تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم:
ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وإذ قال إبراهيم) على
قوله: (أو كالذي مرّ على قرية) ، وقوله: (ألم تر إلى الذي حاجّ
إبراهيم في ربه) لأن قوله: (ألم تر) ليس معناه: ألم تر بعينيك،
وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، (1) . فهو
وإن كان لفظه لفظ"الرؤية" فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه
من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف
يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة
قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه
إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى
ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به
خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به.
* ذكر من قال ذلك:
5963 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي
الموتى) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى
على دابة توزعتها الدوابّ والسباع، فقال: (رب أرني كيف تحيي
الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) .
5964 - حدثنا عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد،
__________
(1) انظر معنى"الرؤية" فيما سلف من هذا الجزء 5: 429، والتعليق
عليه رقم: 2.
(5/485)
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (رب أرني
كيف تحيي الموتى) قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي
وتقسَّمته الرياح والسباعُ، فقام ينظر، فقال: (1) . سبحان
الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك
قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) .
5965- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا
هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، (2) .
وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال
والآكام، فوقف وتعجب، (3) . ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها
من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال:
أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
5966 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر
إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في
البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب
البر تأكله، فقال له الخبيث: (4) . يا إبراهيم، متى يجمع الله
هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال:
أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي!
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ
والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: "فقدم ينظر"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) تمزع القوم الشيء: تقاسموا وفرقوه بينهم،. من التمزيع: وهو
التقطيع والتفريق.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فوقف" بالفاء، والأجود حذفها.
(4) الخبيث، يعنى إبليس لعنه الله.
(5/486)
5967 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة،
قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه
ما جرى مما قصَّه الله في"سورة الأنبياء"، قال نمروذ، فيما
يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته،
وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له
إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت!
فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ = ثم ذكر ما قصّ الله من
محاجته إياه = قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي
الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي = من غير
شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك
وتاق إليه قلبه فقال:"ليطمئن قلبي"، أي: ما تاق إليه إذا هو
علمه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان القولان -أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا
المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت
ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا.
* * *
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته
من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة
له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك
لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.
* ذكر من قال ذلك:
5968 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك
الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى
إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره = وكان إبراهيم أغيرَ الناس،
إن خرج أغلق الباب = فلما جاء ووجد في داره رجلا
(5/487)
ثار إليه ليأخذه، (1) . قال: من أذن لك أن
تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم:
صدقت! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت
جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك
الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا
إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم
ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه
لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من
فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاقَ وقد تحول
ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ
الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه، فأرني
كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم
التفت، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، (2)
. في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه
من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه.
فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف
تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك! قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ =
يقول: تصدق = قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. (3) .
__________
(1) في المطبوعة: "فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه
ليأخذه قال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) من العربي المعرق، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا،
كما جاء في الخبر، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد 3 /1
/183) : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله
كلامًا" وكما في الحديث: "خبر النساء صوالح قريش، أحناه على
ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكقول ذي الرمة.
وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا ... وَسَالِفَةً،
وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ.
(3) الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء
وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة.
(5/488)
5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا
أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد
بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. (1) .
* * *
وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء
الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
5970 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: قال
ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. (2) .
5971 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:
حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن
المسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن
يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية
في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (3) .
[الزمر: 53] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول:
إنها، وإن أرجى منها لهذه
__________
(1) الأثر: 5969 -"عمرو بن ثابت بن هرمز البكري" ويقال له:
عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، والأعمش
وغيرهم، روى عنه أبو داود الطيالسي، وسهل بن حماد، ويحيى بن
آدم وغيرهم. قال ابن المبارك: "لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت،
فإنه كان يسب السلف"، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري. وقال
أبو داود في السنن: " رافضي خبيث وكان رجل سوء". مات سنة 172،
مترجم في التهذيب. وأبو: ثابت بن هرمز أبو المقدام.
روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها. وروى عنه ابنه
والثوري وشعبة وغيرهم. كان شيخًا عاليًا صاحب سنة. مترجم في
التهذيب.
(2) الأثر: 5970 -أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335 ونسبه
لعبد الرزاق وابن جرير. وقوله: "أرجي" أفعل تفضيل من"الرجاء"،
وهو الأمل نقيض اليأس.
(3) زدت في أول الآية: "قل" على سنن القراءة.
(5/489)
الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (رب
أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)
. (1) .
5972 - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وإذ قال
إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي) قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس،
فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى) ، قال:
(فخذ أربعةً من الطير) ، ليريه.
5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قالا حدثنا سعيد
بن تليد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: حدثني بكر بن
مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال:
أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحنُ أحق بالشك من
إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال
بلى ولكن ليطمئن قلبي". (2) .
__________
(1) الأثر: 5971 -خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335، ونسبه
لعبد بن حميد، وابن المنذر وابن جرير، والحاكم قال: "وصححه".
وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ 1: 60 من طريق"بشر بن حجر
السامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر
قال: التقى ابن عباس وابن عمرو، فقال له ابن عباس ... " ثم
قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال:
"فيه انقطاع". وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم
يدرك محمد بن المنكدر، فإنه مات سنة 130.
هذا: ومعنى قوله: "أما إن كنت تقول إنها"، فإن في الجملة
حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء، ومعناه: "أما إن كنت
تقول ذلك، إنها لمن أرجى الآيات، وأرجى منها قول إبراهيم.
وحذف خبر"إن" كثير في العربية، من ذلك ما جاء في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم: "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن
الأنصار قد فضلونا، إنهما آوونا، وفعلوا بنا وفعلوا، فقال:
ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: بلى! قال: فإن ذلك". فقوله"فإن
ذلك"، معناه: فإن ذلك مكافأة منكم لهم، أي معرفتكم بصنيعهم
وإحسانهم، مكافأة لهم. قال أبو عبيد: "وهذا اختصار من كلام
العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم ما أراد به قائله"،
انظر أمالي ابن الشجري 1: 322، وغيره.
(2) الأثر: 5973 -"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، لم أجد له
ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"سعيد بن تليد"، هو: "سعيد بن
عيسى بن تليد الرعيني" نسب إلى جده. روى عنه البخاري وروى له
النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري. كان
ثقة ثبتا في الحديث.
وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري". روى عن مالك
الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القاري.
قال ابن يونس: "ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده، عبد الرحمن
بن القاسم، فأحسن الثناء عليه وأطنب" وذكره ابن حبان في الثقات
وقال: "كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وفرع على أصوله،
وذب عنها، ونصر من انتحلها". مترجم في التهذيب. و"عمرو ابن
الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري". روى عن أبيه وسالم بن أبي
النضر، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن
القاسم، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه. روى عنه مجاهد
ابن جبر وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة وبكير بن
الأشج، وهما من شيوخه، ورشدين ابن سعد، وبكر بن مضر وغيرهم.
وهو ثقة. قال أبو حاتم: "كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير
في الحفظ" وقال سعيد بن عفير: "كان أخطب الناس وأرواهم". مترجم
في التهذيب. وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي.
(5/490)
5974 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به
الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله:"نحن أحق بالشك من
إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " =
وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض
من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: (2) .
من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في
البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى
الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل
إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك
عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي
ألقي
__________
(1) الأثر: 5974 -هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، قال:
"حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب" كمثل إسناد الطبري. وبمثل
لفظه في الإسناد السابق. انظر الفتح 8: 150، 151، واستوفى
الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح" كتاب أحاديث
الأنبياء"، من البخاري (الفتح 6: 293، 294) ، وأشار إلى إسناد
ابن جرير السالف. وانظر كلام الحافظ في إسناده.
(2) يعنى الأثر رقم: 5966، والذي قاله الطبري من تمام الأثر
فيما أرجح.
(5/491)
فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه:
(أولم تؤمن) ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟
قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر
الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت.
5975 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. (1)
.
* * *
ومعنى قوله: (ليطمئن قلبي) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.
* * *
وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى
قوله: (ليطمئن قلبي) إلى أنه: ليزداد إيمانًا = أو إلى أنه:
ليوقن. (2) .
* ذكر من قال ذلك: ليوقن = أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. (3) .
5976 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس
بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليوقن. (4) .
5977 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال:
ليزداد يقيني.
5978 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك: (ولكن ليطمئن قلبي) يقول: ليزداد يقينًا.
5979 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: وأراد نبي الله إبراهيم
ليزداد يقينًا إلى يقينه.
5980 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال
معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا.
__________
(1) الأثر: 5975 - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم: 5966.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة،
وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3:
300.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة،
وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3:
300.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة،
وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3:
300.
(5/492)
5981 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: أراد
إبراهيم أن يزداد يقينًا.
5982 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن كثير البصري، قال:
حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير:
(ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني.
5983 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا
سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي)
قال: ليزداد يقينًا.
5984 - حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال:
حدثنا خلف بن خليفة، قال: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد
وإبراهيم في قوله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع
إيماني.
5985 - حدثنا صالح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد
الله العامري، قال: حدثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير
في قول الله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.
* * *
وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: (ليطمئن قلبي)
بأني خليلك. (1) .
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) لأعلم أنك تجيبني إذا
دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثران رقم: 5968، 5969.
(5/493)
5986 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله
بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:
(ليطمئن قلبي) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا
سألتك.
* * *
وأما تأويل قوله: (قال أولم تؤمن) ، فإنه: أولم تصدق؟ (1) .
كما:-
5987 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي.
5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: (أولم تؤمن)
قال: أولم توقن بأني خليلك؟
5989 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ
الطَّيْرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: (فخذ أربعة
من الطير) ، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ، والطاوُوس،
والغرابُ، والحمام.
* ذكر من قال ذلك:
5990 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن
إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ
طاووسا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا.
5991 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"الإيمان" بمعنى التصديق.
(5/494)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأربعة من
الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام.
5992 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج:
(قال فخذ أربعة من الطير) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب،
وطاووس، وحمامة.
5993 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
(قال فخذ أربعة من الطير) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا،
وغرابًا، وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرأة
أهل المدينة والحجاز والبصرة: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم
الصاد من قول القائل:"صُرْت إلى هذا الأمر" (1) . إذا ملت إليه
="أصُورُ صَوَرًا"، ويقال:"إني إليكم لأصْوَر" أي: مشتاق مائل،
ومنه قول الشاعر: (2) .
اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الفِرَاقِ
إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ (3)
وهو جمع"أصْور، وصَوْراء، وصُور، مثل أسود وسوداء" ومنه قول
الطرماح:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "صرت هذا الأمر" بإسقاط"إلى"،
والصواب ما أثبت.
(2) غير معروف قائله، وأنشده الفراء.
(3) اللسان (صور) والخزانة 1: 58، وشرح شواهد المغني: 266
وغيرها كثير، وكان في المطبوعة هنا: "إلى أحبابنا"، وأثبت ما
في المخطوطة. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة: وَأَنَّنِي
حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَوْثُمَا
سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
.
(5/495)
عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا
... هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (1)
يعني بقوله:"أو أن يصورها هوى"، يميلها.
* * *
فمعنى قوله: (فصُرْهن إليك) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما
يقال:"صُرْ وجهك إليّ"، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله:
(فصرهن إليك) إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد
ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ
عنده: قال: (فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك) ، ثم قطعهن، (ثم
اجعل على كل جبل منهن جزءًا) .
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم"الصاد": قطِّعهن،
كما قال توبة بن الحميِّر:
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ ... بِأَطْرَافِ
عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ...
__________
(1) ديوانه: 152، وهو من أبيات جياد، قبله: إِذَا ذُكِرَتْ
سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا ... تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي
الفُؤَادِ وَجِيعُ
وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا ... سَوَاكِنٌ
فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ
قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً ... فَهُنَّ إلى
لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ
عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا ... وَأَجْدَرَ
من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ
قوله: "طفل"، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا.
وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى
وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث،
وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات
مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن
يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به.
فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط
عشقه. وقوله: "أجدر" أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع
النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل.
(5/496)
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى
بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي
يَصُورُهَا (1)
يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: (فصرهن) ، كان في
الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك
فصِرهن = ويكون"إليك" من صلة"خذ".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ" بالكسر،
بمعنى قطعهن.
وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون:"فصُرهن"
ولا"فصرهن" بمعنى قطعهن، في كلام العرب -وأنهم لا يعرفون
كسر"الصاد" وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، = وأنهما جميعًا
لغتان بمعنى"الإمالة" = وأن كسر"الصاد" منها لغة في هذيل
وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم: (2) .
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ ... عَلَى الِّليتِ
قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح (3)
__________
(1) هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير.
والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر، لأن المعنى لا يستقيم على
رواية أبي جعفر: وترتيبها في رواية شعره، مع اختلاف الرواية:
فَنَادَيْتُ لَيْلَى، والحُمُولُ كَأَنَّهَا ... مَوَاقِيرُ
نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها
فَقَالَتْ: أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى ... لِهَيْبَةِ
أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا
فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا ... بِرِفْقِي،
وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ ...
وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
ورواية الطبري"فلما جذبت الحبل" و"بأطراف عبدان"، ليست جيدة،
والأسباب جمع سبب: وهي الحبال، حتى يصعد إليها في خدرها.
وقوله"نهضي" في روايته، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا.
وأط الرحل يئط: سمع صوت عيدانه وصريرها. والنسوع جمع نسع: وهو
سير مضفور تشديد به الرحال. كانت الحبال جديدة فأطت وسمع
صوتها. والأسور جمع أسر: وهو عقد الخلق وقوته. أي أن العيدان
جديدة شديدة القوى. متينة. فذلك أشد لأطيطها.
(2) لا أعرف قائله.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 174. اللسان (صير) الفرع الشعر
التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما
الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه
من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله
فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير
منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة
جيدة محكمة.
(5/497)
يعني بقوله:"يصير"، يميل = وأنّ أهل هذه
اللغة يقولون:"صاروه وهو يصيره صَيرًا"،"وصِرْ وَجهك إليّ"، أي
أمله، كما تقول:"صُره". (1) .
* * *
وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: (فصُرهن) ولا لقراءة
من قرأ:"فصرهن" بضم"الصاد" وكسرها، وجهًا في التقطيع، (2) .
إلا أن يكون"فصِرْ هن إليك"! في قراءة من قرأه بكسر"الصاد" من
المقلوب، وذلك أن تكون"لام" فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان
لامه، فيكون من"صَرَى يصري صَرْيًا"، فإن العرب تقول:"بات
يَصْرِي في حوضه": إذا استقى، ثم قطع واستقى، (3) . ومن ذلك
قول الشاعر: (4) .
صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ ... غَدَا
وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ (5)
"صَرَت"، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: (6) .
يَقُولُونَ: إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ ... فَمَنْ لِي
إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ ... تَعَرَّبَ آبَائِي، فَهَلا
صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي!
? (7)
__________
(1) انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء 1: 174.
(2) أي: بمعنى التقطيع.
(3) هذا بيان جيد، لا تجده في كتب اللغة.
(4) لم أعرف قائله.
(5) اللسان (نعر) (عصا) ، ومعاني القرآن 1: 174 -جوز كل شيء:
وسطه، والدراع: لابس الدرع. والعواصى جمع عاص، يقال: "عرق عاص"
وهو الذي لا يرقأ ولا ينقطع دمه، كأنه يعصى في الانقطاع الذي
يبغي منه ولا يطيع، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف. ونعر
العرق بالدم: إذا فار فورانًا لا يرقأ، كأن له صوتًا من شدة
خروج الدم منه. فهو نعار ونعور.
(6) لم أعرف قائلهما.
(7) معاني القرآن للفراء 1: 174، معجم ما استعجم: 773، اللسان
(عرب) (شأم) .
وتعرب القوم: أقاموا بالبادية، ولم يحضروا القرى. يقول سكن
آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى، فلم يك
ذلك نجاة لهم من المنايا. وقوله: "وجدودي، عطف على"آبائي"،
ورواية البيت في اللسان أجود: تَعَرَّبَ آبائِي، فَهَلاَّ
صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ
وهما موضعان مصحان من أرض العرب.
(5/498)
يعني: قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام
الفعل فجعلت عينا للفعل، وحوّلت عينها فجعلت لامها، فقيل:"صار
يصير"، كما قيل:"عَثِي يَعْثَى عَثًا"، ثم حولت لامها، فجعلت
عينها، فقيل:"عاث يعيث. (1) .
* * *
فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: (فصرهن إليك) سواء معناه إذا
قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع
التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما:"صار يصور"،
والأخرى:"صَار يصير"، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير
الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (2) .
وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُورُ عُنُوقَهَا
أَحْوَى زَنِيمُ (3)
__________
(1) انظر ما سلف من ذلك في 2: 123، 124.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بن حماد"، وهو تصحيف، فإن المراجع
كلها اتفقت على أنه"ابن جمال" بالجيم أو"بني حمال" بالحاء. وهو
ينسب لأوس بن حجر التميمي، ولآخر غيره يقال له: أوس بن حجر كما
ترى في المراجع المذكورة بعد.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وأمالي القالي 2: 52،
والتنبيه: 93، وسمط اللآلي: 685، 686، ثم في لسان العرب (ظأب)
(ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم) ، وفي كتب أخرى،
ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا: يَصُوعُ عُنُوقَهَا
أَحْوَى زَنِيمٌ ... لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ
وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان:
وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُوعُ عُنُوقَهَا
أَحْوَى زَنِيمُ
يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ ... لَهُ ظَأْبٌ كَما
صَخِبَ الغَرِيمُ
الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت
إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى،
السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله: "يصوع" هذه الرواية أخرى
بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء
صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء
صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي
المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد،
يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في
حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى
الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة
الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته
وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي
له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد
سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين
الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه.
(5/499)
بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها = وببيت
خنساء:
*لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* (1)
يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق -وببيت أبي ذؤيب:
فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ
ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ (2)
قالوا: فلقول القائل:"صُرْت الشيء"، معنيان: أملته، وقطعته.
وحكوا سماعًا:"صُرْنا به الحكم": فصلنا به الحكم.
* * *
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وفيه مراجعه. والبيت ليس في
ديوانها.
(2) ديوانه: 12 المفضليات: 873، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 81،
والأضداد للأصمعي وابن السكيت 33، 187. وهذه الرواية التي
رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري" فانصرن"، رواية
غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا
بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى
شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح
الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال
يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى.
وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب:
فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ ... أُولَى
سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ
يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى
يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ
... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد
أخذت عليه مذهبه. ويروى"فانصاع من فزع" أي ذهب في شق. والغبر
الضواري: هي كلاب الصياد، "منها وافيان": كلبان سالما الأذنين.
والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد
الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه.
(5/500)
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن
البصريين =: من أن معنى الضم في"الصاد" من قوله: (فصرهن إليك)
والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا
الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى"إليك" تقديمها قبل"فصرهن"، من أجل
أنها صلة قوله:"فخذ" = (1) . أولى بالصواب من قول الذين حكينا
قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك
وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - (2) . لإجماع أهل
التأويل على أن معنى قوله: (فصرهن) غير خارج من أحد معنيين:
إما"قطِّعهن"، وإما"اضْمُمْهن إليك"، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم.
ففي إجماع جميعهم على ذلك = على غير مراعاة منهم كسر الصاد
وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم
= أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في
ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم
لو كانوا إنما تأولوا قوله: (فصرهن) بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل
الكلام"فاصرهن"، ثم قلبت فقيل:"فصِرْهن" بكسر"الصاد"،
لتحول"ياء"،"فاصرهن" مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان
لا شكّ -مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى
ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز
لمن قلب"فاصِرهن" إلى"فصِرهن" أن يقرأه"فصُرْهن" بضم"الصاد"،
وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد
الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من
قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر"الصاد" بتأويل: التقطيع، مقلوب
من:"صَرِي يَصْرَى" إلى"صار يصير" = وجهل من زعم أن قول
القائل:"صار يصور"، و"صار يصير" غير معروف في كلام العرب
بمعنى: قطع.
