تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا
بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة
اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:-
2257- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"وما بعضهم بتاع قبلة بعض"، يقول: ما اليهود
بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال:
وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد
أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو
صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم:"وإنّ الذين أوتوا
الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم" إلى قوله:"ليكتمون الحق وهم
يعلمون". (1)
2258- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض"، مثل ذلك.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على
قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى
ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك
رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع
اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك
إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى، وإن اتّبعت قبلة
النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعُهم إلى ما
لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة،
وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولئن اتبعت أهواءهم"، ولئن
التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك
ولأصحابك:"كونوا هُودًا أو نصارى تهتدوا"، فاتبعتَ قبلتهم -
يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.
__________
(1) الأثر: 2257- انظر ما مضى رقم: 2204.
(3/186)
ويعني بقوله:"من بَعد مَا جَاءك من العلم"،
من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على
باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق، ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي
وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه
السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها،"إنك
إذًا لمن الظالمين"، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي
الظَّلمةِ أنفسَهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدُهم
وفي عِدادِهم. (1)
* * *
__________
(1) السياق: من عبادي الظلمة. . . وأحدهم، وفي عدادهم".
(3/187)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه"، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء
الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام
قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك، كما يعرفون
أبناءَهم، كما:-
2259- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد،
عن قتادة قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون
أبناءهم"، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ.
2260- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله عز وجل:"الذين
آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني: القبلةَ.
(3/187)
2261- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا
ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي
قبلتُهم التي أمِروا بها، كما عرفوا أبناءهم.
2262- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ
الحرام.
2263- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم"، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء، كما يعرفون
أبناءهم. (1)
2264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال،
اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة.
2265- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما
يعرفون أبناءهم" قال، القبلةُ والبيتُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا
الكتاب -وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل
الكتاب.
2266- حدثني محمد بن عمرو -يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم،
عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء".
(3/188)
2267- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
2268- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"ليكتمون الحق"، - وذلك الحق هو القبلة
=التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه
وسلم. يقول: فَولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام= التي كانت
الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها.
فكتمتها اليهودُ والنصارى، فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو
بيتَ المقدس، ورفضُوا ما أمرهم الله به، وكتموا مَعَ ذلك أمرَ
محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة
والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم
وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى، وخيانتهم عبادَه،
وكتمانِهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم
منهم بأن الحق غيرُه، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه
خلافُه، فقال:"ليكتمونَ الحق وهم يعلمون"، أنْ لَيس لَهم
كتمانه، فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:- (1)
2269- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد عن قتادة قوله:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ
يعلمون"، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
2270- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون" قال،
يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في
التوراة والإنجيل.
__________
(1) من أول قوله: "كما حدثنا بشر بن معاذ"، إلى حيث نذكر في ص
207 تعليق: 2 موجود في ست عشرة صفحة بقيت من القسم المفقود من
النسخة العتيقة.
(3/189)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
2271- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن
الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإنّ
فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"، يعني القبلةَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (1) اعلم يا محمد أنّ الحق ما
أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.
وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: (2) عن
أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها
إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.
يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد،
ولا تَكوننَّ من الممترين.
* * *
يعني بقوله:"فلا تكونن من الممترين"، أي: فلا تكونن من
الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم
خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:
2272- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه
السلام:"الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين"، يقول: لا تكنْ
في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "يقول الله جل ثناؤه"، وأثبت نص المخطوطة.
(2) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فلا تكن في شك أنها"، بإسقاط الفاء
من"فإنها".
(3/190)
2273- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد:"فلا تكونن من الممترين" قال، من الشاكين قال، لا
تشكنّ في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما"الممتري" (1) "مفتعل"، من"المرْية"،
و"المِرْية" هي الشك، ومنه قول الأعشى:
تَدِرُّ عَلَى أَسْوُقِ المُمْتَرِينَ ... رَكْضًا، إِذَا مَا
السَّرَابُ ارْجَحَنّ (2)
* * *
ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه
وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه، أو في أن القبلة التي
وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في
ذلك، فقيل له:"فلا تكونن من الممترين"؟
قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي
للمخاطب به، والمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ) [سورة الأحزاب: 1] ، ثم قال: (وَاتَّبِعْ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ
__________
(1) في المطبوعة: "والممتري"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) ديوانه: 20 واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في 1:
345، 346، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي، أغارت على
قوم مسرعة حثيثة، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها: -
تُبَارِي الزِّجَاجَ مَغَاوِيرُهَا ... شَمَاطِيط في رَهَجٍ
كالدَّخَنْ
تَدِرُّ عَلَى أسوُق. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
در الفرس يدر دريرًا ودرة: عدا عدوًا شديدًا. لا يثنيه شيء.
والأسوق جمع ساق، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان. يقول: بيناهم
يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم، فوطئتهم وطئًا شديدًا، ومرت
على سيقانهم عدوًا. وارجحن السراب: ارتفع واتسع واهتز، وذلك في
وقت ارتفاع الشمس.
(3/191)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة الأحزاب: 2] . فخرج الكلام مخرج
الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له، والمراد به
أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما
أغنَى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولكلّ"، ولكل أهل ملة،
(2) فحذف"أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:-
2274- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولكلِّ
وِجْهة" قال، لكل صاحب ملة.
2275- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"ولكلٍّ وجهة هو موليها"، فلليهوديّ وجهة
هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، وهداكم الله عز وجل أنتم
أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة. (3)
2276- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قال، قلت لعطاء قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لكل أهل
دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب
مِلة.
2277- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لليهود قبلة، وللنصارى قبلة،
ولكم قبلة. يريد المسلمين.
2278- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) انظر ما سلف 2: 484- 488.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . تعالى ذكره ولكل أهل ملة"،
والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: " فلليهود وجهة هو موليها"، و"وللنصارى قبلة
هو موليها"، والصواب من المخطوطة. وفيها أيضًا: "التي هي
قبلته" وأثبت ما في المخطوطة، وهو جبد.
(3/192)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله:"ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها"، يعني بذلك أهلَ الأديان:
يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها، ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه
حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال:
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115]
2279- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"ولكلٍّ وجْهة هو موليها"، يقول: لكل قوم قبلة
قد ولَّوْها.
* * *
فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو
مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها.
* * *
وقال آخرون بما:-
2280- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولكل وجهة هو موليها" قال، هي صلاتهم
إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.
* * *
وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا
محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه.
* * *
وأما"الوِجهة"، فإنها مصدر مثل"القِعدة" و"المِشية"،
من"التوجّه". وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في
صلاته، (1) كما:-
2281- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجهة" قبلةٌ.
__________
(1) في المطبوعة: "يتوجه إليها"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر
معاني القرآن للفراء: 90"وجهة".
(3/193)
2282- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2283- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"ولكل وجهة" قال، وَجْه.
2284- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"وِجْهه"، قِبلة.
2285- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور:"ولكل
وجْهة هو مولِّيها" قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة
يرضَوْنها. (1)
* * *
وأما قوله:"هو مُولِّيها"، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها
ومستقبلها، (2) كما:-
2286- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هو موليها" قال، هو
مستقبلها.
2287- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
ومعنى"التوْلية" هاهنا الإقبال، كما يقول القائل لغيره:"انصرِف
إليّ" بمعنى: أقبل إليّ."والانصراف" المستعمل، إنما هو
الانصراف عن الشيء، ثم يقال:"انصرفَ إلى الشيء"، بمعنى: أقبل
إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال:"ولَّيت عنه"، إذا أدبرت
عنه. ثم يقال:"ولَّيت إليه"، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن
غيره. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "نقرؤها"، لا يعني أنها قراءة في قراآت القرآن،
وإنما يعني دراستها والتفقه في معانيها.
(2) في المطبوعة: "مستقبلها" بحذف الواو، وهي جيدة.
(3) انظر معنى"التولية" فيما سلف 2: 535، وهذا الجزء 3: 175
وانظر أيضًا 2: 162، ثم هذا الجزء 3: 115، وانظر معاني القرآن
للفراء 1: 85.
(3/194)
والفعل -أعني"التولية"- في قوله:"هو
موليها" لل"كل". و"هو" التي مع"موليها"، هو"الكل"، وحُدَّت
للفظ"الكل".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة، الكلُّ. منهم مولُّوها
وجُوهَهم. (1)
* * *
وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها:"هو مُولاها"، بمعنى
أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون"الكل" حينئذ غير مسمًّى فاعله، (2)
ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ
مولِّيه إياها، بمعنى: موجِّهه إليها.
* * *
وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك:"ولكُلٍّ وِجهةٍ" بترك التنوين
والإضافة. وذلك لحنٌ، ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك -إذا قرئ
كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ، وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك
غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه.
* * *
والصواب عندنا من القراءة في ذلك:"ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ
مُولِّيها"، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ
وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك،
وتصويبها إياها، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به
النقلُ مستفيضًا فحُجة، وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو
والغلط، (3) فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لكل منهم مولوها"، وهو كلام مختل، والصواب
من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ويكون الكلام حينئذ"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "السهو والخطأ"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3/195)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاستبقوا"، فبادروا
وسَارعوا، من"الاستباق"، وهو المبادرة والإسراع، كما:-
2288- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قوله:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: فسارعوا في
الخيرات. (1)
* * *
وإنما يعني بقوله:"فاستبقوا الخيرات"، أي: قد بيّنت لكم أيها
المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود
والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم، فبادروا بالأعمال الصالحة،
شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، (2) فإني قد بيّنت
لكم سبُل النجاة، (3) فلا عذر لكم في التفريط، وحافظوا على
قبلتكم، فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، (4)
فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:-
2289- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: لا تُغلَبُنَّ على
قبلتكم.
2290- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فاستبقوا الخيرات" قال، الأعمال الصالحة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يعني: فسارعوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "لأخراكم"، وهما سواء في المعنى.
(3) في المطبوعة: "سبيل النجاة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ولا تضيعوها كما ضيعها"، وأثبت ما في
المخطوطة، وهي أجود.
(3/196)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَيْنَمَا
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) }
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا"،
في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، (1) يأت بكم الله جميعًا يوم
القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:-
2291- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا"، يقول:
أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة.
2291م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا"، يعني: يومَ
القيامة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على
طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة، فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا
أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم، ولزوم ما هداكم له من
قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم
وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث
كنتُم من بقاع الأرض، حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه،
(2) والمسيء عقابه بإساءته، أو يتفضّل فيصفح.
* * *
وأما قوله:"إنّ الله على كل شيء قدير"، فإنه تعالى ذكره يعني:
إنّ الله تعالى على جَمْعكم -بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من
حيث كنتم وكانت قبوركم كمن وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. (3)
فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ
بعثكم وَحشركم.
* * *
__________
(1) انظر القول في تفسير"أينما" في معاني القرآن للفراء 1:
85-89.
(2) في المخطوطة: "حتى يؤتي المحسن منكم جزاءه"، ولا بأس بها.
(3) في المطبوعة: "من قبوركم من حيث كنتم وعلى غير ذلك"، أسقط
منها الناسخ.
(3/197)
وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن حيث خرجت"، ومن أيّ
موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول:
حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن"التولية" في هذا الموضع شطر
المسجد الحرام، إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا
معنى"الشطر" فيما مضى. (1)
* * *
وأما قوله:"وإنه للحق من ربك"، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ
التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك، فحافظوا عليه،
وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله.
* * *
وأما قوله:"ومَا الله بغافل عَما تَعملون"، فإنه يقول: فإن
الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه
محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في"التولية" في هذا الجزء 3: 194 تعليق: 3،
وما سلف في تفسير: "شطر" في هذا الجزء 3: 175.
(2) انظر معنى"غافل" فيما سلف من هذا الجزء 3: 174 تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3/198)
وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(150)
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ومن حَيثُ خرجت فول
وَجهك شطر المسجد الحرام": من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا
محمد، فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره.
ويعني بقوله:"وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم"، وأينما كنتم أيها
المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه
وقِبَله وقَصْدَه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}
قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى
ب"الناس" في قوله:"لئلا يكون للناس"، أهلَ الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
2292- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك
أهلَ الكتاب. قالوا -حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم
إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين
قومه!
2293- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) في المخطوطة: "فولوا في صلاتكم"، أسقط"وجوهكم".
(3/199)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لئلا يكونَ
للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب، قالوا -حين صُرف
نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: اشتاق الرجل إلى
بيت أبيه ودين قومه!
* * *
فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟
قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا
يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن!
وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! (1) فهي الحجة
التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على
الجهالّ وأهل الغباء من المشركين. (2)
وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله
تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل
ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم
عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه:"لئلا يكون للناس
عليكم حجة"، يعني ب"الناس"، الذين كانوا يحتجون عليهم بما
وصفت.
* * *
وأما قوله:"إلا الذين ظَلموا منهم"، فإنهم مُشركو العرب من
قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2294- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين ظَلموا منهم"،
قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء رقم: 2234، 2235.
(2) في المطبوعة: "وأهل العناد من المشركين"، والصواب من
المخطوطة.
(3/200)
2295- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو
بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هم المشركون من أهل
مكة.
2296- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"إلا الذين ظلموا منهم"، يعني مشركي قريش.
2297- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة، وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا الذين
ظلموا منهم" قال، هم مشركو العرب.
2298- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركو
قريش.
2299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني
عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء.
* * *
فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل
يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين -فيما أمرهم الله به أو
نهاهم عنه- حُجة؟ (1)
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما"الحجة"
في هذا الموضع، الخصومة والجدال. (2) ومعنى الكلام: لئلا يكون
لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش،
فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، (3) بقيلهم
لكم:"رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا، وسيرجع إلى
__________
(1) في المطبوعة: ". . . على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله
تعالى ذكره به، أو نهاهم عنه"، قدم"حجة" وزاد الثناء على الله.
(2) انظر ما سلف في تفسير: "أتحاجوننا"، في هذا الجزء 3: 121.
(3) في المطبوعة: "دعوى باطلة" في الموضعين، ولا بأس بها.
يقال: "دعوى باطل وباطلة"
(3/201)
ديننا". فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة،
هي"الحجة" التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره"الذين ظلموا" من
قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم
التي وجّههم إليها حُجة.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"لئلا
يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، قومُ محمد صلى
الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم، قولهم: قد راجعتَ
قبلتنا!
2301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت
إلى قبلتنا!
2302- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا
معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لئلا يكون
للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قالا هم مشركو العرب،
قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك
أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل:"فلا تَخشوْهم واخشوْني".
2303- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركُو قريش.
يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى
الله عليه وسلم =انصرافَهُ إلى البيت الحرام= (1) أنهم قالوا
سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله
__________
(1) في المطبوعة والدر المنثور 1: 148"بانصرافه" وأثبت ما في
المخطوطة وابن كثير 1: 358، وقوله: "انصرافه" منصوب على
الظرفية أي عند انصرافه.
(3/202)
تعالى ذكره في ذلك كله. (1)
2304- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع مثله.
2305- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صُرف نبيّ الله صلى الله
عليه وسلم نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال
المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته
إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في
دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"لئلا يَكونَ للناس عليكم
حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". (2)
2306- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا
الذين ظلموا منهم" قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة
وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم،
وهم"الذين ظلموا" - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير
أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء، فقال مجاهد: حُجتهم،
قولهم: رجعت إلى قبلتنا!
* * *
__________
(1) الأثر: 2303- في تفسير ابن كثير 1: 358، والدر المنثور 1:
148. والذي في المخطوطة والمطبوعة سواء"فأنزل الله في ذلك
كله". أما في الدر المنثور: "فأنزل الله في ذلك كله: "يا أيها
الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين".
والذي في الطبري يكاد لا يستقيم، والذي في الدر المنثور لا
يستقيم، وكأن صواب العبارة: "فأنزل الله في ذلك، ذلك كله إلى
قوله: "يا أيها الذين آمنوا. . . ".
(2) الأثر: 2305- انظر الأثر السالف: 2204.
(3/203)
فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل
التأويل قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، عن صحّة ما قلنا في
تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ
فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. (1) كما
قولُ القائل (2) "ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك"، إثباتٌ
للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك
قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"،
نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في
صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم
قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: (3) إنما توجهتم إلينا
وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو
بيت المقدس على ضلال وباطل.
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبيِّنٌ
خطأُ قول من زعم أن معنى قوله:"إلا الذين ظلموا منهم": ولا
الذين ظلموا منهم، وأن"إلا" بمعنى"الواو". (4) لأن ذلك لو كان
معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوُّلهم نحو
الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر
قوله بعد ذلك:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلا التلبيس الذي يتعالى
عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به. (5)
هذا مع خروج معنى الكلام =إذا وجّهت"وإلا" إلى معنى"الواو"،
ومعنى
__________
(1) في المطبوعة: "الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما
كان منفيًا عما قبلهم"، وهو خطأ صرف، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "كما أن قول القائل"، زادوا"أن" لتكون دارجة
على نهجهم، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ودعوى باطلة" في الموضعين. وانظر ما سلف:
201 تعليق: 3.
(4) زاعم هذا القول هو أبو عبيدة في مجاز القرآن: 60-61، وانظر
معاني القرآن للفراء 1: 89-90.
(5) رد الطبري على أبي عبيدة أمثل من رد الفراء وأقوم.
(3/204)
العطف= من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ
موجودة"إلا" في شيء من كلامها بمعنى"الواو"، إلا مع استثناء
سابق قد تقدمها. كقول القائل:"سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك"،
بمعنى: إلا عمرًا وأخاك، فتكون"إلا" حينئذ مؤدّية عما تؤدي
عنه"الواو"، لتعلق"إلا" الثانية ب"إلا" الأولى. (1) ويجمع فيها
أيضًا بين"إلا" و"الواو" فيقال:"سار القوم إلا عمرًا وإلا
أخاك"، فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها، فيقال: (2) "سار
القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك"، لما وصفنا
قبل.
وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي
أنّ"إلا" في هذا الموضع بمعنى"الواو" التي تأتي بمعنى العطف.
* * *
وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم،
فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: (3)
"الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [لك] المعتدي عليك"، فإن ذلك
لا يعتدّ بعُداوَنه ولا بتركه الحمد، (4) لموضع العداوة. وكذلك
الظالم لا حجة له، وقد سُمي ظالمًا = (5) لإجماع جميع أهل
التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا
على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها.
* * *
وظاهر بُطُول قول من زَعَم: (6) أنّ"الذين ظلموا" هاهنا، ناسٌ
من العرب
__________
(1) في المخطوطة: "إلى الأول"، وكأنه غير صواب.
(2) في المخطوطة: "ويجمع أيضًا فيها إلا والواو فيها فيقول: "
ولم أستبن ما يقول، والذي في المطبوعة سياق صحيح.
(3) في المطبوعة: "في كلامه"، والصواب من المخطوطة، ومعاني
القرآن للفراء، فهو نص كلامه.
(4) في المطبوعة، وفي معاني القرآن للفراء: "بعداوته"، والصواب
ما في المخطوطة.
(5) السياق: "وواضح فساد قول من زعم. . . لإجماع جميع أهل
التأويل".
(6) في المطبوعة: "بطلان" صحيحة المعنى، وفي المخطوطة: "دخول"
تصحيف وتحريف لما أثبت. والبطول والبطلان مصدران من الباطل.
وهما سواء في المعنى، وقد سلف أن استعملها الطبري مرارًا. انظر
ما سلف 2: 426، تعليق: 1 / 439 س: 11/479 س: 13.
(3/205)
كانوا يَهودًا ونصارَى، فكانوا يحتجون على
النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة،
وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر
عليه حجته:"إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة، وإنك لتحتج بلا
حجة، وحجتك ضعيفة". ووَجَّه معنى:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلى
معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب، فإنّ لَهُم
عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة.
* * *
ووَهْيُ قَولِ من قال:"إلا" في هذا الموضع بمعنى"لكن".
وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم
فلا تخشوهم. (1)
لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل
خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر
عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة -وإن كانت ضعيفةً لأنها
باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن
الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة.
2307- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال:
إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال
أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال:
قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو
العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع:
وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه
إلى الكعبة.
* * *
وأما قوله:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يعني: فلا تخشوا هؤلاء
الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما
يقولون (2) في أنّ محمدًا صلى
__________
(1) قوله"ووهي قول. . . "، و"وضعف قول. . . " معطوف على قوله
آنفًا: "وظاهر بطول قول من زعم. . . ".
(2) في المطبوعة: "من الظلم في حجتهم"، والصواب من المخطوطة.
ثم فيها: "وقولهم ما يقولون من أن محمدًا"، وصوابه من
المخطوطة.
(3/206)
الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع
إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم
عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني، فخافوا
عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.
وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، (1) بالحضّ
على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجُّه إلى
غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي
فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام.
وقد حكي عن السدي في ذلك ما:-
2308- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يقول: لا تخشوا أن
أردَّكم في دينهم (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولأتمَّ نعمتي عليكم"، ومن
حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت (3) فولِّ
وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون،
فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه،
__________
(1) تقدم إليه بكذا: أمره به.
(2) إلى هنا انتهى ما عثرنا عليه من الأوراق التي ذكرناها في
ص: 189 تعليق: 1، وفي آخره ما نصه:
"تَمَّ المجلد الثاني بعون الله تعالى، والصلاة على نبيّه محمد
وآله وصحبه وسلم. يتلوهُ في الثالث إن شاء الله تعالى، القول
في تأويل قوله تعالى: (ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) إن شاء الله تعالى، وهو بقية الجزء
السادس والعشرون؟؟ "
(3) في المطبوعة: "إلى أي بقعة"، بحذف الواو، والصواب ما أثبت.
(3/207)
كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس
-سوى مشركي قريش- حجةٌ، ولأتمّ بذلك =من هدايتي لكم إلى قبلة
خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس= نعمتي،
فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية
المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر
الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها
على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه.
* * *
وقوله:"ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة.
(1) و"لعلكم" عطف على قوله:"ولأتم نعمتي عليكم"،"ولأتم نعمتي
عليكم" عطف على قوله:"لئلا يكون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ
رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كما أرسلنا فيكم رسولا"،
ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديَكم لدين
خليلي إبراهيم عليه السلام، فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها
ومسألتَه التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة: 128] ، كما جعلت لكُم
دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"لعل" بمعنى"كي" 1: 364 / ثم 2: 69،
72، 161.
(3/208)
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: 129] ، فابتعثت منكم
رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه
من ذرّيتهما.
ف"كما" -إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل:"ولأتم
نعمتي عليكم". ولا يكون قوله:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"،
متعلقًا بقوله:"فاذكروني أذكركم".
* * *
وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا
منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، (1)
فأغرقوا النزع، (2) وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير
معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.
وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في
خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض:"كما أحسنت إليك يا فلان
فأحسن" - أن لا يَشترطوا للآخر، لأن"الكاف" في"كما" شرطٌ
معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب:"اذكروني" بعده، وهو
قوله:"أذكركم"، أوضحُ دليل على أن قوله:"كما أرسلنا" من صلة
الفعل الذي قبله، وأن قوله:"اذكروني أذكركم" خبرٌ مبتدأ منقطعٌ
عن الأول، وأنه =من سبب قوله:"كما أرْسلنا فيكم"= بمعزل.
* * *
وقد زعم بعض النحويين أن قوله:"فاذكروني" -إذا جُعل قوله:"كما
أرسلنا فيكم" جوابًا له، مع قوله:"أذكركم"- نظيرُ الجزاء الذي
يجاب بجوابين، كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه"،
فيصير قوله:"فأته" و"ترضه" جوابين لقوله:"إذا أتاك"،
وكقوله:"إن تأتني أحسِن إليك أكرمك". (3)
__________
(1) هو الفراء، انظر معاني القرآن 1: 92.
