تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر"، ألم تر، يا
محمد، بقلبك، (1) فتعلم بخبري إياك، يا محمد="إلى الملأ"،
يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم="من بعد موسى"،
يقول: من بعد ما قبض موسى فمات="إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا
ملكا نقاتل في سبيل الله". فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك
شمويل (2) بن بالى (3) بن علقمة (4) بن يرحام (5) بن إليهو (6)
بن تهو بن
__________
(1) انظر معنى"ألم تر"، و" الرؤية" فيما سلف: ص: 266، والمراجع
في التعليق.
(2) ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من
الأسماء، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا، من أخبار
الأيام الأول. في الإصحاح السادس. و"شمويل" هناك هو"صموئيل".
(3) "بالي"، لم يرد له ذكر في نسب"شمويل" من كتاب القوم، بل هو
عندهم"صموئيل بن"القانة".
(4) (ألقانة)
(5) (يروحام) . وفي المطبوعة: "برحام" خطأ، وهو في المخطوطة
غير منقوط وأما في تاريخ الطبري 1: 242 فهو بالحاء المعجمة.
(6) (إيليئيل) . الظاهر أنه هو"إليهو".
(5/291)
صوف (1) بن علقمة بن ماحث (2) بن عموصا (3)
بن عزريا بن صفنية (4) بن علقمة بن أبي ياسف (5) بن قارون (6)
بن يصهر (7) بن قاهث (8) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم.
5626- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (9)
عن وهب بن منبه.
5627- وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل:
أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما
نسبه ابن إسحاق. (10)
* * *
وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي"شمعون"، لأن أمه
دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها،
فولدت غلاما فسمته
__________
(1) (توح) ، وفي المطبوعة: "يهو صوق"، وهو خطأ، وفي
المخطوطة"بهو صوف" غير منقوط، وكلاهما أسقط"بن" بين الكلمتين.
والصواب من تاريخ الطبري. و" توح" مذكور في كتاب القوم، في
كتاب صموئيل الأول، الإصحاح الأول برسم: "توحو".
(2) (محث) .
(3) (عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك: "عما ساى بن
ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن
أبياساف"، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري، وفيما
رواه بعد ذلك تقديم وتاخير كما ترى.
(4) (صفنيا) ، وفي المطبوعة والمخطوطة: " صفية".
(5) (أبياساف) وفي المطبوعة: "أبى ياسق"، وفي المخطوطة" أبي
ياسف".
(6) (قورح) .
(7) (يصهار) .
(8) (قهات) .
(9) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، وهو إسناد
دائر في الطبري عن"محمد بن إسحق" صاحب السيرة.
(10) في المخطوطة والمطبوعة: "كما نسبه إسحاق"، وهو خطأ ظاهر،
وانظر التعليق السالف.
(5/292)
"شمعون"، تقول: الله تعالى سمع دعائي.
5628- حدثني [بذلك] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي. (1)
* * *
فكأن"شمعون""فعلون" عند السدي، من قولها: إنَّه سمع الله
دعاءها. (2)
* * *
5629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد
موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل. (3)
* * *
وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم
ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع (4) بن نون بن أفراثيم (5) بن
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
5630- حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)
، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد
الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (6)
* * *
وأما قوله:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل
التأويل في
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، كما في إسناد الأثر
السالف،
(2) في المطبوعة: "من قولها سمع" أسقط" أنه" وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " شمعون"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب ما في
المخطوطة والدر المنثور 1: 315.
(4) (يشوع) .
(5) (أفرايم) ، وفي المطبوعة (أفراثيم) ، والصواب ما أثبت من
التاريخ 1: 225، وفي المخطوطة غير منقوطة.
(6) يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: 23]
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمَا} ، الآية.
(5/293)
السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني
إسرائيل نبيهم ذلك.
فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: -
5631- حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال،
حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني
إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه
الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (1) يقيم فيهم التوراة وأمر
الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (2) بن بوزي، وهو
ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل
الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان
وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (3) بن نسى (4) بن
فنحاص (5) بن العيزار (6) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت
الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما
نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال
له أحاب، (7) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره.
وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله،
فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا
ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك
__________
(1) (يفنة) وفي المطبوعة: " يوقنا"، والصواب من المخطوطة
والتاريخ 1: 238.
(2) (حزقيال) في كتاب القوم.
(3) (إيليا) ، وهو"إيليا التشبى" مذكور في"الملوك الأول"
إصحاح: 17.
(4) لم أجد نسب"إيليا"، وقوله: "نسى"لم أجده. وهو في
المخطوطة"سى" غير منقوطة ولا واضحة، وفي تاريخ الطبري 1:
239"إلياس بن ياسين".
(5) (فينحاس) .
(6) (العازار) .
(7) (أخاب) "في الملوك الأول" الإصحاح: 16، 17. وهو في
المطبوعة والتاريخ والمخطوطة: "أحاب"، مهمل الحاء.
(5/294)
له ناحية منها يأكلها. (1) فقال ذلك الملك=
الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه
= يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا!
والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل
(2) - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه،
يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، (3) ما ينقص من دنياهم [أمرهم
الذي تزعم أنه باطل] ؟ (4) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون
- (5) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم
رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع
ما يصنعون. (6) ثم خلف من بعده فيهم اليسع، (7) فكان فيهم ما
شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف،
وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر،
فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا
يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، (8) إلا هزم الله
ذلك العدو. (9) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، (10) وكان الله
قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا
يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب
على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو
وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله
سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو
فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم
زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء
فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه.
فمرج أمرهم عليهم، (11) ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم
ونسائهم. (12) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا
لا يقبلون منه شيئا، يقال له"شمويل"، (13) وهو الذي ذكر الله
لنبيه محمد:"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" إلى
قوله:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله:"فلما كتب
عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، إلى قوله:"إن في ذلك لآية
لكم إن كنتم مؤمنين".
= قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم،
عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا
نبيهم شمويل بن بالي فقالوا:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل
الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة
الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له
أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا
عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا
تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر
__________
(1) (يأكلها) أي يغلب عليها، ويصير له ما لها وخراجها. وفي
حديث عمرو بن عنبسة: (ومأكول حمير من آكلها، الماكول: الرعية
-والآكلون: الملوك. وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون
المرباع وغيره" الآكال"، وفي الحديث: "أمرت بقرية تأكل القرى"،
هي المدنية، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى.
(2) في المطبوعة: "يعدد ملوكا. . " وأثبت ما في المخطوطة، وفي
تاريخ الطبري: "يعد".
(3) في المطبوعة: "مالكين"، وفي المخطوطة: "ملكين"، وأثبت ما
في تاريخ الطبري.
(4) الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم
الكلام إلا بها.
(5) في المطبوعة: "ويزعمون" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(6) إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه1: 239 /
ثم الذي يليه في 1 / 240 فصلت بينهما روايات أخرى.
(7) (أليشع) في كتاب القوم.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "وكانوا. . . "، وأثبت ما في
التاريخ، فهو أجود.
(9) بعد هذا في التاريخ ما نصه: "والسكنية - فيما ذكر ابن
إسحق، عن وهب بن منبه، من بعض أهل إسرائيل -رأس هرة ميتة، فإذا
صرخت في التابوت بصراخ هرة، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
(10) (عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري"إيلاف". والمرجح
أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب، لقربه من لفظ"عالي"
وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه 1: 243"عيلى"،. وعالي، من
عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة. وخبر موت عالي
عند استلاب التابوت، مذكور في كتاب القوم"صموئيل الأول"
الإصحاح الرابع.
(11) في تاريخ الطبري: "فمرج أمرهم بينهم". ومرج الأمر: اختلط
والتبس واضطرب في الفتنة.
(12) إلى هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ 1:
240-241.
(13) (صموئيل) في كتاب القوم.
(5/295)
الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا،
وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا
ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا
صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد
فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا
فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا
في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.
5632- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل"
إلى:"والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا -والله أعلم-
أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني
إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة
نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار
فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف
آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم
استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره
كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في
أنفسهم وأموالهم، (1) فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال!
فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا
تقاتلوا"، إلى قوله:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع
عليم".
5633- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين
رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم
من ديارهم وأبنائهم. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "في نفوسهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده. وهذا
لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم، وهو عربية معرقة.
(5/297)
5634- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت
أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله:"إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت
التوراة واستخرج أهل الإيمان.
* * *
وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك، ما: -
5635- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى
إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال:
كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت،
(1) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا
توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا
يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا
امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية
فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت
المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون.
(2) فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس، (3)
وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله
نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ= وكان لا يتمن
عليه أحدا غيره= (4) فدعاه بلحن الشيخ:"يا شماول! "، (5) فقام
__________
(1) (جليات) في كتاب القوم.
(2) في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون: "تقول": الله سمع دعائي".
وانظر الأثر السالف رقم: 5628 وما قبله وما بعده.
(3) في المطبوعة: "فأرسلته يتعلم"، وأثبت ما في المخطوطة
والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "لا يأتمن"، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر:
"لايئتمن" في الأوربية والمخطوطة: "لا يتمن". وأمنه وأمنه
وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء، وانظر تعليق صاحب اللسان
على قول من قال إن الأخيرة نادرة.
(5) اللحن: اللغة واللهجة. وفي التاريخ: "شمويل"، وظاهر هذا
الخبر يدل على أن"شمعون" هو"شمويل" وأنهما لغتان بمعنى واحد.
وانظر الآثار السالفة 5626 -5629، والتعليقات عليها.
(5/298)
الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه،
دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول:"لا" فيفزع الغلام، فقال: يا بني
ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا
فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني!
فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم
رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه
وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (1) وقالوا: إن كنت صادقا
فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم
شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره:"نقاتل في
سبيل الله" إذا قرئ"بالنون" غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط
الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى:
الذي نقاتل به في سبيل الله، (3) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب
لا تضمر حرفين. (4) ولكن لو كان قرئ ذلك"بالياء" لجاز رفعه،
لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل"الملك"، فيصير تأويل الكلام
حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره:
(وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ) [سورة البقرة: 129] ، لأن قوله" يتلو" من صلة
الرسول. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"ولم تنل لك" وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري:
"ولم تبالك"، من المبالاة، وهي ليست بشيء. وفي الدر المنثور:
"ولم يأن لك"، وفي المخطوطة: "ولم تنل لك" وظاهر أنها"تئن".
من"آن يئين أينا": أي حان. مثل"أني لك يأني"، بمعناه، أي لم
تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا.
(2) الأثر: 5635- في تاريخ الطبري 1: 242، والدر المنثور 1:
315، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله: "والله أعلم"، وهي زيادة
من ناسخ لا معنى لها هنا، وليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: " الذي نقاتل" بحذف"به"، وهو خطأ
يدل عليه السياق، وما جاء في معاني القرآن للفراء 1: 157.
(4) يعني"الذي" و"به".
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 157- 162، فهو قد استوعب
القول في هذه القراءة، وفي هذا الباب من العربية. و"الصلة":
التابع، كالنعت والحال، ويعني به نعت النكرة، هنا.
(5/299)
القول في تأويل قوله: {قَالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا
تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا
قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن
يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (1)
"إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (2) ="ألا تقاتلوا"،
يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في
سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ ="قالوا وما
لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل
لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو
الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا
نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله: (وَمَا لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ؟ [سورة
الحديد: 8]
قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (3) "ما
لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما
قال الشاعر: (4)
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * ...
__________
(1) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 77.
(2) انظر معنى" كتب" فيما سلف 3: 357، 364- 365، 409/ 4: 297.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "مع قولنا"، والسياق الآتي يقتضي
ما أثبت.
(4) لم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من
الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء 1: 163، واللسان (خلف) .
والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف،
وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق
الحوامل"مخاض"، كقولهم: "امرأة، ونسوه"، وهذا الراجز يقول
لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو
حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال
الشماطيط الغطفاني لناقته: أرار الله مخك في السلامى ... إلى
من بالحنين تشوقينا!!
فإني مثل ما تجدين وجدي، ... ولكني أسر وتعلنينا!
وبي مثل الذي بك، غير أني ... أجل عن العقال، وتعقلينا!
هذا، وقد كان في المطبوعة"ملك ترعين ولا ترعوا الخلف"، وهو في
المخطوطة على الصواب، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من
المواضع.
(5/300)
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به
إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.
= وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ
كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 12] ، ثم قال في
سورة أخرى في نظيره: (مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر: 32] ، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"،
و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت
ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه
وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر: (1)
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت: ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم?
(2)
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) ديوانه: 863، والنقائض: 753، ومعاني القرآن للفراء 1: 164،
واللسان (قرد) (قلا) (هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله،
يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن: وليس
كليبي، إذا جن ليله ... إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم
يقول- إذا اقلولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة: "تقول". وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا
فاسدا جدا في"قرد"، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه
الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة
يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا
إناث البشر!! وقوله: "اقلولي" أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا
لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير
ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد
رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: "ألا هل أخو
عيش لذيذ بدائم"، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف
ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن"هل" هنا
بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل) .
(5/301)
فأدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي
استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب
معنى الاستفهام والجحد. (1)
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول: (2) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"،
لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك
جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك
غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما
يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في"
مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت".
* * *
وقال آخرون منهم: (3) " أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما
تزاد بعد" لما" و" لو"، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا.
قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي
زائدة، وقال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إذن للام ذوو أحسابها عمرا
(5)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163- 164، وقد استوفى الكلام
فيما فتحه الطبري.
(2) هو الكسائي، كما صرح به الفراء في معاني القرآن 1: 165.
(3) هو أبو الحسن الأخفش، كما يتبين من تفسير أبي حيان
والقرطبي والمغني.
(4) في المطبوعة: " زائدة بعد فلما ولما ولو"، وهو تخليط. وفي
المخطوطة "بعد مليما. . . " مضطربة الكتبة، فالصواب عندي أن
تكون: "مالنا"، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة، حذف "كما
تزاد"، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله
(5) ديوانه: 283، وسيأتي في التفسير 9: 165، والخزانة 2: 87،
والعيى (الخزانة) 2: 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد
الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان،
من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في
بابه، وقبل البيت أبيات منها: يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم
... يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم ... سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا
بصرا
ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان. . . . . . .
هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن"الذنوب"جمع"ذنب"، وهو عندي ليس
بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على
إعمال"لا" الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في
البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به.
والذنوب (بفتح الذال) : الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو
بهذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، أي حظا من العذاب.
قال الفراء: " الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى
الحظ والنصيب". وقال الزمخشري: "ولهم ذنوب من كذا" أي نصيب،
قال عمرو ابن شأس: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من
نداك ذنوب
أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف
والحسب والمروءة -"إذن للام ذوو أحسابها عمرا". وبذلك يبرأ
البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر
بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: 287- 288وقوله: فسد الزمان
وبدلت أعلامه ... حتى أمية عن فزارة تنزع
يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن
رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده.
(5/302)
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا"
زائدة فأعملها. (1)
= وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون.
وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في
المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا
نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح.
قالوا: وأما قوله:
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * ...
__________
(1) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو"لا"، كما أعملت"أن" في
الآية.
(5/303)
= فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه
جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن
غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس
يقوم"، بمعنى: هو يقوم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا
نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن
تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في
الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما
لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا:
قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم.
* * *
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على
التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون
جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية=
وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى:"رأيتك وإيانا تريد". (1)
لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو"
مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما
بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (2)
واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول
الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها ... إياك في غيرهم أن تبوحا (3)
__________
(1) في المطبوعة: "رأيتك أبانا ويزيد، بمعنى: رأيتك وأبانا
يزيد"، وهو كلام ساقط هالك. والصواب من المخطوطة، وإن كان غير
منقوط الحروف، ومن معاني القرآن للفراء 1: 165.
(2) "الأفاعيل" الأفعال. ووقوعها على ما قبلها، إما بالعمل فيه
أو بالتعليق به.
(3) لم أعرف قائله، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 165،
والسرائر جمع سريرة، والسريرة: السر هنا.
(5/304)
= وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو"
مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (1)
* * *
وأما تأويل قوله تعالى:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه
يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم
وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص،
لأن الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"،
كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من
أسر وقهر منهم.
* * *
وأما قوله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"،
يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله="تولوا إلا
قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه
نبيهم من فرض الجهاد.
والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع
طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر
بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه.
* * *
يقول الله تعالى ذكره:"والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو
علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر
ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني
مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا
صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره
لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما
سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض
ما عصيتموه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " تقديم غيرهم" بإسقاط"في"،
والصواب من معاني القرآن للفراء 1: 166، وقد استوفى الكلام في
ذلك، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه.
(5/305)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247)
فيه، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من
إلزام فرضه- أحرى.
* * *
وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك
أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد
أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"= فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا
يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال="
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم
بالظالمين".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ
اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني
إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم
طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون
لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب= وسبط
بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة= ونحن أحق بالملك منه، لأنا
من سبط يهوذا بن يعقوب="ولم يؤت سعة من المال"، يعني: ولم يؤت
طالوت كثيرا من المال، لأنه سقاء= وقيل: كان دباغا.
* * *
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا
لنبيهم شمويل:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه
ولم يؤت سعة من المال"، ما: -
5636- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني
محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال:
لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له، سأل
الله نبيهم شمويل أن يبعث
(5/306)
لهم ملكا، فقال الله له: انظر القرن الذي
فيه الدهن في بيتك، (1) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في
القرن، (2) فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم،
وأخبره بالذي جاءه- (3) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه.
(4) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، (5) وكان من سبط
بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا
ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، (6) ومعه غلام له. فمرا
ببيت النبي عليه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا
على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها
بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه، فبينما هما
عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها، إذ نش
الدهن الذي في القرن، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه، ثم
قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه، فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني
إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! = وكان اسم"طالوت"
بالسريانية: شاول (7) بن قيس بن أبيال (8) بن ضرار (9) بن يحرب
(10) بن أفيح بن آيس (11) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم= فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني
إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في
بيت النبوة المملكة؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل
يهوذا! فقال لهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم
والجسم".
5637- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، عن
عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: قالت
بنو إسرائيل لأشمويل: (12) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله!
قال: قد كفاكم الله القتال! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون
لنا ملك نفزع إليه! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت
ملكا، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت، (13)
فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها،
(14) فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟
قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟
(15) قال: بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟!
قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال:
__________
(1) القرن: قرن الثور وغيره، وكأنه أراد هنا: القنينة التي
يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر
وغيرها، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها"قرنا" ولم أجد هذا
الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة، ولكنه صحيح كما رأيت.
(2) نش الماء ينش نشا: ونشيشا: صوت عند الغليان.
(3) في المخطوطة"بالذي حاه" غير منقوطة، ولولا أن في المطبوعة،
صواب أيضًا، لقلت إنها: "بالذي حباه الله"، يعني الملك.
(4) هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور
1: 351. وأخشى أن تكون"متى" زائدة، أو تكون"مأتى ذلك الرجل
00".
(5) الأدم جمع أديم. وهو جمع عزيز، وقال سيبوله: هو اسم للجمع.
قال التوزي: "الجلد أول ما يدبغ فهو أديم، فإذا رد في الدباغ
مرة أخرى فهو اللديم".
(6) يقال: أضله الأمر: إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه. وهذا
من عجيب العربية. وفي المخطوطة: "أطلته"، وهو خطأ، والصواب ما
في المطبوعة والدر المنثور.
(7) في المخطوطة والمطبوعة: "شادل". والصواب من التاريخ 1:
247، والدر المنثور 1: 315، وهو كذلك في كتاب القوم.
(8) (أبيئيل) في كتاب القوم.
(9) (صرور) في كتاب القوم.
(10) (بكورة) في كتاب القوم، وفي التاريخ"بحرت"، وكأنها
الصواب.
(11) لم أجد في كتاب القوم، وفي التاريخ (أيش) .
(12) في تاريخ الطبري 1: 244"لأشمويل"، وفيما سيأتي
بعد"أشمويل" في سائر المواضع.
وكذلك في المخطوطة، أما المطبوعة، فكان فيما"لشمويل"، وفي سائر
المواضع"شمويل" فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ.
(13) في المطبوعة: " وضلت"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(14) في المخطوطة والمطبوعة: "فجاؤوا. . . يسألونه عنها"،
والصواب ما في التاريخ كما أثبته.
(15) في المخطوطة والمطبوعة: " وما علمت" وأثبت ما في التاريخ،
وهو مقتضى السياق.
(5/307)
بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع
وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي!
فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل:"إن الله قد بعث لكم
طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه
ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في
العلم والجسم".
5638- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون، (1) =وقالوا
له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من
نبوتك. قال لهم شمعون: عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟
"قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" الآية= دعا الله، فأتي
بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن
صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا
مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له، فضل حماره،
فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان
مثلها، فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال
القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس
هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال
النبي:"إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم". (2)
5639- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد
الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: كان
طالوت سقاء يبيع الماء.
5640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا، وكان من سبط بنيامين، سبط لم
يكن فيهم
__________
(1) انظر الأثر السالف: 5635، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا
النبي عليه السلام.
(2) الأثر: 5638- هو تتمة الأثر السالف: 5635، وهو في تاريخ
الطبري بعلوله 1: 242- 243.
(5/309)
مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل
سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه
موسى = وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من
غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا:"أنى
يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"؟ قالوا: وكيف يكون
له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة! فقال
الله تعالى ذكره:"إن الله اصطفاه عليكم".
5641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"ابعث لنا ملكا"، قال لهم نبيهم:"إن
الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟
قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة، فقال:"إن الله
اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
5642- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم
طالوت ملكا"، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط
خلافة، فلذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ يقولون: ومن
أين يكون له الملك علينا، وليس من سبط النبوة ولا سبط
الخلافة"؟ قال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم
والجسم".
5643- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أنى
يكون له الملك علينا"، فذكر نحوه.
5644- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن
يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم
القتال"؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني
إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط
النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم
(5/310)
ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا:"أنى يكون
له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟
قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من
سبط المملكة؟ فقال:"إن الله اصطفاه عليكم" الآية.
5645- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ
قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت
سعة من المال"؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني
إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك،
فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحد
إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من
أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن
أجل ذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"،
وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف"إن الله اصطفاه عليكم"
إلى:"والله واسع عليم".
5646- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل
من بعد موسى" الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل
الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ="فلما
كتب عليهم القتال"، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني
إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في
سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، = فقال لهم
نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك
علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من أحد السبطين: لا من سبط
النبوة، ولا سبط الخلافة؟ "قال إن الله اصطفاه عليكم"، الآية.
(1)
* * *
__________
(1) الأثر: 5646- هو تتمة الأثر السالف: 5633.
(5/311)
وقد قيل: إن معنى"الملك" في هذا الموضع:
الإمرة على الجيش.
* ذكر من قال ذلك:
5647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال مجاهد قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"،
قال: كان أمير الجيش.
5648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله= إلا أنه قال: كان أميرا على
الجيش.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"أنى"، ومعنى"الملك"، فيما مضى،
فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ
عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفاه عليكم"،
قال نبيهم شمويل لهم:"إن الله اصطفاه عليكم"، يعني: اختاره
عليكم، كما: -
5649- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اصطفاه عليكم"، اختاره. (2)
5650- حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال: اختاره عليكم.
__________
(1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398- 416، وتفسير معنى"الملك"
فيما سلف 1: 148- 150، ثم 2: 488.
(2) انظر تفسير"الاصطفاء" فيما سلف 3: 91.
(5/312)
5651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم"، اختاره.
* * *
وأما قوله:"وزاده بسطة في العلم والجسم"، فإنه يعني بذلك أن
الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى
غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي
من الله، وأما"في الجسم"، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم
ما لم يؤته غيره منهم. كما: -
5652- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال:
لما قالت بنو إسرائيل:" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق
بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم
وزاده بسطة في العلم والجسم". قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان
طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.
* * *
وقال السدي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا
على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله
طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا
طالوت بها فكان مثلها.
5653- حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده" مع
اصطفائه إياه"بسطة في العلم والجسم". يعني بذلك: بسط له مع ذلك
في العلم والجسم.
* ذكر من قال ذلك:
5654- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، بعد هذا.
