
أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن
إبراهيم ربه: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ
لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ)
[سورة البقرة: 127-129]
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله
عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن
إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه
أنه فعل. (1) وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا
قوله في تأويل"الكلمات"، وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم
صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به،
وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك،
فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن
إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا
بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم،
أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل
الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو
ثبتا، أو أحدهما، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب.
أحدهما، ما:-
1938- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني
زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله
إبراهيم خليله: (الَّذِي وَفَّى) ؟ [سورة النجم:37] لأنه كان
يقول كلما أصبح وكلما أمسى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [سورة الروم: 17] حتى يختم
الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وأتمهن" بالواو، والأجود ما أثبت.
(2) الحديث: 1939- إسناده منهار لا تقوم له قائمة. وقد ضعفه
الطبري نفسه، هو والحديث الذي بعده. وقال ابن كثير 1: 304- بعد
إشارته إلى ذلك: "وهو كما قال، فإنه لا يجوز روايتهما إلا
ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجود عديدة، فإن كلا من السندين
مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل
على ضعفه".
رشدين بن سعد: ضعيف جدا، وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند:
5748، و"رشدين": بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وكسر الدال
وبعد الياء نون، ووقع في المطبوعة وفي ابن كثير"راشد". وهو
تصحيف.
زبان بن فائد المصري الحمراوي: ضعيف أيضًا. قال أحمد: "أحاديثه
مناكير"، وضعفه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/405،
وابن أبي حاتم 1/2/616. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص:
210 مخطوطة مصور عندي) : "منكر الحديث جدا، يتفرد عن سهل بن
معاذ بنسخة كأنها موضوعة". و"زبان": بالزاي المعجمة وتشديد
الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة"ريان" بالراء والتحتية، وهو
تصحيف.
سهل بن معاذ بن أنس الجهني: ضعيف أيضًا، ضعفه ابن معين. وقال
ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: 232) : "روى عنه زبان بن فائد،
منكر الحديث جدا. فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من
زبان بن فائد؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها أحدهما
ساقطة".
وهذا الحديث -على ما فيه من ضعف شديد- رواه أحمد في المسند:
15688 (ج 3 ص 439 حلبي) . بل إنه روى هذه النسخة، التي كاد ابن
حبان أن يجزم بأنها موضوعة.
(2/15)
والآخر منهما ما:-
1939- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا
إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإبراهيم الذي وفى" قال، أتدرون
ما"وفى"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفي عمل يومه، أربع
ركعات في النهار. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 1939- ضعفه أيضًا الطبري ووافقه ابن كثير، كما
قلنا في الذي قبله. الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي: ثقة، روى
عنه البخاري في الكبير 2/1/299، ولم يذكر فيه جرحا، وروى عنه
أبو حاتم وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: "صدوق". وهو مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/27. وهو غير"الحسن بن عطية بن سعد
العوفي، السابق ترجمته في: 305.
إسرائيل: هو ابن يونس بن إسحاق السبيعي، وهو ثقة، مضى في:
1291.
جعفر بن الزبير الحنفي، أو الباهلي، الدمشقي ثم البصري: ضعيف
جدا. مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 1/2/191، وفي
الضعفاء له، ص: 7، وقال: "متروك الحديث، تركوه"، وفي ابن أبي
حاتم 1/1/479. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: 142) :
"روى عن القاسم مولى معاوية وغيره، أشياء كأنها موضوعة". وقال
أبو حاتم: "روى جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، نسخة
موضوعة، أكثر من مئة حديث".
وأما القاسم: فهو ابن عبد الرحمن الشامي، وكنيته أبو عبد
الرحمن، وقد اختلف فيه، والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه
إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند:
598، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: 2376.
والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 6: 129، ونسبه أيضًا
لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه،
وغيرهم، وقال: "بسند ضعيف".
(2/16)
قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن
أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم
فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى:"فسبحان الله حين تمسون
وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون"-
أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته، كان معلوما أن الكلمات التي
أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع
ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى"الكلمات" التي أخبر
الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا.
ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن
أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن
قوله:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم
وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" وسائر الآيات التي هي نظير
ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فأتمهن"، فأتم إبراهيم
الكلمات. و"إتمامه إياهن"، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب
عليه فيهن، وهو الوفاء الذي
__________
(1) وقد نقل ابن كثير في تفسيره 1: 304 هذه الفقرة من أول
قوله"ولو قال قائل" ثم عقب عليه بقوله: "قلت: والذي قاله أولا:
من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول
مجاهد ومن قال مثله. لأن السياق يعطى غير ما قالوه، والله
أعلم". لم يأت ابن كثير بشيء، فإن قول الطبري بين، وهو قاض بأن
الصواب هو القول الأول، وأن هذا الثاني لو قيل كان مذهبا. وهذه
كلمة تضعيف لا كلمة تقوية.
(2/17)
قال الله جل ثناؤه: (وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم: 37] ، يعني وفى بما عهد
إليه،"بالكلمات"، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، (1)
كما:-
1940- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فأتمهن"، أي فأداهن.
1941- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
1942- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إني جاعلك للناس إماما"،
فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى
به، كما:-
1943- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"إني جاعلك للناس إماما"، ليؤتم به ويقتدى به.
* * *
يقال منه:"أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة"، إذا كنت إمامهم.
* * *
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم:"إني جاعلك للناس إماما"،
إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي، تتقدمهم أنت،
(2) ويتبعون هديك، ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك
ووحيي إليك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يعني: وفى بما عهد إليه بالكتاب فأمره به من
فرائضه ومحنه فيها"، وهي عبارة مضطربة لا تستقيم، وكأن الصواب
ما أثبته.
(2) في المطبوعة: "فتقدمهم أنت"، ليست بشيء.
(2/18)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله
منزلته وكرمه، فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في
الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس
غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه -: يا رب، ومن
ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي
ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:-
1944- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، قال: قال إبراهيم:"ومن ذريتي"، يقول: فاجعل من ذريتي
من يؤتم به ويقتدى به.
* * *
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم:"ومن ذريتي"، مسألة منه ربه
لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه، كما قال: (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [سورة إبراهيم:35] ،
فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه،
بقوله:"لا ينال عهدي الظالمين".
* * *
والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة.
لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه:"ومن ذريتي"، في إثر قول الله
جل ثناؤه:"إني جاعلك للناس إماما". فمعلوم أن الذي سأله
إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه،
لكان مبينا. (1) ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى
بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته، فقال:"ومن ذريتي"،
بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.
* * *
__________
(1) قوله: "لكان مبينا"، أي لجاء ما سأل إبراهيم ربه مبينا في
الآية.
(2/19)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) }
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون
إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما
يتوهم في مسألته إياه (1) أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر
أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير
مُصَيِّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة
بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون
أعدائه والكافرين به.
* * *
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين
أن ينالوه.
فقال بعضهم: ذلك"العهد"، هو النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
1945- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، يقول: عهدي، نبوتي.
فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل
الظلم والشرك.
* * *
وقال آخرون: معنى"العهد": عهد الإمامة.
فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم
ظالما، إماما لعبادي يقتدى به.
* ذكر من قال ذلك:
1946- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قال لا ينال عهدي الظالمين"
قال، لا يكون إمام ظالما.
__________
(1) في المطبوعة: "لما توهم"، وهي خطأ، والصواب ما أثبته،
بالبناء للمجهول.
(2/20)
1947- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الله:"لا ينال
عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالما.
1948- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن عكرمة بمثله.
1949- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،
عن منصور، عن مجاهد في قوله:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال،
لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
1950- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
1951- حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان،
عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا
أجعل إماما ظالما يقتدى به. (1) .
1952- حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد
الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي
الظالمين" قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.
1953- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
__________
(1) الخبر: 1951- مشرف بن أبان أبو ثابت الحطاب، شيخ الطبري:
ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 13: 224، وذكر أنه يروي عن ابن
عيينة، وغيره. مات ببغداد سنة 243. ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا
غير ذلك، و"مشرف": بوزن"محمد"، كما نص على أنه الجادة في
المشتبه للذهبي، ص: 484، والتبصير للحافظ ابن حجر (مخطوط مصور)
.
ووقع في المطبوعة"مسروق"، وهو خطأ بين، وقد مضى في: 1383
باسم"بشر بن أبان الحطاب". وهو خطأ أيضًا. ثم هو سيأتي على
الصواب: "مشرف" - في: 2382.
وأما"الحطاب"، فهكذا هو الثابت هنا بالحاء المهملة، وفي تاريخ
بغداد"الخطاب" بالمعجمة. ولم أستطع الترجيح بينهما.
(2/21)
ابن جريج، عن مجاهد:"لا ينال عهدي
الظالمين": قال: لا يكون إماما ظالم.
قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال:"إني جاعلك للناس إماما قال
ومن ذريتي"، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما
عهده؟ قال: أمره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في
ظلمه.
* ذكر من قال ذلك:
1954- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا ينال عهدي
الظالمين"، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
1955- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن
عباس:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، ليس للظالمين عهد، وإن
عاهدته فانقضه.
1956- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال، ليس
لظالم عهد.
* * *
وقال آخرون: معنى"العهد" في هذا الموضع: الأمان.
فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي،
وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
1957- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، ذلكم عند الله
يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا، فقد نالوا
عهد الله، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. (1) فلما
كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.
__________
(1) في المطبوعة: "وعادوهم"، والصواب من الدر المنثور 1: 118،
وقوله: "غازوهم" أي كانوا معهم في الغزو وشاركوهم في الغنائم.
(2/22)
1958- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا ينال عهدي
الظالمين" قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في
الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.
1959- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن،
عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم:"قال لا ينال عهدي الظالمين"
قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد
ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.
* * *
وقال آخرون: بل"العهد" الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين
الله.
* ذكر من قال ذلك:
1960- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قال: قال الله لإبراهيم:"لا ينال عهدي الظالمين" فقال:
فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه
الظالمين. ألا ترى أنه قال: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى
إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [سورة الصافات:113] ، يقول: ليس كل ذريتك
يا إبراهيم على الحق.
1961- حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،
عن الضحاك في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهدي
عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر = عن أنه
لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو
النبوة والإمامة لأهل الخير،
__________
(1) الأثر: 1961- يحيى بن جعفر، هو يحيى بن أبي طالب، وانظر
الأثر رقم: 284.
(2/23)
بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي
بالوفاء به ينجو في الآخرة، من وفى لله به في الدنيا (1) - من
كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق (2) . فهو إعلام
من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن
قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده، كالذي:-
1962- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا
عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي
الظالمين" قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون (3)
* * *
وأما نصب"الظالمين"، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.
وذكر أنه في قراءة ابن مسعود:"لا ينال عهدي الظالمون"، بمعنى:
أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.
* * *
وإنما جاز الرفع في"الظالمين" والنصب، وكذلك في"العهد"، لأن كل
ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال:"نالني خير فلان، ونلت
خيره"، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
__________
(1) سياق هذه الجملة المعترضة: ". . لا ينال من ولد إبراهيم
عهد الله. . . من كان منهم ظالما. . . ".
(2) وسياق هذه الجملة التي اعترضتها الجملة الطويلة السالفة:
"وإن كان ظاهره ظاهر خبر. . فهو إعلام من الله. . . "، وهكذا
دأب أبي جعفر رضي الله عنه.
(3) الأثر: 1962- في المطبوعة"عتاب بن بشر"، وهو خطأ. هو عتاب
بن بشير الجزري أبو الحسن ويقال أبو سهل الحراني (تهذيب
التهذيب) والتاريخ الكبير للبخاري 4/1/56.
(4) انظر ما سلف 1: 523-524.
(2/24)
وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
قال أبو جعفر: أما قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة"، فإنه عطف
ب"إذ" على قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات". وقوله:"وإذ
ابتلى إبراهيم" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي"،
واذكروا"إذ ابتلى إبراهيم ربه"،"وإذ جعلنا البيت مثابة".
* * *
و"البيت" الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.
* * *
وأما"المثابة"، فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب
الذي من أجله أنثت.
فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في"المثابة"، لما كثر من
يثوب إليه، كما يقال:"سيارة" لمن يكثر ذلك،"ونسابة".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل"المثاب" و"المثابة" بمعنى واحد،
نظيرة"المقام" و"المقامة" (1) . و"المقام"، ذكر -على قوله-
لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت"المقامة"، لأنه أريد
بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون"المثابة" ك"السيارة،
والنسابة".، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في"السيارة والنسابة"
تشبيها لها ب"الداعية".
* * *
و"المثابة""مفعلة" من"ثاب القوم إلى الموضع"، إذا رجعوا إليه،
فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "نظيره" والأرجح ما أثبت.
(2) لم تذكر هذه المصادر في كتب اللغة، "المثاب، والمثابة"
مصدران ميميان قياسيان، فإغفالهما في كتب اللغة غير غريب، وأما
قوله"وثوابا"، فهذا إن صح عن الطبري، فهو جائز في العربية
أيضًا، ولكنهم نصوا على أن مصدر"ثاب" هو"ثوبانا، وثوبا،
وثؤوبا" فأخشى أن تكون محرفة عن إحداها. وأما"الثواب" في
المعروف من كتب العربية الاسم من"أثابه يثيبه إثابة، وهو
الثواب"، وهو المجازاة على الصنيع.
(2/25)
فمعنى قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس":
وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون
إليه، فلا يقضون منه وطرا. ومن"المثاب"، قول ورقة بن نوفل في
صفة الحرم:
مثاب لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح (1)
ومنه قيل:"ثاب إليه عقله"، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1963- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا]
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ جعلنا البيت
مثابة
__________
(1) من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن
كثير 2: 297، والبيت في تفسير أبي حيان 1: 380، بهذه الرواية،
وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام: فمتبع دين الذي
أسس البنا ... وكان له فضل على الناس راجح
وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح
مثابا لأفناء. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
بنصب"مثابا" بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم 2: 120
لورقة بن نوفل، وعجزه. تخب إليه اليعملات الذوامل
وكذلك جاء في القرطبي 2: 100، وعدها أبو حيان رواية في البيت،
وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب،
وفي (ذمل) غير منسوب. والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في
رواية البيت. وأخطأ صاحب اللسان في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي
طالب في قصيدته المشهورة.
وأفناء القبائل: أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا. وخبت الدابة
تخب خببا: وهو ضرب سريع من العدو. واليعملات جمع يعملة وهي
الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل،
والعمل الإسراع والعجلة. والطلائع جمع طليح. ناقة طليح أسفار:
جهدها السير وهزلها، فهي ضامرة هزلا. يعني الإبل أنضاها
أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت. وأما"الذوامل" في الرواية
الأخرى، فهو جمع ذاملة. ناقة ذمول وذاملة: وهي التي تسير سيرا
لينا سريعا.
(2/26)
للناس" قال: لا يقضون منه وطرا. (1)
1964- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1965- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال،
يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرا.
1966- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، أما المثابة، فهو
الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن
يعود إليه.
1967- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة
للناس" قال، لا يقضون منه وطرا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم،
ثم يعودون إليه.
1968- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم
قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله:"وإذ
جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه
قد قضى منه وطرا.
1969- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا
عبد الملك، عن عطاء في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس"
قال، يثوبون إليه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا.
1970- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء
مثله.
1971- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال،
__________
(1) الأثر: 1963- ما بين القوسين ساقط من الأصول. وهذا إسناد
دائر، أقربه إلينا رقم: 1946، فأتممته على الصواب.
(2/27)
حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله:"وإذ
جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا (1) .
1972- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا
سفيان، عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وإذ جعلنا
البيت مثابة للناس" قال، يحجون ويثوبون.
1973- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا
الثوري، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير في قوله:"مثابة للناس"
قال، يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. (2)
1974- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر، عن
غالب، عن سعيد بن جبير:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. (3)
1975-- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" قال،
مجمعا.
1976- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مثابة
للناس" قال، يثوبون إليه.
__________
(1) الخبر: 1971- شيخ الطبري"محمد بن عمارة الأسدي"، كما مضى
في: 645، 1511، وكما ذكرنا أنه يروى عنه في التاريخ كثيرا. وفي
المطبوعة"محمد بن عمار".
سهل بن عامر: هو البجلي، وهو ضعيف جدا، ترجمه للبخاري في
الصغير، ص: 234، وقال: "منكر الحديث، لا يكتب حديثه". وترجمه
ابن أبي حاتم 2/1/202 وروى عن أبيه قال: "هو ضعيف الحديث، روى
أحاديث بواطيل! أدركته بالكوفة، وكان يفتعل الحديث". وترجم في
لسان الميزان 3: 119-120، ووقع اسم أبيه في التاريخ
الصغير"عمار"، وهو خطأ ناسخ أو طابع.
(2) الخبران: 1972-1973- أبو الهذيل: هو غالب بن الهذيل
الأودي، يروي عن أنس، وسعيد بن جبير، وغيرهما، وهو ثقة، وثقه
ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/1/99، وابن أبي
حاتم 3/2/47. وسيأتي باسمه في الخبر بعدهما.
(3) الخبر: 1974- غالب: هو أبو الهذيل في الخبرين قبله. مسعر،
بكسر الميم وسكون السين وفتح العين: هو ابن كدام -بكسر الكاف
وتخفيف الدال- وهو أحد الأعلام. الثقات.
(2/28)
1977- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه.
1978- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من
البلدان كلها ويأتونه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمْنًا}
قال أبو جعفر: و"الأمن" مصدر من قول القائل:"أمن يأمن أمنا".
* * *
وإنما سماه الله"أمنا"، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ
به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم
يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: (أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . [سورة العنكبوت: 67]
1979- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد في قوله:"وأمنا" قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل
يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.
1980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
أما"أمنا"، فمن دخله كان آمنا.
1981- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله:"وأمنا" قال، تحريمه،
لا يخاف فيه من دخله.
1982- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"وأمنا"، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح،
وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا
يُسبَوْن.
(2/29)
1983- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر، عن
أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"وأمنا" قال، أمنا
للناس.
1984- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد في قوله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من
دخله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء"، على
وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة
والبصرة، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. (1)
وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-
1985- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال،
أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا
رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله:"واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى".
1986- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني
يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
__________
(1) كان في المطبوعة: "قراء" في هذه المواضع، فرددتها إلى ما
جرى عليه الطبري في الأجزاء السالفة.
(2/30)
1987- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت:
يا رسول الله، فذكر مثله. (1)
* * *
قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه
صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز
قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و"واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى". فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى
من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل
الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،..... كما
حدثنا [عن] الربيع بن أنس. (2) بما:-
1988- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله:"واتخذوا من
مقام إبراهيم مصلى"، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى،
فهم يصلون خلف المقام. (3)
* * *
__________
(1) الأحاديث: 1985-1987، هي حديث واحد بأربعة أسانيد صحاح.
وهو مختصر من حديث مطول، رواه أحمد في المسند: 157، 160، 250،
عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن
أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن
كثير 1: 309-310، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه
أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن
صحيح".
(2) كان في المطبوعة: "كما حدثنا الربيع بن أنس"، وهو خطأ،
فزدت"عن" بين القوسين، فبين أبي جعفر الطبري والربيع بن أنس
دهر طويل. وانظر التعليق التالي.
(3) الأثر: 1988- هو جزء من الأثر السالف رقم: 1922 وهو"عن ابن
أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس"، فزدت ما بين الأقواس،
ليستقيم الكلام. وسيأتي أيضًا برقم: 2001 ولكني وضعت هذه النقط
في الموضع السالف، لأني أخشى أن يكون في الكلام سقط. وذلك أنه
بدأ فقال: إن الأمر بهذه الآية على قول هذا البصري - لليهود من
بني إسرائيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عقب
عليه بقوله: "فأمرهم أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون
خلف المقام". ولست أعلم أن اليهود الذي كانوا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون في البيت الحرام خلف
المقام، فلذلك وضعت هذه النقط، لأني أرجح أنه قد سقط من كلام
الطبري في هذا الموضع ما يستقيم به هذا الكلام. ولم أجد في
الكتب التي تنقل عن تفسير الطبري ما يهدي إلى صواب هذه
العبارة.
والذي استظهره أن يكون سقط من هذا الموضع، توجيه الأمر في هذه
الآية إلى إبراهيم وذريته من ولد إسماعيل، فيكون الضمير في
قوله: "فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف
المقام" إلى ذرية إبراهيم من ولد إسماعيل، وهم العرب من أهل
دين إسماعيل، وبقاياهم من أهل الجاهلية، الذين جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ليقيمهم على الحنيفية ملة إبراهيم، وهي
الإسلام.
(2/31)
فتأويل قائل هذا القول: وإذ ابتلى إبراهيم
ربه بكلمات فأتمهن قال، إني جاعلك للناس إماما، وقال: اتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى.
* * *
قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء،
وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: (واتخذوا) بفتح"الخاء" على
وجه الخبر.
* * *
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله:"واتخذوا" إذ قرئ كذلك، على
وجه الخبر،
فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وإذ جعلنا البيت
مثابة للناس وأمنا، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (1)
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله:"جعلنا"، فكان
معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه
مصلى (2) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك
عندنا:"واتخذوا"
__________
(1) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها، وإلا لم يكن بين
هذا القول والذي يليه فرق. ويعني البصري في هذا التأويل أن
العطف على جملة"وإذ جعلنا"، فتكون"إذ" مضمرة في قوله تعالى:
"واتخذوا".
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 77 وهو تأويله.
(2/32)
بكسر"الخاء"، على تأويل الأمر باتخاذ مقام
إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي ذكرناه آنفا، وأن:
1989- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
جعفر بن محمد قال، حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".
(1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى"، وفي"مقام إبراهيم". فقال بعضهم:"مقام إبراهيم"، هو الحج
كله.
* ذكر من قال ذلك:
1990- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"مقام إبراهيم"، قال
الحج كله مقام إبراهيم.
1991- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن
عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى" قال، الحج كله.
1992- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج،
عن عطاء، قال: الحج كله"مقام إبراهيم".
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم" عرفة والمزدلفة والجمار.
* ذكر من قال ذلك:
1993- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح:"واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى" قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة
والمزدلفة والجمار.
__________
(1) الحديث: 1989- عمرو بن علي: هو الفلاس، من كبار الحفاظ
الثقات، روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وشيخه يحيى بن
سعيد: هو القطان الإمام.
والحديث جزء من حديث جابر -الطويل- في الحج كما سنذكر في:
2003، إن شاء الله.
(2/33)
1994- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه: جمع وعرفة
ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.
1995- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"واتخذوا من
مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه، عرفة.
1996- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [سورة المائدة: 3] ،
الآية.
1997- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود،
عن الشعبي مثله
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم"، الحرم.
* ذكر من قال ذلك:
1998- حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحرم كله"مقام
إبراهيم".
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين
ارتفع بناؤه، وضعف عن
(2/34)
رفع الحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
1999- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد
الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير
يحدّث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه،
وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع
الحجارة، قام على حجر، فهو"مقام إبراهيم" (1)
* * *
وقال آخرون: بل"مقام إبراهيم"، هو مقامه الذي هو في المسجد
الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
2000- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، إنما أمروا أن
يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما
تكلفته الأمم قبلها. (2) ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه
وأصابعه، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (3)
2001- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فهم يصلون خلف المقام.
(4)
2002- حدثني موسى (5) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وهو الصلاة عند مقامه
في الحج.
و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم
إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب،
فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته
تحت الشق الآخر، فغسلته، فغابت رجله
__________
(1) الحديث: 1999- هو قطعة من الحديث الآتي: 2056. وسنخرجه
هناك، إن شاء الله. وشيخ الطبري هنا"ابن سنان القزاز": هو"محمد
بن سنان"، مضت ترجمته في: 157. وفي المطبوعة"سنان" بحذف"ابن"،
وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "مما تكلفته"، والصواب من تفسير ابن كثير 1:
311.
(3) في المطبوعة: "أصابعه فيها"، والصواب من تفسير ابن كثير.
خلق الشيء وأخلق واخلولق: بلى.
(4) الأثر: 2001- هو الأثر السالف: 1988، وانظر التعليق عليه.
(5) كان في المطبوعة"حدثني يونس"، وهو خطأ محض بل هو إسناده
الدائر في التفسير - إلى السدي، وأقربه رقم: 1980.
(2/35)
أيضا فيه، فجعلها الله من شعائره،
فقال:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله
القائلون: إن"مقام إبراهيم"، هو المقام المعروف بهذا الاسم،
الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب،
(1) ولما:-
2003- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال،
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم
إلى مقام إبراهيم فقرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فجعل
المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. (2)
* * *
فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب"مقام
إبراهيم" الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا.
ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله
صلى الله عليه
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 1985- 1987.
(2) الحديث: 2003- يوسف بن سلمان، شيخ الطبري: هو أبو عمر
الباهلي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
4/2/223-224. وفي المطبوعة"سليمان" بدل"سلمان"، وهو خطأ.
حاتم بن إسماعيل المدني: ثقة مأمون كثير الحديث، أخرج له
الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/72، وابن أبي
حاتم 1/2/258-259، وابن سعد 5: 314.
جعفر بن محمد: هو جعفر الصادق، بن محمد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب. وهو ثقة صادق مأمون، من سادات أهل البيت فقها
وعلما وفضلا. وإنما يكذب عليه الشيعة الروافض. أما رواية
الثقات عنه فصحيحة.
وهذا الحديث قطعة من حديث جابر -الطويل- في صفة حجة الوداع.
وقد مضت قطعة منه: 1989، من رواية يحيى بن سعيد القطان، عن
جعفر الصادق.
وستأتي قطعة منه، بهذا الإسناد: 2365.
والحديث بطوله -رواه الإمام أحمد في المسند: 14492 (ج 3 ص
320-321 حلبي) عن يحيى القطان، عن جعفر.
ورواه مسلم في صحيحه 1: 346-347، عن أبي بكر بن أبي شيبة
وإسحاق بن راهويه -كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر الصادق،
به.
(2/36)
وسلم، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا.
وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه
المجهول، (1) حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم
له. ولا شك أن المعروف في الناس ب"مقام إبراهيم" هو المصلى
الذي قال الله تعالى ذكره:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"
* * *
[قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى:"مصلى"] ، فإن أهل التأويل
مختلفون في معناه. (2) فقال بعضهم: هو المدعى.
* ذكر من قال ذلك:
2004- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن
عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى" قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.
* ذكر من قال ذلك:
2005- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.
2006- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: هو الصلاة عنده.
* * *
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل:"المصلى" ههنا،
المُدَّعَى، وَجَّهوا "المصَلَّى" إلى أنه"مُفَعَّل"، من قول
القائل:"صليت" بمعنى دعوت. (3) .
__________
(1) انظر تفسير"الظاهر والباطن" فيما سلف 2: 15، واطلبه في
الفهارس.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(3) انظر ما سلف 1: 242-243.
(2/37)
وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن
مقام إبراهيم هو الحج كله.
* * *
فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة
والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها
مَدَاعِيَ تدعوني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام
فيها، فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما
يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به.
* * *
وأما تأويل القائلين القول الآخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من
مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادةً منكم، وتكرمةً مني
لإبراهيم.
* * *
وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن
الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وَعهدنا"؛ وأمرنا، كما:-
2007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
2008- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم" قال، أمرناه.
* * *
فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي
للطائفين."والتطهير" الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره
من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.