(2) أغرق النازع في القوس: إذا شدها، وجاوز الحد في مد القوس،
وبلغ النصل كبد القوس، فربما قطع يد الرامي. ونزع الرامي في
قوسه نزعًا: جذب السهم بالوتر. وقولهم: "أغرق في النزع"، مثل
في الغلو والإفراظ.
(3) هو من قول الفراء أيضًا، انظر معاني القرآن 1: 92.
(3/209)
وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب،
فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله
عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام
العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من
المفهوم في التأويل.
* * *
ذكر من قَال: إنّ قوله:"كما أرسلنا"، جوابُ قوله:"فاذكروني".
2309- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى
قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل:"كما أرسلنا
فيكم رسولا منكم"، كما فعلتُ فاذكروني.
2310- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قوله:"كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم"، فإنه يعني بذلك العرب،
قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي، وتوجهوا إلى
القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها، لتنقطع حُجة اليهود عنكم،
فلا تكون لهم عليكم حجَة، ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا، كما
ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي
أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
2311- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم"،
يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأمّا قوله:"يتلو عليكم آياتنا"، فإنه يعني آيات القرآن،
وبقوله:"ويزكيكم" ويطهّركم من دَنَس الذنوب، و"يعلمكم الكتاب"
وهو الفرقان، يعني: أنه
(3/210)
فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
يعلمهم أحكامه. ويعني: ب"الحكمة" السننَ
والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده.
(1)
* * *
وأمّا قوله:"ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون"، فإنه يعني: ويعلمكم
من أخبار الأنبياء، وقَصَص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادثٌ
وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلِموها من رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما
يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون
بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكرْكم برحمتي
إياكم ومغفرَتي لكم، كما:-
2312- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة،
عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير:"فاذكروني أذكركم" قال،
اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.
* * *
وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.
* ذكر من قال ذلك:
1313- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا
تكفرون"، إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من
كفَره.
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 86-88 والمراجع.
(3/211)
2314- حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"اذكروني أذكركم" قال، ليس من عبد يَذكر
الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا
يذكره كافر إلا ذكره بعذاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ
(152) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون
فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته
لأنبيائي وأصفيائي،"ولا تكفرون"، يقول: ولا تجحدوا إحساني
إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها،
وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه
من عبادي، فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته، ومن كفرني
حَرمته وسلبته ما أعطيتُه.
* * *
والعرب تقول:"نَصحتُ لك وشكرتُ لك"، ولا تكاد تقول:"نصحتك"،
وربما قالت:"شكرتك ونصحتك"، من ذلك قول الشاعر: (1)
هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ ... فَهَلا
شَكَرْتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ (2)
وقال النابغة في"نصحتك":
نَصَحْتُ بَنِي عَوَفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي
ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وسَائِلِي (3)
* * *
__________
(1) نسبه أبو حيان في تفسيره 1: 447 لعمر بن لجأ، ولم أجد
الشعر في مكان.
(2) معاني القرآن للفراء: 1: 92. وكان في المطبوعة: "إن لم
تقاتل"، وأثبت ما في الفراء والبؤسى والبأساء: البؤس. والنعمى
والنعماء: النعمة.
(3) ديوانه: 89، ومعاني القرآن للفراء 1: 92، وأمالي ابن
الشجري 1: 362، وهي في غزو عمرو بن الحارث الأصغر لبني مرة بن
عوف بن سعد بن ذبيان. ورواية ديوانه: "فلم يتقبلوا وصاتي".
الوصاة: الوصية. وقوله: "رسولي". الرسول: الرسالة. والوسائل
جمع وسيلة: وهي ما يتقرب به المرء إلى غيره من حرمة أو آصرة.
(3/212)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
وقد دللنا على أن معنى"الشكر"، الثناء على
الرجل بأفعاله المحمودة، وأن معنى"الكفر" تغطية الشيء، فيما
مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (153) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته،
واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال:"يا أيها الذينَ
آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة" على القيام بطاعتي، وأداء
فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي
أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري
فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحول عنه بعد تحويلي
إياكم عنه -وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من
الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به،
أو نقصٌ في أموالكم- (2) وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي،
بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم، واحتمال عنائه
وثقله، ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى
الصلاة لي، فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي، وبالصلاة
لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع
الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ، أنصرهُم
وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي.
* * *
__________
(1) معنى"الشكر" 1: 135-138 وتفسير معنى"الكفر" فيما سلف 1:
255، 382، 522، ومواضع كثيرة. اطلبها في فهرس اللغة.
(2) هذه جمل متداخلة، والعطف سياقه في هذه الجملة: استعينوا
بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي. . والانصراف
عما أنسخه. . والتسليم لأمري. . والتحول عنه. . وعلى جهاد
أعدائكم. . بالصبر. . ".
(3/213)
وقد بينت معنى"الصبر" و"الصلاة" فيما مضى
قبل، فكرهنا إعادته، (1) كما:
2315- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واستعينوا بالصبر والصلاة"،
يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما
من طاعة الله.
2316- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"،
اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله.
* * *
وأما قوله:"إن الله مع الصابرين"، فإن تأويله: فإن الله
نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله، كقول القائل:"افعل يَا فلان كذا
وأنا معك"، يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه.
* * *
__________
(1) انظر فيما سلف تفسير"الصلاة" 1: 242-243 / ثم 2: 11.
وتفسير"الصبر" في 2: 11، 124، وانظر فهرس اللغة.
(3/214)
وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ
أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا
بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم، وترك معاصيَّ، وأداء سائر
فرائضي عليكم، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت، فإن
الميت من خَلقي مَنْ سلبته حياتَه وأعدمتُه حواسَّه، فلا يلتذّ
لذة ولا يُدرك نعيما، فإنّ من قُتل منكم ومن سائر خَلقي في
سبيلي، أحياءٌ عندي، في حياة ونعيم، وعيش هَنِيّ، ورزق سنيّ،
فَرحين
(3/214)
بما آتيتهم من فضلي، وَحبوتهم به من
كرامتي، كما:-
2317- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بل أحياء" عند ربهم،
يرزقون من ثمر الجنة، ويَجدون ريحها، وليسوا فيها.
2318- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2319- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ولا تقولوا لمن يقتل في سَبيل الله أمواتٌ بل
أحياءٌ ولكن لا تشعرون"، كنَّا نُحَدَّثَ (1) أن أرواح الشهداء
تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة
المنتهى، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاثُ خصال من الخير: مَن
قُتل في سبيل الله منهم صار حيًّا مرزوقًا، ومن غُلب آتاه الله
أجرًا عظيمًا، ومن مات رَزَقه الله رزقًا حسنًا.
2320- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله
أموات بل أحياء" قال، أرواحُ الشهداء في صُوَر طير بيضٍ.
2321- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل
الله أمواتٌ بل أحياء"، في صُوَر طير خضر يطيرون في الجنه حيث
شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا.
2322- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان
بن غياث. قال، سمعت عكرمة يقول في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل
في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون" قال، أرواح
الشهداء في طير خُضر في الجنة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كما يحدث"، والصواب ما أثبت.
(3/215)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما في
قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، من
خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعمَّ به غيره؟
وقد علمت تظاهُر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم، فأخبر عن المؤمنين
أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى الجنة يَشمون منها
رَوْحها، ويستعجلون الله قيام الساعة، ليصيروا إلى مساكنهم
منها، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها = وعن الكافرين
أنهم يُفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى النار يَنظرون إليها،
ويصيبهم من نَتنها ومكروهها، ويُسلط عليهم فيها إلى قيام
الساعة من يَقمَعُهم فيها، ويسألون الله فيها تأخيرَ قيام
الساعة، حِذارًا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها، مع أشباه
ذلك من الأخبار. وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فما الذي خُصَّ به القتيل في سبيل الله،
مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائرُ الكفار
والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البرزخ، أما الكفار فمعذبون فيه
بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعَّمون بالروح والريحان
ونَسيم الجنان؟
قيل: إنّ الذي خَصّ الله به الشهداء في ذلك، وأفادَ المؤمنين
بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل
الجنة ومطاعمها في بَرْزَخِهم قَبل بعثهم، ومنعَّمون بالذي
ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها
الذي لم يُطعمها الله أحدًا غيرَهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو
الفضيلة التي فضَّلهم بها وخصهم بها من غيرهم، والفائدة التي
أفادَ المؤمنين بالخبر عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
[سورة آل عمران: 169-170] ، وبمثل الذي قُلنا جاء الخبرُ عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2323- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان،
وَعَبدة
(3/216)
بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن
فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"الشهداءُ على بَارق، نهر بباب الجنة، في قبة
خضراء -وقال عبدة: في روضة خضراء- يخرُج عليهم رزقهم من الجنه
بُكرة وَعشيًّا. (1)
2324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي، عن
ابن بشار السلمي -أو أبي بشار، شكّ أبو جعفر- قال: أرواح
الشهداء في
__________
(1) الحديث: 2323- عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي: ثقة من شيوخ
أحمد وإسحاق. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 272، وابن أبي
حاتم 3/1/89.
الحارث بن فضيل الأنصاري المدني: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي
وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/277، وابن أبي حاتم
1/2/86.
محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأشهلي، الأوسي، الأنصاري:
صحابي على الراجح الذي جزم به البخاري، مات سنة 96 أو 97. قال
الواقدي: مات وهو ابن 99 سنة. قال الحافظ في التهذيب: "على
مقتضى قول الواقدي في سنة، يكون له يوم مات النبي صلى الله
عليه وسلم 13 سنة. وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة". وروى
البخاري في الكبير 4/1/402، بإسناد صحيح: "عن محمود بن لبيد
قال، أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا، يوم مات
سعد بن معاذ". وهذا حجة كافية في إثبات صحبته. فقال ابن أبي
حاتم 4/1/289-290: "قال البخاري: له صحبة. فخط أبي عليه، وقال
لا يعرف له صحبة"! وهو نفي دون دليل، لا يقوم أمام إثبات عن
دليل صحيح. ولذلك قال ابن عبد البر - كما في التهذيب: "قول
البخاري أولى". وهو مترجم أيضًا في ابن سعد 5: 55-56. والإصابة
6: 66-67.
والحديث رواه أحمد في المسند: 2390، عن يعقوب بن إبراهيم بن
سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 7: 69 (من مخطوطة الإحسان) ، من
طريق يعقوب، به. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 74، من طريق يزيد
بن هارون، عن ابن إسحاق. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط
مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 292، عن رواية المسند. قال:
"تفرد به أحمد". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه، وقال: "وهو
إسناد جيد". وهو في مجمع الزوائد 5: 298، ونسبه لأحمد،
والطبراني، وقال: "ورجال أحمد ثقات".
وذكره السيوطي 2: 96. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد،
وابن أبي حاتم، وابن المنذر والبيهقي في البعث.
وقوله: "وقال عبدة. . . "، يريد أن"عبدة بن سليمان" قال: "في
روضة" بدل"في قبة". ووقع في المطبوعة"أو قال عبدة". ووضع"أو"
هنا بدل واو العطف - خطأ غير مستساغ. ونرجح أنه من ناسخ أو
طابع.
(3/217)
قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان،
رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثَورٌ وحُوت، فأما الثور، ففيه
طعم كلّ ثمرةٍ في الجنة، وأما الحوت ففيه طَعمُ كل شراب في
الجنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإنّ الخبر عما ذكرت أن الله
تعالى ذكرُه أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي
خصّهم بها في البرزخ غيرُ موجود في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ
يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، وإنما فيه الخبرُ عن
حَالهم، أمواتٌ هم أم أحياءٌ.
قيل: إنّ المقصود بذكر الخبر عن حياتهم، إنما هو الخبر عَمَّا
هم فيه من النِّعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عبادَه
عما خَصّ به الشهداء في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران: 169] ، وعلموا
حالهم بخبره ذلك، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في
قوله:"ولا تقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"،
نَهْيُ خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى (2) = تَرَك
إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم.
* * *
وأما قوله:"ولكنْ لا تَشعرُون"، فإنه يعني به: ولكنكم لا
تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم
به.
* * *
وإنما رفع قوله:"أمواتٌ" بإضمار مكنيّ عن أسماء"من يُقتل في
سبيل الله"، ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم
أموات. ولا يجوز النصب في
__________
(1) الخبر: 2324- هذا خبر لا أدري ما هو؟! ورأسه"ابن بشار
السلمي؛ أو أبو بشار" - الذي شك فيه ابن جرير: لم أهتد إلى شيء
يدل عليه. وقد ذكره السيوطي 2: 96، عن هذا الموضع من الطبري،
ثم لم يصنع شيئًا!
(2) سياق الكلام: ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده. . .
ترك أعادة ذكر. . . ".
(3/218)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155)
"الأموات"، لأن القول لا يعمل فيهم، وكذلك
قوله:"بل أحياء"، رفعٌ، بمعنى: هُمْ أحياء. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ
وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) }
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباعَ رَسوله
صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور،
ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم
فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن
أصفياءَه قَبلهم. ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: (أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ
أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [سورة البقرة: 214] ،
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول.
2325- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولنبلونكم بشيء
من الخوف والجوع"، ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن
الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم
فقال:"وبشر الصابرين"، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه
وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إنهم أحياء"، والسياق يقتضي ما أثبت. وانظر
معاني القرآن للفراء 1: 93-94، فقد استوفى ما اختصره الطبري.
(3/219)
ومعنى قوله:"وَلنبلونكم"، ولنختبرنكم. وقد
أتينا على البيان عن أن معنى"الابتلاء" الاختبار، فيما مضى
قبل. (1)
* * *
وقوله:"بشيء من الخوف"، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع -وهو
القحط- يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنه
تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، (2)
فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من
الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب
تحدُث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني
لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل
البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب.
كل ذلك خطابٌ منه لأتباع رَسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، كما:
2326- حدثني هارون بن إدريس الكوفيّ الأصم قال، حدثنا عبد
الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الملك، عن عطاء في
قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال، هم أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم. (3)
* * *
وإنما قال تعالى ذكره:"بشيء من الخوف" ولم يقل بأشياء، لاختلاف
أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا -
وكانت"مِن" تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر"شيء"، فإنّ معنى
ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص
الأموال - اكتفى بدلالة ذكر"الشيء" في أوله، من إعادته مع كل
نوع منها.
ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن، كما:-
2327- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) انظر ما سلف 2: 48، 49، ثم هذا الجزء 3: 7.
(2) في المطبوعة: "وتعذر المطالب" والصواب ما أثبت.
(3) الخبر: 2326- سبق هذا الإسناد: 1455، ولما نعرف شيخ الطبري
فيه.
(3/220)
الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولنبلونكم
بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" قال،
قد كان ذلك، وسيكونُ ما هو أشد من ذلك.
قال الله عند ذلك:"وبشر الصابرين الذين إذا أصَابتهم مُصيبه
قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عَلمهم صَلواتٌ من رَبهم
وَرَحمة وأولئك هُمُ المهتدون".
* * *
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر
الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، (1) والحافظين أنفسهم عن
التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه، والآخذين أنفسهم بأداء ما
أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، (2)
القائلين إذا أصابتهم مصيبة:"إنا لله وإنا إليه رَاجعون".
فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ -بالبشارة على ما يمتحنهم به
من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم.
* * *
وأصل"التبشير": إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه،
لم يسبقه به إلى غيره (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (156) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين
الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي، فيُقرون بعبوديتي،
ويوحِّدونني بالربوبية،
__________
(1) في المطبوعة: "بما امتحنتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "بما ابتليتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) انظر ما سلف 1: 383/2: 393.
(3/221)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ (157)
ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون
لقضائي، ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي، ويقولون -عند امتحاني
إياهم ببعض مِحَني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به
من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من
المصائب التي أنا مُمتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا
أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون = تسليمًا
لقضائي ورضًا بأحكامي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
(157) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الصابرون،
الذين وصفهم ونَعتهم -"عليهم"، يعني: لَهم،"صلوات"، يعني:
مغفرة."وصلوات الله" على عباده، غُفرانه لعباده، كالذي روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
2328-"اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى". (1)
* * *
يعني: اغفر لَهم. وقد بينا"الصلاة" وما أصلها في غير هذا
الموضع. (2)
وقوله:"ورحمة"، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن
ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.
__________
(1) الحديث: 2328- هو جزء من حديث صحيح. رواه البخاري 3: 286
(من الفتح) . ومسلم 1: 297- كلاهما من طريق شعبة، عن عمرو بن
مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى قال، "كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه
أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى".
قال الحافظ: "يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات
الشيء. . . وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر".
وهذه فائدة نفيسة، من الحافظ ابن حجر، رحمه الله.
(2) انظر ما سلف 1: 242 / ثم 2: 505 / ثم 2: 37، 213، 214.
(3/222)
ثم أخبر تعالى ذكره -مع الذي ذكر أنه
مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من
المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ،
والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله
الجزيل من الثواب.
وقد بينا معنى"الاهتداء"، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب.
(1)
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2329- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في
قوله:"الذين إذا أصابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه
رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمه وأولئك هم
المهتلون" قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى
الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير:
الصلاةُ من الله، والرحمة، وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله
مُصيبته، وأحسن عُقباه، وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه. (2)
2330- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551 / ثم 2: 211/
ثم هذا الجزء 3: 101، 140، 141.
(2) الحديث: 2329- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 330-331،
وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه علي بن أبي طلحة، وهو
ضعيف".
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 156، وزاد نسبته لابن
المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان.
وعلي بن أبي طلحة: سبق في: 1833 أنه ثقة، وأن علة هذا الإسناد
-وهو كثير الدوران في تفسير الطبري-: انقطاعه، لأن ابن أبي
طلحة لم يسمع من ابن عباس، ولم يره.
(3/223)
إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ (158)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أولئك عليهم
صلواتٌ من ربّهم ورحمة"، يقول: الصلوات والرحمة على الذين
صبروا واسترجعوا.
2331- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان العُصفُريّ،
عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه
الأمة:"الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه
راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة"، ولو أعطيها أحدٌ
لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: (يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ) [سورة يوسف: 84] . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر:"والصفا" جمع"صَفاة"، وهي الصخرة الملساء، ومنه
قول الطرمَّاح:
أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا ... يُؤَبِّسَ حَافِرٌ
أَبَدًا صَفَاتِي (2)
__________
(1) الخبر: 2331- سفيان العصفري: هو سفيان بن زياد العصفري،
وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في
التهذيب 4: 111، برقم: 198. وابن أبي حاتم 2/1/221، برقم: 966.
والكبير للبخاري 2/2/93، برقم: 2076، لكن لم يذكر
نسبته"العصفري". وهو يشتبه على كثير من العلماء بآخر، هو"سفيان
بن دينار، أبو الورقاء الأحمري". فقد ترجمه ابن أبي حاتم
2/1/220-221، برقم: 695، وثبت في بعض نسخه زيادة"العصفري" في
نسبته. والبخاري ترجم"الأحمري" 2/2/92، برقم: 2073. ولم يذكر
فيه"العصفري" أيضًا. وترجم في التهذيب 4: 109، برقم: 193- مع
شيء من التخليط في الترجمتين، يظهر بالتأمل. ومع هذا التخليط
فقد رجح الحافظ أنهما اثنان، وقال في ترجمة"سفيان بن دينار"-:
"والتحقيق فيه: أن سفيان بن دينار التمار هذا، يقال له:
العصفري، أيضًا، وأن سفيان بن زياد العصفري: آخر، بينه
الباحي". وقال في ترجمة الآخر: "والصحيح أنهما اثنان، كما قال
ابن معين وغيره". وأيا ما كان فالاثنان قتان.
(2) ديوانه: 134، وكان في المطبوعة: "يونس حافر أبدي"، وهو
خطأ، والطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله
سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول
عباس بن مرداس: إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لاَ أُؤَبِّسُهُ ...
أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ
السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالحَرْبُ
يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
(3/224)
وقد قالوا إن"الصفا" واحد، وأنه
يثنى"صَفَوان"، ويجمع"أصفاء" و"صُفِيًّا، وصِفِيًّا"،
واستشهدوا على ذلك بقول الراجز (1)
كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ
عَلَى الصُّفِيِّ (2)
وقالوا: هو نظير"عَصَا وعُصِيّ [وعِصِيّ، وأَعْصاء] ، ورَحَا
ورُحِيّ [وَرِحِيّ] وأرْحاء". (3)
* * *
وأما"المروة"، فإنها الحصاةُ الصغيرة، (4) يجمع
قليلها"مَرَوات"، وكثيرها"المرْو"، مثل"تمرة وتمَرات وتمر"،
قال الأعشى ميمون بن قيس:
__________
(1) هو الأخيل الطائي.
(2) سيأتي في التفسير 6: 142 والجمهرة 3: 135، والمخصص 10: 90،
ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2: 339، والقالي 2: 8، واللسان
(صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده:
كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ ... مِنْ طُولِ إشْرَافِي على
الطّوِيِّ
والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن
الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو
الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري: "هذا ساق كان أسود الجلدة،
استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش.
لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من
طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال
الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية
بالحجارة.
(3) الزيادة بين الأقواس لا بد منها، ليستقيم تمثيل المتمثل
بهذه الجموع، على نظيرها. وهو قوله آنفًا: صفا وأصفاء وصفى
وصفى.
(4) بيان الطبري عن معنى"المرو" ليس بجيد، والأجود ما قاله
أصحاب اللغة: المرو، حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، وتقدح
منها النار، ويتخذ أداة كالسكين يذبح بها، وهي صلبة.
(3/225)
وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا ...
فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح (1)
يعني ب"المرو": الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا المُشَرِّقِ
كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ (2)
ويقال"المشقِّر".
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصفا والمروة"، في هذا
الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه،
دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما"الألف واللام"، ليعلم
عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر
الأصفاء والمرْوِ.
* * *
وأما قوله:"منْ شَعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي
جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما
بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل
عندها. ومنه قول الكميت:
نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ
قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ (3)
__________
(1) ديوانه: 161، وفي الشطر الأول تصحيف لم أتبين صوابه،
ورواية الديوان: وَتُولِّي الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا
وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب
الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا:
دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل.
(2) ديوانه: 3، والمفضليات: 587، من قصيدة البارعة في رثاء
أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي
وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: "وإنما خص
المشرق، لكثرة مرور الناس به". ثم قال: "ورواها أبو عبيدة:
"المشقر": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر
الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد".
(3) الهاشميات: 21، واللسان (شعر) ، وغيرهما. والضمير في قوله:
"نقتلهم"، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل:
عَلاَمَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا ... بغارتنا،
بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ
وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا ... وَتَحْوِيلهَا
عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ
والجيل: الأمة، أو الصنف من الناس. وفي المطبوعة واللسان:
"تراهم" بالتاء، وهو خطأ. والشعائر هنا جمع شعيرة: وهي البدنة
المهداة إلى البيت، وسميت بذلك لأنه يؤثر فيها بالعلامات.
وإشعار البدن: إدماؤها بطعن أو رمي أو حديدة حتى تدمي.
(3/226)
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:-
2332- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"
قال، من الخبر الذي أخبركم عنه. (1)
2333- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع"شعيرة"، من
إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف
بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك.
وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره
بقوله:"إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله" عبادَه المؤمنين أن
السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم، وأمرَ بها خليله
إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج.
وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر. لأن
الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباع
ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [سورة
النحل: 123] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده.
فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من
شعائر الله ومن مَناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله
__________
(1) في المطبوعة: "من الخير" بالياء المثناة التحتية، وليس
يستقيم، والصواب ما أثبت، وكلام الطبري في تعليقه على قول
مجاهد، دال على الصواب من ذلك أنها من الإشعار، وهو الإخبار.
(3/227)
عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده، وقد
أُمرَ نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه، فعليهم العمل
بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"فمن حج البيت"، فمن أتاه
عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء
فهو"حَاجٌّ إليه"، ومنه قول الشاعر: (1)
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ
الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (2)
__________
(1) هو المخبل السعدي، وهو مخضرم.