* * *
__________
(1) الأثر: 5653- هو بعض الأثر السالف: 5638.
(5/313)
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون
غيره يؤتيه="يؤتيه"، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه
به، ويمنعه من أحب من خلقه. (1) يقول: فلا تستنكروا، يا معشر
الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم
يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء
والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا
على الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:"والله يؤتي ملكه من
يشاء"، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه.
5656- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه.
5657- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، سلطانه.
* * *
وأما قوله:"والله واسع عليم"، فإنه يعني بذلك"والله واسع"
بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء= (2) "عليم" بمن
هو أهل لملكه الذي
__________
(1) في المطبوعة: "ويمنحه من أحب ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "فينعم له، والصواب ما في المطبوعة: وفي
المطبوعة: "ويريد به من يشاء"، وفي المخطوطة: " ويريد فيه ...
" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.
(5/314)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه
به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو
به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}
قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي
أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم
هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم
نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه
الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام،
إذ كان الأمر على ما وصفنا:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله
واسع عليم"، فقالوا له: ما آية ذلكإن كنت من الصادقين؟ (2)
="قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت". وهذه القصة =
(3) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل
ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته
أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله،
ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، (4) ثم
إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من
__________
(1) في المخطوطة: "وإما لا نه" وبينهما بياض على قدر كلمة، ولم
أستطع أن أجد كلمة في البياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله،
وإن كنت لا أرضاه كل الرضى.
(2) في المطبوعة: "فقالوا له: ائت بآية على ذلك ... "، وفي
المخطوطة: " مما أتى به ذلك" وقد ضرب على الباء من"أتى".
واستظهرت قراءتها كما أثبتها، لقوله تعالى بعد: " إن آية
ملكه".
(3) في المطبوعة: " هذه القصة" بإسقاط الواو، وإسقاطها مخل
بالكلام.
(4) في المطبوعة: " بناء عما كان منهم من تكذيبهم"، وهو غث من
الكلام. وفي المخطوطة: "بنا عما كان. . . " غير منقوطة،
والصواب ما أثبت مع زيادة"الواو" عطفا على قوله: "وإن كانت
خبرا. . . ".
(5/315)
الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين
استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من
الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه=
(1) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله
عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن
يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به
ونهاهم عنه= مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته، بعد ما
كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة
الله إياه إليهم وإلى غيرهم = (2) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم
الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي، مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم
بحقية نبوته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله
ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم
ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد
مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك= (3) وحض لأهل الإيمان بالله
وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في
سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى
الله عليه وسلم عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله
وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن
ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت، وإيثارهم الدعة
والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله= (4) وشحذ
منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب
قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله:
(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: 249] ،=
(5) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر
والظفر والخير والشر.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لهم نبيهم"، فإنه يعني: للملأ من بني
إسرائيل الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل
الله".
* * *
وقوله:"إن آية ملكه"،: إن علامة ملك طالوت= (6) التي
سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا،
وإن كان من غير سبط المملكة="أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من
ربكم"، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم
قدموه أمامهم، وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر
عليهم أحد ناوأهم، حتى ضيعوا أمر الله، (7) وكثر اختلافهم على
أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل
ذلك، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، (8) ولن يرد إليهم
آخر الأبد. (9)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه
إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله:"إن الله قد
بعث لكم طالوت ملكا"، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده
الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه
قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟
فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه،
(10) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم رده الله عليهم
آية لملك طالوت. وقال في
__________
(1) سياق الجملة: وهذه القصة، وإن كانت خبرا من الله00 0 ونبأ
عما كان منهم ... فإنه تأديب ... ".
(2) سياق هذه الجملة: "وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا ... أن
يكونوا كأسلافهم ... ".
(3) قوله: "وحض ... " معطوف على قوله آنفًا: "فإنه تأديب ...
".
(4) قوله: "وشخذ ... " معطوف ثان على قوله آنفًا: " فإنه تأديب
... ".
(5) قوله: " وإعلام ... " معطوف ثالث على قوله: "فإنه تأديب
... ".
(6) انظر تفسير"آية" فيما سلف 1: 106 / 2: 397، 398، 553 / 3:
184 / 4: 271.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى منعوا أمر الله". وهو تصحيف
لا معنى له، والصواب ما أثبت.
(8) في المطبوعة: "حتى سلبهم آخر مرة"، والذي في المخطوطة هو
الصواب الجيد، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف.
(9) في المخطوطة: "ولم يرده إليهم آخر الأبد"، وهو خطأ بين.
(10) في المطبوعة: " كان ذلك عندهم"، بحذف"بل".
(5/316)
سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: -
5658- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه
قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان
شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به
كلابين (1) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، (2) فجعله ابناه
كلاليب. (3) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن.
فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع
صوتا يقول: أشمويل!! (4) فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك!
دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول:
أشمويل!! فوثب إلى عيلي أيضا، فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟
فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل:"لبيك"
مكانك،"مرني فأفعل"! فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل!!
فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل
له:"منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني،
وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه
وإياهما"! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا.
فسار إليهم عدو ممن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " كان مشرط القربان الذي يشرطونه
به"، وهو خطأ لا معنى له، والصواب من تاريخ الطبري 1: 243.
والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها، يحرك بها
ما في القدر ليختلط. ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا: إذا حركة
وخاصه، ليختلط ويمتزج. وقربان اليهود هذا هو"التقدمة"، كانت من
دقيق مع زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل
اللبان، ويوقد على المذبح، أو يعمل منه قطائف علي صاج، وأما
البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس 2: 208) . والكلاب
(يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب، في رأسه
عقافة معطوفة كالخطاف، وجمعه: "كلاليب".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "للكاهن الذي يستوطنه"، وهو خطأ،
صوابه من التاريخ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فجعل ابناه ... "، والصواب من
التاريخ.
(4) في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع وما بعده: "أشمويل"،
والذي قبله: "شمويل"، وأثبت ما فيهما، كما سلف قريبا ص: 308،
تعليق: 5.
(5/318)
حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا
ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان
وعصا موسى لينصروا به. (1) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم، جعل
عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على
كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال: فما فعل
التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه
فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم
صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه، فأصبح من الغد
والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه
في التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح
ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني
إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا
التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي
وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟! فقالت
لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما
تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا:
كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع
عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، (2) ثم تضعوا التابوت
على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به
مذعنتين، (3) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني
إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما
خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما،
وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني
إسرائيل، (4) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا
يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا، (5) فمن
آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد
يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، (6) أذن لهما بأن يحملاه
إلى بيت أمهما، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت،
فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (7)
5659- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني
إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق
بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم
وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه= وإن تمليكه من قبل
الله= أن يأتيكم التابوت، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتم تهزمون به من
لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت
فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من
الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان،
وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة
في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت
حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها:"أزدود"، (8)
فكانوا قد جعلوا التابوت في
__________
(1) في التاريخ: "لينتصروا به"، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به.
(2) في المطبوعة: "وراءهم" والصواب من التاريخ والمخطوطة.
والنير: الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها.
(3) في المطبوعة: " ينطلقان مذعنين"، والصواب من المخطوطة
والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "حضار"، وفي المخطوطة: "حصار"، غير منقوطة،
والصواب ما في التاريخ.
(5) في التاريخ: "اعرضوا"، وهما سواء.
(6) في التاريخ: "فلم يقدر أحد على أن يدنو منه"، والذي في
المخطوطة والمطبوعة حسن.
(7) الأثر: 5658- في التاريخ 1: 243- 244، وهو صدر الأثر
السالف رقم: 5637، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا.
(8) في المطبوعة: "يقال لها: أردن"، وهو خطأ لا شك فيه، وأما
ما في المخطوطة فهو، "أردود" بالراء، وأنا أظنه بالزاي وأثبته
كذلك. فإنه الذي في كتاب القوم في"كتاب صموئيل الأول" الإصحاح
الخامس: "أشدود"، وقال صاحب قاموسهم: "أشدود" (حصن، معقل) ،
إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة ... وموقعها على ثلاثة أميال
من البحر المتوسط بين غزة ويافا. قال: وهي الآن قرية حقيرة
تسمى: أسدود، وفي جوارها خرائب كثيرة". والذي يرجع ما ظننته
أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره 1: 602 أنه يقال لها: "
أزدوه"، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر:
"أزدرد". وفي البغوي بهامش ابن كثير 1: 601"أزدود" كما أثبتها.
(5/319)
كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي
صلى الله عليه وسلم ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت
سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث
الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا،
(1) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد
أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله، (2) وما نعلمه أصابنا
إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم
تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت
معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها
التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت
الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا
كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى
وقف على بني إسرائيل، فكبروا وحمدوا الله، وجدوا في حربهم،
واستوسقوا على طالوت. (3)
5660- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى
طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له
الرياسة، حتى قال لهم:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه
سكينة من ربكم". فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة
من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!
__________
(1) في المطبوعة: "تثبت الفأرة"، وليست صوابا، والذي في
المخطوطة" تبيت" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. بيت القوم
العدو: أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه.
والاسم: "البيات"، وفي البغوي 1: 601 (بهامش ابن كثير) :
"فكانت الفأرة تبيت مع الرجل".
(2) في المطبوعة: "أمة من الأمم قبلكم"، وفي المخطوطة: "أمة من
الأمم قبله"، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة، مع التصحيف
فيها.
(3) في المطبوعة: "واستوثقوا". وهو خطأ والصواب ما في
المخطوطة. ومعناه: اجتمعوا على طاعته. وأصله من"الوسق"وهو ضم
الشيء إلى الشيء، وفي حديث أحد: "استوسقوا كما يستوسق جرب
الغم. أي: استجمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه
أمر الحبشة"، أي اجتمعوا على طاعته. وهو المراد هنا. وانظر ما
سيأتي في الأثر: 5707.
(5/321)
= وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع
منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت= قال ابن جريج،
أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لم
يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك
التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة
بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى
وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم! فسلموا له وملكوه.
قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم.
ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت
وعصا موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
5661- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما
خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال:"أنى
يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام". ثم رد الله من
رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها
ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه،
وقد عمرت، فهي على حالتها الأولى. (1)
(2)
................................................................................
................................................................................
................................................................................
فلما أراد أن يرد عليهم التابوت، أوحى الله إلى نبي من
أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم
المرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية
أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط، فإذا نطرتا
__________
(1) الأثر: 5661- سيأتي هذا الأثر نفسه برقم: 5912 وهو
أثر"مبتور" بلا شك ولم أستطع أن أتمه، وانظر التعليق على الأثر
التالي المذكور آنفًا.
(2) أما موضع النقط هذا، فإنه سقط بلا شك فيه، فإن خبر أرميا
السالف، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته، فإن فيه ذكر رد
التابوت في عهد طالوت وداود، وهما قبل أرميا بدهر طويل. وأخشى
أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة، أو
تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه. وليس من الممكن إتمام هذا
النقص، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط، حتى يتيح الله
نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح
مكان الكلام.
وهذا الذي بعد النقط، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين
سبي، كما ذكر في الأثر رقم: 5658، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن
منبه، كما هو واضح في السياق الآتي. ولم أجد صدره في شيء من
الكتب التي بين يدي. هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو،
كما يتبين ذلك من خط كاتبها، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها
في التعليقات.
(5/322)
إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما،
(1) ثم يشد التابوت على عجل، ثم يعلق على البقرتين، ثم يخليان
فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما
أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتى
إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما، وقطعتا حبالهما، وذهبتا.
فنزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه
فرحا به = فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال: شبيه بالرقص= فقالت
له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال:
أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.
* * *
وقال آخرون: بل التابوت= الذي جعله الله آية لملك طالوت= كان
في البرية، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع،
فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "فإذا نظرتا إليها"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه
نسختنا، وفيها هنا ما نصه:
"يتلوه إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك:
وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا.
على الأصل.
بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب،
عن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري،
والقاضي ينظر في كتابه. وسمع معي أخي على حرسه الله، وأبو
الفتح أحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد
بن علي ... وعبد الرحيم بن أحمد البخاري. وكتب محمد بن أحمد بن
عيسى السعدي، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر"
"ثم يتلو في أول الجزء التالي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(5/323)
* ذكر من قال ذلك:
5662- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"،
الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية،
وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في
داره.
5663- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"
الآية، قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه
يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من
البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس
ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان
سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك
الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:"إن آية ملكه أن يأتيكم
التابوت"، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء
إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد
علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي
قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو
كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره
(5/324)
ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن
يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما
فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم
يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي
يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره
وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة،
زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن
كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه
فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد
عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، (1)
أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل
التأويل غيرهما.
* * *
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: -
5664- حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه
عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في
ذراعين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ففساد هذا القول"، "والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 5664-"محمد بن عسكر"، هو محمد بن سهل بن عسكر، سلف
في رقم: 5598. بكار بن عبد الله اليماني، روي عن وهب منبه. روى
عنه بن ابن المبارك، وهشام بن يوسف وعبد الرزاق. قال أحمد:
ثقة. مترجم في الكبير 1/2/120، وابن أبي حاتم 1/1 /408.
(5/325)
القول في تأويل قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فيه"، في التابوت="سكينة
من ربكم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"السكينة".
فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
5665- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال،
حدثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي وائل، عن علي بن
أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
5666- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق
قال، أخبرنا سفيان= عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي
قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفافة.
5667- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن
حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علي بن أبي طالب في قوله:"فيه سكينة
من ربكم"، قال: ريح هفافة لها صورة= وقال يعقوب في حديثه: لها
وجه= (1) وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان.
5668- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سلمة بن
كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح
هفافة. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "كما وجه"، وما بينهما بياض، ولعل أقرب ذلك
ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "هى ريح" بإسقاط الواو.
(5/326)
5669- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو
الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال، قال علي:
السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. (1)
5670- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي،
نحوه.
5671- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة،
وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة،
عن علي، نحوه. (2)
* * *
وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
* ذكر من قال ذلك:
5672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" فيه
سكينة من ربكم"، قال: أقبلت السكينة [والصرد] وجبريل مع
إبراهيم من الشأم= (3) قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول:
السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
5673- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
5674- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن
ليث، عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.
__________
(1) الأثر: 5669- هو بعض الأثر السالف رقم: 2058 في ذكر بناء
الكعبة.
(2) الأثران: 5670، 5671- انظر الأثران السالفان: 2059، 2060.
(3) ما بين القوسين، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في
ذلك، في تاريخ مكة للأزرقي 1: 22-28، ونصه في لسان العرب (صرد)
. والصرد (بضم الصاد وفتح الراء: طائر أبقع ضخم يكون في الشجر
وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد، وهو من سباع الطير.
(5/327)
5675-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:
لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.
* * *
وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
5677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب
بن منبه، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس
هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر
وجاءهم الفتح.
* * *
وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب
الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك:
5678- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا
الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس:"فيه سكينة
من ربكم"، قال: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب
الأنبياء.
5679- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"فيه سكينة من ربكم"، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها
قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح. وكانت
الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، روح من الله تتكلم.
* ذكر من قال ذلك:
5680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
بكار
(5/328)
بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا
له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم
فأخبرهم ببيان ما يريدون.
5681- حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا
بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه. (1)
وقال آخرون:"السكينة"، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.
* ذكر من قال ذلك:
5682- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"فيه سكينة من ربكم"،
الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، الرحمة.
* ذكر من قال ذلك:
5683- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"فيه سكينة من ربكم"، أي رحمة من ربكم.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، هي الوقار.
* ذكر من قال ذلك:
5684- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، أي وقار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى"السكينة"، ما
قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات
التي تعرفونها. وذلك أن
__________
(1) الأثران: 5680، 5681-"محمد بن عسكر"، و"بكار بن عبد الله".
انظر التعليق على الأثر رقم: 5664.
(5/329)
"السكينة" في كلام العرب"الفعيلة"، من قول
القائل:"سكن فلان إلى كذا وكذا"= إذا اطمأن إليه وهدأت عنده
نفسه="فهو يسكن سكونا وسكينة"، مثل قولك:"عزم فلان هذا الأمر
عزما وعزيمة"، و"قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية"، ومنه قول
الشاعر: (1)
لله قبر غالها! ماذا يجن? ... لقد أجن سكينة ووقارا
* * *
وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما
قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على
ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن
منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن
النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفنا،
فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس
تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي
غيره، (2) لدلالة الكلام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
وَآلُ هَارُونَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وبقية"، الشيء الباقي،
من قول القائل:"قد بقي من هذا الأمر بقية"، وهي"فعلية" منه،
نظير"السكينة" من"سكن".
* * *
__________
(1) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي. وأنا في شك من صحة اسمه.
(2) يعني بقوله: " الفعل" مصدر الفعل"سكن"، وهو"السكينة"، كما
يقال: "رجل عدل"، فلو سميت الرجل"عدلا"، كان مسمى بالفعل، وهو
غيره.
(5/330)
وقوله:"مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني
به: من تركة آل موسى، وآل هارون.
* * *
واختلف أهل التأويل في"البقية" التي كانت بقيت من تركتهم.
فقال بعضهم: كانت تلك"البقية" عصا موسى ورضاض الألواح. (1)
* ذكر من قال ذلك:
5685- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا داود، عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه
الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
5686- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال،
حدثنا داود، عن عكرمة= قال داود: وأحسبه عن ابن عباس= مثله.
5687- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا
حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه
الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى ورضاض
الألواح.
5688- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: فكان في
التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فيما ذكر لنا.
5689- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"،
قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح.
5690- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، أما البقية، فإنها
عصا موسى
__________
(1) انظر صفحة 332، تعليق: 1.
(5/331)
ورضاضة الألواح. (1)
5691- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، عصا
موسى وأثور من التوراة. (2)
5692- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب
الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في هذه الآية:"وبقية مما ترك
آل موسى وآل هارون"، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا= قال
إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره.
5693- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة في
قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل تلك"البقية" عصا موسى وعصا هارون، وشيء من
الألواح. (3)
* ذكر من قال ذلك:
5694- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن
ابن أبي خالد، عن أبي صالح:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من
ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان فيه عصا موسى
وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والمن. (4)
__________
(1) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف) ، وهو ما تكسر
منه، وقطعه. ورض الشيء رضا: كسره فصار قطعا. و"رضاضة" بالتاء
في آخر رقم: 5690، وهي عربية صحيحة، وإن لم تذكر في المعاجم.
ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ 1: 243.
(2) في المطبوعة: "وأمور من التوراة". وفي المخطوطة: "وأسور من
التوارة". ورجحت قراءتها"وأثور" جمع أثر: وهو بقية الشيء، وما
بقى من رسم الشيء، وجمعه آثار وأثور. وهي هنا بمعنى الرضاض.
(3) في المخطوطة: "بل ذلك البقية ... "، والذي في المطبوعة
أجود الصواب.
(4) الأثر: 5694- في الدر المنثور 1: 317 مطولا. وفي المخطوطة
والمطبوعة: "عن إسماعيل عن ابن أبي خالد"، والصواب ما أثبت،
وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح، مترجم التهذيب.
(5/332)
5695- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس
قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى
وآل هارون"، قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب
هارون، ورضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.
* ذكر من قال ذلك:
5696- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت
الثوري عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: منهم
من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول:
العصا والنعلان. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها.
* ذكر من قال ذلك:
5697- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ = يعني
في التابوت= قال: كان فيه عصا موسى والسكينة. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها.
* ذكر من قال ذلك:
5698- حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال
ابن عباس في قوله:" وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال:
كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل الباقي في
ذلك التابوت.
__________
(1) القفيز: مكيال من المكاييل، كان عند أهل العراق ثمانية
مكاكيك.
(2) الأثر 5697- بكار بن عبد الله اليماني، مضى في الآثار:
5664، 5680، 5681، وكان في المطبوعة والمحفوظة"بكار عن عبد
الله"، وهو خطأ محض.
(5/333)
5699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن
قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، [قال] العلم
والتوراة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
5700- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا
عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون"، يعني ب"البقية"، القتال في سبيل الله،
وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله
تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى
الله عليه = الذي قال لأمته: (2) "إن الله قد بعث لكم طالوت
ملكا" = أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون.
(3) وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة،
أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله = وجائز أن
يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا
اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند
أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز
فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من
القول.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين: لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته، كما
يتبين من خطه في هذا الموضع.
(2) في المطبوعة: "لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته"،
زاد: "وسلم"، وأسقط"الذي قال"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "مما تركه آل موسى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5/334)
القول في تأويل قوله: {تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك
التابوت.
فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين
أظهرهم.
* ذكر من قال ذلك:
5701- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين
السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت.
5702- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما
قال لهم= يعني النبي، لبني إسرائيل: ="والله يؤتي ملكه من
يشاء". قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك
فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه:"أن
يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية. قال: فنزلت
الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين
أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ:"والله
مع الصابرين".
5703- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: لما قال لهم نبيهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في
العلم والجسم"، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك!
قال:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية
مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة". وأصبح التابوت وما
فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت.
5704- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(5/335)
معمر، عن قتادة في قوله:"تحمله الملائكة"،
قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.
* ذكر من قال ذلك:
5705- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
الثوري، عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.
5706- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد
الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين
اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت
البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:"حملت
التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر
بني إسرائيل". (1) وذلك أن الله تعالى ذكره قال:"تحمله
الملائكة"، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على
عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته.
لأن"الحمل" المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما
ما حمله على غيره = وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله"
بمعنى معونته الحامل، (2) وبأن حمله كان عن سببه= فليس سبيله
سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه
__________
(1) في المطبوعة: "حتى وضعته في دار طالوت" بإسقاط"لها"، أي
لبني إسرائيل. وفي المطبوعة: "في دار طالوت بين أظهر بني
إسرائيل" بإسقاط"قائما"، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة: "ما
بين أظهر لبني إسرائيل"، وقرأتها: "قائما".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقال في حمله بمعنى معونته"،
والصواب إسقاط"في".
(5/336)
بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من
اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، (1) ما وُجد إلى ذلك سبيل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني
إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة="لآية لكم"، يعني:
لعلامة لكم ودلالة، (2) أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن
الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به
من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك="إن
كنتم مؤمنين"، يعني بذلك: (3) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية
التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
* * *
وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في
تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت
ملكا"، بقولهم:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"،
= وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا،
(4)
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن
كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: = وليسوا من أهل الإيمان
بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه،
لأنهم سألوا الآية
__________
(1) في المطبوعة: "أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر00"،
وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة"إلى إلى أن لا يلر".
وضرب على"إلى" الثانية. وصواب قراءته ما قرأت، وقد مضى مثله
مرارا في كلام الطبري.
(2) انظر معنى"آية" فيما سلف قريبا: 317 تعليق: 1 وفيه
المراجع.
(3) انظر تفسير"الإيمان" بمعنى"التصديق" فيما سلف من الأجزاء.
في فهارس للغة.
(4) في المطبوعة: "فإن كان ذلك منهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(5/337)
على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال
لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند
مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.
* * *
(5/338)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا
فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد
استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام:"إن في ذلك
لآية لكم إن كنتم مؤمنين"، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند
ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا
له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فلما فصل طالوت بالجنود". وما كان
ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن
ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك
كرها.
* * *
وأما قوله:"فصل" فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.
* * *
وأصل"الفصل" القطع، يقال، منه:"فصل الرجل من موضع كذا وكذا"،
يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره،"يفصل فصولا"، و"فصل
العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا"، إذا قطعه فأبانه،
و"فصل الصبي فصالا"، إذا قطعه عن اللبن (1) . و"قول فصل"، يقطع
فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء: 67.
(5/338)
وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت
المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن
الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة
له بالنهوض معه.
* ذكر من قال ذلك:
5707- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين
استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور،
أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (1)
5708- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت،
فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال:"إن الله
مبتليكم بنهر"، يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم
له.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الابتلاء"، الاختبار، فيما مضى بما أغنى
عن إعادته. (3)
* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
5709- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة في قول الله تعالى:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: إن الله
يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
* * *
__________
(1) الأثر: 5707- استوسقوا له: اجتمعوا له بالطاعة: ودانوا،
(انظر ما سلف ص: 231) في آخر الأثر: 5659، والتعليق عليه.