* * *
(2/38)
فإن قال قائل: وما معنى قوله:"وعهدنا إلى
إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين"؟ وهل كان أيام
إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان
في الحرم، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟
قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة
من أهل التأويل. (1)
أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا
بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب (2) كما قال تعالى ذكره:
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا
جُرُفٍ هَارٍ) ، [سورة التوبة: 109] ، فكذلك قوله:"وعهدنا إلى
إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، أي ابنيا بيتي على طهر من
الشرك بي والريب، كما:-
2009- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"،
يقول: ابنيا بيتي [للطائفين] . (3)
فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل
بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه
فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان، ليكون ذلك سنة لمن
بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به
من بعده، كما:-
2010- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:
__________
(1) في المطبوعة: "قد كان لكل واحد من الوجهين"، وهو كلام
هالك.
(2) الريب هنا: الشر والخوف من قولهم: رابني أمره، أي أدخل علي
شرا وخوفا، وكأن ذلك مردود إلى قوله تعالى: "مثابة للناس
وأمنا".
(3) هذه الزيادة، من تفسير ابن كثير 1: 315.
(2/39)
"أن طهرا" قال، من الأصنام التي يعبدون،
التي كان المشركون يعظمونها. (1)
2011- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أن
طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان والرَّيْب.
2012- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، مثله.
2013- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: من الشرك.
2014- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو
إسرائيل، عن أبي حصين، عن مجاهد:"طهرا بيتي للطائفين" قال، من
الأوثان.
2015- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"طهرا بيتي للطائفين" قال: من الشرك
وعبادة الأوثان.
2016- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطائفين" في هذا
الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من
غَرْبةٍ. (2)
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 314-315، بعد أن ساق هذا الوجه،
وهذا الأثر: "قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده
أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن
المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم".
(2) الغربة والغرب (بفتح فسكون) : النوى والبعد. يعني من أتاه
من مكان بعيد.
(2/40)
2017- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر
بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في
قوله:"للطائفين" قال، من أتاه من غربة.
* * *
وقال آخرون: بل"الطائفون" هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو
من أهله.
* ذكر من قال ذلك:
2018- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر
الهذلي، عن عطاء:"للطائفين" قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو
من"الطائفين".
* * *
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن"الطائف" هو الذي
يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم"طائف
بالبيت"، إن لم يطف به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْعَاكِفِينَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والعاكفين"، والمقيمين
به."والعاكف على الشيء"، هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني
ذبيان:
عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع
(1)
__________
(1) ديوانه: 63 من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري. حين
بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا
حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني كنانة، ونحالفكم
ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: أخرجوا
من فيكم من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة: ليهن
بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع
سوى أسد، يحمونها كل شارق ... بألفي كمي، ذي سلاح، ودارع
ثم مدح بني أسد، وذم بني عبس، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان
وعبد بن سعد بن ذبيان، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به
الطبري، ورواية الديوان"قعودا"، و"يثمدونها"، والضمير للأبيات.
وقوله: "يثمدونهم" أصله من قولهم: "ثمد الماء يثمده ثمدا"، نبث
عنه التراب ليخرج. وماء مثمود: كثر عليه الناس حتى فني ونفد
إلا أقله. وأخذوا منه: "رجل مثمود"، إذا ألح الناس عليه في
السؤال، فأعطى حتى نفد ما عنده. يقول: يظل بنو سعد ومالك لدى
أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم. يصفهم بالخسة وسقوط الهمة.
ومن روى: "يثمدونها" وأعاد الضمير إلى"أبياتهم"، فهو مثله، في
أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها، يهزأ بهم.
والكوانع جمع كانع: وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه
من بعض، كأنه يتقبض من ذلته. يصفهم بالخسة والطمع والسؤال
الذليل. وقوله: "رمى الله" يعني أصابها بما يستأصلها، ورواية
الديوان: "في تلك الأنوف"، فمعناه: رمى فيها بالجدع، وهو دعاء
عليهم، واشمئزاز من حقارتهم.
(2/41)
وإنما قيل للمعتكف"معتكف"، من أجل مقامه في
الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"والعاكفين".
فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا
صلاة.
* ذكر من قال ذلك:
2019- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن
عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان
جالسا فهو من العاكفين.
* * *
وقال بعضهم:"العاكفون"، هم المعتكفون المجاورون.
* ذكر من قال ذلك:
2020- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة:"طهرا بيتي للطائفين
والعاكفين" قال، المجاورون.
* * *
وقال بعضهم:"العاكفون"، هم أهل البلد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
2021- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا
(2/42)
أبو حصين، عن سعيد بن جبير في
قوله:"والعاكفين" قال: أهل البلد.
2022- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"والعاكفين" قال: العاكفون: أهله.
* * *
وقال آخرون:"العاكفون"، هم المصلون.
* ذكر من قال ذلك:
2023- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله:"طهرا بيتي للطائفين
والعاكفين" قال، العاكفون، المصلون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو
أن"العاكف" في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير
طواف ولا صلاة. لأن صفة"العكوف" ما وصفنا: من الإقامة بالمكان.
والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم،
وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في
قوله:"أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" -
المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى
ذكره من"العاكف"، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من
أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن
مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والركع"، جماعة القوم
الراكعين فيه له، واحدهم"راكع". وكذلك"السجود" هم جماعة القوم
الساجدين فيه له،
(2/43)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)
واحدهم"ساجد" - كما يقال:"رجل قاعد ورجال
قعود" و"رجل جالس ورجال جلوس"، فكذلك"رجل ساجد ورجال سجود".
(1)
* * *
وقيل: بل عنى"بالركع السجود"، المصلين.
* ذكر من قال ذلك:
2024- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن
عطاء:"والركع السجود" قال، إذا كان يصلي فهو من"الركع السجود".
2025- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"والركع السجود"، أهل الصلاة.
* * *
وقد بينا فيما مضى بيان معنى"الركوع" و"السجود"، فأغنى ذلك عن
إعادته هاهنا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل
هذا بلدا آمنا"، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد
بلدا آمنا.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"آمنا": آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن
يسلطوا
__________
(1) مما استظهرته من أمر هذا الجمع، جمع فاعل على فعول: أن كل
فعل ثلاثي جاء مصدره على"فعول" بضم الفاء، فجمع"فاعل" منه
على"فعول"، كهذه الأمثلة التي ذكرت هنا، وكل ما سواها مما
قيدته كتب اللغة، ومما هو منثور في الشعر.
(2) انظر ما سلف 1: 574-575، ثم 2: 103-105، 519.
(2/44)
عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال
سائر البلدان، من خسف، وائتفاك، وغرق، (1) وغير ذلك من سخط
الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما:
2026- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر
لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي
يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من
المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان -حين أغرق الله قوم نوح-
رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم
أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله.
* * *
فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم
ربه له الأمان؟
قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من
عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض.
واعتلوا في ذلك بما:-
2027- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن
إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال سمعت أبا شريح
الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال:"يا أيها الناس، إن
الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض، فهي حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك
بها دما، أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي،
__________
(1) في المطبوعة: "وانتقال" مكان"وائتفاك"، وذاك لفظ بلا معنى
هنا وبلا دلالة. والائتفاك الانقلاب، وهو عذاب الله الشديد
الذي أنزله بقوم لوط، فقال سبحانه في سورة هود: "فلما جاء
أمرنا جعلنا عاليها سافلها"، وهذا هو الائتفاك، ائتفكت بهم
الأرض: أي انقلبت فصار عاليها سافلها، فسمى الله هذه القرى،
قرى لوط"المؤتفكات" في سورة التوبة: 70، وفي سورة الحاقة: 9،
وقال في سورة النجم: 52-53"والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى"
(2/45)
ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي
أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد
الغائب، فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها!
فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك". (1)
2028- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان -
وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا، عن يزيد
بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها:"هذه حرم حرمه الله يوم خلق
السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين، لم
تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، أُحِلَّت لي ساعة من نهار.
(2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2027- هذا مختصر من حديث صحيح مطول:
فرواه أحمد في المسند: 16448 (ج 4 ص 32 حلبي) ، عن يعقوب بن
إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، بهذا الإسناد.
ورواية ابن إسحاق ثابتة أيضًا -مطولة- في سيرة ابن هشام 4:
57-58 (حلبي) ، و 823- 824 أوربة، 2: 277-278 (من الروض الأنف)
.
ورواه أيضًا، بنحوه، أحمد: 16444 (ج 4 ص 31) ، والبخاري 1:
176-177، و 4: 35-39 (فتح) ، ومسلم 1: 383-384 كلهم من طريق
الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح.
وقوله في الحديث: "أو يعضد بها شجرا"، أي يقطعه، يقال"عضد
الشجر"، من باب"ضرب" قطعه.
وقوله: "غضبا على أهلها": هذا هو الصحيح الثابت في رواية ابن
إسحاق، في المسند، وسيرة ابن هشام، وفي المطبوعة: "عصى على
أهلها". وهو تصحيف.
(2) الحديث: 2028- هذا الحديث رواه الطبري بإسنادين، عن ثلاثة
شيوخ: فرواه عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن عبد الرحيم بن
سليمان الرازي. ثم رواه عن ابن حميد - وهو محمد بن حميد
الرازي، وعن ابن وكيع - وهو سفيان بن وكيع، كلاهما: أعني ابن
حميد وابن وكيع، عن جرير بن عبد الحميد الضبي. ثم يجتمع
الإسنادان: فيرويه عبد الرحيم بن سليمان وجرير بن عبد
الحميد"جميعا عن يزيد بن أبي زياد".
وهذه الأسانيد ظاهرها الصحة، وإن كان سفيان بن وكيع ضعيفا، كما
بينا في: 1692- فإن الطبري لم يفرده بالرواية عنه، بل قرن به
محمد الرازي، وهو ثقة - إلا أن في الحديث انقطاعا، بين مجاهد
وابن عباس. وقد سمع مجاهد من ابن عباس حديثا كثيرا، ولكن هذا
الحديث بعينه رواه"عن طاوس عن ابن عباس".
و"يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم": صدوق، في حفظه شيء
بعد ما كبر، قال ابن سعد 6: 237"كان ثقة في نفسه، إلا أنه
اختلط في آخر عمره، فجاء بالعجائب". وقال يعقوب بن سفيان:
"ويزيد -وإن كانوا يتكلمون فيه لتغييره- فهو على العدالة
والثقة، وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور". وهو مترجم في التهذيب،
والكبير 4/2/334، وابن أبي حاتم 4/2/265. فلعله وهم في
حذف"طاوس" بين مجاهد وابن عباس.
والحديث في ذاته صحيح.
فرواه أحمد بنحوه مطولا: 2353، 2898، من طريق منصور بن
المعتمر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس.
وكذلك رواه البخاري 4: 40-42، ومسلم 1: 383، من طريق منصور.
ومنصور بن المعتمر: سبق توثيقه 177. وهو أثبت حفظا من مئة مثل
يزيد بن أبي زياد. بل قال يحيى القطان: "ما أحد أثبت عن مجاهد
وإبراهيم - من منصور". وقدمه الأئمة -في الحفظ- على الأعمش
والحكم.
بل إن هذا الحديث نفسه: ذكر الحافظ في الفتح أنه رواه الأعمش
عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مرسلا، يعني بحذف طاوس
وابن عباس، ثم قال: "ومنصور ثقة حافظ، فالحكم لوصله". أي أن
هذه الزيادة زيادة ثقة، يجب قبولها والحكم لها بالترجيح.
وقوله في هذه الرواية: "ووضع هذين الأخشبين". هذه الزيادة لم
أجدها في شيء من الروايات الأخر. و"الأخشبان"، بلفظ التثنية:
هما جبلا مكة المطيفان بها. انظر النهاية لابن الأثير، ومعجم
البلدان لياقوت.
(2/46)
قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة
الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك
الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي
ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته
وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط،
وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله
بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من
الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر". قالوا: وإنما سأل
ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته، وهو غير ذي زرع ولا ضرع، فاستعاذ
ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مما حذر
عليهم منه.
قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن
يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل - حين حله،
ونزله بأهله وولده: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: 37] ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو
الذي حرم الحرم أو سأل ربه
(2/47)
تحريمه لما قال:"عند بيتك المحرم" عند
نزوله به، ولكنه حُرِّم قبله، وحُرِّم بعده.
* * *
وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد
غيره، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة
رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى
الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك،
ما:-
2029- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه،
وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع
عضاهها. (1)
2030- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [حدثنا ابن إدريس -
وأخبرنا أبو كريب قال] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي، [قالا
جميعا] : سمعنا أشعث، عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله،
وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة
ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا
يقطع منها شجر إلا لعلف بعير. (2)
__________
(1) الحديث: 2029- إسناده صحيح. عبد الرحمن بن مهدي: هو الإمام
الحافظ العلم. سفيان: هو الثوري.
أبو الزبير: هو المكي، محمد بن مسلم بن تدرس، تابعي ثقة. أخرج
له الجماعة. جابر: هو ابن عبد الله، الصحابي المشهور.
والحديث رواه مسلم 1: 385، بنحوه، من طريق محمد بن عبد الله
الأسدي، عن سفيان، بهذا الإسناد. بلفظ"إن إبراهيم حرم مكة"
إلخ.
ونقله ابن كثير 1: 316، وقال: "وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن
بشار بندار، به". و"بندار": لقب محمد بن بشار.
اللابتان: هما الحرتان بجانبي المدينة، وهي الأرض ذات الحجارة
السود التي قد ألبستها لكثرتها.
العضاه، بكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة وآخره هاء: كل شجر
عظيم له شوك.
(2) الحديث: 2030- أبو السائب: هو مسلم بن جنادة، مضت ترجمته:
48. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي. سبقت ترجمته في:
438.
عبد الرحيم الرازي: هو عبد الرحيم بن سليمان الرازي الأشل
الكناني - الذي مضت له رواية في الحديث 2028- وهو ثقة كثير
الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/239.
أشعث: هو ابن سوار الكندي، ضعفه بعضهم، ووثقه آخرون. وقد رجحنا
توثيقه في شرح المسند: 661. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري
1/2/430، وابن أبي حاتم 1/1/271-272.
نافع: هو مولى ابن عمر، الثقة الثبت الحجة.
وقد كان هذا الإسناد: مغلوطا في المطبوعة هكذا: "حدثنا أبو
كريب وأبو السائب، قالا حدثنا عبد الرحيم الرازي: سمعت أشعث. .
. " نقص منه"ابن إدريس". فكان ظاهره أن أبا كريب وأبا السائب
روياه عن عبد الرحيم الرازي عن أشعث. والصواب ما أثبتناه، نقلا
عن ابن كثير 1: 316، عن هذا الموضع من الطبري.
فصحة الإسناد: أنه يرويه الطبري عن أبي كريب وأبي السائب.
كلاهما عن عبد الله بن إدريس، ثم يرويه الطبري عن أبي كريب
وحده، عن عبد الرحيم الرازي -وأن عبد الله بن إدريس وعبد
الرحيم الرازي سمعاه جميعا من أشعث.
وهذا الحديث من هذا الوجه، قال فيه ابن كثير: "وهذه الطريق
غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة". وأزيد عليه: أني لم أجدها
في المسند أيضًا، ولا في غيره مما استطعت الرجوع إليه من
المراجع.
ثم أشار ابن كثير إلى أن أصل معناه ثابت عن أبي هريرة، من وجه
آخر، في صحيح مسلم. وهو حديث مالك في الموطأ، ص: 885، عن سهيل
عن أبيه عن أبي هريرة: "كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال، اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في
مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم إن
إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة،
وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة، ومثله معه". وهو في
صحيح مسلم 1: 387، عن قتيبة، عن مالك.
(2/48)
2031- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن
سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن
محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن إبراهيم حرم مكة، وإني
أحرم المدينة ما بين لابيتها. (1)
__________
(1) الحديث: 2031- بكر من مضر بن محمد بن حكيم المصري: ثقة،
أخرج له الشيخان وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري
1/2/95، وابن أبي حاتم 1/1/392-393، وتذكرة الحفاظ، وقال:
"الإمام المحدث الصادق العابد".
ابن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي
المدني. وهو ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/344، وابن أبي حاتم 4/2/275.
أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: تابعي ثقة حجة، لا
يسأل عن مثله.
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: تابعي ثقة، وكان شريفا
جوادا ممدحا. جده لأمه: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 385، عن قتيبة بن سعيد، بهذا
الإسناد. ونقله ابن كثير 1: 316، وقال: "انفرد بإخراجه مسلم".
يعني دون البخاري.
(2/49)
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول
باستيعابها الكتاب.
* * *
قالوا:"وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال:"رب
اجعل هذا بلدا آمنا"، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من
بعض الأشياء دون بعض، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك،
الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة،
لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من
أجلها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى
ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم،"أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض"، بغير تحريم منه
لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها
بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها، ما أحل
بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها
الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل
حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه،
ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون به فيها، إذ كان تعالى
ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله، للناس إماما يقتدى به،
فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على
لسانه،
فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب
الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها،
بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - (1) فرض تحريمها على
خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده
الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه
الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.
__________
(1) سياق هذه الجملة المعترضة: "بعد أن كانت ممنوعة. . .،
ومحرمة. . . "، وسياق الجملة التي دخلها الاعتراض: "فصارت مكة.
. . فرض تحريمها. . . وواجب على عباده. . . "
(2/50)
فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم مكة". لأن فرض تحريمها
الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم
الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك
- (1) كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، [وهو
الذي] لزم العباد فرضه دون غيره. (2)
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح
وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وإن الله حرم
مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن
خديج وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن
إبراهيم حرم مكة"؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما
ظنه بعض الجهال.
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون
بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا
في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا
يقطع عذر من بلغه.
وأما قول إبراهيم عليه السلام (3) (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: 37] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب
الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، (4) فإنما عنى بذلك تحريم
الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، (5) من غير تحريمه
إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد
تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا
في ذلك.
* * *
__________
(1) كلأه الله يكلؤه كلاء (بفتح فسكون) وكلأ (بكسر فسكون)
وكلاءة (بكسر الكاف) : حرسه وحفظه. وكان في المطبوعة"الكلاء"
بهمزة مفردة مع المد، وليس صوابا. هذا، وسياق العبارة: "لأن
فرض تحريمها. . . كان عن مسألة إبراهيم ربه".
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) في الأصول: "وقول إبراهيم"، والصواب زيادة"أما" كما يدل
عليه السياق.
(4) وفيها: "إن يكن قال قبل إيجاب الله". والصواب ما أثبت.
(5) وفيها: "وكلائه"، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق السالف
رقم: 1.
(2/51)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل
مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص، بمسألة ذلك للمؤمنين دون
الكافرين، لما أعلمه الله -عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته
أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم
الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر،
خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم
دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني
أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلا.
* * *
وأما "من" من قوله: "من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فإنه
نصبٌ على الترجمة والبيان عن"الأهل"، (1) كما قال تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)
[سورة البقرة: 217] ، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام،
وكما قال تعالى ذكره: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران:
97] : بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا.
* * *
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع
ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأن يجعل أفئدة
الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله
الطائف من فلسطين.
2032- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا
هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا
للحرم:"وارزق أهله من الثمرات"، نقل الله الطائف من فلسطين.
* * *
__________
(1) الترجمة: هي عطف البيان أو البدل عند الكوفيين، كما سلف 2:
340، 420.
(2/52)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه
قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره، وتأويله
على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في
الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك:"فأمتعه
قليلا"، بتشديد"التاء" ورفع"العين".
* ذكر من قال ذلك:
2033- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه عن الربيع، قال، حدثني أبو العالية، عن أبي بن كعب في
قوله:"ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار"، قال هو
قول الرب تعالى ذكره.
2034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما
قال إبراهيم:"رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من
آمن منهم بالله واليوم الآخر"، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن
يجعل له الولاية، = انقطاعا إلى الله، (1) ومحبة وفراقا لمن
خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا
ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره (2) = فقال الله: ومن كفر -
فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا. (3)
* * *
وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة
منه ربه أن
__________
(1) يعني أن إبراهيم قال ذلك، وصرف الدعوة: "انقطاعا إلى الله.
. . "
(2) في المطبوعة: "أنه كان منهم ظالم. . . " والصواب ما أثبت
من تفسير ابن كثير. قوله: "بخبره عن ذلك. . " سياقه، أنه: عدل
الدعوة عمن أبي. . بخبر الله عن ذلك حين أخبره. وفي المطبوعة:
"فقال الله. . "، والفاء مفسدة للسياق، فإنه: "لما قال
إبراهيم. . وعدل الدعوة. . قال الله. . ".
(3) الأثر: 2034- في تفسير ابن كثير 1: 319، وفيه اختلاف في
بعض اللفظ، ولم أجده في سيرة ابن هشام.
(2/53)
يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد
الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا"ثم اضطره
إلى عذاب النار" - بتخفيف"التاء" وجزم"العين"، وفتح"الراء" من
اضطره، وفصل"ثم اضطره" بغير قطع ألفها (1) - على وجه الدعاء من
إبراهيم ربه لهم والمسألة.
* ذكر من قال ذلك:
2035- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول:
ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.
* * *
2036- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن ليث، عن مجاهد:"ومن كفر فأمتعه قليلا"، يقول: ومن كفر
فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما
قاله أبي بن كعب وقراءته، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية
بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض
بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو، على من كان ذلك غير
جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله:
يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من
الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم
بعد ذلك إلى النار.
* * *
وأما قوله:"فأمتعه قليلا" يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في
حياته
__________
(1) هذا رسم القراءة {فأمتعه قليلا ثم اضطره} ، على أنهما فعلا
أمر، يراد بهما الدعاء والسؤال.
(2) الأثر: 2036- كان ينبغي أن يقدم هذا الأثر على ذكر هذه
القراءة التي سوف يردها الطبري. وبين من نقل ابن كثير عن
الطبري أن موقعه قبل الأثر رقم: 2034، وسيأتي في كلام الطبري
بعد قليل ما يقطع بأن هذا الخبر عن مجاهد، بمعزل عن هذه
القراءة. فأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط الخبر عند النسخ، ثم
عاد فوضعه هنا حين انتبه إلى أنه قد أسقطه. وكدت أرده إلى
مكانه، ولكني آثرت تركه على حاله مع التنبيه على الخطأ، وفصلته
عن الذي قبله بالنجوم الفاصلة.
(2/54)
متاعا يتمتع به إلى وقت مماته. (1)
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك
لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل
مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا
في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية
بذلك عنه. (2)
وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.
وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا
صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها.
وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على
خلافه، لما وصفنا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ}
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"ثم أضطره إلى عذاب
النار"، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى
ذكره: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
__________
(1) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539-541.
(2) انظر الأثر: رقم: 2036، والتعليق عليه.
(3) ما أحسن ما قال أبو جعفر فإن أكثر الكلام، يحتمل وجوها،
ولكن سياق المعاني وترابطها يوجب معنى واحدا مما يحتمله
الكلام. وهذا ما يعنيه بقوله: "دليل ظاهر الكلام". وانظر
تفسير"الظاهر" فيما سلف 2: 15 والمراجع قبله وبعده.
(2/55)
جَهَنَّمَ دَعًّا) [سورة الطور: 13] . (1)
* * *
ومعنى"الاضطرار"، الإكراه. يقال:"اضطررت فلانا إلى هذا الأمر"،
إذا ألجأته إليه وحملته عليه.
فذلك معنى قوله:"ثم أضطره إلى عذاب النار"، أدفعه إليها
وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) }
قال أبو جعفر: قد دللنا على أن"بئس" أصله "بِئس" من "البؤس"
سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله، كما قيل للكَبد
كِبْد، وما أشبه ذلك. (2)
* * *
ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار، بعد الذي كانوا فيه
من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها.
* * *
وأما"المصير"، فإنه "مَفعِل" من قول القائل:"صرت مصيرا
صالحا"،، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب
النار. (3)
* * *
__________
(1) قال أبو جعفر في تفسير هذه الآية (27: 13-14، بولاق) :
"يدفعون بإرهاق وإزعاج. يقال منه. دععت في قفاه: إذا دفعت
فيه".
(2) انظر ما سلف 2: 338-340.
(3) يريد الطبري أنه المنزل الذي ينتهى إليه، من قولهم: "أين
مصيركم؟ "، أي منزلكم. والمصير: العاقبة وما يصير إليه الشيء.
(2/56)
وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (127)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ يرفع إبراهيم
القواعد من البيت"، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.
* * *
و"القواعد" جمع"قاعدة"، يقال للواحدة من"قواعد البيت""قاعدة"،
وللواحدة من"قواعد النساء" وعجائزهن"قاعد"، فتلغى هاء التأنيث،
لأنها"فاعل" من قول القائل:"قعدت عن الحيض"، ولا حظَّ فيه
للذكورة، كما يقال:"امرأة طاهر وطامث"، لأنه لا حظ في ذلك
للذكور. ولو عنى به"القعود" الذي هو خلاف"القيام"،
لقيل:"قاعدة"، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. و"قواعد
البيت": إساسه. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل
من البيت. أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟
فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه
بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم
عليه والسلام، فبناه.
ذكر من قال ذلك:
2037- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن جريج، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات
الملائكة! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتا،
ثم احفف به كما رأيت
__________
(1) الإساس (بكسر الهمزة) جمع أس (بضم الهمزة) ، وجمع الأساس،
أسس (بضمتين) وجمع الأسس (بفتحتين) آساس (بالمد) ، وكلها بمعنى
واحد.
(3/57)
الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم
الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"طورزيتا"،
و"طورسينا"، و"جبل لبنان"، و"الجودي"، وكان ربضه من حراء. فكان
هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد. (1)
2038- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت
قبل ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء
إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى
السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت.
ذكر من قال ذلك:
2039- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله
آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل - معك بيتا يطاف حوله
كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان
زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى
بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل:
من"حراء" و"ثبير" و"لبنان" و"جبل الطور" و"جبل الخمر". (2)
__________
(1) الأثر: 2037- في تفسير ابن كثير 1: 325، وقال: "وهذا صحيح
إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة والله أعلم". وربض البناء
(بفتحتين) وربضه (بضم فسكون) : هو وسطه الذي يربض عليه، أي
يستقر ويثبت.
(2) الخبر: 2039- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، وهو
ثقة، من شيوخ الشافعي وأحمد وأضرابهما. مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 3/1/71، وابن سعد 7/2/44.
أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة حجة. قال شعبة:
"كان سيد الفقهاء". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/409-410،
وابن سعد 7/2/14-17، وابن أبي حاتم.
أبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد
الجرمي. وهو تابعي ثقة مشهور. مترجم في التهذيب، وابن سعد
7/1/133-135، وابن أبي حاتم 2/2/57-58.
وهذا الخبر ذكره السيوطي 1: 127، ونسبه الطبري وابن أبي حاتم،
والطبراني، عن"عبد الله بن عمرو بن العاص".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 288، وقال: "رواه الطبراني
في الكبير، موقوفا، ورجاله رجال الصحيح". وهو كما قال. ولكن
ليس فيه حجة، ولعله مما كان يسمع عبد الله بن عمرو من أخبار
أهل الكتاب. جبل الخمر: هو جبل بيت المقدس، سمي بذلك لكثرة
كرومه (ياقوت) .
(3/58)
2040- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
إسماعيل بن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما أهبط
آدم، ثم ذكر نحوه.