* * *
__________
(1) قوله"أولى بالصواب"، خبر قوله: "وهذا القول الذي ذكرناه
... أولى بالصواب ... ".
(2) سياق العبارة: " ... أولى بالصواب ... لإجماع جميع أهل
التأويل ... ".
(5/501)
ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى
ذكره: (فصرهن) أنه بمعنى: فقطّعهن.
5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت،
قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
(فصرهن) قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. (1) .
5995 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:
حدثنا شعبة، عن أبي جَمْرة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:
(فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، قال: إنما هو مثلٌ. قال:
قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا،
ثم ادعهن يأتينك سعيًا. (2) .
5996 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: قطعهن.
5997 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن
أبي مالك في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن.
5998 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا
هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.
5999 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن
__________
(1) الأثر: 5994 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط". قال
ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، وسمعت حجاج ابن الشاعر
يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير. مترجم في التهذيب، وتاريخ
بغداء 9: 52. و"محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي" مضى برقم:
3002. و"أبو كدينة" هو: يحيى بن المهلب البجلى. مضى في رقم
4193 بغير ترجمة. قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة. مترجم
في التهذيب.
(2) الأثر: 5995 -"أبو جمرة" هو: نصر بن عمران بن عصام الضبعي.
روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وعنه شعبة وإبراهيم بن
طهمان وابنه علقمة وغيرها. مترجم في التهذيب.
وقد مضى غير مترجم في رقم: 3250، وسقط في الطبع من اسمه
راء"جمرة". وفي المطبوعة والمخطوطة"أبو حمزة"، وهو خطأ.
(5/502)
جعفر، عن سعيد: (فصرهن) قال: قال جناح ذِه
عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه.
6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: (فصرهن
إليك) قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن.
6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: قطعهن.
6002 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) انتفهن بريشهن
ولحومهن تمزيقًا، (1) ثم اخلط لحومهن بريشهن.
6003 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: انتفهن بريشهن
ولحومهن تمزيقًا. (2)
6004 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة: (فصرهن إليك) أمر نبيُّ الله عليه
السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن
وريشهن ودمائهن.
6005 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فصرهن إليك) قال: فمزقهن.
قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش،"ثم اجعل على
كل جبل منهن جزءًا".
6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال:
أخبرنا
__________
(1) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في
المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة.
وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا
يقارب هذا المعنى.
(2) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في
المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة.
وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا
يقارب هذا المعنى.
(5/503)
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: (فصرهن
إليك) يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية"صرّى"، وهو التشقيق.
6007 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي: (فصرهن إليك) يقول قطعهن.
6008 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن إليك ومزقهن
تمزيقًا.
6009 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فصرهن
إليك) أي قطعهن، وهو"الصَّوْر" في كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله:
(فصرهن إليك) أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحة على صحة ما
قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه.
وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم"الصاد":"فصُرْهن"
إليك أو كسرها"فصِرْهن" إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد.
(1) . غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ
به"فصُرْهن إليك" بضم"الصاد"، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما،
وأكثرهما في إحياء العرب.
* * *
[وأما قول من تأوّل قوله: (فصرهن إليك) بمعنى: اضممهن إليك
ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر
قليل] . (2) .
__________
(1) في المطبوعة: "أن كانت اللغتان معروفتين"، لم يحسن قراءة
المخطوطة، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله.
(2) هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير،
وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص 469 س 3 إلى 7، ولم يعد
ثانية إلى ذكره. وكان مكانه في المطبوعة: "وعند نفر قليل من
أهل التأويل أنها بمعنى: أوثق". وهو تصرف من ناسخ قديم أو
طابع. أما المخطوطة، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده.
"وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل" ذكر من قال
ذلك". والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله. وهذا
دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة
حذره.
(5/504)
* ذكر من قال ذلك:
6010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فصرهن إليك) "صرهن":
أوثِقْهُنّ.
6011 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: (فصرهن إليك) قال: اضممهن
إليك.
6012 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
(فصرهن إليك) قال: اجمعهن.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ثم اجعل على
كل جبل منهن جزءًا) .
فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا
منهن.
* ذكر من قال ذلك:
6013 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن
جزءًا) قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا، وربعًا ههنا،
وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، (ثم ادعهن يأتينك سعيا) . (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي حمزة"، وهو خطأ. انظر ما
سلف من التعليق على الأثر: 5995.
(5/505)
6014 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي،
قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ثم
اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل
على كل جبل منهن جزءًا.
6015 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم
يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل،
فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، (1) وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل
العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى
البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم
دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. (2) .
وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه
الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع
الأرض ونواحيها.
6016 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم
قسّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل
العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى
البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا،
يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول:
كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله
الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
6017 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن
إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ
الأطيار الأربعة، ثم قطَّع
__________
(1) لم أفهم لقوله: "شكل على أجنحتهن" معنى، ولعل فيها تصحيفًا
لم أتبينه، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن. ولم أجد الخبر في
مكان آخر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ويلقي كل طير برأسه"، والصواب
زيادة"إلى".
(5/506)
كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة
أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع
من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم
دعاهن فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، فوثب كل ربع منها
إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم
أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع
الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها،
وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف
ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. (1) .
6018 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
(ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة،
وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش
الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. (2) . فقطعهن وفرقهن
أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما
ناديتهن فجئنَك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا، فكذلك
أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي
كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها
إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف
يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال.
* كر من قال ذلك:
6019 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال = عند رؤيته الدابة
التي تفرقت الطيرُ
__________
(1) في المطبوعة: "بغير ما قال نمرود ... " وفي المخطوطة: "
بعير ما قال" غير منقوطة، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا تفسير
للإشارة في قوله: "حتى عرف ذلك".
(2) الجؤشوش: الصدر. يقال: "مضى جؤشوش من الليل" أي: صدر منه،
مجاز من ذلك.
(5/507)
والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما
سأل = قال: (فخذ أربعة من الطير) = قال ابن جريج: فذبحها = ثم
اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (1) . ثم اجعل على كل جبل
منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة
أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل
قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة
الأخرى، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال،
حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعَيْن، حتى
وصلت رأسها.
6020 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، ثم اجعل على
سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك
سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطّعهن أعضاء، لم يجعل
عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا
مع جناح هذا، وقسَّمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو
إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا.
* * *
وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل.
* ذكر من قال ذلك:
6021 - حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ،
قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا، وكذلك يُحيي الله
الموتى.
6022 - حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن
يأتينك سعيًا، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله
لإبراهيم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ثم خلط ... "، فعل ماض، والصواب
ما أثبت.
(5/508)
6023 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين
قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ثم اجعل على
كل جبل منهن جزءًا) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم (ادعهن) ،
تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله
لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
6024 - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن
وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.
6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ثم اجعل على كل
جبل منهن جزءًا) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن
الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة
بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في
وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن
الله تعالى ذكره قال له: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا)
و"الكل" حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه
الجمع. (1) .
فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله
إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد
معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. (2) .
فإن كانت"بعضًا" فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان
لإبراهيم
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"كل" 3: 195.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو جمعا"، والصواب ما أثبت،
وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة.
(5/509)
السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة
عليه.
= أو يكون"جميعا"، فيكون أيضًا كذلك. (1) .
وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على"كل جبل"،
وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، (2) وإمَّا ما في
الأرض من الجبال.
فأما قول من قال:"إن ذلك أربعة أجبل"، وقول من قال:"هن سبعة"،
فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما
أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة
أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن
وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن
إلى بعض، فيعدن = كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق
أجزائهن على الجبال = أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب
إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث
القيامة، (3) . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من
أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. (4) .
* * *
قال أبو جعفر: و"الجزْء" من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا
جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف
معنى"السهم". لأن"السهم" من الشيء، هو البعض المنقسم عليه
جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم
أنصباءَهم من المواريث:"السهام" دون"الأجزاء". (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "من كل جبل وقد عرفهن ... " في المخطوطة: "
... قد عرفهن" بغير واو. وقد زدت"من أجبل" حتى تستقيم العبارة،
مستظهرًا مما مضى.
(3) في المطبوعة: "أن كذلك يجمع الله ... " وأثبت ما في
المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "قبل الرد"، والصواب من المخطوطة. والردى:
الهلاك.
(5) هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة، فقيدها.
(5/510)
وأما قوله: (ثم ادعهن) فإن معناه ما ذكرت
آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار
بعد تفريقهن على كل جبل:"تعالين بإذن الله".
* * *
فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على
رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن
يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه
بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة
إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل:
إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن
وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين = كقول الله للذين مسخهم
قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)
[البقرة: 65] = لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود
المأمور المتعبَّد.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (260) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (واعلم) يا إبراهيم، أن
الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على
الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل
تفريقكَهُنّ = (عزيز) ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة
والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه، وعصوا رُسله، وعبدوا غيره، وفي
نقمته حتى ينتقم منهم = (حكيم) في أمره.
* * *
6026 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن
إسحاق: (واعلم أن الله عزيز حكيم) ، قال: عزيز في بطشه، حكيم
في أمره.
(5/511)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
6027 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (واعلم أن الله عزيز)
في نقمته = (حكيم) في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ}
قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245] والآياتُ التي بعدها
إلى قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) ، من قصص
بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي
حاجّ إبراهيم مع إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية
على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه
قبل = (1) . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم
بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون
بالبعث وقيام الساعة = وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد
في سبيله الذي أمرهم به في قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:
244] ، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم،
ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من
ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من
الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم = وقطعًا منه
ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم، بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم،
__________
(1) سياق الجملة: "والآيات التي بعدها ... اعتراض من الله
تعالى ... " مبتدأ وخبره.
(5/512)
ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم
يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم
من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق، = وإعذارًا منه به
إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله
عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلَّهما
بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على
عروشها.
ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن (الذي يقرض الله قرضًا حسنًا)
وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: (مثل الذين ينفقون
أموالهم في سبيل الله) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم
على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم = (كمثل حبة)
من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الأرض التي
تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (1) . ="فأنبتت"، يعني:
فأخرجت = (سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة) ، يقول: فكذلك
المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على
الواحد من نفقته. كما: -
6028 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مائة حبة) فهذا لمن أنفق في سبيل الله، فله أجره سبعمائة. (2)
.
6029 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت
سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) ، قال:
هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.
__________
(1) في المطبوعة: "تسنبل سنبلة بذرها زارع"، وضع"سنبلة"
مكان"ريعها"، ظنها محرفة.
وريع البذر: فضل ما يخرج من البزر على أصله. وهو من"الريع"
بمعنى النماء والزيادة. والمعنى: تسنبل أضعافها زيادة وكثرة.
(2) في المطبوعة: "فله سبع مائة" بحذف"أجره"، وفي
المخطوطة: "فله سبعمائة" بياض بين الكلمتين، وأتممت العبارة من
الدر المنثور 1: 336، وفيه: "فله أجره سبعمائة مرة".
(5/513)
6030 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في
سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)
الآية، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة،
ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولم يلق وجهًا
إلا بإذنه، (1) . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بايع على
الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو
بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ (2) .
قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك، (3) . وإلا فجائز أن يكون
معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إنْ
جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي
بذرت أنبتت مائة حبة = فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من
المائة الحبة، مضافًا إليها،
__________
(1) في المخطوطة: "لم يلف وجها"، والذي في المطبوعة لا بأس به،
وإن كنت في شك منه.
وفي الدر المنثور 1: 336"لم يذهب وجها".
(2) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال، وهو أول تعليق
أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها، وهو مغربي كما سيتبين
مما كتب، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش، فاجتهدت في
قراءتها:
"أقول: بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد، وأكثر منه. فإن
سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر. ولقد
عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا، وشاهدت من ذلك
مرارًا. فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك ... ، كان أقل ما
عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت
أولًا من العدد. كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي"
ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير.
(3) في المخطوطة: "قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك"، وهو
خطأ ولا شك، وما في المطبوعة جيد في السياق.
(5/514)
لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا
الوجه بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6031 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل
الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ، قال:
كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لمن أنفق في سبيل الله =:
(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (والله يضاعف
لمن يشاء) . فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ
حسناته = بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق
في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله، فلا
ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (1) .
* ذكر من قال ذلك:
6032 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك، قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله -يعني
السبعمائة-
__________
(1) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة: "والله يضاعف لمن يشاء
من عباده أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من
التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما
وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". وقد غيروا ما كان في
المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه: "والله يضاعف لمن يشاء
أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة
سبعمائة. فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة
بالواحدة". ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد، أن الصواب غير
ما في المطبوعة، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا، أتممته بما
يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء، كما يتبين من كلام أبي جعفر
فيما بعد.
(5/515)
(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) ،
يعني لغير المنفق في سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في
سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن
عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: (والله يضاعف لمن
يشاء) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن
يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف
لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره
في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [العمل في غير
سبيله، أو] على غير النفقة في سبيل الله. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (والله واسع) ، أن يزيد
من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي
وعده أن يزيده = (2) . (عليم) من يستحق منهم الزيادة، كما: -
6033 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) قال: (واسع) أن
يزيد من سعته = (عليم) ، عالم بمن يزيده.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام
والتركيب.
(2) انظر تفسير"واسع" و"عليم" فيما سلف 2: 537، وانظر فهارس
اللغة أيضًا.
(5/516)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا
أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(262)
وقال آخرون: معنى ذلك: (والله واسع) ، لتلك
الأضعاف = (عليم) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين
في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى
ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي
حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، (1) . ثم لم يتْبع نفقته التي
أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم.
فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله
وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا، ويبدي
ذلك إما بلسان أو فعل. وأما"الأذى" فهو شكايته إياهم بسبب ما
أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا
بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به
من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجبَ الأجر لمن كان
غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة
التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده.
(2) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه
لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا
صَنيعة يستحق بها
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/
وسياق الجمل بعده بالإفراد، وهو غير جائز.
(2) في المطبوعة: "مما ابتغى به"، والصواب ما في المخطوطة.
(5/517)
عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى،
إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ
مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6034 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما
أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم) ، (1) . علم الله أن
أناسًا يمنون بعطيَّتهم، فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: (قَوْلٌ
مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا
أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) . (2) .
6035 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال
للآخرين = يعني: قال الله للآخرين، وهم الذين لا يخرجون في
جهاد عدوهم =: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا
يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) ، قال: فشرَط عليهم. قال:
والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج،
الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: (مثل الذين ينفقون
أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) الآية = قال ابن زيد: وكان أبي
يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل
الله، (3) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه.
قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (4) . قال: وقالت امرأة
لأبي: يا أبا أسامة، تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا،
فإنهم لا يخرجون إلا
__________
(1) أتم الآية في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "قول معروف ومعرفة"، وهو دال على كثرة سهو
الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا.
(3) في المطبوعة: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى
فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم، وهو تصرف فيما كان في
المخطوطة، ونصه: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في
سبيل الله". واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته، وقد أشرت مرارًا
لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته. والذي أثبته أشبه بما دل
عليه سائر قوله.
(4) في المطبوعة: "فهو خير من السلام"، ولا معنى له وفي
المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى، وأظن
الصواب ما أثبت. وذلك أن زيد بن أسلم قال: "فكف عنه سلامك"
فنهاه عن أن يلقي عليه السلام. فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه
أنه: "نهى عن خير الإسلام"، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم
وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص:
"أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟
قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"
فالسلام خير الإسلام، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي.
(5/518)
ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها.
(1) . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك، ولا في أسهمك، فقد
آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا
الفواكه!
6036 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك قوله: (لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى)
قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا
وأذى.
* * *
وأما قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، فإنه يعني للذين ينفقون
أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و"الهاء والميم" في"لهم"
عائدة على"الذين".
* * *
ومعنى قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على
نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله، ثم لم يتبعوها منًّا ولا
أذى. (2) .
* * *
وقوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، (3) . يقول: وهم = مع
ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما
شرطنا = (لا خوف عليهم) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا،
ولا في أهوال القيامة، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها
من عقاب الله = (ولا هم يحزنون) على ما خلفوا وراءهم في
الدنيا. (4) .
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف، وأن يكون
صوابها"وفيها أسهم"، والذي هنا مقبول.
(2) انظر معنى"أجر" فيما سلف 2: 148، 513.
(3) انظر تفسير: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2:
148، 513.
(4) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا، وفي آخره
ما نصه:
"آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء
الله تعالى، القول في تأويل قوله: "قول معروف ومغفرة خير من
صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا"
ثم يبدأ الجزء الخامس، وفي طرته.
" الجزء الخامس من جامع البيان في تأويل القرآن تأليف الشيخ
الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري"
ثم يلي ذلك نص وقف لله تعالى، استغنينا عن إثباته هنا. ثم يفتح
الجزء:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعنْ".
(5/519)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (قول معروف) ، قولٌ
جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (1) .. = (ومغفرة) ، يعني:
وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (2) . = (خير)
عند الله = (من صدقة) يتصدقها عليه = (يتبعها أذى) ، يعني
يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -
6037 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371، 372 / ثم 4: 547،
548 / 5: 7، 44، 76، 93، 173.
(2) انظر تفسير"المغفرة" 2: 109، 110، وفهارس اللغة.
(5/520)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
جويبر، عن الضحاك: (قول معروف ومغفرة خير
من صدقة يتبعها أذى) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله
ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: (غنيّ حليم) فإنه يعني:"والله غني" عما يتصدقون به
= (حليم) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم،
ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (1) .
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -
6038 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال:
حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (الغني) ،
الذي كمل في غناه، و (الحليم) ، الذي قد كمل في حلمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (يا أيها الذين آمنوا) ،
صدّقوا الله ورسوله = (لا تبطلوا صدقاتكم) ، يقول: لا تبطلوا
أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله =
(رئاء الناس) ، وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله
فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه
عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (2) .
وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا
__________
(1) انظر تفسير"حليم" فيما سلف 5: 117.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو مريد به غير الله"، وهو سهو
من الناسخ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير"، وهو نص المعنى.
(5/521)
ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم،
وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو
مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من
التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.
* * *
وأما قوله: (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) ، فإن معناه: ولا
يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته
فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده
في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق، لأن
المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من
أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي
هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به
حمد الناس عليه. (1) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن
أفعاله كلها إنما هي للشيطان (2) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا
لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6039 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ
الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا
يزني ولا يَغُلّ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن
الرجل ليخرج، (3) . فإذا أصابه من
__________
(1) في المطبوعة: "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه"،
وهو تصرف من الطابع، وفي المخطوطة: "وفي الباطن مربيه عامله
مراد به حمد الناس عليه"، وهي غير مفهومة المعنى، وبين أنه قد
سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله"، وهو إشارة إلى ما
مر في تفسيره قبل من قوله: "فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب
بالله تعالى ذكره واليوم الآخر". فاستظهرت أن الصواب
زيادة"سريرة"، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله.
(2) أخال عليه الأمر يخيل: أشكل عليه واستبهم. وسياق الجملة
بعد ذلك: "إنما هي للشيطان لا لله".
(3) في المطبوعة: "قال: فإن الرجل"، وفي المخطوطة: "فإن إن
الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت.
(5/522)
بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن
إمامَه ولعَن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا
عليه، وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى.