والضرير: المرض المهزول، قد أضر به المرض.
(2) الأثر: 5708- في التاريخ 1: 243 من خبر طويل مضى أكثره
فيما سلف.
(3) انظر ما سلف 2: 49/3: 7، 220.
(5/339)
وقيل: إن طالوت قال:"إن الله مبتليكم
بنهر"، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم،
وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال
لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله:"إن الله
مبتليكم بنهر".
* ذكر من قال ذلك:
5710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت
بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا
نهرا! فقال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر" الآية.
* * *
"والنهر" الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر
بين الأردن وفلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
5712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال الربيع:
ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
5712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"
إن الله مبتليكم بنهر"، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن
وفلسطين.
5713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة قوله:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: هو نهر بين
الأردن وفلسطين.
5714- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت،
قال طالوت لبني إسرائيل:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: نهر بين
فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه.
(5/340)
وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
5715- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"إن الله مبتليكم بنهر"،
فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.
5716- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إن الله مبتليكم بنهر"، هو نهر فلسطين.
* * *
وأما قوله:" فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا
من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم". فإنه خبر من
الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش،
فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، (1) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي
أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو
منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من
المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى
ذكره: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ،
فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين
بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: (قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)
، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك
النهر."والهاء" في قوله:"فمن شرب منه"، وفي قوله:"ومن لم
يطعمه"، عائدة على"النهر"،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "00 عن طالوت أنه قال لجنوده، 00
فأخبر أن الله"، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام،
فجعلت"أنه"، "بما"، وجعلت"فأخبر"، "فأخبرهم". وأعود فأقول إن
الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته.
(5/341)
والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر"الماء"
اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (1) أن المراد به الماء
الذي فيه.
* * *
ومعنى قوله:"لم يطعمه"، لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك
النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين
بالله وبلقائه. ثم استثنى من"من" في قوله:"ومن لم يطعمه"،
المغترفين بأيديهم غرفة، (2) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر،
(3) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا من اغترف غرفة بيده".
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة) ، بنصب"الغين"
من"الغرفة" بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك،"اغترفت غرفة"،
و"الغرفة"، و"الغرفة" هي الفعل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "كذلك"، والصواب ما أثبت، وسياق
العبارة: اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر: أن المراد00
(2) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله: "فن شرب منه"،
وقال أبوحيان في تفسيره 1: 265 وقال: "وقع في بعض التصانيف ما
نصه: "إلا من اغترف"، استثناء من الأولى، وإن شئت من الثانية،
لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من
هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه. والأمر ليس كذلك،
لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه. وهو ظاهر
الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها: أن من شرب منه فليس منه،
فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه، فإنه منه، إذ
هو مفسوح له في ذلك. وهكذا الإستثناء، يكون من النفى إثباتا،
ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة".
وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1: 149- 150،
وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال: "إلا من اغترب-استثناء
من الجنس، وموضعه نصب. وأنت بالخيار، إن شئت جعلته استثناء
من"من الأولى، وإن شئت من"من"الثانية". وهذا يرجع صواب معنى
الطبري، وصواب ما صححناه، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم
استثنى من قوله00". والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا
الموضع، وفي مواضع من أشياء ذلك. وسترى ذلك في التعليق التالي.
والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين: فئه شربت من
الماء، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة. وبذلك يصح كل ما
قاله. وهذا بين سيأتي بعد في ص 348- 350 أن من جاوز مع طالوت
النهر: الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة، والكافر الذي شرب
منه الكثير". وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء
غرفة. هذا ما أرجحه، والله ولى التوفيق.
(3) في المخطوطة: "فقالوا: من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك
النهر00" وهو خلط من الكلام.
(5/342)
بعينه من"الاغتراف". (1) .
* * *
وقرأه آخرون بالضم، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف.
ف"الغرفة" الاسم"، و"الغرفة" المصدر.
* * *
وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم"الغين" في"الغرفة"، بمعنى: إلا
من اغترف كفا من ماء= لاختلاف"غرفة" إذا فتحت غينها، وما هي له
مصدر. وذلك أن مصدر"اغترف"،"اغترافة"، وإنما"غرفة"
مصدر:"غرفت". فلما كانت"غرفة" مخالفة مصدر"اغترف"،
كانت"الغرفة" التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها
ب"الغرفة" التي هي بمعنى الفعل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من
شرب منه عطش، ومن اغترف غرفة روي.
* ذكر من قال ذلك:
5717- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من
اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، فشرب القوم على
قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما
المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.
5718- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني
إلا من اغترف غرفة بيده"، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون،
وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.
__________
(1) "الفعل" يعني المصدر، كما سلف آنفًا ص: 330 تعليق: 1، وكما
سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام.
(2) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة. وانظر اللسان مادة
(غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك.
(5/343)
5719- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن شرب منه فليس مني
ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا
قليلا منهم"، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا
منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف
الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.
5720- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، آمنوا بنبوة
شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان
جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند،
ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم
طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة
آلاف، (1) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب
منه إلا غرفة روي. (2) .
5721- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى
الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا
أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق،
... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا:"لن نمس هذا الماء
غرفة ولا غير" = (3) وذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فعبر منهم" بإسقاط"معه"، وأثبتها
من التاريخ.
(2) الأثر: 5720-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1: 242- 243،
وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها
رقم: 5635، 5638، 5679، 5690، 5708.
(3) في المخطوطة: "ولم تتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى
قلتهم قالوا: لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في
الحالتين. وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر،
معناه: أن بعض الذين خرجوا معه، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم
ذلك. والذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال: وأخذ البقية
الغرفة"، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا
من النهر. فن هذا، وقد كان في المطبوعة: "ولا غيرها"، فأثبت ما
في المخطوطة، فهو صواب.
(5/344)
أنه قال لهم:"إن الله مبتليكم بنهر"،
الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (1) قال:
وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم، وفضل منهم. (2)
قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.
5722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، فشرب كل إنسان كقدر
الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (3) ومن شرب
فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.
5723- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديث
ذكره، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه في قوله:"فمن شرب منه
فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، يقول
الله تعالى ذكره:"فشربوا منه إلا قليلا منهم"، وكان -فيما
يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه، ومن لم
يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما جاوزه هو"، فلما
جاوز النهر طالوت."والهاء" في"جاوزه" عائدة على"النهر"، و"هو"
كناية
__________
(1) في المطبوعة: "لن نمس من هذا" بزيادة"من"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فشربوا منها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "روي بطاعته" والذي أثبت، أشبه بالمخطوطة
وبالصواب.
(5/345)
اسم طالوت= وقوله:"والذين آمنوا معه"،
يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم
بجالوت وجنوده.
* * *
ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم:"لا
طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر
رجلا.
* ذكر من قال ذلك:
5724- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن
المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري=
قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن
عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت
الذين جاوزوا النهر معه، ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة
عشر رجلا. (1)
5725- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو
إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة
أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر.
(2)
__________
(1) الحديث: 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل
بدر. وقد رواه الطبري بستة أسانيد، كلها عن أبي إسحاق السبيعي،
عن البراء بن عازب.
ورواه أحمد في المسند 4: 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه -هو
الجراح بن مليح- وسفيان. وهو الثوري، وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي
إسحاق، عن البراء.
ورواه البخاري 8: 228، من طريق زهير، ومن طريق إسرائيل، ومن
طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق، به.
وذكره ابن كثير 1: 603، عن روايات الطبري، ملخصة الأسانيد. ثم
ذكر أنه رواه البخاري.
وذكره السيوطي 1: 318، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن
حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. ولكنه
نسي أن ينسبه لأحمد.
(2) الحديث: 5725-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق: هو ابن عياش.
وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة، في
آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر"
وهي"فسكت"-واضحة جدا. ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف
ما هي. وقد حذفت في المطبوعة".
وأقول: إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما
هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه، مع بيان ذلك، أداء
للأمانة العلمية.
(5/346)
5726- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو
عامر قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا
نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة
وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه
إلا مؤمن. (1)
5727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق،
عن البراء بنحوه. (2)
5728- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا
النهر، وما جاوز معه إلا مسلم. (3)
5729- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله. (4)
5730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم
بدر: أنتم بعدة
__________
(1) احديث: 5726-أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
(2) الحديث: 5727-والد وكيع: هو الجراح بن مليح بن عدي
الرؤاسي، وهو ثقة، تكلم فيه بغير حجة، كما بينا في شرح المسند،
في الحديث: 650. ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى
روايات المسند، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي: 5724.
(3) الحديث: 5728-مؤمل: هو ابن إسماعيل العدوى. وسفيان-في هذا
والذي قبله: هو الثوري.
(4) الحديث: 5729 -أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن
الزبير الأسدي. مسعر: هو ابن كدام، مضت ترجمته في: 1974.
(5/347)
أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
5731- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر،
وكانوا ثلثمئة، وفوق العشرة ودون العشرين، فجاء داود صلى الله
عليه وسلم فأكمل به العدة.
* * *
وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل
الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.
* ذكر من قال ذلك:
5732- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف،
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا
وقالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فرجع عنه أيضا
ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر،
عدة أهل بدر. (1)
5733- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال
الذين شربوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن
عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم
يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم
وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت
__________
(1) الأثر: 5732 -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ
1: 242- 243، وجزأه في التفسير، كما أشرنا إليه في التعليق على
الأثر: 5720. ورواية أبي جعفر هنا: "وخلص في ثلثمئة وبضعة
عشر"، وفي التاريخ"وتسعة عشر".
(5/348)
ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (1)
وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" = ومضى أهل
البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان،
فقالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع
الصابرين".
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا
أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من
النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال:"فلما جاوزه هو
والذين آمنوا معه"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل
الإيمان، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل
الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص
الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (2) فإن الأمر في ذلك بخلاف
ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق
الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى
الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين
جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا
النهر مع المؤمنين.
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره:"فلما
جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت
وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت
فئة كثيرة بإذن الله"، فأوجب الله تعالى ذكره أن"الذين يظنون
أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر:"كم من فئة
قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، دون غيرهم الذين لا يظنون
أنهم ملاقو
__________
(1) في المطبوعة: "وانخذل عنه"، بالذال، وهو خطأ غث لا يقال
هنا، والصواب في المخطوطة. وانخزل عنه: انقطع وانفرد، وفي حديث
آخر: "انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان"، أي انفرد ورجع
بقومه.
(2) السياق: "فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن".
(5/349)
الله- وأن"الذين لا يظنون أنهم ملاقو
الله"، هم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك
فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (249) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني
القائلين:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، والقائلين:"كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، من هما؟
فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت
وجنوده"، هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت
وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله
جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.
* ذكر من قال ذلك:
5734- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
بذلك.
* * *
وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (2)
* * *
5735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) هذه حجة بينة ماضية، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما
ينبغي أن يوقف عنده.
(2) انظر الأثر رقم: 5722.
(5/350)
ابن جريج:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو
الله"، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون،
وجلس الذين شكوا.
* * *
وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب
من الماء إلا غرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان
أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:"كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". والآخرون كانوا أضعف
يقينا. وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* ذكر من قال ذلك:
5736- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا
اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، ويكون
[والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون
كلهم. (1)
5737- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله"، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت:
ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم
بدر ثلثمئة وبضعة عشر.
5438- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين
لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا:"كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
* * *
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز
النهر مع طالوت
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة.
(5/351)
إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين
اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال
فيهما قتادة وابن زيد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس
والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا.
(1)
* * *
وأما تأويل قوله:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، فإنه
يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (2)
5739- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين يستيقنون.
* * *
فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى
الله، للذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"="كم من
فئة قليلة"، يعني ب"كم"، كثيرا، غلبت فئة قليلة="فئة كثيرة
بإذن الله"، يعني: بقضاء الله وقدره= (3) "والله مع الصابرين"،
يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (4)
* * *
وقد أتينا على البيان عن وجوه"الظن"، وأن أحد معانيه: العلم
اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (5)
* * *
وأما"الفئة"، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو
مثل"الرهط" و"النفر"، يجمع (6) "فئات"، و"فئون" في الرفع،
و"فئين" في
__________
(1) انظرما سلف: 349، 350.
(2) انظر القول في قوله: "ملاقو الله" فيما سلف 2: 20-22 /4:
419.
(3) انظر تفسي"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ 4: 287، 371.
(4) انظر معنى"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124/ 3: 214، 349،
وفهارس اللغة.
(5) انظر ما سلف 2: 17 - 20/ ثم: 265.
(6) في المطبوعة: "جمعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5/352)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250)
النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال.
و"فئين" بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها، وفي
النصب"فئينا"، وفي الخفض"فئين"، فيكون الإعراب في الخفض والنصب
في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها"الياء" على حالها. فإن أضيفت
قيل:"هؤلاء فئينك"، (1) بإقرار النون وحذف التنوين، كما قال
الذين لغتهم:"هذه سنين"، في جمع"السنة"=:"هذه سنينك"، بإثبات
النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل
منقوص مثل"مئة" و"ثبة" و"قلة" و"عزة": فأما ما كان نقصه من
أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل"عدة وعدات"، و"صلة وصلات".
* * *
وأما قوله:"والله مع الصابرين" فإنه يعني: والله معين الصابرين
على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على
أعدائه الصادين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه.
* * *
وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره:"هو معه"، بمعنى هو معه
بالعون له والنصرة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولما برزوا لجالوت
وجنوده"، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فئنك"، وهو خطأ.
(2) انظر تفسير"فيما سلف 3: 214.
(5/353)
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
(251)
ومعنى قوله:"برزوا" صاروا بالبراز من
الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي
حاجته:"تبرز"، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون
حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: (1) "تغوط"، لأنهم
كانوا يقضون حاجتهم في"الغائط" من الأرض، وهو المطمئن منها،
فقيل للرجال:"تغوط" أي صار إلى الغائط من الأرض.
* * *
وأما قوله:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه
قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، يعني أنزل علينا صبرا.
* * *
وقوله:"وثبت أقدامنا"، يعني: وقو قلوبنا على جهادهم، لتثبت
أقدامنا فلا نهزم عنهم="وانصرنا على القوم الكافرين"، الذين
كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فهزموهم"، (2) فهزم
طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت.
وفي هذا الكلام متروك، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه
عليه. وذلك أن معنى الكلام:"ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا
ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "لذلك كما قيل"، والسياق يقتضي ما
أثبت، وليست"لذلك" من تمام الجملة السالفة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني تعالى ذكره بقوله فهزم طالوت
... "، والسياق يقتضي زيادة"فهزموهم" من نص الآية.
(5/354)
أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"،
فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم، ونصرهم على
القوم الكافرين="فهزموهم بإذن الله" ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء
بدلالة قوله:"فهزموهم بإذن الله"، على أن الله قد أجاب دعاءهم
الذي دعوه به.
* * *
ومعنى قوله:"فهزموهم بإذن الله"، فلوهم بقضاء الله وقدره. (1)
يقال منه:"هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى". (2)
* * *
"وقتل داود جالوت". وداود هذا هو داود بن إيشى، (3) نبي الله
صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه، كما: -
5740- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
بكار بن عبد الله قال، سمعت وهب بن منبه يحدث قال: لما خرج= أو
قال: لما برز= طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من
يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي
بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، (4) وأن
يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله
بسلاح، (5) وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغن السلاح! فخرج
إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. قال له جالوت:
أنت تقاتلني! ! قال داود:
__________
(1) انظر معنى الإذن فيما سلف قريبا: 352، تعليق: 3. ومراجعة
هناك، وأما قوله"فلوهم"، فهو من قولهم: " فللت الجيش فلا"،
هزمته وكسرته. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلوهم" من القتل،
وهو خطأ لا خير فيه، فإن الهزيمة الانكسار، لا القتل. وهزمه:
كسره، لا قتله.
(2) " هزيمى" بكسر الهاء وتشديد الزاى المكسورة، وميم مفتوحة
للألف المقصورة.
(3) (يسى) في كتاب القوم، (صموئيل الأول: الإصحاح السابع عشر)
.
(4) قاضاه على كذا: صالحه عليه، وهو من القضاء الفصل والحكم،
ومثله ما جاء في صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد".
(5) قوله" بسلاح" ليست في المطبوعة ولا المخطوطة، وهي لا غنى
عنها، زدتها من نص الأثر في الدر المنثور 1: 318- 319.
(5/355)
نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى
الكلب بالمقلاع والحجارة! (1) لأبددن لحمك، (2) ولأطعمنّه
اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من
الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه حتى
نفذ في دماغه، (3) فصرع جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه.
فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتي
بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه. فقال
طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال
لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له، وقال:
إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاحتمل
صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. (4) وكان يرجو بذلك أن يقتل
داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم
يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود
حتى هرب منه إلى الجبل، فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات
ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق
طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من
هدب ثيابه، (5) ثم رجع داود إلى مكانه فناده: أن [قد نمت ونام]
حرسك، (6) فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك،
وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [به] إليه، (7) فعلم طالوت
أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه، وعاهده بالله لا يرى
منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس
لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم، حتى مات= قال بكار:
وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته
وحي، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه، وهو الذي ملك
طالوت.
5741- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان
داود النبي وإخوة له أربعة، معهم أبوهم شيخ كبير، فتخلف أبوهم،
وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له، وكان من
أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب
الناس ودنا بعضهم من بعض.
= قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب
بن منبه: رجلا قصيرا أزرق، (8) قليل شعر الرأس، وكان طاهر
القلب نقيه= (9) فقال له أبوه: يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك
زادا يتقوون به على عدوهم، فاخرج به إليهم، فإذا دفعته إليهم
فأقبل إلي سريعا! فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته،
ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة، ومقلاعه الذي كان يرمي به
عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه، فمر بحجر فقال: يا داود!
خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر يعقوب! فأخذه
فجعله في مخلاته، ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال: يا
داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي
__________
(1) في المخطوطة: "أما رحب إلا كما تخرج"، وفي المطبوعة: "إما
تخرج إلي إلا كما يخرج" والذي في الدر المنثور، إقرب إلى ما في
المخطوطة، مع نسخ الناسخ في هذا الموضع خاصة.
(2) في المخطوطة: "لأردن لحمك"، وكأن ما في المطبوعة هو
الصواب، وكذلك هو في الدر المنثور.
(3) في المطبوعة والدر المنثور: "فأصابت بين عينيه ونفذت"،
وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الغلفة والغرلة والقلفة (بضم أولها وسكون ثانيها"، هو
الغشاء الذي يقع عليه الختان من عورة الرجل.
(5) هدب الثوب وهدبته: طرفه مما يلي طرته.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "فناداه أن ... حرسك" بياض بينهما،
وهكذا رأيت أن تكون ولو اختار أن تكون: "أن بدل حرسك"، لكان
حسنا أيضًا.
(7) ما بين القوسين زيادة يتقضيها السياق.
(8) قوله: "أزرق"، يريد أزرق العينين، وكانت العرب تتشاءم من
الزرق. (انظر الحيوان 5: 330- 333) .
(9) هذه الفقرة من الأثر، رواها أبو جعفر في تاريخه 1: 247.
(5/356)
جالوت، فإني حجر إسحاق! فأخذه فجعله في
مخلاته، ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال: يا داود! خذني
فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر إبراهيم! فأخذه
فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم، فأعطى
إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت
وعظم شأنه فيهم، (1) وبهيبة الناس إياه، وبما يعظمون من أمره،
(2) فقال لهم: والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما
أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك.
فأدخل على الملك طالوت، فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون
شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال: يا بني! ما
عندك من القوة على ذلك؟ (3) وما جربت من نفسك؟ (4) قال: قد كان
الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه، فآخذ برأسه، فأفك لحييه
عنها، فآخذها من فيه، (5) فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي
بدرع فقذفها في عنقه، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره
من بني إسرائيل، (6) فقال طالوت: والله، لعسى الله أن يهلكه
به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت، فلما التقى الناس قال داود:
أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته، (7) فلما رآه
جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فيقول هذا: خذني! ويقول
هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه، ثم
فتله به، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه، (8) وتنكس عن
دابته، فقتله. ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت!
وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت
بذكر= إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني
إسرائيل عنه إلى داود، هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف
الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى
الله.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين
اللتين ذكرنا قبل، وهو ما: -
5742- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه
قال: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى إلى نبي بني
إسرائيل: (9) أن قل لطالوت فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا
إلا قتله، فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل
من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم. فأوحى الله
إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، (10)
فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه. فقل له: لأنزعن الملك
من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من
أطاعني، وأهين من هان
__________
(1) في المخطوطة: "سمع دوحرص الناس بذكر جالوت"، ولم يتبين لي
كيف كانت، ولا ما هي، فتركت ما في المطبوعة على حاله، فإنه
قريب المعنى صحيحه.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما يعظمون"، وما أثبت أشبه
بالسياق. والمخطوطة كثيرة التحريف والتصحيف هنا كما ترى.
(3) في المطبوعة: "فأتني ما عندك من القوة"، وهو كلام سخيف.
والصواب من المخطوطة، لم يحسن الطابع أو الناسخ قراءتها.
والنظر ما سيأتي في الأثر: 5742، وقوله: "يا بني"، وسؤاله: "هل
آنست من نفسك شيئا"، ص:
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما جربت"، والسياق يوجب ما
أثبت.
(5) اللحيان العظمان اللذان فيهما الأسنان. وهما حائطا الفم،
الواحد"لحى" (بفتح فسكون) .
(6) في المطبوعة: " ومثل فيها فملأ عين طالوت"، وفي المخطوطة:
"وسل فيها مل عين طالوت".
غير منقوطة ولا بينة. وأثبت"مثل" من المطبوعة، وكأنها قربية من
الصواب. وفي المطبوعة: "ومن حضر"، وأثبت في المخطوطة.
(7) اللأمة (بفتح فسكون) : الدرع الحصينة وبيضة الرأس، من لباس
الحرب.
(8) دمغه دمغا: شجه، حتى بلغت الشجة الدماغ. وهذه الشجة
تسمى"الدامغة".
(9) في المخطوطة: "أوحى إلى بني بني إسرائيل"، وفي المطبوعة:
"أوحى إلى نبي بني إسرائيل"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(10) في المطبوعة: "فاختان فيه"، من الخيانة. وكان في
المخطوطة: " فاختار فيه"، من الاختيار، أي اختار ما شاء منه
ولم ينفذه على وجهه تماما. وأثبت ما في التاريخ. و"اختل" من
الخلل: وهو الفساد والوهن في الأمر، وترك إبرامه وإحكامه.
يقال: "أخل بالأمر"، لم يف به. و"أخل بمكانه": غاب عنه وتركه.
فمعنى"أختل فيه". أي ضعف فيه وأدخل عليه الخلل. ولم أجد نصها
في كتب اللغة، ولكنها عربية البناء.
هذا، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " إذ أمرته فاختان"،
بحذف"بأمري"، وأثبتها من التاريخ.
(5/358)
عليه أمري! فلقيه فقال له: (1) ما صنعت!!
لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقتَ مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي
لأقربها. (2) قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك، ثم
لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل: أن انطلق
إلى إيشى، فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن
ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال: اعرض علي
بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما
نظر إليه أشمويل أعجبه فقال: الحمد لله، إن الله لبصير
بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك يبصران ما ظهر، وإني أطلع
على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، (3) اعرض علي
غيره، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول: ليس بهذا. فقال: هل لك من
ولد غيرهم؟ فقال: بلى! لي غلام أمغر، (4) وهو راع في الغنم.
فقال: أرسل إليه. فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن
القدس وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله.
فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل، فعسكر، وسار طالوت ببني
إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت: لم
يقتل قومي وقومك؟ (5) ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك
كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره
صائحا: من يبرز لجالوت، فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته،
ويشركه في ملكه. (6) فأرسل إيشى داود إلى إخوته= قال الطبري،
هو أيشى، ولكن قال المحدث: إشى = (7) وكانوا في العسكر فقال:
اذهب فزود إخوتك، (8) وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا؟ فجاء إلى
إخوته وسمع صوتا: إن الملك يقول: من يبرز لجالوت! فإن قتله
أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لجالوت
فيقتله وينكح ابنة الملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق! ومن يطيق
جالوت، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال:
فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه، فلما غفلوا عنه ذهب
حتى جاء الصائح فقال: أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك،
فقال له: لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل، هو هذا! قال:
يا بني، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال: نعم. قال: وهل آنست من
نفسك شيئا؟ قال: نعم، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد،
فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة، فلبسها وركب
الفرس، ثم سار منهم قريبا، ثم صرف فرسه، فرجع إلى الملك، فقال
الملك ومن حوله: جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك، فقال: ما
شأنك؟ قال داود: إن لم يقتله الله لي، لم يقتله هذا الفرس وهذا
السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بني. فأخذ داود
مخلاته فتقلدها، وألقى فيها أحجارا، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى
به، (9) ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال: أين جالوت
يبرز لي؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله، فلما رآه جالوت
قال: إليك أبرز؟! قال نعم. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كم
يؤتى إلى الكلب! قال: هو ذاك. قال: لا جرم أني سوف أقسم لحمك
بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود: أو يقسم الله لحمك!
فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت، فأصاب أنف
البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه، فوقع من فرسه. فمضى
داود إليه فقطع رأسه بسيفه، فأقبل به في مخلاته، وبسلبه يجره،
حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت،
فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود، فوجد في نفسه.
(10) فجاءه داود فقال: أعطني امرأتي! فقال: أتريد ابنة الملك
بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علي صداقا، وما لي من شيء!!
قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفي جبالنا هذه
جراجمة يحتربون الناس، (11) وهم غلف، فإذا قتلت منهم مئتي رجل
فأتني بغلفهم. (12) فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط،
حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه (13)
فقال: ادفع إلي امرأتي، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته، (14)
وأكثر الناس ذكر داود، وزاده عند الناس عجبا. (15) فقال طالوت
لابنه: لتقتلن داود! قال: سبحان الله، ليس بأهل ذلك منك! قال:
إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك!
فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها: إني قد خفت
أباك أن يقتل زوجك داود، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت
له امرأته ذلك، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود،
وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول
طالوت قال: أين داود؟ ليجب الملك! فقالت له: بات شاكيا ونام
الآن، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك، فمكث
ساعة ثم أرسل إليه، فقالت: هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى
الملك فقال: ائتوني به وإن كان نائما! فجاؤوا إلى الفراش فلم
يجدوا عليه أحدا، فجاؤوا الملك فأخبروه، فأرسل إلى ابنته فقال:
ما حملك على أن تكذبين؟ قالت: هو أمرني بذلك، وخفت إن لم أفعل
أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك
داود بعده.
5743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان طالوت أميرا على الجيش، فبعث
أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي
فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي. (16) فأخذ
مخلاته، فجعل فيها ثلاث مروات، (17) ثم سمى حجارته
تلك:"إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب"، ثم أدخل يده فقال: باسم إلهي
وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على"إبراهيم"، فجعله
في مرجمته، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ثلاثين
ألفا من ورائه.
5744- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر، مع ثلاثة
عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا
أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال: أبشر يا بني!
فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا
أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبت عليه
فأخذت بأذنيه، فلم يهجني! (18) قال: أبشر يا بني! فإن هذا خير
يعطيكه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط"له"، وأثبتها من التاريخ.
(2) أي: لأجعلها قربانا لله، يذبحها قربانا.
(3) قوله: " فقال: ليس بهذا"، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة،
وأثبتها من التاريخ.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "بني لي غلام ... "، وأثبت ما في
التاريخ. وقوله"أمغر" هنا، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة،
وأثبتها من التاريخ. والأمغر: الذي في وجهه حمرة وبياض. وفي
كتاب القوم (صموئيل الأول، الإصحاح السادس عشر) أنه كان أشقر.
(5) في المطبوعة: "لم تقتل قومي وأقتل قومك"، وأثبت ما في
المخطوطة والتاريخ.
(6) عند هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في تاريخه 1: 247-
248 من هذا الأثر.
(7) هذه الجملة المعترضة ثابتة في المخطوطة، وحذفت من
المطبوعة.
(8) في المخطوطة والمطبوعة: "فرد إخوتك"، وليس صحيحا، بل
الصحيح أنه أرسله بزاد إلى إخوته كما سلف في الماضية، وكأن
الصواب"فزود"، أو"بزاد إخوتك".
(9) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأجدر أن يقال: "يرمي به".
(10) وجد في نفسه: أي غضب، فلم يظهر غضبه، وحسده على ما أصاب
من ذكر الناس له.
(11) الجراجمة: نبط الشام. واحتربه: استلبه وانتهبه، يقول: هم
لصوص يستلبون الناس وينتهبونهم.
(12) الغلف (بضم فسكون) جمع أغلف"، وهو الذي لم يختتن.
وأما"فأتني بغلفهم" فهو جمع غلفة (بضم فسكون) : وهي الغرلة
التي يقع عليها الختان.
(13) في المخطوطة: "مئتي غلفة إلى طالوت"، وما بينهما بياض،
وقد تركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه سياق لا بأس به، إلا
أنه كان فيها: "ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى إليه"، فجعلتها كما
ترى.
(14) في المخطوطة: "قد ... وأكثر الناس" ما بعد"قد" بياض،
وتركت ما في المطبوعة على حاله، لوفائه بالسياق.
(15) كأنها في المخطوطة تقرأ: " ورأوه عند الناس عجبا"، ولكني
لم أستطع تحققها، فتركت ما في المطبوعة كما هو، فهو قريب
المعنى.
(16) في المطبوعة: "ثلث مالي"، والذى في المخطوطة: "ثلث مللى"،
فرجحت أنها"ملكي" لما سيأتي في الأثر رقم: 5744، 5747.
(17) مروات جمع مروة، والمرو: حجارة بيض براقة، تكون فيها
النار، والمرو أصلب الحجارة.
(18) هاج الشيء يهيجه: أزعجه ونفره. يعني: لم يزعجني عن مكاني
منه.
(5/360)
الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني
لأمشي بين الجبال فأسبّح، فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال:
أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا، وكان
أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. (1) فأتى النبي (2)
[عليه السلام] بقرن فيه دهن، (3) وسَنَوَّرٍ من حديد، (4) فبعث
به إلى طالوت فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن
على رأسه فيغلي حتى يدهن منه، ولا يسيل على وجهه، يكون على
رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. (5)
فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد. (6)
فلما فرغوا، قال طالوت لأبي داود: هل بقي لك من ولد لم يشهدنا؟
قال: نعم! بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام. (7) فلما أتاه
داود، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود
تقتل بنا جالوت! قال: فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت
قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء
داود، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه، ولبس
السَّنَوَّر فملأه= وكان رجلا مسقاما مصفارا= (8) ولم يلبسه
أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض.
(9) . ثم مشى إلى جالوت= وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم=
فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى!
ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود: لا بل أنا أقتلك! فأخرج
الحجارة فجعلها في القذافة، كلما رفع حجرا سماه، (10) فقال:
هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم
أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم
أرسله فصك به بين عيني جالوت، فنقبتُ رأسَه فقتلته، (11) ثم لم
تزل تقتل كل إنسان تصيبه، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد.
فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت، فأنكح داود
ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما
رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده، فأراد قتله. فعلم به داود
أنه يريد به ذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه، (12) فدخل طالوت
إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت
الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود!
ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته
وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه، وعن يمينه وعن
شماله سهمين سهمين، (13) ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصر
بالسهام فعرفها، فقال: يرحم الله داود! هو خير مني، ظفرت به
فقتلته، وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في
البرية وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود! = وكان
داود إذا فزع لا يدرك= فركض على أثره طالوت، ففزع داود فاشتد
فدخل غارا، (14) وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا.
فلما انتهى طالوت إلى الغار، نظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو
كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه، (15) فتركه.
(16)
5745- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل
معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى: ألا رجل
لرجل! فقال طالوت: من يبرز له؟ وإلا برزت له؟ فقام داود فقال:
أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه، فجعل يراه يشخص فيها
ويرتفع، (17) فعجب من ذلك طالوت، فشد عليه أداته كلها= وإن
داود رماهم بحجر من تلك الحجارة، فأصاب في القوم، ثم رمى
الثانية بحجر، فأصاب فيهم، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه
الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، وصار هو الرئيس عليهم،
وأعطوه الطاعة.
5746- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد في
قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ) ، فقرأ حتى بلغ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، قال: أوحى الله إلى نبيهم: إن في
ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن تضعه
على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال: إن الله أوحى إلي أن في ولدك
رجلا
__________
(1) في تاريخ الطبري: "يأتي أبيه وإلي إخوته"، والصواب ما في
التفسير.
(2) قوله: "فأتى النبي ... " إلى آخر الكلام، يوهم القارئ أنه
منقطع، وليس كذلك، فإن الطبري كعادته يقسم الأثر ويجزئه في
مواضع من تفسيره. وهذا الأثر الذي هنا، تتمة الآثار السالفة:
5720، 5732، كما أشرنا إليه في التعليق هناك، وكما سنشير إليه
بعد. والنبي هو شمعون، كما مضى في تلك الآثار.
(3) انظر تفسير"القرن" فيما سلف: 307، تعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو
خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري،
وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين،
وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو
المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في
الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع
فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747.
(5) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو
خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري،
وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين،
وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو
المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في
الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع
فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747.
(6) في المخطوطة والمطبوعة: "فجربهم فلم يوافقه" بإسقاط"به"
وأثبت ما في التاريخ.
(7) في المطبوعة: "بطعامنا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(8) رجل مسقام، وامرأة مسقام أيضًا: كثير السقم لا يكاد يبرأ.
مصفار من قولهم: اصفار لونه: غلبته، وذلك من المرض والضعف.
(9) يقال: تنقضت الغرفة وغيرها: تشققت، وسمع لها نقيض، وهو صوت
التكسر والتشقق.
وكان في المطبوعة: "ينقض" بالياء التحتية، والصواب من المخطوطة
والتاريخ.
(10) زدت"منها" من التاريخ.
(11) في المطبوعة: "فنقب رأسه فقتله"، والصواب من التاريخ، ومن
المخطوطة على بعض الخطأ فيها.
(12) سجى الشيء والميت: غطاه ومد عليه ثوبا. والزق (بكسر
الزاى) : جلد الشاة يسلخ من رجل واحدة، ومن رأسه وعنقه، ثم
يعالج حتى يكون سقاء، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر.
(13) في المخطوطة والمطبوعة: "سهمين" مرة واحدة، وأثبت ما في
التاريخ، وهو الصواب.
وقوله بعد: "ثم نزل"، زيادة من التاريخ ليست في المخطوطة ولا
المطبوعة.
(14) اشتد: عدا عدوا سريعا. والشد: العدو السريع.
(15) قوله: "خيل إليه"، يعني دخلته الشبهة في أمره، لما أشكل
عليه، ولم أجد هذا التعبير بنصه في كتب اللغة، ولكنه صحيح
العربية، من قولهم: "أخال الشيء": أي اشتبه.
(16) الأثر: 5744-هو تمام الآثار السالفة التي أشرت إليها في
التعليق على الأثرين: 5720، 5732، كما أشرت إليه آنفًا في
التعليقات القريبة. وهو في الدر المنثور1: 319، وتفسير البغوي
(بهامش ابن كثير) 1: 604-608، بغير هذا اللفظ، وإن كان قريبا
منه.
(17) شخص يشخص شخوصا: ارتفع وعلا.
(5/364)
يقتل الله به جالوت! (1) فقال: نعم يا نبي
الله! قال: فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، (2) وفيهم
رجل بارع عليهم، (3) فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا،
فيقول لذلك الجسيم: ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه: إنا
لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال:
يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال: كذب! فقال: إن ربي
قد كذبك! وقال: إن لك ولدا غيرهم! فقال: صدق يا نبي الله، (4)
. لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس، فجعلته في الغنم! قال:
فأين هو؟ قال في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه،
فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها، (5)
قال: ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. (6)
فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم، فهو بالناس
أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. (7) فقال له: ابن أخي!
هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ (8) قال: نعم، إذا سبحت، سبحت
معي الجبال، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة، قمت
إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال: وألفى معه صفنه. (9)
قال: فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض، (10) كل واحد منها
يقول: أنا الذي يأخذ! ويقول هذا: لا! بل إياي يأخذ! ويقول
الآخر مثل ذلك. قال: فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء
مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا، قال لهم نبيهم:"إن الله
قد بعث لكم طالوت ملكا"، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله
في كتابه، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين". قال: واجتمع
أمرهم وكانوا جميعا، وقرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين". (11)
وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق، في يده قوس نُشَّاب، (12)
فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال: ففظع به طالوت، (13)
قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: من رجل يكفيني اليوم جالوت؟ فقال
داود: أنا. فقال: تعال! قال: فنزع درعا له، فألبسه إياها. قال:
ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال: فرمى بنشابة فوضعها في
الدرع. قال: فكسرها داود ولم تضره شيئا، ثلاث مرات، ثم قال له:
خذ الآن! فقال داود: اللهم اجعله حجرا واحدا. قال: وسمى واحدا
إبراهيم، وآخر إسحاق، وآخر يعقوب. قال: فجمعهن جميعا فكن حجرا
واحدا. قال: فأخذهن وأخذ مقلاعا، فأدارها ليرمي بها فقال:
أترميني كما يرمي السبع والذئب؟ أرمني بالقوس! قال: لا أرميك
اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا، فقال: نعم! وأنت أهون
علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال: فخلى
سبيلها مأمورة. قال: فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من
قفاه، (14) ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا، وهزمهم الله.
5747- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: لما قطعوا ذلك= يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا
عن قيل طالوت لجنوده:"إن الله مبتليكم بنهر"= وجاء جالوت، وشق
على طالوت قتاله، فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل، أعطيت
الذي يقتله نصف ملكي، وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود=
وداود يومئذ في الجبل راعي غنم، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة
لداود، وهم أبدّ منه، (15) وأغنى منه، (16) وأعرف في الناس
منه، وأوجه عند طالوت منه، فغزوا وتركوه في غنمهم= فقال داود
حين ألقى الله في نفسه ما ألقى، وأكرمه: لأستودعن ربي غنمي
اليوم، ولآتين الناس، (17) فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك
لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته، فلاموه
__________
(1) في المطبوعة: "أن في ولد فلان ... " مرة أخرى، والصواب من
المخطوطة والتاريخ.
(2) السواري جمع السارية: وهي الأسطوانة، من حجارة أو آجر، وفي
الحديث أنه نهى أن يصل بين السواري، وهي أسطوانة المسجد، وذلك
في صلاة الجماعة، من أجل انقطاع الصف.
(3) برع يبرع فهو بارع: تم في كل فضيلة وجمال، وفاق أصحابه في
العلم وغيره. ويقال: امرأة بارعة: فائقة الجمال والعقل. وكل
مشرف يفوق ويعلو، فهو بارع وفارغ. وفي التاريخ"بارع"
بحذف"عليهم" وهما سواء، وسيأتي وصفه بعد قليل بأنه"الجسيم"،
وهما بمعنى متقارب.
(4) في المطبوعة: "صدق" بإسقاط"قد"، وهي في المخطوطة والتاريخ.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "بينه وبين التي يريح ... ":
والصواب من التاريخ. وأراح غنمه وأبله يريحها إراحة. ردها إلى
مراحها حيث تأوي إليه ليلا. والمراح (بضم الميم) : مأوى الإبل
والغنم.
وهو من الرواح، وهو السير بالعشي.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "يحمل شاتين، يجوز بهما، ولا يخوض"
بإسقاط"شاتين""الثانية" وأسقطت المطبوعة: "السيل" الأولى،
فأثبت ما في التاريخ وهو الصواب. يقال: "جاز المكان وأجازه"
بمعنى واحد. وفي حديث الصراط: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز
عليه" بضم الياء.
(7) عند هذا الموضع انتهى ما رواه الطبري في تاريخه من هذا
الأثر الطويل 1: 247.
(8) أعجبه الأمر يعجبه: استخرج عجبه به، إذ يراه أمرا عجيبا.
(9) في المطبوعة، أسقط بين الكلامين: "قال"، وهي لا بد منها،
لأن الحديث غير متصل، كما سترى الذي يليه: "قال فمر ... "،
يعني دواد. والصفن (بضم فسكون) : خريطة الراعي، يكون فيها
طعامه وزاده وما يحتاج إليه.
(10) في المطبوعة: "يأثر بعضها على بعض"، وهو كلام بلا معنى.
وفي المخطوطة: " ينترى" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. وانتزى
فلان على فلان وتنزى عليه: إذا تسرع إليه بالشر وتواثبا.
من"النزو"، وهو الوثب.
(11) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت
عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وبرز جالوت على برذون أبلق في يده قوس نشاب
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرا"
ثم بعد ذلك:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(12) في المطبوعة: "قوس ونشاب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(13) أفظعه الأمر، وفظع به فظاعة وفظعا (بفتحتين) واستفظعه
وأفظعه: رآه فظيعا، فهاله وغلبه، فلم يثق بأن يطيقه.
(14) أظل الشيء يظل: أقبل ودنا. وفي حديث مالك: "فلما أظل
قادما حضرني بثى".
(15) في المطبوعة: أند منه"، ولا يظهر لها معنى. وفي
المخطوطة"أند" غير منقوطة، وقرأتها كذلك من"البدد"، وهو عرض ما
بين المنكبين، وعظم الخلق، وتباعد ما بين الأعضاء. وهذه صفة
إخوته كما سلف في آثار ماضية. هذا على أنهم يقولون في الصفة:
"رجل أبد، وامرأة بداء".
(16) في المطبوعة: "وأعتى منه"، وفي المخطوطة: " وأعنى منه"،
وكأن الصواب ما أثبت.
(17) في المخطوطة: "ولا / ببر"، في سطرين، وكأن الصواب ما في
المطبوعة.
(5/367)
حين أتاهم، فقالوا: لم جئت؟ قال: لأقتل
جالوت، فإن الله قادر أن أقتله. (1) فسخروا منه= قال ابن جريج،
قال مجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فأخذ
مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سماهن"إبراهيم" و"إسحاق"
و"يعقوب"= قال ابن جريج، قالوا: وهو ضعيف رث الحال، فمر بثلاثة
أحجار فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود
وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه:
أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني: أنا حجر
موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث: أنا حجر داود الذي
أقتل جالوت! فقال الحجران: يا حجر داود، نحن أعوان لك! فصرن
حجرا واحدا. وقال الحجر: يا داود، اقذف بي، فإني سأستعين
بالريح= وكانت بيضته، فيما يقولون والله أعلم، فيها ستمئة رطل=
(2) فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج، وقال مجاهد: سمى
واحدا إبراهيم، والآخر إسحاق، والآخر يعقوب، وقال: باسم إلهي
وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته- قال ابن
جريج: فانطلق حتى نفذ إلى طالوت (3) فقال: إنك قد جعلت لمن قتل
جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته؟ قال:
نعم! والناس يستهزئون بداود، وإخوة داود أشد من هنالك عليه.
وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه
درعا عنده، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنها. (4) وكانت درعا
سابغة من دروع طالوت، فألبسها داود، فلما رأى قدرها عليه أمره
أن يتقدم. فتقدم داود، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد، وعليه
الدرع. فقال له جالوت: ويحك! من أنت؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي
غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود:
أنا الذي أقتلك بإذن الله، ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود
إلا قتاله، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه، فأخرج
الحجر من المخلاة، فدعا ربه ورماه بالحجر، فألقت الريح بيضته
عن رأسه، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله= قال
ابن جريج، وقال مجاهد: لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين
بيضة عن رأسه، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا، قال الله
تعالى:"وقتل داود جالوت". فقال داود لطالوت: ف لي بما جعلت.
(5) فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن
بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود
فجاؤوا به فملّكوه، وأعطوه خزائن طالوت، وقالوا: لم يقتل جالوت
إلا نبي! قال الله:"وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة
وعلمه مما يشاء".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وأعطى الله داود الملك
والحكمة وعلمه مما يشاء="والهاء" في قوله:"وآتاه الله"، عائدة
على داود ="والملك" السلطان (6) "والحكمة"، النبوة. (7)
وقوله:"وعلمه مما يشاء"، يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في
السرد، كما قال الله تعالى ذكره: (وعلمناه صنعة لبوس
__________
(1) "قادر" من قولهم: "قدر الله الشيء وقدره"، قضاه.
(2) ما بين الخطين، كلام معترض بين كلام الحجر. والضمير
في"بيضته"، لجالوت.
(3) قوله: "فانطلق" الضمير لداود.
(4) القدر (بفتحتين، وفتح وسكون) : المقدار، أي على مقداره
وعلى قدره.
(5) في المطبوعة: " وف بما جعلت"، وفي المخطوطة"ولي بما جعلت"،
وصواب قراءتها ما أثبت وقواه: "ف" هو الأمر من قولهم: " وفى له
بالشيء يفي". أمر على حرف واحد.
(6) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148- 150/ 2: 488/ وهذا:
311، 312، 314.
(7) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211/ وهذا: 16،
17.
(5/370)
لكم لتحصنكم من بأسكم) [سورة الأنبياء: 80]
.
* * *
وقد قيل إن معنى قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، أن الله
آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل.
* ذكر من قال ذلك:
5748- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ، وجعله الله نبيًّا، وذلك
قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، قال: الحكمة هي النبوة، آتاه
نبوّة شمعون وملك طالوت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض
الناس= وهم أهل الطاعة له والإيمان به= بعضًا، وهم أهلُ
المعصية لله والشرك به- كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم
جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا
ربَّهم ابتداءً: من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله=
بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوتَ
وجنوده= (1) "لفسدت الأرض"، يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله
إياهم، ففسدت بذلك الأرض= (2) ولكن الله ذو منٍّ على خلقه
وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع
عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.
* * *
__________
(1) سياق هذا الجملة"كما دفع عن المتخلفين عن جالوت ... بمن
جاهد معه ... جالوت وجنوده"، على دأب أبي جعفر في الفصل الطويل
المتتابع.
(2) انظر معنى"الفساد فيما سلف 1: 287، 416/ 4: 239، 243، 244.
(5/372)
وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ
النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم
ومرض قلوبهم، والمشركين وأهلِ الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم
معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به
وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله، وذوو
اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله،
من النصر في العاجل، والفوز بجنانه في الآجل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5749- حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم عن عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولولا دفعُ الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر،
وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، (2) "لفسدت الأرض"، بهلاك
أهلها.
5750- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر،
وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض (3) لهلك أهلها.
5751- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حنظلة، عن أبي مسلم
قال: سمعت عليًّا يقول: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.
__________
(1) في المطبوعة: "في الآخرة"، وفي المخطوطة: "في الأخر"، ولو
شاء أن يجعلها على ذلك لقال: "من النصر في العاجلة، والفوز
بجنانه في الآخرة". ولكني أجده تصحيف ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "بالبار"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والدر المنثور 1: 320" أخلاق الناس"، والأخلاف
جمع خلف، بمعنى الذين خلفوا الصالحين من أهل البر والصلاح
والتقوى.
(5/373)
5752- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولولا دفع
الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: لهلك من في الأرض.
5753- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثنا يحيى
بن سعيد قال، حدثنا حفص بن سليمان، عن محمد بن سوقة، عن وبرة
بن عبد الرحمن، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من
جيرانه البلاءَ"، ثم قرأ ابن عمر:"ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض". (1)
5754- حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال، حدثنا يحيى بن سعيد
قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر
بن عبد الله قال:
__________
(1) الحديث: 5753-أحمد بن المغيرة، أبو حميد الحمصي-شيخ
الطبري: هو أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار، نسب هنا إلى جده.
وهو ثقة، روى عنه النسائي ووثقه. وترجمه ابن أبي حاتم 1/ 1/
72، باسم: "أحمد بن محمد بن سيار"، وقال"كتب عنه، وهو صدوق
ثقة".
يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري، أبو زكريا، الشامي الحمصي.
ضعفه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: "جائز الحديث". وقال محمد
بن مصفي الحمصي الحافظ: "حدثنا يحيى بن سعيد العطار، ثقة".
فهذا بلديه وتلميذه يوثقه، والظن أن يكون أعرف به من غيره.
وترجمه البخاري في الكبير 4/2/277، فلم يذكر فيه جرحًا. وجازف
ابن حبان -في كتاب المجروحين -مجازفة شديدة دون برهان، فقال:
"كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، والمعضلات عن الثقات، لا
يجوز الاحتجاج به بحال، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار
لأهل الصناعة".
حفص بن سليمان: هو الأسدي البزاز الكوفي القارئ، صاحب"قراءة
حفص" المعروفة، التي يقرأ لها الناس بمصر وغيرها. وهو ضعيف
جدًا، متروك الحديث، على إمامته في القراءة. وقد بينت ضعفه
مفصلا في شرح المسند: 1267.