(2) المعاني الكبير: 478، والاشتقاق لابن دريد: 77، 156،
وتهذيب الألفاظ: 563، وإصلاح المنطق: 411، والبيان والتبيين 3:
97، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: 313، وللبطليوسي: 405، واللسان
(سبب) (حجج) ، (قهر) (زبرق) ، والجمرة لابن دريد: 1: 31، 49/3:
434، وسمط اللآلي: 191، والخزانة 3: 427. وفي المطبوعة: "بيت
الزبرقان" والصواب ما أثبت.
وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة
والجاحظ وغيرهم إلى أن"السب" هاهنا العمامة، وأن سادات العرب
كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو
الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة
وقطرب إلى أنه"السب" هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن
قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا،
وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان،
حتى نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هو
عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده" (النقائض: 1048) قال أبو
عبيدة في النقائض: "كان المخبل القريعي أهجى العرب. . . ثم كان
بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل.
هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا
في الإسلام لهم نظير". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن
بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء:
96-100) ، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب
إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء
وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له: يَا زِبْرِقَانُ
أخَابَنِي خَلَفٍ ... مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ
مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ ... كالإسْكَتَينِ عَلاَهُمَا
البَظْرُ
وكل شعره في الزبرقان وأخته مقذع. وهذا البيت الذي استشهد به
الطبري من قذعه. وقبل البيت: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ
عَمْرَةَ أنَّنِي ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ
لأَكْبَرَا
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ
الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ ... فأَمْسَى حُصَيْنٌ
قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا
وفي سيرة ابن هشام 2: 275-276 قول عتبة بن ربيعة في أبي جهل:
"سيعلم مصفراسته من انتفخ سحره، أنا أم هو! " فرماه بمثل ذلك
من القبيح، الذي قاله المخبل السعدي. ومن زعم أن المخبل يقول
إنه: "كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة
بحيث يحج بنو عوف عصابته"، فقد أخطأ، وقد نقض عليه البيت
الثالث ما زعم، فإنه يصفه بأنه تمنى السيادة، ولكن ذلك لم يزده
إلا ذلا وقهرًا، فكيف يتأتى أن يقول ما زعم هذا أنه أراده؟ بل
أراد المخبل أن يسخر به ويتهكم، كما فعل في سائر هجائه له.
وقوله: "وأشهد" منصوب، عطفًا على قوله: "لأكبرا".
(3/228)
يعني بقوله:"يحجون"، يكثرون التردد إليه
لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج"حاجّ"، لأنه يَأتي البيت
قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم
ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. (1)
فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له:"حاجٌّ".
* * *
وأما"المعتمر"، فإنما قيل له:"معتمر"، لأنه إذا طاف به انصرف
عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:"أو اعتمر"،
أو اعتمرَ البيت، ويعني ب"الاعتمار" الزيارة. فكل قاصد لشيء
فهو له"معتمر"، ومنه قول العجاج:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... غْزًى
بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ (2)
يعني بقوله:"حين اعتمر"، حين قصده وأمَّه.
* * *
__________
(1) عرف يعرف تعريفًا: وقف بعرفات. و"طواف الصدر" من قولهم:
صدر الناس من حجهم، أي رجعوا بعد أن يقضوا نسكهم.
(2) ديوانه: 19 من قصيدة مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر
التميمي، مضى منها في 1: 190، 2: 157. وقوله"مغزى"، أي غزوًا.
وضبر: جمع قوائمه ليثب ثم وثب. وهو يصف بعده جيش عمر بن عبيد
الله، وكان فتح الفتوح الكثيرة، وعظم أمره في قتال الخوارج.
(3/229)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلا جناح عليه أن
يطَّوَّف بهما"، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه
بهما.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله:"إنّ
الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر،
فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف، ثم
يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟
وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟
والأمر بالطواف بهما، والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز
اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. (1) وإنما معنى ذلك عند
أقوام: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة
القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل
الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف
نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد
من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ
ذلك، (2) لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين
كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى
تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!
فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من
شعائر الله"،
__________
(1) في المطبوعة: "إليه ذهب"، والصواب ما أثبت، لأن الطبري ساق
قول القائل، على أنه خطاب له إذ قال للطبري: "وقد قلت لنا".
فالصواب أن يصرف الرد عليه خطابًا له كما خاطبه.
(2) في المطبوعة: "أحد ذلك"، ولا معنى له، وفيه تحريف لا شك
فيه. فإنهم لم يذكروا متعددًا من الآثام حتى يجعلوا له"أحدًا".
وإنما أرادوا: أكبر الإثم والشرك. و"ذلك"، إشارة إلى الشرك.
ولو قرئت أيضًا: "أخوف ذلك" لكاتب صوابًا، لأنه سيذكر أنهم
كانوا يتخوفون الطواف بهما. ويعني: أخوف الشرك.
(3/230)
يعني: إن الطوافَ بهما، فترك ذكر"الطواف
بهما"، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به
أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه
عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل
من الذكر،"فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف
بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين
اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا،
وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري،
فلا جُناح عليكم في الطواف بهما.
* * *
و"الجناح"، الإثم، كما:-
2334- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما"، يقول: ليس عليه إثم،
ولكن له أجر.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة
والتابعين.
ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
2335- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في
الجاهلية على الصفا يسمى"إسافًا"، (1) ووثنًا على المرْوة
يسمى"نائلة"، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا
الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ
الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس
الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من
الشعائر،"فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف
بهما".
2336- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى"إسافًا"، (2) ووثَن
بالمروة يدعى"نائلة"،
__________
(1) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من
الصرف.
(2) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من
الصرف.
(3/231)
ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد
فيه، قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنِّت
المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا. (1)
2337- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن
أبي هند، عن الشعبي، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد،
وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير.
2338- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم
الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا
والمرْوة حَتى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف
بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية:"إنّ
الصفا والمروة من شعائر الله". (2)
2339- حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل
قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة،
فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا
عنهما، فنزلت:"إن الصفا والمرْوَة من شَعائر الله". (3)
__________
(1) الأثر: 2336- هكذا جاء هذا الأثر في الدر المنثور 1: 160،
وصواب عبارته فيما أرجح، أن يحذف"مؤنثًا"، أو أن يقال: "من أجل
أن الوثن الذي كان عليه كان مذكرًا، وأنث المروة من أجل أن
الوثن الذي كان عليه كان مؤنثًا".
(2) الحديث: 2338- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي. ابن أبي
زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي، وهو
حافظ ثقة، يقرن بابن المبارك. يقولون: إنه أول من صنف الكتب
بالكوفة، مات سنة 183. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/273-274.
والصغير، ص: 206، وابن سعد: 6: 274، وابن أبي حاتم
4/2/144-145، وتذكرة الحفاظ 1: 226-247.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، مضى في: 184، وهو من صغار
التابعين. وعده سفيان الثوري أحفظ ثلاثة في البصرة. مترجم في
التهذيب، وابن سعد 7/2/20-65، وابن أبي حاتم 3/1/343-344.
والحديث رواه البخاري 3: 402 (فتح) ، من طريق عبد الله، وهو
ابن المبارك، عن عاصم الأحول، بنحوه. ورواه أيضًا مسلم،
والترمذي، والنسائي. كما في القسطلاني 3: 153-154.
(3) الحديث: 2339- سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله.
ورواه البخاري مختصرًا 8: 132 (فتح) ، عن محمد بن يوسف، عن
سفيان. ورواه الحاكم 2: 270، من طريق حسين بن حفص، عن سفيان.
وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه
الذهبي. وأخطأ الحاكم في استدراكه، فقد رواه البخاري. كما
ذكرنا قبل.
وسيأتي بعض معناه مختصرًا: 2346، 2347، من رواية جرير، عن
عاصم، عن أنس.
(3/232)
2340- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن
عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو
معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن
عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر
فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس
فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه
وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما
حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا
والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه
أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (1) .
__________
(1) الحديث: 2340- عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن
سعيد العنبري: ثقة، من شيوخ مسلم والترمذي والنسائي وأبي حاتم
وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/76.
حسين المعلم: هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي،
المؤدب، كما لقب بذلك في التهذيب، وهو"المعلم" أيضًا، كما لقبه
بذلك البخاري وابن أبي حاتم، وهو ثقة من شيوخ أحمد ويحيى
والأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/386-387، وابن سعد
7/2/79، وابن أبي حاتم 1/2/64. وتاريخ بغداد 8: 88-90، وكان
معروفًا برواية"تفسير شيبان النحوي". فروى ابن أبي حاتم عن
أبيه قال، "أتيته مرارًا بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن
يعيد على بعض المجلس، فقال: بكر، بكر. ولم أسمع منه شيئًا".
ومما يوقع في الوهم، الاشتباه بين"عبد الوارث بن عبد الصمد".
وشيخه"حسين المعلم" هذا - وبين"عبد الوارث بن سعيد"،
وشيخه"حسين المعلم" أيضًا.
ف"عبد الوارث" -شيخ الطبري- هو الذي ترجمنا له هنا. وشيخه"حسين
بن محمد المروذي". و"عبد الوارث بن سعيد" - هو جد"عبد الوارث"
هذا. و"حسين المعلم" هو"حسين بن ذكوان المعلم"، وهو قديم، يروي
عن التابعين.
شيبان أبو معاوية: "هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛
وهو إمام حجة حافظ، حدث عند أبو حنيفة، وهو من أقرانه. وروى
عنه الأئمة: الطيالسي، وابن مهدي، وغيرهما. مترجم في التهذيب.
والكبير 2/2/255، وابن سعد 6: 262، و 7/2/67-68 وابن أبي حاتم
1/1/355-356، وتاريخ بغداد 9: 271-274، وتذكرة الحفاظ 1:
202-203.
ووقع في المطبوعة غلط في اسمه واسم الراوي عنه: فذكر"أبو
الحسين المعلم"! وهو تخليط، وذكر"سنان أبو معاوية"! وهو فوق
ذلك تصحيف.
جابر الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة: وهو جابر بن يزيد
بن الحارث، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. مترجم في التهذيب،
والكبير 1/2/210، والضعفاء للبخاري، ص: 7. والنسائي، ص: 7،
وابن أبي حاتم 1/1/497-498، والمجروحين لابن حبان، رقم: 175، ص
140-141. والميزان 1: 176-178.
عمرو بن حبشي، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر
الشين المعجمة: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم
3/1/226.
وهذا الحديث -الضعيف الإسناد- لم أجده إلا في هذا الموضع.
وذكره السيوطي 1: 159، ولم ينسبه إلا إلى الطبري.
(3/233)
2341- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس قوله:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"، وذلك أنّ ناسًا
كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما
من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف
بينهما.
2342- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو
اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما" قال، زعم أبو مالك، عن
ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ
بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام
وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا
والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله:"فلا
جُناح عليه أن يطوَّف بهما". (1)
__________
(1) الحديث: 2342- هذا الإسناد، هو من أسانيد تفسير السدي
الثلاثة، وقد فصلنا القول فيها، في: 168.
والحديث رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، ص:
100-101، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عامر بن الفرات، عن
أسباط، بهذا الإسناد، نحوه.
وفي إسناد ابن أبي داود فائدة جديدة: أن هناك راويًا لتفسير
السدي، غير"عمرو بن طلحة القناد" راويه عن أسباط بن نصر. فها
هو ذا عامر بن الفرات يروي شيئًا منه عن أسباط أيضًا. و"عامر
بن الفرات": لم أجد له ترجمة أصلا. ومن عجب أن يذكره ابن أبي
حاتم، في ترجمة"الحسين بن علي بن مهران" 1/2/56 - شيخًا له، ثم
لا يترجم له في بابه!
ورواه أيضًا الحاكم 2: 271، من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن
أسباط. بهذا الإسناد نحوه. وزاد في آخره: "يقول: عليه إثم ولكن
له أجر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم
يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ولنا على الحاكم والذهبي في هذا استدراك، هو: أن أبا مَالك
-التابعي راويه عن ابن عباس - وهو"غزوان الغفاري": لم يرو له
مسلم في صحيحه أصلا. فلا يكون الحديث على شرط مسلم، في اصطلاح
الحاكم!
وفي رواية الحاكم -هذه- فائدة أيضًا: أنا ظننا عند الكلام على
أسانيد تفسير السدي الثلاثة، أن الحاكم اختار منها إسنادين
فقط، ولكن أظهرنا هذا الإسناد على أنه صحح الثلاثة الأسانيد.
والحديث ذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته لابن أبي حاتم أيضًا.
(3/234)
2343- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إنّ الصفا
والمروة من شعائر الله" قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين
هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ
الصفا والمروة من شَعائر الله"
2344- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
2345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما" قال، كان أهل
الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما
أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين،
فقال الله تعالى:"إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج
البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، وقرأ:
(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ) [سورة الحج: 32] ، وسَن رسول الله صلى الله عليه
وسلم الطواف بهما.
2346- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس:
الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي
نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر
الله".
2347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال،
سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في
الجاهلية،
(3/235)
فلما كان الإسلام تَركناهما. (1)
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم
كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام
تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
2348- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة،
قوله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله" الآية، فكان حَيٌّ
من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا
والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ
الطواف بينهما.
2349- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين
الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
2350- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير
قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله:"إنّ الصفا والمروة
من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن
يطَّوَّف بهما"؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا
يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي،
إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا
يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن
يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون
بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين
__________
(1) الحديثنان: 2346-2347- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، وهو
ثقة حجة حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/214، وابن سعد
7/2/110، وابن أبي حاتم 1/1/505-507. وتاريخ بغداد 7: 253-261،
وتذكرة الحفاظ 1: 250.
والحديثان مضى معناهما، من رواية عاصم عن أنس: 2338، 2339.
(3/236)
الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج
أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره:"إنّ
الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا
جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما". قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول
الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يَترك
الطواف بَينهما. (1)
2351- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجالٌ من
الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية -و"مناةُ" صنمٌ بين
مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين
الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حَرَج أن نَطوف
بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر
الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما".
قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا
والمروة! قال الله:"فلا جُناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا
ترى أنه يقول:"إن الصفا والمروة من شَعائر الله"! قال الزهري:
فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا
العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون:
لما أنزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنزل الطواف بين الصفا
والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في
الجاهلية بين الصفا والمروة، وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت
ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا
نَطوفَ بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من
شعائر الله" الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية
نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف. (2)
__________
(1) الحديث: 2350- عقيل- بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وهو
ثقة ثبت حجة، قال ابن معين: "أثبت من روى عن الزهري: مالك، ثم
معمر، ثم عقيل". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/94، وابن أبي
حاتم 3/2/43.
عروة بن الزبير بن العوام: تابعي ثقة فقيه عالم ثبت مأمون، قال
أبو الزناد: "كان فقهاء أهل المدينة أربعة: سعيد بن المسيب،
وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". وأمه
أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وعائشة أم المؤمنين
خالته، رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/31-32،
وابن سعد 2/2/134-135، و 5: 132-135، وابن أبي حاتم
3/1/395-396، وتذكرة الحفاظ 1: 58-59، وتاريخ الإسلام 3:
31-34.
والحديث -من هذا الوجه- رواه مسلم 1: 362، من طريق عقيل، عن
ابن شهاب، وهو الزهري ولم يذكر لفظه كله، إحالة على روايات
قبله.
ورواه البخاري 3: 397-401، مطولا، من طريق شعيب، عن الزهري،
باللفظ الذي هنا، إلا خلافًا في أحرف يسيرة: "فلما سألوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا. . . أنزل الله. . . "
ففي البخاري: "فلما أسلموا سألوا. . . قالوا. . . فأنزل الله.
. . ". ولكن زاد البخاري في آخره قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي
بكر بن عبد الرحمن - الذي سيأتي في الرواية التالية لهذه، بنحو
معناه.
وثبت من أوجه كثيرة، عن الزهري، عن عروة، مطولا ومختصرًا:
فرواه مالك في الموطأ، ص: 373، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
ورواه البخاري 8: 132. وابن أبي داود في المصاحف، ص 100 -ولم
يذكر لفظه- كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد في المسند 6: 144، 227 (حلبي) ، من طريق إبراهيم بن
سعد، عن الزهري. وكذلك رواه ابن أبي داود، ص: 100 -ولم يذكر
لفظه- من طريق إبراهيم بن سعد.
ورواه مسلم مطولا 1: 361-362، من طريق سفيان بن عيينة، عن
الزهري. وكذلك رواه البخاري 8: 472، من طريق سفيان. ولكنه
اختصره جدًا.
ورواه مسلم وابن أبي داود - قبل ذلك وبعده: من أوجه كثيرة.
وذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته إلى أبي داود، والنسائي،
وابن ماجه، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي حاتم، والبيهقي
في السنن.
وانظر الحديث التالي لهذا.
قوله"يهلون لمناة": أي يحجون. ومناة، بفتح الميم والنون
الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة
نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية: صفة لها
إسلامية. قاله الحافظ في الفتح.
"المشلل": بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين، الأولى مفتوحة
مثقلة، هي الثنية المشرفة على قديد، وقديد، بضم القاف ودالين
مهملتين، مصغرًا: قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه.
عن الفتح.
(2) الحديث: 2351- هو تكرار للحديث السابق بمعناه، من وجه آخر
صحيح، عن الزهري. وفيه زيادة قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر
بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، إلخ. وهذه الزيادة ذكرها
البخاري، في روايته من طريق شعيب عن الزهري، كما قلنا آنفًا.
ورواية معمر عن الزهري - هذه: ذكر البخاري بعضها تعليقًا 8:
472، فقال: "قال معمر عن الزهري. . . ". وقال الحافظ: "وصله
الطبري، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، مطولا". فهذه إشارة
إلى الرواية التي هنا، وأشار إليها في الفتح 3: 399، وذكر أنه
وصلها أحمد وغيره.
وقد رواها أيضًا ابن أبي داود في المصاحف، ص: 100، عن"خشيش بن
أصرم، والحسن بن أبي الربيع، أن عبد الرزاق أخبرهم عن معمر. .
. ". ولم يسق لفظ الحديث، إحالة على ما قبله. و"خشيش": بضم
الخاء وفتح الشين وآخره شين، معجمات كلها. و"الحسن بن أبي
الربيع": هو"الحسن بن يحيى" شيخ الطبري، كنية أبيه"أبو
الربيع". وخلط المستشرق طابع كتاب المصاحف: فكتب"حشيش" بالحاء
المهملة! وكتب"الحسن بن أبي الربيع بن عبد الرزاق"!!
و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" المخزومي القرشي
المدني: من كبار التابعين الأئمة، ومن سادات قريش. وهو أحد
الفقهاء السبعة. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري، رقم: 51،
وابن سعد 2/2/133، و 5: 153-154، وتذكرة الحفاظ 1: 59-60،
وتاريخ الإسلام 4: 72-73.
وقول أبي بكر بن عبد الرحمن"فأسمع أن هذه الآية نزلت. . . " -
إلخ: هو في رواية البخاري أيضًا 3: 401، وقال الحافظ: "كذا في
معظم الروايات، بإثبات الهمزة وضم العين، بصيغة المضارعة
للمتكلم. وضبطه الدمياطي في نسخته [يعني من صحيح البخاري]
بالوصل وسكون العين. بصيغة الأمر، والأول أصوب، فقد وقع في
رواية سفيان المذكورة: فأراها نزلت. وهو بضم الهمزة، أي
أظنها".
وانظر كثيرًا من طرق هذا الحديث أيضًا، في السنن الكبرى
للبيهقي 5: 96-97.
(3/237)
2352- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل
تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا
والمرْوَة من شعائر الله". (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ
الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر
الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.
فأما قوله:"فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما"، فجائزٌ أن يكون
قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل
الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من
كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.
__________
(1) الأثر: 2352- كان في المطبوعة: "حدثنا الحسن بن يحيى، قال
أخبرنا معمر" بإسقاط"أخبرنا عبد الرزاق قال"، وهو إسناد دائر
في التفسير، وهو مكرر رقم: 2349 بنصه، وأخشى أن يكون زيادة
ناسخ سها.
(3/239)
وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول
الله تعالى ذكره:"فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، الآية،
دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن
الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما
رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في
وقت، ثم رخص فيه بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما".
* * *
وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم
أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه
غيرُ قَضَائه بعينه، كما لا يُجزى تارك الطواف -الذي هو طَواف
الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله
بأحدهما بالبيت، والآخرُ بينَ الصفا والمروة.
* * *
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية، ورأوا
أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر،
وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه
فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه.
* * *
ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان مُحسنًا،
وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء. (1)
* * *
ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه
فدية، ومن تركه فعليه العَوْد. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "لم يلزمه بتركه شيء والله تعالى أعلم"، وهذه
لا شك زيادة من ناسخ.
(2) في المطبوعة: "فعليه العودة"، والأجود ما أثبت، وهو أشبه
بعبارة الطبري وأقرانه من فقهاء عصره. وسيأتي كذلك بعد مرات في
عبارته الآتية، وكأن هذه من تصرف ناسخ أو طابع.
(3/240)
2353- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم
يَسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال:"إن الصفا والمروة من
شعائر الله".
2353م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس:
مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع
فَليسْع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي. (1)
* * *
وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ
حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه
غير ذلك. (2)
2354- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه.
قال الثوري بما:-
2355- حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه
فحسن، وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ.
* * *
ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه، ومنْ
كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)
2356- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن
جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة
العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن
عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن
مسعود:"فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا
يَطَّوَّفَ بهما". فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول:"فمن تَطوَّع
خَيرًا"، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟
2357- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد
الملك،
__________
(1) انظر لفظ مالك في الموطأ: 374-375.
(2) انظر لفظ الشافعي في الأم 2: 178.
(3/241)
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"إن
الصفا والمروَة منْ شعائر الله" الآية"فلا جُناح عليه أنْ لا
يَطَّوَّف بهما".
2358- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع.
2359- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال،
أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع.
2360- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
2361- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ
حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما" قال،
فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما.
2362- حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى
بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. (1)
__________
(1) الخبر: 2362- عيسى بن قيس، الراوي عن عطاء: لم أستطع
اليقين به. ففي ابن أبي حاتم 3/1/284 ترجمتان: "عيسى بن قيس"،
روى عن سعيد بن المسيب، وروى عنه الليث. و"عيسى بن قيس
السلمي"، روى عنه هشيم. ولم يذكر عنهما شيئا آخر. إلا أن الأول
مجهول. فمن المحتمل أن يكون الراوي هنا أحدهما. فإن عطاء بن
أبي رباح مات سنة 114، فالراوي عن سعيد بن المسيب -المتوفي سنة
73- محتمل جدًا أن يروي عن عطاء. والليث وهشيم متقاربا الطبقة،
مات الليث سنة 175، وهشيم سنة 183. وأما"أحمد" الراوي هنا
عن"عيسى بن قيس" - فلم أستطع معرفته.
ثم ترجح عندي أن"حجاجًا" - في هذا الإسناد: هو"حجاج بن
الشاعر". وهو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي البغدادي، عرف بابن
الشاعر، لأن أباه يوسف كان شاعرًا صحب أبا نواس، وحجاج هذا:
ثقة، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، قال ابن أبي حاتم: "كان
من الحفاظ، ممن يحسن الحديث ويحفظه. مترجم في التهذيب، وابن
أبي جاتم 1/2/168، وتاريخ بغداد 8: 240-241، وتذكرة الحفاظ 2:
117-118.
وأن شيخه"أحمد": هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة متقن
حافظ، من شيوخ البخاري ومسلم، سماه الإمام أحمد"شيخ الإسلام".
وقد مضت الإشارة إليه: 2144.