2041- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
هشام بن حسان، عن سوار [ختن عطاء] ، عن عطاء بن أبي رباح، قال:
لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في
السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته
الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى
الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى
الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة، فكان موضع قدمه قرية
وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت
الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل
الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم
فبناه. فذلك قول الله:"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت". (1)
2042- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم، حين أهبط الله آدم
إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء،
ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا:
فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله
تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما
يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي.
__________
(1) الأثر: 2041- في تاريخ الطبري 1: 61، والزيادة بين القوسين
منه. وفي تفسير ابن كثير 1: 325، وقال"هذا صحيح إلى عطاء، ولكن
في بعضه نكارة، والله أعلم"، ومعه أيضًا الأثر الذي سلف رقم:
2037.
(3/59)
فانطلق إليه آدم فخرج، ومد له في خطوه،
فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى
آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء.
2043- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة -أو درة واحدة- حتى
إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، فبوأه الله لإبراهيم،
فبناه بعد ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة. وذلك
أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء،
(1) وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم
يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا:
أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة.
ذكر من قال ذلك:
2044- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال جرير بن حازم،
حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء
قبل أن يخلق الله السموات والأرض، مثل الزبْدة البيضاء، ومن
تحته دحيت الأرض.
2045- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن جريج قال، قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت
الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت
منها. فلذلك هي"أم القرى". قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وَتَدها
بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل"أبو قيس". (2)
__________
(1) الزبد (بفتحتين) : هو ما يطفو على الماء من رغوته البيضاء.
والطائفة من الزبد، زبدة (بفتح فسكون) .
(2) صفقت الريح الماء (بفتح الفاء، وبتشديدها مع الفتح) :
ضربته وقلبته يمينا وشمالا.
والحشفة: صخرة رخوة في سهل الأرض. ويقال للجزيرة في البحر لا
يعلوها الماء: "حشفة"، وجمعها حشاف (بكسر الحاء) ، إذا كانت
صغيرة مستديرة. وكفأ الشيء يكفؤه: قلبه. وماد الشيء يميد ميدا.
تحرك ومال.
(3/60)
2046- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب
القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت
على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي
عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت (1) .
2047- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنتره، عن
عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه:"إني أنا
الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك
حنفاء" (2) .
2048- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن
الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه
بإسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع. وحملوا -فيما
حدثني- على البراق ومعه جبريل يدله على
__________
(1) قال مصحح النسخة المطبوعة: "قوله: وضع البيت على أركان
الماء. . . هكذا في الأصل وعبارة الدر المنثور: كان البيت على
أربعة أركان في الماء" وهذا تعليق غريب جدا، فإن نص الدر
المنثور 1: 127، هو نفس نص الطبري، وهو نفس ما نقله ابن كثير
في تفسيره عن الطبري 1: 326. وعبارة الطبري صحيحة.
(2) الأثر: 2047- لم أجده من طريق عطاء بن أبي رباح، ولكنه
مروي عن ابن عباس، ومجاهد في أخبار مكة للأزرقي 1: 37-38،
بألفاظ مختلفة، في خبر طويل تام اختصره أبو جعفر. ونص خبر
مجاهد: "وجد في بعض الزبور: أنا الله ذو بكة، جعلتها بين هذين
الجبلين، وصغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك
حنفاء. . . ". وأما ابن إسحاق فقال (سيرة ابن هشام 1: 208)
؛"حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا
ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة،
خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها
بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء
واللبن". قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها".
أما قوله: "حنفاء" فجمع حنيف، وهو المسلم الذي قال لا إله إلا
الله ثم استقام على الطريق. ووصف الملائكة بأنهم حنفاء،
لطاعتهم واستقامتهم في عبادة ربهم، وصبرهم أنفسهم على ما أمروا
به من حفظ هذا البيت المطهر. . وانظر تفسير"حنفاء" في الآثار
رقم: 2096، 2098، 2099. هذا وقد كان في المطبوعة: "حففته بسبعة
أملاك حفا"، وهو خطأ صوابه ما أثبت من المراجع، أخبار مكة
للأزرقي 1: 37-38، وسيرة ابن هشام 1: 208، والسهيلي في الروض
الأنف 1: 131.
(3/61)
موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه
جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟
فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر،
وبها أناس يقال لهم"العماليق" خارج مكة وما حولها، (1) والبيت
يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن
أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه،
وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، فقال: (رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ) . [سورة إبراهيم: 37]
قال ابن حميد: قال، سلمة قال، ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم-
أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما
إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت -
فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: (2) هذا
أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم
وإسماعيل هما يرفعانه للناس. (3)
2049- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
هشام بن حسان قال، أخبرني حميد، عن مجاهد قال: خلق الله موضع
هذا
__________
(1) في المطبوعة: "يربها أناس يقال لهم. . . "، وهي صحيحة
المعنى: أي يملكها العماليق وهم سادتها وأصحابها. من ذلك حديث
صفوان بن أمية حين قال لأبي سفيان: "لأن يربني رجل من قريش أحب
إلي من أن يربني رجل من هوازن". أي يكون ربا فوقي وسيدا
يملكني. ولكني أثبت ما في تاريخ الطبري، وما نقله عنه ابن
كثير، وأخبار مكة للأزرقي.
(2) في المطبوعة: "فأشار لهما. . فقال لهما. . " على التثنية،
وهو خطأ محض، فإن الخطاب لهاجر وحدها، كما يدل عليه السياق قبل
وبعد، والصواب في أخبار مكة للأزرقي.
(3) الأثر: 2048- الفقرة الأولى من هذا الأثر في تاريخ الطبري
1: 130 مع بعض الاختلاف في اللفظ في صدر الخبر، وفي أخبار مكة
للأزرقي 1: 19، وفي تفسير ابن كثير 1: 326. وأما الفقرة
الأخيرة منه فهي في أخبار مكة للأزرقي 1: 20-21، وقد كان مكان
قوله في آخرها"يرفعانه للناس"، "يرفعانه فالله أعلم"، وهي
زيادة من ناسخ في أغلب الظن. وأثبت نص ما جاء في أخبار مكة.
والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك شديد. والسلم والسمر: ضربان من
شجر العضاه. وقوله: "مدرة"، أي طين يابس لزج، لا رمل فيه، وهو
الطين الحر.
(3/62)
البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي
سنة، وأركانه في الأرض السابعة.
2050- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن عيينة قال، أخبرني بشر بن عاصم، عن ابن المسيب قال، حدثنا
كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض
بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض. قال [سعيد] : وحُدّثنا عن علي
بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة، تدله
على تبوئ البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها قال، فرفعت عن أحجار
تطيقه -أو لا تطيقه- ثلاثون رجلا قال، قلت: يا أبا محمد فإن
الله يقول:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، كان ذاك
بعد. (1)
* * *
__________
(1) الخبر: 2050- بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة
بن الحارث الطائفي: ثقة، يروي عن سعيد بن المسيب. مترجم في
التهذيب، والكبير 1/2/77-78، وابن سعد 5: 380، وابن أبي حاتم
1/1/360.
وهذا الخبر خبران: أولهما عن كعب الأحبار. ولا قيمة له.
والثاني عن علي بن أبي طالب. والظاهر أنه مما كان يتحدث به
الصحابة من أخبار أهل الكتاب.
وقد روى القسمين ابن أبي حاتم، فيما نقل ابن كثير 1: 324-325.
عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سفيان، وهو ابن عيينة،
بهذا الإسناد.
وروى الحاكم في المستدرك 2: 267 -خبر على وحده- من طريق زكريا
بن إسحاق، عن بشر بن عاصم، به. وزكريا بن إسحاق المكي: ثقة.
وكذلك روى خبر علي وحده - الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد
الله بن أحمد، في تاريخ مكة 1: 25 (طبعة مكة سنة 1352) - عن
جده، عن سفيان بن عيينة، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب،
"قال: أخبرني علي بن أبي طالب".
وفي المطبوعة هنا - أول خبر علي: "قال: وحدثنا عن علي بن أبي
طالب". فالذي يقول هذا: هو سعيد بن المسيب. وما أدري أوقعت
الرواية للطبري هكذا، أم هو تحريف من الناسخين. فالذي في رواية
ابن أبي حاتم: "قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب". ويؤيده
رواية الحاكم: "عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب قال: حدثنا
علي بن أبي طالب". وكذلك رواية الأزرقي. وهذا هو الصواب فيما
أرى.
وخبر علي: نقله أيضًا السيوطي 1: 126، ونسبه فوق هذا لسعيد بن
منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
الغثاءة واحدة الغثاء، وهو ما يحمله السيل والماء من الزبد
والهالك البالي من الشجر وغيره، يخالط الزبد. وفي ابن كثير:
"فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا". والضمير في
قوله: "تطيقه" إلى حجر من الأحجار المذكورة، إن لم يكن في
الأصول تحريف أو سقط.
(3/63)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه
وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون
ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي
بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه
الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من
السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده
إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، (1) لأن
حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه
وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب
التسليم لها، ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما
يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من
جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله
تعالى أعلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد
من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في
قراءة ابن سعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2051- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي قال، يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها
إبراهيم ربه، قال:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا
__________
(1) مضى مثل هذا التعبير في 1: 520 س 16، ثم 2: 517 س 15.
(3/64)
أمة مسلمة لك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم".
2052- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن
عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال، هما
يرفعان القواعد من البيت ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم" قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ
يبني.
* * *
فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من
البيت وإسماعيل قائلين: ربنا تقبل منا.
* * *
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا
القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول ربنا تقبل
منا. فيصير حينئذ"إسماعيل" مرفوعا بالجملة التي بعده. و"يقول"
حينئذ، خبر له دون إبراهيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن
إبراهيم كان ممن رفعها.
فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا.
ذكر من قال ذلك:
2053- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي
للطائفين". (1)
__________
(1) صدر هذا الخبر في تفسير ابن كثير: "وقال السدي: إن الله عز
وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل: ابنيا بيتي
للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم. . . " وفي
تاريخ الطبري 1: 129: "قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل
أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم. . . "
(3/65)
قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو
وإسماعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحا
يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما
ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، (1) واتبعاها بالمعاول
يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: (وَإِذْ بَوَّأْنَا
لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) . [سورة الحج: 26] . فلما
بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني،
اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب.
قال: علي بذلك. فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه،
فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه
جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل
الثغامة. (2) وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس.
فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك
بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك! فبنياه. (3)
2054- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر
بن عبد الله بن عروة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن
إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وعن أساس البيت" بزيادة الواو، ولا خير في
زيادتها، وأثبت ما في التاريخ، وابن كثير. وفي ابن كثير:
"فكشفت لهما" مكان"فكنست". والريح الخجوج: الشديدة المر، التي
تلتوي في هبوبها، وتشق شقا بشدة عصفها.
(2) الثغامة: نبات ذو ساق جماحته مثل هامة الشيخ، أبيض الثمر
والزهر، يشبه به بياض الشيب. وفي الحديث: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أتى بأبي قحافة يوم الفتح، وكأن رأسه ثغامة،
فأمرهم أن يغيروه.
(3) الأثر: 2052- في تاريخ الطبري 1: 129 صدره إلى قوله: "وإذ
بوأنا لإبراهيم مكان البيت"، وهو بتمامه في تفسير ابن كثير 1:
325. وقد مضى شطر من صدره بالرقم: 2009.
(4) الخبر: 2054- عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن
العوام: من ثقات أتباع التابعين يروي أيضًا عن جده عروة بن
الزبير، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. مترجم في التهذيب. وابن
أبي حاتم 3/1/117، وكتاب الجمع بين رجال الصحيحين، ص: 341.
ووقع في المطبوعة"عمرو بن عبد الله بن عتبة"، وهو خطأ كبير،
فلا يوجد في الرواة من يسمى بهذا.
ثم هذا الخبر نفسه كلمات قلائل، من خبر مطول في قصة، رواه
الطبري في التاريخ 1: 134. بهذا الإسناد"عن عمر بن عبد الله بن
عروة: أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف
بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟ . . ".
عبيد بن عمير الليثي: مضت ترجمته: 1768.
(3/66)
وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم،
وكان إسماعيل يناوله الحجارة.
ذكر من قال ذلك:
2055- حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة
-يزيد أحدهما على الآخر-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
جاء إبراهيم، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام
إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال:
يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال:
وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا!
وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها قال، فعند ذلك
رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة،
وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له،
فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما
يقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، حتى دور حول
البيت. (1)
__________
(1) الحديث: 2055- أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي، المعروف
بفرخويه، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/44، ولسان
الميزان 1: 143. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العباس الطهراني
قال، "كانوا لا يشكون أن فرخويه كذاب".
وقد يصدق الكذوب! فالحديث في ذاته صحيح:
رواه البخاري -مطولا جدا- عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق،
بهذا الإسناد 6: 283-289 (فتح) . والذي هنا قطعة منه.
وقد ذكر ابن كثير 1: 320-322، رواية البخاري بطولها، ثم أشار
إلى رواية الطبري هذه.
(3/67)
2056- حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا
عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن
نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال: جاء -يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء
زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني
له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له
إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام
معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة
ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع
البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام
إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم". (1)
* * *
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل
يومئذ طفل صغير.
ذكر من قال ذلك:
2057- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا مؤمل
قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي
قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر.
قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة،
فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على
__________
(1) الحديث: 2056- ابن سنان القزاز: هو محمد بن سنان. وقد مضت
ترجمته في: 157. ووقع في المطبوعة هنا"ابن بشار"! وهو تصحيف.
وهذا الحديث أيضًا جزء من حديث مطول، رواه البخاري 6: 290
(فتح) ، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن
عمرو، عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير أيضًا 1: 322-323، عن رواية البخاري.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 551-552، مختصرا، عن أبي العباس
الأصم محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان القزاز -شيخ الطبري هنا-
بهذا الإسناد. وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فلم ينبه
إلى خطأ الحاكم في استدراكه، إذ رواه البخاري. وقد نبه على ذلك
ابن كثير، واستعجب أن يستدركه الحاكم، وهو في صحيح البخاري!
(3/68)
ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص.
فلما بنى [خرج] وخلف إسماعيل وهاجر، (1) فقالت هاجر: يا
إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا
يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا،
فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت
إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت:
يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش.
(2) فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد
إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال:
وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [الغلام] الأرض بإصبعه، (3) فنبعت
زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء. (4)
2058- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن
خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن
البيت؟
__________
(1) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وتفسير ابن
كثير 1: 324.
(2) فحصت الدجاجة وغيرها برجلها في التراب: بحثته وأزالت
التراب عن حفرة.
(3) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وليست في ابن
كثير.
(4) الحديث: 2057- مؤمل- بوزن: محمد -: هو ابن إسماعيل العدوي،
وهو ثقة. بينا توثيقه في شرح المسند: 2173.
سفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي.
حارثة ابن مضرب العبدي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير
للبخاري 2/1/87، وابن أبي حاتم 1/2/255.
و"مضرب": بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة
وآخره باء موحدة. ووقع في المطبوعة"مصرف"، وهو تصحيف.
والخبر رواه الطبري في التاريخ أيضًا 1: 129، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير 1: 324، عن الطبري. ثم قال: "ففي
هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما. وقد يحتمل -إن كان
محفوظا- أن يكون أولا وضع له حوطا وتجميرا، لا أنه بناه إلى
أعلاه. حتى كبر إسماعيل، فبنياه معا، كما قال الله تعالى".
وقوله: "فإنها رواء" (بفتح الراء والواو) . يقال ماء روى (بفتح
الراء وكسر الواو وتشديد الياء) وروى (بكسر ففتح) ورواء: كثير
عذب مرو لا ينقطع.
(3/69)
أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن
هو أول بيت وضع فيه البركة، (1) مقام إبراهيم، ومن دخله كان
آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن
ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل
الله السكينة -وهى ريح خجوج، ولها رأسان (2) - فأتبع أحدهما
صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة،
(3) وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم
وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا
كما آمرك. (4) قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده
قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا
الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من
السماء. فأتماه. (5)
2059- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي
بنحوه.
2060- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد
بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي،
بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال:
رفعها إبراهيم وكان
__________
(1) في المطبوعة وفي التاريخ، وابن كثير: "وضع في البركة". وفي
المستدرك الحاكم 1: 293، والدر المنثور، "وضع للناس فيه البركة
والهدى"، فصححتها من هناك.
(2) انظر ما سلف قريبا: 66 تعليق رقم: 1.
(3) تطوت: استدارت. تطوت الحية: تحوت والتف بعضها على بعض
واستدارت كالطوق. والحجفة: الترس من الجلود يطارق بعضه على
بعض، ليس فيه خشب. وفي رواية الطبري في التاريخ"كتطوي الحية"،
وكذلك في المستدرك"كتطوق الحية"، وجاء في ابن كثير"الجحفة" وهو
خطأ.
(4) في التاريخ: "لا أبغي حجرا. . . "، وهو خطأ، وفي ابن كثير:
"فقال إبراهيم: ابغي حجرا كما آمرك"، وهو خطأ أيضًا. يقال:
ابغني كذا وكذا، وابغ لي كذا وكذا: أي اطلبه لي والتمسه. بغى
فلان فلانا شيئا: التمسه له.
(5) الأخبار: 2058-2060، هي خبر واحد بثلاثة أسانيد.
وشيخ الطبري في الإسناد الأول"هناد": هو ابن السري بن مصعب
الدارمي التميمي، وهو ثقة. من شيوخ البخاري ومسلم وغيرهما.
مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/248، والصغير: 245، وابن أبي
حاتم 4/2/119-120.
وقع في المطبوعة"عباد"، وهو تحريف، تصويبه، من التاريخ للطبري
1: 128-129، حيث روى هذا الخبر بهذا الإسناد الأول"حدثنا هناد
بن السري". وكذلك نقله ابن كثير 1: 224، عن الطبري.
أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي الحافظ الثقة.
سماك - بكسر السين وتخفيف الميم: هو ابن حرب بن أوس البكري،
وهو تابعي ثقة، روى له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وغيرهما.
مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/174، وابن أبي حاتم
2/1/279-280.
خالد بن عرعرة التيمي: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير
2/1/149، وقال: "سمع عليا". وابن أبي حاتم 1/2/343، ولم يذكرا
فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات.
و"سعيد" -في الإسناد الثاني-: أنا أرجح أنه محرف عن"شعبة"، فهو
الذي يروي عن سماك ابن حرب، وهو الذي يطلقه"محمد بن جعفر
غندر"، إذ هو شيخه الذي لزمه وجالسه نحوا من عشرين سنة. و"أبو
داود" في الإسناد الثالث: هو الطيالسي.
والخبر رواه أيضًا الأزرقي في تاريخ مكة 1: 24-25، من طريق عبد
الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن
سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 292-293، من طريق إسرائيل، عن
خالد بن حرب، عن خالد بن عرعرة. قال: "صحيح على شرط مسلم، ولم
يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 1: 126، ونسبه لهؤلاء ولغيرهم.
(3/70)
إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله
أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام
حينئذ:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل"
يقولان:"ربنا تقبل منا". وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن
يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم
خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر
من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.
وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع
القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند
ذلك إلا لإسماعيل خاصة.
* * *
والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم
وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك
أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما
قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله،
فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن
الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا
تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته.
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن
إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا
يقولانه، وذلك قولهما:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل،
وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله
وأحكامه. وإذا كان -في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه
ورفعه قواعد بيت الله (1) - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا
معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك
كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول
المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
* * *
فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل
يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في
انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا
ببنائه، إنك أنت السميع العليم.
* * *
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما
يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على
أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منزلا ينزلانه، بل
هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد
الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا"ربنا تقبل منا".
ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما:"تقبل منا" وجه
مفهوم. لأنه كانا
__________
(1) سياق العبارة: "وإذا كان. . . كذلك" وما بينهما فصل. ويعني
بقوله"كذلك" أنه كان قد فهم الضر والنفع، ولزمته فرائض الله
وأحكامه.
(3/72)
يكونان -لو كان الأمر كذلك- سائلين أن
يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله
قبول ما لا قربة إليه فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(127) }
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنك أنت السميع العليم"، إنك أنت
السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من
طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر
نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا
والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، (2) . كما:-
2061- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن
ابن عباس:"تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، يقول: تقبل منا
إنك سميع الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ}
قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم
وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما
يقولان:"ربنا واجعلنا مسلمين لك"، يعنيان بذلك: واجعلنا
مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك
__________
(1) يقول: هما من العلم والنبوة بمنزلة وموضع، فلا يسألان الله
قبول عمل ليس من القربات إلى الله.
(2) قوله: "وما نبدي. . . " معطوف على قوله: "العليم بما في
ضمائر نفوسنا".
(3/73)
في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الإسلام": الخضوع لله بالطاعة.
(1)
* * *
وأما قوله:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، فإنهما خصا بذلك بعض
الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى
الله عليه وسلم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده
لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما.
* * *
وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب.
ذكر من قال ذلك:
2062- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره
يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته
وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب
وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من
الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا
من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد.
* * *
وأما"الأمة" في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس،
(2) من قول الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: 159] . (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511.
(2) انظر ما سلف 1: 221 س: 14.
(3) جاء في تفسير ابن كثير 1: 332 ما نصه:
قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية
إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة
يهدون بالحق وبه يعدلون"
وهو كما ترى ليس في أصل الطبري. فلا أدري أهو تصرف من ابن
كثير، أم في أصول الطبري خرم في هذا الموضع، وكلاهما جائز، ولا
أقطع بشيء.
هذا وقد أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري، فزعم أن
تخصيص السدي أنهم العرب لا ينفي من عداهم ثم قال: "والسياق
إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: "ربنا وابعث فيهم رسولا
منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية،
والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم".
واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض.
فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها
الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة.
ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها: " إذ
قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه
ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون".
وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة
على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون وهذا دليل على ما ذهبت إليه في
مقدمة الجزء الأول، من اختصار الطبري في تفسيره هذا، فإنه لو
شاء لأفاض واحتج بما احتججت بما احتججت به. وهو دليل أيضًا على
أن قراءة الطبري تحتاج إلى متابعة آية بعد آية، وأن قراءته
مفرقا توقع في خطأ في فهم مراده وحجته. ودليل على أن الطبري
شديد العناية بسياق الآيات وترابطها، ولكنه ربما أغفل ذكر هذا
الترابط مفصلا وحجته فيه، لأنه قد استوفى ذلك في مواضع سبقت،
فاختصر المواضع الأخرى ثقة بتتبع قارئه لما أراد. ودليل آخر
على أن هذا التفسير لا يزال مجهول المكانة، على علو مكانته عند
أسلافنا غفر الله لنا ولهم.
(3/74)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (1) فقرأه
بعضهم:"وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا
حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة.
__________
(1) في المطبوعة: "القراء"و"قراء"، ورددتها إلى ما درج عليه
الطبري في عبارته. والقَرَأَة جمع قارئ، مثل حافظ وحفظة، كما
سلف مرارا.
(3/75)
وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا
التأويل، يسكن الراء من"أرنا"، غير أنه يشمها كسرة.
* * *
واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل
قوله:"مناسكنا"
فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه.
ذكر من قال ذلك:
2063- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما: الطواف
بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات،
والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو دينه.
2064- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا نسكنا
وحجنا.
2065- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن
ينادي فقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [سورة
الحج:27] ، فنادى بين أخشبي مكة: (1) يا أيها الناس! إن الله
يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل
من سمعه من جبل أو شجر أو دابة:"لبيك لبيك". فأجابوه
بالتلبية:"لبيك اللهم لبيك"، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن
يخرج إلى عرفات، ونعتها [له] ، (2) فخرج. فلما بلغ الشجرة عند
العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات
__________
(1) أخشبا مكة: هما الجبلان المطيفان بها، وهما: "أبو قبيس"
و"الأحمر"، وهو مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن
غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها".
(2) الزيادة بين القوسين، أظنها أحرى بالصواب.
(3/76)
يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة
الثانية أيضا، فصده، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة
الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم
أين يذهب، انطلق حتى أتى"ذا المجاز"، فلما نظر إليه فلم يعرفه
جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما
نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت:"عرفات". فوقف
إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، (1)
فسميت"المزدلفة"، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه
أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من
الحج وأمره. وذلك قوله:"وأرنا مناسكنا". (2)
* * *
وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة -"المناسك": المذابح. فكان
تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا
ربنا نسائكنا، فنذبحها لك. (3)
ذكر من قال ذلك:
2066- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأرنا مناسكنا" قال: ذبحنا.
__________
(1) ازدلف إلى الشيء: تقرب إليه ودنا منه. وجمع (بفتح الجيم
وسكون الميم) هي"مزدلفة".
(2) الأثر: 2065 سيأتي بعضه برقم: 3792 في هذا الجزء.
(3) نسك ينسك (بضم السين) نسكا (بسكون السين) ذبح. والنسيكة:
الذبيحة.
(3/77)
2067- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء قال:
مذابحنا.
2067م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2067م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2067م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول:"وأرنا
مناسكنا" قال، أرنا مذابحنا.
* * *
وقال آخرون:"وأرنا مناسكنا" بتسكين"الراء"، (1) وزعموا أن معنى
ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار.
وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر:
(2)
ريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (3)
يعني بقوله:"أريني"، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به
رؤية العين.
__________
(1) كان في المطبوعة: "وقال آخرون"، واستظهرت من السياق
أنها"وقرأ آخرون"، فلذلك أثبت ما استظهرت، فسيقول بعد: "وهذه
قراءة رويت. . . ".
(2) هما أخوان من بني نهشل بن دارم، جاهليان، أمهما رهم بنت
العباب.
(3) الشعر والشعراء: 201-202، 211 وفيه تحقيق عن اختلاف قديم
في نسبته، ومجاز القرآن: 55، والخزانة 1: 195-196 وفيهما مراجع
كثيرة. روى البيت لحاتم الطائي، ولمعن بن أوس، وفي اللسان
(أنن) و (علل) عن ابن برى وقال: "حطائط بن يعفر، ويقال هو
لدريد"، وسيأتي في تفسير الطبري منسوبا لدريد بن الصمة (7: 213
بولاق) مع اختلاف في رواية صدره: ذريني أطوف في البلاد لأنني
ولم أجد هذه الرواية في الكتب التي بين يدي، وأخشى أن يكون
الطبري أو من أنشده البيت - قد وهم. فقول حطائط قبله أو بعده.
ذريني أكن للمال ربا، ولا يكن ... لي المال ربا، تحمدي غبه غدا
ذريني فلا أعيا بما حل ساحتى ... أسود فأكفي، أو أطيع المسودا
وهو يخاطب بهذه الأبيات أمه رهم بنت العباب، وكانت تلومه على
جوده وإتلافه المال. والهزل (بفتح وسكون) والهزل (بضم فسكون)
والهزال: هو نقيض السمن، مع الضعف والاسترخاء. وقوله: "لأنني"
بفتح الهمزة بمعنى: "لعلني". من قولهم: "أن" بمعنى"عل"، و"لأن"
بمعنى"لعل"، وأرى أن الهمزة منقلبة عن العين، والنون منقلبة عن
اللام. وهما لغتان من لغات العرب. واجتمعتا في هذا اللفظ.
(3/78)
وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. (1)
ذكر من قال ذلك:
2068- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال عطاء:"أرنا مناسكنا"، أخرجها لنا، علمناها.