محمد بن سوقة -بضم السين المهملة - الغنوي الكوفي العابد: ثقة
متفق عليه.
وبرة بن عبد الرحمن: تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان
وغيرهما.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 606 607، عن هذا الموضع. وقال: "وهذا
إسناد ضعيف. فإن يحيى بن سعيد هذا: هو العطار الحمصي، هو ضعيف
جدًا".
وذكره الذهبي في الميزان، في ترجمة"يحيى بن سعيد العطار" 3:
290 -عن يحيى هذا، بهذا الإسناد.
(5/374)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله
ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَته
ودُويْراتٍ حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على قوله:"العالمين"، وذكرنا الرواية
فيه. (2)
* * *
وأما القرأة، فإنها اختلفت في قراءة قوله:"ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض".
فقرأته جماعة من القرأة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ) على وجه
المصدر، من قول القائل:
__________
(1) الحديث: 5754 -عثمان بن عبد الرحمن: هكذا في نقل ابن كثير
إياه عن هذا الموضع. فإنه يكنه يكن"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر
بن سعد بن أبي وقاص المدني"، فهو من الطبقة، ولكنه لم يذكر في
شيوخ"يحيى بن سعيد العطار"، ولا في الرواة عن"محمد بن
المنكدر". ولم نجد فيما رأينا من ترجم من اسمه"عثمان بن عبد
الرحمن" -من يستقيم به الإسناد غيره.
وهذا الوقاصي: ضعيف جدًا، رماه ابن معين بالكذب. وقال أبو
حاتم: "متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذاب". وقال البخاري في
الضعفاء، ص: 25: "تركوه".
والراجح -عندي-أن اسم هذا الراوي محرف في نسخ الطبري. وأكاد
أجزم أن صوابه"عنبسة بن عبد الرحمن" فهو الذي يروي عن محمد بن
المنكدر، ويروي عنه يحيى بن سعيد العطار.
وقد يؤيد ذلك: أن كاتب المخطوطة رسم هذا الاسم بدون ألف بعد
الميم -على الكتبة القديمة-"عثمن". ولكن يظهر أنه كتبه على
تردد، عن نسخة غير واضحة الرسم. لأنه بسط آخر الكلمة فكتب
النون مبسوطة كأنها سين، ثم اشتبه عليه الاسم، فاصطنع الحرف
المبسوط جعله نونًا. وتغيير الحرفين قبله سهل: ينقط النون
بثلاث نقط فتصير ثاء مثلثة، ثم يدير نبرة الباء فتكون ميما.
ويخرج الاسم من"عنبسة" إلى"عثمن".
وأيًا ما كان الراوي هنا"عثمان" أو"عنبسة" -فالحديث واهي
الإسناد منهار، لا تقول له قائمة.
فإن"عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص": ضعيف
جدًا.
قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، كان يضع الحديث".
واسم جده"عنبسة" كاسمه. ووقع في التهذيب محرفًا"عيينة". وهو
خطأ مطبعي.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 607، وقال: "وهذا أيضًا غريب ضعيف،
لما تقدم أيضًا"! يريد لضعف"يحيى بن سعيد العطار". وقد بينا في
الحديث السابق أنه غير ضعيف.
وذكره السيوطي 1: 320، ونسبه الطبري"بسند ضعيف". ثم لم ينسبه
لغير الطبري.
(2) انظر ما سلف 1: 143 -146/ 2: 23 -26.
(5/375)
"دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا".
واحتجت لاختيارها ذلك، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد
بالدفع عن خلقه، ولا أحد يُدافعه فيغالبه.
* * *
وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة: (1) (وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ
النَّاسَ) على وجه المصدر، من قول القائل:"دافع الله عن خلقه
فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا" واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا
من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به، فهو
بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم، لله مُدافعون بظنونهم، (2)
ومغالبون بجهلهم، والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته
والإيمان به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما
القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين
إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه
بشيء دافع. (3) ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه
مدافع. (4) ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده
محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ
مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو
معنى"مدافعة الله" عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت
وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: (5)
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ،
وقراءة من قرأ: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض) ، في
التأويل والمعنى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "جماعة أخرى من القراء"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "مدافعون بباطلهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فمدافعه عنه دافع"، وفي المخطوطة: "فمدافعة
عنه ليس دافع" غير واضحة، والصواب ما أثبت. وذلك لأن الله دافع
الكفار عما تضمن للمؤمنين من النصرة ببعض الناس. فصح إذًا أن
عبارة الطبري تقتضي أن تكون الكلمة"بشيء".
(4) في المطبوعة: "لمدافعه مدافع" والصواب من المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "فتبين إذًا"، والصواب من المخطوطة.
(5/376)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ
اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك آيات الله" (1) هذه
الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم
ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين
سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى
قوله:"والله ذو فضل على العالمين".
ويعني بقوله:"آيات الله"، حججه وأعلامه وأدلته. (2) .
* * *
يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد،
وأعلمتك= من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة
وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني
إسرائيل، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة،
وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته
إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على
جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم= (3) حججي على من جحد
نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة
والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي
يعلمون أنها من عندي، (4) .
لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد، لأنك أمي، ولست ممن قرأ
الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض
أسفارهم= ولكنها حججي عليهم أتلوها
__________
(1) انظر مجيء"ذلك"و"تلك" بمعنى: "هذا، وهذه"، فيما سلف 1: 225
-227/ 3: 335.
(2) انظر تفسير"الآية" فيما سلف 1: 106، ثم هذا الجزء: 337
والمراجع في التعليق هناك.
(3) في المطبوعة: "حجج على من جحد"، وأثبت ما في المخطوطة.
والسياق: "فهذه الحجج ... حججي".
(4) في المخطوطة: "من الأنباء الحصه" غير منقوطة ولا بينة، وما
في المطبوعة صحيح المعنى.
(5/377)
عليك يا محمد، بالحق اليقين كما كان، لا
زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان="وإنك" يا
محمد"لمن المرسلين"، يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار
مرضاتي على هواك، فسألك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي
الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم
الأهواء، ومطامع الدنيا، كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه،
على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون
الذين قبلك.
* * *
(5/378)
تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك"، الرسل الذين قص
الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه
السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض،
فكلمت بعضهم = والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم =
ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة، كما:-
5755 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، قال: يقول: منهم من كلم الله،
ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا
إلى الناس كافة.
5756 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
(5/378)
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:=
5757 - قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد
قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب
مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي
الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها
شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله
شيئا" (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
قال أبو جعفر:يعني تعالى ذكره بقوله: (2) "وآتينا عيسى ابن
مريم البينات"، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته:
(3) من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع
الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.
* * *
ويعني تعالى ذكره بقوله:"وأيدناه"، وقويناه وأعناه= (4) "بروح
القدس"، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل
العلم في معنى روح
__________
(1) الأثر: 5757 -ساقه بغير إسناد، وقد اختلف ألفاظه، وهو من
حديث ابن عباس في المسند رقم: 2742، والمسند 5: 145، 147، 148،
161، 162 (حلبي) والمستدرك 2: 424 ورواه مسلم بغير اللفظ 5: 3،
والبخاري، (الفتح 1: 369، 444) مواضع أخرى. وهو حديث صحيح.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى تعالى ذكره بذلك"، وهو لا
يستقيم.
(3) انظر تفسير"البينات"فيما سلف 2: 328/ 4: 271، والمراجع
هناك، وانظر فهرس اللغة.
(4) انظر تفسير"أيد"فيما سلف 2: 319، 320.
(5/379)
القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في
ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله=" ما اقتتل
الذين من بعدهم"، (2) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل
بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد
جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما
جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.
* * *
وقد قيل: إن"الهاء" و"الميم" في قوله:"من بعدهم"، من ذكر موسى
وعيسى. * ذكر من قال ذلك:
5758 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما
جاءتهم البينات"، يقول: من بعد موسى وعيسى.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 320- 323.
(2) في المطبوعة، أتم الآية: "من بعد ما جاءتهم البينات"،
وأثبت ما في المخطوطة.
(5/380)
5759 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين
من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات" يقول: من بعد موسى وعيسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين
من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا،
فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم
الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله
ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك
بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر
والمعاصي، (1) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ،
تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.
ثم قال تعالى ذكره لعباده:"ولو شاء الله ما اقتتلوا"، يقول:
ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته
فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا="ولكن الله يفعل ما
يريد"، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه،
ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "أتوا ما أنزل من الكفر"، وهو سهو فاحش من
شدة عجلة الكاتب، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا
الموضع أيضًا.
(5/381)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ
وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ
وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها،
وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج
يقول فيما بلغنا عنه:
5760 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم"، قال:
من الزكاة والتطوع.
* * *
="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، يقول:
ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها
في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض
الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من
الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه،
بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم="من قبل أن
يأتي يوم لا بيع فيه"، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول:
لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من
أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في
الدنيا قادرين، (1) لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل
واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة
بالنفقة حينئذ- أو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم
به"، وهو كلام مختل، سقط فيما أرجح ما أثبته: "رزقتكموها،
بما". وسياق العبارة: ما كنتم على ابتياعه ... بما أمرتكم به
... قادرين". والذي بينهما فواصل.
(5/382)
بالعمل بطاعة الله، سبيل (1) .
ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم = مع ارتفاع العمل الذي
ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال،
(2) إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به = يوم لا مخالة فيه
نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان
ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء،
والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا
أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) كما قال الله
تعالى ذكره، (3) وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ= مع فقدهم السبيل إلى
ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من
أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء
من الإخوان (4) = لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم
في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة
والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما
أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا
صاروا فيها: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ) [الشعراء: 100-101]
* * *
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما
معناه:"من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"،
لأهل الكفر بالله، لأن أهل
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فيكون لهم إلى ابتياع ... "
والصواب في هذا السياق: "لكم وقوله: "سبيل" اسم كان في"فيكون
لكم إلى ابتياع ... ".
(2) ارتفاع العمل: انقضاؤه وذهابه. يقال: "ارتفع الخصام
بينهما"، و"ارتفع الخلاف" أي انقضى وذهب، فلم يبق ما يختلفان
عليه أو يختصمان. وهو مجاز من"ارتفع الشيء ارتفاعا": إذا علا.
وهذا معنى لم تقيده المعاجم، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب
العلماء، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر، وشرحته ولا أعرف موضعه
الساعة.
(3) هى آية"سورة الزخرف": 67.
(4) النصراء جمع نصير. والخلان جمع خليل: والظهراء جمع ظهير:
وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك.
(5/383)
ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض.
وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:-
5761 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل
أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، قد علم الله أن
ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة
فلا خلة إلا خلة المتقين.
* * *
وأما قوله:"والكافرون هم الظالمون"، فإنه يعني تعالى ذكره
بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله="هم الظالمون"، يقول:
هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله،
والقائلون ما ليس لهم قوله.
* * *
وقد دللنا على معنى"الظلم" بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن
إعادته (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع:"والكافرون
هم الظالمون"، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله:"ولا
خلة ولا شفاعة"، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله
ذلك:"والكافرون هم الظالمون". فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا
الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء،
ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما
سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون
أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 23، 33.
(2) انظر معنى"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى"الظلم"
فيما سلف 1: 523، 524، وفي فهارس اللغة.
(5/384)
فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار
والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟
قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل
كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله:"ولكن اختلفوا فمنهم من آمن
ومنهم من كفر". ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به،
بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته (1)
وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف
صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال
أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى
ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي،
إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي= من قبل أن يأتي يوم لا
بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في
دنياهم= ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي
فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم
على كفرهم، (2) وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام
لعبيدي. وقد:-
5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي
سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه
قال: الحمد لله الذي قال:"والكافرون هم الظالمون"، ولم
يقل:"الظالمون هم الكافرون".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يحض" بالياء في أوله، فعلا. وهي في المخطوطة
غير منقوطة، وصواب قراءتها بباء الجر، اسما. وقوله: "بحض"،
متعلق بقوله: "ثم عقب الله".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهذا يومئذ فعل بهم"، وصواب
السياق يقتضى ما أثبت.
(5/385)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله:"الله" (1) .
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو" فإن معناه: النهي عن أن يعبد
شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره
في هذه الآية. يقول:"الله" الذي له عبادة الخلق="الحي القيوم"،
لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحي
القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم، (2) والذي صفته ما وصف في
هذه الآية.
* * *
وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما
جاءت به أقوال المختلفين في البينات= (3) من بعد الرسل الذين
أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض= واختلفوا فيه،
فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله
الذي هدانا للتصديق به، ووفقنا للإقرار.
* * *
وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء
الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، (4) إذ كان كل ما سواه
فإنه وإن كان حيا
__________
(1) انظر تفسير"الله" فيما سلف 1: 122- 126.
(2) في المطبوعة: "ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم"، والصواب
من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "المختلفين في البينات"، بزيادة"في"، وهو خطأ
مخل بالكلام، والصواب ما في المخطوطة، و"البينات"فاعل"جاءت
به"، و"المختلفين"مفعوله. والجملة التي بين الخطين، معترضة،
وقةله: بعد"واختلفوا فيه فاقتتلوا فيه ... "، عطف على قوله:
"عما جاءت به ... ".
(4) في المطبوعة: "لا أول له يحد" بالياء، فعلا، ثم جعل التي
تليها"ولا آخر له يؤمد"، فأتى بفعل عجيب لا وجود له في
العربية، وفي المخطوطة: "بحد" غير منقوطة وصواب قراءتها بباء
الجر في أوله. وفيها"بأمد" كما أثبت، والأمد: الغاية التي
ينتهى إليها. بقول: ليس له أول له حد يبدأ منه وليس له آخر له
أمد ينتهى إليه.
(5/386)
فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع
بانقطاع أمدها، (1) وينقضي بانقضاء غايتها.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5763 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله:"الحي" حي لا يموت.
5764 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك (2) .
فقال بعضهم: إنما سمي الله نفسه"حيا"، لصرفه الأمور مصارفها
وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة.
وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة.
وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسليما
لأمره (3) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وآخر مأمود"، أتى أيضًا بالعجب في تغيير
المخطوطة، وباستخراج كلمة لا يجيزها اشتقاق العربية، ولم
تستعمل في كلام قط. وفي المخطوطة"ممدود"كما أثبتها. وهي من
قولهم: "مد له في كذا" أي طويل له فيه. بل أولى من ذلك أن يقال
إنها من"المد"، وهي الطائفة من الزمان.
وقد استعملو من المدة: "ماددت القوم". أي جعلت لهم مدة ينهون
إليها. وفي الحديث: "يا ويح قريش، لقد نهكتهم الحرب! ما ضرهم
لو ماددناهم مدة"، أي جعلنا لهم مدة، وهي زمان الهدنة. وقال
ابن حجر في مقدمته الفتح: 182"قوله: (في المدة التي فيها أبا
سفيان) : أي جعل بينه وبينه مدة صلح، ومنه: (إن شاؤوا ماددتهم)
. فهو"فاعل" من"المد". ولا شك أن الثلاثى منه جائز أن يقال: "
مد له مدة" أي جعل له مدة ينتهى من عند آخرها. وكأتى قرأتها في
بعض كتب السير، فأرجو أن أظفر بها فأقيدها إن شاء الله، فمعنى
قوله: "وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها" أي: آخر قد ضربت له
مدة ينقطع بانقطاع غايتها.
(2) هذه أول مرة يستعمل فيها الطبري: "أهل البحث"، ويعنى بذلك
أهل النظر من المتكلمين.
(3) في المطبوعة: "فقلناه"، وما في المخطوطة صواب أيضًا جيد.
(5/387)
وأما قوله:"القيوم"، فإنه"الفيعول"
من"القيام" وأصله"القيووم"،: سبق عين الفعل، وهي"واو"،"ياء"
ساكنة، فأدغمتا فصارتا"ياء" مشددة.
وكذلك تفعل العرب في كل"واو" كانت للفعل عينا، سبقتها"ياء"
ساكنة. ومعنى قوله:"القيوم"، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما
قال أمية: (1) .
لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يعوم (2) قدره
المهيمن القيوم ... والجسر والجنة والجحيم (3) إلا لأمر شأنه
عظيم
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5765 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القيوم"، قال:
القائم على كل شيء.
5766 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
5767 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"القيوم" وهو القائم.
__________
(1) هو: أمية بن أبي الصلت الثقفى.
(2) ديوانه: 57، والقرطبي 3: 271، وتفسير أبي حيان 25: 277.
وفي المطبوعة والقرطبي"قمر يقوم"، وهو لا معنى له، والصواب في
المخطوطة وتفسير أبي حيان. عامت النجوم تعوم عوما: جرب، مثل
قولهم: "سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا"
(3) في المراجع كلها"والحشر"، وهو خطأ وتصحيف لا ريب فيه عندي،
وهو في المخطوطة"والحسر" غير منقوطة، وصواب قراءتها"الجسر" كما
أثبت. وفي حديث البخاري: "ثم يؤتى بالجسر" قال ابن حجر: أي
الصراط، وهو كالقنطرة بين الجنة والنار، يمر عليها المؤمنون.
ولم يذكر في بابه في كتب اللغة، فليقيد هناك، فإن هذا هو سبب
تصحيف هذه الكلمة. وفي بعض المراجع: "والجنة والنعيم"، والذي
في الطبري هو الصواب. هذا وشعر أمية كثير خلطه.
(5/388)
5768 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق،
قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الحي القيوم"، قال:
القائم الدائم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا
نَوْمٌ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة"، لا يأخذه
نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما.
* * *
"والوسن" خثورة النوم، (1) ومنه قول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم (2)
__________
(1) الخثورة: نقيض الرقة، يقال: "خثر اللبن والعسل ونحوهما"،
إذا ثقل وتجمع، والمجاز منه قولهم: "فلان خاثر النفس" أي
ثقيلها، غير طيب ولا نشيط، قد فتر فتورا. واستعمله الطبري
استعمالا بارعا، فجعل للنوم"خثورة"، وهي شدة الفتور، كأنه زالت
رقته واستغلط فثقل، وهذا تعبير لم أجده قبله.
(2) من أبيات له في الشعر والشعراء: 602، والأغانى 9: 311،
ومجاز القرآن 1: 78، واللسان (وسن) (رنق) ، وفي جميعها مراجع
كثيرة، وقبل البيت في ذكرها صاحبته"أم القاسم":
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم
وسنان أقصده النعاس.......... ... . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
يصطاد يقظان الرجال حديثها ... وتطير بهجتها بروح الحالم
والجآذر بقر الوحش، وهي حسان العيون. وجاسم: موضع تكثر فيه
الجآذر. و" أقصده النعاس" قتله النعاس وأماته. يقال: "عضته حبة
فإقصدته"، أي قتلته على المكان -أي من فوره. و"رفقت" أي خالطت
عينه. وأصله من ترنيق الماء، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على
الماء. وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه، وهو رفرفته
إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر، وهذا المجازأعجب إلى
في الشعر.
(5/389)
ومن الدليل على ما قلنا: من أنها خثورة
النوم في عين الإنسان، قول الأعشى ميمون بن قيس:
تعاطى الضجيع إذا أقبلت ... بعيد النعاس وقبل الوسن (1)
وقال آخر: (2)
باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال (3)
__________
(1) ديوانه: 15، وهو يلي البيت الذي سلف 1: 345، 346، وفي ذكر
نساء استمع بهن:
إذا هن نازلن أقرانهن ... وكان المصاع بما في الجون
تعاطى الضجيع........... ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
صريفية طيبا طعمها ... لها زبد بين كوب ودن
وقوله"تعاطى" من قولهم للمرأة: "هى تعاطى خلها" أي صاحبها -أن
تناوله قبلها وريقها.
وقوله: "أقبلت"، هو عندي بمعنى: سامحت وطاوعت وانقادت،
من"القبول" وهو الرضا. ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة، ولكنه جيد في
العربية، شبيه بقولهم: "أسمحت"، من السماح، إذا أسهلت وانقادت
ووافقت ما يطلبه صاحبها. وذلك هو الجيد عندي. ليس من الإقبال
على الشيء. بل من القبول. ويروي مكمان ذلك: "إذا سامها"،
ورواية الديوان: "بعيد الرقاد وعند الوسن"
والصريفية: الخمر الطيبة، جعلها صريفية، لأنها أخذت من الدن
ساعتئذ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا
حلب. وفي الديون: "صليفية"، باللام، والصواب بالراء يقول: إذا
انقادت لصاحبها بعيد رقادها، أو قبل وسنها، عاطته من ريقها
خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب والدن، ولم يمض وقت عليها
فتفسد. يقول: ريفها هو الخمر، في يقظتها قبل الوسن -وذلك بدء
فتور الفس وتغير الطباع -وبعد لومها، وقد تغيرت أفواه البشر
واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين. وذلك قل أن يكون
في النساء أو غيرهن.
(2) هو الاعشى أيضًا
(3) ديوانه: 5، واللسان (غرب) ، من قصيدة جليلة، أفضى فيها إلى
ذكر صاحبته له يقول قبله:
وكأن الخمر العتيق من الإسفنط ... ممزوجة بماء زلال باكرتها
الأغراب....................... ...
...............................
الإسفنط: أجود أنواع الخمر وأغلاها. وباكرتها، أي في أول
النهار مبادرة إليها.
والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون) ، وهو القدح. والسيال: شجر سبط
الأغصان، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى، وتشبه به
أسنانهن يقول: إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها، بل كأن الخمر تجرى
بين ثناياها طيبة الشذا. وقوله: "باكرتها الأغراب"، وهو كفوله
في الشعر السالف أنها"صريفية" أي أخذت من دنها لسعتها. يقول:
ملئت الأقداح منها بكرة، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها،
وذلك أطيب لها.
هذا، وقد جاء في شرح الديوان: الأغراب: حد الأسنان وبياضها،
وأظال في شرحه، ولكنى لا أرتضيه، والذي شرحته موجود في اللسان،
وهو أعرق في الشعر، وفي فهمه.
(5/390)
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في
عينها، يقال منه:"وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان"، إذا
كان كذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5769 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله
تعالى:"لا تأخذه سنة" قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم
(1) .
5770 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تأخذه سنة" السنة:
النعاس.
5771 - حدثنا الحسن بن يحيي، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"لا تأخذه سنة" قالا
نعسة.
5772 - حدثني المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا
هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم"
قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال،
5773 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن
__________
(1) يعنى أن النوم معروف، والسنة غير النوم، وانظر الأثر
الآتي: 5772 وما بعده.
(5/391)
جويبر، عن الضحاك:"لا تأخذه سنة ولا نوم"
السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال.
5774 - حدثني يحيي بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا
جويبر، عن الضحاك، مثله سواء.
5775 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"لا تأخذه سنة ولا نوم" أما"سنة"، فهو ريح النوم الذي
يأخذ في الوجه فينعس الإنسان (1) .
5776 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"لا تأخذه سنه ولا نوم" قال:"السنة"، الوسنان بين
النائم واليقظان.
5777 - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا منجاب بن الحرث،
قال: حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع:"لا تأخذه
سنه" قال: النعاس (2) .
5778 - حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال:"الوسنان": الذي يقوم من
النوم لا يعقل، حتى
__________
(1) في المخطوطة"ريح" غير منقوطة. والريح هنا: الغلبة والقوة،
كما جاء في شعر أعشى فهو أو سليك بن السلكة.
أتنظران قليلا ريث غفلتهمأوتعدوان فإن الريح للعادى
أي الغلبة. وربما قرئت أيضًا: "الرنح" (بفتح الراء وسكون
النون) وهو الدوار. ومنه: "ترنح من السكر" إذا تمايل، و"رنح
به" (بالبناء للمجهول مشددة النون) إذا دير به كالمغشى عليه،
أو اعتراه وهن في عظامه من ضرب أو فزع أو سكر.
(2) الأثر: 5777 -"عباس بن أبي طالب"، هو: "عباس جعفر بن
الزبرقان" مضت ترجمته في رقم: 880، و"المنجاب بن الحارث"، مضت
ترجمته في رقم: 322 -328، و"على بن مسهر القرشي" الكوفي
الحافظ، روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة،
واسماعيل بن أبي خلد. ثقة، مات سنة 189. مترجم في التهذيب. و"
اسناعيل" هو" اسماعيل بن أبي خالد الأحمس" روي عن أبيه،
وأبيجحيفة، ن وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث، وأبي
كاهل، وهؤلاء صحابة. وعن زيد بن وهب والشعبي وغيرهما من كبار
التابعين. كان ثقة ثبتا. مات سنه 146. مترجم في التهذيب.