فقد ضرب الله مثلها في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا
صَدقاتكم بالمنّ والأذى) ، حتى ختم الآية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ
عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله
رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و"الهاء" في قوله:
(فمثله) عائدة على"الذي" = (كمثل صفوان) ، و"الصفوان" واحدٌ
وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة"صفوانة"، (2) . بمنزلة"تمرة
وتمر" و"نخلة ونخل". ومن جعله واحدًا، جمعه"صِفْوان، وصُفِيّ،
وصِفِيّ"، (3) . كما قال الشاعر: (4) .
* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (5)
__________
(1) الأثر: 6039 -"أبو هانئ الخولاني": هو: حميد بن هانئ
المصري من ثفات التابعين، روى عن عمرو بن حريث وغيره. وروى عنه
الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142.
و"عمرو بن حريث"، هو الذي يروي عنه أهل الشام، وهو غير"عمرو بن
حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي. وانظر ترجمته في
التهذيب 8: 18.
(2) في المطبوعة: "واحد وجمع، فمن جعله جمعا"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في تفسير"الصفا" 3: 224، 225، وقوله: جمعه
صفوان" يعنى: بكسر الصاد وسكون الفاء، وهو قول الكسائي، وقد
تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه. انظر القرطبي 3: 313، وتفسير أبي
حيان 2: 302، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم.
(4) هو الأخيل الطائي.
(5) سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3: 224، وسقط ذكر هذا الموضع في
التخريج السالف فأثبته هناك.
(5/523)
و"الصفوان" هو"الصفا"، وهي الحجارة الملس.
* * *
وقوله: (عليه تراب) ، يعني: على الصفوان ترابٌ = (فأصابه)
يعني: أصاب الصفوان = (وابل) ، وهو المطر الشديد العظيم، كما
قال أمرؤ القيس:
سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ ... سَاقِطُ الأكْنَافِ
وَاهٍ مُنْهَمِرُ (1)
يقال منه:"وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا"، وقد:"وُبلت الأرض
فهي تُوبَل".
* * *
وقوله: (فتركه صلدًا) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.
و"الصلد" من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا
غيره، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس،
(2) . كما قال رؤبة:
لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ ... بَرَّاقَ أَصْلادِ
الجَبِينِ الأجْلَهِ (3)
__________
(1) ديوانه: 90، وطبقات فحول الشعراء: 79، وغيرهما كثير. وهو
من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها: دِيَمةٌ هَطْلاَءُ
فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ
ثم قال بعد قليل: "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة، "ثم انتحاها" أي
قصدها، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق. و"ساقط
الأكناف"، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم
على الشجراء. "منهمر": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح
الطبقات.
(2) هذا البيان عن معاني"صلد"، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة.
(3) ديوانه: 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1:
123، 309، 310 /2: 222، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي
ذكرها في أول الشعر و"خلق": بال. و"المموه" يقال:: وجه مموه"
أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله"خلق المموه"،
بحذف"الوجه" الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. "أصلاد
الجبين"، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء
لا نبات عليها. و"الأجله". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي
جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: *
بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ *
فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان،
وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي
وصف نفسه! ! .
(5/524)
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة
الغلي:"قِدْرٌ صَلود"،"وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول
تأبط شرًّا:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ ... وَلا بِصَفًا
صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (1)
* * *
ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ
لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه
تراب، (2) . فأصابه الوابلُ من المطر، فذهب بما عليه من
التراب، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون
في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان -
بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله،
اضمحلّ ذلك كله، لأنه لم يكن لله،
__________
(1) اللسان (جلب) (عزل) ، وغيرهما. ولم أجد القصيدة، ولكني
وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ ... وَلاَ بِصَفًا
صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ
ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل"، والظاهر أن
المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في
المخطوطة، ولكنى أثبت رواية المخطوطة، فإنها لا تغير وهي سليمة
المعاني.
الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض
تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء
فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة
(بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد، يقول: لست امرءًا
خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل
المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية
اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله:
"أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا
الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل"، فهو من صميم مادة اللغة،
وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما
قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن
الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما
قالوا: "رجل عدل"، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به،
مصدر ميمي من"قنع"، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده
واحفظه.
(2) في المخطوطة: "عليه ثواب"، وهو تصحيف غث، ولكنه دليل على
شدة إهمال الناسخ وعجلته.
(5/525)
كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على
الصفوان من التراب، فتركه أملسَ لا شيء عليه
= فذلك قوله: (لا يقدرون) ، يعني به: الذين ينفقون أموالهم
رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا
يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم
لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم
عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما
أرادوه وطلبوه بها.
* * *
ثم أخبر تعالى ذكره أنه (لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: لا
يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم
للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (1) .
فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا
المثل صفةُ أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من
تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي
أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند
الله. (2) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6040 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)
فقرأ حتى بلغ: (على شيء مما كسبوا) ، فهذا مثل ضربه الله
لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا
يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس
__________
(1) في المخطوطة: "ولكنه تركهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر"، وهو دليل
على ما أسلفت من عجلته.
(5/526)
عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (1) .
6041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) إلى
قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، هذا مثل ضربه الله
لأعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شيء مما
كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.
6042 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى قوله: (على شيء
مما كسبوا) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب
ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (2)
. ذهب الرياءُ بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا
فتركه نقيًّا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم.
فقال للمؤمنين: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) فتبطل كما
بطلت صَدقة الرياء.
6043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن
ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق
ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما
جميعًا: (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) فكذلك
من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.
6044 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين
آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى (كمثل صفوان عليه
تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) ليس عليه شيء، وكذلك المنافق
يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.
6045 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
__________
(1) في المطبوعة: "أنقى ما كان"، حذف"عليه"، كأنه استنكرها،
وهي معرقة في الصواب.
أي: أنقى ما كان عليه من النقاء.
(2) في المطبوعة: "فكذا هذا الذي ينفق"، لا أدرى لم غير ما في
المخطوطة.
(5/527)
قال ابن جريج في قوله: (لا تبطلوا صدقاتكم
بالمن والأذى) قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.
6046 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) ، فقرأ: (يا أيها
الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ: (لا
يقدرون على شيء مما كسبوا) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب
على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا.
وقرأ قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى) ، وقرأ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، فقرأ
حتى بلغ: (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) . [البقرة: 270-272] .
(1) .
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {صَفْوَانٍ}
قد بينا معنى"الصفوان" بما فيه الكفاية، (2) . غير أنا أردنا
ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.
6047 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كمثل صفوان) كمثل
الصفاة.
6048 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك: (كمثل صفوان) والصفوان: الصفا.
6049 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
__________
(1) ما في المخطوطة والمطبوعة: "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم"،
وهو خطأ ظاهر، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها
كما أثبتها.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 523، 524 والمراجع في التعليق عليه.
(5/528)
6050 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما (صفوان) ، فهو الحجر الذي
يسمى"الصَّفاة".
6051 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
مثله.
6052 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: (صفوان) يعني الحجر.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ}
قد مضى البيان عنه. (1) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه:
6053 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: أما وابل: فمطر شديد.
6054 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك: (فأصابه وابل) والوابل: المطر الشديد.
6055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
مثله.
6056 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا}
* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:
6057 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) انظر ما سلف قريبا ص: 524.
(5/529)
السدي: (فتركه صلدًا) يقول نقيًّا.
6058 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال:
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) قال: تركها
نقية ليس عليها شيء.
6059- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (فتركه صلدًا) قال: ليس عليه
شيء.
6060 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا، أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك: (صلدًا) فتركه جردًا.
6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا
معمر، عن قتادة: (، فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
6062 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
* * *
(5/530)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ
اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ومثل الذين ينفقون
أموالهم) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله،
ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله،
وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك
وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ
لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك"
وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت.
(5/530)
= (وتثبيتًا من أنفسهم) يعني بذلك:
وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول
القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه،
وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة:
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى،
وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (1)
* * *
وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد
الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم
في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، (2)
. يقينًا منها بذلك، (3) . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها.
ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: (وتثبيتًا) ،
وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين
أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، (4) . إنما كان عن يقين
منها وتصديق بوعد الله.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
6063 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن
أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: تصديقًا
ويقينًا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 4: 16، وابن سعد 3/ 2 /81، والمختلف
والمؤتلف للآمدي: 126 والاستيعاب 1: 305، وطبقات فحول الشعراء:
188، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي
وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما
سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا
وقال: "وإياك فثبت الله".
(2) في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم ... "، وهو سهو من
الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة:
"فثبتهم ... وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"،
"صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي.
(3) في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة،
والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم
وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري.
لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل.
(4) "إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في
الإنفاق.
(5/531)
6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال،
حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي:
(وتثبيتًا من أنفسهم) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.
6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال:
يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.
6066 - حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن
إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول:
يقينًا من عند أنفسهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) أنهم كانوا
يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
6067 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: يتثبتون
أين يضعون أموالهم.
6068 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن
المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم)
، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
6069 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن
مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا يتثبتون أين
يضعونها.
6070 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن
رفاعة، عن الحسن في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا
يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم.
(5/532)
6071 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال،
حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ:
(ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كان الرجل إذا
همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن،
تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم
تأولوا قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، بمعنى:"وتثبُّتًا"،
فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين
يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من
أنفسهم"; لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"،
(1) . فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل
ثناؤه: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 47] ، من
قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله:
(وتثبيتًا من أنفسهم) ، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع
صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"،
لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس
القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل:
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) [المزمل: 8] ، ولم
يقل:"تبتُّلا".
قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال
فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على
متروك من الكلام الذي منه
__________
(1) في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة،
وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي
كان ... ".
(5/533)
قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل
فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا:
تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت
الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز:
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) [نوح: 17] ،
وقال: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) [آل عمران: 37] ،
و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل
على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم
فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)
كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، (1) .
ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى
المعاني التي صرف إليها قوله: (وتبتَّل إليه تبتيلا) ، وما
أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، احتسابًا من
أنفسهم.
* ذكر من قال ذلك:
6073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: احتسابًا من أنفسهم. (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"،
لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن
يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في
تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس
الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وليس قوله ... كلامًا يجوز" بالنصب، وفي
المخطوطة: "وليس قوله ... كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب
ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق
يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه.
(2) سقط من الترقيم سهوا رقم: 6072.
(5/534)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم،
فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من
تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله
وتصديقًا من أنفسهم بوعده = (كمثل جنة) .
* * *
و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان،
بما فيه الكفاية من إعادته. (1) .
* * *
= (برَبْوة) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل.
وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية
أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا
وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ
جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (2)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 384.
(2) ديوانه: 43، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير 21:
19 (بولاق) ، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين
تقوم: إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً ...
وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ
مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ
جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ
بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلا بِأَحْسَنَ
مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ
ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار:
وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود
الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع
في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض
ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على
الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع
كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه.
مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة
أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف.
واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه
الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف ... بأطيب من صاحبته إذا
قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم.
والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب
يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق.
(5/535)
فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون:
غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
* * *
وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من
القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل
المدينة والحجاز والعراق.
و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل
الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ
-فيما ذكر- ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين:
إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم
بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها
أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به،
دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.
* * *
وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا
هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6074 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كمثل جنة بربوة) ،
قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي.
(5/536)
6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض
المستوية المرتفعة.
6076 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(كمثل جنة بربوة) يقولا بنشز من الأرض.
6077 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك: (كمثل جنة بربوة) والربوة: المكان المرتفع
الذي لا تجري فيه الأنهار، (1) والذي فيه الجِنان.
6078 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله: (بربوة) ، برابية من الأرض.
6079 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: (كمثل جنة بربوة) ، والربوة النشز من الأرض.
6080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج، قال ابن عباس: (كمثل جنه بربوة) ، قال: المكان
المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
* * *
وكان آخرون يقولون: هي المستوية.
* ذكر من قال ذلك:
6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (كمثل جنه بربوة) ، قال: هي
الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (أصابها وابل) فإنه يعني جل ثناؤه:
أصاب
__________
(1) في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في
المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور 1: 339، ولأنه هو
صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر: 6080.
(5/537)
الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من
المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. (1) .
* * *
وقوله: (فآتت أكلها ضعفين) ، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها
ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.
* * *
و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، (2)
. وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل"
بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت
أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر: (3) .
وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ
جُعْتُهَا بِغَرَام (4)
ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك
قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه:
الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته
بغنيمة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: 524.
(2) في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر
الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا.
(3) أبو مضرس النهدي.
(4) حماسة الشجري: 24، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي
التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى ...
سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ
وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ ... رَفِيقِي عَلى
نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي
فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة: "وما أكله
إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"،
وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها
... ". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من
العذاب والشر الدائم.
(5/538)
وأما قوله: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ)
فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: -
6082 - حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:
(فطل) ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
6083 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: أما"الطل"، فالندى.
6084 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(فإن لم يصيبها وابل فطلّ) ، أي طشٌ.
6085 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك: (فطلّ) قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني:
الليّن منه.
6086 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: (فطل) أي طشٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ
ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا
الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله
ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت
نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة
التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا
يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6087 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل) ، يقول: كما
أضعفتُ
(5/539)
ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا
المنفق ضِعفين.
6088 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) ، هذا مثل ضربه الله
لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة
خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ.
6089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة
الله.
6090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله: (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) .
الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (فإن لم يصيبها وابل فطل) وهذا خبرٌ
عن أمر قد مضى؟
قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم
يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول
القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"،
بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. (1) .
ومنه قول الشاعر: (2) .
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ
تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (3)
* * *
__________
(1) هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 178.
(2) زائدة بن صعصعة الفقعسي.
(3) سلف تخريجه وبيانه في 2: 165، 353.
(5/540)
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: (والله بما تعملون) أيها الناس، في
نفقاتكم التي تنفقونها = (بصير) ، لا يخفي عليه منها ولا من
أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ
والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي
عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن
شرًّا فشرًّا.
وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات
التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه
ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن
ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه
بالمرصاد. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ
فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: (2) . (يا أيها الذين آمنوا لا
تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا
يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه
وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) = (أيود أحدكم
أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها
__________
(1) في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع.
(5/541)
من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. (1)
* * *
ومعنى قوله: (أيود أحدكم) ، أيحب أحدكم، (2) . أن تكون له جنة
- يعني بستانًا (3) . = (من نخيل وأعناب تجري من تحتها
الأنهار) ، يعني: من تحت الجنة = (وله فيها من كل الثمرات) ،
و"الهاء" في قوله: (له) عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في:
(فيها) على الجنة، (وأصابه) ، يعني: وأصاب أحدكم = (الكبر وله
ذريه ضعفاء) .
* * *
وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل
ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = (4) . مثلا
لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله،
فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر
- يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = (5) . في حسنه
كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (6)
. من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي
يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا،
يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن
الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة
يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل
ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. (7)
.
* * *
__________
(1) يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة
التي ساقها.
(2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470.
(3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: 535 تعليق: 1، ومراجعه.
(4) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه
الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة:
"وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه
كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(5) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه
الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة:
"وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه
كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(6) وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه
الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة:
"وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه
كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق
الجملة: "كما وصف جل ثناؤه الجنة، ... بأن فيها من كل
الثمرات".
(5/542)
ثم قال جل ثناؤه: (وأصابه الكبر وله ذرية
ضعفاء) ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = (وله ذرية ضعفاء)
صغارٌ أطفال = (1) . (فأصابها) يعني: فأصاب الجنة - (إعصار فيه
نار فاحترقت) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي
فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره،
وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام
عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة
التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.
يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب
بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى
عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، (2) . ولا إقالة من ذنوبه ولا
توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها
عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها
عنه.
* * *
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه
الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: (فمثله كمثل
صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء
مما كسبوا) .
* * *
قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا
أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى
المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى
الصواب قولا فيها السدي.
__________
(1) قد مضت"ذرية" فيما سلف 3: 19، 73، ولم يفسرها. وذلك من
اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في
ترجمته.
(2) لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله
تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت
رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه.
(5/543)
6091 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل
وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه
الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل
آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله
منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة
واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق
هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته
جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. (1) .
فكذلك المنفق رياء.
6092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (أيود أحدكم أن
تكون له جنة من نخيل وأعناب) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى
يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها
بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له
فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها
إعصارٌ فيه نار فاحترقت) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت
جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها
شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.
6093 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6094 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن
عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه،
حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في
نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم
تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل
__________
(1) في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء،
ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور
1: 340، وفي سائر الآثار الأخرى.
(5/544)
فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل
الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه
بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل
الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.
6095 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن
ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له
جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا
صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل
عمل السوء. (1) .
6096 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن
عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة
من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال:
قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء،
يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك!
قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل.
فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان،
فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن
أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. (2) .
__________
(1) الأثر: 6095 -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن
أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر له رواية عن غيره".
روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم
النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح 8:
151 في كلامه عن الأثر: 6096.
(2) الأثر: 6096 -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن
جريج، وأشار الحافظ في الفتح 8: 151، إلى رواية الطبري له من
طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في
المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر
التعليق التالي.
(5/545)
6097 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين،
قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة
يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن
أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب
سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه= إلا أنه
قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل
بالمعاصي. (1) .
6098 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد
الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن
جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا
صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها
الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره،
فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه
النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال
ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع
عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من
أجل صغرهم حتى احترقت.
يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي
شيئًا، (2) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا،
ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، (3) كذلك لا
توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال
__________
(1) الأثر: 6097 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 283، وأشار إليه
الحافظ في الفتح 8: 151 وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم
بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"
ووافقه الذهبي.
(2) في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة
الخط، وهذا صواب قراءتها.
(3) في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في
المطبوعة أشبه بالصواب.
(5/546)
ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو
مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال
مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله،
كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته
وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، (1) وأولاده صغار ولا يغنون عنه
شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.
6099 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها
الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة (2) " كذلك
يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن
الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ)
[سورة العنكبوت: 43] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر
عياله، (3) ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه،
يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون
إليه؟
6100 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ"
إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين
كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال:
وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك
قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ
__________
(1) في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى
الريح الحارة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي
حديث عثمان: "كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم: "رق عظم فلان"، أي
كبر وضعف. والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام، قال الشاعر في
ناقته: خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ ... لم
تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا
.
(5/547)
ما كان إليه؟
6101 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال:
ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل
أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: (1) "أيود أحدكم أن تكون
له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في
شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه
إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله،
ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة،
إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، (2) كما ليس له
قوة فيغرس مثل بستانه، (3) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه،
كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه،
كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف
نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن
عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو
منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها
مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، (4) ولم
يستيقن أنه ملاق ربه. (5) .
__________
(1) في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله: "أيوب"
لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان
أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ
في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما
جاء في الدر المنثور 1: 340، كما سترى بعد.
(2) كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره
فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون
الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض
خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه
السيوطي في الدر المنثور 1: 340، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم.
وابن كثير في التفسير 2: 38، 39.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر
المنثور، وابن كثير.
(4) الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة
فكانت: "من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر
في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله.
ولو استظهرته لقلت: "من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم.
(5) الأثر: 6101 -في الدر المنثور 1: 340، وابن كثير 2: 38،
39، كما أسلفت.