2069- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ
إبراهيم من بناء البيت، قال:"فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا"
-أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول واحد، فمن كسر"الراء" جعل علامة الجزم
سقوط"الياء" التي في قول القائل:"أرينه""أرنه"، (2) وأقر الراء
مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن"الراء" من"أرنا"، توهم أن
إعراب الحرف في"الراء"، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في"لم
يكن" و"لم يك". (3) .
وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق
من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.
* * *
وأما"المناسك" فإنها جمع"منسك"، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه،
ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له،
وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ولذلك قيل لمشاعر الحج
__________
(1) كان الأجود أن تكون هذه الجملة بعد قوله: "وقرأ آخرون:
"وأرنا مناسكنا" بتسكين الراء". ولكن هكذا وقع في النسخ.
(2) هكذا جاء في المطبوعة"أرينه"، وأظن صواب هذا
الحرف"يرينيه"، مضارعا مرفوعا، ليستقيم مع قوله: "وأقر الراء
مكسورة كما كانت قبل الجزم".
(3) ظاهر كلام الطبري هنا يدل على أن قوله: "لم يك" بتسكين
الكاف، على توهم أن إعراب هذه الكلمة في الكاف، فسكنها لما دخل
عليها الجازم. ولم أجد هذا القول في كتاب مما بين يدي من
الكتب، وأخشى أن يكون في نص الطبري في هذا المكان سقط لم
أتبينه.
(3/79)
"مناسكه"، لأنها أمارات وعلامات يعتادها
الناس، ويترددون إليها.
* * *
وأصل"المنسك" في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل
ويألفه، يقال:"لفلان منسك"، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير
أو شر. ولذلك سميت"المناسك""مناسك"، لأنها تعتاد، ويتردد إليها
بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله.
* * *
وقد قيل: إن معنى"النسك": عبادة الله. وأن"الناسك" إنما
سمي"ناسكا" بعبادة ربه.
فتأول قائلو هذه المقالة. قوله:"وأرنا مناسكنا"، وعلمنا
عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟
وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على
معنى"المناسك" ما وصفنا قبل، من أنها"مناسك الحج" التي ذكرنا
معناها.
* * *
وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة
منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما
وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما،
صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. (1) وإنما قلنا إن ذلك كذلك،
لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية،
وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية
فقولهما:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، ثم
جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن
يريهم مناسكهم فقالا"وأرنا مناسكنا". وأما التي في الآية التي
بعدها:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، فجعلا المسألة لذريتهما
خاصة.
__________
(1) في المطبوعة: "عن أنفسهم بذلك"، والصواب ما أثبت.
(3/80)
وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود:"وأرهم
مناسكهم"، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
قال أبو جعفر: أما"التوبة"، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب.
فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه،
والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده:
عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة
له منه، وتفضلا عليه. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما
التوبة؟
قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل -فيما بينه
وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما
كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصَّا به الحال التي
كانا عليها، (2) من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن
أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة
يقتدى بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من
الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما:"وتب علينا"،
وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا -الذين أعلمتنا أمرهم- من
ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على
الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما. كما
__________
(1) انظر معنى"التوبة" فيما سلف 1: 547/2: 72-73.
(2) في المطبوعة: "ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما
خصا. . . "، وهو كلام فاسد والصواب ما أثبت. يجعل"قبلهما"، أي
قولهما. وبحذف الواو من: "وإنما".
(3/81)
رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
يقال:"أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني
فلان"، إذا بر ولده.
* * *
وأما قوله:"إنك أنت التواب الرحيم"، فإنه يعني به: إنك أنت
العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران -
الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من
تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}
قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى
الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه
وسلم يقول:"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى":-
2070- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن
نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، صلى الله
عليه وسلم. (1)
__________
(1) الحديث: 2070- ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي. ثقة من أثبت
الرواة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/180-181، وابن
أبي حاتم 1/1/468-469.
خالد بن معدان الكلاعي الحمصي: تابعي ثقة ثبت، مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/161-162، وابن سعد 7/2/162، وابن
أبي حاتم 1/2/351.
وهذا الإسناد مرسل، لأن خالد بن معدان لم يذكر أنه عن أحد من
الصحابة. وكذلك هو في سيرة ابن هشام، (ص 106-107 طبعة أوربة،
1: 175 طبعة الحلبي) . في قصة مطولة. وكذلك رواه الطبري في
التاريخ 2: 130، بهذا الإسناد، مطولا أيضًا، مرسلا.
ولكنه ثبت موصولا، من رواية ابن إسحاق أيضًا: فرواه الحاكم في
المستدرك 2: 600، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال،
"حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ ".
. فذكر الحديث مختصرا، بنحو مما هنا. ثم قال الحاكم: "خالد بن
معدان: من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من
الصحابة. فإذا أسند حديثا إلى الصحابة، فإنه صحيح الإسناد، وإن
لم يخرجاه". ووافقه الذهبي على تصحيحه.
(3/82)
2071- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال،
حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد
بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم
النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك:
أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي. (1)
2072- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال،
أخبرني معاوية -، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني
قال، حدثني أبي قال، حدثنا
__________
(1) الحديث: 2071- عمران بن بكار الكلاعي: ثقة، من شيوخ
النسائي، ووثقه هو وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
3/1/294، وذكر أنه سمع منه. وقد مضت رواية الطبري عنه: 149 ولم
نترجمه هناك. ووقع في التهذيب أنه مات"سنة إحدى وسبعين ومائة"!
وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا يعقل ذلك وأن يسمع منه النسائي
والطبري وهذه الطبقة. وصحته: سنة 271.
أبو اليمان: هو الحكم بن نافع الحمصي، وهو ثقة من شيوخ أحمد بن
حنبل والبخاري. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/342، وابن أبي
حاتم 1/2/129، وقال: "وهو نبيل ثقة صدوق".
أما قوله"حدثنا أبو كريب" - هنا: فإنه خطأ يقينا من الناسخين.
فإن"أبا كريب محمد بن العلاء" - وقد مضت ترجمته: 1291- متأخر
عن أبي اليمان. هذه واحدة، وأخرى، أن أبا اليمان روى هذا
الحديث عن ابن أبي مريم، كما سيأتي. فإما أنه ذكر خطأ من
الناسخ، وإما أن يكون صوابه"وأبو كريب، قالا: حدثنا". فيكون
عمران بن بكار رواه عن شيخين.
ابن أبي مريم: هو"أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني
الشامي"، وهو ضعيف، من قبل سوء حفظه وتغيره، كما بينا في شرح
المسند: 1464، 6165. ووقع هنا في المطبوعة"عن أبي مريم"
بحذف"ابن". وهو خطأ واضح. ثم إن ضعف"ابن أبي مريم" من قبل
حفظه، قد جبر في هذا الحديث، بأن رواه غيره. ولكنه أخطأ فيه
بحذف التابعي من إسناده.
سعيد بن سويد الكلبي الشامي: وهو تابعي ثقة، سمع من بعض
الصحابة ولقيهم. ولكن ابن حبان ذكره في الثقات (ص: 475) في
أتباع التابعين. ترجمه الحافظ في التعجيل: 152، وأشار إلى هذا
الحديث، ونقل أن البخاري قال: "لم يصح حديثه". وما أدري أين
قاله البخاري، فإنه لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في
الضعفاء. وترجمه في الكبير 2/1/436، ولم يذكر فيه جرحا. وكذلك
ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/29، ولم يذكر فيه جرحا أيضًا. وإنما
اختلف عنه الراويان - في هذا الإسناد والإسنادين بعده: أهو"عن
العرباض"، أم بينهما تابعي آخر؟ فأخطأ ابن أبي مريم في حذف
التابعي بين سعيد والعرباض. كما سيأتي، إن شاء الله.
(3/83)
الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - قالا
جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض
بن سارية السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
2073- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن
سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن
سارية: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر
نحوه. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2072- وهذا إسناد آخر للحديث قبله، بل إسنادان:
فرواه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، ثم رواه عن
عبيد بن آدم العسقلاني، عن أبيه، عن الليث بن سعد - وابن وهب
والليث روياه عن معاوية بن صالح.
وأولهما واضح. و"عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني" - في
ثانيهما: ثقة، روى عنه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم، والنسائي،
وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/402. وأبوه"آدم
بن أبي إياس". مضت ترجمته: 187. والليث بن سعد: ومعاوية بن
صالح: مضت ترجمته: 187 أيضًا.
(2) الحديث: 2073- وهذا إسناد آخر للحديث السابق. و"أبو صالح":
هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته: 186. عبد
الأعلى بن هلال السلمي: هكذا اختلف في اسمه على معاوية بن
صالح، في الإسناد السابق وهذا الإسناد: فهنالك"عبد الله بن
هلال"، وهنا"عبد الأعلى بن هلال". وأنا أرجح أنه"عبد الأعلى"
لما سيأتي من الدلائل، إن شاء الله.
وهذا التابعي قصر الحافظ فلم يترجم له في التعجيل في واحد من
الاسمين، مع أنه من رجال مسند أحمد، ومع أن سلفه الحافظ
الحسيني ترجم له في الإكمال، ص: 64 قال، "عبد الله بن هلال
السلمي، ويقال: عبد الأعلى، شامي. روى عن العرباض بن سارية،
وأبي أمامة الباهلي. وعنه سويد بن سعيد الكلبي. مجهول"! وما
كان الرجل مجهولا قط! وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 3/1/25
باسم"عبد الأعلى"، وكذلك ذكره ابن حبان في الثقات، ص: 267،
وذكر له هذا الحديث، عن العرباض بن سارية. وكذلك ذكره البخاري
في الكبير، في ترجمة"سعيد بن سويد" باسم"عبد الأعلى بن هلال".
وكذلك صنع ابن أبي حاتم وابن حبان.
وأيضًا فإن الرواة عن الليث بن سعد اختلفوا عليه كذلك. ففي
روايتي أحمد وابن سعد، من طريق الليث: "عبد الأعلى بن هلال"،
كما سنذكر.
بل إن عبد الأعلى هذا له ذكر في حديث آخر في المسند (5: 261
حلبي) في مسند أبي أمامة الباهلي، فروى الإمام أحمد بإسناده
إلى خالد بن معدان قال، "حضرنا صنيعا لعبد الأعلى بن هلال،
فلما فرغنا من الطعام قام أبو أمامة فقال:. . "، إلخ.
وأيا ما كان فهذه الأسانيد صحاح، على الرغم من هذا الاختلاف.
وكثيرا ما يكون مثل هذا، ولا أثر له في صحة الحديث.
والحديث - من رواية أبي بكر بن أبي مريم: 2071- رواه أيضًا
أحمد في المسند: 17230 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن أبي اليمان الحكم
بن نافع، عن أبي بكر، عن سعيد بن سويد، عن العرباض، بنحوه.
وآخره عنده: "ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له
قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين، صلوات الله عليهم".
وبنحو ذلك - وشيء من الاختصار- رواه الحاكم في المستدرك 2:
600، من طريق أبي اليمان، عن ابن أبي مريم. وصححه هو والذهبي.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17217 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن عبد
الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد
الله بن هلال السلمي"، عن عرباض بن سارية، نحوه. فعبد الرحمن
بن مهدي، سمي التابعي"عبد الله" - كما صنع ابن وهب وآدم بن أبي
إياس، هنا في روايتهما عن الليث.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17218، وابن سعد في الطبقات
1/1/95-96، كلاهما عن أبي العلاء الحسن بن سوار الخراساني، عن
الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد
الأعلى بن هلال السلمي"، عن العرباض.
وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد 8: 223، بألفاظ عن
العرباض. ثم قال: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار، والطبراني
بنحوه. . . وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن
سويد، وقد وثقه ابن حبان".
وهو أيضًا عند السيوطي 1: 139، ونسبه -زيادة على ما ذكرنا-
لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
وبعد: فإن للحديث شاهدا آخر، يصلح للاستشهاد، مع ضعف في
إسناده:
فروى أبو داود الطيالسي في مسنده: 1140، عن الفرج بن فضالة، عن
لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، نحو هذا الحديث.
وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند (5: 262 حلبي) ، عن أبي
النضر هاشم بن القاسم، عن الفرج بن فضالة. بهذا الإسناد.
والفرج بن فضالة: ضعيف، كما قلنا في: 1688.
وذكره السيوطي 1: 139، ونسبه أيضًا للطبراني، وابن مردويه،
والبيهقي.
(3/84)
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل
التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2074 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، ففعل الله
ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من
الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.
(3/85)
2075- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد
صلى الله عليه وسلم.
2076- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن
الربيع:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه
وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان.
* * *
قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله:"يتلو عليهم آياتك":
يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {َ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ}
قال أبو جعفر: ويعني ب"الكتاب": القرآن.
وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن"كتابا"، وما تأويله. (2) وهو
قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"ويعلمهم الكتاب"، القرآن.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا
الموضع.
فقال بعضهم: هي السنة.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر معاني"تلا" فيما سلف 2: 409- 411، 569.
(2) انظر ما سلف 1: 97، 99.
(3/86)
2078- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة""والحكمة"، أي السنة.
* * *
وقال بعضهم:"الحكمة"، هي المعرفة بالدين والفقه فيه.
ذكر من قال ذلك:
2079- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما
الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له.
2080- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"والحكمة" قال،"الحكمة"، الدين الذي لا يعرفونه إلا به
صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و"الحكمة"، العقل في
الدين وقرأ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا) [سورة البقرة: 269] ، وقال لعيسى،
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإنْجِيلَ) [سورة آل عمران: 48] قال، وقرأ ابن زيد:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [سورة الأعراف: 175] قال، لم ينتفع
بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال:"والحكمة" شيء يجعله الله
في القلب، ينور له به.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في"الحكمة"، أنها العلم
بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله
عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي
مأخوذ من"الحكم" الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة
"الجِلسة والقِعدة" من "الجلوس والقعود"، يقال منه:"إن فلانا
لحكيم بين الحكمة"، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول
والفعل.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
يتلو
(3/87)
عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله
عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"التزكية":
التطهير، وأن معنى"الزكاة"، النماء والزيادة. (1)
فمعنى قوله:"ويزكيهم" في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله
وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما:-
2081- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح
قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس:"يتلو عليهم آياتك ويزكيهم" قال، يعني بالزكاة، طاعة الله
والإخلاص.
2082- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال،
قال ابن جريج قوله:"ويزكيهم" قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم
منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (129) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت"العزيز"
القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه
وطلبناه منك؛ و"الحكيم" الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل،
فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 573-574.
(3/88)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يرغب عن ملة
إبراهيم"، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها
إلى غيرها؟ (1)
* * *
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من
اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن"ملة إبراهيم" هي
الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: (مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] ، فقال تعالى ذكره
لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه
نفسه، كما:-
2083- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"، رغب عن
ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست
من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث
الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.
2084- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع في قوله:"ومن يرغبث عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"
قال، رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية
والنصرانية، وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام.
* * *
__________
(1) سيأتي تفسير"الملة" بعد صفحات ص: 104.
(3/89)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إلا من سفه نفسه"، إلا
من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى"السفه"، الجهل. (1)
فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه
جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها، كما:-
2085- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إلا من سفه نفسه" قال، إلا من أخطأ حظَّه.
* * *
وإنما نصب"النفس" على معنى المفسر. ذلك أن"السفه" في الأصل
للنفس، فلما نقل إلى"من"، نصبت"النفس"، بمعنى التفسير. (2) كما
يقال:"هو أوسعكم دارا"، فتدخل"الدار" في الكلام على أن السعة
فيها، لا في الرجل. فكذلك"النفس" أدخلت لأن السفه للنفس لا
ل"من". ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر
بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة. (3)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله:"سفه نفسه" جرت مجرى"سفه" إذا
كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى"نفسه" و"رأيه" وأشباه ذلك
مما هو في المعنى نحو"سفه"، إذا هو لم يتعد. فأما"غبن" و"خسر"
فقد يتعدى إلى غيره، يقال:"غبن خمسين، وخسر خمسين".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 293-295.
(2) التفسير والمفسر: يعني التمييز، ويقال له أيضًا "التبيين".
(3) انظر بيان ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 79، واللسان
(سفه) .
(3/90)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولقد اصطفيناه في
الدنيا"، ولقد اصطفينا إبراهيم. و"الهاء" التي في
قوله:"اصطفيناه"، من ذكر إبراهيم.
* * *
و"الاصطفاء""الافتعال" من"الصفوة"، وكذلك"اصطفين"ا"افتعلنا"
منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
ويعني بقوله:"اصطفيناه": اخترناه واجتبيناه للخلة، (1) ونصيره
في الدنيا لمن بعده إماما.
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن
لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله
تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إماما، وأخبر
أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله
تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي
نصبه الله لعباده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (130) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإنه في الآخرة لمن
الصالحين"، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
* * *
و"الصالح" من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.
__________
(1) الخلة (بضم فتشديد) : الصداقة والمحبة. والخليل: الصديق
الحبيب. وهي هنا منزلة من منازل محبة الله لبعض عباده الذين
اصطفاهم وأحبهم.
(3/91)
إِذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(131)
فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في
الدنيا صفي، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين
بعهده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ
قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال له ربه أسلم"، إذ
قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، وقد دللنا
فيما مضى على معنى"الإسلام" في كلام العرب، فأغنى عن إعادته.
(1)
* * *
وأما معنى قوله:"قال أسلمت لرب العالمين"، فإنه يعني تعالى
ذكره، قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة،
لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره.
* * *
فإن قال قائل: قد علمت أن"إذ" وقت، فما الذي وقت به؟ وما الذي
هو له صلة. (2)
قيل: هو صلة لقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا". وتأويل الكلام:
ولقد اصطفيناه في الدنيا، حين قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت
لرب العالمين. وإنما معنى الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين
قلنا له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم"الله" في
قوله:"إذ قال له ربه أسلم"، على وجه الخبر
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74.
(2) في المطبوعة: "وما الذي صلته". والصواب ما أثبت.
(3/92)
وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (132)
عن غائب، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر
عن نفسه، كما قال خُفاف بن ندبة:
أقول له - والرمح يأطر متنه: ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا
(1)
* * *
ءفإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟
قيل له: نعم، قد دعاه إليه.
فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟
قيل حين قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة
الأنعام: 78-79] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من
بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ووصى بها"، ووصى بهذه
الكلمة. عنى ب"الكلمة" قوله (3) "أسلمت لرب العالمين"،
وهي"الإسلام"
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 227/ 2: 304.
(2) قرأ الآيات من سورة الأنعام: 74-78.
(3) في المطبوعة: "أعني بالكلمة"، وهو خطأ محض.
(3/93)
الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو
إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له. (1)
* * *
ويعني بقوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، عهد إليهم بذلك وأمرهم
به.
* * *
وأما قوله:"ويعقوب"، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه،
كما:-
2086- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، يقول:
ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم.
2087- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ووصى بها إبراهيم بنيه"،
وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بمثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه) ،
خبر منقض. وقوله:"ويعقوب" خبر مبتدأ. فإنه قال:"ووصى بها
إبراهيم بنيه". بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب
بنيه: أن:"يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
مسلمون".
ولا معنى لقول من قال ذلك. لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير
الذي أوصى به إبراهيم بنيه: من الحث على طاعة الله، والخضوع
له، والإسلام.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت: من أن معناه: ووصى
بها إبراهيم بنيه ويعقوب: أن"يا بني" - فما بال"أن" محذوفة من
الكلام؟
قيل: لأن الوصية قول، فحملت على معناها. وذلك أن ذلك لو جاء
بلفظ
__________
(1) انظر تفسير"الإسلام" قبل 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74،
92.
(3/94)
القول، لم تحسن معه"أن"، وإنما كان يقال:
وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب:"يا بني". فلما كانت الوصية قولا
حملت على معناها دون لفظها، (1) فحذفت"أن" التي تحسن معها، كما
قال تعالى ذكره: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11] ،
وكما قال الشاعر:
إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد ... وشجن لي
ببلاد السند (2)
فحذفت"أن"، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على
معناه دون لفظه. (3)
* * *
وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت"أن" من قوله:"ووصى بها
إبراهيم بنيه ويعقوب"، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله:"يا
بني" وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات
عن"أن"، كقولهم:"ناديت هل قمت؟ - وناديت أين زيد؟ ". قال:
وربما أدخلوها مع الأدوات. فقالوا:"ناديت، أن هل قمت؟ ".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على معناها دون قولها"، وهو خطأ صوابه ما
أثبت.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 80، 180، ولسان العرب (شجن) .
وقوله"شجن": هوى النفس، والحاجة. وهو مجاز من"الشجن" الذي هو
الحزن والهم. وكنوا به عن المرأة المحبوبة التي تشغل القلب
بالهم والحزن، من فراق أو دلال أو تجن، يقول مسلم بن الوليد
الأنصاري: وسرب من الأشجان يطوى له الحشا ... على شرق، من يلقه
يتبلد
يعني نساء، وقال أيضًا: أطال عمري، أم مد في أجلي، ... أم ليس
في الظاعنين لي شجن?
أي امرأة أحبها، وهوى يحزنني فراقه وبعده؟
(3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 80-81.
(3/95)
وقد قرأ جماعة من القرأة:"وأوصى بها
إبراهيم"، بمعنى: عهد.
وأما من قرأ"ووصى" مشددة، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا
بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفى لكم
الدين"، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه،
واجتباه لكم. (1)
* * *
وإنما أدخل"الألف واللام" في"الدين"، لأن الذين خوطبوا من
ولدهما وبنيهما بذلك، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به،
وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم -بعد أن عرفاهموه-: إن الله
اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن
تموتوا إلا وأنتم عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (132) }
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ إلَى بني آدمَ الموتُ
والحياةُ، فينهى أحدُهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟
قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ. وإنما معنى (2)
"فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أي: فلا تفارقوا هذا الدين -وهو
الإسلام- أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه،
فلذلك قالا لهم:"فلا تموتن إلا وأنتم
__________
(1) انظر معنى"الاصطفاء" فيما سلف قريبا: 91.
(2) في المطبوعة: "وإنما معناه"، والصواب ما أثبت.
(3/96)
أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
مسلمون"، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم
مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم
وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم
ساخط عليكم، فتهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أم كنتم شهداء"، أكنتم.
ولكنه استفهم ب"أم"، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد
سبقه، كما قيل: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة
السجدة: 1-3] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام
قد سبقه، تستفهم فيه ب"أم". (1)
* * *
"والشهداء" جمع"شهيد"، كما"الشركاء" جمع"شريك" و"الخصماء"
جمع"خصيم". (2)
* * *
قال أبو جعفر وتأويل الكلام: أكنتم -يا معشر اليهود والنصارى،
المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوته-، حضورَ
يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا
تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتَنحلوهم اليهوديةَ
والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم -وولده إسحاق وإسماعيل
وذريتهم- بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا
إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم
__________
(1) استوفى الطبري حديث"أم" فيما سلف 2: 492-494 وانظر مجاز
القرآن لأبي عبيدة: 56.
(2) مضى تفسير"الشهداء" في 1: 376-378.
(3/97)
فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما
نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم (1) .
* * *
وهذه آيات نزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في
دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم، فقال
لهم في هذه الآية:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت"، فتعلموا
ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا
له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2088- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قوله:"أم كنتم شهداء"، يعني أهل الكتاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا
وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال لبنيه"، إذ قال
يعقوب لبنيه".
* * *
و"إذ" هذه مكررة إبدالا من"إذ" الأولى، بمعنى: أم كنتم شهداء
يعقوب، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته.
* * *
ويعني بقوله:"ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون،"من بعدي"؟
أي من بعد وفاتي؟ قالوا:"نعبد إلهك"، يعني به: قال بنوه له:
نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق،"إلها واحدا" أي: ن
__________
(1) في المطبوعة: "علىغير ما تنحلوهم"، والصواب ما أثبت".
(3/98)
خلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا
نشرك به شيئا، ولا نتخذ دونه ربا.
* * *
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون"، ونحن له خاضعون بالعبودية
والطاعة.
ويحتمل قوله:"ونحن له مسلمون"، أن تكون بمعنى الحال، كأنهم
قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن
يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن
وفي كل حال مسلمون.
* * *
وأحسن هذين الوجهين -في تأويل ذلك- أن يكون بمعنى الحال، وأن
يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق،
مسلمين لعبادته.
* * *
وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأن إسماعيل كان أسن من
إسحاق.
ذكر من قال ذلك:
2089- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد في قوله:"قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق" قال، يقال: بدأ بإسماعيل لأنه أكبر.
* * *
وقرأ بعض المتقدمين:"وإله أبيك إبراهيم"، ظنا منه أن إسماعيل،
إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن تُرجم به عن الآباء،
وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك، قلة علم منه بمجاري
كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء،
والأخوال بمعنى الأمهات. (1) فلذلك دخل إسماعيل فيمن تُرجم به
عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ترجمةٌ عن الآباء في
موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون (2) .
* * *
__________
(1) وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "والعرب تجعل
العم والخال أبا".
(2) "الترجمة" وما اشتق منها: هي"البدل"، كما سلف آنفًا 2:
340، 420، وهذا الجزء 3: 52 وقوله: "ولكنهم نصبوا بأنهم لا
يجرون"، بمعنى أنها أسماء ممنوعة من الصرف، كما هو بين، ولكنه
تعبير مليح.
(3/99)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"وإله
آبائك"، لإجماع القراء على تصويب ذلك، وشذوذ من خالفه من
القراء ممن قرأ خلاف ذلك.
* * *
ونصب قوله:"إلها"، على الحال من قوله:"إلهك".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره. بقوله:"تلك أمة قد خلت"،
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم.
يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دَعوا ذكر
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما
هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها
إليهم، فإنهم أمة - ويعني: ب"الأمة" في هذا الموضع: الجماعةَ
والقرنَ من الناس (1) - قد خلت: مضت لسبيلها.
* * *
وإنما قيل للذي قد مات فذهب:"قد خلا"، لتخليه من الدنيا
وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه. (2)
وأصله من قولهم:"خلا الرجل"، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له
فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك
الوجه.
* * *
ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه - ضلالكم
وكفركم الذي أنتم عليه (3) - من أنبيائي ورسلي، ما كسب (4) .
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"أمة" 1: 221، وهذا الجزء 3: 74.
(2) في المطبوعة: "بما كان من الأنس"، والصواب ما أثبت: أي:
تخليه عما كان من الأنس بأهله. .
(3) في المطبوعة: "بضلالكم وكفركم" بزيادة الباء، وسياق الطبري
يقتضي حذف هذه الباء.
(4) في المطبوعة: "كسبت"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
(3/100)
"والهاء والألف" في قوله:"لها"، عائدة إن
شئت على"تلك"، وإن شئت على"الأمة".
* * *
ويعني بقوله:"لها ما كسبت"، أي ما عملت من خير، (1) . ولكم يا
معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم -
أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون. فيكسبون من خير وشر،
لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال
مللهم، فإن الدعاوَى غيرُ مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم
عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها وقدمتموها.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الكسب" فيما سلف 2: 273-274.
(3/101)
وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا
كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وقالوا كونوا هودا أو
نصارى تهتدوا"، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا
نصارى تهتدوا.
* * *
تعني بقولها:"تهتدوا"، أي تصيبوا طريق الحق، (1) . كما:-
2090- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن
حميد قال: حدثنا سلمة - جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد
بن أبي محمد مولى
__________
(1) انظر معاني"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249،
549-551/2: 393.