فإن يكن الإسناد هكذا، على ما رجحنا، يكن"عيسى بن قيس" محرفًا،
صوابه"عمر بن قيس"، وهو المكي المعروف بـ "سندل" - بفتح السين
والدال المهملتين بينهما نون ساكنة. وهو ضعيف جدًا، منكر
الحديث كما قال البخاري. وقال ابن عدي: "هو ضعيف بإجماع، لم
يشك أحد فيه، وقد كذبه مالك". وهو مترجم في التهذيب. والصغير
للبخاري، ص: 190، والضعفاء له، ص: 25، والنسائي ص: 24، وابن
سعد 5: 358، وابن أبي حاتم 3/1/129-130.
وأنا أرجح أن يكون هذا الإسناد على هذا النحو، ولكني لا أستطيع
الجزم بذلك، ولا تغيير اسم"عيسى بن قيس" - حتى أستبين بدليل
آخر.
(3/242)
2364- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟
قال: تطوعٌ.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن
على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا
يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ
بهما.
* * *
ذكر الرواية عنه بذلك:
2365- حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال،
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما دنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال:"إنّ الصفا والمروةَ
من شَعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا
فرَقِيَ عليه. (1) .
2366- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن
أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"،
فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها،
وطاف وسَعى. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2365- هو قطعة من حديث جابر - الطويل، في صفة حجة
الوداع. وقد مضت قطعة منه، بهذا الإسناد: 2003. وأخرى من رواية
يحيى القطان، عن جعفر الصادق: 1989.
(2) الحديث: 2366- محمود بن ميمون أبو الحسن: لا أدري من هو،
ولا ما شأنه. لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
ابن عطاء، عن أبيه: هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة،
بينا ذلك في المسند: 1809. مترجم في التهذيب والكبير 4/2/298،
وابن أبي حاتم 4/2/211.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من المراجع. وإن كان لابن عباس
أحاديث أخر في شأن الصفا والمروة والسعي بينهما. من ذلك الحديث
الماضي: 2342. وحديث في المستدرك 2: 270-271، وصححه الحاكم
والذهبي.
(3/243)
فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة -
أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته = وكان بيانه صلى
الله عليه وسلم لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه
في تنزيله، وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا
العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول
الأحكام" - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، (1) ثم كان مُختلفًا
في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب = كان بينًا وجُوب
فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، (2) لما وصفنا.
وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان
مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك
مما فَعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه أمته في حجهم
وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته
في حجهم وعمرتهم، إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع
الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ،
ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه = كان نظيرًا له الطوافُ
بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ، ولا يجزي
تاركَه إلا العودُ لقضائه، إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما
بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.
__________
(1) كان في المطبوعة: "لما قد بينا"، وهو خطأ يختل به الكلام.
وقوله: "وكان بيانه. . . " إلى قوله: "إذا اختلفت الأمة في
وجوبه" جملة فاصلة معطوفة على التي قبلها وسياقها وسياق
معناها: وكان بيانه لأمته جمل ما نص الله في كتابه. . -مما لا
يدرك علمه إلا ببيانه- لازمًا العمل به أمته. . . إذا اختلفت
الأمة في وجوبه.
(2) وهذه الجملة من تمام قوله ومن سياقها: "وإذا كان صحيحًا
بإجماع الأمة. . . كان بينًا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر".
(3/244)
ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ
فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما.
فإن اعتل بقراءة من قرأ:"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما".
قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد
في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ، أو قرأ
قارئ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج: 29]
،"فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به". (1) فإن جازت إحدى
الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، (2) كانت الأخرى نظيرَتها،
وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا، والتحكم
لا يعجِزُ عنه أحدٌ.
وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة.
2367- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة
زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت
قول الله عز وجل:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ
حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما"، فما
نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا!
لو كانت كما تقول، كانت:"فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف
بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة
-وكانت مَناة حَذوَ قَديد-، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين
الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر
الله فمن حَجّ
__________
(1) كان في المطبوعة: "فلا جناح عليه"، وهو خطأ بين. ويعني: أن
يجعل القارئ قوله: "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا بهما" من تمام
آية سورة الحج السالفة، فيزيد في القرآن ما ليس فيه.
(2) في المطبوعة: "فإن جاءت إحدى الزيادتين" تصحيف، والصواب ما
أثبت.
(3/245)
البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف
بهما".
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ:"فلا جُناحَ عَليه أنْ
لا يَطَّوَّف بهما"، أن تكون"لا" التي مع"أن"، صلةً في الكلام،
(1) إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها، وهو قوله:
(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره:
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة
الأعراف: 12] ، بمعنى ما منعك أن تسجدَ، وكما قال الشاعر: (2)
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ...
والطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (3)
ولو كان رسمُ المُصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتجّ حجة، مع احتمال
الكلام ما وصفنا. لما بيَّنا أن ذلك مما عَلم رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، على ما ذكرنا، ولدلالة
القياس على صحته، فكيف وهو خلافُ رُسوم مصاحف المسلمين، ومما
لو قَرَأه اليوم قارئ كان مستحقًّا العقوبةَ لزيادته في كتاب
الله عز وجل ما ليس منه؟
* * *
__________
(1) قوله: "صلة"، أي زيادة ملغاة، وانظر ما سلف 1: 190، 405
وفهرس المصطلحات، وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 95، فقد
ذكر هذا الوجه.
(2) هو جرير.
(3) سلف تخريجه في 1: 191-192.
(3/246)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قُراء
أهل المدينة والبصرة:"ومن تَطوَّع خَيرًا" على لفظ المضيّ
ب"التاء" وفتح"العين". وقرأته عامة قراء الكوفيين:"وَمَنْ
يَطَّوَّعْ خَيرًا" ب"الياء" وجَزم"العين" وتشديد"الطاء"،
بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"ومَنْ
يَتطوَّعْ"، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا،
اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله -سوى عَاصم، فإنه
وافق المدنيين- فشددوا"الطاءَ" طلبًا لإدغام"التاء" في"الطاء".
وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين -
لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ
القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.
* * *
(1) [والصواب عندنا في ذلك، أن] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج
والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكرٌ له على
تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به، عليمٌ
بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به.
وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله:"فمن تطوَّع خيرًا" هو
ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي
والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا
بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل.
وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك،
التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، استظهارًا من قوله بعد: "وإنما قلنا
إن الصواب في معنى قوله. . . " والظاهر أنها مما سقط من ناسخ.
(3/247)
وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع
لا واجب، فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع
بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر =لأن للحاج والمعتمِر على قولهم
الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على
تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإنّ اللهَ شَاكرٌ
تطوُّعَه ذلك= عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:-
2368- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله
شاكرٌ عَليمٌ" قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر.
* ذكر من قال ذلك:
2369- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيرًا
فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ، والعمرةُ
تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس.
* * *
(3/248)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
(159)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (1) "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا
منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى،
لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه
وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
و"البينات" التي أنزلها الله: (2) ما بيّن من أمر نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر
الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.
* * *
ويعني تعالى ذكره ب"الهدى" ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي
أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون
الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله
عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها،
فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه
لهم، (3) في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم،"أولئك يَلعنهم
الله ويَلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا" الآية. كما:-
2370- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: يقول: "إن الذين يكتمون. . . "، وهو خطأ
ناسخ، صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "من البينات"، كأنه متصل بالكلام قبله، وهو
لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت.
(3) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي
لهم"، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت، من
جعل"يعلمون""يعلنونه"، وزيادة"بعد"، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه".
(3/249)
حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت
قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سألَ
مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد
الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من
أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد:
عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم
عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"إنّ الذين يَكتمون مَا
أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب
أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون". (1)
2371- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا
أنزلنا من البينات والهدى" قال، هم أهل الكتاب.
2372- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2373- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه عن الربيع في قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى" قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم
يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا.
__________
(1) الأثر رقم: 2370- في سيرة ابن هشام 2: 200 كما في رواية
ابن حميد.
(3/250)
2374- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من
البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، أولئكَ
أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا صلى
الله عليه وسلم، وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة
والإنجيل.
2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من
بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلا من اليهود
كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (1) قال
له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد:"البينات".
(2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}
[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من بعد ما بيناه
للناس"] ، (3) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم،
وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله:"للناس في الكتاب"، ويعني بذلك:
التوراة والإنجيل.
* * *
وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها
كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.
وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال
__________
(1) في سيرة ابن هشام، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط
باللفظ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة، وقال: "بفتح المهملة
والنون"، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة.
(2) قوله: "قال: محمد البينات" من تفسير السدي، ليس من الخطاب
بين ثعلبة بن غنمة واليهودي. ويعني أن البينات التي يكتمونها
هي محمد صلى الله عليه وسلم، أي صفته ونعته في كتابهم.
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وقد استظهرتها من نهج أبي
جعفر في جميع تفسيره. وهذا سقط من الناسخ بلا ريب.
(3/251)
2375- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه،
ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (1)
* * *
وكان أبو هريرة يقول ما:-
2376- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان
قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من
كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا"إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من
البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك
يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون"، (2)
2377- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو
زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن
المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما
حدَّثت شيئًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى آخر الآية، والآية الأخرى: (وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية [سورة آل عمران:
178] . (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2375- هذا حديث صحيح. ذكره الطبري هنا معلقًا دون
إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 7561، من حديث أبي هريرة.
وخرجناه في شرح المسند، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا، رقم: 95.
(2) الحديث: 2376- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: ثقة، من
شيوخ أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/106،
وابن أبي حاتم 4/1/471.
حاتم بن وردان السعدي: ثقة، روى له الشيخان. مترجم في التهذيب،
والكبير 2/1/72، وابن أبي حاتم 1/2/260.
أيوب السختياني: مضى في: 2039. ولكن روايته هنا عن أبي هريرة
منقطعة، فإنه ولد سنة 66، وأبو هريرة مات سنة 59 أو نحوها.
ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة، بروايات أخر متصلة، كما
سنذكر في الحديث بعده.
(3) الحديث: 2377- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: الإمام
الحافظ المصري، فقيه عصره، قال ابن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء
الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه". مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/300-301، وتذكرة الحفاظ 2:
115-116.
أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، مؤذن الفسطاط: ثقة، قال أبو
حاتم: "محله الصدق". ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/27، وقال: "روى
عنه عبد الرحمن، ومحمد، وسعد، بنو عبد الله بن عبد الحكم".
وترجم أيضًا في لسان الميزان 6: 235، ونقل عن ابن يونس، أنه
مات في ربيع الأول سنة 211"وكانت القضاة تقبله"، وروى عنه عبد
الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. في فتوح مصر مرارًا، منها في
ص: 182 س 3-4: "حدثنا وهب الله بن راشد، أخبرنا يونس بن يزيد،
عن ابن شهاب. . . ". وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر
للكندي، ص 33، عن علي بن قديد، عن عبد الرحمن: "حدثنا أبو زرعة
وهب الله بن راشد". وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 1: 182،
وروى: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن
سليمان الجيزى، قالا: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، إلخ".
ورواية الربيع الجيزى عنه، ثابتة في كتاب الولاة، ص 313،
أيضًا.
وهذا الاسم"وهب الله": من نادر الأسماء، لم أره -فيما رأيت-
إلا لهذا الشيخ، ولم يذكره أصحاب المشتبه، بل لم يذكره الزبيدي
في شرح القاموس، على سعة اطلاعه. واشتبه أمره على ناسخي الطبري
أو طابعيه، فثبت في المطبوعة هكذا: "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن
راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين!
يونس: هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، عرف بالراوية عن الزهري
وملازمته. قال أحمد بن صالح: "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على
يونس"، وقال: "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار
إلى المدينة زامله يونس". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/406،
وابن أبي حاتم 4/2/247-249، وابن سعد 7/2/206.
وهذا الحديث جزء من حديث مطول، رواه مسلم 2: 261-262، من طريق
ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم:
"قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال. . . ".
ورواه عبد الرزاق في تفسيره، ص 14-15، عن معمر، عن الزهري، عن
الأعرج، عن أبي هريرة، بنحوه مطولا. ورواه أحمد في المسند:
7691، عن عبد الرزاق.
ورواه البخاري 5: 21 (فتح) ، بنحوه، من رواية إبراهيم بن سعد،
عن الزهري، عن الأعرج. ورواه البخاري أيضًا 1: 190-191 (فتح)
من رواية مالك، عن الزهري، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد
2/2/118، وأحمد في المسند: 7274- كلاهما من طريق مالك.
وروى الحاكم في المستدرك 2: 271، نحوه مختصرًا، من طريق أبي
أسامة، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة،
وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
(3/252)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك يَلعنهم الله"،
هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه
وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه
(3/253)
الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم-
يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.
* * *
و"اللعنة""الفَعْلة"، من"لعنه الله" بمعنى أقصاه وأبعده
وأسْحَقه. وأصل"اللعن": الطرْد، (1) كما قال الشماخ بن ضرار،
وذكر ماءً ورَد عليه:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ
الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ (2)
يعني: مقامَ الذئب الطريد. و"اللعين" من نعت"الذئب"، وإنما
أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (3)
* * *
فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسألُ
ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق
الله مَا لَعنوا أن يقولوا:"اللهم العنه" إذْ كان معنى"اللعن"
هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم
أن يَلعَنهم، وقولهم:"لعنه الله" أو"عليه لعنة الله"، لأن:-
2378- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا
حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال:
إذا أسنَتَتِ السَّنة، (4) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة
بني آدم، لعنَ الله عُصَاة بني آدم!
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب"اللاعنين".
فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 328.
(2) سلف تخريجه وشرحه في 2: 328. وفي التعليق هناك خطأ
صوابه"مجاز القرآن: 46".
(3) كان في المطبوعة: "الطريد واللعين"، والصواب طرح الواو.
(4) أسنتت الأرض والسنة: أجدبت، وعام مسنت مجدب. والسنة: القحط
والجدب. وكان في المطبوعة: "أسنت"، والصواب ما أثبت. وفي الدر
المنثور 1: 162: "إذا اشتدت السنة".
(3/254)
* ذكر من قال ذلك:
2379- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد
قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب
تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.
2380- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن منصور، عن مجاهد:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"
قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ
بخطايا بني آدم.
2381- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن
مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض،
تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.
2382- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع،
عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:"أولئك يَلعنهم اللهُ
ويَلعنهم اللاعنون" قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ،
يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (1)
2383- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال،
اللاعنون: البهائم.
2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، البهائمُ،
تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر،
فتخرج البهائم فتلعنهم.
2384- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"أولئك يَلعنهم الله
__________
(1) الخبر: 2382- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي: ثبت هنا على
الصواب، كما ظهر في: 1951. وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان":
1383.
(3/255)
ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل
والبقرُ والغنم، فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ
قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ
والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض، وقد علمتَ أنّها إذا
جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (1) فإنما تجمعه
بغير"الياء والنون" وغير"الواو والنون"، وإنما تجمعه ب"التاء"،
وما خالفَ ما ذكرنا، فتقول:"اللاعنات" ونحو ذلك؟
قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا
من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب"التاء" وبغير
صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن
يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: (وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) [سورة فصلت: 21] ،
فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها،
وكما قال: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
[سورة النمل: 18] ، وكما قال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف: 4] .
* * *
وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"ويَلعنهم اللاعنون"،
الملائكة والمؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
2385- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"ويَلعنهم اللاعنون"، قال، يَقول: اللاعنون من
ملائكة الله ومن المؤمنين. (2)
__________
(1) الضمير في قوله: "أنها إذا جمعت"، للعرب، وإن لم يجر لها
ذكر في الكلام.
(2) في المطبوعة: "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا
سعيد"، والصواب ما أثبته، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه
رقم: 2374.
(3/256)
2386- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويلعنهم
اللاعنون"، الملائكة.
2387- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"اللاعنون"، من ملائكة الله
والمؤمنين.
* * *
وقال آخرون: يعني ب"اللاعنين"، كل ما عدا بني آدم والجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
2388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"ويلعنهم اللاعنون" قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر
إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس،
معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع
أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين
الجن والإنس.
2389- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون" قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (1)
فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا
يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من
قال:"اللاعنون"، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد
وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله
والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ،
(2) فكذلك
__________
(1) المطرق والمطرقة: وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد.
(2) هي الآية رقم: 161، تأتي بعد قليل.
(3/257)
اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها
حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات
والهدى من بعد ما بينه للناس، (1) هي لعنة الله، ولعنة الذين
أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (2)
وهم"اللاعنون"، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.
* * *
وأما قول من قال إن"اللاعنين" هم الخنافس والعقارب وما أشبه
ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (3) فإنه قول لا تدرك حَقيقته
إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة، ولا خبرَ
بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يقال إنّ ذلك
كذلك.
وإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن
الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (4)
وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق
الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد
صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته، بعد علمهم به، وتلعن معهم
جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى
ب"اللاعنين" البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض، إلا بخبر للعذر
قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على
خلافه. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو سهو ناسخ.
(2) في المطبوعة: "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة. . .
"، والصواب ما أثبت.
(3) كل ماش على وجه الأرض يقال له: دابة ودبيب.
(4) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ.
(5) في المطبوعة: "وكتاب الله الذي ذكرناه"، وهو كلام لا يقال.
والصواب ما أثبت. والذي ذكره آنفًا: "إن الدليل من ظاهر كتاب
الله. . . ".
هذا، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه، مبين لك عن نهج الطبري
وتفسيره، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن
التابعين، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قاطع بالبيان عما ذكروه. والطبري قد يذكر مثل هذه
الأخبار، ثم لا يذكر حجته في ردها، لأنه كره إعادة القول
وتريده فيما جعله أصلا في التفسير، كما بين ذلك في"رسالة
التفسير"، ثم في تفسيره بعد، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه.
أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فإنه لا يدع ذكره، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك-
خبرًا عن رسول الله، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي
يرد به هذا القول.
(3/258)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين
يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه
للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة
بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته،
وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه
التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه
بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن
الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في
كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه ="فأولئك"، يعني: هؤلاء
الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم،
فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.
ثم قال تعالى ذكره:"وَأنا التواب الرحيم"، يقول: وأنا الذي
أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ، والرادُّها بعد إدبارها
عَن طاعتي إلى طلب محبتي، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم
إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما
بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله:"إلا
الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم"؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو
مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟
قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه، فسواء قيل: إلا
الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب
عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك
(3/259)
فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره
فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2390- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا"، يقول:
أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبيَّنوا الذي جاءهم من الله،
فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب
الرحيم.
2391- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا" قال، بيّنوا ما في
كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله
عليه وسلم. وهذا كله في يهود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله:"وبيَّنوا"، إنما
هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل
بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، (2) على كتمانهم
ما أنزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى
الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون
أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه
من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله
ويَلعنه اللاعنون (3) = ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة
بإخلاص العمل.
والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات
والهدى من بعد
__________
(1) انظر ما سلف 2: 549.
(2) في المطبوعة: "في مثل هذه الآية"، وهو خطأ، والصواب ما
أثبت.
(3) في المطبوعة: "فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله"، وهو تصحيف،
صوابه ما أثبت.
(3/260)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(161)
ما بيَّنه للناس في الكتاب، (1) عبدُ الله
بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، (2) الذين أسلموا فحسن إسلامهم،
واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن
الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به = من
اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان
="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك
وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم،"أولئك عَليهم لَعنةُ الله
والملائكة"، يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم
لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته،"والملائكة"،
يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس
إياهم قولهم:"عليهم لعنة الله".
* * *
وقد بينا معنى"اللعنة" فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد صلى
الله عليه وسلم [لعنةُ الناس أجمعين] من أصناف الأمم، (4)
وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟
__________
(1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو خطأ وسهو.
(2) قوله: "وذووه"، أي أصحابه وأهل ملته، بإضافة"ذو" إلى
الضمير، وللنحاة فيه قول كثير، وزعموا أن ذلك يكون في ضرورة
الشعر، وليس كذلك، بل هو آت في النثر قديمًا، بمثل ما استعمله
الطبري.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 254، والتعليق: 1، ومراجعه.
(4) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام
والسؤال، ولم يكن لهما معنى محدود مفهوم، واستظهرت الزيادة من
جواب هذا السؤال.
(3/261)
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله
بقوله:"والناس أجمعين"، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون
سائر البشر.
* ذكر من قال ذلك:
2392- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"والناس أجمعين"، يعني: ب"الناس أجمعين"،
المؤمنين.
2393- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"والناس أجمعين"، يعني بـ "الناس أجمعين"،
المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد
الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
2394- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه
الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان:"لَعنَ الله
الظالم"، فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة.
* ذكر من قال ذلك:
2395- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قوله:"أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة
والناس أجمعين"، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران
فيقول أحدهما:"لعن الله الظالم"، إلا وجبت تلك اللعنة على
الكافر، لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه.
* * *
(3/262)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب
عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم
إياهم بقولهم:"لعن الله الظالم - أو الظالمين".
فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان،
(1) ومن أي أهل ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا
من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره
أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: (وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ
يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]
وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس، فقولٌ ظاهرُ
التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان
ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون
أنفسهم ولا أولياءهم، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم
يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة،
وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه، وجحوده نعمةَ ربه،
ومخالفته أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }
* * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب"خالدين فيها"؟
قيل: نُصب على الحال من"الهاء والميم" اللتين في"عليهم". وذلك
أنّ معنى قوله:"أولئكَ عَليهم لعنة الله"، أولئك يلعنهم الله
والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك:"أولئك
عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون"
__________
(1) في المطبوعة: "لا يمنع من قيل ذلك"، والصواب ما أثبت.
(3/263)
مَنْ قرأَهُ كذلك، (1) توجيهًا منه إلى
المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، فغيرُ
جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به
المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ
بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض.
* * *
وأما"الهاء والألف" اللتان في قوله:"فيها"، فإنهما عائدتان
على"اللعنة"، والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من
الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم.
وأجرى الكلام على"اللعنة"، والمراد بها ما صار إليه الكافر،
كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:-
2396- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية:"خالدين فيها"، يقول: خالدين في جهنم،
في اللعنة.
* * *
وأما قوله:"لا يخفّف عنهم العذاب"، فإنه خبرٌ من الله تعالى
ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال
تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا) [سورة فاطر: 36] ، وكما قال: (كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [سورة النساء:
56]
* * *
وأما قوله:"ولا هم يُنظرون"، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون
بمعذرة يَعتذرون، كما:-
2397- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية:"ولا هم ينظرون"، يقول: لا يُنظرون
فيعتذرون،
__________
(1) في المطبوعة: "والناس أجميعن"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت،
برفع"الملائكة والناس أجمعون"، وهي قراءة الحسن. وانظر معاني
القرآن للفراء 1: 96-97، وتفسير هذه الآية في سائر كتب
التفسير.
(3/264)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
كقوله: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) . [سورة المرسلات: 35-36]
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) }
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"الألوهية"، وأنها اعتباد
الخلق. (1)
فمعنى قوله:"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم":
والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له، ويستوجب منكم
العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد، فلا تعبدوا غيرَه، ولا
تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو
خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا
نَظير.
* * *
واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره،
فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال
عنه، كما يقال:"فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه"، يعني بذلك
أنه ليسَ له في الناس مثل، ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ.
فكذلك معنى قول:"اللهُ واحد"، يعني به: الله لا مثل له ولا
نظير.
فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول
القائل:"واحد" يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون"واحدًا" من
جنس، كالإنسان"الواحد" من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق،
كالجزء الذي لا ينقسم. (2) والثالث:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 122-126.
(2) في المطبوعة: "غير متصرف"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت.
(3/265)
أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق،
كقول القائل:"هذان الشيئان واحد"، يراد بذلك: أنهما متشابهان،
حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.
والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.
قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني"الواحد" منتفيةً
عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه.
* * *
وقال آخرون: معنى"وحدانيته" تعالى ذكره، معنى انفراده من
الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده،
لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول
القائل:"واحد"، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه
المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون.