(5/548)
6102 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية،
قال: [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
وأعناب [له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ،
وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، (1) فبعث الله عليها
إعصارًا فيه نار فاحترقت، (2) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته
من الكبر، (3) ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان
إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى
يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان
إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين
ما قدمت لنفسك؟
6103 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم
بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له
جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار
فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها
إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم
إذ يخرُج من صدقته ونفقته، (4) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت
أنهارها وثمارها،
__________
(1) الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة
فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض.
(2) كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو
تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.
(3) في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين.
(4) في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما
جميعًا: "أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها
كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم.
وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات
السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته،
أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها.
(5/549)
وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار
فحرقها.
6104 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل
الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار
فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع
ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا
مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما
يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن
يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما
ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي
عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من
تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين
أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل،
نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها
أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا
معها. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف
به على قوله:"أيود أحدكم"؟
قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو"
مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال،
استجازت العرب أن
__________
(1) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره 3: 318، في رد اختيار ابن
جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي
الاستدلال.
(5/550)
يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن"
(1) فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ
ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن"
بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له
جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل
الثمرات وأصابه الكبر؟ (2) .
فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء:9]
، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا) ؟
قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من
قوم ظرفاء وظراف.
* * *
وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء
كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري:
أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ
فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (3)
* * *
__________
(1) أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع
مع"أن".
(2) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 175، وقد استوفى
الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل 2: 458
/3: 184، 185، والتعليق هناك.
(3) تاريخ الطبري 6: 178، والأغاني 17: 178: وسيأتي في التفسير
15: 53 مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في
المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا
معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني
من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع
بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4:
293 وتعليق: 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها
من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن
الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به
إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس
عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام
المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله
يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى
دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء،
فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد: يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ
وَقَولِي ... راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى
ثم هجا المنذر بن الجارود فقال: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ
أُجَاوِرَ فِيهمُ ... وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ
المُشَقَّرِ
أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ
فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ
فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ... ولا يمنَعُ
الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ
وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم
من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم
بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير.
والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه.
وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع،
فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله:
"أعاصير"!!
قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن
الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا ...
كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!!
فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 298، 299،
والتعليق هناك.
(5/551)
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل
قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ.
* ذكر من قال ذلك:
6105 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن
خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس
في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ.
6106 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ
فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي
تحرق.
(5/552)
6107 - حدثنا أحمد (1) قال: حدثنا أبو
أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن
عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة
التي لا تبقى أحدًا. (2) .
6108 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن
أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"
التي تقتل.
6109 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم
التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.
6110 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال:
ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي
ريح فيها سموم شديدٌ.
6111 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد.
6112 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة.
6113 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه.
6114 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب: "أحمد"،
وهو: "أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في
روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي
رقم: 6109.
(2) في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله:
"في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة
كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى
أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي:
"التي تقتل". فهذا هذا.
(5/553)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
السدي:"إعصار فيه نار فاحترقت" أما الإعصار
فالريح، وأما النار فالسموم.
6115 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"إعصار فيه نار"، يقول: ريح فيها سموم شديد.
* * *
وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد.
* ذكر من قال ذلك:
6116 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إعصار فيه نار
فاحترقت"، فيها صِرٌّ وبرد. (1)
6117 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك:"إعصار فيه نار فاحترقت"، يعني بالإعصار،
ريح فيها بَرْدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 266}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك
وتعالى أمَر النفقة في سبيله، وكيف وجْهُها، وما لكم وما ليس
لكم فعله فيها = كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرّفكم
أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حُججها، إنعامًا منه بذلك
عليكم ="لعلكم تتفكرون"، يقول: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا
وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها،
فتطيعوا الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الصر (بكسر الصاد) . البرد الذي يضرب النبات ويحرقه.
(5/554)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267)
* ذكر من قال ذلك:
6118 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد:"لعلكم تتفكرون" قال: تطيعون.
6119 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون" يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"،
صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه.
* * *
ويعني بقوله:"أنفقوا"، زكُّوا وتصدقوا، كما:-
6120 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول:
تصدَّقوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم= إما
بتجارة، وإما بصناعة= من الذهب والفضة.
ويعني ب"الطيبات"، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها
حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة، الجيادَ منها دون
الرديء، كما:-
(5/555)
6121 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا
محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية:"يا
أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة.
6122 - حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب،
قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
6123 - حدثني حاتم بن بكر الضبّي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن
الحكم، عن جاهد، مثله.
6124 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن
الحكم، عن مجاهد في قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال:
التجارة الحلال.
6125 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل:"أنفقوا من
طيبات ما كسبتم"، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا
تيمموا الخبيث منه تنفقون.
6126 - حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال:
حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت
علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله:"يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة.
6127 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من طيبات ما كسبتم"، قال:
التجارة.
6128 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6129 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"
يقول: من
(5/556)
أطيب أموالكم وأنفَسِه. (1) .
6130 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال:
من هذا الذهب والفضة. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ
مِنَ الأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا
لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير،
وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما:-
6131 - حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر
الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات
الله عليه عن قول الله عز وجل:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"،
قال: يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة.
6132 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال:
النخل.
6133 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: من ثمر
النخل.
__________
(1) الأثر: 6129 -في الدر المنثور 1: 346، وسيأتي الأثر بتمامه
في رقم: 6152 وقوله: "من أطيب أموالكم وأنفسه"، وهو صحيح في
العربية، يعود ضمير المفرد، على الجمع في"أفعل"، وقد مضى ما
قلنا في ذلك التعليق على الأثر: 5968، وإن اختلفت العبارتان
وافترقتا. وانظر همع الهوامع 1: 59.
(2) في المطبوعة: حذف"هذا" لغير شيء!! .
(5/557)
6134 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين،
قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد
قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من
التجارة="ومما أخرجنا لكم من الأرض"، من الثمار.
6135 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: هذا في التمر والحب.
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ولا تيمموا الخبيث"، ولا
تعمدوا، ولا تقصدوا.
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا تؤموا) من"أممت"، (1)
وهذه من"يممت"، (2) والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
* * *
يقال:"تأممت فلانا"، و"تيممته"، و"أممته"، بمعنى: قصدته
وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن (3)
وكما:-
__________
(1) في المطبوعة: "ولا تأمموا"، وكذلك في القرطبي، ولكن أبا
حيان في تفسيره 1: 328 قد نص على أن الطبري حكى قراءة عبد
الله: "ولا تأملوا" من"أمت"، فوافق ما في المخطوطة، فأثبتها
كذلك، وهي الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "تيممت"، وهو سقيم، والصواب ما
أثبت. وأموا المكان ويموه، بمعنى واحد، وهي على البدل، أبدلت
الهمزة ياء، ولذلك كانت في مادة (أمم) من دواوين اللغة، غير
الجوهري.
(3) ديوانه: 16، وسيأتي في التفسير 5: 69 (بولاق) . وهو من
قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي، وهي أول
كلمة قالها له. وقد مضت منها أبيات في 1: 345، 346، /3: 191/5:
390 وامهمه: الفلاة المقفرة البعيدة، لا ماء بها ولا أنيس،
والشزن والشزونة: الغلظ من الأرض.
(5/558)
6136 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا.
6137 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تيمموا" لا تعمدوا.
6138 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
قتادة، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه ب"الخبيث": الرديء، غير الجيد،
يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه،
ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.
* * *
وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف
- (1) في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقة
من تمره.
* ذكر من قال ذلك:
6139 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي،
عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول
الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم
ومما أخرجنا لكم من
__________
(1) القنو: الكباسة، وهي العذق التام بشماريخه ورطبه، هو في
التمر، بمنزله العنقود من العنب، وجمعه: أقناء. والحشف: هو من
التمر ما لم ينو، فإذا يبس صلب وفسد، لا طعم له ولا لحاء ولا
حلاوة.
(5/559)
الأرض" إلى قوله:"والله غني حميد"، قال:
نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت
من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين
منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن
أن ذلك جائز.
فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون"، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. (1) .
6140 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، زعم
السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه= إلا أنه قال:
فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف= ويظن أنه جائز عنه= في كثرة
ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون"، القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. (2) .
6141 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن
السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في
الصدقة بأردإ
__________
(1) الأثر: 6139 -الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، مضى في رقم
1625: 1883، وهو لين يتكلمون فيه. وأبوة: عمرو بن محمد، ثقة
جائز الحديث. أخرجه الحاكم في المستدرك،: 2: 285 من طريق عمرو
بن طلحة القناد، عن أسباط بن نصر، وقال: "هذا حديث غريب صحيح
على شرطه مسلم، ولم يخرجاه"، وافقه الذهبى. وذكره ابن كثير في
تفسير 2: 40، 41 ونسبه للحاكم، وأنه قال: "صحيح على شرط
البخاري ومسلم ولم يخرجاه" فاختلف نص كلام الحاكم.
وسيأتي تمامه برقم: 6159، 6167.
قوله: "جذاذ النخل"بالذال هنا وفي المستدرك. وجذ النخل جذاذا،
صرمه. والأشهر فيه بالدال المهملة: "جد النخل يجده جدادا"،
صرمه وقطف ثمره. والحيطان جمع حائط: وهو بستان النخل يكون عليه
حائط، فإذا لم يكن عليه حائط. فهو ضاحية.
وقوله: "أقناء البسر" الأقناء جمع قنو، وقد سلف في التعليق
الماضي. والبسر: التمر قبل أن يرطب، سمى كذلك لغضاضته، واحدته
بسرة، ثم هو بعد البسر، رطب، ثم تمر.
(2) الأثر: 6140 -هذا إسناد آخر للخبر السالف وسيأتي تمامه
برقم: 6160 وحشف التمر: صار حشفا. وقد مضى تفسيره في التعليق
ص: 559 رقم: 1. وقوله: "جائز عنه"، أي سائغ مجزي عنه من قولهم:
"جاز جوازا"، وأجاز له الشيء وجوزه: إذا سوغ له ما صنعه
وأمضاه. وهو تعبير نادر لم تقيده كتب اللغة، ولكنه عربي معرق.
(5/560)
تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت:"يا أيها الذين
آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية. (1) .
6142 - حدثني عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو
بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا
عن قول الله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم
ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال:
فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد
إلى التمر فيصرمه، (2) فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب
الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون".
6143 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل
بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل
بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون" قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. (3) .
__________
(1) الأثر: 6141 -رواه البيهقي في السنن 4: 136 من طريق أبي
حذيفة، عن سفيان، عن السدي بغير هذا اللفظ، وأتم منه.
(2) صرم النخل والشجر يصرمه صرما وصراما: قطع ثمرها واجتناها،
مثل الجذاذ والجداد فيما سلف في التعليقات ص: 560.
(3) الأثر: 6143 -عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أبو مالك
المصري. روي عن الزهري، ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني، وروى
عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وموسى بن سلمة، وابن وهب،
وغيرهم من المصريين. قال النسائي، "ليس به بأس"، وذكره ابن
حبان في الثقات. مات سنة 148، مترجم في التهذيب. وهذا الأثر
روته النسائي، عن يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين، عن ابن
وهب، عن عبد الجليلي بن حميد، في السنن 5: 43، وآخره" ... أن
تؤخذ الصدقة الرذالة". وروي من طرق أخرى في سنن أبي داود 2:
149 رقم: 1607، والحاكم في المستدرك 2: 284 من طريق سفيان ابن
حسين عن الزهري، ومن طريق سليمان بن كثير عن الزهري وقال:
"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، والبيهقي في
السنن 4: 136، وانظر تفسير ابن كثير 2: 42، 43.
الجعرور (بضم الجيم) . ضرب من التمر صغار لا خير فيه. واللون:
نوع من النخل، قيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله ما خلا البرني
والعجوة، تسميه أهل المدينة"الألوان". وابن حبيق: رجل نسب إليه
هذا النخل الرديء، فقيل: لون الحبيق. وتمره رديء أغبر صغير، مع
طول فيه.
(5/561)
6144 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تيمموا الخبيث
منه تنفقون"، قال: كانوا يتصدقون - يعني من النخل- بحشفه
وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.
6145 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى
قوله:"واعلموا أن الله غني حميد"، ذكر لنا أن الرجل كان يكون
له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى
أردئهما تمرا فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك
عليهم ونهاهم عنه.
6146 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون"، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، (1) ولست بآخذه
إلا أن تغمض فيه.
6147 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم،
عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت:"ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون".
6148 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا
يقول:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: في الأقناء التي
تعلق، (2) فرأى فيها حشفا، فقال:
__________
(1) رذالة كل شيء: أردؤه حين ينتقى جيده، ويبقي رديئه. وهو من
رذالة الناس ورذالهم. (بضم الراء فيها جميعا) .
(2) قوله: "التي تعلق" مكانها بياض في المخطوطة. وقوله بعد:
"فرأى فيها حشفا"، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5/562)
ما هذا؟ = قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول:
علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنزلت:"ولا
تيمموا الخبيث منه تنفقون".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه
تنفقون، (1) .
وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.
* ذكر من قال ذلك:
6149 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد -
وسألته عن قول الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، -
قال: الخبيث: الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا
يقبله.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا
[عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [لصحة إسناده] ،
واتفاق أهل التأويل في ذلك= (2)
دون الذي قاله ابن زيد. (3) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في
حقوقكم، و"الهاء" في قوله:"بآخذيه" من ذكر الخبيث="إلا أن
تغمضوا فيه"، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض
الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه تنفقون"، وهو خطأ بين.
(2) الزيادة بين الأقواس لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (عنه)
ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.
أما الزيادة الثانية، فمكانها بياض في المخطوطة، فأغفله الطابع
وساق الكلام سياقا واحدا
(3) في المخطوطة: "قاله ابن" وبعد ذلك بياض. والذي في المطبوعة
هو الصواب.
(5/563)
يقال منه:"أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو
يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب
حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
6150 - حدثنا عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو
بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه
فقال:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: ولا يأخذ أحدكم
هذا الرديء حتى يهضم له.
6151 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن
السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن
تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه،
إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. (2) .
__________
(1) ديوانه: 86، من قصيدة مجد فيها قومه، وقبله:: إننا معشر
شمائلنا الصبر، ... إذا الخوف مال بالأحفاض
نصر للذليل في ندوة الحي، ... مرائيب للثأي المنهاض
من يرم جمعهم يجدهم مر ... اجيح حماة للعزل الأحراض
الأحفاض: الإبل الصغار الضعاف، ويعنى الضعاف من الناس، لا
يصبرون في حرب. مرائيب: من الرأب، وهو الإصلاح، مصلحون.
والثأى: الفساد. والمنهاض: الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح
إلا بمشقة. مراجيح: حلماء لا يستخفهم شيء. والأحراض: الضعاف
الذين لا يقاتلون. والإغماض: التغاضي والمساهلة. يقول نحن أهل
بأس وسطوة، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا، ولسنا كأقوام
يرضون بالضيم، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم.
(2) الأثر: 6151 -هو من تمام الأثر: 6141.
(5/564)
6152 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله،
قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو
كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب
الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله:"إلا أن تغمضوا فيه"، فكيف ترضون
لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟
(1) .
وهو قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ) . [سورة آل عمران: 92] .
6153 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال:
لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في
الكيل.
6154 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال:
حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، وذلك أن
رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف
في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه، لم يأخذه
إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
6155 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لك
على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه
إلا وأنت له كاره؟
6156 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا
جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم"
__________
(1) في المطبوعة: "وأنفسها" وأثبت ما في المخطوطة. وهذا الأثر
بنصه وتمامه في الدر المنثور 1: 346، وانظر التعليق على الأثر:
6129، وقوله: "وأنفسه" بضمير الإفراد.
(5/565)
إلى قوله:"إلا أن تغمضوا فيه" قال: كانوا
-حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين بأردإ
طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال:"أنفقوا من طيبات ما
كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"، يقول:"لستم بآخذيه إلا أن
تغمضوا فيه"، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون
حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه= فلا ترضوا لي ما لا
ترضون لأنفسكم= فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا
اشتريتموه من أهله -بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.
* ذكر من قال ذلك:
6157 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن
الحسن:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو وجدتموه في
السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.
6158 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لستم بآخذي هذا
الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي
لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء
منكم ممن أهداه لكم.
* ذكر من قال ذلك:
6159 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي،
عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب:"ولستم
بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا
على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة.
(1) .
__________
(1) الأثر: 6159 -هو تمام الأثر السالف: 6139.
(5/566)
6160 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال:
حدثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه=
إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظا أنه بعث إليك
بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن
تغمضوا من حقكم.
* ذكر من قال ذلك:
6161 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن
معقل:"ولستم بآخذيه"، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم="إلا أن
تغمضوا فيه"، يقول: أغمض لك من حقي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على
ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
* ذكر من قال ذلك:
6162 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
وسألته عن قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" -قال: يقول:
لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم = قال: وفي
كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه" = وهو
يعلم أنه حرام باطل.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن
الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم،
وفرضها عليهم فيها، (2) .
فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم
أمرهم تعالى ذكره أن
__________
(1) الأثر: 6160 -هو تمام الأثر السالف: 6140.
(2) "وفرضها عليهم" أي الزكاة. "فيها": في أموالهم.
(5/567)
يخرجوا من الطيب- وهو الجيد من أموالهم-
الطيب. (1) وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في
أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها.
فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس
لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه
-بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. (2) فكذلك
المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان= مما وجب لهم
في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء= (3) من
الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من
ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت
فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم
فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه
حقهم.
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد،
ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم
الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، (4) ولستم بآخذي الرديء
لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من
شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة
منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في
أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم
الواجبة لكم في أموالهم.
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن
يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب
إليه بأكرم الأموال
__________
(1) قوله: "الطيب" الثانية، مفعول"يخرجوا".
(2) في المطبوعة"أو أحسن"، وهو فاسد كل الفساد. والصواب من
المخطوطة.
(3) سياق الجملة: أن يعطى أهل السهمان ... من الخبيث الرديء
غيره.
(4) في المطبوعة: "وتمنعونهم الواجب ... "، والذي في المخطوطة
صواب، معطوف على: "ولا تيمموا الخبيث".
(5/568)
وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن= فلست أحرم
عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم
نفعا لكثرته، أو لعظم خطره= وأحسن موقعا من المسكين، وممن
أعطيه قربة إلى الله عز وجل= من الجيد، لقلته أو لصغر خطره
وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. (1) .
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
6163 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا
يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين،
قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث
منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: ذلك في
الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6164 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا سلمة بن
علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما
ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6165 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن
سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه"، فقال عبيدة: إنما هذا في
الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير
من التمرة.
__________
(1) سياق هذه الجملة: ربما كان أعم نفعا لكثرته ... وأحسن
موقعا من المسكين ... من الجيد لقلته ...
(5/569)
6166 - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن
إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون" قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا
بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من
التمرة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله
عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، (1) وإنما أمركم بها، وفرضها
في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، (2) .
ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من
حاجة به فيها إليكم.
* * *
ويعني بقوله:"حميد"، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه،
وبسط لهم من فضله. كما:-
6167 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي،
عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في
قوله:"والله غني حميد" عن صدقاتكم. (3) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"غنى"فيما سلف من هذا الجزء 5: 521.
(2) العائل: الفقير. عال الرجل يعيل علية: افتقر.
(3) الأثر: 6167 -هو تمام الأثر السالف: 6139.
(5/570)
الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268)
القول في تأويل قوله: {الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"الشيطان يعدكم"، أيها
الناس- بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم (1) -
أن تفتقروا="ويأمركم بالفحشاء"، يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز
وجل، وترك طاعته= (2) "والله يعدكم مغفرة منه" (3) يعني أن
الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم،
بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي
تتصدقون="وفضلا" يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل
عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. (4) .