(3/101)
زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو
عكرمة، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا
يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل
فيهم:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم
حنيفا وما كان من المشركين". (1)
* * *
قال أبو جعفر: احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ
حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم
فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى
ولأصحابك:"كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" -: بل تعالوا نتبع ملة
إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي
ارتضاه واجتباه (2) وأمر به -فإن دينه كان الحنيفية المسلمة-
وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها
بعضنا. فإن ذلك -على اختلافه- لا سبيل لنا على الاجتماع عليه،
كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم.
* * *
وفي نصب قوله:"بل ملة إبراهيم" أوجه ثلاثة. أحدها: أن يوجه
معنى قوله:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى"، إلى معنى: وقالوا
اتبعوا اليهودية والنصرانية. لأنهم إذ قالوا:"كونوا هودا أو
نصارى"، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك
المعنى بالملة. فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد، لا نتبع
اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم
حنيفا، ثم يحذف"نتبع" الثانية، ويعطف ب"الملة" على إعراب
اليهودية والنصرانية.
والآخر: أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى"نتبع"
والثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة
__________
(1) الأثر: 2090- سيرة ابن هشام 2: 198.
(2) في المطبوعة: "تجمع جميعنا"، وهي خطأ، والصواب"يجمع"، من
الإجماع.
(3/102)
إبراهيم. ثم حذف"الأهل" و"الأصحاب"،
وأقيمت"الملة" مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، (1) كما
قال الشاعر: (2)
حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق (3)
يعني: صوت عناق، فتكون"الملة" حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب
على"اليهود والنصارى".
* * *
وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم.
(4)
وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا:
بل الهدى ملة إبراهيم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 82، ويريد في هذا القول
الأخير، أن النصب بقوله"نكون"، التي هي من معنى قوله: "كونوا
هودا. . "، ثم حذفت"نكون".
(2) هو ذو الخرق الطهوي، وانظر الاختلاف في اسمه، ومن سمي
باسمه في المؤتلف والمختلف: 119، والخزانة 1: 20، 21.
(3) سيأتي في التفسير 2: 56 منسوبا / ثم 4: 60/15: 14 (بولاق)
، ونوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1: 61 - 62،
واللسان (ويب) (عنق) (عقا) (بغم) وغيرها. وهو من أبيات يقولها
لذئب تبعه في طريقه، وهي أبيات ساخرة جياد. ألم تعجب لذئب بات
يسري ... ليؤذن صاحبا له باللحاق
حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق
ولو أني دعوتك من قريب ... لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ولكني رميتك من بعيد ... فلم أفعل، وقد أوهت بساقي
عليك الشاء، شاء بني تميم، ... فعافقه، فإنك ذو عفاق
وقوله"عناق" في البيت: هي أنثى المعز، وقوله: "ويب" أي ويل.
والبغام: صوت الظبية أو الناقة، واستعاره هنا للمعز. وقوله في
البيت الثالث"عاق"، أي عائق، فقلب، والعقاق: السرعة في الذهاب
بالشيء. عافقه: عالجه وخادعه ثم ذهب به خطفة واحدة.
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "عليكم ملة
إبراهيم".
(3/103)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بَلْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (135) }
قال أبو جعفر: و"الملة"، الدين
* * *
وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل
الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له
إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز
بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له
بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك.
* * *
فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما.
فيكون"الحنيف" حينئذ حالا من"إبراهيم"
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك. فقال
بعضهم:"الحنيف" الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم
الإسلام"الحنيفية"، لأنه أول إمام لزم العباد -الذين كانوا في
عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك
الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك
إبراهيم على ملته، فهو"حنيف"، مسلم على دين إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
2091- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال:
حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن
عن"الحنيفية"، قال: حج البيت.
2092- حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن موسى
(3/104)
قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"حنيفا"
قال الحنيف: الحاج. (1)
2093- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال: حدثنا أبي، عن الفضيل،
عن عطية مثله. (2)
__________
(1) الخبر: 2092- محمد بن عبادة الأسدي، شيخ الطبري: هذا الشيخ
مضى مرارا في المطبوعة على أوجه. منها: 645، 1511 باسم"محمد بن
عمارة الأسدي"، وذكرنا في ثانيهما أننا لم نجد له ترجمة ولا
ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه مرارا في التاريخ. ولم نجده في
فهارس التاريخ إلا كذلك. ومنها: 1971، باسم"محمد بن عمار"،
وصححناه فيه على ما رأينا من قبل"محمد بن عمارة". ولكنه جاء
هنا -كما ترى- باسم"محمد بن عبادة". والراجح عندي الآن أنه هو
الصواب. فإن يكن ذلك تكن نسخ الطبري في التفسير وفي التاريخ
محرفة في كل موضع ذكر فيه على غير هذا النحو.
وهذا الشيخ"محمد بن عبادة بن البختري الأسدي الواسطي": ثقة
صدوق، كان صاحب نحو وأدب. وهو من شيوخ البخاري، وأبي حاتم،
وأبي داود، وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
4/1/17. روى عنه البخاري في الصحيح حديثين، (8: 26، و 9: 93 من
الطبعة السلطانية) - (10: 429، و 13: 214 من الفتح) - (9: 53،
و 10: 246 من القسطلاني طبعة بولاق الأول) . ونص بهامش
السلطانية على أن"عبادة" - في الموضعين: بفتح العين. وكذلك
ضبطه الشارحان. قال الحافظ (13: 214) : "بفتح المهملة وتخفيف
الموحدة، واسم جده: البختري، بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح
المثناة من فوق، ثقة واسطي، يكنى: أبا جعفر. ما له في البخاري
إلا هذا الحديث، وآخر تقدم في كتاب الأدب"، يعني الذي مضى في
الفتح (8: 26) .
وكذلك ضبط اسم أبيه، في المشتبه للذهبي: 333، والحافظ في تحرير
المشتبه (مخطوط) .
وإنما رجحت -هنا- أنه"محمد بن عبادة": لأن"محمد بن عمارة
الأسدي" مفقود ذكره في كتب التراجم والرواية. فيما وصل إليه
علمي، ولأن كثيرا من رواياته في التاريخ والتفسير - عن"عبيد
الله بن موسى"، كما في التفسير: 1511، والتاريخ 1: 57، و 2:
266، و 3: 76، 78. نعم: يمكن أن يكون هناك شيخ آخر -لم يصل
إلينا علمه- باسم"محمد بن عمارة" يتفق مع هذا في شيوخه وفي
الرواة عنه. ولكني أرى أن ما ذكرت هو الأرجح.
و"عبيد الله بن موسى": هو العبسي الحافظ الثقة. وهو مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/334-335، وتذكرة الحفاظ 1:
322-323، ووقع اسمه في المطبوعة هنا"عبد الله" وهو تحريف واضح.
فضيل: هو ابن مرزوق الرقاشي: وهو ثقة، رجحنا توثيقه في شرح
المسند: 1251، لأن من تكلم فيه، إنما تكلم من أجل أحاديث
يرويها عن عطية العوفي - الذي يروى عنه هنا، وعطية ضعيف، كما
مضى في: 305.
(2) الخبر: 2093- الحسين بن علي الصدائي -بضم الصاد وتخفيف
الدال المهملتين- الأكفاني: ثقة عدل من الصالحين، روى عنه
الترمذي والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
1/2/56، وتاريخ بغداد 8: 67-68.
أبوه"علي بن يزيد بن سليم الصدائي": ثقة أيضًا، تكلم فيه
بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/209.
(3/105)
2094- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام بن
سلم، (1) عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي
بزة، عن مجاهد قال: الحنيف الحاج.
2095- حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
ابن التيمي، عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"،
قال: هو حج هذا البيت.
قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، مثله. (2)
2096- حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان،
عن السدي، عن مجاهد:"حنفاء" قال: حجاجا. (3)
2097- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"حنيفا"
قال: حاجا.
2098- حدثت عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن القاسم
قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون"حنفاء"،
فأنزل الله تعالى ذكره (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ
بِهِ) . [سورة الحج: 31]
* * *
وقال آخرون:"الحنيف"، المتبع، كما وصفنا قبل، من قول الذين
قالوا: إن معناه: الاستقامة.
ذكر من قال ذلك:
2099- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا
سفيان،
__________
(1) في المطبوعة"حكام بن سالم"، خطأ. وقد مضى كثيرا في إسناد
الطبري.
(2) الخبر: 2095- ابن التيمي: لم أجد نصا يعين من هو؟
ونسبة"التيمي" فيها سعة. وأنا أرجح أن يكون"معتمر بن سليمان بن
طرخان التيمي". فإنه من هذه الطبقة، ويروي عنه عبد الرزاق.
ولعل عبد الرزاق ذكره بهذه النسبة، لئلا يشتبه باسم معمر. وهو
ابن راشد، إذ يكثر عبد الرزاق الرواية عن معمر. فخشي التصحيف
لو قال هنا"معتمر". فخرج منه بقوله"ابن التيمي".
(3) انظر ما سيأتي في رقم: 2098، فهذا من تفسير آية سورة الحج
المذكورة ثم.
(3/106)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حنفاء" قال:
متبعين.
* * *
وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم"الحنيفية"، لأنه أول إمام سن
للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على
سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام،
فهو"حنيف" على ملة إبراهيم. (1)
وقال آخرون:"بل ملة إبراهيم حنيفا"، بل ملة إبراهيم
مخلصا."فالحنيف" على قولهم: المخلص دينه لله وحده.
ذكر من قال ذلك:
2100- حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:"واتبع ملة إبراهيم حنيفا"، يقول:
مخلصا.
* * *
وقال آخرون: بل"الحنيفية" الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في
ملته فاستقام عليها، فهو"حنيف".
* * *
قال أبو جعفر:"الحنف" عندي، هو الاستقامة على دين إبراهيم،
واتباعه على ملته. (2) . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت،
لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك
كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: (ولكن كان
حنيفا مسلما وما كان من المشركين) [سورة آل عمران: 67]
فكذلك القول في الختان. لأن"الحنيفية" لو كانت هي الختان، لوجب
أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: (مَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ
كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] .
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 58.
(2) في المطبوعة: "الحنيف عندي هو الاستقامة"، وهو كلام مختلف،
صوابه ما أثبت.
(3/107)
فقد صحّ إذًا أن"الحنيفية" ليست الختانَ
وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة
على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها.
* * *
فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله
عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من
طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟
قيل: بَلى.
فإن قال: فكيف أضيف"الحنيفية" إلى إبراهيم وأتباعه على ملته
خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟
قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا
متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم
إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك
بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان،
وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام
الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده
وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من
الناس"حنيفًا" باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه،
وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل:"يهودي،
ونصرانيّ، ومجوسيّ"، وغير ذلك من صنوف الملل
* * *
وأما قوله: و"ما كانَ مِن المشركين"، يقول: إنه لم يكن ممن
يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من
النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا.
* * *
(3/108)
قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"قولوا" -أيها المؤمنون،
لهؤلاء اليهودِ والنصارَى، الذين قالوا لكم:"كونوا هُودًا أو
نصارى تَهتدوا"-:"آمنا"، أي صدَّقنا"بالله".
وقد دللنا فيما مضى أنّ معنى"الإيمان"، التصديقُ، بما أغنى عن
إعادته. (1) .
* * *
"وما أنزل إلينا"، يقول أيضًا: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله
إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنزيل
إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به. فكان - وإنْ كان
تنزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنزيل
إليهم، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفتُ
* * *
ويعني بقوله:"ومَا أنزل إلى إبراهيم"، صدَّقنا أيضًا وآمنا بما
أنزل إلى إبراهيم"وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط"، وهم
الأنبياء من ولد يَعقوب.
* * *
وقوله:"ومَا أوتي مُوسَى وعيسى"، يعني: وآمنا أيضًا بالتوراة
التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب
التي آتى النبيين كلهم، وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى
ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على
حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى
توحيد الله، والعمل بطاعته،"لا نُفرِّق بَينَ أحد منهم"، يقول:
ل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 235-236، ثم 2: 143، 348. . . ومواضع أخرى
غيرها.
(3/109)
انؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرَّأ
من بعضٍ ونتولى بعضًا، كما تبرأت اليهودُ من عيسى ومحمد عليهما
السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت النصارَى من
محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبياء، بل نشهد
لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه، بعثوا بالحق والهدى.
* * *
وأما قوله:"ونحنُ لَهُ مُسلمون"، فإنه يعني تعالى ذكره: ونحنُ
له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. (1)
* * *
فذُكر أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود،
فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به، كما:-
2101- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد
بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال:
حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، (2)
ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار،
وأشْيَع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا
أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب
والأسباط، ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم
لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا
نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل
الله فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ)
(3) [سورة المائدة:59]
__________
(1) انظر"الإسلام" فيما سلف: 510، 511 / وهذا الجزء 3، 74، 92،
94.
(2) في سيرة ابن هشام 2: 216"منهم: أبو ياسر".
(3) الأثر: 2101- سيأتي في تفسير سورة المائدة: 59 (6: 188-189
بولاق) بإسناده عن هناد بن السري عن يونس بن بكير، وهو في سيرة
ابن هشام 2: 216 مع اختلاف يسير في بعض لفظه. وانظر الأثر
التالي.
(3/110)
2102- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال:
حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة،
أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فذكر نحوه - إلا أنه قال:"ونافع بن أبي نافع"
مكانَ"رافع بن أبي رافع" (1) .
* * *
وقال قتادة: أنزلتْ هذه الآية، أمرًا من الله تعالى ذكره
للمؤمنين بتصديق رُسله كلهم.
2103- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى
إبراهيم" إلى قوله:"ونَحنُ له مسلمون"، أمر الله المؤمنين أن
يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرِّقوا بين أحد
منهم.
* * *
وأما"الأسباط" الذين ذكرهم، فهم اثنا عشر رَجلا من ولد يعقوب
بن إسحاق بن إبراهيم. وَلَد كل رجل منهم أمّة من الناس،
فسموا"أسباطًا" (2) . كما:-
2104- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: الأسباط، يوسفُ وإخوته، بنو يَعقوب. ولد اثني عشر
رجلا فولد كل وحل منهم أمَّة من الناس، فسموا:"أسباطا".
2105- حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي:
أما الأسباط، فهم بنو يعقوب: يوسُف، وبنيامين، ورُوبيل،
__________
(1) الأثر: 2102 - هكذا جاء في سيرة ابن هشام 2: 216، وانظر
سيرة ابن هشام أيضًا 1: 161، 162"رافع بن أبي رافع"، و"نافع بن
أبي نافع"، والخلط في أسماء يهود ذلك العهد كثير في كتب السير.
(2) انظر تفسير"الأسباط" فيما سلف أيضًا 2: 121.
(3/111)
ويهوذا، وشَمعون، ولاوِي، ودَان، وقهاث.
(1) .
2106- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع، قال:"الأسباط" يوسف وإخوته بنو يعقوب،
اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمّة من الناس،
فسموا"الأسباط".
2107- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن
إسحاق قال (2) نكح يَعقوب بن إسحاق -وهو إسرائيل- ابنة
خاله"ليا" ابنة"ليان بن توبيل بن إلياس"، (3) فولدت له"روبيل
بن يعقوب"، (4) وكان أكبر ولده، و"شمعون بن يعقوب"، و"لاوي بن
يعقوب" و"يهوذا بن يعقوب" و"ريالون بن يعقوب"، (5) و"يشجر بن
يعقوب"، (6) و"دينة بنت يعقوب"، ثم توفيت"ليا بنت ليان". (7)
فخلف يعقوب على أختها"راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس" (8)
فولدت له"يوسف بن يعقوب" و"بنيامين" -وهو بالعربية أسد- وولد
له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما"زلفة"، واسم الأخرى"بلهية"،
(9) أربعة
__________
(1) الأثر: 2105- في الدر المنثور 1: 140. ولم أجد في ولد
يعقوب"قهاث" وفي الدر المنثور"وتهان"، والظاهر أنهما جميعًا
محرفان عن"نفتالى" أخبر"دان" من أمها"بلهية" جارية"راحيل"، كما
سيأتي في الأثر التالي: 2107، وكما هو في كتاب بني إسرائيل
الذي بين أيدينا. هذا، وقد اقتصر الطبري هنا على ثمانية نفر من
الأسباط. وزاد السيوطي في الدر المنثور تاسعًا -في روايته عن
الطبري- قال"وكونوا - بالنون"، وليس في ولد يعقوب هذا الاسم،
إلا أن يكون تصحيفًا صوابه"زبلون" كما هو في كتب القوم. انظر
التعليق على الأثر التالي: 2107.
(2) الأثر: 2107- لم أصحح هذه الأسماء، مع الاختلاف فيها،
ولكني سأذكر مواضع الاختلاف على رسمها في كتاب بني إسرائيل
الذي بين أيدينا، في التعليقات الآتية.
(3) "ليئة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(4) (رأُوبين بن يعقُوبُ)
(5) (زَبُولُون بن يعقوب)
(6) (يسَّاكر بن يعقوب)
(7) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(8) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(9) (بِلْهة)
(3/112)
فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
نفر:"دان بن يعقوب"، و"نَفثالي بن يعقوب"
و"جَاد بن يعقوب"، و"إشرب بن يعقوب" (1) فكان بنو يعقوب اثني
عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا
يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) . [سورة الأعراف: 160]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا
آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم
به"، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنزل إليكم، وما
أنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا
أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك،
مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفِّقوا
ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم
منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك.
فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا
بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:-
2108- حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإن آمنوا بمثل
مَا آمنتم به فقد اهتدوا" ونحو هذا، قال: أخبر الله سبحانه أنّ
الإيمان هو العروة الوثقى، وَأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا
تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.
* * *
__________
(1) (أشِير بن يَعْقُوب) وراجع في الجميع سفر التكوين إصحاح:
29، 30، 35.
(3/113)
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت
مصاحفُ المسلمين بخلافها، وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها.
وذلك ما:-
2109- حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال:
حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قال ابن عباس: لا تقولوا:"فإن
آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" -فإنه ليس لله مثل- ولكن
قولوا:"فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا"- أو قال:"فإن
آمنوا بما آمنتم به".
* * *
فكأن ابن عباس -في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه
تأويل قراءة من قرأ:"فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به"، فإن آمنوا
بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف
إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله
تعالى ذكرُه، فنؤمن أو نكفر به.
* * *
ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما
معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به -من
جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا.
فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان
هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل:"مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما
مررتُ به"، يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل
إنما دخل تمثيلا بين المرورين، لا بين عمرو وبين المتكلم.
فكذلك قوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، إنما وقع التمثيل
بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به.
* * *
(3/114)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"وإن تَوَلَّوْا"، وإن
تولى -هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم
وأصحابه:"كونوا هودًا أو نصارَى"- فأعرضوا، (1) = فلم يؤمنوا
بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ،
وابتُعِثت به الرسل، وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله،
فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ = فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم
إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:-
2110- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:
"وإنما هُم في شقاق"، أي: في فراق (2)
2111- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"فإنما هُمْ في شقاق"، يعني فراق.
2112- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"وإن
توَلوا فإنما هم في شقاق" قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا
شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام
العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) [سورة النساء:
115] .
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الشقاق" عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول
القائل:"شَقَّ عليه هذا الأمر"، إذا كرَبه وآذاه. ثم
قيل:"شاقَّ فلانٌ فلانًا"، بمعنى: نال
__________
(1) انظر معنى"تولى" فيما سلف، 2: 162، 163 / ثم 298، 299.
(2) الأثر: 2110- سقط من المطبوعة في إسناده: "عن سعيد"، وهو
إسناد دائر في التفسير، أقر به فيما سلف: 2104.
(3/115)
كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه،
وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء: 35] بمعنى: فراقَ بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فسيكفيكهمُ الله"،
فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ
ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تهتدوا"، من اليهود
والنصارى، إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك
بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل
السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله
هو"السميع" لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من
الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة -"العليمُ" بما
يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده، فكفى نبيّه صلى الله
عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا،
وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار.
* * *
(3/116)
صِبْغَةَ اللَّهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ
رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
القول في تأويل قوله تعالى: {صِبْغَةَ
اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ (138) }
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب"الصبغة: صبغةَ الإسلام. وذلك
أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم
تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام،
وأنه صبغة لهم في النصرانية. (1)
فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل
لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ،
صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة،
ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه.
* * *
ونصب"الصبغة" من قرأها نصبًا على الردِّ على"الملة". وكذلك
رَفع"الصبغة" من رَفع"الملة"، على ردّها عليها.
وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى:
هي صبغةُ الله.
وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على"الملة"، ولكن على
قوله:"قولوا آمنا بالله" إلى قوله"ونحنُ له مسلمون"،"صبغةَ
الله"، بمعنى: آمنا هذا الإيمان، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ
الله. (2)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الصبغة" قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2113- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 82-83.
(2) انظر معاني القرآن 1: 82-83.
(3/117)
"صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة" إنّ
اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى،
وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر،
وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.
2114- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قال عطاء:"صبغةَ الله" صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا
الفِطْرة.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"صبغة الله". فقال بعضهم:
دينُ الله.
ذكر من قال ذلك:
2115- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة:"صبغة الله" قال: دينَ الله.
2116- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية في قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ
الله،"ومن أحسن من الله صِبغةً"، ومن أحسنُ من الله دينًا.
2117- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر
عن أبيه، عن الربيع مثله.
2118- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
2119- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن
مجاهد مثله.
2120- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2121- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا
فُضَيل بن مرزوق، عن عطية قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
(3/118)
2122- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو
بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من
الله صبغة"، يقول: دينَ الله، ومن أحسن من الله دينًا.
2123- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال:
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
2124- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول
الله:"صبغةَ الله" قال: دين الله.
2125- حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت
ابن زيد عن قول الله:"صبغةَ الله"، فذكر مثله.
* * *
وقال أخرون:"صبغة الله" فطرَة الله. (1)
ذكر من قال ذلك:
2126- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"صبغة الله" قال:
فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها.
2127- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب
قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد:"ومن أحسنُ
من الله صبغة" قال: الصبغة، الفطرةُ.
2128- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد قال: "صبغةَ الله"، الإسلام، فطرةَ الله التي
فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن
كثير:"صبغةَ الله" قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا.
قال: هي فطرة الله.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59.
(3/119)
ومن قال هذا القول، فوجَّه"الصبغة" إلى
الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها
خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: (فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأنعام: 14] . بمعنى خالق
السماوات والأرض (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره:"ونَحنُ له عَابدون"، أمرٌ من
الله تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود
والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه:"كونوا هودًا أو
نَصارَى". فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ
ملة إبراهيم حنيفًا، صبغةَ الله، ونحنُ له عابدون. يعني: ملة
الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم،
وَديْنُونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار
برسالته رسلَه، كما استكبرت اليهودُ والنصارَى، فكفروا بمحمد
صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبغيًا وحسدًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي
اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قُلْ أتُحاجُّونَنا في
الله"، قل يا محمد = لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك
ولأصحابك:"كونوا هُودًا
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59.
(3/120)
أو نَصَارَى تَهتدوا"، وزعموا أن دينهم
خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم،
وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم =:"أتحاجوننا في الله
وهو رَبنا وربكم"، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ،
والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم
بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل
كتابنا، وربّكم وربّنا واحدٌ، وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل
واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازى [عليها] فيثابُ أو
يعاقبُ، (1) - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب.
* * *
ويعني بقوله:"قُلْ أتحاجوننا"، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما-
2129- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أتحاجوننا في الله"، قل:
أتخاصموننا؟
2130- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"قل
أتحاجُّونَنا"، أتخاصموننا؟
2131- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال:
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أتحاجوننا"، أتجادلوننا؟
* * *
فأما قوله:"ونحن له مُخلصون"، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو
العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما
عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان،
بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
قولوا -أيها المؤمنون، لليهود
__________
(1) في المطبوعة: "ويجازى فيثاب أو يعاقب". وكأن الصواب يقتضي
حذف"الواو"، وزيادة: "عليها". وقوله: "لأعلى الأنساب" معطوف
على قوله: "والجزاء على الأعمال".
(3/121)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
والنصارى الذين قالوا لكم:"كونوا هودًا أو
نصارى تَهتدوا"-:"أتحاجوننا في الله"؟ يعني بقوله:"في الله"،
في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به، وربنا وربكم واحدٌ
عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ عَلى ما اكتسبوا. وتزعمون
أنّكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ
مُخلصون له العبادةَ، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في
عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى
تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان. أحدهما:"أمْ تَقولون"
ب"التاء". فمن قرأ كذلك، فتأويله: قل يا محمد -للقائلين لَك من
اليهود والنصارى:"كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا"-: أتجادلوننا
في الله، أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفًا على
قوله:"أتحاجوننا في الله".
والوجه الآخر منهما:"أم يَقولون" ب"الياء". ومن قرأ ذلك كذلك
وجّه قوله:"أم يقولون" إلى أنه استفهام مُستأنَف، كقوله: (أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 3] ، وكما يقال:"إنها
لإبل أم شَاءٌ". (2) وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا، لمجيء
خبر مستأنف، كما يقال:"أتقوم أم يقوم أخوك؟ " فيصير قوله:"أم
يقوم أخوك" خبرًا مستأنفًا لجملة ليست من الأول واستفهامًا
__________
(1) في المطبوعة: "وأنى تكونوا خيرًا منا"، والصواب ما أثبت.
"أنى" استفهام بمعنى: كيف.
(2) انظر ما سلف في خبر"أم" 2: 492-494، وهذا الجزء 3: 97.
(3/122)
مبتدأ. ولو كان نَسقًا على الاستفهام
الأول، لكان خبرًا عن الأول، فقيل:"أتقوم أم تقعد؟ "
وقد زعم بعض أهل العربية أنّ ذلك، إذا قرئ كذلك ب"الياء"، فإن
كان الذي بعد"أم" جملة تامة، فهو عطفٌ على الاستفهام الأول.
لأن معنى الكلام: قيل: أيّ هذين الأمرين كائنٌ؟ هذا أم هذا؟
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القرَاءة عندنا في ذلك:"أم
تقولون""بالتاء" دون"الياء" عطفًا على قوله:"قل أتحاجُّوننا"،
بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله،
فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا -وأمرنا وأمركم ما
وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا (1) - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو
نصارَى على ملتكم، فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، (2) لأن
اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من
أنبيائه. وغير جائزة قراءة ذلك ب"الياء"، لشذوذها عن قراءة
القراء.
* * *
وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه صلى الله
عليه وسلم على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول
الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد -لهؤلاء
اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم
أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من
الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك
فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ
والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على
دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد
جَعلهم أئمة يقتدى بهم.
__________
(1) في المطبوعة: "أيضًا"، والصواب ما أثبت.
(2) أخشى أن يكون الصواب"فيتضح للناس"، والذي في الأصل لا بأس
به.
(3/123)
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه
وسلم: قُل لهم يا محمد - إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل
وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى: أأنتم أعلم
بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى -
الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نصارى"، أن إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، فمن
أظلمُ منهم؟ يقول: وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً
عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ
كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
2132- فحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم
شَهادةً عندهُ من الله" قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل
ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا
تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد عَلم أنهم كاذبون.
2133- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من
الله"، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما: إنهم
كانوا يهود أو نصارَى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة
فيهم، إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين.
(3/124)
2134- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال:
حدثني إسحاق، عن أبي الأشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية:"أم
تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل" إلى قوله:"قل أأنتم أعلمُ أم
الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله"، قال الحسن: والله
لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من
اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شَهادة أن
أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلُّوها؟
2135- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، أهلُ
الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه
مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا
نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارَى، (1) إن
ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا
هودًا أو نصارى، تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، (2)
كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ = لأن اليهودية
والنصرانية حدثت بعدهم = وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية
والنصرانية، (3) قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين،
فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون
فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه.