و"يحيى بن رافع" أبو عيسى الثقفى. روي عن عثمان وأبي هريرة،
وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد. مترجم في الكبير 4/ 2/ 273،
وابن أبي حاتم 4/2/ 143.
(5/392)
ربما أخذ السيف على أهله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة ولا
نوم" لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن"السنة"
و"النوم"، معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن
الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.
* * *
فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"الله لا إله إلا هو
الحي" الذي لا يموت="القيوم" على كل ما هو دونه بالرزق
والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال="لا تأخذه سنة ولا
نوم"، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل
الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال،
والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم
غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما
دكا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن
التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. (1) كما:
5779 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر= قال: أخبرني الحكم بن أبان، (2) عن عكرمة مولى
ابن عباس في قوله:"لا يأخذه سنة ولا نوم" أن موسى سأل
الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن
يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين
فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في
يديه،
__________
(1) في المطبوعة: "يمانع" بالياء في أوله، وهو خطأ لا خير فيه.
وإنما أخطأ قراءة المخطوطة للفتحة على الميم، اتصلت بأولها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"وأخبرنى الحكم"، وكأن الصواب حذف
الواو"أخبرنا معمر قال، أخبرنى الحكم بن أبان" كما أثبته فإن
معمرا يروي عن الحكم بن أبان. انظر ترجمته في التهذيب، وكما
جاء في ابن كثير 2: 11 على الصواب. وقال بمقبه: "وهو من أخبار
بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه
مثل هذا من أمر الله عز وجل، وهو منزه عنه". وأصاب ابن كثير
الحق، فإن أهل الكتاب ينسبون إلى أنبياء الله، ما لو تركوه
لكان خيرا لهم.
(5/393)
في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه،
وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما=
قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السموات والأرض
في يديه.
5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف،
عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة،
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله
عليه وسلم على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله
تعالى ذكره؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا، ثم أعطاه
قارورتين في كل يد قارورة، أمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام
وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، ثم
نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا
له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض (1) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5780 -"إسحق بن أبى إسرائيل-واسمه إبراهيم- بن كما
مجرا، أبو يعقوب المروزي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري في
الأدب المفرد، وأبو داود والنسائى وغيرهم. قال ابن معين: "من
ثقات المسلمين، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس، إلا ما خطه
هو في ألواحه أو كتابه".
وكرهه أحمد لوقفه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فتركه
الناس حتى كان الناس يمرون بمسجده، وهو فيه وحيد لا يقربه أحد.
وقال أبو زرعة: "عندي أنه لا يكذب، وحدث بحديث منكر". مات سنه
240. مترجم في التهذيب.
و"هشام بن يوسف الصنعائي"قاضي صنعاء، ثقة. روى عنه الأئمة
كلهم. روي عن معمر، وابن جريج، والقاسم بن فياض، والثوري،
وغيرهم. قال عبد الرزاق: "إن حدثكم القاضي -يعنى هشام بن يوسف-
فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره". مترجم في التهذيب.
و"أمية بن شبل الصنعائي"، سمع الحكم بن أبان طاوس. روى عنه
هشام بن يوسف وعبد الرزاق، وثقه ابن معين، مترجم في الكبير
1/2/ 12، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم 1/ 1/ 302، ولسان
الميزان 1: 467. وقال الحافظ في لسان الميزان: "له حديث منكر،
رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة، عن أبي هريرة، مرفوعا،
قال"وقع في نفس موسى عليه السلام، هل ينام الله"، الحديث، رواه
عنه هشام بن يوسف، وخالفه معمر، عن الحكم، عن عكمرمة، فوقفة،
وهو أقرب. ولا يسوغ أن يكون هذا وقعا في نفس موسى عليه السلام،
وإنما روي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".
وساق ابن كثير في تفسير 1: 11، هذه الآثار، ثم قال: "وأغرب من
هذا كله، الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحق بن أبي
إسرائيل ... "، وساق الخبر، ثم قال: " وهذا حديث غريب، والأظهر
أنه إسرائيل لا مرفوع، والله أعلم". والذي قاله ابن حجر قاطع
في أمر هذا الخبر.
(5/394)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"له ما في السموات وما في
الأرض" أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون
كل آلهة ومعبود (1) .
وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك
إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول:
فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد
من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير
مالكه، ولا يطيع سوى مولاه.
* * *
وأما قوله:"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" يعني بذلك: من ذا
الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له
بالشفاعة لهم. (2) وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين
قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! (3)
فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع
السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا
الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم
عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي
إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير: "له ما في السموات ... "، 2: 537.
(2) انظر معنى"شفع" فيما سلف 2: 31 - 33، وما سلف قريبا: 382 -
384. ومعنى"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ ثم4: 286، 370/ ثم
هذا 352، 355.
(3) هذا تأويل آية"سورة الزمر": 3.
(5/395)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ
مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان
وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5781 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن
الحكم:"يعلم ما بين أيديهم"، الدنيا="وما خلفهم"، الآخرة.
5782 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يعلم ما بين أيديهم"، ما مضى من
الدنيا="وما خلفهم" من الآخرة.
5783 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال: قال ابن جريج قوله:"يعلم ما بين أيديهم" ما مضى أمامهم من
الدنيا="وما خلفهم" ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة.
5784 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"يعلم ما بين أيديهم"، قال: [وأما] "ما بين أيديهم"،
فالدنيا="وما خلفهم"، فالآخرة (1) .
* * *
وأما قوله:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، فإنه يعني
تعالى ذكره: أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله،
(2)
__________
(1) زيادة ما بين القوسين، لاغنى عنها.
(2) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف 2: 284.
(5/396)
محص له دون سائر من دونه= وأنه لا يعلم أحد
سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني
بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد
من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن
هو محيط بالأشياء كلها، (1) يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها
وكبيرها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5786 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:"ولا يحيطون بشيء من علمه" يقول: لا يعلمون
بشيء من علمه ="إلا بما شاء"، هو أن يعلمهم (2) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكرسي" الذي أخبر
الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض.
فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا حدثنا ابن إدريس،
عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس:"وسع كرسيه" قال: كرسيه علمه.
5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا
مطرف،
__________
(1) في المطبوعة: "أخلصوا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) سقط من الترقيم: 5785، سهوا.
(5/397)
عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، مثله= وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله:"ولا يؤوده
حفظهما"؟
* * *
وقال آخرون:"الكرسي": موضع القدمين.
* ذكر من قال ذلك:
5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد
الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن
كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع
القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل (1) .
5790 - حدثني موسى بن هاوون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:"وسع كرسيه السموات والأرض"، فإن السموات
والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه.
5791 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال:
كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم،
5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن
سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع
القدمين (2) .
__________
(1) الأثر: 5789 -"علي بن مسلم بن سعيد الطوسي" نزيل بغداد.
روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ثقة، مات سنة 253،
مترجم في التهذيب. و"عمارة بن عمير التيمي"، رأى عبد الله لابن
عمرو، وروي عن الأسود بن يزيد النخعي، والحارث بن سويد التيمي،
وإبراهيم بن أبي موسى الأشعري. لم يدرك أبا موسى. والحديث
منقطع. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 327، ونسبه لابن
المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقى في الأسماء والصفات.
الأطيط: صوت الرحل والنسع الجديد، وصوت الباب، وهو صوت متمدد
خشن ليس كالصرير بل أخشن.
(2) الأثر: 5792 -خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 من طريق سفيان
عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس،
ونسبه لوكيع في تفسيره. ورواه الكاكم في المستدرك 2: 282 مثله،
موقوفا علي ابن عباس، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه". ووافقه الذهبى قال ابن كثير: " وقد رواه ابن مردويه،
من طريق الحاكم بن ظهير الفزارى الكوفي، وهو متروك، عن السدى
عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح أيضًا". وانظر مجمع
الزوائد 6: 323: والفتح 8: 149.
(5/398)
5793 - حدثني عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال:
لما نزلت:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف
العرش؟ فأنزل الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ) إلى قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] (1) .
5794 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال ابن زيد: فحدثني أبي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي
إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس= قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة
من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض (2) .
* * *
وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
5795 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي هو العرش.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي
هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهو ما:-
__________
(1) الأثر: 5793 - لم يرد في تفسير الآية من"سورة الزمر".
(2) الأثر: 5794 -أثر أبي ذر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1:
328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في
الأسماء والصفات، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 وساق لفظ ابن
مردويه وإسناده، من طريق محمد بن عبد التميمي، عن القاسم بن
محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر.
(5/399)
5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد
القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل،
عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى
الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب
تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد
عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها -
وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله" (1) .
5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي
بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
5798 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت
امرأة، فذكر نحوه (2) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5796 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد
الله بن الحكم بن أبي زيادة" سلفت ترجمته برقم: 2247. و"عبيد
الله بن موسي بن أبي المختار، وأسمه باذام، العبسى مولاهم"،
روى عنه البخاري، وروى عنه هو والباقون بواسطة أحمد بن أبي
سريج الرازى، وأحمد بن إسحق البخاري، وأبي بكر بن أبي شبية،
وعبد الله بن الحكم القطواني وغيرهم. ثقة صدوق حسن الحديث، كان
عالما بالقرآن رأسا فيه، وأثبت أصحاب إسرائيل. مترجم في
التهذيب.
و"عبد الله بن خليفة الهمداني الكوفي" روي عن عمر وجابر، روى
عنه أبو إسحق السبيعى ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب. وهكذا روى الطبري هذا الأثر موقوفا، وخرجه ابن كثير
وفي تفسيره 2: 13 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عبد الله
بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن كثير: "وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور، وعبد
بن بن حميد، وابن جرير في تفسيريهما، والطبراني، وابن أبي عاصم
في كتابي السنة، لها، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث
أبي إسحق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور.
وفي سماعه من عمر نظطر: ثم منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفا
-قلت: كما رواه الطبري هنا -ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا،
ومنهم من يزيد في متنه زيادة غربية -قلت: وهي زيادة الطبري في
هذا الحديث -ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم
في صفة العرش، كما رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم:
4726) ، والله أعلم".
قال بيده: أشار بها، وانظر ما سلف من تفسير الطبري لذلك في 2:
546 -548.
(2) الأثران: 5797، 5798 -يحيى بن أبي بكير، واسمه نسر،
الأسدي"، أبو زكريا الكرماني الأصل. سكن بغداد، روي عن بن
عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإسرائيل، وزائدة.
روى عنه الستة، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن أحمد بن
أحمد بن أبي خلف، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة
208 أو 209. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"يحيى بن أبي
بكر" وهو خطأ.
وهذا الأثر، والذي يليه، إسنادان آخران للأثر السالف رقم:
5796، فانظر التعليق عليهما.
(5/400)
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول
ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه
أنه قال:"هو علمه" (1) . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا
يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما
علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته
أنهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: 7] ،
__________
(1) العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ
فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول
الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في
هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول
ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن
أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث
الأول، ويكون معناه أيضًا "العلم"، كما زعم أنه دل على صحته
ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في
الصفة والجوهر! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي
رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد
علىشرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد 6: 323"
رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح"، كما بينته في التعليق على
الأثر: 5792. ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر
إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في
ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن
مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي
موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية
اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه
العلم، فقد أبطل"، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله.
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم"، بقوله
تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"، فلم لم يجعل"الكرسي"
هو"الرحمة"، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى
في سورة الأعراف: 156: "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت
كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري،
ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة.
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي"، فإن أكثره لا
يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء
الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير
هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما
ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي"، وذلك قوله تعالى في"سورة
ص": "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب". وكتبه
محمود محمد شاكر.
(5/401)
فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء،
فكذلك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض".
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الكرسي" العلم. (1) ومنه قيل للصحيفة يكون
فيها علم مكتوب"كراسة"، ومنه قول الراجز في صفة قانص:
* حتى إذا ما احتازها تكرسا * (2) .
يعني علم. ومنه يقال للعلماء"الكراسي"، لأنهم المعتمد عليهم،
كما يقال:"أوتاد الأرض". يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم
الأرض، (3) ومنه قول الشاعر: (4)
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب (5)
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل
شيء"الكرس"، يقال منه:"فلان كريم الكرس"، أي كريم الأصل، قال
العجاج:
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب: "وأصل الكرس: العلم" (بفتح الكاف
وسكون الراء) مما رواه ابن العرابى من قولهم: "كرس الرجل"
(بفتح ثم كسر) : إذا ازدحم علمه على قلبه. وجعل أبي جعفر هذا
أصلا، عجب أي عجب! فمادة اللغة تشهد على خلافه، وتفسير ابن
الأعرابى هذا أيضًا شاهد على خلافه. وأنما أصل المادة (كرس) من
تراكم الشيء وتلبد بعضه على وتجمعه. وقوله بعد: " ومنه قيل
للصحيفة كراسة"، والأجود أن يقال: إنه من تجمع أوراقه بعضها
على بعض، أو ضم بعضها إلى بعض.
(2) لم أجد الرجز، وقوله: "احتازها"، أي حازها وضمها إلى نفسه.
ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير: إلى القانص أم إلى كلبه؟
والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله: "تكرس"، علم، لا
دليل عليه، حتى نجد سائر الشعر، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة.
(3) هذا التفسير مأخوذ من قول قطرب كما سيأتى، أنهم العلماء،
ولكن أصل مادة اللغة يدل على أن أصل ذلك هو ذلك هو الشيء
الثابت الذي يعتمد عليه، كالكرسي الذي يجلس عليه، وتسمية
العلماء بذلك مجاز محض.
(4) لم أعرف قائله.
(5) لم أجد البيت، إلا فيمن نقل عن الطبري، وفي أساس البلاغة
(كرس) أنشده بعد قوله: "ويقال للعلماء الكراسي -عن قطرب" وأنشد
البت. ولم أجد من ذكر ذلك من ثقات أهل اللغة.
(5/402)
قد علم القدوس مولى القدس ... أن أبا
العباس أولى نفس ... * بمعدن الملك الكريم الكِرْس * (1)
يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى:
* في معدن العز الكريم الكِرْس *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا يؤوده حفظهما"، ولا
يشق عليه ولا يثقله.
* * *
يقال منه:"قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا"، (2)
ويقال:"ما آدك فهو لي آئد"، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5799 - حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح،
قال:
__________
(1) ديوانه: 78، واللسان (قدس) (كرس) . و"القدس" هو الله
-سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والقدس. ومولاها:
ربها. وقد سلف تفسير معنى"القدس" و"القدس" في هذا التفسير 1:
475، 476/ 2: 322، 323. و"أبو العباس" هو أبو العباس السفاح،
الخليفة العباسي. وروى صاحب اللسان" القديم الكرس"، و"المعدن"
(بفتح الميم وكسر الدال) : مكان كل شيء وأصله الثابت، ومنه:
"معدن الذهب والفضة"، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب
والفضة، ثم تستخرج منه، وهو المسمى في زماننا"المنجم". يقول:
أبو العباس أولى نفس بالخلافة، الثابتة الأصل الكريمته.
(2) قوله: "إيادا" مصدر لم أجده في كتب اللغة، زادناه الطبري.
(5/403)
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة،
عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه.
5800 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" قال:
لا يثقل عليه حفظهما.
5801 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"ولا يؤوده حفظهما" لا يثقل عليه لا يجهده
حفظهما.
5802 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال:
لا يثقل عليه شيء.
5803 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن
خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس
في قوله:"ولا يؤود حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما.
5804 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة= وحدثنا يحيى
بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد= قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن
الضحاك:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
5805 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن
الضحاك، مثله.
5806 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته = يعني
خلادا = يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه
الآية:"ولا يؤوده حفظهما"، قال: لا يكبر عليه (1) .
5807 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يكثر عليه" والصواب ما أثبت: "كبر
عليه"، ثقل عليه.
(5/404)
ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول
الله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يكرثه (1) .
5808 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
5809 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه حفظهما.
5810 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يعز عليه حفظهما.
* * *
قال أبو جعفر:"والهاء"، و"الميم" و"الألف" في قوله:"حفظهما"،
من ذكر"السموات والأرض". فتأويل الكلام: وسع كرسيه السموات
والأرض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض.
* * *
وأما تأويل قوله:"وهو العلي" فإنه يعني: والله العلي.
* * *
و"العلي""الفعيل" من قولك:"علا يعلو علوا"، إذا ارتفع،"فهو عال
وعلي"،"والعلي" ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.
* * *
وكذلك قوله:"العظيم"، ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء
أعظم منه. كما:-
5811 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"العظيم"،
الذي قد كمل في عظمته.
* * *
__________
(1) كرثه الأمر يكرثه: اشتد عليه وبلغ منه المشقة.
(5/405)
قال أبو جعفر: واختلف أهل البحث في معنى
قوله: (1) .
"وهو العلي".
فقال بعضهم: يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه، (2)
وأنكروا أن يكون معنى ذلك:"وهو العلي المكان". وقالوا: غير
جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك
وصفه بأنه في مكان دون مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن
أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما
وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.
* * *
وكذلك اختلفوا في معنى قوله:"العظيم".
فقال بعضهم: معنى"العظيم" في هذا الموضع: المعظم، صرف"المفعل"
إلى"فعيل"، كما قيل للخمر المعتقة،"خمر عتيق"، كما قال الشاعر:
(3) .
وكأن الخمر العتيق من الإس ... فنط ممزوجة بماء زلال (4)
وإنما هي"معتقة". قالوا: فقوله"العظيم" معناه: المعظم الذي
يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإنما يحتمل قول
القائل:"هو عظيم"، أحد معنين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم،
والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول
بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن، صحة القول بما
قلنا.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في ذكره" أهل البحث" فيما سلف قريبا: 387،
التعليق: 2.
(2) في المخطوطة: "النظر"، بغير ياء. و"النظر" (بكسر فسكون) ،
مثل"النظير"، مثل: "ند ونديد". وجائز أن يكون"النظر" (بضمتين)
جمع"نظير"، وهم يكسر"فعيلا" الصفة، على"فعل"، بضمتين تشبيها
له"بفعيل" الاسم، كما قالوا في"جديد، جدد"، و"نذير، نذر". أما
النظائر جمع نظير، فهو شاذ عن بابه.
(3) هو الأعشى.
(4) ديوانه: 5، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا: 390،
تعليق: 3. والزلال: الماء الصافى العذب البارد السائغ في
الحلق.
(5/406)
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
وقال آخرون: بل تأويل قوله:"العظيم" هو أن
له عظمة هي له صفة.
وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة
الإثبات، (1) .
وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من
العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما
قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك
أنه"معظم"، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق،
وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه
الأحوال.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: إنه"العظيم" وصف منه نفسه بالعظم.
وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم
- كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام
أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم
يختارون الدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
5812 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،
__________
(1) الإثبات: إثبات الصفات لله سبحانه كما وصف نفسه، بلا
تأويل، خلافا للمعتزلة وغيرهم وانظر ما سلف 1: 189، تعليق: 1.
(5/407)
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد
أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار،
فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي".
5813 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون
مقلى ولا يعيش لها ولد = قال شعبة. وإنما هو مقلات = فتجعل
عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان
فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه
الآية:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". قال: من شاء
أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب (1) .
5814 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال:
حدثنا داود= وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود= عن
عامر، قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها
ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم،
فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما
جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء
الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت:"لا إكراه في الدين"، فكان
__________
(1) الأثران: 5812، 5813 -في ابن كثير 2: 15، والدر المنثور 1:
329 قال ابن كثير: "رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به،
ومن وجوه أخرى عن شعبة به نحوه. ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان
في صحيحه من حديث شعبة به". والسنن الكبرى للبيهقى 9: 186،
وسنن أبي داود -3: 78 -79 رقم: 2682. وكان في المطبوعة
والمخطوطة في رقم 5813، "حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد"، وهو
خطأ صوابه"شعبة". وقوله: "قال: من شاء أن يقيم أقام" وهو من
كلام سعيد بن جبير، كما في السنن للبيهقى. والحديث مرفوع هناك
إلى ابن عباس وهو الصواب ولكني تركت ما في الطبري على حاله.
وامرأة مقلت (بضم الميم) ومقلات (بكسر الميم) ، هى المرأة التي
لايعيش لها ولد. ويأتى أيضًا "مقلات"، أنها المرأة التي ليس
لها إلا ولد واحد. ولكن الأول هو المراد في هذا الأثر.
(5/408)
فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام،
فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام= ولفظ
الحديث لحميد.
5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان،
قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه= إلا أنه قال: فكان فصل
ما بينهم، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير،
فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم.
5816 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا
داود، عن عامر بنحوه= إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن
اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر (1) .
5817 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن
محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين
الرشد من الغي"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن
عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا
مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما
قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك (2) .
5818 - حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا
أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"لا
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: نزلت هذه في
الأنصار، قال: قلت خاصة! قال: خاصة! قال: كانت المرأة في
الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود،
__________
(1) الآثار 5814 -5816- هى ألفاظ مختلفة لحديث واحد، وانظر 1:
329، وقال": أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر"، ثم انظر الأثرين
رقم: 5823، 5824 فيما يأتي بعد.
(2) الأثر: 5817 -انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في تحقيق اسم
الصحابي في"حصين الأنصاري" غير منسوب، ثم في باب الكنى"أبو
الحصين الأنصاري السالمي"، وفيهما تحقيق جيد.
وانظر تفسير ابن 2: 15، والدر المنثور 1: 329. وانظر الأثر
التالي رقم: 5819.
(5/409)
تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام
وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا
وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد خير
أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم" قال:
فأجلوهم معهم (1) .
5819 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي" إلى:"لا انفصام لها" قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال
له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة
يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي
الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم.
فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (2) إن
ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:"لا إكراه في الدين" (3) .
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول
من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم
حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء: 65] ثم إنه نسخ:"لا
إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في" سورة براءة" (4) .
__________
(1) الأثر: 5818 -في السنن الكبرى للبيهقى 9: 186 من طريق سعيد
بن منصور عن أبي عوانة، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 329
وزاد نسبته إلى"سعيد بن منصور، وعبدبن حميد، وابن المنذر"
وفيها زيادة: "كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت نزورا مقلاتا
تنذر لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود" وسائر الخبر سواء. وكتب
في البيهقي والدر المنثور"مقلاة" بالتاء المربوطة وهو خطأ،
و"امرأة نزرة" (بفتح وكسر" وامرأة نزور" قليلة الولد. وفي
الدر"نزورة" وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "إلى رسول الله صلى عليه وسلم"، والصواب من
المخطوطة والدر المنثور.
(3) في المطبوعة: إتمام الآية"قد تبين الرشد من الغى"، وليس في
المخطوطة ولا الدر المنثور.
(4) الأثر: 5819 -في الدر المنثور 1: 329، وزاد نسبته إلى أبي
داود في ناسخه، وابن المنذر، وأشار إليه ابن كثير في تفسيره 2:
15. هذا ولم يذكر أبو جعفر هذا الأثر في تفسير آية"سورة
النساء"، ولم يجعلها قولا غير الأقوال التي ذكرها. وهو دليل
على اختصاره هذا التفسير، كما رووا عنه.
(5/410)
5820 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا
إكراه في الدين" قال: كانت في اليهود بني النضير، (1) أرضعوا
رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم،
قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم
أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.
5821 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان= وحدثنا أحمد
بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد = جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن
مجاهد:"لا إكراه في الدين"، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين
في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت:"لا
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5822 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج،
عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا،= ثم
ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= قال ابن جريج،
وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء
الأوس، (2) دانوا بدين النضير.
5823 - حدثني المثنى، قال: لنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من
الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما
جاء الإسلام قالت الأنصار:
__________
(1) في المطبوعة: "كانت في اليهود يهود أرضعوا ... "، وفي
المخطوطة كانت اليهود يهودا أرضعوا" وهما خطأ. وفي الدر
المنثور 1: 329: " كانت النضير أرضعت". واستظهرت أن تكون
العبارة أثبتها، سقط من الناسخ"بني النضير" -أو يكون صوابها
كما سيأتى في الأثر رقم: 5822: "كانت النضير يهودا ... ".
(2) في المخطوطة: "قد دانوا بدينهم أبناء الأوس"، وأخشى أن
يكون ما في المطبوعة أصح.
(5/411)
يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في
يهود على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن
اليهودية أفضل الأديان؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام، (1) .
أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي".
5824 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
داود، عن الشعبي مثله = وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار
اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج
مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام (2) .
5825 - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:"لا إكراه في الدين" إلى قوله:"العروة الوثقى" قال: قال
منسوخ.