كما:-
6168 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال:
حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان:"الشيطان يعدكم الفقر"،
يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه= ويأمركم
بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه"، على هذه المعاصي="وفضلا" في
الرزق.
6169 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة
منه وفضلا"، يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم.
6170 - حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب،
__________
(1) قوله: "بالصدقة ... "، أي بسبب الصدقة، وهي جملة فاصلة،
والسياق"يعدكم ... أن تفتقروا"، كما هو بين.
(2) انظر ما سلف في تفسير"الفحشاء" 3: 302.
(3) انظر تفسير"المغفرة"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 /ثم 5: 164.
(5/571)
عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة:
فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك،
فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله
وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم
قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء". (1)
6171 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان،
قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله،
قال: إن للإنسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة. فاللمة من
الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان إيعاد
بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله:"الشيطان يعدكم الفقر
ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"= قال عمرو:
وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة
الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة
الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. (2) .
6172 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن
السائب، عن أبي الأحوص= أو عن مرة= قال: قال عبد الله: ألا إن
للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق
بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله
يقول: (3) .
"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه
وفضلا والله واسع عليم"، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله
عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. (4) .
__________
(1) الحديث: 6170 -أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الكوفي الحافظ.
سبق توثيقه: 20158.
عطاء بن السائب: مضى في: 158، 4433 أنه تغير في آخر عمره، وأن
من سمع منه قديما فحديثه صحيح. والظاهر من مجموع كلامهم أن
اختلاطه كان حين قدم البصرة. قال أبو حاتم: "في حديث البصريين
عنه تخاليط كثيرة، لأنه قدم عليهم في آخر عمره". وعطاء كوفي،
والراوي عنه هنا أبو الأحوص كوفي أيضًا. فالظاهر أنه سمع منه
قبل الاختلاط.
مرة: هو مرة الطيب، وهو ابن شراحيل الهمداني الكوفي. مضت
ترجمته: 2521.
عبد الله: هو ابن مسعود.
والحديث رواه الترمذي 4: 77 -78، عن هناد -وهو ابن السري، شيخ
الطبري هنا -بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن غريب [وفي بعض
نسخه: حسن صحيح غريب] . وهو حديث أبي الأحوص. لا نعرفه مرفوعا
إلا من حديث أبي الأحوص".
وذكره ابن كثير 2: 44، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة، عن
هناد. ووقع في إسناده هناك تخليط من الناسخين. ثم أشار إلى بعض
رواياته مرفوعا وموقوفا.
وذكر ابن كثير أنه رواه أيضًا النسائي في كتاب التفسير من
سننه، عن هناد بن السري. وأنه رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي
يعلي الموصلي، عن هناد. وكتاب التفسير في النسائي إنما هو في
السنن الكبرى.
وذكره السيوطي 1: 348، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في
الشعب.
وسيأتي بنحوه، موقونا على ابن مسعود: 6171، 6172، 6174، 6176،
من رواية عطاء، عن مرة، عن مسعود. ويأتي موقونا أيضًا: 6173،
من رواية الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود. و: 6175، من
رواية المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن ابن مسعود.
وكأن الترمذي -وتبعه ابن كثير -يريدان الإشارة إلى تعليل هذا
الإسناد المرفوع، برواية الحديث موقوفا. ولكن هذه علة غير
قادحة بعد صحة الإسناد. فإن الرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة.
وأيضًا: فإن هذا الحديث مما يعلم بالرأي، ولا يدخله القياس،
فلا يعلم إلا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم. فالروايات
الموقوفة لفظا، هي مرفوعة حكما.
(2) الحديث: 6171 -الحكم بن بشير بن سلمان: مضت ترجمته في:
1497. ووقع اسم جده في المطبوعة هنا"سليمان"، وهو خطأ.
عمرو: هو ابن قيس الملائي. مضت ترجمته في: 886.
والحديث في معنى ما قبله. وهو هنا موقوف لفظا، ولكنه مرفوع
حكما، كما ذكرنا. ولكن قول عمرو بن قيس في آخره: "وسمعنا في
هذا الحديث أنه كان يقال ... " -يكون بلاغا منقطعا في هذا
الإسناد، وأن كان صحيحا في ذاته بالأسانيد الأخر.
(3) في المطبوعة: "وذلكم بأن الله ... " بزيادة واو، وأثبت ما
في المخطوطة.
(4) الحديث: 6172 -أبو الأحوص -شيخ عطاء بن السائب: هو عوف بن
مالك ابن نضلة، وهو تابعي ثقة معروف، وثقه ابن معين وغيره.
وتردد عطاء بن السائب في أنه عن"أبي الأحوص" هذا، أو عن"مرة
الطيب" -لا يؤثر في صحة الحديث، فأنه انتقال من ثقة إلى ثقة.
ولعله مما أخطأ فيه عطاء، لأن ابن علية بصري، فيكون ممن سمع
منه بعد تغيره. وقد نص على ذلك الدار قطي، كما في ترجمة عطاء
في التهذيب.
ولكن ذكر ابن كثير 2: 44 أنه رواه"مسعر، عن عطاء بن السائب، عن
أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله.
فهذا يثبت حفظ رواية عطاء إياه عن أبي الأحوص أيضًا. لأن مسعر
بن كدام كوفي قديم، من طبقة شعبة والثوري، فهو ممن سمع من عطاء
قبل تغيره.
ولم يشر ابن كثير إلى شيء من الروايات الموقوفة لهذا الحديث،
إلا إلى رواية مسعر وحده. والروايات الموقوفة بين يديه في
الطبري ستة كما ترى.
(5/572)
6173 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"الشيطان يعدكم
الفقر ويأمركم بالفحشاء"، قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة.
فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله؛
ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ
بالله. (1) .
6174 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا حجاج بن المنهال،
قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة
الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة
الملك: إيعاده بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر
وتكذيب بالحق. (2) فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله
عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا
هذه الآية:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم
مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم". (3) .
6175 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن
المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد
الله، بنحوه. (4) .
__________
(1) الحديث: 6173 -وهذا إسناد صحيح آخر للحديث، من وجه آخر،
يؤيد رواية عطاء بن السائب. وهو وإن كان موقوفا لفظا فهو مرفوع
حكما، كما قلنا من قبل.
(2) في المطبوعة: "إيعاد بالخير ... إيعاد بالشر" بغير إضافتها
إلى الضمير. وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. وصواب أيضًا
يقرآا جميعا"ايعادةٌ"، على معنى المرة من"الإيعاد".
(3) الحديث: 6174 -وهذا إسناد صحيح. لأن حماد بن سلمة سمع من
عطاء قبل تغيره، كما نص عليه يعقوب بن سفيان وابن الجارود، في
نقل التهذيب عنهما 7: 207.
(4) الحديث: 6175 -فطر -بكسر الفاء وسكون الطاء المهملة وآخره
راء: هو ابن خليفة الكوفي، وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين،
وغيرهما.
المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي: تابعي ثقة، مضى في: 128.
عامر بن عبدة -بفتح العين المهملة والباء الموحدة -البجلي، أبو
إياس الكوفي: تابعي ثقة، والكني للدولابي 1: 115، والمشتبه
للذهبي، ص: 339.
وهذا إسناد ثالث للحديث صحيح، من وجه آخر، يؤيد روايات عطاء عن
مرة، وأبي الأحوص عن ابن مسعود، ورواية الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود.
(5/574)
6176 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير،
عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن
للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق
وإيعاد بالشر، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق.
فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد
الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر
ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا". (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله واسع" الفضل الذي يعدكم
أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه= (2) "عليم" بنفقاتكم
وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها
عند مقدمكم عليه في آخرتكم.
* * *
__________
(1) الحديث: 6176 -وهذا إسناد حسن، لأن سماع جرير -وهو ابن عبد
الحميد الضبي -من عطاء كان بعد تغيره ولكنه يرتفع إلى درجة
الصحة بالمتابعات السابقة الصحيحة.
(2) انظر تفسير"واسع عليم"فيما سلف 2: 537 /ثم 5: 516.
(5/575)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
(269)
القول في تأويل قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول
والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد
أوتي خيرا كثيرا.
* * *
واختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم،"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي:
القرآن والفقه به.
* ذكر من قال ذلك:
6177 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) ، يعني: المعرفة
بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره،
وحلاله وحرامه، وأمثاله.
6178 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال:
الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن.
6179 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا"، والحكمة: الفقه في القرآن.
6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن
إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن
الحبحاب، عن أبي العالية:
(5/576)
"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"،
قال: الكتاب والفهم به. (1) .
6181 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد
قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء" الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه
القرآن والعلم والفقه.
6182 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحكمة"، الإصابة في القول والفعل.
* ذكر من قال ذلك:
6183 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال:"ومن يؤت
الحكمة"، قال: الإصابة.
6184 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يؤتي الحكمة من
يشاء"، قال: يؤتي إصابته من يشاء.
6185 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال:
الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء.
* * *
__________
(1) الأثر: 6180 -"محمد بن عبد الله الهلالي" هو: محمد بن عبد
الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، أبو مسعود البصري، روي عن جده
عبيد بن عقيل، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو ابن عاصم الكلابى
وغيرهم، وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. قال
النسائي: "لا بأس به". وقال مسلمة: "ثقة". "مسلم بن إبراهيم"
الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري الحافظ. قال ابن معين: "ثقة
مأمون". وكان يقول: "ما أتيت حلالا ولا حراما قط"، وقال أبو
حاتم: "كان لا يحتاج إليه". وكان من المتقنين. مات سنة 222.
"مهدي بن ميمون" الأزدي المعولي. كان ثقة وذكره ابن حبان في
الثقات. مات سنة 171. "شعيب بن الحبحاب" و"المعولي" بكسر الميم
وسكون العين المهملة وفتح الواو.
وكان في المطبوعة: "والفهم فيه". وهي صواب في المعنى، جيد في
العربية وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب جيد.
(5/577)
وقال آخرون: هو العلم بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
6186 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن
زيد:"يؤتي الحكمة من يشاء" العقل في الدين، وقرأ:"ومن يؤت
الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
6187 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
الحكمة: العقل.
6188 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما
الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له.
* * *
وقال آخرون:"الحكمة" الفهم.
* ذكر من قال ذلك:
6190 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن
أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. (1) .
* * *
وقال آخرون: هي الخشية.
* ذكر من قال ذلك:
6191 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن
يؤت الحكمة" الآية، قال:"الحكمة" الخشية، لأن رأس كل شيء خشية
الله. وقرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ) . [سورة فاطر: 28] .
* * *
__________
(1) الأثر: 6190 -"أبو حمزة" هو أبو حمزة الأعور القصاب
الكوفي، وهو صاحب إبراهيم النخعي. قال البخاري: "ليس بذاك".
وقال: "ضعيف ذاهب الحديث". قال أبو موسى: "ما سمعت يحيى ولا
عبد الرحمن يحدثان عن: سفيان، عن أبي حمزة، قط". وقال ابن عدي:
"وأحاديثه خاصة عن إبراهيم، مما لا يتابع عليه". مترجم في
التهذيب.
(5/578)
وقال آخرون: هي النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
6192 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة"، الآية، قال:
الحكمة: هي النبوة.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"الحكمة"- وأنها مأخوذة من"الحكم" وفصل
القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره
في هذا الموضع. (1) .
* * *
وإذا كان ذلك كذلك معناه، (2) كان جميع الأقوال التي قالها
القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك،
لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا
كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره
مفهما خاشيا لله فقيها عالما، (3) .
وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون
لإصابة الصواب في بعض الأمور،"والنبوة" بعض معاني"الحكمة".
* * *
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من
يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الحكمة"فيما سلف 3: 87، 88، 211 /ثم 5: 15، 16،
371.
(2) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك ... " بالفاء، ولا معنى لتغيير
ما هو في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فهما خاشيا ... ". وفي المخطوطة: "ففهما"،
والصواب قراءتها كما أثبت، بدليل معناه الذي أراده، من إدخال
الأنبياء في معنى ذلك، وبدليل قوله بعد: "مفهمون ... ".
(5/579)
القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلا أُولُو الألْبَابِ (269) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في
هذه الآيات = التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به
غيرهم= (1) فيها وفي غيرها من آي كتابه= (2) فيذكر وعده ووعيده
فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به="إلا
أولوا الألباب"، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله
عز وجل أمره ونهيه. (3) .
فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم،
وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بما وعظ به غيرهم"، وهو غير مستقيم تمام
الاستقامة في السياق. وفي المخطوطة: "بما وعظهم به غيرهم"،
والصواب أن تزاد"الواو" قبل"غيرهم"، ليستقيم السياق.
(2) سياق الجملة: "وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات ...
فيذكر وعده ووعيده ... " وما بينهما فصل.
(3) انظر تفسير"الألباب"فيما سلف 3: 383 / 4: 162.
(5/580)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم- يعني أي
صدقة تصدقتم- (1) أو أي نذر نذرتم= يعني"بالنذر"، ما أوجبه
المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة
أو عمل خير="فإن الله يعلمه"،
__________
(1) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555.
(5/580)
أي أن جميع ذلك بعلم الله، (1) لا يعزب عنه
منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها
الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك.
فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا
من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف، ومن كانت نفقته وصدقته
رئاء الناس ونذوره للشيطان، جازاه بالذي أوعده، من العقاب
وأليم العذاب، كالذي:-
6193 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وما أنفقتم من
نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه"، ويحصيه.
6194 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان
فقال:"وما للظالمين من أنصار"، يعني: وما لمن أنفق ماله رئاء
الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته="من
أنصار"، وهم جمع"نصير"، كما"الأشراف" جمع"شريف". (2) ويعني
بقوله:"من أنصار"، من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم
عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية.
* * *
وقد دللنا على أن"الظالم" هو الواضع للشيء في غير موضعه. (3) .
* * *
وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته،
ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه
فيه، فكان ذلك ظلمه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "فإن الله يعلم"، والصواب هنا ما في
المطبوعة. ثم في المطبوعة: "جميع ذلك بعلم الله"، وأثبت الصواب
من المخطوطة.
(2) انظر معنى"النصر" و"النصير" فيما سلف 2: 489، 564.
(3) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 /2: 369، 519/ 4:
584، وغيرها من المواضع، اطلبها في فهرس اللغة.
(5/581)
إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف
قال:"فإن الله يعلمه"، ولم يقل:"يعلمهما"، وقد ذكر النذر
والنفقة.
قيل: إنما قال:"فإن الله يعلمه"، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما
أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن تبدوا الصدقات"، إن
تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه="فنعما هي"، يقول:
فنعم الشيء هي="وإن تخفوها"، يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها=
(2) "وتؤتوها الفقراء"، يعني: وتعطوها الفقراء في السر= (3)
"فهو خير لكم"، يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك
في صدقة التطوع، كما:-
6195 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء
فهو خير لكم"، كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر
أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6196 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي
وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: كل مقبول إذا
كانت النية صادقة،
__________
(1) الكناية، والمكني: هو الضمير، في اصطلاح الكوفيين
والبغداديين وغيرهم.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن تعلنوها"، وهو فاسد السياق،
والصواب ما أثبت،
(3) انظر معنى"الإيتاء"، في مادة "أتى" من فهارس اللغة فيما
سلف.
(5/582)
والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن
الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6197 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، فجعل الله صدقة السر في
التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة:
علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع
الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. (1) .
6198 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن
عثمان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول
في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها
الفقراء فهو خير لكم"، قال: يقول: هو سوى الزكاة. (2) .
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله:"إن تبدوا الصدقات
فنعما هي"، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود
والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم.
قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع،
فإخفاؤه أفضل من علانيته.
* ذكر من قال ذلك:
6199 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن
بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية:
(3) " إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، في الصدقة على اليهود
والنصارى. (4) .
__________
(1) في المطبوعة: "في الأشياء كلها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر 6198 -مضى رجال هذا الإسناد برقم: 5000، 5009، ويأتي
برقم: 6200.
(3) في المطبوعة: "هذه آية" وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(4) الأثر: 6199 -"عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود بن
المعافري"، أبو شريح الاسكندراني. قال أحمد: ثقة: توفي
بالإسكندرية سنة 167، وكانت له عبادة وفضل.
مترجم في التهذيب.
(5/583)
6200 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي،
قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال:
أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة
في السر= قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية= يعني الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما
هي" [شيئا دون شيء] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة
واجبة، (1) فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل
في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين
فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في
أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: (وتكفر عنكم) بالتاء.
ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم.
* * *
وقرأ آخرون: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) بالياء، بمعنى: ويكفر الله
عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، فزدت ما بين
القوسين لتستقيم العبارة بعض الاستقامة، ولا أشك أنه كان في
الكلام سقط من ناسخ، فأتمته بأقل الألفاظ دلالة على المعنى.
وقد مضى كثير من سهو الناسخ في القسم من التفسير، وسيأتي في
هذا القسم من التفسير، وسيأتي بعد قليل دليل على ذلك في رقم:
6209.
(5/584)
وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة
والكوفة والبصرة، (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم= بمعنى: مجازاة
الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي
أخفاها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من
قرأ: (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله
عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من
صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على
موضع"الفاء" في قوله:"فهو خير لكم". لأن"الفاء" هنالك حلت محل
جواب الجزاء.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع"
الفاء"، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن
الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم
تجويزه؟ (1) .
قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من
سيئات المصدق= لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه
به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم، مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو
رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به،
وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين، على
غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد"الفاء" في جواب
الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف
عليه، في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة، اخترنا
جزم"نكفر" عطفا به على موضع
__________
(1) في المطبوعة: "تجويز" بغير إضافة، وأثبت ما في المخطوطة.
(5/585)
الفاء من قوله:"فهو خير لكم" وقراءته
بالنون. (1) .
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من" في قوله:"ونكفر عنكم من
سيئاتكم" قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم
ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله
فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق
فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: معنى"من" الإسقاط من هذا الموضع، (2)
ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(271) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بما تعملون" في
صدقاتكم، من إخفائها، وإعلان وإسرار بها وجهار، (3) وفي غير
ذلك من أعمالكم="خبير" يعني بذلك ذو خبرة وعلم، (4) لا يخفى
عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله، حتى
يوفيهم ثواب جميعه، وجزاء قليله وكثيره.
* * *
__________
(1) هذا من دقيق نظر أبي جعفر في معاني التأويل، ووجوده اختيار
القراءات. ولو قد وصلنا كتابه في القراءات، الذي ذكره في الجزء
الأول: 148، وذكر فيه اختياره من القراءة، والعلل الموجبة صحة
ما اختاره - لجاءنا كتاب لطيف المداخل والمخارج، فيما نستظهر.
(2) "الإسقاط" يعنى به: الزيادة، والحذف، وهو الذي يسمى
أيضًا"صلة"، كما مضى مرارا، واطلبه في فهرس المصطلحات.
(3) في المطبوعة: "وإجهار"، والصواب من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"خبير"فيما سلف 1: 496 /ثم 5: 94.
(5/586)
لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
القول في تأويل قوله عز وجل: {لَيْسَ
عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا
تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
(272) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى
المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها
ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من
يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة،
كما:-
6201 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن
جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق
على المشركين، فنزلت:"وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله"، فتصدق
عليهم.
6202 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن
الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:
كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم
ولكن الله يهدي من يشاء". (1) .
6203 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل،
__________
(1) الأثر: 6202 -"جعفر بن إياس"، هو ابن أبي وحشية اليشكري،
أبو بشر الواسطي. ثقة، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير.
واختلف في سنة وفاته بين سنة 123 وسنة: 131. مترجم في التهذيب.
وروي الأثر ابن كثير في تفسيره 2: 49 عن أبي عبد الرحمن
النسائي بإسناده، وقال: وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك،
وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحضرمي، عن سفيان -وهو الثوري -
به". ولم ينسبه لأبي جعفر، وهذا دليل على ما قدمته في تصدير
الأجزاء السالفة أن ابن كثير وغيره، قد أقلوا النقل عن أبي
جعفر بعد الجزء الأول من تفسيره.