* * *
وقال آخرون: بل عَنى تعالى ذكره بقوله:"ومَنْ أظلم ممن كتم
شهادةً عنده من الله"، اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد صلى الله
عليه وسلم ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه عنى تعالى ذكره. . . " والسياق مختل،
فاستظهرت إصلاحه كما سترى في التعليق الآتي:
(2) في المطبوعة"بين لأهل الشرك". والسياق يوجب ما أثبت.
(3) سياق هذه الجملة من أول الفقرة: "وإنما عنى تعالى ذكره أن
اليهود والنصارى، إن ادعوا أن إبراهيم. . . تبين لأهل الشرك. .
. وإن نفوا عنهم اليهودية قيل لهم:. . . "، وبذلك يتبين أن
الذي أثبتنا أحق بسياق الكلام.
(3/125)
ذكر من قال ذلك:
2136- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"أم تَقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ
والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارَى"، أولئك أهل الكتاب كتموا
الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية
والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون
أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في
التوراة والإنجيل.
2137- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة قوله:"ومَنْ أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله"
قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مكتوبٌ عندهم، وهو
الذي كتموا.
2138- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثني ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ، عن يزيد. (1)
2139- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عند منَ الله" قال: هم يهودُ،
يُسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله
عندهم، فيكتمون الصفة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القولَ الذي قلناه في تأويل ذلك،
لأن قوله تعالى ذكره:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"،
في إثر قصة من سمَّى الله من أنبيائه، وأمامَ قصته لهم. فأوْلى
بالذي هو بَين ذلك أن يكون من قَصصهم دون غَيره.
* * *
فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى من الله في أمر
إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ؟
__________
(1) الأثر: 2138- كان في المطبوعة"حدثني المثنى قال حدثني ابن
أبي جعفر"، أسقط من الإسناد"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر في
التفسير، أقربه رقم: 117.
(3/126)
قيل: الشهادةُ التي عندهم من الله في
أمرهم، مأ أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرُهم فيها
بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين.
وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي
الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)
[سورة البقرة: 111] ، وقالوا له ولأصحابه:"كونوا هُودًا أوْ
نصارى تَهتدوا"، فأنزلَ الله فيهم هذه الآيات، في تكذيبهم،
وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (140) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود
والنصارَى، الذين يحاجُّونك يا محمد-:"وما اللهُ بغافل عما
تعملون"، من كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس
من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر
الإسلام، وأنهم كانُوا مسلمين، وأنّ الحنيفية المسلمة دينُ
الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به، دون اليهودية
والنصرانية وغيرهما من الملل- ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على
فعلكم ذلك، (1) بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به من الجزاء
ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في
الدنيا، بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في
الآخرة العذابَ المهين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244 / ثم: 316.
(3/127)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك أمة"، إبراهيمَ
وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. كما:-
2140- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله تعالى:"تلك أمة قَد خَلت"، يعني: إبراهيمَ وإسماعيل
وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ.
2141- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن"الأمة"، الجماعة (1) .
* * *
فمعنى الآية إذًا: قلْ يا محمد = لهؤلاء الذين يُجادلونك في
الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندَهم من الشهادة في
أمر إبراهيم ومن سَمَّينا مَعه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا
أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا =: إنّ إبراهيم وإسماعيل
وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمَّةٌ قد خَلتْ -أي مضت لسبيلها
(2) - فصارت إلى ربها، وخَلتْ بأعمالها وآمالها، لها عند الله
ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا
ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها. فاعلموا
أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم، إنْ كان هؤلاء - (3) وهم
الذين
__________
(1) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم
انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم
انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "هم الذين بهم. . . "، والصواب"وهم. . . ".
(3/128)
بهم تَفتخرون، وتزعمون أنّ بهم تَرجُون
النجاةَ من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا يَنفعهم
عند الله غيرُ ما قدَّموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير
سيئها، فأنتم كذلك أحرَى أنْ لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم
من صالح الأعمال، (1) ولا يضرّكم غيرُ سَيئها. فاحذروا على
أنفسكم، وبادروا خروجَها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم
عليه من الكفر والضلالة والفِرية على الله وعلى أنبيائه
ورُسُله، ودَعُوا الاتكالَ على فَضَائل الآباء والأجداد، فإنما
لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تُسألون عما كان إبراهيم
وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباط يَعملون من الأعمال، لأن
كل نفس قَدِمت على الله يوم القيامة، فإنما تُسأل عما كسبت
وأسلفت، دون ما أسلفَ غيرُها.
* * *
__________
(1) سياق هذه العبارة: "إن كان هؤلاء. . . لا ينفعهم عند الله
غير ما قدموا. . . فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم غير صالح
الأعمال. . . ".
(3/129)
سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(142)
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيقول السفهاء"، سيقول
الجهال"منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق.
وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق. (1)
فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن
اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من
بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.
* * *
وبما قلنا في"السفهاء" -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل
التأويل.
ذكر من قال: هم اليهود:
__________
(1) سفه الحق: جهله. وانظر ما سلف في معنى"السفه" 1: 293-294 /
ثم هذا الجزء 3: 90.
(3/129)
2142- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز
وجل:"سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم" قال،
اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.
2143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2144- حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن
البَراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. (1)
2145- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي
إسحاق، عن البراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود.
2146- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"سيقول السفهاء من الناس" قال،
أهل الكتاب
2147- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهودُ.
* * *
وقال آخرون:"السفهاء"، المنافقون.
* ذكر من قال ذلك.
2148- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: نزلت"سَيقول السفهاء من الناس"، في المنافقين.
* * *
__________
(1) الأثر: 2144- هذا إسناد ليس بذاك، فإن الطبري رواه عن شخص
مبهم، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي.
وهو ثقة، أخرج له الجماعة، وقد ينسب إلى جده. ولد سنة 133، أو
134، ومات سنة 227. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/6، والصغير،
ص: 239، وابن أبي حاتم 1/1/57. وابن سعد 6: 283. زهير: هو ابن
معاوية أبو خيثمة الكوفي. ثقة ثبت معروف. وأبو إسحاق: هو
السبيعي، عمرو بن عبد الله. التابعي الكبير المشهور، البراء:
هو ابن عازب الصحابي.
(3/130)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا وَلاهُمْ
عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ما ولاهم": أيُّ شيء
صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل:"ولاني فلان دُبُره"،
إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله:"ما ولاهم"؟ أيّ شيء
حَوَّل وُجُوههم؟ (1)
* * *
وأما قوله:"عن قبلتهم"، فإن"قبلة" كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما
هي"فِعْلة" بمنزلة"الجلسة والقِعْدة"، (2) من قول
القائل."قابلت فلانًا"، إذا صرتُ قُبالته أقابله، فهو لي"قبلة"
وأنا له"قبلة"، إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه (3) -:
سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله، -
إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ
أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء
حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه
بوجوههم في صلاتهم؟
فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ
والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن
الشأم إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه
عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل
لهم:"لله المشرقُ والمغرب يَهدي مَنْ يَشاء إلى صرَاط مستقيم".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"ولي" 2: 162، وهذا الجزء 3: 115.
(2) انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء 3: 87.
(3) في المطبوعة: "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك"، ولا يقوم الكلام
إلا بها.
(3/131)
وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه
وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء
الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله
عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من
القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه، وما الذي ينبغي أن
يكون من ردِّه عليهم من الجواب.
* * *
ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا
اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ
المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟
اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه
وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-
2149- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق قال،
حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة
-شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى
الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس، وقَرْدَم بن عمرو، وكعبُ بن
الأشرف، ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد، وقال أبو
كريب: ورَافع بن أبي رافع (1) - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب
بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن
أبي الحقيق، (2) فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت
عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك
التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه.
فأنزل
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 111 تعليق: 1.
(2) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. وفيها: "وكنانة بن
الربيع بن أبي الحقيق".
(3/132)
الله فيهم:"سيقول السفهاءُ من الناس مَا
ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"إلا لنعلمَ مَنْ
يَتَّبع الرسول ممن يَنقلبُ عَلى عَقبَيْه". (1)
2150- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء:
صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر
شهرًا، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي
ذاتَ يوم، فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى
هاهنا، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه
أبو إسحاق؟ فسكت. (2)
2151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن
عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى
الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. (3)
2152- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان قال،
حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى
الله عليه وسلم نحو
__________
(1) الأثر: 2149- نص ما في سيرة ابن هشام 2: 198-199.
(2) الحديث: 2150- أبو بكر بن عياش: ثقة معروف، إلا أنهم أخذوا
عليه بعض الأخطاء، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وهو هنا يروى
الحديث -منقطعًا- عن البراء، لأنه لم يدركه. وقد سأله بعض
سامعيه، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث: "فيه: أبو إسحاق"؟
يريد السائل أن يستوثق منه: أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن
البراء؟ فسكت ولم يجبه. ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا.
ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء، في الأسانيد
الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر
الحديث الأخر، كما سيأتي.
(3) الحديث: 2151- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ
الطبري. ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها.
وقد رواه ابن ماجه: 1010، عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي
بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، مطولا. وذكر فيه أن
صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا". وعلقمة بن عمرو
الدارمي: ثقة. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "حديث البراء
صحيح، ورجاله ثقات".
(3/133)
بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر
شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. (1)
2153- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال:
حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من
الأنصار، وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان
يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه
قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع
فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ
قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ
أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت
المقدس وأهلُ الكتاب، فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك.
(2)
2154- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا
يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر
شهرًا، ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2152- هذا إسناد صحيح جدًا. يحيى: هو ابن سعيد
القطان. سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر. وهكذا رواه البخاري
8: 132 (فتح الباري) ومسلم 1: 148 - كلاهما من طريق يحيى، عن
سفيان، به، مختصرًا.
(2) الحديث: 2153- وهذه رواية مفصلة. والإسناد صحيح جدًا. رواه
الإمام أحمد في المسند 4: 283 (حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن
زهير وهو ابن معاوية. بهذا الإسناد نحوه. بأطول منه. ورواه ابن
سعد في الطبقات 1/2/5، عن الحسن بن موسى، بهذا الإسناد. وكذلك
رواه البخاري 1: 89-90، عن عمرو بن خالد، عن زهير، به. ورواه
أيضًا 8: 130، عن أبي نعيم، عن زهير، مختصرًا قليلا.
ورواه أيضًا البخاري 1: 421-422، و 13: 202. ومسلم 1: 148، من
أوجه، عن البراء بن عازب.
وسيأتي باقيه بهذا الإسناد: 2222.
(3) الحديث: 2154- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي، شيخ
الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/305-306.
عبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، أحد الأعلام، يحيى بن سعيد:
هو الأنصاري البخاري ثقة حجة، من شيوخ الزهري ومالك والثوري
وغيرهم.
ابن المسيب: هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير، ووقع في
المطبوعة"المسيب"، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين.
وهذا الحديث مرسل، كما هو مبين، وكذلك رواه مالك في الموطأ، ص
196، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وكذلك رواه
الشافعي عن مالك، في الرسالة، بتحقيقنا، رقم 366. وكذلك رواه
ابن سعد في الطبقات 1/2/4، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد.
وقد وصله العطاردي. من حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه البيهقي في
السنن الكبرى 2: 3، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي:
"حدثنا محمد بين الفضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن
المسيب قال، سمعت سعدًا يقول. . . ". فذكر الحديث. ثم قال
البيهقي: "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل. ورواه مالك،
والثوري، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب،
مرسلا دون ذكر سعد".
وهذا إسناد جيد، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة. فإن"أحمد
بن عبد الجبار العطاردي": قد مضى في: 66 أن أبا حاتم قال فيه:
"ليس بقوي". ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب 1: 51-52،
وتاريخ بغداد 4: 262-265 - يرى أن توثيقه أرجح، وأن الكلام فيه
لم يكن عن بينة. ولذلك قال الخطيب: "كان أبو كريب من الشيوخ
الكبار، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل
أيضًا ثقة، من طبقة العطاردي. وقد شهد له أحدهما بالسماع،
والآخر بالعدالة. وذلك يفيد حسن حالته، وجواز روايته. إذ لم
يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه، واطراح خبره". وهذا كاف في
قبول زيادته في هذا الحديث، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن
سعد بن أبي وقاص.
(3/134)
وقال آخرون بما:-
2155- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان
بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى
الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما
هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس،
انصرف بوَجْهه إلى الكعبة، فقال السفهاء:"ما وَلاهُم عن قبلتهم
التي كانوا عَليها". (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 2155- عمرو بن علي: هو الفلاس، مضت ترجمته: 1989.
أبو عاصم: هو النيل، واسمه"الضحاك بن مخلد"، وهو فقيه ثقة
حافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة.
مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/337، والصغير: 231، وابن سعد
7/2/49، وابن أبي حاتم2/1/463، والجمع بين رجال الصحيحين
228-229. وكان نبيلا حقًا، صفة ولقبًا. قال البخاري في الكبير:
"سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر
أهلها". ولد سنة 122، ومات سنة 212 وهو ابن 90 سنة و 4 أشهر
ولدته أمه وعمرها 12 سنة. رحمهما الله.
عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم: ثقة، وثقه أبو نعيم،
والحاكم وغيرهما، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة، ونقل بعضهم عن
النسائي أنه قال: "ليس بثقة"، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد
الهادي: "الصواب في قول النسائي: أنه ليس بالقوي". وهذا هو
الصواب عن النسائي، وهو الذي في كتاب الضعفاء له، ص: 22.
وترجمه ابن أبي حاتم 3/1/153، وقال: "سمع أنس بن مالك". وسماعه
من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند: 13201.
فهذا الإسناد -عندنا- صحيح. والحديث ذكره السيوطي في الدر
المنثور 1: 143، ونسبه البزار وابن جرير. وذكره الهيثمي في
مجمع الزوائد 2: 13، وقال: "رواه البزار، وفيه عثمان بن سعد،
ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابو نعيم الحافظ،
وقال أبو حاتم: شيخ". وقال الهيثمي أيضًا: "حديث أنس في
الصحيح، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح، وهنا: الظهر". يشير
بذلك إلى أن أصله في الصحيح، وهو الحديث في صحيح مسلم 1: 148،
من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، بنحوه، وفيه: "فمر
رجل من بني سلمة، وهم ركوع في صلاة الفجر، فنادى: ألا إن
القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة". وكذلك رواه ابن
سعد 1/2/4، من طريق حماد بن سلمة. ومن الواضح أن هذه قصة غير
التي رواها الطبري هنا. فإن الذي هنا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة. فهذا أول تحويل
القبلة. وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين، في مسجد قباء،
جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة، فاستداروا
إليها. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر.
وهو في المسند: 4642، 4794، 5934، 5827.
(3/135)
وقال آخرون بما:-
2156- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا
المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت
المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. (1)
__________
(1) الحديث: 2156- أبو داود: هو الطيالسي الإمام الحافظ،
واسمه: "سليمان بن داود بن الجارود". مترجم في التهذيب،
والكبير 2/2/11، وابن سعد 7/2/51، وابن أبي حاتم 2/1/111-113،
مات سنة 203 عن 92 سنة لم يستكملها، كما قال ابن سعد.
المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن
مسعود، وهو ثقة، تغير حفظه في آخر عمره. مترجم في التهذيب،
وابن أبي حاتم 2/2/250-252. وترجمنا له في شرح المسند مرارًا،
آخرها في الحديث: 7105.
ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن، التابعي المشهور. ولكنه لم يسمع
من معاذ بن جبل، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن
خزيمة، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل.
فهذا الإسناد منقطع.
والحديث بهذا الإسناد، مختصرًا، رواه أبو داود الطيالسي في
مسنده: 566، بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة،
فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم نزلت عليه هذه الآية:
"قد نرى تقلب وجهك في السماء"، إلى آخر الآية قال، فوجهه الله
إلى الكعبة".
وهو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود السجستاني في سننه: 507،
بإسنادين: عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود،
وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر، عن يزيد بن هارون،
كلاهما عن المسعودي. ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن
المثنى مختصرة، كالرواية التي في مسند الطيالسي، ولكن ذكر أن
صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا"، كرواية الطبري
هنا عن ابن المثنى. وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن
الطيالسي. أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي، إذ أنه ليس
من جمعه، بل هو من جمع أحد الرواة عنه.
ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند 5: 246-247، عن
أبي النضر هاشم بن القاسم، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن
المسعودي، بهذا الإسناد. ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا"، كرواية
مسند الطيالسي.
وقد أشار الحافظ في الفتح 1: 89-90 إلى كثير من الروايات في
ذلك، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح. وعندي أن مثل هذا لا
يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه، أو تتجه همّتهم إلى
العناية بحفظه.
وقال الحافظ ابن كثير 1: 345-346: "والمقصود أن التوجه إلى بيت
المقدس، بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة. واستمر الأمر
على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه
إلى الكعبة. التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام. فأجيب إلى ذلك،
وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق". وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير
3: 252-254.
(3/136)
2157- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال،
حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن
سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم
النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا،
أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.
* * *
ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه
وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.
* * *
اختلف أهلُ العلم في ذلك.
فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرُ من قال ذلك:
(3/137)
2158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن
واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة -وعن
يزيد النحويّ، عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من
القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل
صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ صلى
الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو
بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة:
115] .
2159- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله:"سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم
عَن قبلتهم التي كانوا عليها"، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع.
قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن
يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ
الكتاب، فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا، وهو في ذلك يقلِّب وَجهه
في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.
* * *
وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ صلى الله عليه وسلم
وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
2160- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما
هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان
[أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس.
ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة
عَشر شَهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ
إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله
عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
(3/138)
السَّمَاءِ) [سورة البقرة: 144] الآية.
فارتاب من ذلك اليهود وقالوا:"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا
عليها"؟ فأنزل الله عز وجل:"قُلْ لله المشرق والمغرب". (1)
2161- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى
إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت
المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر
شهرًا، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.
* * *
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال"ما ولاهم عن قبلتهم التي
كانوا عليها"؟
* * *
اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان.
أحدهما ما:-
2162- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه
وسلم، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك
ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. (2)
والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى
قبل. (3)
* * *
2163- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله:"سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا
عَليها"؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل
قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى
الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت
__________
(1) الأثر: 2160- مضى برقم: 1833 ويأتي برقم: 2236، والزيادة
بين القوسين من الموضعين.
(2) الأثر: 2162- هو بعض الأثر السالف رقم: 2149.
(3) يعني الأثر رقم: 2160.
(3/139)
المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ
بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من
الناس:"ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق
الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل:"قلْ لله المشرقُ
والمغربُ يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم".
* * *
وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً
بالإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
2164- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي،
قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد
الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما
بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟
فأنزل الله في المنافقين:"سَيقول السفهاءُ من الناس"، الآية
كلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(142) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين
قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي
كنتم على التوجُّه إليها، إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟
-: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ
مشرق الشمس، وقُطرَيْ مغربها، وما بينهما من العالم (1) =
يَهدي من يشاء من خلقه، (2) فيُسدده، ويوفِّقه إلى الطريق
القويم، وهو"الصراط
__________
(1) انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف 2: 526-530.
(2) انظر تفسير"هدى" فيما سلف1: 166- 169، وفي فهرس اللغة في
الجزء الأول والثاني.
(3/140)
وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(143)
المستقيم" (1) -ويعني بذلك: إلى قبلة
إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم،
فيضلُّه عن سبيل الحق.
* * *
وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله:"يَهدي من يَشاء إلى صراط مُستقيم"،
قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام
لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ
الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكذلك جَعلناكم أمة
وسطًا"، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما
جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم
وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم
ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.
* * *
وقد بينا أن"الأمة"، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم.
(2)
* * *
وأما"الوسَط"، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه:"فلان
وَسَطُ الحسب في قومه"، (3) أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك
الرفع في حسبه، و"هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ"، (4)
كما يقال:"شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن"، وكما قال جل
ثناؤه:
__________
(1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177.
(2) انظر ما سلف1: 221 / ثم هذا الجزء 3: 74، 100، 128.
(3) يقولون أيضًا: "هو وسيط الحسب في قومه"، إذا كان أوسطهم
نسبًا، وأرفعم مجدًا.
(4) شاهد قولهم"واسط" من شعرهم، قول جابر بن ثعلب الطائي:
وَمَنْ يَفْتَقِرْ فِي قَوْمِهِ يَحْمَدِ الغِنَى ... وَإنْ
كَانَ فِيهِمْ وَاسِطَ العَمِّ مُخْوِلَا
(3/141)
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ
يَبَسًا) [سورة طه: 77] ، وقال زُهير بن أبي سُلمى في"الوسط":
هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نزلَتْ
إحْدَى الليَالِي بِمُعْظَمِ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأنا أرى أن"الوسط" في هذا الموضع، هو"الوسط"
الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل"وسَط الدار"
محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز في"سينه" التخفيف.
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في
الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا
بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير
فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا
أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط
واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله
أوْسطُها.
* * *
وأما التأويل، فإنه جاء بأن"الوسط" العدلُ. وذلك معنى الخيار،
لأن الخيارَ من الناس عُدولهم.
ذكر من قال:"الوسطُ" العدلُ.
2165- حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص
بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى
الله
__________
(1) كأنه من قصيدته المعلقة، ديوانه 2: 27، ولكن رواية صدر
البيت في الديوان: لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النَّاسَ
أَمْرُهُمْ
ولم أجد هذه الرواية فيما طبع من روايات ديوانه. ولكن البيت
بهذه الرواية أنشده الجاحظ في البيان 3: 225 غير منسوب. وهو
منسوب إلى زهير في أساس البلاغة"وسط". ورواية الديوان،
والجاحظ: "إذا طرقت إحدى الليالي". وهما سواء.
(3/142)
عليه وسلم في قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة
وَسَطًا" قال، عُدولا. (1)
2166- حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن
عون، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثله.
2167- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري:"وكذلك جَعلناكم
أمَّة وسَطًا" قال،"عدولا.
2168- حدثني علي بن عيسى قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن حفص بن
غياث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله:"جعلناكم أمَّة وسطًا" قال، عدولا. (2)
__________
(1) الحديث: 2165- سلم بن جنادة، شيخ الطبري، مضت ترجمته في:
48، وكثرت رواية الطبري عنه، وهو أبو السائب. وفي المطبوعة
هنا"سالم"، وهو خطأ تكرر فيها. ولا حاجة بنا إلى التنبيه عليه
بعد ذلك.
يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى: 237.
وهذا الإسناد والإسنادان بعده، لحديث واحد، مختصر من حديث
سيأتي: 2179.
ورواه مختصرًا أيضًا، أحمد في المسند: 11084، عن أبي معاوية،
عن الأعمش، به. ورواه بنحوه أيضًا: 11291، عن وكيع، عن الأعمش.
(المسند 3: 9، 32 حلبي) . ونقله ابن كثير 1: 348، عن المسند.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه أحمد،
ورجاله رجال الصحيح".
وقد وهم صاحب الزوائد في إدخاله فيها، لأنه مختصر من الحديث
المطول الآتي، وقد أخرجه البخاري وغيره، فليس من الزوائد.
وهذه الروايات المختصرة عند الطبري - أشار إليها الحافظ في
الفتح 8: 131، أثناء شرحه الرواية المطولة.
وكل الروايات التي رأينا، فيها"عدلا" بدل"عدولا". ولعل ما هنا
من تحريف الناسخين، لأن الأجود صيغة الإفراد. على الوصف
بالمصدر، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والجمع. وفي
اللسان: "فإن رأيته مجموعًا أو مثنى أو مؤنثًا - فعلى أنه قد
أجرى مجرى الوصف الذي ليس بمصدر". والذي نقله الحافظ في الفتح،
والسيوطي في الدر المنثور 1: 144 - بلفظ"عدلا" أيضًا بل عبارة
أبي جعفر نفسه، قبل هذا الحديث تدل على ذلك، إذ قال: "ذكر من
قال: الوسط العدل".
(2) الحديث: 2168- علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي:
ثقة، من شيوخ الترمذي وابن خزيمة، مترجم في التهذيب، بغداد 12:
12-13. قال الخطيب: "وما علمت من حاله إلا خيرًا". مات سنة
247.
سعيد بن سليمان: هو أبو عثمان الواسطي البزاز، لقبه"سعدويه"،
سبق توثيقه في شرح: 611. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/440
وابن سعد 7/2/81، وابن أبي حاتم 2/1/26، وتاريخ بغداد 9:
84-87. مات سنة 225، وله 100 سنة.
حفص بن غياث: مضى في: 1037، ولكن روايته هنا عن أبي صالح ذكوان
السمان، منقطعة يقينًا، فإن أبا صالح مات سنة 101، وحفص ولد
سنة 117. وإنما يروي عن الأعمش وطبقته، عن أبي صالح، كما في
الإسناد الماضي: 2165.
ولعله سقط من نسخة الطبري في هذا الموضع بينهما: "عن الأعمش" -
فيستقيم الإسناد، ويكون صحيححًا. ولم أستطع الجزم بشيء في ذلك،
لأني لم أجد حديث أبي هريرة هذا في كتاب آخر ذي إسناد. وإنما
ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 144، ونسبه الطبري وحده.
وقد يرجح سقوط"الأعمش" من الإسناد في هذا الموضع: أن الحافظ
حين أشار في الفتح 8: 131- إلى روايات الطبري المختصرة لحديث
أبي سعيد، السابق، ذكر منها أن الطبري رواه"من طريق وكيع عن
الأعمش، بلفظ: والوسط العدل، مختصر مرفوعا. ومن طريق أبي
معاوية عن الأعمش، مثله". فهذان إسنادان لحديث أبي سعيد،
نقلهما الحافظ ابن حجر - وهو من هو، دقة وتحريًا - عن هذا
الموضع من الطبري، وليسا في النسخة بين أيدينا. فلا يبعد أن
يكون في هذا الإسناد أيضًا نقص قوله"عن الأعمش" بين حفص بن
غياث وأبي صالح.
(3/143)
2169- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان،
عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال،
عدولا.
* * *
2170- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وكذلك جَعلناكم
أمة وسَطًا" قال، عدولا.
2171- حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2172- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"أمة وسَطًا" قال، عُدولا.
2173- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.
2174- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.
(3/144)
2175- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكذلك
جعلناكم أمة وَسَطًا"، يقول: جعلكم أمةً عُدولا.
2176- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن
حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا" قال، الوسطُ العدل. (1)
2177- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير:"أمة وَسَطًا"، قالوا:
عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا. (2)
2178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وكذلك
جَعلناكم أمهً وسطًا" قال، هم وَسَطٌ بين النبي صلى الله عليه
وسلم وبين الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
قال أبو جعفر:"والشهداء" جمع"شَهيد". (3)
فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [لتكونوا]
__________
(1) الحديث: 2176- هو قطعة من حديث مطول، سيأتي: 2195. و"رشدين
بن سعد" ثبت في المطبوعة هنا"راشد بن سعد". وهو خطأ، كما سنبين
هناك إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "وقال مجاهد: عدولا"، وكأن الصواب ما أثبت،
وإلا كان كلاما زائدا، لا معنى له.
(3) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف 1: 376-378 / وهذا الجزء 3:
97.