* * *
وأما قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا
رب للعالمين غيرُه، ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه،
وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته
والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة،
وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم
الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تَنبغي الألوهة إلا له،
إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من
الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ (1) وما يصيرون إليه من نعمة
في الآخرة فمنه، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا
ينفعُ في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة.
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم،
ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم.
__________
(1) الأشراك جمع شريك، كما يقال: شريف وأشراف، ونصير وأنصار،
ويجمع أيضًا على"شركاء".
(3/266)
ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها،
موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من
توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها
المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من
أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد
والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق
السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في
البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به
الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي
سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان
والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ
أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي
الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ،
وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون
غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع
أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي
بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة
فضْل حكمة الله وبَيانه.
* * *
(3/267)
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله
على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل
الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه
وسلم.
* * *
(3/267)
فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجًا له على
أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما
أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإلهكم إله واحد لا
إله إلا هُو الرحمنُ الرحيم" فتلا ذلك عَلى أصحابه، وسمع به
المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان
على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك، ونحن نزعم أنّ لنا آلهة
كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك:"إن في خَلق السموات والأرض"،
احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا
ذَكرنَا عَنهم.
* ذكر من قال ذلك:
2398- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"،
فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله
تعالى ذكره:"إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل
والنهار"، إلى قوله:"لآياتٍ لقوم يَعقلون"، فبهذا تعلمُون أنه
إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم،
من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
[آية] ، (1) فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في
خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على
وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك
بفهم صحيح.
* ذكر من قال ذلك:
2399- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه،
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها، ويدل عليها ما
سيأتي في الآثار بعد.
(3/268)
عن أبي الضحى قال: لما نزلت"وإلهكم إلهٌ
واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا
هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إن في خلق السموات
والأرض وَاختلاف الليل والنهار"، الآية.
2400- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن
أبي جعفر، عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى
قال: لما نزلت:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن
الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل
الله تعالى ذكره:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل
والنهار"، الآية.
2401- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن
أبي جعفر، عن أبيه، قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى
قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول
إلهكم إله واحدٌ، فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنزل
الله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"،
الآية.
2402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله
عليه وسلم: أرِنا آية! فنزلت هذه الآية:"إنّ في خلق السموات
والأرض".
2403- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن
سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى
من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا
النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يُبرئ
الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا
ذَهبًا، فنزداد يقينًا، ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي
صلى الله عليه وسلم ربه، فأوحى إليه:
(3/269)
إنّي مُعطيهم، فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا،
ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا
بيوم. فأنزل الله عليه:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، الآية:
إن في ذَلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا
ذهبًا، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ
من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.
2404- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"،
فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (1) غيِّر لنا الصفا
ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات
لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا
بها كافرين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنّ الله تعالى ذكره
نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية،
دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت
فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو
الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ،
فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ
القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فقال المشركون للنبي. . . "، والصواب طرح
هذه الفاء.
(3/270)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ في خَلق السموات
والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.
* * *
ومعنى"خلق" الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم
تكن موجودة.
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:"الأرض"، ولم
تجمع كما جُمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها
فيقال:"إنّ في خلق السموات والأرض"؟
قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها.
واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة: الكهف: (مَا
أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ
أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف: 51] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا
إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله،
والإرادة خلق لها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 431-437.
(3/271)
وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو،
ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا.
قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب
أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك
نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق
السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن
للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به
الأولون.
* * *
وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء
بعينه لا غيره.
فمعنى قوله:"إن في خلق السموات والأرض": إنّ في السموات
والأرض. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واختلاف الليل والنهار"،
وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.
* * *
وإنما"الاختلاف" في هذا الموضع"الافتعال" من"خُلوف" كل واحد
منهما الآخر، (2) كما قال تعالى ذكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [سورة الفرقان: 62] .
بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء
النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك
قيل:"خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء"، ومنه قول زهير:
بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ...
وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم (3)
* * *
__________
(1) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح
القول الذي يختاره. وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه، أنه كان
يختصر كلامه أحيانًا، مخافة الإطالة. هذا إذا لم يكن في
المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب.
(2) "خلوف" مصدر"خلف"، ولم أجده في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق
في قياسه.
(3) ديوانه: من معلقته العتيقة. والهاء في"بها" إلى"ديار أم
أوفى" صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون
جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن
الرمل. "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف
مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد
البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في
هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف
الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف
بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر.
(3/272)
وأما"الليل". فإنه جَمْع"ليلة"،
نظيرُ"التمر" الذي هو جمع"تمرة". وقد يجمع"ليالٍ"، فيزيدون في
جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم"الياء" في ذلك نظير
زيادتهم إياها في"ربَاعية وثَمانية وكرَاهية".
* * *
وأما"النهار"، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء.
وقد سمع في جَمعه"النُّهُر"، قال الشاعر:
لَوْلا الثّرِيدانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ
وثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ (1)
ءولو قيل في جمع قليله"أنهِرَة" كان قياسًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في
البحر.
* * *
و"الفلك" هو السُّفن، واحدُه وجمعه بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنث،
كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: (وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)
[سورة يس: 41] ، فذكَّره.
* * *
وقد قال في هذه الآية:"والفلك التي تجري في البحر"، وهي
مُجْراة، لأنها
__________
(1) تهذيب الألفاظ: 422، والمخصص 9: 51، واللسان (نهر) ،
والأزمنة والأمكنة 1: 77، 155 وغيرها. ورواية اللسان
والمخصص"لمتنا بالضمر". والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر
والعسر: الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره. والثريد: خبز يهشم
ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين.
(3/273)
إذا أجريت فهي"الجارية"، فأضيف إليها من
الصفة ما هو لها. (1)
* * *
وأما قوله:"بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في
البحر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما أنزل اللهُ من
السماء من مَاء"، وفيما أنزلهُ الله من السماء من ماء، وهو
المطر الذي يُنزله الله من السماء.
وقوله:"فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها"، وإحياؤها: عمارَتُها،
وإخراج نباتها. و"الهاء" التي في"به" عائدة على"الماء" و"الهاء
والألف" في قوله:"بعد موتها" على الأرض.
و"موت الأرض"، خرابها، ودُثور عمارتها، وانقطاعُ نباتها، الذي
هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ}
قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله:"وبث فيها منْ كلّ
دَابة"، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 196.
(3/274)
ومعنى قوله:"وبَث فيها"، وفرَّقَ فيها، من
قول القائل:"بث الأميرُ سراياه"، يعنى: فرَّق.
و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، عائدتان على"الأرض".
* * *
"والدابة""الفاعلة"، من قول القائل:"دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا
فهي دابة"."والدابة"، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه،
لدبيبه على الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتصريف الرياح"، وفي
تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما
تقول: (1) "يعجبني إكرام أخيك"، تريد: إكرامُك أخَاك.
* * *
"وتصريف" الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ، ومرة يجعلها
عَقيما، ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-
2405- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخر" قال، قادرٌ والله
ربُّنا على ذلك، إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا
بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا
تُلقح، إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كما قال: يعجبني. . يريد"، والصواب ما أثبت.
(2) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور 1: 164، من نص
تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري.
(3/275)
وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى
قوله:"وتصريف الرياح"، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا
ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (1) وهذه الصفة التي وَصَفَ
الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها، لأن"تصريفها" تصريفُ
الله لها،"وتصرفها" اختلافُ هُبوبها.
وقد يجوز أن يكون معنى قوله:"وتصريف الرياح"، تصريفُ الله
تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والسحاب المسخر"، وفي
السحاب، جمع"سحابة". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: (وَيُنْشِئُ
السَّحَابَ الثِّقَالَ) [سورة الرعد: 12] فوحّد المسخر وذكره،
كما قالوا:"هذه تَمرة وهذا تمر كثير". في جمعه،"وهذه نخلة وهذا
نخل". (2)
وإنما قيل للسحاب"سحاب" إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه
إياه، من قول القائل:"مرّ فلان يَجر ذَيله"، يعني:"يسحبه".
* * *
فأما معنى قوله:"لآيات"، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق
ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (3)
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 97.
(2) في المطبوعة: "كما قال: هذه ثمرة. . . "، والصواب ما
أثبته.
(3) انظر معنى"آية" فيما سلف 1: 106، وفهارس اللغة. وقد ترك
الطبري تفسيره"المسخر"، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو
كاتب، إن لم يكن من الطبري نفسه، كما أشرت إليه فيما مضى.
(3/276)
"لقوم يعقلون"، لمن عَقل مَوَاضع الحجج،
وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه،
بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول
والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر
والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم
العقاب.
* * *
فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله:"إنّ في خلق
السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟
وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات
والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟
قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ
تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه، وأنّ له
مدبرًا لا يشبهه [شيء] ، وبارئًا لا مِثْل له. (1) وذلك وإن
كان كذلك، فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين
بأنّ الله خالقهم، غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام
والأوثان. (2) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا
قوله:"وإلهكم إلهٌ واحد"، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن
إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم
دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس
والقمر] (3) وذلك هو معنى قوله:"والفلك التي تجري في البحر بما
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا.
(2) انظر ما سلف في 1: 371، والرد على من ظن أن العرب كانت غير
مقرة بالوحدانية.
(3) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير، فاختلت واضطربت، وكأن
صوابها ما يأتي: [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض،
فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم، وخلق السَّمَوات
وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى:
(واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي
تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله]-
(3/277)
ينفع الناس" - وأنزل إليكم الغيثَ من
السماء، فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه، وأمرعه بعد دُثوره،
فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (1) -، وذلك هو معنى قوله:"وَمَا
أنزل الله من السماء من مَاء فأحيا به الأرض بعد موتها" -
وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل، ومنها جمالٌ
ومراكبُ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله:"وبث فيها من
كل دابة" - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم
وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودَقْه حَياتكم وحياة
نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله:"وتصريف الرياح والسحاب
المسخَّر بين السماء والأرض".
فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم،
وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم
من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟
فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء، ففي الذي
عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن
كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى
لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في
عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.
* * *
والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين
وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما
عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المَقْنَعُ لجميع
الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.
__________
(1) أمرع الأرض: صيرها خصبة بعد الجدب. والدثور: الدروس، يريد
خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره. وكان في
المطبوعة: "فينعثكم"، والصواب ما أثبت. ونعشه الله ينعشه: رفعه
وتداركه برحمته.
(3/278)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ (165)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبًّا لِلَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من
دون الله أندادًا له =
وقد بينا فيما مضى أن"الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من
الشواهد، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
= وأن الذين اتخذوا هذه"الأنداد" من دُون الله، يحبون أندادهم
كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من
متخذي هذه الأنداد لأندادهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الأنداد" التي كان القوم اتخذوها. وما
هي؟
* * *
فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
* ذكر من قال ذلك.
2406- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله:"ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب
الله والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
2407- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره:"يحبونهم
كحب الله"، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،"والذين آمنوا
أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
2408- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 368-370.
(3/279)
2409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن الناس من يتخذُ من دُون
الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هي الآلهة التي تُعبد من
دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،"والذين آمنوا أشد
حبًا لله"، أي من الكفار لأوثانهم.
2410- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب
الله" قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع
الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد
حبًا لله من حبهم هم آلهتُهم.
* * *
وقال آخرون: بل"الأنداد" في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين
كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
2411- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب
الله" قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا
أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"كحب الله"؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل
كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال:"يُحيونهم كحب الله"؟
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما ذلك نظير قول
القائل: (2) "بعت غُلامي كبيع غلامِك"، بمعنى: بعته كما بيع
غلامك، وكبيْعك
__________
(1) الأثر: 2411- في المطبوعة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط"،
أسقط منه"قال حدثنا عمرو"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به
رقم: 2404. ثم انظر ص: 288 س: 11 فسيأتي تأويله وبيانه عن قول
السدي.
(2) في المطبوعة: "وإنما نظير ذلك"، وأثبت أولى العبارتين
بالسياق والمعنى.
(3/280)
غُلامَك،"واستوفيتُ حَقي منه استيفاء
حَقك"، بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم
المخاطَب، اكتفاء بكنايته في"الغلام" و"الحق"، كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيَّا ... عَلَى زَيْدٍ
بِتَسْلِيم الأمِيرِ (1)
يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون
الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل
المدينة والشأم:"ولوْ ترى الذين ظَلموا" بالتاء"إذ يَرون
العذابَ" بالياء"أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب"
بفتح"أنّ" و"أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد
__________
(1) لم أعرف قائله. وسيأتي في هذا الجزء 3: 311، وهو من أبيات
أربعة في البيان والتبيين 4: 51، ومعاني القرآن للفراء 1: 100،
وأمالي الشريف 1: 215. وبعد البيت: أَميرٌ يأكُلُ الفَالُوذَ
سِرًّا ... ويُطْعِمُ ضيفَهُ خُبْزَ الشَّعِير!
أتذكُرُ إذْ قَبَاؤك جلْدُ شاةٍ ... وَإِذْ نَعْلاَكَ من
جِلْدِ البَعِيرِ?
فسُبْحان الذي أعطاك مُلْكًا ... وعَلَّمك الجلوسَ على
السَّرِير!!
(2) في المطبوعة: "كحب الله"، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه
وتفسيره، بل هو نص الآية، والصواب ما أثبت.
(3/281)
الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون
عذابَ الله ويعاينونه"أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ
العذاب".
ثم في نصَبْ"أنّ" و"أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن
تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه، فيكون تأويل
الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب
الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا، وأنّ
الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت"أن" على هذا
الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما
وصفت. فهذا أحد وجهي فتح"أن"، على قراءة من قرأ:"ولو ترى"
ب"التاء".
والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ
(3/282)
يَرى الذين ظلموا عذابَ الله، لأن القوة
لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم
تحذف"اللام"، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء:"ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون
العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب". بمعنى:
ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت
الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن
قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال:"إن القوة لله
جميعًا" في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد
والآلهة،"وإن الله شديد العذاب" لمن أشرك به، وادعى معه
شُركاء، وجعل له ندًا.
* * *
وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر"إن" في"ترى" بالتاء. وهو
أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ
يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ
تحذفُ"القول" وتَكتفي منه بالمقول.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء"إذ يَرَون
العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب"
بفتح"الألف" من"أنّ""وأنّ"، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ
الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن
القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب.
فتكون"أن" الأولى منصوبة لتعلقها بجواب"لو" المحذوف، ويكون
الجواب متروكًا، وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة
عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ:"ولو يَرَى
الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله
شديد العذاب" بالياء في"يرى" وفتح"الألفين" في"أن""وأن"-: ولو
يعلمون، (1) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم، فإذا قال:"ولو ترى"،
فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كسر"إنّ" على الابتداء، إذا قال:"ولو يرى" جاز، لأن"لو
يرى"، لو يعلم.
وقد تكون"لو" في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (2) تقول
للرجل:"أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم" (3) كما قال الشاعر:
(4)
إنْ يكُنْ طِبَّكِ الدّلالُ، فلَوْ فِي ... سَالِفِ الدَّهْرِ
والسِّنِينَ الخَوَالِي! (5)
__________
(1) يريد أن"يرى" بمعنى: يعلم. وقاله أبو عبيدة في مجاز
القرآن: 62.
(2) في المطبوعة: "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج. . . "،
والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها، وذلك ظاهر في استدلاله
بعد.
(3) في المطبوعة: "لو يعلم" في الموضعين، والصواب جعل إحداهما
بالياء. والأخرى بالتاء.
(4) هو عبيد بن الأبرص.
(5) ديوانه: 37، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على
فراقه، وقبله: تلكَ عِرْسِي تَرُومُ قِدْمًا زِيَالِي ...
أَلِبَيْنٍ تُرِيد أَمْ لِدَلاَلِ?
والزيال: المفارقة. وقوله: "طبك"، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك.
يقول لها: إن كنت الدلال على تبغين وترومين، فقد مضى حين ذلك،
أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ-: أنْت
بَيْضَاءُ كالمهاة، وإِذْا ... آتِيكِ نَشْوَانَ مُرْخِيًا
أَذْيالِي
(3/283)
هذا ليس له جواب إلا في المعنى، وقال
الشاعر (1)
وَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا ... تَذْهَبْ بِكَ
التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (2)
فأضمر: فعيشي. (3)
قال: وقرأ بعضهم:"ولو تَرى"، وفتح"أن" على"ترى". وليس بذلك،
(4) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك
الناسُ، كما قال تعالى ذكره: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)
[سورة السجدة: 3] ، ليخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: (أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)
[سورة البقرة: 107] . (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون"أنّ" عاملا فيها قوله:"ولو
يرى". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن
القوة لله جميعًا، فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين
ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في"أن" جواب"لو" الذي
هو بمعنى"العلم"، لتقدم"العلم" الأول. (6)
* * *
__________
(1) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة.
(2) ديوانه: 37، وسيأتي في التفسير 7: 117، وهو في الموضعين
مصحف. كان هنا"وبحظ ما تعيش". قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها
زعمت أنه كبر وقل ماله، وضن عنه إخوانه وأنصاره. ثم أمرها أن
ترفض مقالة العاذلين، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به.
والترهات جمع ترهة: وهي أباطيل الأمور. والأهوال جمع هول: وهو
الأمر المخيف. ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما
تلقاه من أهوال، فقال: مِنْهُمُ مُمْسِكٌ، ومِنْهم عَدِيمٌ،
... وبَخِيلُ عَلَيْكِ فِي بُخّالِ
(3) في المطبوعة: "فأضمر: عش"، والصواب ما أثبت، وستأتي على
الصواب في الجزء السابع.
(4) قوله: "ليس بذلك"، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي.
(5) انظر ما سلف 2: 484-488.
(6) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم"، والآخر الجواب
المحذوف: "لعلموا".
(3/284)
وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب:"أن القوة
لله وأن الله شديد العذاب" ممن قرأ:"ولو يَرَى" بالياء، فإنما
نصبها بإعمال"الرؤية" فيها، وجعل"الرؤية" واقعةً عليها. وأما
مَنْ نصبها ممن قرأ:"ولو ترى" بالتاء، فإنه نَصبَها على تأويل:
لأنّ القوة لله جميعًا، ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن
كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.
* * *
وقال آخرون منهم: فتح"أنّ" في قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين
ظلموا" بالياء، بإعمال"يرى"، وجوابُ الكلام حينئذ متروك، كما
ترك جواب: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ
أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) [سورة الرعد: 31] ، لأن معنى
الجنة والنار مكررٌ معروف. (1) وقالوا: جائز كسر"إن"، في قراءة
من قرأ ب"الياء"، وإيقاع"الرؤية" على"إذ" في المعنى، وأجازوا
نصب"أن" على قراءة من قرأ ذلك ب"التاء"، لمعنى نية فعل آخر،
وأن يكون تأويل الكلام:"ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب"،
[يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (2) وزعموا أن كسر"إنّ" الوجهُ،
إذا قرئت:"ولو تَرَى" ب"التاء" على الاستئناف، لأن قوله:"ولو
ترى" قد وَقع على"الذين ظلموا". (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"ولو تَرَى
الذين ظلموا" -بالتاء من"ترى"-"إذ يرون العذاب أن القوة لله
جميعًا وأن الله شديد العذاب" بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله
جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله:"لرأيت" الثانية،
محذوفةً مستغنى بدلالة قوله:"ولو ترى الذين ظلموا"، عن ذكره،
وإن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 97، وفيه"معاني الجنة. . . "،
والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن.
(2) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها، وإلا اختل الكلام،
واستدركتها من معاني القرآن للفراء 1: 98.
(3) هذا قول الفراء في معاني القراء 1: 97-98، مع بعض التصرف
في اللفظ. وقوله: "وقع"، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه.
وانظر فهرس المصطلحات.
(3/285)
كان جوابًا ل"لو". (1)
ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى
الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد
العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: 107] وقد
بيناه في موضعه. (2)
وإنما اخترنا ذلك على قراءة"الياء"، لأن القوم إذا رَأوا
العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب،
فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه
إنما يقال:"لو رأيت"، لمن لم يرَ، فأما من قد رآه، فلا معنى
لأن يقال له:"لو رأيت".
* * *
ومعنى قوله:"إذ يَرون العذاب"، إذ يُعاينون العذاب، كما:-
2412- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله:"ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ
أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب"، يقول: لو عاينوا
العذاب.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"ولو تَرَى الذين ظلموا"، ولو ترى،
يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم
كحبكم إياي، حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ
لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة، وأنّ
الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا، ولا تدفع عنهم
عذابًا أحللتُ بهم، وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي،
وادَّعى مَعي إلهًا غيري.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان جوابًا. . . "، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 2: 484-488.
(3/286)
إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
القول في تأويل قوله تعالى {إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذَابَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ تبرَأ الذين
اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب"، إذ تبرأ الذين
اتبعوا من الذين اتبعواهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"إذ
تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، فقال بعضهم بما:-
2413- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ تبرأ الذين اتُّبعوا"، وهم
الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك،"من الذين اتَّبعوا"، وهم
الأتباع الضعفاء،"ورأوا العذاب".
2414- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا"
قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.
2415- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
ابن جريج: قلت لعطاء:"إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين
اتَّبعوا" قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين
اتبعوهم.
* * *
وقال آخرون بما:-
2416- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "من الذين اتبعوا" مرة أخرى،
والصواب"اتبعوهم" كما أثبت، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا
معنى.
(3/287)
أسباط، عن السدي:"إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا
من الذين اتُّبعوا"، أما"الذين اتُّبعوا"، فهم الشياطين تبرأوا
من الإنس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى
ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من
أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون
بعض، بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله
والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال
في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.
* * *
وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من
الذين اتَّبعوا"، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم
مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله:"ومنَ الناس
مَن يَتخذُ من دُون الله أندادًا"، هم الذين يتبرأون من
أتباعهم.
وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله
السدي في قوله: (1) "ومن الناس مَنْ يَتخذ من دون الله
أندادًا"، أن"الأنداد" في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ
من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر، ويَعصُون
الله في طاعتهم إياهم، كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره
= وفسد تأويل قول من قال: (2) "إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من
الذين اتَّبعوا"، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس.
لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.
* * *
__________
(1) انظر الأثر رقم: 2411.
(2) قوله: "وفسد" معطوف على قوله: "صح".
(3/288)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الأسْبَابُ (166) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ
تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تَقطعت بهم الأسباب.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الأسباب". فقال بعضهم بما:-
2417- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض
-وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير،- عن عبيد المكتب، عن
مجاهد:"وتَقطعت بهمُ الأسباب" قال، الوصال الذي كان بينهم في
الدنيا. (1)
2418- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا
يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتقطَّعت
بهم الأسباب" قال، تواصلهم في الدنيا. (2)
2419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد
بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا
سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد بمثله.
__________
(1) الخبر: 2417- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد
الخراساني: ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا
ورعًا كثير الحديث". مات في أول المحرم سنة 187 بمكة. مترجم في
التهذيب، والكبير 4/1/123، والصغير: 209، وابن سعد 5: 366،
وابن أبي حاتم 3/2/73.
وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين: من طريقي الفضيل بن عياض،
ثم من طريقي جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد
المكتب. ثم سيرويه عقب ذلك، بإسنادين آخرين: 2418، 2419، من
رواية سفيان، وهو الثوري، عن عبيد المكتب.
و"عبيد المكتب"، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة،
من"الإكتاب"، أي تعليم الكتابة: هو عبيد بن مهران الكوفي، وهو
ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6:
237، وابن أبي حاتم 3/1/2.
(2) الخبر: 2418- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، شيخ
الطبري: ثقة مأمون. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/211،
وتاريخ بغداد 6: 370.
(3/289)
2420- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد:"وتقطعت بهم
الأسباب" قال، المودّة.
2421- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2422- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.