"رضخ له من ماله يرضخ رضخا، ورضخ له من ماله رضيخة": أعطاه
عطية مقاربة، بين القليل والكثير.
(5/587)
عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن
يرضخوا لقراباتهم من المشركين، حتى نزلت:"ليس عليك هداهم ولكن
الله يهدي من يشاء".
6204 - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو
أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من
المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" فرخص
لهم.
6205 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء
وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم،
ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت:"ليس عليك هداهم ... " الآية.
6206 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا: أنتصدق على
من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن:"ليس عليك
هداهم".
6207 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله
يهدي من يشاء"، قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين
الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس
من أهل ديني!! فأنزل الله عز وجل:"ليس عليك هداهم" الآية.
6208 - حدثني موسى، قال: (1) حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الأثر: 6208 -في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد، قال
حدثنا عمرو ... "، والصواب"موسى" وهو موسى بن هارون، عن عمرو
بن حماد" وهو إسناد دائر من أول التفسير. وسيأتي هذا الأثر
نفسه، وتتمته برقم: 6211، وبإسناده على صوابه. وقد مضى بيان
أخي السيد أحمد عن هذا الإسناد في الأثر رقم: 168.
(5/588)
السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي
من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما"ليس عليك هداهم"،
فيعني المشركين، وأما"النفقة" فبين أهلها.
6209 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب
القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا
يتصدقون [على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم.
فنزلت: هذه الآية، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام] .
(1) .
* * *
..........................................................................
..........................................................................
* * *
كما:-
6210 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"، قال: هو مردود عليك، فمالك
ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله،
والله يجزيك. (2) .
* * *
__________
(1) الأثر: 6209 -كان الكلام مبتورا في الموضع من المخطوطة
والمطبوعة، ولكن الناسخ ساقه سياقا واحدا هكذا: "كانوا
يتصدقون، كما حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب ... " وقد أشرت
في ص: 584، التعليق: وغيره من تعليقاتي السالفة، إلى ما وقع
فيه الناسخ من الغفلة والسهو.
وقد زدت ما بين القوسين مما رواه القرطبي في تفسيره 3: 337،
قال روي سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في
سبب نزول هذه الآية: "أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل
الذمة. . . " إلى آخر ما نقلت. فرجحت أن هذا الأثر الساقط من
هذا الموضع، فأثبته بنصه من القرطبي، ولكن بقى صدر الكلام
الآتي مبتورا، فوضعت نقطا مكان هذا البتر.
(2) الأثر: 6210 -ما قبل هذا الأثر بتر لا أستطيع أن أقدر
مبلغه. وأخرج الأثر السيوطي في الدر المنثور 1: 357 -358.
(5/589)
لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
القول في تأويل قوله: {لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) }
قال أبو جعفر: أما قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"،
فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام:
وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في
سبيل الله.
"واللام" التي في"الفقراء" مردودة على موضع"اللام"
في"فلأنفسكم" كأنه قال:"وما تنفقوا من خير" - يعني به: وما
تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما
اعترض في الكلام بقوله:"فلأنفسكم"، فأدخل"الفاء" التي هي جواب
الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله:"للفقراء"، إذ كان الكلام
مفهوما معناه، كما:-
6211 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا
من خير فلأنفسكم"، أما:"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين.
وأما"النفقة" فبين أهلها، فقال:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل
الله". (1) .
* * *
وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم
فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 6211- انظر الأثر السالف رقم: 6208 والتعليق عليه.
(5/590)
6212 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، مهاجري قريش
بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم.
6213 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"
الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة.
6214 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدى:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: فقراء
المهاجرين.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم
عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون
تصرّفًا. (1) .
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى"الإحصار"، تصيير الرجل
المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله،
إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه
الكفاية فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، (3) .
فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) التصرف: الكسب. يقال "فلان يصرف لعياله، ويتصرف لهم،
ويصطرف"، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف: وهو التقلب
والحيلة.
(2) انظر ما سلف 4: 21 -26.
(3) في المخطوطة: "وقال: اختلف أهل التأويل ... ". وهما سواء.
(5/591)
6215 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الذين أحصروا
في سبيل الله"، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو.
6216 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: كانت الأرض
كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا
خرج خرج في كُفر= وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا
البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله
عز وجل:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، كانوا ههنا
في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم
التصرُّف.
* ذكر من قال ذلك:
6217 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، حصرهم
المشركون في المدينة.
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان
الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه"أحصِروا"،
فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى
الحال التي حَبَسوا -وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ
العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.
وإنما يقال لمن حبسه العدوّ:"حصره العدوّ"، وإذا كان الرّجل
المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:"أحصره خوفُ العدّو". (1) .
* * *
__________
(1) انظر تفضيل ذلك فيما سلف 4: 21 -26.
(5/592)
القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في
الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، (1)
فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم.
كما:-
6218 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض" حبسوا
أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً.
6219 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، يعني التجارة.
6220 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد
قوله:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، كان أحدهم لا يستطيع أن
يخرج يبتغي من فَضْل الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك:"يحسبهم الجاهل" بأمرهم
وحالهم="أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في
أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:-
6221 - حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) في المخطوطة: "المكاسر"، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ
وعجلته، كما أسلفت مرارًا كثيرة.
(5/593)
قوله:"يحسبهم الجاهل أغنياء"، يقول: يحسبهم
الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. (1) .
* * *
ويعني بقوله:"منَ التعفف"، من تَرْك مسألة الناس.
* * *
وهو"التفعُّل" من"العفة" عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما
قال رؤبة:
* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (2)
يعني بَرئ وتجنَّبَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"تعرفهم" يا محمد="بسيماهم"،
يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: (سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [سورة الفتح: 29] ، هذه
لغة قريش. ومن العرب من يقول:"بسيمائهم" فيمدها.
وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:"بسيميائهم"; ومن ذلك قول
الشاعر: (3) .
__________
(1) الأثر: 6221 -كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة: "كما
حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ... " أسقط الناسخ من الإسناد"حدثنا
بشر قال"، كما زدته، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه
رقم: 6206.
(2) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في 5: 110، ولم يذكر هناك
مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير، فقيده هناك.
(3) هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه،
فقال القالي في أماليه 1: 237: "أسيد"، وقال الآمدي في المؤلف
والمختلف: 159، وقال المرزباني في معجم الشعراء: "فيس بن بجرة"
(بالجيم) ، أو"عبد قيس بن بجرة"، وفي النقائض: 106"عبد قيس ابن
بحرة" بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء
شرح أماني القالي: 543، وغيره العلامة الراجكوتي"بجرة" بضم
الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة"قيس بن بجرة" وفي
هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في
شرح الكامل 1: 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في
تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك
الإسلام كبيرًا، وأسلم.
(5/594)
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا
... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (1)
* * *
__________
(1) يأتي في التفسير 4: 55 /8: 141 (بولاق) والأغاني 17: 117،
الكامل 1: 14، المؤلف والمختلف، ومعجم الشعراء: 159، 323،
أمالى القالي 1: 237، الحماسة 4: 68، وسمط اللآليء: 543،
وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه.
وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة
ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن
كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال:
ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى
عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من
حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح
ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع
رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما
هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين
وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده: رَآنِي عَلَى مَا بِي
عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا
جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ
لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا
أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ
لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ
الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ
ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ
بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى
رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة. هذا وقد روي الطبري في 8:
141"رماه الله بالحسن إذ رمي". وقال أبو رياش فيما انتقده على
أبي العباس المبرد: "لا يروي بيت ابن عنقاء: "رماه الله بالحسن
... " إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله
بالخير يافعًا".
وقوله: "لا تشق على البصر"، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو
غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها.
(5/595)
وقد اختلف أهل التأويل في"السيما" التي
أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم،
وأنهم يعرفون بها. (1)
فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع.
ذكر من قال ذلك:
6222 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تعرفهم بسيماهم" قال:
التخشُّع.
6223 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6224 - حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع.
* * *
وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في
وجُوههم.
* ذكر من قال ذلك:
6225 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"تعرفهم بسيماهم"، بسيما الفقر عليهم.
6226 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"تعرفهم بسيماهم"، يقول:
تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ
خفيّ.
* ذكر من قال ذلك:
6227 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وصفت صفتهم"، وهو مخالف للسياق،
والصواب ما أثبت، وصف الله صفتهم.
(5/596)
"تعرفهم بسيماهم" قال: السيما: رثاثة
ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون
فيها [أن] تخفى على الناس. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله
عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم
وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك
تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم
وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون
كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون
كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في
الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف.
وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ
آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال
الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في
شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة.
وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله (2) نظير ما
يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قال أبو جعفر: يقال:" قد ألحف السائل في مسألته"، إذا
ألحّ="فهو يُلحف فيها إلحافًا".
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لتستقيم العبارة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "كما وصفهم الله"، والسياق يقتضي
ما أثبت. والمخطوطة التي نقلت عنها، فيما نظن، كل النسخ
المخطوطة التي طبع عنها، مضطربة الخط، كما سلف الدليل على ذلك
مرارًا، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة.
(5/597)
فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون
الناس غيرَ إلحاف؟
قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه
الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، (1) وذلك أن الله عز وجل وصفهم
بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو
كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي
صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة،
وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.
وفي الخبر الذي:-
6228 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة
فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألته!
فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به:"من استعفّ
أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه
شيئًا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ
فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا
فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إلحافا وغير إلحاف"، بالواو، وهو لا يستقيم،
والصواب ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 181، وقد قال:
"ومثله قولك في الكلام: قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم
تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه" وسيأتي بعد، في ص: 599، وفي
اللسان (لحف) ، وذكر الآية: "أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف،
كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة: عَلَى لاَحِبٍ لاَ
يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [إِذَا سَافَهُ العَوْدُ
النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا]
المعنى: "ليس به منار فيهتدى به".
(2) الحديث: 6228 -إسناده صحيح.
هلال بن حصن، أخو بني مرة بن عباد، من بني قيس بن ثعلبة: تابعى
ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، ص: 364، وترجمه البخاري في
الكبير 4 / 2/ 204، وابن أبي حاتم 4 /2/ 73 -فلم يذكرا فيه
جرحا. وهو مترجم في التعجيل، ص: 434.
والحديث رواه أحمد في المسند: 14221، 14222 (ج 3 ص 44 حلبي) ،
عن محمد بن جعفر وحجاج، ثم عن حسين بن محمد -ثلاثتهم عن شعبة،
عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد. فذكر نحوه بأطول
منه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
أبو حمزة: هو البصري"جار شعبة"، عرف بهذا. واسمه: عبد الرحمن
بن عبد الله المازني"، ثقة، مترجم في التهذيب 6: 219.
وقد ثبت في ترجمة"هلال بن حصن" -في الكبير، وابن أبي حاتم،
والثقات، والتعجيل، أنه روى عنه أيضًا"أبو حمزة". وشك في صحة
ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير،
واستظهر أن يكون صوابه "أبو جمرة"، يعنى نصر بن عمران الضبعي.
ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا "أبو حمزة". لاتفاقه
مع ما ثبت في التراجم.
" أعوز الرجل فهو معوز": ساءت حاله وحل عليه الفقر.
"أعنق الرجل إلى الشيء يعنق": أسرع إليه إسراعًا.
(5/598)
(1) .
=الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من
الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف
بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (2) .
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله:"لا
يسألون الناس إلحافا"، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير
إلحاف (3) .
قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف
عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله:"يحسبهم الجاهلُ
أغنياء من التعفف"، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه
إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي
تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. (4) .
وقد كان بعضُ القائلين يقول: (5) ذلك نظيرُ قول القائل:"
قلَّما رأيتُ مثلَ
__________
(1) سياق الكلام: "وفي الخبر ... الدلالة الواضحة ... "
(2) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير
إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598.
(3) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير
إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598.
(4) "السؤال" جمع سائل، على زنة""جاهل وجهال". والسياق: "بنفي
الشره ... عنهم".
(5) في المطبوعة: و "قال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير
قول القائل" هو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "وقال كاد بعض
القائلين يقول ... "وسائره كالذي كان في المطبوعة" وهو أشدّ
اختلالا وفسادًا. وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته. وهذا الذي
حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن 1: 181، كما سلف
في ص: 598 التعليق: 1.
(5/599)
فلان"! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا
نظيرًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6229 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: لا يلحفون في
المسألة.
6230 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: هو الذي يلح في المسألة.
6231 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول:"إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف،
ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ= قال: وذكر لنا
أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله عز وجل كره
لكم ثلاثًا: قيلا وقالا (1) وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال.
فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى
جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا.
وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، (2)
.
وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته
باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم،
وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.
..........................................................................
..........................................................................
(3) .
__________
(1) في المطبوعة: "قيل وقال" وهو صواب، وهما فعلان من
قولهم"قيل كذا" و"قال كذا"، وهو نهى عن القول بما لا يصح ولا
يعلم. وأثبت ما في المخطوطة، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى
هذين الفعلين الماضين، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب،
على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، فيدخل عليهما حرف
التعريف لذلك فيقال: "القيل والقال".
(2) في المخطوطة: "ذا مال في شهوته" وبين الكلامين بياض، أما
في المطبوعة والدر المنثور 1: 363، فساقه سياقًا مطردًا: "ذا
مال في شهوته"، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد: "ويعدله عن حق
الله"، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا
هذه العبارة.
(3) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما
هو، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف 6231، الأثر الآتي: 6232
"حدثنا يعقوب بن إبراهيم. . . ". وقد تنبه طابع المطبوعة، فرأي
أن الأثر الآتي، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها
اتباعًا له، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا
الموضع تفسير بقية الآتية: "وما تنفقوا من خير فإن الله به
عليم" وشيء قبله، وشيء بعده، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في
كتاب آخر، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا
الخرم. وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من
الكتاب.
(5/600)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
[قال أبو جعفر] :
..........................................................................
..........................................................................
* * *
6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر، عن أيمن بن
نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى
الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول: أهل هذه - يعني
الخيل- من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية،
فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (1) .
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف
ولا تقتير.
* ذكر من قال ذلك:
6233 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 6232 -"أيمن بن نابل الحبشي" أبو عمران المكي، نزيل
عسقلان، مولي آل أبي بكر. روي عن قدامة بن عبد الله العامرى،
وعن أبيه نابل، والقاسم بن محمد، وطاوس. وروى عنه موسى بن
عقبة، وهو من أقرانه، ومعتمر بن سليمان، ووكيع وابن مهدي، وعبد
الرزاق، وغيرهم. وهو ثقة، وكان لا يفصح، فيه لكنه. وعاش إلى
خلافة المهدي. مترجم في التهذيب.
والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون
الواو) : وهو ما كان من الخيل من نتاج غير العراب، وهو دون
الفرس وأضعف منه. والهجن جمع هجين: وهو من الخيل الذي ولدته
برذونة من حصان غير عربي، وهي دون العرب أيضًا، ليس من عتاق
الخيل، وكلاهما معيب عندهم.
(5/601)
قوله:"الذين ينفقون أموالهم" إلى قوله:"ولا
هم يحزنون"، هؤلاء أهلُ الجنة.
ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: المكثِرون
هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم
الأسفلون، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم
الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله، إلا مَنْ؟ حتى خشوا أن تكون قد
مَضَت فليس لها رَدّ، حتى قال:"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا،
عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليلٌ ما
هُمْ [قال] : (1) هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض
وارتضى، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد. (2) .
* * *
وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله:"إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا
هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، كان مما يُعملَ
به قبل نزول ما في"سورة براءة" من تفصيل الزَّكوات، فلما
نزلت"براءة"، قُصِروا عليها.
* ذكر من قال ذلك:
6234 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال:
ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي"
إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، فكان هذا يُعمل به
قبل أن تنزل"براءة"، فلما نزلت"براءة" بفرائض الصَّدقات
وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين، زيادة لا بد منها، فإن هذا الكلام الآتي
ولا شك من كلام قتادة، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 1:
363 قال: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
. . "، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر. وأما صدره، فهو خبر
مرسل كسائر الأخبار السالفة.
(2) قوله: "إملاق" هو من قولهم: "ملق الرجل ما معه ملقًا،
وأملقه إملاقًا"، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره
تبذيرًا. والفقر تابع للإنفاق والتبذير، فاستعملوا لفظ السبب
في موضع المسبب، فقالوا: "أملق الرجل إملاقًا"، إذا افتقر
فهو"مملق" أي فقير لا شيء معه.
(5/602)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.
* * *
و"الإرباء" الزيادة على الشيء، يقال منه:"أربْى فلان على
فلان"، إذا زاد عليه،"يربي إرباءً"، والزيادة هي"الربا"،"وربا
الشيء"، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،"فهو يَرْبو رَبْوًا".
وإنما قيل للرابية [رابية] ، (1) لزيادتها في العظم والإشراف
على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم:"ربا يربو". ومن
ذلك قيل:"فلان في رَباوَة قومه"، (2) يراد أنه في رفعة وشرف
منهم، فأصل"الربا"، الإنافة والزيادة، ثم يقال:"أربى فلان" أي
أناف [ماله، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل
للمربي:"مُرْبٍ"، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا
أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى
أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) . [آل عمران: 131] .
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(2) في المطبوعة: "في ربا قومه" وفي المخطوطة: "في رباء قومه"،
ولا أظنهما صوابًا، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس: "وفلان
في رباوة قومه: في أشرافهم. وهو: في الروابي من قريش"، فأثبت
ما في الأساس.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "أي أناف صيره زائدًا"، وهو كلام
غير مستقيم ولا تام. والمخطوطة كما أسلفت مرارًا، قد عجل عليها
ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا. فزدت ما بين
القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر، حتى يستقيم الكلام
على وجه يرتضى.
(6/7)
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
6235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه:
كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا
وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6237 - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل
مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر
عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا
صفته في الدنيا="لا يقومون" في الآخرة من قبورهم ="إلا كما
يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس"، يعني بذلك: يتخبَّله
الشيطان في الدنيا، (1) وهو الذي يخنقه فيصرعه (2) ="من المس"،
يعني: من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6238 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) تخبله: أفسد عقله وأعضاءه.
(2) في المطبوعة: "وهو الذي يتخبطه فيصرعه"، وهو لا شيء، إنما
استبهمت عليه حروف المخطوطة، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها،
وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة: "+يحفه" غير منقوطة
إلا نقطة على"الفاء"، وآثرت قراءتها"يخنقه"، لما سيأتي في
الأثر رقم: 6242 عن ابن عباس: "يبعث آكل الربا يوم القيامة
مجنونًا يخنق"، وما جاء في الأثر: 6247. وهذا هو الصواب إن شاء
الله، لذلك، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من
يصيبه، أعاذنا الله وإياك.
(6/8)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز
وجل:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المسّ"، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.
6239 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6240 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يُبعث من قبره. (1)
6241 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
ربيعة بم كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذْ سلاحك للحرب"،
وقرأ:"لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"،
قال: ذلك حين يبعث من قبره.
6242 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن
سعيد بن جبير:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم
القيامة مَجْنونًا يُخنق. (2)
6243 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:
__________
(1) الأثر: 6240-"ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري"، روى عن أبيه،
وبكر ابن عبد الله المزني، والحسن البصري. وروى عنه القطان،
وعبد الصمد بن عبد الوارث، ومسلم ابن إبراهيم، وحجاج بن منهال.
قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في الضعفاء: "ليس بالقوي"،
وقال أحمد وابن معين: "ثقة". وأبوه: "كلثوم بن جبر"، قال أحمد:
"ثقة"، وقال النسائي: "ليس بالقوي". مات سنة: 130.