(3/145)
شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها
بالبلاغ، (1) أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى
أممها، ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم،
بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:-
2179- حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما
أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقول: ما
جاءنا ممن نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محد وأمته. فهو
قوله:"وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس
ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". (2)
2180- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا
الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد
بلَّغ.
2181- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد:"وكذلك جعلناكم أمة
وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس" -بأن الرسل قد
بلَّغوا-"ويكونَ الرسول عليكم
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، بدلالة الآية، ودلالة ما
سيأتي من قوله: "ويكون رسولي".
(2) الحديث: 2179- هو والإسنادان بعده، لحديث واحد، مضى بعضه
بهذه الأسانيد: 2165-2167، إلا أن هناك زيادة شيخين للطبري في
الإسنادين الأولين منا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بنحوه: 1130، عن وكيع عن
الأعمش، و 11579، عن أبي معاوية عن الأعمش. (3: 32، 58 حلبي) .
ورواه البخاري 6: 264، من طريق عبد الواحد بن زياد، و 8:
130-131، من طريق جرير وأبي أسامة، و 13: 266، من طريق أبي
أسامة وجعفر بن عون - كلهم عن الأعمش، بهذا الإسناد نحوه.
ونقله ابن كثير في التفسير 1: 347-348، من روايتي الإمام أحمد،
وقال: "رواه البخاري والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طرق،
عن الأعمش".
ونسبه السيوطي 1: 144 لهؤلاء ولغيرهم.
(3/146)
شهيدًا". بما عملتم، أو فعلتم.
2182- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبي مالك
الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم
حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على
الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة،
(1) ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة
أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال:"ويكونَ الرسول عليكم
شَهيدًا". (2)
__________
(1) في حديث كعب بن مالك: "فتخلفنا أيتها الثلاثة" - يريد
تخلفهم عن غزوة تبوك، وتأخر توبتهم. وهذه اللفظة تقال في
الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب. تقول: "ما أنا
فأفعل كذا أيها الرجل"، يعني نفسه. فمعنى قول كعب: "أيتها
الثلاثة"، أي المخصوصين بالتخلف. (لسان العرب، مادة: أيا) .
(2) الحديث: 2182- هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي الذي رواه
عن جابر، وفي اسم الراوي عن التابعي بحث يحتاج إلى تحقيق.
ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان، مضى: 1840. أبو مالك
الأشجعي: هو سعد بن طارق بن أشيم، تابعي ثقة. مترجم في
التهذيب. والكبير 2/2/59، وابن أبي حاتم 2/1/86-87.
المغيرة بن عتيبة بن النهاس: ثبت في الطبري هنا"عيينة"،
بدل"عتيبة". ولم يترجم في التهذيب ولا ذيوله. وترجمه ابن أبي
حاتم 4/1/227 هكذا: "مغيرة بن عتيبة بن نهاس العجلي. وكان
قاضيًا لأهل الكوفة. روى عن سعيد بن جبير، وموسى بن طلحة، وعن
مكتب عن جابر"، إلخ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/322-323
هكذا: "مغيرة بن عيينة بن عابس. قال ابن المبارك: ابن النحاس،
عن. . . وعن مكتب بن جابر. . . ".
وحقق العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، مصحح الكتابين
- ترجيح ما يفي كتاب ابن أبي حاتم، لموافقته ما ثبت في الثقات
لابن حبان، والإكمال لابن ماكولا. وهو الصحيح. وللمغيرة هذا
روايات كثيرة في تاريخ الطبري، وثبت اسم أبيه في كثير منها على
الصواب، وذكر اسمه ونسبه كاملا هناك 4: 81"المغيرة بن عتيبة بن
النهاس العجلي".
وأما قوله هنا"أن مكاتبًا لهم حدثهم عن جابر" - فيفهم منه أن
التابعي المبهم الراوي عن جابر، هو من موالي آل المغيرة الراوي
عنه، وأنه مكاتب لهم. ولكن الذي في كتابي البخاري وابن أبي
حاتم - كما ترى: "وعن مكتب عن جابر". فقال العلامة عبد الرحمن
في تعليقه على ابن أبي حاتم: " أراه سعيد بن زياد المكتب"
ولكنه قبل ذلك في تعليقه على التاريخ الكبير، ذكر ذلك احتمالا
فقط، بل كاد يرده بأن"سعيد بن زياد المكتب مولى زياد المكتب
مولى بني زهرة" ترجمه البخاري - يعني في 2/1/433"ولكن لم يذكر
روايته عن جابر ولا غيره من الصحابة". وهو كما قال، وكذلك
ترجمه في التهذيب وغيره. فلذلك أنا أستبعد جدًا أن يكون هو
المراد بقول البخاري وابن أبي حاتم في شيوخ المغيرة"عن مكتب عن
جابر". بل أكاد أرجح ما هنا في الطبري: أنه عن"مكاتب"، وأن
يكون ذكر في بعض الروايات هكذا، ولعل بعض الناسخين القدماء
نقلها حين نسخها محذوفة الألف.
ولم أجد هذا الحديث في كتاب آخر ذي إسناد، حتى أستطيع أن
أتجاوز هذا الحد في التحقيق. ولكن ذكره السيوطي 1: 114 -دون
إسناد طبعًا- ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه،
فقط.
وذكره ابن كثير 1: 348، نقلا عن ابن مردويه وابن أبي حاتم، من
طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، بهذا الإسناد.
وفيه"عن مغيرة بن عتيبة بن نياس"! وهو غلط واضح.
(3/147)
2183- حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح
العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي
كثير، عن عبد الله بن أبي الفضل، عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع
النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما صلى على الميت قال
الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم
خرجت مَعه في جنازة أخرى، فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس
الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ
بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال:" قول الله عز
وجل:"لتكونوا شُهداء على الناس". (1)
2184- حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم
قال،
__________
(1) 2183- عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني: ثقة، ترجمه ابن
أبي حاتم 3/2/26، وقال: "روى عنه أبي، وكتبت أنا عنه"، ثم قال:
"سئل أبي عنه؟ فقال: صدوق". وفي لسان الميزان: "لينه الحاكم
أبو أحمد. وذكره ابن حبان في الثقات".
أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته: 126. ونزيد هنا: مترجم
أيضًا في ميزان الاعتدال. ومجموع الكلام فيه يؤيد ضعفه. وقد
روى له الطبري - فيما يأتي (22: 72-73) حديثًا مكذوبًا لا أصل
له. وروى ما يدل على أن هذا الشيخ أدخل عليه ذلك الحديث، فلئن
كان ذاك إن فيه لغفلة شديدة ما يجوز معها أن يقبل شيء من
روايته. أما هذا الحديث -الذي هنا- فإنه لم ينفرد بروايته، كما
سيجيء في الإسناد التالي لهذا.
وقد وقع المطبوعة هنا"عصام بن وراد" بتقديم الواو على الراء؛
وهو خطأ ظاهر. عبد الله بن أبي الفضل المديني: ترجمه ابن أبي
حاتم 2/2/137، وروى عن أبيه قال: "لم يرو عنه غير يحيى بن أبي
كثير، ولا نعرفه". وعن ذلك قال الذهبي في الميزان: "مجهول".
وقال الحافظ في لسان الميزان: "ذكره ابن حبان في الثقات". وهذا
- عندنا كاف في الاحتجاج بحديثه، إذ هو تابعي عرف شخصه، ووثقه
ابن حبان. والتابعون -عندنا- على القبول، حتى يثبت في أحدهم
جرح مقبول.
ووقع هنا في المطبوعة"عبد الله بن الفضل" بحذف كلمة"أبي"، وهو
خطأ. وثبت على الصواب في الإسناد بعده.
(3/148)
حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد
الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي
رَسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل!
ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه. (1)
2185- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة
بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: كنا
مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها
بثناء حَسن، فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى، فأثنِيَ
عليها دون ذلك، فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟
قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في
الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: (وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)
الآية [سورة التوبة: 105] . (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2184- هو إسناد آخر للحديث السابق. علي بن سهيل
الرملي: مضى: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشأم: ثقة
متقن صحيح العلم صحيح الحديث، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما،
مات سنة 195. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/152-153، وابن سعد
7/2/173، وابن أبي حاتم 4/2/16-17، وروى عن مروان بن محمد قال،
"كان الوليد بن مسلم عالمًا بحديث الأوزاعي".
وشيخه في هذا الإسناد"أبو عمرو"-: هو الأوزاعي.
والحديث -من هذا الوجه- صحيح، وذكره السيوطي، 1: 145، ونسبه
للطبري وابن أبي حاتم.
وأصله ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: 7543.
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، كما بينا هنا. ولكن لم
يذكر فيه سؤال أبي بن كعب، ولا الاستشهاد بالآية. وفي مجمع
الزوائد 3: 4 رواية أخرى له مطولة، وفيها أن السائل هو عمر.
وذكر أنه"رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح".
(2) الحديث: 2185- وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
زيد بن الحباب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة- العكلي: ثقة
من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما من الأئمة، وهو مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/358، وابن سعد 6: 281، وابن أبي
حاتم 1/2/561-562.
عكرمة بن عمار العجلي: ثقة، روى عنه شعبة والثوري ووكيع
وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/1/50، وابن
سعد 5: 404، وابن أبي حاتم 3/2/10-11.
إياس بن سلمة بن الأكوع: تابعي ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب
الكتب الستة، وهو قد سمع من أبيه الصحابي، وروى له الشيخان
وغيرهما أحاديث من روايته عنه. وهو مترجم في التهذيب، والكبير
للبخاري 1/1/439، وابن سعد 5: 184، وابن أبي حاتم 1/1/279-280.
ورجال الصحيحين، ص: 47.
والحديث ذكره السيوطي 1: 145، باختصار في آخره. ونسبه لابن أبي
شيبة، وهناد، وابن جرير والطبراني. ونقله الهيثمي في مجمع
الزوائد 3: 4-5، عن إسنادين للطبراني في الكبير، في كل منهما
رجل ضعيف. فيستفاد تصحح الحديث بهذا الإسناد الصحيح عند ابن
جرير. وفي المطبوعة: "فما شهدتم عليه وجبت"، والصواب ما أثبت.
(3/149)
2186- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لتكونوا
شهداء على الناس"، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم،
اليهود والنصارى والمجوس.
2187- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2188- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو] عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم
أنه قد بلغهم. (1)
2189- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله.
2190- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح، عن أبيه قال، يأتي النبي صلى
الله عليه وسلم يوم القيامة، فذكر مثله، ولم يذكر عبيد بن
عمير، مثله.
2191- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) الأثر: 2188- كان في المطبوعة"حدثنا عاصم"، والصواب ما
أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: 2186. أما قوله:
"ناديه" فهكذا جاءت في المطبوعة، وفي مطبوعات أخرى، وفي
المخطوطات، وفي الدر المنثور 1: 146: "بإذنه"، وهذه الأخيرة لا
معنى لها. أما قوله: "ناديه"، فكأنه أراد موقفه يوم القيامة.
والنادي: مجتمع القوم وأهل المجلس. ولكني أرجح أن اللفظ محرف
عن كلمة معناها"وحده - أو منفردًا"، فإن سياقه يقتضي ذلك.
وقوله: "يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ناديه" أرجح أن قوله:
"صلى الله عليه وسلم" زيادة ناسخ، والسياق يقتضي أن يكون:
"يأتي النبي يوم القيامة ناديه ليس معه أحد".
(3/150)
قتادة"لتكونوا شُهداء على الناس"، أي أنّ
رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها،"ويكون الرسول عليكم شَهيدًا"،
على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته.
2192- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم
يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟
فيقول: نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم
وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم
نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء
نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل
عليه أنه قد بلغكم، فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام
ويكذبونهم. قال:"لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول
عليكم شهيدًا"
2193- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة:"لتكونوا شُهداء على الناس"، لتكون هذه الأمة
شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم، ويكون الرسول على هذه
الأمة شهيدًا، أن قد بلَّغ ما أرسل به.
2194- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله
لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله
أعطاهم.
2195- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن
المبارك، عن رِشْدين بن سعد، قال أخبرني ابن أنعم المعافري، عن
حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة، كان أوَّلَ من يدعى
إسرافيلُ، فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟
فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام، فيدعى جبريل،
فيقال له:
(3/151)
هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! (1) فيقول: نعم
ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ، ويقال لجبريل: هل بلغت
عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل
بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل،
ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى
الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم
المصدِّق، فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد
بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد.
فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أتشهدون أنّ رسُلي
هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم
ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد
علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف
تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا
وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا،
فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب: صدَقوا. فذلك
قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" -والوسطُ العَدْل-"لتكونوا
شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". قال ابن أنعم:
فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من
كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه. (2)
2196- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني
بذلك. الذين استقاموا على الهُدى، فهم الذين يكونون شهداء على
الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.
__________
(1) في المطبوعة: "هل بلغت إسرافيل"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت.
(2) الحديث: 2195- هذا حديث ضعيف، من ناحيتين: من ناحية أنه
مرسل، رواه تابعي لم يسنده عن صحابي. ومن ناحية ضعف"رشدين بن
سعد"، كما سيأتي.
وقد مضت قطعة منه بهذا الإسناد: 2176. وأحلنا تخريجها على هذا
الموضع.
رشدين بن سعد: ضعيف جدًا، سبق بيانه في: 1938. ووقع في
المطبوعة هنا، وفي: 2176: "راشد"، كما كان ذلك في: 1938. وهو
خطأ.
ابن أنعم المعافري: هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -بفتح
الهمزة وسكون النون وضم العين المهملة- المعافري الإفريقي
القاضي. وهو ثقة، تكلم فيه كثير من العلماء بغير حجة، سمع من
أجلة التابعين، وكان شجاعًا في الحق. وكان أحمد بن صالح يقول:
هو ثقة، وينكر على من تكلم فيه. قاله أبو بكر المالكي في رياض
النفوس: "كان من جلة المحدثين، منسوبًا إلى الزهد والورع،
صلبًا في دينه، متفننًا في علوم شتى". وغلا فيه ابن حبان غلوًا
فاحشًا، فقال في كتاب المجروحين، ص: 283-284: "كان يروي
الموضوعات عن الثقات، ويأتي عن الأثبات ما ليس من أحاديثهم،
وكان يدلس عن محمد بن سعيد بن أبي قيس المطلوب". ثم روى حديثًا
من طريقه يستدل به على ما قال. وهو حديث موضوع، ولكن ابن أنعم
بريء من عهدته، فإن الحمل فيه على أحد الكذابين، وهو يوسف بن
زياد البصري. وقد تعقب الدارقطني على ابن حبان ذلك، فيما ثبت
بهامش مخطوطة المجروحين.
والمشارقة أخطأوا معرفة ابن أنعم، فعن ذلك جاء ما جاء من جرحه،
بل أخطأوا تاريخ وفاته، فأرخوه سنة 156. والمغاربة أعرف به،
وأرخوه سنة 161.
وله تراجم وافية: في التهذيب 6: 173-176، والصغير للبخاري، ص:
180، وابن أبي حاتم 2/2/334-335. والمجروحين لابن حبان:
283-284، والميزان للذهبي 2: 104-105، وطبقات علماء إفريقية
لأبي العرب: 27-32. ورياض النفوس لأبي بكر المالكي 1: 96-103،
وتاريخ بغداد 10: 214-218.
حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أبي جبلة المصري: تابعي
ثقة. وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز، ليفقهوا
أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. مترجم في التهذيب، والكبير
للبخاري 2/1/83، وابن أبي حاتم 1/2/269.
وهذا الحديث مرسل، إذ حكى راويه عن التابعي أنه"يسنده إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم"، لم يذكر من حدثه به.
وقوله"يسنده" - كتب في المطبوعة هنا وفي: 2176"بسنده" بالباء
الموحدة. وهو تصحيف. والحديث ذكره السيوطي 1: 145، ولم ينسبه
لغير الطبري وابن المبارك في الزهد.
وكان في المطبوعة"حقد على أخيه". وفي الدر المنثور 1:
146"إحنة"، والذي أثبته من القرطبي، وبعض المخطوطات. والحنة:
الحقد، من"وحن يحن حنة" مثل: "وعد يعد عدة" (بكسر الحاء وفتح
النون) . وقال الأزهري: ليست من كلام العرب، إنما هي إحنة: أي
حقد. وأنكر الأصمعي"حنة"، وحكى عنه أبو نصر أنه قال: "كنا نظن
الطرماح شيئًا حتى قال: وَأَكرَهُ أنْ يَعِيبَ عَلَيَّ قَوْمِي
... ِجَائِي الأَرْذَلِينَ ذَوِي الحِنَاتِ
لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات" (ديوان الطرماح: 134) . وقال
الزمخشري في الفائق (أحن) : "أما ما حكى عن الأصمعى. . .
فاسترذال منه! "وحن"، وقضاء على الهمزة بالأصالة، أو برفض
الواو في الاستعمال".
(3/152)
2197- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"،
يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما
جاءتهم رسلهم، وبما كذّبوهم، فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ
أمة لم يكونوا في زماننا، فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا، وكذبنا
نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله:"ويكُون الرسولُ
عليكم شهيدًا"، يعني بإيمانهم به، وبما أنزل عليه.
2198- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لتكونوا شُهداء على الناس"،
يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم.
2199- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"؟
قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ
والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال
عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين، جاء
ذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم،"ويكون الرسولُ
عليكمْ شهيدًا" على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا
به.
2200- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله:"لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا"
قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته، وهم
شهداء على الأمم، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل:
(وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) [سورة غافر: 51] الأربعة:
الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله:
(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [سورة ق:
21] ، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم.
قال: وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شُهداء على الأمم. قال:
(3/154)
[والأطوار] الأجساد والجلود. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما جَعلنا القبلة التي
كنت عليها"، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه
إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا
يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.
* * *
والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي
عناها الله بقوله:"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها"، هي
القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:-
2201- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، يعني: بيت
المقدس.
2202- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 2200- ذكره السيوطي في الدر المنثور 5: 352 في
تفسير [سورة غافر الآية: 51] ، بغير هذا اللفظ، ونسبه لابن
جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. ونصه:
"عن زيد بن أسلم: الأشهاد أربعة: الملائكة الذين يحصون علينا
أعمالنا، وقرأ: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، والنبيون،
شهداء على أممهم، وقرأ: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، وأمة
محمد صلى الله عليه وسلم، شهداء على الأمم، وقرأ: "لتكونوا
شهداء على الناس"، والأجساد والجلود، وقرأ: "وقالوا لجلودهم لم
شهدتم علينا قالوا أنطقنا الذي أنطق كل شيء".
أما ما جاء في نص الطبري، ووضعته بين قوسين، فهو خطأ لا شك
فيه، وأخشى أن يكون صوابه"الأطراف والأجساد والجلود"، ويعني
بالأطراف، الجوارح، يريد بذلك الأيدي والأرجل، في قوله تعالى
في [سورة يس: 65] : (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ
وتُكَلّمنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ)
(3/155)
ابن جريج قال: قلت لعطاء:"وما جَعلنا
القِبلة التي كنتَ عليها". قال: القِبلة بيتُ المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر"الصرف عنها"، اكتفاء بدلالة ما قد
ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من
نَظائره. (1)
وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في
القِبلة، إنما كانت -فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من
بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدَّ -فيما ذكر- رجالٌ ممن كان
قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهرَ كثيرٌ
من المنافقين =من أجل ذلك= نفاقَهم، وقالوا: ما بَالُ محمد
يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن
مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت
أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [صلى
الله عليه وسلم] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا
للمؤمنين.
فلذلك قال جل ثناؤه:"ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا
لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه"، أي: ومَا
جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها، وتحويلك إلى غيرها،
كما قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [سورة الإسراء: 60]
بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو
لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ،
وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ
عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 139-141، 179، وغيرها كثير، اطلبه في
الفهارس.
(3/156)
2203- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد،
عن سعيد، عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ.
صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى
الله عليه وسلم، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قُدومه
المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا، ثم وجهه
الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام، فقال في ذلك قائلون من
الناس:"مَا وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق
الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل:"قُلْ لله المشرقُ والمغربُ
يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". فقال أناسٌ -لما صُرفت
القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في
قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله عز وجل:"ومَا كانَ الله ليُضيعَ
إيمانكم". وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ
بعدَ الأمر، ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ
كان في [ذلك] إيمان بالله، وإخلاصٌ له، وتسليم لقضائه. (1)
2204- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس،
فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، (2) اختلف
الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا
على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون:
ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت
المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ
محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا
نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال
__________
(1) الأثر: 2203- في الدر المنثور 1: 143، وقد مضى شطره في
رقم: 2163. وكان في المطبوعة: "وكل ذلك مقبول، وإذا كان في
إيمان بالله. . . "، عبارة ركيكة، فجعلت"إذا"، "إذ" وزدت"ذلك":
لتستقيم العبارة. أما في الدر المنثور فعبارته أشد سقمًا
ونصها: "وكل ذلك مقبول، في درجات في الإيمان بالله، والإخلاص،
والتسليم لقضاء الله".
(2) في المطبوعة: "فلما توجه قبل المسجد"، والصواب من رقم:
2164، والدر المنثور.
(3/157)
المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد
دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك
أنْ يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين:"سَيقول
السفهاء من الناس مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" إلى
قوله:"وإنْ كانتْ كبيرةً إلا على الذين هَدى الله"، وأنزل في
الآخرين الآيات بعدها. (1)
2205- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج قال، قلت لعطاء:"إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ
على عَقبيه"؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال
ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا
ومرة هاهنا!
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن
يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع،
وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من
تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم من المنقلب على عقبيه؟
قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها،
وليس قوله:"وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من
يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه" يخبر [عن] أنه لم يعلم
ذلك إلا بعد وجُوده. (2)
فإن قال: فما معنى ذلك؟
قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت
عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن
ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه:"إلا لنعلم"، ومعناه: ليعلمَ
رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الأثر: 2204- مضى بعضه في رقم: 2164، وهو في الدر المنثور
1: 142-143.
(2) في المطبوعة: "يخبر أنه لم يعلم ذلك. . . "، والصواب ما
أثبت، مع الزيادة بين القوسين.
(3/158)
وأولياؤهُ من حزبه، وكان من شَأن العرب
إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس، ومَا فعل بهم إليه،
نحو قولهم:"فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق، وجَبى
خَرَاجها"، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك.
وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي، واستقرضته فلم
يقرضني، وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني.
2206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم
يُقرضني، وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه!
وأنا الدهر، أنا الدهر.
2207- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم بنحوه. (1)
* * *
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه، وقد كان ذلك
بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.
وقد حكي عن العرب سماعًا:"أجوع في غَيْر بَطني، وأعرى في غير
__________
(1) الحديثان: 2206، 2207- هما حديث واحد بإسنادين صحيحين.
خالد- في أولهما: هو خالد بن مخلد القطواني، بفتح القاف
والطاء. وهو ثقة من شيوخ البخاري، أخرج له هو ومسلم في
الصحيحين، تكلم فيه من جهة إفراطه في التشيع، ولكنه صدوق في
الرواية. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/160، وابن سعد
6: 283، وابن أبي حاتم 1/2/354. وشيخه محمد بن جعفر بن أبي
كثير الأنصاري الزرقي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1: 418، من طريق يزيد بن
هارون، عن محمد بن إسحاق، بالإسناد الثاني، بنحوه. وقال: "هذا
حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والنهي عن سب الدهر، في الحديث القدسي، من حديث أبي هريرة-:
ثابت من أوجه، في الصحيحين وغيرهما. فانظر المسند: 7244، 7509.
والبخاري 8: 441، و 10: 465، و 13: 389. وصحيح مسلم 2:
196-197.
(3/159)
ظهْري"، بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ
ظهورهم،
فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2208- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما جَعلنا القبلةَ
التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على
عقبيه"، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك
والريبة.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع"العلم"
مكان"الرؤية"، و"الرؤية" مكان"العلم"، كما قَال جلّ ذكره:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)
[سورة الفيل: 1] ، فزعم أن معنى"ألم تر"، ألم تعلم؟ وزعم أن
معنى قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم
أنّ قول القائل:"رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت"، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع
بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بن
عَمْرٍو إذْ دَعَا يَالَ دَارِمِ (1)
بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب
وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم
هلكوا في الجاهلية، وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء
الإسلام.
* * *
__________
(1) ديوانه: 563، والنقائض: 409، من قصيدته الفالقة، في نقض
قصيدة الفرزدق. وقد عدد فيها أيام قومه. والخطاب في قوله:
"كأنك" للفرزدق، ويذكر"يوم جبلة"، وهو من أعظم أيامهم، وكان
قبل الإسلام بأربعين سنة، عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو لعامر وعبس، على ذبيان وتميم. وقتل يومئذ لقيط بن زرارة،
وأسر حاجب بن زرارة، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، وهم من بني عبد
الله بن دارم، وهم عمومة الفرزذق، وهو من بني مجاشع بن دارم.
ورواية الديوان والنقائض: "إذا دعوا"، وكلتاهما صحيحة المعنى.
(3/160)
قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ، من أجل
أنّ"الرؤية"، وإن استعملت في موضع"العلم"، من أجل أنه مستحيلٌ
أن يرى أحدٌ شيئًا، فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه،
إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن
يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، (1) وصحّ أن يدلّ
بذكر"الرؤية" على معنى"العلم" من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان
[جائزا] في الرؤية -لما وصفنا- بجائز في العلم، (2) فيدلّ بذكر
الخبر عن"العلم" على"الرؤية". لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة
لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه، كما قد
قدمنا البيان [عنه] . (3) مع أنه غير موجود في شيء من كلام
العرب أن يقال:"علمت كذا"، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه
معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم
منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم
يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها"رأيت" بمعنى: علمت،
وغير موجود في كلامها"علمت" بمعنى: رأيت، فيجوز توجيه:"إلا
لنعلم" إلى معنى: إلا لنرى.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، من أجل أنّ المنافقين
واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره
يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل
القبلة سيرتدُّون على أعقابهم، إذا حُوِّلت قبلة محمد صلى الله
عليه وسلم إلى الكعبة-: ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل!
فلما فَعل الله ذلك، وحوَّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر،
قال الله جل
__________
(1) أثبت الشيء: عرفه حق المعرفة.
(2) الزيادة بين القوسين، لا بد للسياق منها، وإلا اختل
الكلام.
(3) زيادة يقتضيها سياقه.
(3/161)
ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم-
أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل
كونه-: أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد. (1)
فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله:"إلا لنعلم": إلا
لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج، فبعيدٌ من المفهوم.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي
كل حال، على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، (2)
كما قال جل ثناؤه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (3) [سورة سبأ: 24] ، وقد علم
أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب،
فلم يقل: أنّا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله:"إلا
لنعلم"، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل
أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم.
* * *
وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ.
* * *
وأما قوله:"مَنْ يتَّبع الرسول". فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا
صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به، فيوجِّه نحو الوَجه
الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة: "إلا لنعلم ما عندكم. . . " وهذا يجعل
الجملة غير مستقيمة، غير مفهومة المعنى. ورأيت أن سياق الكلام
قبله يدل على أن ذلك كما أثبت، فإن المؤمنين علموا أن قومًا
سيرتدون إذا حولت القبلة، وأنكر اليهود والمنافقون أن يكون ذلك
كائنًا. فاقتضى السياق أن يكون التأويل جامعًا لهذا العلم من
هؤلاء، وذلك الإنكار من أولئك. ثم جاء الطبري بعبارة تصحح ما
ذهبت إليه في قوله: "إلا لنبين لكم أننا نعلم". فكأن معنى
الآية عند قائل هذا القول: ما جعلنا القبلة التي كنت عليها،
وإلا للعلم بأننا نعلم من يتبع الرسول. . .