2423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى قال،
أخبرني قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى
ذكره:"وتقطّعت بهم الأسباب" قال، المودة.
2424- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"وتقطعت بهم الأسباب"، أسبابُ الندامة يوم
القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون
بها، ويتحابُّون بها، فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثم يوم
القيامة يكفر بعضُكم ببعض، ويلعن بعضُكم بعضًا، ويتبرأ بعضُكم
من بعض. وقال الله تعالى ذكره: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) [سورة
الزخرف: 67] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة
المتقين.
2425- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، هو الوصْل
الذي كان بينهم في الدنيا.
2426- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: الأسبابُ،
الندامة.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى"الأسباب"، المنازل التي كانت لهم من أهل
الدنيا.
(3/290)
* ذكر من قال ذلك:
2427- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول:
تقطّعت بهم المنازلُ.
2428- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن
سعد، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"وتقطعت بهم
الأسباب" قال، الأسباب المنازل.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأرحام.
* ذكر من قال ذلك:
2429- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، وقال ابن عباس:"وتقطعت بهم
الأسباب" قال، الأرحام.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
2430- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: أمّا"وتقطعت بهم الأسباب"، فالأعمال.
2431- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، أسباب أعمالهم، فأهل التقوى
أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون، والآخرون
أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.
* * *
(3/291)
قال أبو جعفر: (1) "والأسباب"، الشيء
يُتعلَّقُ به. قال: و"السبب" الحبل."والأسباب" جمع"سَبب"، وهو
كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل"سبب"،
لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا
بالتعلق به. ويقال للطريق"سبب"، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك
إلا بقطعه. وللمصاهرة"سبب"، لأنها سَببٌ للحرمة.
وللوسيلة"سَبب"، للوصول بها إلى الحاجة، وكذلك كل ما كان به
إدراك الطلبة، فهو"سبب" لإدراكها.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: "وتقطعت
بهم الأسباب" أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين
ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند
معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع، وتتقطع بهم
الأسباب.
وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا، وأخبر عن
الشيطان أنه يقول لأوليائه: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا
أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ
مِنْ قَبْلُ) [سورة إبراهيم: 22] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وأن الكافرين لا
ينصر يومئذ بعضهم بعضًا، فقال تعالى ذكره: (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ) [سورة
الصافات:24-25] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه،
وإن كان نسيبه لله وليًّا، فقال تعالى ذكره في ذلك: (وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة: 114] وأخبر تعالى
ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.
وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع
الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف
طاعته ورضاه، فهي منقطعة
__________
(1) من أول هذه الفقرة، كلام أبي جعفر، وأخشى أن يكون سقط شيء
قبله. وهذا الابتداء على كل حال، جار على غير النهج الذي سار
عليه كتابه من قبل ومن بعد.
(3/292)
وَقَالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنَ النَّارِ (167)
بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند
ورُودهم على ربهم، (1)
ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم
أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم،
بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.
فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله:"وتقطعت بهم الأسباب"- من
صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون
بَعضها، (2) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك
خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع
فيه، وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا
ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا
تَبَرَّءُوا مِنَّا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"وقَال الذين اتَّبعوا"،
وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله
يطيعونهم في معصية الله، ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم، إذ يرون
عَذابَ الله في الآخرة-:"لو أن لنا كرة".
* * *
يعني"بالكرة"، الرجعةَ إلى الدنيا، من قول القائل:"كررَت على
القوم أكُرَّ كرًّا"، و"الكرَّة" المرة الواحدة، وذلك إذا حمل
عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:
__________
(1) في المطبوعة: "ينفعهم"، والصواب ما أثبت، فالأفعال قبله
وبعده كلها ماضية. والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله
مخالة وخلالا: وهي الصداقة والمودة، يقول امرؤ القيس: صَرَفتُ
الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... فَلَسْتُ
بِمَقْلِيِّ الخِلالِ وَلاَ قَالي
(2) الزيادة التي بين الأقواس، لا بد منها حتى يستقم صدر
الكلام وآخره، في الجملة التالية. ويعني بقوله"صفة الله": ما
وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة، كالذي
عدده آنفًا في الفقرة السالفة.
(3/293)
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ
عَطْفَةً ... كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالا (1)
وكما:-
2432- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن
قتادة:"وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما
تبرأوا منا"، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.
2433- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة" قال،
قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما
تبرأوا منا.
* * *
وقوله:"فنتبرأ منهم" منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب"الفاء". لأن
القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا
يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في
الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم
النازل بهم من عذاب الله، (2) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى
الدنيا فنتبرأ منهم، و (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ
بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة
الأنعام: 27]
* * *
__________
(1) ديوانه 48، ونقائض جرير والأخطل: 79. وفي المطبوعة: "كر
المشيح"، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة"، وهو خطأ. وفزارة بن
ذبيان بن بغيض. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر، وأقداح الميسر
سبعة دوات أنصباء، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة، ولكنها تعاد
معها في كل ضربة. وقوله: "عطفن" يعني الخيل، ذكرها في بيت
قبله. وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في 2: 38، 39، 492، 496.
(2) في المطبوعة: "إذا عاينوا"، وهو خطأ.
(3/294)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ
يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"كذلك يُريهمُ الله أعمالهم"، يقول:
كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله:"ورأوا العذاب"، الذي
كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم
الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله"حسرات عليهم" يعني:
نَدامات.
* * *
"والحسرات" جَمع"حَسْرة". وكذلك كل اسم كان واحده على"فَعْلة"
مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على"فَعَلات" مثل"شَهوة
وتَمرة" تجمع"شَهوات وتَمرات" مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما
إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل"ضخمة"،
تجمعها"ضخْمات" و"عَبْلة" تجمعها"عَبْلات"، وربما سُكّن الثاني
في الأسماء، كما قال الشاعر: (1)
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا ... يُدِلْنَنَا
اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا ... فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ
زَفْرَاتِهَا (2)
فسكنّ الثاني من"الزفرات"، وهي اسم. وقيل: إن"الحسرة" أشد
الندامة.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) سيأتي في التفسير 24: 43 / 30: 34 (بولاق) بزيادة بيت.
والعيني 4: 396 واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة
(بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب
وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة.
ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: "تديلنا" وأداله: جعل له
العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه
إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة.
والبيت الرابع الذي زاده الطبري: وَتَنْقَعُ الغُلّة من
غُلاّتِها
والغلة: شدة العطش وحرارته. ونقع الغلة: سكنها وأطفأها وأذهب
ظمأها.
(3/295)
فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم
حَسرات عليهم، وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها
إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون
على تركهم الازديادَ منه، فيريهم الله قليلَه! (1) بل كانت
أعمالهم كلها معاصيَ لله، ولا حسرةَ عليهم في ذلك، وإنما
الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟
قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون، فنذكر في ذلك ما
قالوا، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها
عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان
الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن
والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (2) فصار ما فاتهم من الثواب
-الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ
عاينوه (3) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً
عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
2434- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم"، زعم أنه
يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم
أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم
بين المؤمنين، فيرثونهم. فذلك حين يندمون.
2435- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد
الله -في
__________
(1) قوله: "فيريهم الله قليله"، يعني به: فيريهم الله أنه
قليل، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر.
(2) سياق هذه الجملة: حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه، ما كان
الله أعد لهم. . . " فقدم وأخر وفصل، كعادته.
(3) في المطبوعة: "إذا عاينوه"، والصواب ما أثبت.
(3/296)
قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر
إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال:
فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم!
فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار،
فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه
على هذا التأويل؟
قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (2)
هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله، كما يقال للرجل
يَحضُر
__________
(1) الحديث: 2435- سفيان: هو الثوري. سلمة بن كهيل الحضرمي.
سبق توثيقه: 439، ونزيد هنا أن الثوري قال: "كان ركنًا من
الأركان". وقال أحمد: "سلمة متقن الحديث". وقال أبو زرعة:
"كوفي ثقة مأمون ذكي". مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/75، وابن
سعد 6: 221، وابن أبي حاتم 2/1/170-171، وتاريخ الإسلام 5:
81-82.
أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو
عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير، وهو خال سلمة بن كهيل.
وهو ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 119،
وابن أبي حاتم 2/2/195.
وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا: "في قصة
ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري 15: 97 (بولاق) . وهو
حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا
لفظًا، فإنه مرفوع حكمًا، لأنه في صفة آخر الزمان، وما يأتي من
الفتن، ثم فناء الدنيا، ثم البعث والنشور والشفاعة، وما إلى
ذلك، مما لا يعلم بالرأي.
وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك 4: 496-498، من
طريق الحسين بن حفص الإصبهاني، عن سفيان، بهذا الإسناد. وقال:
"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وهو كما قالا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 328-330، بطوله، وقال: رواه
الطبراني وهو موقوف، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا
عن إسناده. وليس هذا موضع التعقب على تعليله.
وروى أبو داود الطيالسي: 389- قطعة أخرى منه، عن يحيى بن سلمة
بن كهيل، عن أبيه. و"يحيى بن سلمة". ضعيف جدًا. قال البخاري في
الصغير، ص: 143"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند
الطيالسي، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح، من رواية
سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل.
(2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.
(3/297)
غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (1) هذا غَداؤك
اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله:"كذلك
يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، يعني: كذلك يُريهم الله
أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات
عليهم.
* * *
وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم
عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟
* ذكر من قال ذلك:
2436- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"،
فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.
2437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أعمالهم حسرات عليهم" قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي
أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (2) قال: وجعل
أعمالَ أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي
الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) [سورة الحاقة: 24]
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى
قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم"، كذلك يُرِي
الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟
وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم
الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (3) لأن الله أخبر
أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.
__________
(1) في المطبوعة: "كما يقال للرجل"، وزيادة الواو لازمة.
(2) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام، ليطابق
القول الذي قاله هؤلاء. ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في
ذكر أعمال أهل الجنة.
(3) في المطبوعة: "إذا رأوا جزاءها"، والصواب ما أثبت.
(3/298)
فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه
الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه
المعنيُّ بها. (1) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا
تحتمله الآية، فإنه مَنزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر-
تقوم به حُجة فيسلم لها، (2) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه
المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى
باطن تأويل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ
النَّارِ (167) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم
من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله،
فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة، وتمنَّوا
إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها، ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم
الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار
التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا، ولا ندمُهم فيها
بمنجيهم من عذاب الله حينئذ، ولكنهم فيها مخلدون.
* * *
وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ
الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو
بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف
صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من
النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا
نهاية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف 2: 15،
واطلبه في فهرس المصطلحات.
(2) في المطبوعة: "تقوم له حجة"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "فإذا كان الأمر. . . "، والصواب ما أثبت.
وقوله: "لم يحل" من أحال الشيء يحيله: إذا حوله من مكان إلى
مكان، أو من وجه إلى وجه.
(3/299)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (168)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (168) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما
أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم
فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر
والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون
مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم
ولحم خنزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي
يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم -
فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، إنه = يعني بقوله:"إنه" إنّ
الشيطان، و"الهاء" في قوله:"إنه" عائدة على الشيطان = لكم أيها
الناس"عدو مُبين"، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن
السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله
بالخطيئة، وأكل من الشجرة.
يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم
العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به
ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم، دون ما حرمتموه
أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.
* * *
ومعنى قوله:"حَلالا"، طِلْقًا. (1) وهو مصدر من قول القائل:"قد
حَلَّ لك هذا الشيء"، أي صار لك مُطلقًا، (2) "فهو يَحِلُّ لك
حَلالا وحِلا"، ومن
__________
(1) الطلق (بكسر فسكون) . الحلال. يقال: هو لك طلق، أي حلال.
وفي الحديث: "الخيل طلق"، أي أن الرهان عليها حلال.
(2) هكذا في المطبوعة، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب
الطبري"طلقًا" كما سلف، وكما سيأتي في عبارته.
(3/300)
كلام العرب:"هو لك حِلٌّ"، أي: طِلْق. (1)
.
* * *
وأما قوله:"طيبًا" فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.
* * *
وأما"الخطوات" فإنه جمع"خُطوة"، و"الخطوة" بعد ما بين قدمي
الماشي. و"الخطوة" بفتح"الخاء""الفعلة" الواحدة من قول
القائل:"خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع"الخُطوة""خُطًا"
و"الخَطْوة" تجمع"خَطوات"،"وخِطاء".
* * *
والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما
دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الخطوات". فقال بعضهم: خُطُوات
الشيطان: عمله.
* ذكر من قال ذلك:
2438- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح
قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"خطوات الشيطان"، يقول: عمله.
* * *
وقال بعضهم:"خطوات الشيطان"، خَطاياه.
* ذكر من قال ذلك:
2439- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"خُطُوات الشيطان"
قال، خطيئته.
2440- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.
__________
(1) في المطبوعة: "من كلام العرب. . . "، وأثبت الواو، وحذفها
جيد أيضًا.
(3/301)
2441- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تتَّبعوا
خُطُوات الشيطان" قال، خطاياه.
2442- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك قوله:"خطوات الشيطان" قال، خطايا الشيطان
التي يأمرُ بها.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، طاعته.
* ذكر من قال ذلك:
2443- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط،
عن السدي:"ولا تتبعوا خطوات الشيطان"، يقول: طاعته.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، النذورُ في المعاصي.
* ذكر من قال ذلك:
2444- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن سليمان، عن أبي مجلز
في قوله:"ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان" قال، هي النذور في
المعاصي.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في
تأويل قوله:"خطوات الشيطان"، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل
قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في
آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من
أنها"بعد ما بين قَدميه"، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على
ما قد بينت.
* * *
(3/302)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (169)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما يأمرُكم"،
الشيطانَ،"بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا
تعلمون".
* * *
"والسوء": الإثم، مثل"الضُّرّ"، من قول القائل:"ساءك هذا الأمر
يَسوءك سُوءًا"، وهو ما يَسوء الفاعل.
* * *
وأما"الفحشاء"، فهي مصدر مثل"السراء والضراء"، (1) وهي كل ما
استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.
وقيل: إن"السوء" الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك
كذلك، فإنما سَمَّاها الله"سوءًا" لأنها تسوء صاحبها بسوء
عاقبتها له عند الله. وقيل: إن"الفحشاء"، الزنا: فإن كان ذلك
كذلك، فإنما يُسمى [كذلك] ، (2) لقبح مسموعه، ومكرُوه ما
يُذْكَر به فاعله.
* ذكر من قال ذلك:
2445- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"إنما يأمركم بالسوء والفحشاء"، أمّا"السوء"،
فالمعصية، وأما"الفحشاء"، فالزنا.
* * *
وأما قوله:"وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون"، فهو ما
كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي،
ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى
__________
(1) لعل الصواب، "فهي اسم مصدر".
(2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.
(3/303)
ذكره لهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة: 103] فأخبرهم
تعالى ذكره في هذه الآية، (1) أنّ قيلهم:"إنّ الله حرم هذا! "
من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه،
ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون
حقيقته، طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا منهم خطواته، واقتفاء
منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا
بالله وبما أنزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا -
وإسرافًا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله
عليه وسلم فقال تعالى ذكره:"وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل
اللهُ قَالوا بَلْ نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة، "وأخبرهم" بالواو، والصواب الجيد ما أثبت.
(3/304)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) }
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.
أحدهما: أن تكون"الهاء والميم" من قوله:"وإذا قيلَ لهم" عائدة
على"من" في قوله:"ومنَ الناس مَنْ يَتخذُ من دون الله
أندادًا"، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون
الله أندادًا، وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل
نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.
والآخر: أن تكون"الهاء والميم" اللتان في قوله:"وإذا قيل لهم"،
من ذكر"الناس" الذين في قوله:"يا أيها الناسُ كلوا مما في
الأرض حَلالا طيبًا"، فيكون
(3/304)
ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن
الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس:
22]
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية (1) أن
تكون"الهاء والميم" في قوله:"لهم"، من ذكر"الناس"، وأن يكون
ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب
قوله:"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض". فلأنْ يكون خبرًا
عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم"مَنْ
يَتخذ من دُون الله أندادًا"، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع
قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود
قالوا ذلك، (2) إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-
2446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من
أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه، وحذرهم عقاب الله
ونقمته، فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما
ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله
في ذلك من قولهما (3) "وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ
قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه
__________
(1) في المطبوعة: "وأشبه عندي وأولى بالآية"، وهو كلام مختل،
ورددته إلى عبارة الطبري في تأويل أكثر الآيات السالفة.
(2) في المطبوعة: "وإنما نزلت في قوم من اليهود"، وهو خطأ
ناطق، واضطراب مفسد للكلام. والصواب ما أثبت. يقول أبو جعفر إن
أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية
الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم، كما ذكر في تفسير الآيتين
السالفتين (168، 169) ، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد
ذكرهم في الآية (165) ، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في
اليهود، في الخبر الذي سيرويه بعد. فقوله: "وأنها نزلت" عطف
على قوله"خبرًا" في قوله: "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين
أخبر أن منهم من يتخذ. . . ".
(3) في المطبوعة: "فأنزل الله من قولهم ذلك". وهو خطأ محض،
ورددتها إلى نصها في سيرة ابن هشام، كما سيأتي مرجعه.
(3/305)
آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا
ولا يَهتدون". (1)
2447- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد
بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه
قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف. (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"اتبعوا ما أنزلَ الله"، فإنه: اعملوا بما
أنزل الله في كتابه على رسوله، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا
حرامه، واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به، وقائدًا تَتبعون أحكامه.
* * *
وقوله:"ألفينا عَليه آباءنا"، يعني وَجدنا، كما قال الشاعر:
(3)
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلا ذَاكِرِ اللهَ
إلا قَلِيلا (4)
__________
(1) الأثر رقم: 2446- في سيرة ابن هشام 2: 200-201، مع اختلاف
يسير في لفظه.
(2) الأثر رقم: 2447- انظر الأثر: 2446.
(3) هو أبو الأسود الدؤلي.
(4) ديوانه: 49 (نفائس المخطوطات) ، سيبوبه 1: 85، والأغاني
11: 107، وأمالي بن الشجرى 1: 283 والصدقة والصديق: 151،
والخزانة 4: 554، وشرح شواهد المغني: 316، واللسان (عتب) . وهو
من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، وكانت برزة
جميلة، فقالت له يومًا: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك؟ فإني
امرأة صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور. قال: نعم.
فجمعت أهلها وتزوجته. ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت، فأسرعت
في ماله، ومدت يدها في خيانته، وأفشت عليه سره، فغدا على من
كان حضر تزويجه، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا. فقال لهم:
أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ ... أتَانِي، فَقَالَ:
اتّخِذْنِي خليلاَ
فخالَلْتَهُ، ثُمَّ صَافيْتُه ... فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ
لَدُنْهُ فتيلاَ
وَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُه ... كَذُوبَ الحَدِيثِ
سَرُوقًا بَخِيلاَ
فَذَكَّرْتُه، ثُمَّ عَاتبتُهُ ... عِتَابًا رَفِيقًا
وَقَوْلاً جَمِيلاَ
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلاَ ذَاكِرِ اللهَ
إلاَّ قَلِيلاَ
أَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ ... وَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا
طَوِيلاَ?!
قالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد
طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها. ثم صرفها معهم.
قال ابن الشجرى: "والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين
لالتقاء الساكنين، ونصب اسم الله تعالى، واختيار ذلك على حذف
التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى
المعرفة، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في
التنكير، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وأعمل اسم الفاعل".
واستعجب الرجل: رجع عن الإساءة وطلب الرضا، فهو مستعتب.
(3/306)
يعني: وجدته، وكما:-
2448- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا"، أي: ما وجدنا
عليه آباءنا.
2449- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما
أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما
أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن
الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم
عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
* * *
قال الله تعالى ذكره:"أوَ لو كانَ آباؤهم" -يعني: آباء هؤلاء
الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-"لا يعقلون شيئًا"
من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه، فيُتَّبعون على ما سَلكوا
من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -"ولا يَهتدون" لرشد،
فيهتدي بهم غيرهم، ويَقتدي بهم من طَلب الدين، وأراد الحق
والصواب؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما
وجدتم عليه
(3/307)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا
دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
(171)
آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم،
وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا،
ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء
المستعملَ له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به
جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً
وَنِدَاءً}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر =في قلة فهمه عن الله ما
يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله
ويوعظ به= مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا
تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك:
2450- حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك،
عن عكرمة، في قوله:"ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا
يَسمع إلا دعاء ونداءً" قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار،
تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
2451- حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد
السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في
قوله:"كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع" قال، هو كمثل الشاة ونحو
ذلك. (1) .
__________
(1) الخبر: 2451- هذا خبر منهار الإسناد. أما"محمد بن عبد الله
بن زريع" شيخ الطبري فلم أجد ترجمته. والطبري يروي عن"محمد بن
عبد الله بن بزيع"، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو، حرف اسم جده.
وأما"يوسف بن خالد السمتي": فهو ضعيف جدًا، قال فيه ابن معين:
"كذاب، زنديق، لا يكتب حديثه". ولا يشتغل بمثله. مترجم في
التهذيب، والكبير 4/2/388، وابن سعد 7/2/47، وابن أبي حاتم
4/2/221-222. و"السمتي": بفتح السين وسكون الميم، نسبة إلى
السمت والهيئة. قال ابن سعد: "وقيل له: السمتي - للحيته وهيئته
وسمته"!!
نافع بن مالك: هو الأصبحي، أبو سهيل، وهو عم الإمام مالك بن
أنس، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/86، وابن
أبي حاتم 4/1/453.
(3/308)
2452- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا
دعاءً ونداءً"، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت
لبعضها"كُلْ" - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك
الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما
تقول غير أنه يسمع صوتك.
2453- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما
يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.
2454- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف،
عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق بما لا يسمع" قال، مثل الكافر مثل
البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
2455- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعِق"، مثلٌ ضربه الله
للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ
ولا تعقل.
2456- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا
دعاءً ونداءً"، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع
الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.
(3/309)
2457- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كمثل الذي ينعقُ
بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً" قال، هو مثل ضربه الله للكافر.
يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا
تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
2458- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل
ما يقال له.
2459- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له: يقال: لا تعقل -يعني
البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها، فهم كذلك
لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد:"الذي
ينعِق"، الراعي"بما لا يسمع" من البهائم.
2460- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق" الراعي"بما
لا يسمع" من البهائم.
2461- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط، عن
السدي:"كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً"، لا
يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب.
وأما"الذي ينعق"، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا
يسمع ما يقال له، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله
عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: 18]
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما
تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم -: ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا
وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه
(3/310)
ونعيقِه بها. فأضيف"المثل" إلى الذين
كفروا، وترك ذكر"الوعظ والواعظ"، لدلالة الكلام على ذلك. كما
يقال:"إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان"، يراد به: كما
تعظم السلطانَ، وكما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا ... عَلَى زَيْدٍ
بِتَسْلِيمِ الأمِير (1)
يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى -على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء-:
ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل
المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير
الصوت. وذلك أنه لو قيل له:"اعتلف، أورِدِ الماء"، لم يدر ما
يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر، مَثله
في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه -بسوء تدبُّره إياه وقلة
نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي
عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق، كما
قال نابغة بني ذبيان:
وَقَدْ خِفْتُ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى
وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (2)
والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي، وكما قال
الآخر: (3)
__________
(1) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء: 281 تعليق: 1، وهذا
القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 100.
(2) ديوانه: 90، وسيأتي في التفسير 30: 146 (بولاق) ، ومجاز
القرآن: 65، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، ومشكل القرآن: 151،
والإنصاف: 164، وأمالي بن الشجرى 1: 52، 324، وأمال الشريف 1:
202، 216، ومعجم ما استعجم: 1238. وهو من قصيدة مضى منها تخريج
بيت في هذا الجزء: 213. وقوله: "ذي المطارة" (بفتح الميم) ،
وهو اسم جبل. وعاقل: قد عقل في رأس الجبل، لجأ إليه واعتصم به
وامتنع. والوعل: تيس الجبل: يتحصن بوزره من الصياد. وقد ذكر
البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم
الميم) ناقته، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح. ويعني
بذلك: ما عليها من الرحل والأداة. يقول: كأني على رحل هذه
الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق.