(2) انظر ما سلف في ص: 8، تعليق: 2.
(6/9)
"الذين يأكلون الربا لا يقومون"، الآية،
وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من
الشيطان.
6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يقومون إلا كما يقومُ الذي
يتخبطه الشيطان من المس" قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله
الشيطان من الجنون.
6245 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم
خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: (لا يَقُومُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) .
6246 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: من مات وهو يأكل
الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من
المسّ.
6247 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون.
6248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المسّ". قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون
يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه
خُنق، كأنه مجنون (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم
القيامة"، وهو كلام فاسد. وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب
الناسخ على كلام كتبه، فدل على خلطه وسهوه. فحذفت من هذه
الجملة"يوم القيامة" وجعلت"مع الناس"، "من الناس"، فصارت أقرب
إلى المعنى والسياق، وكأنه الصواب إن شاء الله.
(6/10)
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"يتخبطه الشيطانُ
من المسّ"، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه:"قد مُسّ الرجل
وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق"، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ
فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا)
[الأعراف: 201] ، ومنه قول الأعشى:
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنَّمَا ... أَلَمَّ بِهَا
مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا
في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟
قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ
الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم
من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا،
ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل
ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) ديوانه: 147، وروايته"من غب السرى"، ورواية اللسان (ألق) ،
"ولق"، وهو من قصيدته البارعة في المحرق. ويصف ناقته فيقول قبل
البيت، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة: وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ
قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ ... إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى، وَبَيْنى وَبَيْنَها ... مَجُوفٌ
عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى. . . . . ... . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
"الخرق": المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح. "وناقة جسرة":
طويلة شديدة جريئة على السير. و"خب": جرى. و"الآل": سراب أول
النهار. "يترقرق": يذهب ويجيء. وقوله: "هي الصاحب الأدنى"، أي
هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه، وينصره في الملمات.
و"المجوف": الضخم الجوف. و"العلافى": هو أعظم الرجال أخرة
ووسطًا، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له"علاف". و"القطع":
طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. و"النمرق والنمرقة":
وسادة تكون فوق الرحل، يفترشها الراكب، مؤخرها أعظم من مقدمها،
ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته. و"غب السرى": أي بعد
سير الليل الطويل. و"الأولق": الجنون. ووصفها بالجنون عند ذلك،
من نشاطها واجتماع قوتها، لم يضعفها طول السرى.
(6/11)
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة البقرة: 278-279]
الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله
في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه
وأخذُه وإعطاؤُه، (1) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم من قوله:
6249-"لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه
إذا علموا به". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}
قال أبو جعفر: يعني بـ"ذلك" جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من
قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من
المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم
يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما
حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون
ويقولون:"إنما البيع" الذي أحله الله لعباده ="مثلُ الرّبا".
وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان
إذا حلّ مالُ أحدهم
__________
(1) ولكن أهل الفتنة في زماننا، يحاولون أن يهونوا على الناس
أمر الربا، وقد عظمه الله وقبحه، وآذن العامل به بحرب من الله
ورسوله، في الدنيا والآخرة، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب
ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين. فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما
فتنت رجالا قبلنا، وثبتنا على دينك الحق، وأعذنا من شر أنفسنا
في هذه الأيام التي بقيت لنا، وهي الفانية وإن طالت، وصدق رسول
الله بأبي هو وأمي إذ قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه
الربا. قيل له: الناس كلهم؟! قال: من لم يأكله ناله من غباره".
(سنن البيهقي 5: 275) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا
العذاب الموبق.
(2) الأثر: 6249- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا، وقد استوفى
تخريجه ابن كثير في تفسيره 1: 550-551 وساق طرقه مطولا.
والسيوطي في الدر المنثور 1: 367، من حديث عبد الله بن مسعود
ونسبه لأحمد، وأبي يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان. وانظر سنن
البيهقي 5: 275.
(6/12)
على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق:"زدني
في الأجل وأزيدك في مالك". فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك:"هذا
ربًا لا يحل". فإذا قيل لهما ذلك قالا"سواء علينا زدنا في أول
البيع، أو عند مَحِلّ المال"! فكذَّبهم الله في قيلهم
فقال:"وأحلّ الله البيع".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ
عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(275) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة
والشراء والبيع (1) ="وحرّم الربا"، يعني الزيادةَ التي يزاد
رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه.
يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع،
(2) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك
أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال
والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه
الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي
يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من
وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع،
وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء،
وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن
يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *
__________
(1) انظر معنى: "البيع" فيما سلف 2: 342، 343.
(2) في المطبوعة: "وليست الزيادتان"، والصواب ما في المخطوطة.
(6/13)
ثم قال جل ثناؤه:"فمن جاءه موعظة من ربه
فانتهى"، يعني بـ"الموعظة": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم
وخوّفهم به في آي القرآن، (1) وأوعدهم على أكلهم الربا من
العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،"فانتهى" عن أكل الربا
وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (2) ="فله ما سلف"، يعني: ما
أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك
="وأمرُه إلى الله"، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه
والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته
وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء
خَذَله عن ذلك ="ومن عاد"، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد
التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله
بالتحريم، من قوله:"إنما البيع مثل الربا" ="فأولئك أصْحاب
النار هم فيها خالدون"، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل
النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6250 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السديّ:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى
الله"، أما"الموعظة" فالقرآن، وأما"ما سلف"، فله ما أكل من
الربا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "موعظة" فيما سلف 2: 180، 181.
(2) انظر تفسير: "انتهى" فيما سلف 3: 569.
(3) انظر تفسير: "أصحاب النار" و"خالدون" فيما سلف 2: 286،
287/4: 316، 317/5: 429.
(6/14)
يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) }
قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله:"يمحق الله الربا"، ينقُصُ
الله الرّبا فيذْهبه، كما:-
6251 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس:"يمحق الله الربا"، قال: يَنقص.
* * *
وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
6252-"الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ". (1) .
* * *
وأما قوله:"ويُرْبي الصّدَقات"، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف
أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له. (2)
* * *
وقد بينا معنى"الرّبا" قبلُ"والإرباء"، وما أصله، بما فيه
الكفاية من إعادته. (3)
* * *
__________
(1) 6252- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 37 من طريق إسرائيل، عن
الركين بن الربيع، عن أبيه الربيع بن عميلة، عن عبد الله بن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا إن كثر، فإن
عاقبته تصير إلى قل"، وكذلك ذكره ابن كثير من المسند من طريق
شريك عن الركين بن الربيع، بلفظه. ثم ساق ما رواه ابن ماجه.
غير أن ابن كثير (2: 61) نقل لفظ الطبري، وساق الخبر كنصه في
الحديث، لا كما جاء في المطبوعة والمخطوطة. وانظر الدر المنثور
1: 365.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "يضاعف أجرها لربها"، كأنه يريد
لصاحبها، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، رب المعروف والصنيعة
والنعمة وغيرها - يريها ربًا +ورببها (كلها بالتشديد) : نماها
وزادها وأتمها، وجملة"يربها وينميها له" تفسير لقوله: "يضاعف
أجرها". وانظر الأثر الآتي رقم: 6253.
(3) انظر ما سلف قريبا ص: 7.
(6/15)
فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله
الصدقات؟
قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: (مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [سورة البقرة: 261] ، وكما قال:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [سورة البقرة: 245]
، وكما:-
6253 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن
منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه
فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة
لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: (أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) [سورة التوبة: 104] ،
و"يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات". (1) .
__________
(1) الحديث: 6253- عباد بن منصور الناجي البصري القاضي: ثقة،
من تكلم فيه تكلم بغير حجة. وقد حققنا توثيقه في شرح المسند:
2131، 3316، وبينا خطأ من جرحه بغير حق.
القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، التابعي الثقة الفقيه
الإمام.
والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج 11 ص 15 بولاق) ، عن
أبي كريب، بهذا الإسناد ولكن سقط منه هناك"حدثنا وكيع". وهو
خطأ ظاهر.
ورواه أحمد في المسند: 10090 (2: 371 حلبي) ، عن وكيع، وعن
إسماعيل - وهو ابن علية - كلاهما عن عباد بن منصور. بهذا
الإسناد. وساقه على لفظ وكيع، كرواية الطبري هنا.
ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى، ففيه:
"وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات". والآية
المتلوة في الحديث هي التي في رواية الطبري هنا: (ألم يعلموا
أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، وهي الآية:
104 من سورة التوبة. وأما الأخرى فالآية: 25 من سورة الشورى،
وتلاوتها: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)
وليست تكون موضع الاستشهاد في هذا الحديث.
وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند، من الناسخين القدماء، بدلالة
أنه ثبت هذا الخطأ أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن
المسند، في جامع المسانيد والسنن 7: 320 (مخطوط مصور) .
بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا. لعله من وكيع، أو من
عباد بن منصور. لأن الترمذي روى الحديث 2: 23، عن أبي كريب
-شيخ الطبري هنا - عن وكيع، به. وثبتت فيه تلاوة الآية على
الخطأ، كرواية أحمد عن وكيع. ونقل شارحه المباركفوري عن الحافظ
العراقي أنه قال: "في هذا تخليط من بعض الرواة. والصواب: (ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية. وقد رويناه في كتاب
الزكاة ليوسف القاضي، على الصواب".
بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا. فذكر الحديث في
الترغيب والترهيب 2: 19، عن رواية الترمذي، وذكر الآية كرواية
المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة.
فإذا كان ذلك كذلك، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله
سمعه من أبي كريب عن وكيع، كرواية الترمذي عن أبي كريب،
وكرواية أحمد عن وكيع، فلم يستجز أن يذكر الآية على الخطأ في
التلاوة، فذكرها على الصواب. وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن.
وقال الترمذي - بعد روايته: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا".
ورواية عائشة ستأتي: 6255.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 62، من رواية ابن أبي حاتم في
تفسيره، عن عمرو بن عبد الله الأودي، عن وكيع، بهذا الإسناد،
لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع فيها الخطأ.
وذكره السيوطي 1: 365، وزاد نسبته للشافعي، وابن أبي شيبة،
وعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر، والدارقطني في الصفات.
ورواه أحمد أيضًا: 9234، عن خلف بن الوليد، عن المبارك، وهو
ابن فضالة، عن عبد الواحد ابن صبرة، وعباد بن منصور، عن
القاسم، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه، مختصرًا، ولم يذكر فيه
الآيتين.
وأشار ابن كثير 2: 62، إلى رواية المسند هذه، ولكن وقع فيه
تخليط من الناسخين.
والحديث سيأتي نحو معناه، مطولا ومختصرًا، عن أبي هريرة: 6254،
6256، 6257. وعن عائشة: 6255.
وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها: 6257.
(6/16)
6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع
قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن
القاسم بن محمد، عن أبي هريرة = ولا أراه إلا قد رفعه = قال:
إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب." (1) .
__________
(1) الحديث: 6254- سليمان بن عمر بن خالد الأقطع، القرشي
العامري الرقي: ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/131، وذكر أن أباه كتب
عنه. ولم يذكر فيه جرحًا.
ابن المبارك: هو عبد الله. وسفيان: هو الثوري.
والحديث مختصر ما قبله. والشك في رفعه - هنا - لا يضر، فقد صح
الحديث مرفوعًا بالإسناد السابق والأسانيد الأخر.
وسيأتي الحديث أيضًا، بهذا الإسناد (ج 11 ص 15 بولاق) ، ولم
يذكر لفظه، بل ذكر أوله، ثم قال: "ثم ذكر نحوه". إحالة على
الحديث السابق. فكأنه رواه هناك مطولا، ولكن دون ذكر سياقه
كاملا.
وأشار ابن كثير، في تفسير سورة التوبة 4: 235- إلى هذه الرواية
والتي قبلها، جعلهما حديثًا واحدًا، عن الثوري ووكيع، عن عباد
بن منصور، به. ولكنه لم يذكر تخريجه.
(6/17)
6255- حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي،
قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن
عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تبارك
وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربّيها لصاحبها
كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل
أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (يمحق الله الرّبا
ويُرْبي الصدقات) . (1) .
__________
(1) الحديث: 6255- محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم،
المقدمي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/179، وابن
أبي حاتم 4/1/21. ووقع في المطبوعة هنا غلط في اسم أبيه:
"عمرو" بدل"عمر". وسيأتي بتخليط أشد في المطبوعة: 6809، هكذا:
"محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي"!!
و"المقدمي": بتشديد الدال المهملة المفتوحة، نسبة إلى جده
الأعلى"مقدم".
ريحان بن سعيد الناجي البصري: من شيوخ أحمد وإسحاق. وقال يحيى
بن معين: "ما أرى به بأسا". وتكلم فيه بعضهم، ولكن البخاري
ترجمه في الكبير 2/1/301، فلم يذكر فيه جرحًا. وكان إمام مسجد
عباد بن منصور، كما في الكبير، وابن أبي حاتم 1/2/517. وتكلم
فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد. ولعله كان
أعرف به إذ كان إمام مسجده.
وأيا ما كان، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية، كما سيظهر
من التخريج.
فرواه أحمد في المسند 6: 251 (حلبي) ، عن عبد الصمد، عن حماد،
عن ثابت، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما
يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد".
وهذا إسناد صحيح. ولكن الحديث مختصر.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 5: 234-235 (من مخطوطة الإحسان)
. من طريق عبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن
القاسم.
ورواه البزار مطولا، من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة
- ومن طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، بنحو رواية الطبري
هنا، إلا أنه لم يذكر الآية في آخره. نقله ابن كثير 2: 62-63.
ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة، لأنه إنما
يروى عن التابعين.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111 مختصرًا كرواية المسند،
وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". ثم ذكره
مطولا 3: 112، وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ولكنه ذكره
من حديث عائشة وحدها.
وذكر السيوطي 1: 365 لفظ الطبري هنا. ثم تساهل في نسبته، فنسبه
للبزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني.
(6/18)
6256 - حدثني محمد بن عبد الملك، قال:
حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن
محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه
ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل
ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله = أو قال:"في كفِّ الله عز
وجلّ = حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا". (1) .
6257- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان
قال، سمعت
__________
(1) الحديث: 6256-"محمد بن عبد الملك": الراجح عندي أنه"محمد
بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي"، فإنه يروي عن عبد الرزاق،
وهو من طبقة شيوخ الطبري، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه.
ولكنه بغدادي مثله. فمن المحتمل جدا أن يروى عنه، بل هو هو
الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5. وتاريخ بغداد 2:
345-346.
ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ: "محمد بن عبد
الملك بن أبي الشوارب"، وهو ثقة أيضًا، ولكن لم يذكر عنه أنه
روى عن عبد الرزاق، والغالب أن ينص على مثل هذا. وهو مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5، وتاريخ بغداد 2: 344-345.
وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو؟ فحين ذكر هذا الحديث
2: 62، ذكر أنه"رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن
إسحاق"!! ولم أجد في الرواة من يسمى بهذا. فلا أدري أهو سهو
منه، أم تخليط من الناسخين؟
والحديث رواه أحمد في المسند: 7622، عن عبد الرزاق، بهذا
الإسناد.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 44، عن محمد
بن رافع، وعبد الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد
الرزاق، به.
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 19، أنه رواه ابن خزيمة
في صحيحه أيضًا.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا، ثم قال:
"وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق. وهذا طريق غريب صحيح الإسناد،
ولكن لفظه عجيب. والمحفوظ ما تقدم"! يعني رواية عباد بن منصور.
ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح
على شرط الشيخين.
ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر، فقد تابعه عليه محمد بن
ثور. فرواه الطبري - فيما سيأتي (ج 11 ص 15-16 بولاق) ، عن
محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، به. نحوه. وهذا
إسناد صحيح أيضًا. فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد: ثقة، وثقه
ابن معين، وأبو حاتم، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق.
(6/19)
يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال،
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز
وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا،
والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى
يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد". (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 6257- وهذا إسناد فيه راو مبهم، هو الذي روى عنه
يونس، ومن المحتمل جدا أن يكون هو أيوب. ولكن لا يزال الإسناد
ضعيفا حتى نجد الدلالة على هذا المبهم.
وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها.
وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة، من أوجه كثيرة:
فرواه البخاري 3: 220-223، و 13: 352 ومسلم، 1: 277-278،
والترمذي 2: 22-23، والنسائي 1: 349، وابن ماجه: 1842، وابن
حبان في صحيحه 5: 234-237 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن خزيمة في
كتاب التوحيد. ص: 41-44.
ورواه أحمد في المسند -غير ما أشرنا إليه سابقا-: 8363 (2: 331
حلبي) ، 8948، 8949 (ص: 381-382) ، 9234 (ص404) ، 9413 (ص:
418) ، 9423 (ص: 419) ، 9561 (ص: 431) ، 10958 (ص: 538) ،
10992 (ص: 541) .
ورواه البخاري في الكبير، بالإشارة الموجزة كعادته 2/1/476.
وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث: "في يد الله"، و"في كف الله"،
و"كف الرحمن"، ونحو هذه الألفاظ. فقال الترمذي 2: 23-24.
"وقال غير واحد من أهل العلم، في هذا الحديث، وما يشبه هذا من
الروايات من الصفات، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى
السماء الدنيا - قال: قد ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن بها. ولا
يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا رُوي عن مالك ابن أنس، وسفيان بن
عيينة، وعبد الله بن المبارك، انهم قالوا في هذه الأحاديث:
أَمِرُّوها بلا كيفَ. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة
والجماعة، وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا
تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه -:
اليد، والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات، وفَّسروها
على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا: إن الله لم يَخْلق آدم
بيده! وقالوا: إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم:
إنما يكون التشبيه إذا قال يد كَيدٍ، أو مِثْل يَدٍ، أو سمع
كسَمْعٍ، أو مثلَ سمعٍ. فإذا قال سمع كسمعٍ أو مثل سمع- فهذا
تشبيه. وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر. ولا يقول:
كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً. وهو
كما قال الله تبارك وتعال: (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ
البَصير) ".
(6/20)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب كل
كفار أثيم"، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر
بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه،"أثيم"، متماد في
الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من
معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه
التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا = يعني
الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم
الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه ="وعملوا الصالحات"
التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها ="وأقاموا
الصلاة" المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها ="وآتوا الزكاة"
المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا،
قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم ="لهم أجرهم"، يعني ثواب ذلك
من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم ="عند ربهم" يوم حاجتهم إليه في
معادهم = ولا خوف عليهم" يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم
في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا
أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل
من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم،
(6/21)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وتصديقهم بوعد الله ووعيده ="ولا هم
يحزنون" على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا
والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على
تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة،
فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"يا أيها الذين آمنوا"،
صدّقوا بالله وبرسوله="اتقوا الله"، يقول: خافوا الله على
أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم
عنه="وذروا"، يعني: ودعوا="ما بقي من الربا"، يقول: اتركوا طلب
ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن
تُربوا عليها ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم
قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على
قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه
منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه
قبل نزول هذه الآية، (2) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.
* ذكر من قال ذلك:
6258 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من
الربا" إلى:"ولا تظلمون"، قال: نزلت هذه الآية في العباس بن
عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا
__________
(1) قوله: "بأفعالكم" متعلق بقوله: "محققين. . . "، أي محققين
ذلك بأفعالكم.
(2) في المخطوطة: "عما كان قد اقتضوه. . . "، وهو فاسد،
والصواب ما في المطبوعة.
(6/22)
شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا
إلى أناس من ثقيف من بني عمرو = (1) وهم بنو عمرو بن عمير،
فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله"ذروا ما
بقي" من فضل كان في الجاهلية ="من الربا".
6259 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي
من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ
صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان
للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل
عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف
يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم
في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو
عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام،
ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا
ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب
من الله ورسوله"، إلى"ولا تظلمون". فكتب بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال:"إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب" =
وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من
الرّبا"، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون
أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم
الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب
وربيعة وهلالٌ ومسعود. (2)
6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا
جويبر،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "سلفا في الربا إلى أناس. . . "
بالفعل الماضي، والصواب ما أثبت من الدر المنثور 1: 366،
والبغوي (بهامش ابن كثير) 2: 63. والسلف (بفتحتين) : القرض.