(2) في المطبوعة: "على وجه الترفيق بعباده"، وهو خطأ.
(3) كان في الأصل: "قل الله" أول الآية المستشهد بها، فآثرت
إتمامها.
(3/162)
وأما قوله:"ممن يَنقلب على عَقبيه"، فإنه
يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه، فينافق، أو يكفر، أو مخالف
محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:-
2209- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع
الرسول ممن ينقلب على عقبيه" قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع
عن الله، وانقلب كافرًا على عَقبيه.
* * *
وأصل"المرتد على عقبيه"، هو:"المنقلب على عقبيه"، الراجع
مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك
لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله:
(فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] ،
بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل
للمرتد:"مرتد"، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها.
وإنما قيل:"رجع عَلى عقبيه"، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى
الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا
لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى
الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل:"ارتد فلان على عَقِبه، وانقلب
على عَقبيه".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز
بأنها كانت"كبيرة إلا على الذين هَدى الله".
(3/163)
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب"الكبيرة"،
التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما
أنَّث"الكبيرة"، لتأنيث"التولية".
* ذكر من قال ذلك:
2210- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن
أبي طلحة، عن ابن عباس، قال الله:"وإن كانت كبيرةً إلا على
الذين هدى الله"، يعني: تحويلَها.
2211- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى
بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن
كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، ما أمِروا به من
التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس.
2212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"لكبيرة إلا على الذين هَدى الله" قال،
كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام، فكانت كبيرةً إلا
على الذين هدى الله.
* * *
وقال آخرون: بل"الكبيرة"، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله
عليه وسلم يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل.
* ذكر من قال ذلك.
2214- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"وإن كانت لكبيرة"، أي:
قبلةُ بيت المقدس -"إلا على الذين هدى الله". (1)
__________
(1) في المطبوعة: "عن أبيه عن أبي العالية"، بإسقاط"عن
الربيع"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه رقم: 1886.
(3/164)
وقال بعضهم: بل"الكبيرة" هي الصلاة التي
كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى.
* ذكر من قال ذلك.
2215- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" قال، صلاتكم
حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ. (1)
2216- وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد:"وإن كانت لَكبيرة" قال، صلاتك هاهنا -يعني إلى
بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت"الكبيرة" لتأنيث القبلة، وإياها
عنى جل ثناؤه بقوله:"وإن كانت لكبيرة".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت"الكبيرة" لتأنيث التولية
والتحويلة
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا
تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا
لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت تحويلتُنا
إياك عنها وتوليتُناكَ"لكبيرة إلا على الذين هدى الله".
* * *
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما
كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة
الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة
الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه
موجِّه تأنيث"الكبيرة" إلى"القبلة"، ويقول: اجتُزئ
بذكر"القبلة" من ذكر"التولية والتحويلة"، لدلالة الكلام على
معنى ذلك، كما قد وصفنا لك في نظائره. (2) فيكون ذلك وجهًا
صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 2215- سيأتي تامًا برقم: 2217، وفيه"يهديكم إلى
القبلة"، وهما صواب.
(2) انظر ما سلف في فهارس الأجزاء الماضية.
(3/165)
ومعنى قوله:"كبيرة"، عظيمة، (1) . كما:-
2217- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن
كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله" قال، كبيرة في صدور
الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا
إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا
يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما
الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول
الله"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، صَلاتكم
حَتى يهديكم إلى القبلة. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"إلا على الذين هَدى الله"، فإنه يعني
به:
وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا
على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك
وبذلك، واتباعِك فيه، وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك، كما:-
2218- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن كانت لكبيرة إلا
على الذين هدى الله"، يقول: إلا على الخاشعين، يعني المصدِّقين
بما أنزل الله تبارك وتعالى. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كبيرة" فيما سلف 2: 15.
(2) الأثر: 2217- انظر ما سلف رقم: 2115، والتعليق عليه.
(3) الأثر 2218- أخشى أن يكون هذا الأثر، هو نفس الأثر السالف
برقم: 856.
(3/166)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
قال أبو جعفر: قيل: عنى ب"الإيمان"، في هذا الموضع: الصلاةَ.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله:
2219- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله -وحدثنا
سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن
إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، لما وُجِّه
رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن
ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل
الله جل ثناؤه:"وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم". (1)
2220- حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق،
عن البراء في قول الله عز وجل:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"
قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس.
2221- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء نحوه. (2)
2222- وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل
الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء
قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت
__________
(1) الحديث: 2219- هو بإسنادين معًا: أولهما صحيح، وهو رواية
أبي كريب، عن وكيع وعبيد الله بن موسى. وثانيهما ضعيف، وهو
رواية سفيان بن وكيع عن عبيد الله بن موسى.
وعبيد الله بن موسى العبسي: مضى في 2092.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3249، عن وكيع، عن إسرائيل، بهذا
الإسناد، نحوه. ورواه أيضًا مطولا ومختصرًا، من طرق عن
إسرائيل: 2691، 2776، 2966. وخرجناه هناك في: 2691.
(2) الحديثان: 2220-2221- هما حديث واحد بإسنادين.
وذكره السيوطي 1: 146، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن
حميد، وابن أبي حاتم.
(3/167)
رجالٌ وقُتلوا، فلم ندر ما نَقول فيهم.
فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم". (1)
2223- حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس -لما صرفت
القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في
قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليضيع إيمانكم".
2224- حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبَل المسجد الحرام، (2) قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن
إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل
الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"وما كان الله
ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك
طاعة وهذه طاعة. (3)
2225- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قال: قال ناسٌ -لما صرفت القبلة إلى البيت
الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنزل
الله تعالى ذكره:"وما كانَ الله ليضيع إيمانكم" الآية.
2226- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ
الله صلى الله
__________
(1) الحديث: 2222- عبد الله بن محمد بن نفيل: هو عبد الله بن
محمد بن علي بن نفيل، أبو جعفر النفيلي الحراني، الثقة المأمون
الحافظ. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/159.
زهير: هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. مضى: 2144. وأبو إسحاق:
هو السبيعي الهمداني. والحديث هو باقي الحديث الماضي لهذا
الإسناد: 2153. وقد بينا تخريجه هناك.
(2) في المطبوعة: "لما توجه. . . "، وانظر ما سلف رقم: 2204،
والتعليق عليه.
(3) الأثر: 2224- مضى برقم: 2164، ثم: 2204، وفيه هنا زيادة.
(3/168)
عليه وسلم إلى الكعبة، قال المسلمون: هَلك
أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنزلت:"وما كان
الله ليضيع إيمانكم".
2227- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما كان الله ليضيع
إيمانكم"، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة.
فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ
صلاتهم.
2228- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، صلاتكم.
2229- حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال،
حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في هذه
الآية:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحو بيت
المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن"الإيمان" التصديق. وأن
التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا.
(1)
فمعنى قوله:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم" -على ما تظاهرت به
الرواية من أنه الصلاة-: وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله
عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره،
لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي، واتِّباعًا لأمْري، وطاعةً
منكم لي.
* * *
قال:"وإضاعته إياه" جل ثناؤه -لو أضاعه-: تركُ إثابة أصْحابه
وعامليه عليه، فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة"إضاعة الرجل
ماله"، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا
آجل.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 234-235، وغيره، فالتمسه في فهرس اللغة.
(3/169)
فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل
عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه، وإن نُسخ ذلك
الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.
* * *
فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليُضيع
إيمانكم"، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقومُ
المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا
ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه
الآية؟
قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضًا قد كانوا
مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل
التحويل إلى الكعبة، وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب
ضياعًا؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجّه الخطاب
بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب -إذا
اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل
الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن
آخر غائب غير حاضر:"فعلنا بكما وصنعنا بكما"، كهيئة خطابهم
لهما وهما حاضران، ولا يستجيزون أن يقولوا:"فعلنا بهما"، وهم
يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه:"إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ
رحيمٌ": أن الله بجميع عباده ذُو رأفة.
* * *
__________
(1) الغيب (بفتحتين) جمع غائب، مثل خادم وخدم.
(3/170)
و"الرأفة"، أعلى مَعاني الرحمة، وهي
عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.
* * *
وأما"الرحيم": فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على
ما قد بينا فيما مضى قبل. (1)
* * *
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ
أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، وأرأفُ بهم
من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم -أيْ ولا تأسوا عَلى
مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس-، فإني لهم
=على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك= مثيبٌ، لأني أرحم
بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم، فإني
غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة، لأني لم أكن فرضت ذلك
عليهم، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم
بعمله.
* * *
وفي"الرءوف" لغات. إحداها"رَؤُف" على مثال"فَعُل"، كما قال
الوليد بن عقبة:
وَشرُّ الطالِبِينَ -وَلا تَكُنْه- ... بقَاتِلِ عَمِّه،
الرَّؤُفُ الرَّحِيم (2)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 126-134.
(2) كان في المطبوعة: "الرءوف الرحيما". وجاء على الصواب في
القرطبي 2: 145، وأبي حيان 1: 427، وفيهما خطأ آخر، الأول
فيه"يقاتل"، والثاني"يقابل"، وكأن هذا البيت من شعر الوليد بن
عقبة، الذي كتب به إلى معاوية يحض معاوية على قتال علي رضي
الله عنهما. وهي في أنساب الأشراف: 140، وتاريخ الطبري 5:
236-237، وحماسة البحتري: 30، واللسان (حلم) وغيرها، وليس فيها
هذا البيت، وكأنه قبل البيت الذي يقول فيه: لَكَ الْوَيْلاتُ!
أَقْحِمْهَا عَلَيْهِمْ ... فخيرُ الطَّالبي التِّرَةِ
الغَشُومُ
وقوله: "لا تكنه"، دعاء له، واستنكار أن يكون كهذا الطالب
الثائر الذي يطالب بدم عمه، وهو رؤوف رحيم بعدوه وقاتل عمه،
وهو شر طالب ثأر.
(3/171)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
(144)
وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة.
والأخرى"رَؤوف" على مثال"فعول"، وهي قراءة عامة قراء المدينة،
و"رَئِف"، وهي لغة غطفان، على مثال"فَعِل" مثل حَذِر. و"رَأْف"
على مثال"فَعْل" بجزم العين، وهي لغة لبني أسد.
والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ
تقلُّبَ وجهك في السماء.
* * *
ويعني: ب"التقلب"، التحوُّل والتصرُّف.
ويعني بقوله:"في السماء"، نحو السماء وقِبَلها.
* * *
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- لأنه كان
=قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى
السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة،
كما:-
2230- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء"
قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن
يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.
2231- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء"، فكان نبي الله
صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس، يَهوى وَيشتهي
القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان
يهواها وَيشتهيها.
(3/172)
2232- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال،
حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد نرى
تقلُّب وَجهك في السماء"، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت
المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان
يهواها.
2233- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما
قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر
شهرًا من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما
يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان
النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل
الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء" الآية.
* * *
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى
قبلة الكعبة.
قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا:
يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!
* ذكر من قال ذلك:
2234- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا!
فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويَستفرض للقبلة، (1) فنزلت:"قد
نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول
وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام"، -وانقطع قول يهود:
__________
(1) في المطبوعة: "يستعرض للقبلة"، وأثبت ما في الدر المنثور
1: 147 وقوله: "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين.
وهذا ما لم تشبه كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية. أما قوله:
"يستعرض للقبلة"، فليست بشيء.
(3/173)
يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر،
(1) . فجعل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال.
2235- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن
زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم:"فأينما تولوا فثمَّ وجه الله". قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:" هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت
الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى
الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما
دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! (2) فكره ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل
ثناؤه:"قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً
ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام" الآية. (3)
* * *
وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه
إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
2236- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ
أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت
اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر
شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ
إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل:"قد
نرى تقلُّبَ وجهك في السماء" الآية. (4)
* * *
__________
(1) سياق عبارته: "فنزلت. . . في صلاة الظهر".
(2) في المطبوعة: "ما درى محمد صلى الله عليه وسلم"، ولا تقوله
يهود، فرفعته. وكذلك جاء في رقم: 1838.
(3) الأثر: 2235- مضى برقم: 1838.
(4) الأثر: 2236- مضى برقم: 1833، ورقم: 2160.
(3/174)
فأما قوله:"فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها"،
فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة"ترضاها":
تَهواها وتُحبها. (1)
* * *
وأما قوله:"فوَلِّ وجهك"، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.
* * *
وقوله:"شَطرَ المسجد الحَرَام"، يعني: ب"الشطر"، النحوَ
والقصدَ والتّلقاء، كما قال الهذلي: (2)
إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ
العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (3)
يعني بقوله:"شَطْرَها"، نحوها. وكما قال ابن أحمر:
تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ، ... قَدْ كَارَبَ
العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا (4)
* * *
__________
(1) انظر معاني"ولى" فيما سلف 2: 162، 535، وهذا الجزء 3: 131.
(2) هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن
خويلد بن كاهل.
(3) ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: 261 (أوربة) ، ورسالة
الشافعي: 35، 487، وسيرة ابن هشام 2: 200، والكامل 1: 12، 2: 3
ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60، واللسان (شطر) (حسر) ، وغيرها.
ورواية الشافعي في الرسالة: "إن العسيب" بالباء في آخره،
ورواية ديوانه وابن هشام: "إن النعوس". والعسير: التي تعسر
بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند
الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد
صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته.
وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام: "النعوس:
ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: "وهو
حسير". ويروى: "داء يخامرها فنحوها. . . "، ورواية
ديوانه"مخزور". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور:
من قولهم: "خزر بصره": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو
يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها
مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل.
(4) سيرة ابن هشام 2: 199، والروض الأنف 2: 38، والخزانة 3:
38، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60. وفي المطبوعة: "من إنفادها"،
وهو خطأ. وقال: قبله: أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ
رُفْقَتِهِ ... فقال: حَيَّ، فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَا
حي: اعجل. ونصب: جد في السير: وقوله: "جمع"، هي مزدلفة، يريد
الحج. وقوله: عاقدة، أي: قد عطفت ذنبها بين فخذيها. وقوله:
كارب، أي أوشك وكاد وقارب ودنا. وأوفدت الناقة إيفادًا: أسرعت.
والحقب: الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا
يؤذيه التصدير. يقول: قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة، فجعلت
تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب.
والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها، يقول المخبل السعدي:
وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ، أفْزَعَهَا ... تَحْتَ الضُّلُوعِ
مُرَوِّعٌ شَهْمُ
وتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍ ... عُقِمَتْ فناعَمَ،
نَبْتَهُ العُقْمُ
ويقول المثقب العبدي، يصف ناقته مسرعة: تَسُدُّ بِدَائِمِ
الخَطَرَانِ جَثْلٍ ... خَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ
(3/175)
ءوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2237- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود
بن أبي هند، عن أبي العالية:"شَطْرَ المسجد الحَرَام"، يعني:
تلقاءه.
2238- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"شطر المسجد الحرام"،
نحوَه.
2239- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فوَلِّ وجهك شَطر
المسجد الحرام"، نَحوَه.
2240- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَ المسجد
الحرام.
2242- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"
قال، نحو المسجد الحرام.
(3/176)
2243- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فولِّ وجهك شطرَ
المسجد الحرام"، أي تلقاءَه.
2244- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه
قال:"شطرَه"، نحوَه.
2245- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
أبي إسحاق، عن البراء:"فولوا وجُوهكم شَطره" قال، قِبَله.
2246- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"شَطْره"، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه:"شُطوره". (1)
* * *
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم
أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.
فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه
وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله:"فلنولينَّك قبلة
تَرْضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
2247- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال،
أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد الله
بن عمرو:"فلنولينَّك قبلة ترضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. (2)
__________
(1) الخبر: 2246- هو وما قبله من الأخبار، في تفسير (شطره)
بأنه: قبله، أو: نحوه. وانظر مؤيدًا ذلك، ما قاله الشافعي في
الرسالة، بتحقيقنا: 105-111، 1378-1381.
(2) الحديث: 2247- عبد الله بن أبي زياد، شيخ الطبري: نسب إلى
جده. وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني"، واسم"أبي
زياد": "سليمان". وعبد الله هذا: ثقة، روى عنه أبو زرعة، وأبو
حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم
2/2/38.
وشيخه"عثمان": ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف،
وصوابه"عفان".
يحيى بن قمطة: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 4/2/229،
وابن أبي حاتم 4/2/181، وذكر أنه حجازي، ولم يذكرا فيه جرحًا.
وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر". وذكر ابن أبي حاتم أنه
يروي"عن عبد الله بن عمرو". وذكره ابن حبان في الثقات، ص: 371،
وقال: "يروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو". روى عنه يعلى بن
عطاء.
واسم أبيه: "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة. ولم أجد
ما يدل على ضبط هذه الحروف. لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير
عبد الرزاق ومراجع الترجمة. ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة"
بدون الميم. وهو خطأ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق مسلم بن
إبراهيم، عن شعبة، بهذا الإسناد، مطولا بنحو الرواية التي بعد
هذه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
ووافقه الذهبي.
(3/177)
2248- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة
قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء
الميزاب، وتلا هذه الآية:"فلنولينك قِبلة ترضاها" قال، هذه
القبلة، هي هذه القبلة.
2249- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم
-بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل
الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه:"فلنولينك قبلة
تَرضاها". (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديثان: 2248، 2249- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما.
وأولهما من رواية عبد الرزاق، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء.
وهشيم- بالتصغير: هو ابن بشير، بفتح الموحدة وكسر الشين
المعجمة. وهو أبو معاوية بن أبي خازم، وهو حافظ ثقة ثبت. مترجم
في التهذيب. والكبير 4/2/242، وابن سعد 7/2/61، 70. وابن أبي
حاتم 4/2/115-116. وتذكرة الحفاظ 1: 229-230.
والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 13، بهذا الإسناد. وليس فيه
كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله: "هذه القبلة". وأخشى أن تكون
زيادتها غير جيدة ولا ثابتة.
وذكر ابن كثير 1: 352، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن
بن عرفة، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء". ووقع اسم"هشيم" فيه
محرفًا، فيصحح من هذا الموضع.
والحديث في الدر المنثور أيضًا 1: 147، وزاد نسبته إلى ابن أبي
شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن المنذر،
والطبراني في الكبير. وهو في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه
الطبراني من طريقين، ورجال إحداهما ثقات".
(3/178)
2250- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن
عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: البيت كله
قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل
ثناؤه:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، فالمولِّي وجهه شطرَ
المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه
النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه، كما أن على من ائتمِّ بإمام
فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه، وإن
كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن
يساره، بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه
الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة، وإنْ لم يكن
يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه
إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو
مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها، أو قَرُب، من عن يمينها أو عن
يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه
ووَجهه، كما:
2251- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد
الكندي، عن علي:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال، شطُره،
قبله. (2)
* * *
__________
(1) الخبر: 2250- نقله السيوطي 1: 147، عن الطبري وحده، بلفظ:
"البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب".
(2) الحديث: 2251- أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني.
عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي: تابعي ثقة، ترجمه ابن سعد
في الطبقات 6: 141، وقال: "روى عن عبد الله". أراد بذلك عبد
الله بن مسعود. وترجمه البخاري في الكبير 4/1/69. وابن أبي
حاتم 3/2/24. ولم يذكرا فيه جرحًا، ولا رواية عن غير ابن
مسعود. وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق محمد بن
كثير، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد. وقال
الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج 2 ص 3، عن الحاكم.
وذكره السيوطي 1: 147، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن
المنذر، وابن أبي حاتم، والدينوري في المجالسة.
وذكره ابن كثير 1: 268، نقلا عن الحاكم.
ولفظه عندهم جميعًا: "قال: شطره قبله"، كما أثبتنا. ووقع في
المطبوعة هنا: "قال: شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف، من ناسخ
أو طابع.
ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق".
وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا، وما ثبت في سائر المراجع.
ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع
والمخطوط-"عمير بن زياد". وهو خطأ أيضًا. وثبت على الصواب في
رواية البيهقي عن الحاكم.
(3/179)
قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-
2252- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا
هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ
بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة. (1)
2253- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عبد
الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال، حدثني أسامة بن زيد قال:
خرج النبي صلى
__________
(1) الحديث: 2252- الفضل بن الصباح البغدادي: ثقة، وثقه ابن
معين. وقال أبو القاسم البغوي: "كان من خيار عباد الله". مترجم
في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/2/63.
عبد الملك: هو ابن أبي سليمان العرزمي، مضى في: 1455.
عطاء: هو ابن أبي رباح، التابعي الكبير، الإمام الحجة، القدوة
العلم، مفتي أهل مكة ومحدثهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم
3/1/330-331. وتذكرة الحفاظ 1: 92: 93، وتاريخ الإسلام 4:
278-280، وابن سعد 2/2/133-134، و 5: 344-346.
أسامة بن زيد بن حارثة: هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وابن حبه.
وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل: ص: 57- أن
عطاء لم يسمع من أسامة. ولكن الرواية التالية لهذه، فيها تصريح
عطاء بالسماع منه. ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال، كما هو
الراجح عند أهل العلم بالحديث.
وعطاء ولد سنة 27 ومات سنة 114. بل ذكر الذهبي أنه مات عن 90
سنة. وأسامة بن زيد مات سنة 54. بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في
آخر خلافة معاوية سنة 58 أو 59.
وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (5: 209) ، عن هشيم، بهذا
الإسناد واللفظ. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه مطولا، بنحوه.
(3/180)
الله عليه وسلم من البيت، فصلى ركعتين
مستقبلا بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلةُ مرتين. (1)
2254- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد
الملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نحوه. (2)
2255- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا
ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم
بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن
دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها، ولم
يصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال:
هذه القبلة. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2253- ابن حميد: هو محمد بن حميد بن حيان الرازي
الحافظ. سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة، ووثقناه في 2028.
ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره. وأنكروا عليه أحاديث،
وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها، ليس هو من
قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم". وقال
الخليلي: "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن، رضيه أحمد ويحيى".
وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه، فقال: أما حديثه
عن ابن المبارك وجرير، فصحيح، وأما حديثه عن أهل الري، فهو
أعلم". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/69-70، وابن أبي حاتم
3/2/232-233، والخطيب 2: 259-264، وتذكرة الحفاظ 2: 67-69.
جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي، وهو ثقة حجة. مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/214، وابن سعد 7/2/110. وابن أبي
حاتم 1/1/505-507، والخطيب 7: 253-261، وتذكرة الحفاظ 1: 250.
فهذا إسناد صحيح، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد، كما
أشرفا في الإسناد السابق.
والحديث رواه أحمد في المسند (5: 210 ح) ، ضمن قصة، عن يحيى
-وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء، عن أسامة بن زيد".
(2) الحديث: 2254- عبد الرحيم بن سليمان: هو المروزي الأشل،
مضت ترجمته: 2030. والحديث تكرار لسابقه، لكن لم يصرح في هذا
الإسناد بسماع عطاء من أسامة.
(3) الحديث 2255- سعيد بن يحيى بن سعيد، الأموي: ثقة ثبت، بل
قال علي بن المديني: "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم.
. . وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: أثبت من أبيه". وهو من
شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم، مترجم في التهذيب،
والكبير 2/1/477، وابن أبي حاتم 2/1/74، والخطيب 9: 90-91.
أبوه، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص: حافظ ثقة. مترجم
في التهذيب، والكبير 4/2/277، وابن سعد 6: 277-278، و
7/2/80-81. وابن أبي حاتم 4/2/151-152، والخطيب 14: 132-135،
وتذكرة الحفاظ 1: 298.
والحديث رواه أحمد في المسند (5: 208ح) ، عن عبد الرزاق، وروح
- كلاهما عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه.
رواه قبل ذلك (ص: 201 ح) عن عبد الرزاق وحده، مختصرًا، طوى
القصة فلم يذكرها.
وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة
بن زيد، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس، وينفي
أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت. فهو يذكر رواية ابن عباس
عن أسامة، من أجل هذا. ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء
عن أسامة مباشرة.
والحديث رواه أيضًا مسلم 1: 376-377، من طريق محمد بن بكر، عن
ابن جريج، بهذا الإسناد، نحو هذه القصة، أطول منها قليلا.
ورواه البخاري 1: 420- 421 (فتح الباري) ، من طريق عبد الرزاق،
عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مختصرًا. لم يذكر القصة،
ولم يذكر أنه عن أسامة، جعله من حديث ابن عباس. وذكر الحافظ
أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم، في مستخرجيهما، من طريق إسحاق
بن راهويه، عن عبد الرزاق، بإسناد هذا: "فجعله من رواية ابن
عباس عن أسامة بن زيد". قال الحافظ: "وهو الأرجح".
والخلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أو
لم يصل - مذكور في الدواوين. والراجح صلاته فيها. المثبت مقدم
على النافي. وانظر نصب الراية 2: 319-322.
(3/181)
قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم
أنّ البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها
المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام
وتلقاءَه.
و"الهاء" التي في"شطرَه"، عائدة إلى المسجد الحرام.
فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو
المسجد الحرام
(3/182)
في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك
وتعالى.
وأدخلت"الفاء" في قوله:"فولوا"، جوابًا للجزاء. وذلك أن
قوله:"حيثما كنتم" جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم
شطره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}
يعني بقوله جل ثناؤه:"وإنّ الذين أوتُوا الكتاب" أحبارَ اليهود
وعلماء النصارى.
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.
* ذكر من قال ذلك:
2256- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في
اليهود.
* * *
وقوله:"ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبارَ
والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد،
الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده
بعده.
* * *
ويعني بقوله:"من رَبِّهم" أنه الفرضُ الواجب على عباد الله
تعالى ذكره، وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.
* * *
(3/183)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما
تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته،
فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت
المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه
عنه، (1) ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى
يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ
وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ
بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد،
اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي"الآية"- (2) بأن
الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في
الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا
-مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي
التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وأجيبت"لئن" بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ
بالمستقبل تشبيهًا لها ب"لو"، فأجيبت بما تجاب به"لو"، لتقارب
معنييهما.
__________
(1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244، 315، وهذا الجزء 3:
127.
(2) انظر تفسيره"آية" فيما سلف 1: 106/2: 553.
(3/184)
وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. (1)
وأجيبت"لو" بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء
خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم
أوّله إلا بآخره، ولا يتمُّ وحده، ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به
بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت"اللام"
الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما
قيل:"لعمرك لتقومَنَّ" إذ كثرت"اللام" من"لعمرك"، حتى صارت
كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت"اللام"
تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي
أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا
تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. (2) فشبهت"اللام"
التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا، فأجيبت بأجوبَتها.
* * *
فكانَ مَعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: لو أتيتَ
الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
* * *
وأما قوله:"وما أنتَ بتابع قِبلتهم"، يقول: وما لك من سبيل يا
محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس
بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل
إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي
أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى
وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها.
* * *
وأما قوله:"وما بعضهم بتابع قبلة بعض"، فإنه يعني بقوله: وما
اليهود بتابعةٍ
__________
(1) انظر ما سلف 2: 458، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 84.
(2) قوله: "أجوبة الأيمان لنا على الأيمان" هذه عبارة غامضة،
لم أظفر لها بوجه أرتضيه، وأنا لا أشك في تحريفها أو نقصها.
(3/185)
|