(3) النابغة الجعدي.
(3/311)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ، كَمَا ...
كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (1)
والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم،
لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه ... تَحْلَى بِهِ العَيْنُ
إذَا مَا تَجْهَرُهْ (2)
والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. (3) ونظائر ذلك
من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما
تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه،
فتقول:"اعرِض الحوضَ على الناقة"، وإنما تعرض الناقة على
الحوض، وما أشبه ذلك من كلامها. (4)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم
وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع
إلا دُعاءً ونداءً، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به
عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم
-في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا
يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً، أي: لا يسمع منه الناعق إلا
دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) سيأتي في التفسير 2: 198، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن
للفراء 1: 99، 131، ومشكل القرآن: 153، والإنصاف: 165، وأمالي
الشريف 1: 216، والصاحبي: 172، وسمط اللآلي: 368، واللسان
(زنا) . وقال الطبري في 2: 327، "يعني: كما كان الرجم الواجب
من حد الزنا".
(2) سيأتي في التفسير: (2؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء
1: 99، 131، وأمالي الشريف 1: 216، واللسان (حلا) . يقال: "ما
في الحي أحد تجهره عيني"، أي تأخذه عيني فيعجبني. وفي حديث صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي: "لم يكن قصيرًا ولا
طويلا، وهو إلى الطول أقرب. من رآه جهره"، أي عظم في عينه.
(3) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1: 99.
(4) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن: 63-64.
(3/312)
2462- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله:"ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما
لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً" قال، الرجل الذي يصيح في جَوف
الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له"الصَّدى". فمثل آلهة
هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع
إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن
يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه
دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه،
فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء،
فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها
وندائه لها، ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي
قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ
الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه، فإنه يسمع نَعقه
ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف"وعظ" اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على
البيان عنه في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا) [سورة البقرة: 17] ، وفي غيره من نظائره من الآيات،
بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) .
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود،
وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان
يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع
ضرها. ولا وجه -إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من
__________
(1) انظر ما سلف 1: 318-328، واطلب ذلك في فهرس العربية من
الجزاء السالفة.
(3/313)
تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في
ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟
قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم
المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى
من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف
الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا
عنه أنها فيهم نزلت، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ
الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (1) وبما قُلنا من أن هذه
الآية معنيّ بها
__________
(1) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه، كان ينبغي
أن يبينه فضل بيان. فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل
هذه الآية نزلت في يهود، وليس كذلك. ثم عاد بعد قليل يقول:
"هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل
هذه الآية نزلت فيهم" -يعني في يهود. ولو كان الأمر كما يفهم
من صدر عبارته، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي"قبل هذه
الآية" نزلت فيهم، فيما روي عن ابن عباس- معنى مفهوم.
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول: إن الآيات السالفة نزلت
في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله: "إن الذين كفروا
وماتوا وهم كفار" إلى قوله: "وإلهكم إله وحد" (163-170) ، فهي
قد نزلت في كفار العرب، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة: (170)
نزلت في يهود أيضًا. ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود
وأهل الكتاب، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود.
فكأنه جعل الآيات من (163-169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة، هي
قصة يهود.
فإن لم يكن ذلك كذلك، فلست أدري كيف يتسق كلامه. فهو منذ بدأ
في تفسير هذه الآيات من 163-169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم،
وبين أن المقصود بقوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في
الأرض حلالا طيبًا" - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر
والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى: "وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون" فقال: فهو ما كانوا يحرمون من
البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303) . واليهود، كما
أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها، أو أصنام يعظمونها كما قال
أبو جعفر، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما
ذكر في تفسير الآيات السالفة. فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا
إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه
مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من
البحائر والسوائب والوصائل.
والصواب من القول عندي، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة،
وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله
لهم: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا"، وأن
العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى: "إن الذين
يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" والآيات التي تليها. وانظر ما
سيأتي: 317، فإنه قد عاد هناك، فجعل الآية خاصة بالمشركين من
أهل الجاهلية، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم، وهو
تناقض شديد.
(3/314)
اليهود، كان عطاء يقول:
2463- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل
الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى
قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة:
174-175] .
* * *
وأما قوله:"يَنعِق"، فإنه: يُصوِّت بالغنم،"النَّعيق،
والنُّعاق"، ومنه قول الأخطل:
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ، فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ
نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (1)
يعني: صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَعْقِلُونَ (171) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ"،
هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا
دُعاءً ونداءً"صُمٌ" عن الحق فهم لا يسمعون -"بُكمٌ" يعني:
خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن
يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من
أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، فلا ينطقون به ولا
يقولونه، ولا يبينونه للناس -،"عُميٌّ"
__________
(1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 81، وطبقات فحول
الشعراء: 429، ومجاز القرآن: 64، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات
منها في 2: 38: 39، 492، 496، وهذا الجزء 3: 294، وقد ذكر قبله
حروب رهطه بني تغلب، ثم قال لجرير: إنما أنت راعي غنم، فصوت
بغنمك، ودع الحروب وذكرها. فلا علم لك ولا لأسلافك بها. وكل ما
تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل.
(3/315)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، (1) .
كما:-
2464- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله:"صُمٌ بكم عمي"، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا
ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛
بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
2465- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"صم بكم عمي" يقول: عن الحق.
2466- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون
الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله:"صم بكم عمي"، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء
والاستئناف، يدل على ذلك قوله:"فهم لا يعقلون"، كما يقال في
الكلام:"هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"،
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا لله بالعبودية،
وأذعنوا له بالطاعة، كما:-
2467- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) انظر تفسير: "صم""بكم""عمي" فيما سلف 1: 328-331. وقد حمل
أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب.
وانظر التعليق السالف ص: 314، رقم: 1.
(2) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1: 329-330.
(3/316)
إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (173)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين
آمنوا"، يقول: صدَّقوا.
* * *
"كلوا من طيبات ما رَزَقناكم"، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق
الذي أحللناهُ لكم، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم
تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم
والمشارب."واشكروا لله"، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله
منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم."إن كنتم إياه
تعبدون"، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا
مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات
الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم، وهو
الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه، إذْ كان تحريمهم
إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر
منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما
حرَّم عليهم، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما
لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر
والسوائب ونحو ذلك، بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير
الميتة والدم ولحم الخنزير، ومَا أهلّ به لغيري.
* * *
ومعنى قوله:"إنما حَرَّم عليكم الميتة"، ما حرَّم عليكم إلا
الميتة.
__________
(1) في المطبوعة: "وفصل لهم"، والصواب ما أثبت. وهذا الذي قاله
هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات،
فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة، في مشركي العرب في
جاهليتهم، كما ترى، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية.
انظر ص: 314، تعليق: 1.
(3/317)
"وإنما": حرف واحدٌ، ولذلك نصبت"الميتة
والدم"، وغير جائز في"الميتة" إذا جعلت"إنما" حرفًا واحدًا -
إلا النصب. ولو كانت"إنما" حرفين، وكانت منفصلة من"إنّ"،
لكانت"الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ
الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير،
لا غير ذلك. (1)
وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل.
ولست للقراءة به مستجيزًا =وإن كان له في التأويل والعربية
وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز
لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.
* * *
ولو قرئ في"حرّم" بضم الحاء من"حرّم"، لكان في"الميتة" وجهان
من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى،"وإنما" حرفٌ واحد.
والآخر:"إن" و"ما" في معنى حرفين، و"حرِّم" من
صلة"ما"،"والميتة" خبر"الذي" مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان
لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.
* * *
وأما"الميتة"، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم
بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يُخففها كما يخفف
القائلون في:"هو هيّن ليّن""الهيْن الليْن"، (2) كما قال
الشاعر: (3)
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا
المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (4)
__________
(1) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 102-103.
(2) في المطبوعة: "القائلون وهو هين لين. . . "، وكأن الصواب
ما أثبت.
(3) هو عدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه.
(4) الأصمعيات: 5، ومعجم الشعراء: 252، وتهذيب الألفاظ: 448،
واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى: 51، والخزانة 4: 187، وشرح
شواهد المغني: 138. من أبيات جيدة صادقة، يقول بعده: إِنَّمَا
المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ
الرّجَاءِ
فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ
فِي المَاء
الثماد الماء القليل يبقى في الحفر. وما أصدق ما قال هذا الأبي
الحر.
(3/318)
فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى
واحد.
وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما
هو"مَيْوِت"،"فيعل"، من الموت. ولكن"الياء" الساكنة و"الواو"
المتحركة لما اجتمعتا،"والياء" مع سكونها متقدمة،
قلبت"الواو""ياء" وشددت، فصارتا"ياء" مشددة، كما فعلوا ذلك
في"سيد وجيد". قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ
بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف
والتشديد في"ياء""الميتة" لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام
العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في
معنييهما.
* * *
وأما قوله:"وَمَا أهِلَّ به لغير الله"، فإنه يعني به: وما
ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه
من الأصنام.
وإنما قيل:"وما أهِلَّ به"، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما
قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا
بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح،
سمَّى أو لم يُسمِّ، (1) جهر بالتسمية أو لم يجهر-:"مُهِلٌّ".
فرفعهم أصواتهم بذلك هو"الإهلال" الذي ذكره الله تعالى
فقال:"وما أهِلَّ به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة
أو عمرة"مُهِلّ"، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه"استهلال" الصبي،
إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه،"واستهلال" المطر، وهو صوت
وُقوعه على الأرض، كما قال عمرو بن قميئة:
__________
(1) في المطبوعة: "يسمي بذلك أو لم يسم"، والصواب ما أثبت، فعل
ماض كالذي يليه.
(3/319)
ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ
... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (1)
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما
أهِلَّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.
* ذكر من قال ذلك:
2468- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله.
2469- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"وما أهلّ به لغير الله" قال، ما ذبح
لغير الله مما لم يُسم عليه.
2470- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما أهلّ به لغير الله"، ما ذبح لغير
الله.
2471- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:"وما أهِلّ به لغير الله"
قال، ما أهِلّ به للطواغيت.
2472- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
جويبر، عن الضحاك قال:"وما أُهلّ به لغير الله" قال، ما أهل به
للطواغيت.
2473- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أهِلّ به لغير الله"، يعني:
ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر،
غير اليهود والنصارى.
2474- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول
الله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، هو ما ذبح لغير الله.
* * *
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 523-524، وأن صواب نسبته إلى
الحادرة الذبياني.
(3/320)
وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم
الله.
* ذكر من قال ذلك:
2475- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قوله:"وما أهلّ به لغير الله"، يقول: ما
ذكر عليه غير اسم الله.
2476- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد
-وسألته عن قوله الله:"وما أهلّ به لغير الله"- قال: ما يذبح
لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها.
قال: يقولون:"باسم فلان"، كما تقول أنت:"باسم الله" قال، فذلك
قوله:"وما أهلّ به لغير الله".
2477- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن
عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل
لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما
هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله:"وما
أهِلّ به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان
والمشركون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اضطر"، فمن حَلَّت
به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم
الخنزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم
عليه في أكله إن أكله.
* * *
(3/321)
وقوله: فمن"اضطر""افتعل" من"الضّرورة".
* * *
و"غيرَ بَاغ" نُصِب على الحال مِنْ"مَنْ"، فكأنه. قيل: فمن
اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال.
* * *
وقد قيل: إن معنى قوله:"فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله،
فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
2478- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد
قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال: الرجل يأخذُه العدو
فيدعونه إلى معصية الله.
* * *
وأما قوله:"غيرَ بَاغ ولا عَاد"، فإن أهل التأويل في تأويله
مختلفون.
فقال بعضهم: يعني بقوله:"غير باغ"، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه
باغيًا عليهم بغير جَور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ
عليهم السبيلَ.
* ذكر من قال ذلك:
2479- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا،
عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد" قال، غيرَ قاطع سبيل،
ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة.
2480- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد"، يقول: لا
قاطعًا للسبيل، ولا مفارقًا للأئمة، ولا خارجًا في معصية الله،
فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله، فلا
رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.
2481- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن
سعيد:"غير باغ ولا عاد" قال، هو الذي يقطع الطريق، فليس له
رخصة
(3/322)
إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ
الخمر.
2482- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن
المبارك، عن شريك، عن سالم -يعني الأفطس- عن سعيد في قوله:"فمن
اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق،
فلا رخصة له ولا كرامة.
2483- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، إذا
خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب، وإن اضطر
إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.
2484- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث،
عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال:"غيرَ باغ" على
الأئمة،"ولا عاد" قال، قاطع السبيل.
2485- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال، غير قاطع
السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.
2486- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم،
عن مجاهد:"فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد" قال، غير باغ على
الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل.
* * *
وقال آخرون في تأويل قوله:"غيرَ باغ ولا عاد": غيرَ باغ
الحرامَ في أكله، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.
* ذكر من قال ذلك.
2487- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد،
(3/323)
عن قتادة قوله:"فمن اضطُرَّ غير باغ ولا
عاد" قال، غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى
حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.
2488- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن الحسن في قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال، غير
باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.
2489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك.
2490- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة،
(1) عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قوله:"فمن اضطر غير
باغ ولا عاد"،"غير باغ" يَبتغيه،"ولا عادٍ": يتعدى على ما
يُمسك نفسه.
2491- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن
يبتغي حرامًا ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: (فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [سورة المؤمنون:
7\ سورة المعارج: 31]
2492- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ" قال، أن يأكل ذلك بَغيًا
وتعديًا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى
بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول:
هذا وهذا واحد!
* * *
وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد
فوق ما لا بُدَّ له منه.
* ذكر من قال ذلك:
2493- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "أبو نميلة"، والصواب بالتاء. مضت ترجمته
برقم: 392، 461.
(3/324)
أسباط، عن السدي:"فمن اضطر غير باغ ولا
عاد". أمَّا"باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما"العادي"، فيتعدى في
أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى
يبلغ به حاجته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن
اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله،
وله عن ترك أكله -بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ
كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ،
وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما =: من خروج هذا على من
خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض، = فغيرُ مبيح لهما
فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما -ما كان حرّم الله عليهما
قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى
محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما
ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى
محارم الله عليهما تحريما، (1) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما
قبل ذلك حرامًا] . فإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطاع
الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله،
والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبةُ من معاصي
الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا،
وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما
تحريمًا". وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما
يقول. و"المحارم": كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم
الله. وانظر التعليق التالي.
(2) هذه الفقرة رد على القول الأول، قول من ذهب إلى أن"الباغي"
هو الخارج على الأئمة، وأن"العادي" هو قاطع الطريق، وأنهما
لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل
مما حرم الله عليه. ولكن العبارة في الأصل فاسدة، لا يكاد يكون
لها معنى. ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه. وهكذا
كانت في الأصل:
[بل ذلك من فعلهما، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما
تحريمًا، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] .
وهو كلام لا يستقيم، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه
سطر كامل فيما أرجح، بين قوله: "من قتل أنفسهما" وقوله: "قبل
ذلك من فعلهما" فبقيت"قبل" وحدها، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن
معنى ما يكتب، فجعل"قبل""بل"، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على
وجه من الوجوه. فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى
شيء مفهوم. وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله: "وإن لم نر
ردهما" بما كتب: "وإن لم يؤدهما"، فخلص إلى كلام ضرب عليه
التخليط ضربًا!
وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي
هو الخارج على الإمام، وإن العادي هو قاطع السبيل.
فالحجة الأولى: أن الباغي والعادي، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا
محرمًا، فإن إتيان هذا الفعل المحرم، لا يجعل قتل أنفسهما
مباحًا لهما، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم
الله عليهما.
والحجة الأخرى: أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه،
فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر. لا يعد عنده
تحريمًا، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو
العدوان. ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما، وإن
كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي
والعدوان، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما، وهو حرام عليهما قبل
البغي والعدوان.
وإذن، فالواجب عليهما أن يتوبا، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة،
فيزدادان إثمًا إلى إثمهما، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي
والعدوان أمر الله.
(3/325)
وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ
باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها
الهلاك -مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في
تأويله، وإن كان للفظه مخالفًا.
فأما توجيه تأويل قوله:"ولا عاد"، ولا آكل منه شبعه، ولكن ما
يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص
الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض
معانيه.
فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء
في كل معانيه المحرّمة.
* * *
وأما تأويل قوله:"فلا إثم عليه"، يقول: من أكل ذلك على الصفة
التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.
* * *
(3/326)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الله غَفور
رحيم"،"إنّ الله غَفورٌ" =إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم
أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في
جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم
أحرمه عليكم = لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من
خطأ وذنب ومعصية، فصافحٌ عنكم، وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم" بكم
إن أطعتموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذينَ يَكتمون ما
أنزل الله من الكتاب"، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ
محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في
التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-
2494- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من
الكتاب" الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم
وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم
وأمره.
2495- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله
من الكتاب ويَشترون
(3/327)
به ثمنًا قليلا) قال: هم أهل الكتاب، كتموا
ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله
عليه وسلم.
2496- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط،
عن السدي:"إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب"، فهؤلاء
اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
2497- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن عكرمة قوله:"إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من
الكتاب"، والتي في"آل عمران" (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [سورة آل
عمران: 77] نزلتا جميعًا في يهود.
* * *
وأما تأويل قوله:"ويَشترون به ثمنًا قليلا"، فإنه يعني:
يبتاعون به."والهاء" التي في"به"، من ذكر"الكتمان". فمعناه:
ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه
وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن
= على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم
الحق في ذلك = اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-
2498- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"ويشترون به ثمنًا قليلا" قال، كتموا اسم محمد صلى
الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.
* * *
وقد بينت فيما مضى صفة"اشترائهم" ذلك، بما أغنى عن إعادته
هاهنا.
* * *
(3/328)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، - هؤلاء الذين
يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم
بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها، فيحرِّفون لذلك آيات الله
ويغيِّرون معانيها ="ما يأكلون في بطونهم" - بأكلهم ما أكلوا
من الرُّشى على ذلك والجعالة، (1) وما أخذوا عليه من الأجر
="إلا النار" - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها، كما
قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] معناه: ما
يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى
بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو
يدخلهم". وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2499- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم
إلا النار"، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال:"ما يأكلون
في بطونهم"؟
قيل: قد تقول العرب:"جُعت في غير بطني، وشَبعتُ في غير بطني"،
فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال:"فعل فُلان هذا نفسُه". وقد
بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى. (2)
__________
(1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط
يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا.
(2) انظر ما سلف 2: 272، وهذا الجزء 3: 159-160.
(3/329)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
وأما قوله:"ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ
القيامة"، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما
يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه
يقول لهم - إذا قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا
تُكَلِّمُونِ) الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108] .
* * *
وأما قوله:"ولا يُزكِّيهم"، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس
ذنوبهم وكفرهم، (1) "ولهم عذاب أليم"، يعني: مُوجع (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا
الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى،
وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب
لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من
ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه.
وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه"اشتروا
الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما
اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 573-574، وهذا الجزء 3: 88.
(2) انظر ما سلف 1: 283. ثم 2: 140، 377، 506، 540.
(3) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.
(4) انظر ما سلف 1: 311-315.
(3/330)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا
أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم
معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك:
2500- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل
الذي يقربهم إلى النار.
2501- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما
أجرأهم عليها.
2502- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله
ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا
مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض
أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم.
2504- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم
وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *
(3/331)
* ذكر من قال ذلك:
2505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على
النار" قال، ما أعملهم بالباطل.
2506- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار".
فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟
أيُّ شيء صبرهم؟ (1)
* ذكر من قال ذلك:
2507- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام.
يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟
2508- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا
ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما
يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟
2509- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم
على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما
أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك
هذا؟
2510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا
الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
* * *
__________
(1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 64.
(3/332)
وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد
جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك:
2511- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم
بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (1)
* * *
فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين
اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم
-بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال
تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس:
17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين
اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار
-والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله
فاعتاضوها منها بدلا؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما
أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم
بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على
الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله
خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك
وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، واشترائهم
بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 2501، 2502.
(2) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 103.
(3/333)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه
التعجب من تقدمهم على ذلك. (1) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم
سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ
بذكر"النار" من ذكر"عذابها"، كما يقال:"ما أشبه سخاءك بحاتم"،
بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،"وما أشبه شَجاعتك بعنترة".
(2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
قال أبو جعفر: أما قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، فإنه
اختلف في المعنيِّ ب"ذلك".
* * *
فقال بعضهم: معنيُّ"ذلك"، فعلُهم هذا الذي يفعلون = من جراءتهم
على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما
أنزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله
عليه وسلم وأمر دينه = من أجل أن الله تبارك تعالى"نزل الكتاب
بالحق"، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ) [سورة البقرة: 6-7] فهم -مع ما أخبر الله عنهم من
أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى
والعذاب بالمغفرة.
__________
(1) قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان
جرئيًا فاقتحم.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 103، أيضًا.
(3/334)
وقال آخرون: معناه:"ذلك" معلومٌ لهم، بأن
الله نزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك
لهم، والكتابُ حَق.
كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب = الذي
قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه = معلومٌ أنه لهم. لأن
الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله
حق، فالخبر عن"ذلك" عندهم مُضمر.
* * *
وقال آخرون: معنى"ذلك"، أن الله وصف أهل النار، فقال:"فما
أصبرهم على النار"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و"هذا" هاهنا
عندهم، هي التي يجوز مكانها"ذلك"، (1) كأنه قال: فعلنا ذلك بأن
الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون"ذلك" -إذا كان
ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى
ذكره أشار بقوله:"ذلك"، إلى جميع ما حواه قوله:"إنّ الذين
يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب"، إلى قوله:"ذلك بأن الله
نزل الكتاب بالحق"، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما
أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته
هؤلاء الأحبارُ من اليهود = بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر
محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض
من الدنيا خسيس -وبخلافهم أمري وطاعتي= وذلك -من تركي تطهيرَهم
وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنزلت
كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.
فيكون في"ذلك" حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع
ب"الباء"، والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق،
فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر"فكفروا به واختلفوا"،
اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 225-227 في بيان"ذلك"، و"هذا".
(3/335)
وأما قوله:"وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب
لفي شقاق بعيد"، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب
الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم
وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه، وكفروا جميعًا
بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا
فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من
الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) [سورة البقرة: 137]
كما:
2512- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يقول: هم
اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ
معنى"الشقاق"، فيما مضى. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 115، 116.
(3/336)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال
بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها، ولكن البرّ الخصال
التي أبينها لكم.
2513- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليسَ البرّ أن تُولوا
وُجُوهكم قِبَل
(3/336)
المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس
البر أن تصلوا ولا تَعملوا، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى
المدينة، ونزلت الفرائض، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض
والعمل بها.
2514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم
قبل المشرق والمغرب"، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة
الله.
2515- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2516- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت بالمدينة:"ليس البر أن
تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس
البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال
مجاهد:"ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب"، يعني
السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
2517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة،
(1) عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها، قال
يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل
من مكة إلى المدينة، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود
بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود
تصلي فتوجِّه قبل المغرب، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق،
فأنزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل
الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "أبو نميلة" بالنون، والصواب ما أثبت. وانظر
الأثر رقم: 2490 والتعليق عليه.
(3/337)
2518- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل
المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تولوا
وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب".