والفعل: أسلف وسلف (بتشديد اللام) .
(2) الأثر: 6259- انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في
ترجمة"هلال الثقفي". وقال: "وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله:
"فلما كان الفتح" نظر، ذكرت توجيهه في أسباب النزول".
(6/23)
فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
عن الضحاك في قوله:"اتقوا الله وذروا ما
بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كان ربًا يتبايعون به في
الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإن لم تفعلوا) فإن لم
تذَروا ما بقي من الربا.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله:"فأذنوا بحرب من الله ورسوله".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة:"فَأْذَنُوْا" بقصر الألف
من"فآذنوا"، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن.
* * *
وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين:"فَآذِنُوا" بمدّ
الألف من قوله:"فأذنوا" وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم،
أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من
قرأ:"فأذَنوا" بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك
واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه
وسلم أن ينبذ إلى من أقام
(6/24)
على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه،
وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع
الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (1)
فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان
مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان
مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه
بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (2) لأن
الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن
المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة
من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.
وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6261 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، إلى قوله: (فأذنوا بحرب
من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه،
فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضَرب عنقه.
6262 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذ سلاحك للحرْب". (3)
6263- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن
كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
6264 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا
فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون،
فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم
يأذنوه". وهو خطأ في الرسم، وفساد في المعنى بهذا الرسم. وصواب
رسمه في المخطوطة، وهو صواب المعنى.
(2) في المخطوطة: "بالإنذار بها إن عزم على ذلك"، وهي صواب في
المعنى، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح.
(3) الأثر: 6262- انظر الأثر السالف رقم: 6241، والتعليق عليه.
(4) البهرج: الشيء المباح. والمكان بهرج: غير حمى. وبهرج دمه:
أهدره وأبطله. وفي الحديث: أنه بهرج دم ابن الحارث.
(6/25)
6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله.
6266 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله
ورسوله"، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل. (1)
6267 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (فأذنوا بحرب من الله
ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: (فأذنوا
بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر
لهم بإيذان غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أُمْوَالِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"إن تبتم" فتركتم أكلَ الربا
وأنبتم إلى الله عز وجل ="فلكم رؤوس أموالكم" من الديون التي
لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم،
كما:
6268 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور
الرجال، (2) جعل لهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أوعد لآكل الربا. . . " وهو لا
شيء، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "المال الذي لهم" بإسقاط الواو، وأثبت ما في
المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم: 6297. وفي المخطوطة"ظهور
الرحال" بالحاء.
(6/26)
رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما
الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.
6269 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس
أموالهم.
6270 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي
عروبة، عن قتادة في قوله:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، قال:
ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا
يزدادُوا عليه شيئًا.
6271- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" الذي أسلفتم، وسقط
الربا.
6272 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم
الفتح:"ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به
ربا العباس بن عبد المطلب".
6273- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في
خطبته:"إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس". (1) .
* * *
__________
(1) الأثران: 6272، 6273- حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع، رواه مسلم 8: 182، 183 في حديث جابر بن عبد الله
في حجة الوداع. وسنن البيهقي 5: 274، 275. وخرجه السيوطي في
الدر المنثور 1: 367، وقال"أخرج أبو داود والترمذي وصححه،
والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو
بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع. . . "، وانظر ابن كثير 2: 65.
(6/27)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا
تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"لا تَظلمون" بأخذكم رؤوس أموالكم
التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها
التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا
منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ="ولا تُظلمون"،
يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم
ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه
فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم
عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل
التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6274 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون"،
فتُربون،"ولا تظلمون" فتنقصون.
6275 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، قال: لا
تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وإن كان" ممن تقبضون منه من
غرمائكم رؤوسَ أموالكم ="ذو عُسْرَة" يعني: معسرًا برؤوس
أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى
ميسرتهم.
(6/28)
وقوله:"ذو عسرة"، مرفوع ب"كان"، فالخبر
متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات
تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت"كان" في هذا الموضع،
إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا
صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام
عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة
إلى ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: (وَإِنْ كَانَ ذَا
عُسْرَةٍ) ، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة ="فنظرة إلى
ميسرة". وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به
عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (1)
* * *
وأما قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ، فإنه يعني: فعليكم
أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ) [سورة البقرة: 196] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من
نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. (2) .
* * *
و"الميسرَة"، المفعلة من"اليُسر"، مثل"المرْحمة" و"والمشأمة".
* * *
ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه
حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، (3) فيصيرَ من أهل اليُسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 186.
(2) انظر ما سلف 4: 34.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يوسر بما ليس لكم"، واجتهد
مصحح المطبوعة وقال: "لعل (ليس) زائدة من الناسخ". ولا أراه
كذلك، بل قوله"بما ليس"، هي في الأصل الذي نقل عنه
الناسخ"بالدين" مرتبطة الحروف، كما يكون كثيرا في المخطوطة
القديمة، فلم يحسن الناسخ قراءتها، فقرأها"بما ليس"،
وحذف"الذي"، لظنه أنها زائدة سهوا من الناسخ قبله، وتبين صحة
ما أثبتناه، من كلام الطبري بعد في آخر تفسير الآية. ولو قرئت:
"برأس ما لكم"، لكان صوابا في المعنى، كما يتبين من الآثار
الآتية.
(6/29)
ذكر من قال ذلك:
6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن
يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الربا.
6278 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن
سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ
بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في
كتابه:"وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة"! قال: فقال شريح:
إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ) [سورة النساء: 58] ولا يأمرنا الله بشيء ثم
يعذبنا عليه.
6279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن
إبراهيم في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك
في الربا.
6280 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن
الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه
ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن
كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (1)
6281- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد،
قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه
مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن
الربا كان في هذا الحي من الأنصار،
__________
(1) الأثر: 6280 - كان في المطبوعة: "مغيرة، عن الحسن. . . "،
وفي المخطوطة"مغيرة، عن الحسى" مشددة الياء بالقلم، والناسخ
كثير السهو والغفلة والتصحيف كما أسلفنا. وإنما هو"الشعبي"،
وهذا الإسناد إلى الشعبي قد مضى مئات من المرات، انظر مثلا:
4385. وكان في المطبوعة: "الربيع بن خيثم" وهو تصحيف والصواب
ما أثبت، وقد مضت ترجمته في رقم: 1430.
(6/30)
فأنزل الله عز وجل:"وإنْ كان ذُو عُسْرَة
فَنظِرة إلى ميسرة" وقال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ،
فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا
الأمانات إلى أهلها.
6282- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في
قوله:"وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة"، قال: فنظرة إلى ميسرة
برأس ماله.
6283 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة"، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في
الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها. (1)
6284 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"وإن كان ذو عسرة فنظرة" برأس المال ="إلى ميسرة"،
يقول: إلى غنى.
6285- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: قال ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"،
هذا في شأن الربا.
6286 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد
بن سليمان قال (2) سمعت الضحاك في قوله: (وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة) ، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها
يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس
أموالهم.
__________
(1) في المخطوطة: "ولكن مؤدي الأمانة. . . "، وهو تصحيف من
الناسخ.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، والصواب من المخطوطة، وقد
مضى الكلام على هذا الإسناد فيما سلف.
(6/31)
6287 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة"، يعني المطلوب.
6288 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
عن أبي جعفر في قوله:"وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة"،
قال: الموت.
6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.
6290- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا
سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى
ميسرة"، قال: هذا في الربا.
6291- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال:
إلى الموت، أو إلى فُرْقة.
6292- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن
مغيرة، عن إبراهيم:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
6293 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن
ليث، عن مجاهد:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه.
وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره.
6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا
مندل، عن ليث، عن مجاهد:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"
قال: يؤخره ولا يزدْ عليه.
* * *
(6/32)
وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان
له قِبَل رجل معسر حقٌّ (1) من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين
حلال أو ربا.
ذكر من قال ذلك:
6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن
تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم
له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى
ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك
كانت الدّيون على ذلك.
6296- حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي
زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة" قال: نزلت في الدَّين. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة"، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا
فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر
الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم،
ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا
برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد
أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه
من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو
لزمه
__________
(1) في المخطوطة: "هذه الآية عام. . . " تصحيف من الناسخ وسهو.
(2) الأثر: 6296-"علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي". قال
النسائي: "صالح"، وقال أبو حاتم: "صدوق" توفي سنة 265، مترجم
في التهذيب.
(6/33)
من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. (1)
وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان
الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن
الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد
بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل
عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي
دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا
عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب
الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه،
أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.
= فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل
دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد.
= ويكون في رقبته، (2) فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل
دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا
لا يقوله أحد.
فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه
يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد
عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم
يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل.
(3) لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه
بالحبس. (4)
* * *
__________
(1) سياق العبارة"ويلزمه أداء رأس ماله. . . إليه. . . "، وما
بينهما فصل.
(2) في المطبوعة: "ويكون في رقبته"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل"
قدم"بحقه"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب جيد.
(4) في المطبوعة: "فيعاقب بظلمه إياه. . . "، وفي
المخطوطة"فيعاقب بطله إياه. . " وصواب قراءتها ما أثبت. مطله
حقه يمطله مطلا، وماطله مطالا: سوفه ودافعه بالعدة والدين.
هذا، وأبو جعفر رضي الله عنه، رجل قويم الحجة، أسد اللسان،
سديد المنطق، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي، ومساقطها من
الصواب. وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في
بعض تعليقي على هذا التفسير الجليل.
(6/34)
وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) }
قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم
على هذا المعسر، ="خير لكم" أيها القوم من أن تنظروه إلى
ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر ="إن كنتم تعلمون"
موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن
غريمه المعسر دينه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وأن تصدقوا" برؤوس أموالكم على الغني
والفقير منهم ="خير لكم".
ذكر من قال ذلك:
6297 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور
الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح
والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا ="وأن
تصدقوا خير لكم"، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم. (1)
6298 - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 6297- سلف برقم: 6268. وانظر التعليق هناك.
(6/35)
"وأن تصدقوا"، أي برأس المال، فهو خير لكم.
6299 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: (وأن تصدقوا خير لكم) قال: من
رؤوس أموالكم.
6300 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة،
عن إبراهيم بمثله.
6301- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا
سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: أن
تصدقوا برؤوس أموالكم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم -
نحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
6302 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم
على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس.
6303 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ
لَكُمْ) ، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.
6304 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد
قال، سمعت الضحاك في قوله: (وأن تصدقوا خير لكم) ، يعني: على
المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر
الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.
6305 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم،
عن
(6/36)
جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس
أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل
الصدقة على النظارة. (1)
6306 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"،
قال: من النظرة ="إن كنتم تعلمون".
6307- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك: (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) ،
والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، (2)
والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال:
معناه:"وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم" لأنه يلي
ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه
بالذي بعد منه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر
آيات نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6308 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد =
وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، = عن قتادة، عن
سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من
القرآن آية الربا،
__________
(1) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال. وهو مصدر لم
أجده في كتب اللغة، ولكنه عريق في عربيته. كالنذارة، من
الإنذار، وهو عزيز، ولكنه عربي البناء والقياس.
(2) يقال: "اخترت فلانا على فلان" بمعنى: فضلت فلانا على فلان،
ولذلك عدى بعلى. ومثله"خير فلانا على فلان"، أي فضله عليه. وقد
جاء في الأثر: "خير بين دور الأنصار"، أي فضل بعضها على بعض.
وقلما تجد هذا التعبير.
(6/37)
وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل
أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة. (1)
6039- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال:"أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر
لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان
من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا
يريبكم". (2)
__________
(1) الحديث: 6308- سعيد: هو ابن أبي عروبة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 246، عن يحيى، وهو القطان.
و: 350، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة. بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 2276، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، وهو
ابن أبي عروبة، به.
وذكره ابن كثير 2: 58، عن الموضع الأول من المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 365، وزاد نسبته لابن
الضريس، وابن المنذر. وأشار إليه في الإتقان 1: 33، موجزا،
منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط.
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد،
لانقطاعه. فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، كما بينا في شرح
المسند: 109، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 26-27.
(2) الحديث: 6309- داود: هو ابن أبي هند. عامر: هو الشعبي.
وهذا الإسناد ضعيف أيضًا، فإن الشعبي لم يدرك عمر، كما قلنا
فيما مضى: 1608، نقلا عن ابن كثير.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 153، منسوبا للطبري، وقال: "وهو
منقطع، فإن الشعبي لم يدرك عمر".
وذكر ابن كثير 2: 58، نحو معناه، قال: "رواه ابن ماجه وابن
مردويه، من طريق هياج ابن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي
نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر. . . " إلخ.
وهياج بن بسطام الهروي: اختلفوا فيه جدا، فضعفه أحمد، وابن
معين، وابن أبي حاتم، وغيرهم. وقال المكي بن إبراهيم - شيخ
البخاري: "ما علمنا الهياج إلا ثقة صادقا عالما". ووثقه محمد
ابن يحيى الذهلي. وقد أنكروا عليه أحاديث، ثم ظهر أن الحمل
فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه. والراجح عندنا هذا، فإن
البخاري ترجمه في الكبير 4/2/242، فلم يذكر فيه جرحا. وكأنه
ذهب فيه إلى ما اختاره شيخاه: المكي بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى
الذهلي.
وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج. ثم لم أعرف موضعه في ابن
ماجه، وليس عندي كتاب ابن مردويه.
ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج. فرواه الخطيب في ترجمته في
تاريخ بغداد 14: 80-81، من طريق محمد بن بكار بن الريان، -وهو
ثقة- عن الهياج، بهذا الإسناد.
فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح، والحمد لله.
(6/38)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال،
حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن
الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا،
وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }
قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6311 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين
بن واقد
__________
(1) الحديث: 6310- أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة
وتشديد الباء الموحدة - النميري النحوي: ثقة صاحب عربية وأدب.
قال الخطيب: "كان ثقة عالما بالسير وأيام الناس". مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/116، وتاريخ بغداد 11: 208-210.
قبيصة: هو ابن عقبة. مضت ترجمته في: 489، 2792. وهذا الحديث من
روايته عن سفيان الثوري. وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة،
خلافا لمن تكلم فيها.
عاصم الأحول: هو عاصم بن سليمان. وقد مضى مرارا. ووقع في
المطبوعة هنا"عاصم عن الأحول". وهو خطأ مطبعي. وثبت على الصواب
في المخطوطة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح 8: 153 (فتح) ، عن قبيصة،
بهذا الإسناد. ولكنه اقتصر على أوله، إلى قوله"آية الربا" لأن
الباقي موقوف من كلام ابن عباس.
وذكر السيوطي 1: 365 رواية البخاري، وزاد نسبتها لأبي عبيد،
والبيهقي في الدلائل.
وقال الحافظ في الفتح: "المراد بالآخرية في الربا: تأخر نزول
الآيات المتعلقة به من سورة البقرة. وأما حكم تحريم الربا
فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في
آل عمران، في أثناء قصة أحد: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
الربا أضعافا مضاعفة) الآية".
(6/39)
عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم:"واتقوا يوما
ترجعون فيه إلى الله". (1)
6312 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله ... " الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت.
6313 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال:
حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما
ترجعون فيه إلى
__________
(1) الحديث: 6311 -أبو تميلة- بضم التاء المثناة: هو يحيى بن
واضح. مضت ترجمته في: 392.
الحسين بن واقد: مضت ترجمته في: 4810. ووقع هناك في طبعتنا
هذه"الحسن". وهو خطأ مطبعي، مع أننا بيناه على الصواب في
الترجمة، فيصحح ذلك.
يزيد النحوي: هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي، مولى قريش.
وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وابن معين، وغيرهما. قتله أبو مسلم
سنة 131 لأمره إياه بالمعروف. والنحوي": نسبة إلى"بني نحو"،
بطن من الأزد.
وهذا إسناد صحيح.
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8: 153، ونسبه للطبري فقط.
وذكره ابن كثير 2: 69، عن رواية النسائي، فهو يريد بها السنن
الكبرى. وكذلك صنع السيوطي في الإتقان 1: 33.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324، وقال: "رواه الطبراني
بإسنادين، رجال أحدهما ثقات".
وفي الدر المنثور 1: 369-370 زيادة نسبته لأبي عبيد، وعبد بن
حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه،
والبيهقي في الدلائل.
وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس، يعارض ظاهر الرواية السابقة
عنه: 6310، أن آخر آية زلت هي آية الربا.
فقال الحافظ في الفتح: "وطريق الجمع بين هذين القولين، [يريد
الروايتين] : أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا،
إذ هي معطوفة عليهن".
ويشير إلى ذلك صنيع البخاري، بدقته وثقوب نظره، فإنه روى
الحديث الماضي تحت عنوان: "باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله) ". فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا، والروايتين متحدتين
غير متعارضتين. رحمه الله.
(6/40)
الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا
يظلمون". (1)
6314 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه
إلى الله".
6315 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة،
عن عبيد بن سليمان، (2) عن الضحاك، عن ابن عباس = وحجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس = آخر آية نزلت من القرآن:"واتقوا
يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا
يظلمون" = قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم
مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، (3) ومات يوم الاثنين.
6316 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن
ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن
بالعرش آية الدين. (4)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس = يوما
ترجعون
__________
(1) الخبر: 6313- سهل بن عامر: مضت ترجمته في: 1971، وأنه ضعيف
جدا. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"إسماعيل بن سهل بن
عامر"! وهو تخليط من الناسخين، فلا يوجد راو بهذا الاسم. ثم
هذا الإسناد نفسه هو الماضي: 1971. ومضى أيضًا رواية محمد بن
عمارة، عن سهل، عن مالك بن مغول: 5431.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، والصواب من
المخطوطة، ومن كتب التراجم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وبدا يوم السبت"، وهو خطأ فاحش،
وأشد منه فظاظة شرح من شرحه فقال: "يريد أنه احتجب عن الناس
لمرضه، ثم خرج لهم يوم السبت"! وأولى بالمرء أن يدع ما لا
يحسن! إنما هو قولهم: "بدئ الرجل" (بالبناء للمجهول) أي مرض.
يقال: متى بدئ فلان؟ أي: متى مرض: وفي حديث عائشة: أنها قالت
في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وا
رأساه".
وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان 1: 33، وابن كثير
2: 69، 70.
(4) الحديث: 6316 - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب، ولكنه حديث
ضعيف لإرساله، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به.
والحديث نقله ابن كثير 2: 70-71، عن هذا الموضع بإسناده. وذكره
السيوطي 1: 370"عن ابن جرير، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب".
(6/41)
فيه إلى الله" فتلقونه فيه، أن تردوا عليه
بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك
أستاركم، (1) أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا
قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، (2) لا يوم استعتاب،
ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة،
توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا
تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، (3) فوفيت
جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. (4) وكيف يظلم من جوزي
بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! (5) كلا بل عدل عليك
أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ
ربه، وأخذ منه حذره، (6) وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من
الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر
فأعذر، ووعظ فأبلغ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بفضيحات تفضحكم"، ولا أدري لم غير ما كان في
المخطوطة!!
(2) في المطبوعة: "مجازاة الأعمال"، ولا أدري لم حذف"الباء"!!
(3) في المطبوعة: "لا يغادر. . . " بالياء، وفي المخطوطة غير
منقوطة، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "فتوفى جزاءها"، وفي المخطوطة: "فتوفيت" غير
منقوطة كلها، وصوت قراءتها ما أثبت
(5) في المطبوعة: "كيف" بحذف الواو، والصواب ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة: "فأخذ" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.
(6/42)
|