2519- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق
والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"، ذُكر لنا أن
رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه
الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل
فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له
ويطمع له في خير، فأنزل الله:"ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل
المشرق والمغرب". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب، والنصارى
قبل المشرق -"ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر" الآية.
2520- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب،
والنصارى قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل
المشرق والمغرب".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي
قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله:"ليس البر أن
تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، اليهودَ والنصارَى. لأن
الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ
لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها، إذْ كان الأمر
كذلك، -"ليس البر"، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم
وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب،"ولكنّ البر مَنْ آمن
بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب" الآية.
* * *
(3/338)
فإن قال قائل: فكيف قيل:"ولكن البر من آمن
بالله"، وقد علمت أن"البر" فعل، و"مَنْ" اسم، فكيف يكون الفعل
هو الإنسان؟
قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته، وإنما معناه: ولكنّ البرَّ
برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (1) فوضع"مَنْ" موضع الفعل،
اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل
المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي
بها مشهورة، فتقول:"الجود حاتم، والشجاعة عنترة"، و"إنما الجود
حاتم والشجاعة عنترة"، ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني
بذكر"حاتم" إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر"الجود" بعد
الذي قد ذكرته، فتضعه موضع"جوده"، لدلالة الكلام على ما حذفته،
استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (2) كما قيل: (وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [سورة يوسف: 82] والمعنى:
أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! ... وَمَا هي، وَيْبَ
غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3)
يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق] ، (4) كما يقال:"حسبت
صياحي أخاك"، يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله،
فيكون"البر" مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض،
صوابه ما أثبت.
(2) انظر ما سلف: 2: 61، 359 وهذا الجزء 3: 334.
(3) سلف تخريجه في هذا الجزء 3: 103 تعليق: 3.
(4) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(5) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 65، وذكره الفراء في
معاني القرآن 1: 104.
(3/339)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وآتى المالَ على حُبه"،
وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (1)
. كما:-
2521- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال،
سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البكيلي، عن عبد الله
بن مسعود:"وآتَى المالَ على حُبه"، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ
شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (2)
2522- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن
بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا، عن سفيان، عن
زُبيد الياميّ،
__________
(1) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف 1: 574/2: 160، 317.
(2) الخبر: 2521- ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد
الأودي، مضى في: 438، 2030.
ليث: هو ابن أبي سليم، مضى في شرح: 1497.
زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا: هو ابن الحارث بن عبد الكريم
اليامي، وهو ثقة ثبت. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/411، وابن
سعد 6: 216، وابن أبي حاتم 1/2/623.
مرة بن شراحيل: وهو الهمداني الكوفي، من كبار التابعين، كما
مضى توثيقه: 168، وهو مترجم في التهذيب 10: 88-89، والكبير
4/2/5، وابن سعد 6: 79، وابن أبي حاتم 4/1/366. و"البكيلي" -
بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف: نسبه إلى"بكيل"، وهم بطن من
همدان. انظرالاشتقاق لابن دريد، ص: 250، 256، 312، وجمهرة
الأنساب لابن حزم ص: 372-373. وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب
ابن أبي حاتم، وهو الصواب. ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛
وهو تصحيف لا شك فيه، فإن"السكسك": هو ابن أشرس بن كندة. وشتان
بين همدان وكندة، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود، في"زيد بن كهلان
بن سبأ". انظر جمهرة الأنساب، ص: 405، وما قبلها.
(3/340)
عن مرة، عن عبد الله:"وآتى المالَ على
حُبه" قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (1)
2523- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن زبيد اليامي، عن عبد الله أنه قال في هذه
الآية:"وآتى المال على حبه" قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل
الغنى، وتخشى الفقر.
2524- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال،
حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين، عن شعبة بن الحجاج،
عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود
في قول الله:"وآتى المال على حبه ذوي القربى"، قال: حريصًا
شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (2)
__________
(1) الخبر: 2522- عبد الرحمن: هو ابن مهدي الإمام. وسفيان هو
الثوري. فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي. ومن طريق عبد الرزاق
- كلاهما عن سفيان.
والخبر في تفسير عبد الرزاق، ص: 15، وفيه: "وأنت صحيح شحيح"،
بزيادة"شحيح".
(2) الخبر: 2524- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري": لم أجد له
ترجمة. أبو صالح: هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث. الليث: هو
ابن سعد إمام أهل مصر.
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري، نزل مصر: ضعيف: قال البخاري:
"فيه نظر في إسناده". وقال أبو حاتم: "هذا شيخ بصري، ضعيف
الحديث، منكر الحديث وقع إلى مصر". مترجم في التهذيب وفرق بينه
وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة. وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87
ثلاث تراجم. والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة.
وهذه الأسانيد الثلاثة: 2521-2523، لخبر موقوف اللفظ على ابن
مسعود. وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا، إذ مثل هذا لا يعرف
بالرأي. وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا: 2529، 2531. وكذلك
رواه الحاكم 2: 272، من رواية منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن
مسعود، موقوفًا. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم
يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونسبه السيوطي 1: 170-171 لابن
المبارك، ووكيع، وغيرهما. ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن
مسعود، مرفوعًا". وكذلك نقل ابن كثير 1: 388 أن الحاكم رواه
مرفوعًا. ولم أجده مرفوعًا في المستدرك. ثم ذكر ابن كثير
الرواية الموقوفة، وزعم أنها أصح.
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح، عن أبي هريرة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ -
فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا
تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان".
رواه أحمد في المسند: 7159، 7401. ورواه البخاري ومسلم وأبو
داود، كما بينا هناك.
(3/341)
2525- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم
قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي،
سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم!
وتلا هذه الآية:"وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى
والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة
وآتى الزكاة".
2526- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال،
حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي:
إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية:"ليس
البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب" إلى"وآتى المال
على حُبه" إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت:
يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في
قَرَابتك. (1)
2527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك قال،
حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر، عن فاطمة بنت قيس أنها
سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (2)
2528- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي
حيان
__________
(1) الحديث: 2526- سويد بن عمرو الكلبي: ثقة من شيوخ أحمد.
مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/149، وابن أبي حاتم 2/1/239.
أبو حمزة: هو ميمون الأعور القصاب، وهو ضعيف جدًا. مترجم في
التهذيب، والكبير 4/1/343، وابن أبي حاتم 4/1/235-236.
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر. وقد روى قريب من
معناه، بإسناد آخر أشد ضعفًا. فروى الدارقطني في سننه، ص: 205،
من طريق أبي بكر الهذلي، عن شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، عن
فاطمة بنت قيس، قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه
سبعون مثقالا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، خذ منه الفريضة،
فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال". وقال الدارقطني: "أبو
بكر الهذلي: متروك، ولم يأت به غيره". وقد مضى بيان ضعف الهذلي
هذا: 597.
(2) الحديث: 2527- شريك: هو ابن عبد الله بن أبي شريك، النخعي
القاضي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/238، وابن أبي
حاتم 2/1/365-367.
وقوله: "عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعت": يعني النبي صلى الله
عليه وسلم. كما هو ظاهر من سياق القول، ومن الروايات الأخر.
وسيأتي الحديث أيضًا: 2530- وتخريجه هناك، إن شاء الله.
(3/342)
قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا
عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ
بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو، وطُروق
الفحل، والحلَب. (1)
2529- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي، ذكره عن مرة الهمداني في:"وآتى المالَ على
حُبه" قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ،
تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء
واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من
الزكاة.
2530- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد
بن عبد الله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:"في المال حق سوى الزكاة، وتلا هذه
الآية:"ليس البر" إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "عارية الذلول"، وهو خطأ. في حديث عبد الله
مسعود: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم: عارية الدلو والقدر"، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فما حق الإبل؟ قال: تعطى الكريمة،
وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقى اللبن". وفي
حديث عبيد بن عمير قال قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل
-فذكره نحوه- زاد: "وإعارة دلوها". (سنن أبي داود 2: 167، 168
باب حقوق المال) .
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها.
وإطراق الفحل: إعارته للضراب. والحلب (بفتحتين) : اللبن
المحلوب، سمي بمصدره من: حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا.
(2) الحديث: 2530- أسد: هو ابن موسى، الذي يقال له"أسد السنة".
مضى في: 23. سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة. وعندي أنه
خطأ، صواب"شريك بن عبد الله"، الذي مضى في الإسناد السابق:
2527. فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك. ثم ليس في الرواة
-الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له
شأن لا بهذا الإسناد، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر، وهو مترجم في
لسان الميزان.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 2527 بأطول منه قليلا. ورواه أيضًا
الدارمي 1: 385، عن محمد بن الطفيل. والترمذي 2: 22، من طريق
الأسود بن عامر، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل. وابن ماجه:
1789، من طريق يحيى بن آدم. والبيهقي في السنن الكبرى 4: 84،
من طريق شاذان - كلهم عن شريك، بهذا الإسناد، مطولا ومختصرًا.
قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك. أبو ميمون الأعور
يضعف".
وقال البيهقي: "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي،
وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ
الحديث".
ونقل ابن كثير 1: 389-390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن
يحيى بن عبد الحميد. ورواه ابن مردويه، من حديث آدم بن أبي
إياس، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك، ثم ذكر أنه أخرجه
ابن ماجه، والترمذي.
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا، بنقيض معناه. بلفظ: "ليس
في المال حق سوى الزكاة"!
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه. وحاول بعض العلماء
الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه، كما في التلخيص
الحبير للحافظ ابن حجر، ص 177، وشرح الجامع الصغير للمناوي:
7641.
ولكن رواية الطبري الماضية: 2527- وهي من طريق يحيى بن آدم،
التي رواه منها ابن ماجه: تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في
سائر الروايات.
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه، معًا،
ولم يفرق بين روايتهما، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث:
11699، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا.
ويؤيد أيضًا أن البيهقي، بعد أن رواه قال: "والذي يرويه
أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ
فيه إسنادًا. والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره". ولو كان في
ابن ماجه على هذا اللفظ، لما قال ذلك، إن شاء الله.
(3/343)
2531- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
منصور، عن زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله في
قوله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح
شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ
على جمعه، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله:"ذوي القرْبى"، ذوي قرابة مؤدِّي المال
على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أمره فاطمةُ بنت قيس=
2532- وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟
قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 2532- معناه ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في
المسند: 8687 (2: 358 حلبي) : "عن أبي هريرة: أنه قال: يا رسول
الله أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول".
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 28، وقال: "رواه أبو
داود، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط
مسلم".
وروى الحاكم في المستدرك 1: 406، عن أم كلثوم بنت عقبة، قالت:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة على ذي الرحم
الكاشح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم
يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 116، وقال: "رواه الطبراني
في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه.
والكاشح: المبغض: قال ابن الأثير: "العدو الذي يضمر عداوته،
ويطوي عليهما كشحه، أي باطنه".
والكاشح الذي يضمر لك العداوة، كأنه يطويها في كشحه. وهو ما
بين الخاصرة إلى الضلع، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه.
(3/344)
وأما"اليتامى""والمساكين"، فقد بينا
معانيهما فيما مضى. (1)
* * *
وأما"ابن السبيل"، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم
في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
2533- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وابن السبيل" قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال: وكان يَقول: حَق الضيافة
ثلاثُ ليال، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"مسكين" 2: 137، 293، ومعنى: "ذي
القربى"، و"اليتامى" 2: 292.
(2) الحديث: 2533- هو حديث مرسل، يقول قتادة -وهو تابعي-: "قد
ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول. . "، فذكره.
و"سعيد" الذي يروي عن قتادة: هو سعيد بن أبي عروبة. و"يزيد"
الراوي عنه: هو يزيد بن زريع.
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2: 45، من حديث أبي شريح
العدوي الخزاعي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته،
والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ورواه أيضًا
أحمد، وسائر أصحاب الكتب الستة، كما في الفتح الكبير 3: 231.
(3/345)
وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك:
2534- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر،
عن أبي جعفر:"وابن السبيل" قال، المجتاز من أرض إلى أرض.
2535- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة في قوله:"وابن
السبيل" قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.
2536- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عمن ذكره، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر"ابن السبيل"، لملازمته الطريق -والطريق
هو"السبيل"- فقيل لملازمته إياه في سفره:"ابنه"، كما يقال لطير
الماء"ابن الماء" لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه
الدهور"ابن الأيام والليالي والأزمنة"، ومنه قول ذي الرمة:
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى
قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (1)
* * *
__________
(1) ديوابنه: 401، وهو متعلق ببيت قبله: وَمَاءٍ قَدِيمِ
العَهْدِ بالناسِ جنٍ ... كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا
فِيهِ يَبْصُقُ
الآجن المتغير. والدبى: صغار الجراد. والغضى: شجر. كأن الجراد
رعته، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود. والاعتساف: الاقتحام
والسير على غير هدى. والمحلق: العالي المرتفع. وابن الماء: هو
طير الغرانيق، يعرف بالكركي، والإوز العراقي، وهو أبيض الصدر،
أحمر المنقار، أصفر العين. يقول الأقيشر، يصف مجلس شراب:
كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ ... إِذَا
تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ
بَنَاتُ ماءِ، تُرى بيضًا جَاجِئُها ... حُمْرًا مَنَاقِرُهَا،
صُفْرَ الحَمَالِيقِ
والثريا: نجوم كثيرة مجتمعة، سميت بالمفرد. جعلها"على قمة"،
وذلك في جوف الليل، ترى بيضاء زاهرة.
(3/346)
وأما قوله:"والسائلين"، فإنه يعني به:
المستطعمين الطالبين، كما:-
2537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس، عن
حصين، عن عكرمة في قوله:"والسائلين" قال، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله:"وفي الرقاب"، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من
العبودة، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة،
(1) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأقامَ الصلاة"، أدام
العمل بها بحدودها، وبقوله"وآتى الزكاة"، أعطاها على مَا
فَرضها الله عليه. (2)
* * *
__________
(1) العبودة والعبودية واحد، ولا فعل له عند أبي عبيد. وقال
اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم".
(2) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف 1:
572-574، ومواضع أخرى، اطلبها في فهرس اللغة.
(3/347)
فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال
إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك
بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى:"وآتَى المالَ
على حُبه ذَوي القربى"، ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد:"وأقامَ
الصلاةَ وآتى الزكاة"، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين
به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة
التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن
لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى
ذكره قولا لا معنى له، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة،
وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل
أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصَف إيتاء
المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما
وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها
زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك:"وآتى الزكاة"، أن المال الذي
آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم، إذ كان أهلُ
سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله:"والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا"، فإن يعني تعالى
ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفُون
به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-
2538- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا"
قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى
ذمة النبي صلى الله عليه
(3/348)
وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه
وسلم خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت"العهد" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ}
قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل"الصبر" فيما مضى قبل. (2)
فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين
البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من
طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى"البأساء والضراء" بما:-
2539- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (3) قال،
حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا
جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود
أنه قال: أما البأساءُ فالفقر، وأما الضراء فالسقم.
2540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال،
حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة،
عن عبد الله في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال،
البأساء الجوع، والضراء المرضُ.
2541- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
شريك، عن السدي، عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة،
والضراءُ المرضُ.
2542- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة
قال:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 410-415، 557 / ثم هذا الجزء 3: 20.
(2) انظر ما سلف 2: 10-11، 124 / ثم هذا الجزء 3: 214.
(3) في المطبوعة"العبقري"، والصواب ما أثبته، وقد ترجم له فيما
سلف رقم: 1625.
(3/349)
كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر، وأن
الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم
(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
[سورة الأنبياء: 83] .
2543- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال،
البؤس: الفاقة والفقر، والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض
يصيبه في جسده.
2544- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"البأساء والضراء" قال، البأساء:
البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد.
2545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد، عن
الضحاك قال:"البأساء والضراء"، المرض. (1)
2546- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس
والفقر، والضراء: السقم والوجع.
2547- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه
الآية:"والصابرين في البأساء والضراء"، أما البأساء: الفقر،
والضراء: المرض. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال
بعضهم:
__________
(1) الأثر: 2545- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء. وهو
تفسير"البأساء"، وذكر"الضراء" قبل قوله: "المرض"، وسيأتي على
الصواب في الأثر الذي يليه.
(2) الخبر: 2547- عبيد بن الطفيل: كنيته: "أبو سيدان"، بكسر
السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة، كما سيأتي
باسمه وكنيته: 2555. وهو الغطفاني، يروي عنه أيضًا وكيع، وأبو
نعيم الفضل بن دكين، قال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به". وهو
مترجم في التقريب، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409.
(3/350)
"البأساء والضراء"، مصدر جاء على"فعلاء"
ليس له"أفعل" لأنه اسم، كما قد جاء"أفعل" في الأسماء ليس
له"فعلاء"، نحو"أحمد". وقد قالوا في الصفة"أفعل"، ولم يجيء
له"فعلاء"، فقالوا:"أنت من ذلك أوْجل"، ولم يقولوا:"وجلاء".
وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن"البأساء"، البؤس،"والضراء"
الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ، كُلُّهُمْ ...
كَأَحْمَرِ عَادٍ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (1)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ
إجراء"أفعل" في النكرة، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل
على ذلك قوله:"لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (2)
بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم
أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير، ولو
وَقَع
__________
(1) ديوانه: 20، من معلقته الفريدة. وهي من أبياته في صفة
الحرب، التي قال في بدئها، قبل هذا البيت: وَمَا الحَرْبُ
إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا
بِالحَدِيث المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً، ... وتَضْرَ، إذا
ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا ... وَتلْقَحْ
كِشافًا، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
يقول: إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة، فتأتي بتوأمين في بطن.
وقوله: "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود، فأخطأ ولم يبال أيهما قال.
وأحمر ثمود، هو قدار، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا.
يقول: إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن
يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر.
(2) يقال"فلان غير أبعد"، أي لا خير فيه. ويقال: "ما عند فلان
أبعد" أي لا طائل عنده. قال رجل لابنه: "إن غدوت على المربد
ربحت عنا، أو رجعت بغير أبعد"، أي بغير منفعة.
(3/351)
بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي
ب"أفعل" لم يصرف إلى"فُعلى"، ومن سُمي ب"فُعلى" لم يصرف
إلى"أفعل"، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره، ولكنهما
لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر"أشأم"، وإذا وقع"البأساء
والضراء"، (1) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم
يُبن على"الضراء"،"الأضر"، ولا على"الأشأم"،"الشأماء". لأنه لم
يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث، كما
قالوا:"امرأة حسناء"، ولم يقولوا:"رجل أحسن". وقالوا:"رجل
أمرد"، ولم يقولوا:"امرأة مرداء". فإذا قيل:"الخصلة الضراء"
و"الأمر الأشأم"، دل على المصدر، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا،
وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في
تأويل"البأساء والضراء"، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية.
وذلك أن أهل التأويل تأولوا"البأساء" بمعنى: البؤس،"والضراء"
بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم
وجَّهوا"البأساءَ والضراء" إلى أسماء الأفعال، دون صفات
الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب"البأساء والضراء"، على قول
أهل التأويل، أن تكون"البأساء والضراء" أسماء أفعال،
فتكون"البأساء" اسمًا"للبؤس"، و"الضراء" اسمًا"للضر".
* * *
وأما"الصابرين" فنصبٌ، وهو من نعت"مَن" على وجه المدح. (2) لأن
من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم
بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (3) كما قال الشاعر: (4)
__________
(1) يعني: إذا وقع بالتأنيث: وقع بمعنى: الخلة البأساء والخلة
الضراء.
(2) يريد"من" في قوله تعالى: "ولكن البر من آمن. . . "
(3) انظر ما سلف 1: 329.
(4) لم أعرف قائله.
(3/352)
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ
... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1) وَذَا
الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ
وذَاتِ اللُّجُمْ (2)
فنصب"ليث الكتيبة" وذا"الرأي" على المدح، والاسم قبلهما
مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (3)
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت ... عَلَى
كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (4) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ
مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ
عَرِينِ (5)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله: (6) "والصابرين في البأساء"، نصبٌ
عطفًا على"السائلين".
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 105، والإنصاف: 195، وأمالي الشريف
1: 205، وخزانة الأدب 1: 216. والقرم. السيد المعظم المقدم في
المعرفة وتجارب الأمور. والمزدحم: حومة القتال حيث يزدحم
الكماة. يمدحه بالجرأة في القتال.
(2) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم، وصار
المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه. والصليل: صوت الحديد. يعني
بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها.
وذات اللجم: كتيبة من الفرسان. يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه
حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت.
فقوله: "بذات الصليل" متعلق بقوله: "تغم الأمور".
(3) لم أعرف قائلهما.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 106، وأمالي الشريف 1: 206. وقوله:
"تواضعت"، هو عندي"تفاعل" من قولهم: وضع الباني الحجر توضيعًا:
نضد بعضه على بعض. ومنه التوضع: وهو خياطة الجبة بعد وضع
القطن. ومنه أيضًا: وضعت النعامة بيضها: إذا رثدته ووضعت بعضه
فوق بعض، وهو بيض موضع: منضود بعضه على بعض. يقول: ليت السماء
قد انضمت على جميعهم، فكانوا من نجومها. وقوله: "غث منهم
وسمين"، مدح، يعني: ليس فيهم غث، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل
العلاء.
(5) المحل: الجدب والقحط. ورواية الفراء والشريف: "ولزبة".
والأزمة والأزبة واللزبة، بمعنى واحد: وهي شدة السنة والقحط.
وروايتهما أيضًا: "غيوث الحيا". والحيا: الخصب، ويسمى المطر
حيا، لأنه سبب الخصب. والثرى: موضع تأوي إليه الأسود.
(6) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 108، ورده.
(3/353)
كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على
حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل
والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله
يدلّ على خطأ هذا القول، وذلك أنّ"الصابرين في البأساء
والضراء"، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في
الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ
في قوله:"والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين"، وأهل الفاقة
والفقر، هم أهل"البأساء والضراء"، لأن من لم يكن من أهل الضراء
ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا
كان جامعًا إلى ضرائه بأساء، وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل
المسكنة الذين قد دخلوا في جملة"المساكين" الذين قد مضى ذكرهم
قبل قوله:"والصابرين في البأساء". وإذا كان كذلك، ثم
نصب"الصابرين في البأساء" بقوله"وآتى المال على حبه"، كان
الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه
ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك
في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله
واليوم الآخر، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في
البأساء والضراء."والموفون" رفعٌ لأنه من صفة"مَنْ"، و"مَنْ"
رفعٌ، فهو معرب بإعرابه."والصابرين" نصب -وإن كان من صفته- على
وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وحين البأس"، والصابرين
في وقت البأس، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-
2548- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي
قال،
(3/354)
حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد
الله في قول الله:"وحين البأس" قال، حين القتال. (1)
2549- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي،
عن مرة، عن عبد الله مثله.
2550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وحين البأس" القتال.
2551- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة
قوله:"وحين البأس"، أي عندَ مواطن القتال.
2552- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة:"وحين البأس"، القتال.
2553- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع،"وحين البأس"، عند لقاء العدو.
2554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن
الضحاك:"وحين البأس"، القتال
2555- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في
قوله:"وحين البأس" قال، القتال. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 2548- في المطبوعة: "العبقري"، وقد مضى مرارا خطأ،
وصححناه. وانظر ترجمته في رقم: 1625.
(2) الخبران: 2554-2555 أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين.
وأبو أحمد في ثانيهما: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن
الزبير. وباقي الإسناد، مضى في: 2547.
(3/355)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين صدقوا"، من
آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه
الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في
إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل
المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه،
ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هُم المتقون"، فإنه يعني: وأولئك الذين
اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم
يتعدَّوا حدوده. وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله:"أولئك الذين صَدقوا"، كان الربيع بن
أنس يقول:
2556- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"أولئك الذين صدقوا" قال، فتكلموا بكلام
الإيمان، فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن
يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل، فإن لم يكن مع القول
عملٌ فلا شيء.
* * *
(3/356)
|