5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الأنصار
كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن
يلحقوهم بدينهم، فنزلت:"لا إكراه في الدين".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا
بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص
من الكفار، ولم ينس منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
5827 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن
__________
(1) في المطبوعة: "فلما أن جاء الإسلام"، وفي المخطوطة: "فلما
إذ جاء"، وصواب ذلك ما أثبت.
(2) الأثران: 5823، 5824 -انظر الآثار السالفة: 5814 -5816.
(5/412)
قتادة:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي"، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة
أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا
يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم
يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم (1) .
5828 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو
هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: هو
هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل
أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا.
5829 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا
عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا إكراه في
الدين"، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة
العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا"لا إله إلا الله"، أو
السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال:"لا
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5830 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: كانت
العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره
اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية.
5831 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول
لغلام له نصراني: يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم.
5832 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال:
__________
(1) في المخطوطة: " فخلى عنهم"، وهما سواء.
(5/413)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا إكراه
في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: وذلك لما دخل الناس في
الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال.
* ذكر من قال ذلك:
5833 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن
قول الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى
المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه
الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره:"لا إكراه
في الدين"، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه
المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها
منسوخا (1) .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد
دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام)
: من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم
يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي،
وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل (2) .
وإذ كان ذلك كذلك = وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد
ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن
تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى
الله عليه وسلم أنه
__________
(1) في المخطوطة: "منسوخ"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) انظر ما قاله فيما سلف في شرط النسخ 3: 358، 563.
(5/414)
أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم
إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان
من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن
أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه
وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم = (1)
كان بينا بذلك أن معنى قوله:"لا إكراه في الدين"، إنما هو لا
إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية،
ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن
بالمحاربة.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي
عنه: من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم
على الإسلام؟
قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من
الأمر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت
فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره
- إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد
الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام،
وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم،
ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها،
وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"لا إكراه في الدين". لا يكره أحد في
دين الإسلام عليه، (2) وإنما أدخلت"الألف واللام" في"الدين"،
تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: (3) "لا إكراه فيه"، وأنه
هو الإسلام.
__________
(1) سياق الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك ... كان بينا". وما بين
الخطين، عطوف متتابعة فاصلة بينهما.
(2) "عليه"، أي على الإسلام.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "تصريفا للدّين"، وهو تحريف،
والصواب الواضح ما أثبت.
(5/415)
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من"الهاء"
المنوية في"الدين"، (1) فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي
العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا
القول أشبه بتأويل الآية عندي.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قد تبين الرشد"، فإنه مصدر من قول
القائل:"رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا"، وذلك إذا أصاب
الحق والصواب (2) .
* * *
وأما"الغي"، فإنه مصدر من قول القائل:"قد غوى فلان فهو يغوى
غيا وغواية"، وبعض العرب يقول:"غوى فلان يغوى"، والذي عليه
قراءة القرأة: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [سورة
النجم: 2] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق
وتجاوزه، فضل.
* * *
فتأويل الكلام إذا: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق
والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من
أهل الكتابين= ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه=، (3) .
[أحدا] على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد
استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطاغوت".
فقال بعضهم: هو الشيطان.
__________
(1) قوله: "عقيبا" أي بدلا وخلفا منه. أصله من العقيب: وهو كل
شيء أعقب شيئا.
وعقيبك: هو الذي يعاقبك في العمل، يعمل مرة، وتعمل أنت مرة.
(2) انظر ما سلف في معنى"رشد" 3: 484، 485.
(3) أي، فلا تكرهوا من أهل الكتاب ... أحدا على دينكم ...
والزيادة مما يقتضيه السياق.
(5/416)
* ذكر من قال ذلك:
5834 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر بن
الخطاب: الطاغوت: الشيطان (1) .
5835 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن
شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله.
5836 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا
عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان.
5837 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن
الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان.
5838 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن يكفر بالطاغوت" قال:
الشيطان.
5839 - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة: الطاغوت: الشيطان.
5840 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي في قوله:"فمن كفر بالطاغوت" بالشيطان.
* * *
وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر.
* ذكر من قال ذلك:
5841 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى قال:
حدثنا داود،
__________
(1) الأثر: 5834 -"حسان بن فائد العبسي". روى عنه أبو إسحق
السبيعي. قال أبو حاتم"شيخ"، وقال البخاري يعد في الكوفيين.
وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير
2/ 1/ 28، وابن أبي حاتم 1/2 /223. وكان في المطبوعة:
"العنسي"، والصواب من المخطوطة. وهذا الأثر ساقه ابن كثير
بتمامه في تفسيره 2: 16 -17
(5/417)
عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر.
* * *
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا أذكر الخلاف بعد (1)
.
* * *
5842 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال:
حدثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر (2) .
* * *
وقال آخرون: بل"الطاغوت" هو الكاهن.
* ذكر من قال ذلك:
5843 - حدثني ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن (3)
.
5844 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا
داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن (4) .
5845 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين،
يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن
عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا
يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي
كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان.
* * *
__________
(1) في لأثر الآتي رقم: 5844.
(2) الأثر: 5842 -حماد بن مسعدة، سلف ترجمته في رقم: 3056.
وكان في المطبوعة"حميد بن مسعدة"، وهو هنا خطأ، صوابه من
المخطوطة. أما"حميد بن مسعدة، فهو شيخ الطبري، سلف ترجمته في
الأثر رقم: 196.
(3) الأثر: 5843 -كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد بن
جعفر، قال حدثنا سعيد"، والصواب"شعبة"، وانظر مثل ذلك في هذا
الإسناد نفسه مما سلف رقم: 5813، والتعليق عليه.
(4) الأثر 5844 -رفيع، هو أبو العالية الرياحي، وقد مضت ترجمته
مرارا فيما سلف.
(5/418)
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي
في"الطاغوت"، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما
بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك
المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من
شيء.
* * *
وأرى أن أصل"الطاغوت"،"الطغووت" من قول القائل:"طغا فلان
يطغوا"، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، ك"الجبروت"" من التجبر"،
و"الخلبوت" من"الخلب"، (1) . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي
على تقدير"فعلوت" بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني
لام"الطغووت" فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما
قيل:"جذب وجبذ"، و"جاذب وجابذ"، و"صاعقة وصاقعه"، وما أشبه ذلك
من الأسماء التي على هذا المثال.
* * *
فتأويل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله،
فيكفر به="ويؤمن بالله"، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه
ومعبوده (2) ="فقد استمسك بالعروة الوثقى"، يقول: فقد تمسك
بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه،
كما:-
5846 - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقية
بن الوليد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي
الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر،
لا يفقهون ما يريد.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"الحلبوت من الحلب" بالحاء المملة،
والصواب ما أثبت. يقال: "رجل خلبوت وامرأة خلبوت"، وهو المخادع
الكذوب، وجاء في الشعر، وما أصدق ما قال هذا العربى، وما أبصره
بطباع الناس، وما أصدقه على زماننا هذا:
ملكتم فلما أن ملكتم خلبتم ... وشرالملوك الغادر الخلبوت.
(2) اطلب معنى"الإيمان" فيما سلف في فهارس اللغة.
(5/419)
فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن
يقول:"آمنت بالله وكفرت بالطاغوت". قال أبو الدرداء: وما علمكم
بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه
إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم! إن
الله يقول:"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة
الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم" (1) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5846-"أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي"، أبو العباس،
روي عن بقية بن الوليد، وعثمان بن سعيد الحمصي، روى عنه
النسائي. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب وابن أبي
حاتم 1/1 / 53. و"حميد بن عقبة"، هو: حميد بن عقبة بن رومان بن
زرارة القرشي و"يقال، الفلسطيني. سمع ابن عمر، وأبا الدرداء.
وروى عنه أبو بكر بن مريم والوليد بن سليمان بن أبي السائب.
قال أحمد: "حدثنا أبو الغيرة: سألت أبا بكر فقلت: حميد بن عقبة
أراه كبيرا، وأنت تحدث عنه عن أبي الدرداء؟ قال: حدثني أن كل
شيء حدثني عن أبي الدرداء، سمعه من أبي الدرداء"، مترجم في
الكبير 1/ 2/ 347، وابن أبي حاتم 1/ 2 /226، وتعجيل المنفعة:
106.
يقال: "فلان في السوق، وفي السياق" أي في النزع عند الموت، كأن
روحه تساق لتخرج من بدنه. و"هو يسوق نفسه ويسوق بنفسه": أي
يعالج سكرة الموت ونزعه. ويقال: "غرغر فلان يغرغر" جاد بنفسه
عند الموت، و"الغرغرة" تردد الروح في الحلق، وأكثر ذلك أن يكون
معها صوت، كغرغرة الماء في الحلق. وقوله: "حتى انكسر لسانه":
أي عجز عن النطق. وكل من عجز عن شيء، فقد انكسر عنه. وهو هنا
عبارة جيدة تصور ما يكون في لسان الميت. * * *
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه
نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوه القول في تأويل قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا"
ثم يبدا الجزء بعده:
"بسم الله الرحمن الرحيم،
رب يسر".
(5/420)
القول في تأويل قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}
قال أبو جعفر:"والعروة"، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي
اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة
الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق
من أراده بعروته.
وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن
بالله، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله:"الوثقى"
* * *
و"الوثقى"،"فعلى" من"الوثاقة". يقال في الذكر:"هو الأوثق"، وفي
الأنثى:"هي الوثقى"، كما يقال:"فلان الأفضل، وفلانة الفضلى".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5847 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بالعروة الوثقى"، قال:
الإيمان.
5848 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5849 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال:"العروة الوثقى"، هو الإسلام.
5850 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن
سعيد بن جبير قوله:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، قال: لا إله
إلا الله (1) .
__________
(1) الأثر: 5850، 5851-"أبو السوداء"، هو: "عمرو بن عمران
النهدي"، روي عن المسيب بن عبدخير، وأبي مجلز، وعبد الرحمن بن
باسط والضحاك بن مزاحم، وروى عنه حفص ابن عبد الرحمن بن سوقة
والسفيانان. ثقه، مترجم في التهذيب.
(5/421)
5851 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد
الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن
جبير مثله.
5852 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، الضحاك:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا انفصام لها"، لا
انكسار لها."والهاء والألف"، في قوله:"لها" عائد على"العروة".
* * *
ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من
طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند
حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء
التي لا يخشى انكسار عراها (1) .
* * *
وأصل"الفصم" الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
ومبسمها عن شتيت النبات ... غير أكس ولا منفصم (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "كالتمسك بالوثيق". والصواب الذي
يقتضيه السياق ما أثبت.
(2) ديوانه: 2 من قصيدة من جيد شعر الأعشى، وقبله أبيات من
تمام معناه: أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم
أم الرشد أحجى فإن امرءا ... سينفعه علمه إن علم
كما راشد تجدن امرءا ... تبين، ثم انتهى إذ قدم
عصى المشفقين إلى غيه ... وكل نصيح له يتهم
وما كان ذلك إلا الصبا ... وإلا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زم
ومبسمها.............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
فبانت وفي الصدر صدع لها ... كصدع الزجاجة ما يلتئم
وقوله: "ومبسهما" منصوب عطفا ما قبله، وهو مصدر ميمى، أي
ابتسامها. والشتيت: المتفرق المفلج، يعنى: عن ثغرها شتيت
النبات، غير متراكب نبتة الأسنان. والأكس، من الكسس (بفتحتين)
: وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل، فتكون الثنيتان
العلييان وراء السفليين من داخل الفم. وهو عيب في الخلفية.
ورواية الديوان: "منقصم" وهي أجود معنى. يقال: ينصدع الشيء دون
أن يبين. وأما"القصم" فهو أن ينكسر كسرا فيه بينونة. ولكن
الطبري استشهد به على"الفصم" بالفاء. وكلاهما عيب.
وكان البيت مصحفا في المطبوعة: " ... عن سنب النبات غير كسر"،
والصواب في المخطوطة، ولكنه غير منقوط فأساؤوا قراءته.
(5/422)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا انفصام لها"، قال: لا يغير
الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
5854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5855 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:"لا انفصام لها"، قال: لا انقطاع لها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله سميع"، إيمان المؤمن
بالله وحده، الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله،
وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد
(5/423)
من دون الله="عليم" بما عزم عليه من توحيد
الله وإخلاص ربوبيته قلبه، (1) وما انطوى عليه من البراءة من
الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل
أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي
كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيرا
فخيرا، وإن شرا فشرا.
* * *
__________
(1) السياق: "بما عزم عليه ... قلبه"، مرفوعا فاعل"عزم".
(5/424)
اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
القول في تأويل قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الله ولي الذين آمنوا"،
نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه= (1) "يخرجهم من
الظلمات" يعني بذلك: (2) .
يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب"الظلمات"
في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل"الظلمات" للكفر مثلا لأن
الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر
حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة
أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم
حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته
المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن]
أبصار القلوب. (3) .
__________
(1) انظر تفسيره"الولى" فيما سلف 2: 488، 489 / ثم: 563، 564.
(2) انظر القول في"الظلمات" فيما سلف 1: 338.
(3) الزيادة بين القوسين، لا غنى عنها، وليست في المطبوعة ولا
المخطوطة.
(5/424)
ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به،
فقال:"والذين كفروا"، يعني الجاحدين وحدانيته="أولياؤهم"، يعني
نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم="الطاغوت"، يعني الأنداد
والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله="يخرجونهم من النور إلى
الظلمات"، يعني ب"النور" الإيمان، على نحو ما بينا="إلى
الظلمات"، ويعني ب"الظلمات" ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون
أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
5856 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور"، يقول: من الضلالة إلى الهدى="والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت"، الشيطان: ="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول:
من الهدى إلى الضلالة.
5857 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات
إلى النور"، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان="والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يخرجونهم من
الإيمان إلى الكفر. (1) .
5858 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، في قوله تعالى ذكره:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور"، يقول: من الكفر إلى الإيمان="والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من
الإيمان إلى الكفر.
__________
(1) في المخطوطة: "من الظلمات إلى الكفر"، وهو خطأ بين جدا.
(5/425)
5859- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن
منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول
الله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى
الظلمات"، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث
الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر
به الذين آمنوا بعيسى= أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم= (1) "والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت"، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم=
قال:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات". (2) .
5860 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال:
حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة
بن أبي لبابة قال في هذه الآية:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم
من الظلمات إلى النور"، إلى"أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون"، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما
جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، وأنزلت فيهم هذه
الآية. (3) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي
لبابة
__________
(1) في المطبوعة: "أي: يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد ...
"، وهو لايستقيم، وفي المخطوطة: "فلما بعث الله محمدا آمن به
الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان
بمحمد ... " سقط من الناسخ لعجلته: "أي يخرج الذين كفروا
بعيسى"، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام، ومن الأثر
بالتالي، على خطئه فيه، ومن الدر المنثور 1: 230، وانظر
التعليق على الأثر التالي.
(2) الأثر: 5859، -"عبدة بن أبي لبابة الأسدي" روي عن ابن عمر
وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة.
مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا
الموضع"عبد الله بن أبي لبابة""، وهو خطأ، وسيأتي فيهما على
الصواب في الأثر التالي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فلما جاءهم محمد صلى الله عليه
آمنوا به". والصواب ما أثبت، أخطأ في نسخه وعجل. وانظر الدر
المنثور 1: 230، ففيه الصواب، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري
فيما سيأتي أيضًا.
(5/426)
يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها -إذ
كان الأمر كما وصفنا- نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله
عليه وسلم، وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من عبدة
الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي
كان أهلها يكذِّب بعيسى.
* * *
فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى
الله عليه وسلم فكذَّبوا به؟
قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم
فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء:
136] .
* * *
فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله:"والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات"، أن يكون معنيا به غير
الذين ذكر مجاهد وعبدة: (1) أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى،
أو غير أهل الردة والإسلام؟ (2) .
قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون
تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني
صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه
قبل، كقول الرجل:" أخرجني والدي من ميراثه"، إذا ملك ذلك في
حياته غيره، فحرمه منه حظَّه= (3) ولم يملك ذلك القائل هذا
__________
(1) في المطبوعة: "مجاهد وغيره". وهي في المخطوطة: "عنده" غير
منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة، كما في الآثار السالفة،
وما بعدها.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "الردة والإسلام" وهو هنا عطف لا
يستقيم، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام.
(3) في المطبوعة: "فحرمه منه خطيئة"، وهو كلام خلو من المعنى.
وفي المخطوطة: "فحرمه منه حطه" غير منقوطة، وكلها فاسدة. أن
المعنى: إذا ملك الميراث غير أبيه، فحرمه حظه من ميراث أبيه.
والحظ: النصيب.
(5/427)
الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه،
وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل:"أخرجه منه"،
وكقول القائل:"أخبرني فلان من كتيبته"، يعني لم يجعلني من
أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله:"يخرجونهم من
النور إلى الظلمات"، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان
إلى الكفر على هذا المعنى، (1) وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره
أشبه بتأويل الآية. (2) .
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"والذين كفروا أولياءهم الطاغوت
يخرجونهم من النور"، فجمع خبر"الطاغوت" بقوله:"يخرجونهم"،
و"الطاغوت" واحد؟
قيل: إن"الطاغوت" اسم لجماع وواحد، وقد يجمع"طواغيت". وإذا جعل
واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم:"رجل عدل، وقوم عدل"
و"رجل فطر وقوم فطر"، (3) وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي
موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، (4) وكما قال العباس بن مرداس:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ
مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يحتمل" بالياء في أوله، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة معا: "مجاهد وغيره"، وهو خطأ، وانظر
التعليق السالف: ص: 427 تعليق: 1.
(3) أي رجل مفطر، وقوم مفطرون.
(4) في المطبوعة: "التي تأتي موحدة في اللفظ ... "، وفي
المخطوطة: "التي يأتي موحد في اللفظ"والصواب ما أثبت.
(5) سيرة ابن هشام 4: 95 واللسان (أخو) ومجاز القرآن 1: 79، من
قصيدة له طويلة في يوم حنين، وفي هزيمة هوازن: ويذكر قارب بن
الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت، وبعد
البيت: كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم -
عور
وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة، إخوة سليم بن منصور، وهم
قوم العباس بن مرداس السلمي. وهذا البيت يجعلونه شاهدا على
جمع"أخ" بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري: وكان بنو
فزارة شر عم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا
فقوله: "أخوكم"، أي: إخوتكم. فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له
بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر: "أنتم
الوالد ونحن الولد". والإحن جمع إحنة: وهي الحقد الغالب.
(5/428)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين
كفروا="أصحاب النار"، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني
في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا
نهاية أبدا. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه" ألم تر، يا محمد، بقلبك (2) .
="الذي حاج إبراهيم"، يعني الذي خاصم (3)
__________
(1) انظر تفسير"أصحاب النار""وخالدون" فيما سلف 2: 286،
287/ 4: 317.
(2) انظر تفسير"الرؤية"فيما سلف 3: 75 -79 /3: 160 / وهذا
الجزء: 266، 291.
(3) انظر معنى"حاج" فيما سلف 3: 121 -200.
(5/429)
"إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله صلى
الله عليه وسلم =" في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك:
حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك.
* * *
وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه
وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت"إلى" في
قوله:"ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت
التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا:"ما ترى
إلى هذا"؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! (1) .
* * *
وقيل: إن" الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال
له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح = وقيل: إنه
نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
* ذكر من قال ذلك:
5861 - حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن
كنعان.
5862 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5863 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن
ليث، عن مجاهد، مثله.
5864 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي،
عن مجاهد، مثله. (2) .
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 170.
(2) الأثر: 5864 -"النضر بن عربي الباهلي" مضت ترجمته في:
1307، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن عدي"، وهو خطأ.
(5/430)
5865 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في
ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، (1) وهو أول
ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
5866 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك
تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه.
5867 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن
الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول
جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
5868 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان.
5869 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن
زيد: هو نمروذ.
5870 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
مثله.
5871 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله.
5872 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا
يقول: هو نمرود= قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول
ملك في الأرض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "كنا نتحدث"، وما أثبت هو
الصواب.
(5/431)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (258)
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى
الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم:"ربي الذي
يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت،
يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل
ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون
ذلك مني إحياء له= وذلك عند العرب يسمى"إحياء"، كما قال
تعالى ذكره: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة: 32] = وأقتل آخر، فيكون
ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن
الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت
صادقا أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره:"فبهت الذي
كفر"، يعني انقطع وبطلت حجته.
* * *
يقال منه:"بهت يبهت بهتا". وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول
بهذا المعنى:"بهت". ويقال:"بهت الرجل"= إذا افتريت عليه
كذبا="بهتا وبهتانا وبهاتة". (1) .
* * *
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ:" فبهت الذي كفر"، بمعنى:
فبهت إبراهيم الذي كفر.
* * *
__________
(1) "بهاتة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة، وهو صحيح في
القياس.
(5/432)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال
أنا أحيي وأميت"، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما
واستحي الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت،
وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك:"فإن الله يأتي بالشمس
من المغرب فأت بها من المغرب"،"فبهت الذي كفر والله لا
يهدي القوم الظالمين".
5874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"أنا أحيي وأميت"،
أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال:
ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران،
فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر
ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم.
5875 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض
نمروذ، (1) . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام،
فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من
ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي
يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله
يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر.
قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله، (2) .
فمر على كثيب أعفر، (3) فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به
__________
(1) في التاريخ: "نمرود" بالدال المهملة، وفي المخطوطة
كذلك، إلا أنها لا تعجم المعجم.
وكلاهما جائز، بالدال المهملة والذال المعجمة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "على أهله"، والجيد ما في
تاريخ الطبري، وهو ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "على كثيب من رمل أعفر" بهذه الزيادة،
وليست في المخطوطة ولا في التاريخ والأعفر: الرمل الأحمر،
أو تخالطه الحمرة.
(5/433)
أهلي، (1) فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم!
فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته
إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد (2) ،
فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم
طعام، (3) فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به!
فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار
ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه
الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى
عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع
الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض،
فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم
فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك
كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت
في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم
الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة
عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. (4) وهو
الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد،
وهو الذي قال الله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ) (5) [النحل: 26] .
5876 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه"، قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس
يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت!
__________
(1) في التاريخ: "هلاّ" (بفتح الهاء وتشديد اللام) وهما
سواء، "ألاّ" أيضًا مشددة اللام.
(2) في المطبوعة: "فإذا هى بأجود طعام رأته"، والذي أثبت
نص المخطوطة والتاريخ، فليت شعرى لم غيره المغيرون في
الطبع! ! .
(3) الأثر: 5875 -في المطبوعة: "وكان عهده بأهله أنه ليس
عندهم طعام"، وأثبت ما في المخطوطة. والتاريخ، وعجب لهؤلاء
المبدلين، استدلوا الركيك الموضوع، بالجزء المرفوع! !
والأثر في التاريخ الطبري 1: 148.
(4) في المطبوعة: "ثم أماته الله"، وأثبت ما في المخطوطة
والتاريخ.
(5) في المخطوطة: "فأتي الله بنيانه من القواعد"، ثم أراد
أن يصححها، فكررها كما هى، ولم يضرب على الأولى.
(5/434)
فيقول: أميروهم. (1) فلما دخل إبراهيم،
ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم، فيقول:
من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! (2) حتى عرض
إبراهيم مرتين، فقال: من ربك!؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت!
قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت
استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق
فأت بها من المغرب!! " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم
الظالمين". قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج
القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، (3) حتى
إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزني صبيتي إسماعيل
وإسحاق! (4) لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء،
فذهبت بهما، قرت عينا صبيي، حتى إذا كان الليل أهرقته!
قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما
الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما
يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، (5) لو قمت فصنعت له
طعاما إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها،
وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى
الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند
أحد قط، (6) فأخذت منه فعجنته وخبزته، (7) فلما أتت توقظ
إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا
سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير
قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من
أين ذاك.
5877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم:
ربي الذي يحيي ويميت قال هو -يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت
فدعا برجلين، فاستحي أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي
وأميت،= قال: أي أستحيي من شئت= فقال إبراهيم: فإن الله
يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"فبهت الذي كفر
والله لا يهدي القوم الظالمين".
5878 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك،
ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال:
ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! أنا أدخل
أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من
الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا.
فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك،
قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت
بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون!
فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها،
وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه = أعني نمروذ =
وهو قول الله تعالى ذكره: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام:
83] ، فكان يزعم أنه رب= وأمر بإبراهيم فأخرج.
5879 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا
يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت=
قال ابن جريج، كان أتى
__________
(1) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما
صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام
المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(2) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما
صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام
المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(3) الجُوالق (يضم الجيم، وكسر اللام أو فتحها) ، وجمعه
جوالق وجوالقات، وهو وعاء من الأوعية، نسميه ونحرفه
اليوم"شوال". واصطفق الشيء: اضطرب، يعنى من فراغهما.
(4) في المطبوعة: "ليحزنني"، والصواب ما في المخطوطة.
(5) لغب: قد أعيى أشد الإعياء. من اللغوب. وأكثر ما
يقولون: لاغب، أما"لغب"، فهو قليل في كلامهم، وهو هنا
اتباع.
(6) الحواري (بضم الخاء وتشديد الواو، والراء مفتوحة) :
وهو لباب الدقيق الأبيض وأخلصه وأجوده. والنقى: وهو البر
إذا جرى فيه الدقيق.
(7) في المطبوعة: "فطحنته وعجنته"، وفي المخطوطة"فعجنته
وعجنته". واستظهرت أن تكون كما أثبتها.
(5/435)
برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال:
أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي= قال:
استحيي= فلا أقتل.
5880 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد
بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم: أن نمروذ قال لإبراهيم
فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته،
(1) وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال
له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي
وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين
قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته،
وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم
عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من
المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع
إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره:"فبهت
الذي كفر"، يعني وقعت عليه الحجة= يعني نمروذ.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"والله لا يهدي القوم الظالمين"،
يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل
الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.
* * *
وقد بينا أن معنى"الظلم" وضع الشيء في غير موضعه، (2)
والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله
ظالم لنفسه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
__________
(1) في المطبوعة: "الذي تعبده وتدعو إلى عبادته"، وفي
المخطوطة"الذي تعبدونه وتدعو ... " صواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 / 2: 369،
519، ثم أخيرا ما سلف قريبا: 384.
(5/437)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ
كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى
طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
5881 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة،
قال: حدثني محمد بن إسحاق:"والله لا يهدي القوم الظالمين"،
أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من
الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى
قَرْيَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو كالذي مر على
قرية"، نظير الذي عنى بقوله:"ألم تر الذي حاج إبراهيم في
ربه"، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
* * *
وقوله:"أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله:"ألم تر إلى
الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله:"أو كالذي" على
قوله:"إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما،
لتشابه معنييهما. لأن قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم
في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في
ربه؟ = ثم عطف عليه بقوله:"أو كالذي مر على قرية" لأن من
شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن
خالف لفظه لفظه.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن"الكاف" في قوله،"أو كالذي مر
على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج
إبراهيم، أو الذي مر على قرية.
* * *
وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله
شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 439 -441 / 2: 331، 400.
(5/438)
واختلف أهل التأويل في" الذي مر على قرية
وهي خاوية على عروشها".
فقال بعضهم: هو عزير.
* ذكر من قال ذلك:
5882 - حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال:
حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب."أو كالذي مر
على قرية خاوية على عروشها" قال: عزير. (1) .
5883 - حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال:
حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله:"أو
كالذي مر على قرية" قال: هو عزير.
5884 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" قال،
ذكر لنا أنه عزير.
5885 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتاده [مثله] . (2) .
5886 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه
قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: قال الربيع: ذكر لنا
والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.
5887 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج
عن ابن حريج، عن عكرمة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه
على عروشها" قال: عزير.
__________
(1) الأثر: 5882 -"ناجية بن كعب الأسدي" روي عن علي، وعمار
بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود. روى عنه أبو إسحق السبيعي،
وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحق. مترجم في التهذيب،
والكبير 4/ 2/ 107، وابن أبي حاتم 4/ 1/486.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(5/439)
5888 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال:
حدثنا أسباط عن السدي:"أو كالذي مر على قرية" قال: عزير.
5889 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي
مر على قرية وهي خاويه على عروشها" إنه هو عزير.
5890 - حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس
يقول: هو عزير. (1) .
* * *
وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، (2) وزعم محمد بن إسحاق
أن أورميا هو الخضر.
5891 - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا
ابن إسحاق، قال: اسم الخضر= فيما كان وهب بن منبه يزعم عن
بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن
عمران. (3) .
* ذكر من قال ذلك:
5892 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في
قوله:"أنى يحيي هذه الله
__________
(1) الأثر: 5890 -"يونس"، هو يونس بن عبد الأعلى سلفت
ترجمته مرارا. و"سلم الخواص" هو: سلم بن ميمون الخواص
الرازى الزاهد، من كبار الصوفية. دفن كتبه، وكان يحدث من
حفظه فيغلط. قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام،
غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج
به. مترجم في لسان الميزان، وفي الجرح 2/1/ 267. وكان في
المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(2) هو في كتاب القوم (إرميا) . وكان في المطبوعة مثله،
ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي،
وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب. انظر"سفر أرميا" في
كتابهم.
(3) هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه 1: 194، وما
قبلها.
(5/440)
بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس
وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال:"أنى يحيي هذه الله
بعد موتها". (1) .
5893 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن
إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا.
5894 - حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد
الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه،
مثله.
5895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى
بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في
قول الله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها"،
قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا.
5896 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا
شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله.
5897 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر
بن [مضر] ، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن
الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ
رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"،
مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه
بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها!
ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على
اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك
__________
(1) الأثر: 5892 -هو بعض الأثر السالف رقم: 5661.
(2) الأثر: 5897 -في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين
القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة. وقد مضت
ترجمة"بكر بن مضر المصري" في رقم: 2031، وانظر هذا الإسناد
فيما سيأتي رقم: 5929 - 5949.
(5/441)
عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا
إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم
قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على
إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي
بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر
العرب= (1) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل،
بإطلاعه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم
في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء
التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه،
من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم
وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون،
(2) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين
كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا صلى الله عليه وسلم
لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك
الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا
يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله،
فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في"القرية" التي مر عليها القائل:"أنى
يحيي هذه الله بعد موتها".
فقال بعضهم: هي بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك،
قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد
بن معقل أنه سمع وهب بن
__________
(1) السياق: " تعريف المنكرين ... من قريش ... ". وسياق ما
بين الخطين: وإنما المقصود بها تعريف المنكرين ... وتثبيت
الحجة ... ".
(2) يعنى بالأمي: الذي لا كتاب له، وانظر تفسير"الأمي"
فيما سلف 2: 257 -259.
(5/442)
منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس
كالجبل العظيم، قال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
5899 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي
بيت المقدس.
5900 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن
إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
5901 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما
خربه بخت نصر البابلي.
5902 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي
مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض
المقدسة.
5903 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"أو كالذي مر على قرية"
قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت
نصر. (1) .
5904 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية بيت المقدس،
مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
* * *
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين
خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "بختنصر"، كلمة واحدة، وكذلك في التاريخ
وغيره، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت
كلمتين مفصولتين، فأثبتها كما هى، فهى صواب أيضًا.
(5/443)
5905 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ
أُلُوفٌ) ، قال: قرية كان نزل بها الطاعون= ثم اقتص قصتهم
التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ= (فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ مُوتُوا) ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه
الحياة، (1) فماتوا ثم أحياهم الله، (إ ن الله لذو فضل على
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) [سورة البقرة: 243] .
قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال:"أنَّى
يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه"
إلى قوله"لم يتسنه". (2) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم
القائل:"أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها" سواءً لا يختلفان.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهي خاويه" وهي
خالية من أهلها وسكانها.
* * *
يقال من ذلك:"خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا"، وقد يقال
للقرية:"خَوِيَت"، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا
كانت نُفَساء فإنه يقال:"خَوِيَت تَخْوَى خَوًى" منقوصًا،
وقد يقال فيها:"خَوَت تخوِي، كما يقال في
__________
(1) في الأثر السالف: 5608 -"ذهبوا إليه" بزيادة"إليه".
(2) الأثر: 5905 - هو بعض الأثر: 5608.
(5/444)
الدار. وكذلك:"خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى
شديدًا"، (1) ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار
ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت.
* * *
وأما"العُرُوش"، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"،
وجمع قليله"أعرُش". (2) .
وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش
عرشًا"، (3) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَمَا كَانُوا
يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف: 137] يعني يبنون، ومنه
قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها (4) .
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
5906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"خاوية"، خراب= قال ابن
جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد
خرَّبه بخت نصَّر، (5) فوقف
__________
(1) في المطبوعة: "خواء شديدًا"، والصواب من المخطوطة، هذا
على أنه يقال في ذلك أيضًا، "خواء" ممدودًا، ولكن القصر
أعلى.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "أعرش"، والذي نص
عليه أصحاب اللغة"أعراش"، وكلاهما جمع قلة، ولم
يذكروا"أعرش" فيما رأيت، ولكنها قياس الباب، فإن"فعل"
(بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة"أفعل" (بضم
العين) مثل فلس وأفلس، إلا أن يكون أجوف، واويًا أو
بائيًا، فإن الغالب في قلته"أفعال" مثل ثوب وأثواب، وبيت
وأبيات. فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس
اللغة، وأن جمعه على"أعراش" مما شذ عن بابه.
(3) في المطبوعة: "عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا"، وهو
لا يستقيم، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده،
وإذ لم يحسن قراءته، وفي المخطوطة: "عرش فلان إذا يعرش
ويعرش عرشًا" ولكنه كتب أولا"تعرشا" غير منقوطة ثم عاد
فوضع العين"ع" في رأس الكلمة"يعر"فلما رأي المصحح في
النص"إذا" حذفها، وتصرف في سائره، ولم يحسن التصرف! .
(4) في اللسان: "العروش بيوت مكة" وفي حديث ابن عمر: " أنه
كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة". قال ابن الأثير:
"بيوت مكة، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها" وقالوا:
وهي بيوت أهل الحاجة منهم.
(5) انظر التعليق السالف ص: 443 رقم: 1.
(5/445)
فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ
والمال ما كان!! فحزن. (1) .
5907 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"وهي خاوية
على عروشها" قال: هي خراب.
5908 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.
5909 - حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:"وهي خاويه على عروشها" يقول: ساقطة على سُقُفِها.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ}
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا: (2) .
أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس = أو بالموضع الذي ذكر
الله أنه مرّ به = خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى
يحيي هذه الله بعد خرابها؟ (3) .
فقال بعضهم: (4) . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة
الله على إحيائه.
__________
(1) في المطبوعة: "من المقدس"، وهو خطأ صرف، والقدس: الطهر
والتنزيه والبركة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى ذلك فيما ذكرت أن ...
"، وهو لا يستقيم، وصواب السياق ما أثبت.
(3) في المطبوعة: ذكر نص الآية"بعد موتها"، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو الصواب، ليكون تفسرا لقواه: "بعد موتها"،
كما يدل عليه السياق. وانظر تفسير"الموت" بمعنى: خراب
الأرض، ودثور عمارتها، فيما سلف 3: 274.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعضهم"، كأنه متصل بما
قبله، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب، ولاحتاج
الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي، ولكنه لم يفعل.
فالصواب الذي يقتضيه السياق، فيما سبق بعد تصحيحه، وفيما
يستقبل، يوجب ما أثبت.
(5/446)
فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له
في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته
وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه.
(1) .
* * *
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله
وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم
القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت
منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد
للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله
بعد خرابها فيعمُرها، (2) . استنكارًا فيما -قاله بعض أهل
التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه،
وفيما كان في إدواته وفي طعامه، (3) . ثم عرّفه قدرته على
ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في
قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره (4) ، فلما
رأى ذلك قال: (أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير) .
* * *
وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: -
5910 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال
الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى
__________
(1) قوله: "أحيى ما رآه ... "و"أعمر ما كان ... "،
هو"أفعل" التفضيل من"الحياة" و"العمارة"، وليسا فعلين، أي
أحسن حياة، وأكثر عمرانا.
(2) انظر تفسير"أني" فيما سلف 4: 413 -416 /وهذا الجزء 5:
312.
(3) في المطبوعة: "وفيما كان من شرابه وطعامه"، لم يحسن
قراءة المخطوطة لتصحيفها. وفي المخطوطة: "وفيما كان من إدا
وبه وطعامه"، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت. والإداوة
(بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء،
وجمعها"أداوى" بفتح الواو، وزدت"في" بين" وطعامه" لضرورتها
في السياق.
(4) في المطبوعة: "بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي
عينه"، وفي المخطوطة: "بإظهاره إحيائه ما كان.." وسائره
مثله. والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: بإظهاره على إحيائه
ذلك رأي عينه"، بحذف اللام من "لرأي"، ونصب "رأي" يقول:
أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين.
(5/447)
بني إسرائيل: (1) ."يا أرميا، من قبل أنْ
أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك،
(2) . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ
السعي نبَّيتُك، (3) . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك،
(4) . ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى
ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما
بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا
المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم،
وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: (5)
. أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به،
وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل
الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = (6) . قال: ثم
أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ
أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ
ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال:
ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، (7) .
ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء
إلا لما هو شر علي! (8) . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر
الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة
والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول،
(9) . ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم
يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به،
(10) . فقال الله: وعزتي العزيزة، (11) . لا أهلك بيت
المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك!
ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا
والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني
إسرائيل أبدًا! (12) . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره
بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا
ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا
فبقدرته.
= ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا
معصية، وتمادوا في الشر، (13) . وذلك حين اقترب هلاكهم،
فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، (14) . وأمسك
عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني
إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من
الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، (15) .
فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن
__________
(1) انظر ما سلف في ص 440، وكتابتها هناك "أورميا"، وهي
هنا كما أثبتها. وستأتي بعد أسطر على ما سلف.
(2) في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء.
(3) في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله
نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة.
(4) في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد
الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده
صالحا للتعيين.
(5) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق
السالف رقم: 1.
(6) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر،
وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج 1:
287.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من
التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي
في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد
القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما
سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
.
(8) في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها.
(9) "الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي
هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: 5891.
(10) في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط
منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ.
(11) في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة
والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت.
(12) " لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو
مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة،
وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب
أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس
بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في
النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص:
450، وتعليق: ك 4.
(13) في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود.
(14) في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة
والتاريخ، وهو العربي الصحيح.
(15) في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة
لهم بكم".
(5/448)
تاب إليه! (1) . فأبوا عليه أن ينزعوا عن
شيء مما هم عليه، (2) . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن
نبوذراذان [بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر
= ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، الذي حاجّه في
ربّه] = (3) . أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان
جده سنحاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد
أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل
الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك
إلى أرميا، فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ
ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك
الأمرُ في ذلك؟ (4) .
(5) . فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به
واثق.
= فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على
هلاكهم، بعث الله مَلَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى
أرميا فاستفته = وأمره بالذي يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا، وقد تمثَّل له رجلا من بني
إسرائيل، (6) . فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني
إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال المَلَك: يا
نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي، وصلتُ أرحامهم
بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حَسَنًا، ولم آلُهم
كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني
فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله،
__________
(1) في المطبوعة: "رحيم من تاب عليه"، والصواب من المخطوطة
والتاريخ.
(2) "نزع عن الشيء ينزع نزوعا": كف وانتهى.
(3) في المطبوعة"بختنصر بن نعون بن زادان، والصواب من
المخطوطة والتاريخ. وهذا الزيادة بين القوسين، لم تكن في
المخطوطة، ولكنى زدتها من التاريخ، لحاجة الكلام إليها بعد
في ذكر سنحاريب، وأنه جد بخت نصر. وقوله: "بن نبوذراذان"
هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار) ، وأما"نبوذراذان"،
فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية"بنو خذ ناصر"، وهو"بخت
نصر". وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه
1: 283 مع بعض الاختلاف.
(4) الأمر: الدعاء والسؤال. وانظر التعليق السالف ص: 449،
تعليق: 4.
(5) في المطبوعة"وقد تمثل" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة
والتاريخ، وهو جيد جدا.
(6) في المطبوعة: "رجل ... " بحذف"أنا" وأثبت ما في
المخطوطة والتاريخ.
(5/450)
وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير.
فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك
الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟
قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! (1) . فقال له نبي
الله، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد، (2) . ولم تر منهم الذي
تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً
يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم
وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم،
أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم،
(3) . وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك
من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت
المقدس أكثر من الجراد، (4) . ففزع بنو إسرائيل فزعًا
شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا، فقال:
يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.
= ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت
المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه،
فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن
أهلي مرتين، (5) . فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا
من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان
يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم
في ذلك سخطي، (6) . فلما
__________
(1) في التاريخ وحده: "أتيتك أستفتيك في شأن أهلي".
(2) يقال: "رجل طاهر الأخلاق"، أي يتنزه عن دنس الأخلاق،
ويكف عن الإثم.
(3) في التاريخ: "واسأل الله"، بالواو في أوله، وكأنه أمر
للرجل. وأن يكون دعاء من النبي له، أقرب وأحسن.
(4) في المطبوعة: "بجنوده"، وفي المخطوطة"جنوده" بغير واو،
وأثبت ما في التاريخ، وفيه أيضًا: "بأكثر من الجراد".
(5) في التاريخ: "أتيتك في شأن أهلي ... ".
(6) في المطبوعة: "أنما قصدهم في ذلك سخطي"، وفي التاريخ:
"أن مآ لهم في ذلك سخطي" وفي المخطوطة: "أنما نهم في ذلك
سخطي"، والأول تبديل للنص، والآخران تصحيف، صوابه ما أثبت.
يقال: "ما بك إلا مساءتى"، أي ما تريد إلا مساءتى. فكذلك
قوله: "أن ما بهم في ذلك سخطي"، أن الذي يريدون في فعلهم
ذلك، سخطي واستثارة غضبى.
(5/451)
أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله،
ولا يحبه الله، فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا
نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله، فلو كانوا
على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي،
(1) . وصبرتُ لهم ورَجوتهم، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك، (2)
. فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله -الذي هو بعثك
بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. (3) . فقال
أرميا: يا مالك السماوات والأرض، (4) . إن كانوا على حق
وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم!
فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من
السماء في بيت المقدس، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة
أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه،
ونَبَذ الرَّماد على رأسه، فقال يا ملك السماء، ويا أرحم
الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم
يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا،
فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات، وأنه
رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. = ودخل بخت نصر
وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى
أفناهم، وخرَّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل
منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه
التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل
معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت
المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل،
فاختار منهم سبعين ألف صبي; (5) . فلما خرجت غنائم جنده،
وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه:
أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان
الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم
أربعةُ غلمة، وكان من أولئك الغلمان:"دانيال"، و"عزاريا"،
و"ميشايل"، و"حنانيا". (6) . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق:
فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سَبَى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية
بيت المقدس حتى أقدمها بابل. (7) . وبالصبيان السبعين
الألف حتى أقدمهم بابل، (8) . فكانت هذه الوقعةَ الأولى
التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم.
(9) .
= فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا
بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في
زُكْرَة وسَلَّة تين، (10) . حتى أتى إيليا، فلما وقف
عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أنّى يحيي
هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه
وسلة تينه عنده حيث أماته
__________
(1) في المطبوعة وحدها: "ولو كانوا ... " بالواو لا
بالفاء.
(2) في المطبوعة وحدها: "ولكن غضبت ... ".
(3) في المطبوعة وحدها: "الذي بعثك" بحذف"هو".
(4) في المطبوعة وحدها: "يا مالك السموات ... ".
(5) في المطبوعة: "تسعين ألف صبى"، وفي المخطوطة: "سبعين
صبى" بإسقاط"ألف"، أما في التاريخ: "فاختار منهم مئة ألف
صبى"، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي: "وذهب بالصبيان
السبعين الألف"، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ،
صوابه"فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى".
(6) "عزريا"، "ميشائيل"، "حننيا" هكذا رسم أسمائهم في"سفر
دانيال" الإصحاح الأول. وكان في المطبوعة: "مسايل" وأثبت
ما في المخطوطة والتاريخ. وفي التاريخ بعد هذا الموضع
تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل.
(7) في المطبوعة وحدها: "بأسبية بيت المقدس"، وهو خطأ لا
معنى له هنا.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "التسعين الألف". وهو يخالف ما
مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق: 1، وأثبت
ما في التاريخ.
(9) في المطبوعة وحدها: "الواقعة الأولى التي ذكر الله ...
"، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة" ... تعالى ذكره نبي
الله بإحداثهم ... "، والصواب من التاريخ.
(10) الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه
الشراب. وفي التاريخ"ركوة"، والصواب ما في التفسير،
فإن"الركوة" (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه
الماء، هو كالكوب لا كالزق.
(5/452)
الله، وأمات حماره معه. (1) . فأعمى الله
عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: كم
لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: بل لبثتَ مائة عام
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، يقول: لم يتغير
="وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف
ننشزها ثم نكسوها لحمًا" فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى
بعض - (2) . وقد كان مات معه - (3) . بالعروق والعصب، ثم
كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى، (4) . ثم جرى فيه
الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على
هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين
قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
. ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرَى بفلوات
الأرض والبلدان.
5911 - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا حدثنا
إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه
سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر:
أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ، فركب
حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين،
وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت
المقدس وما
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومات حماره معه"، وأثبت ما في
التاريخ.
(2) في المطبوعة وحدها: " يتصل بعضه إلى بعض"وأثبت ما في
المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم: 5933، وفي التاريخ"يتصل"
كالمطبوعة. وأما قوله: "ياتصل" وأصلها"يفتعل" من"وصل" فأصل
الفعل"ارتصل، يوتصل، فهو موتصل"، فلغة أهل الحجاز وقريش
خاصة: أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها، وغيرها يدغم
فيقول"ايتصل، ياتصل، فهو موتصل" ومن"وفق" يقول: "ايتفق
ياتفق، فهو موتفق" وما أشبهه ذلك، وقد جرى الشافعي في
الرسالة على استعمال ذلك. انظر الفقرات رقم 95، 569، 574،
662، 1275، 1333، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم
95. وفي الحديث: "كان اسم نبله عليه السلام: الموتصلة"،
سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو.
وانظر التعليق على الأثر رقم: 5933 فيما سيأتي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد مات معه" بحذف"كان" وأثبت
ما في التاريخ، وما سيأتي رقم: 5933.
(4) في المطبوعة: "ثم كيف كسى ... "، وسيأتي في رقم: 5933،
كما أثبته، وهو الصواب.
(5/454)
حوله من القُرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا
يوصف، (1) . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم، قال:
(2) . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ
منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه، وألقى
الله عليه السُّبات; فلما نام نزع الله روحه مائة عام;
فلما مرّت من المائة سبعون عامًا، أرسل الله مَلَكًا إلى
مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له:يوسك"، (3) . فقال: إن
الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا
وأرضها، حتى تعود أعمَر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثه
أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل،
فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان، ودفع إلى
كل قَهْرَمَان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، (4) .
فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; (5) . فلما
وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا، وآخِرُ
جسده ميت، (6) . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى
والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد، (7) .
حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه، رد إليه
الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره
واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى
الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، (8) . وقد أتى على
ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام، لم
تتغير ولم تنتقض شيئًا، (9) . وقد نحل جسم أرميا من البلى،
فأنبت الله له لحمًا جديدًا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له
الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك
ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم
نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء
قدير) . (10) .
5912- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في
قوله: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) : أن أرميا لما
خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب، وقف في ناحية الجبل،
فقال: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة
عام) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة
من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت
المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل
ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، (11) . ثم نظر
إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال:
(أعلم أن الله على كل شيء قدير) فقال الله تعالى ذكره:
(انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) قال: فكان طعامه تينًا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"ونظر إلى خراب" والصواب حذف هذه
الواو، وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة: "ورأى هدم ... "، وفي المخطوطة: "وسياق
المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة، وحذف الواو من"ونظر"
كما سلف في التعليق قبله.
(3) لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر.
(4) القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، كالخازن والوكيل
الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل.
(5) في المطبوعة: "قهرمته"، والقهارمة جمع قهرمان.
(6) في المطبوعة: "وآخر جسده ميتا"، والصواب ما في
المخطوطة في هذا الموضع، وفيما سيأتي في المخطوطة
والمطبوعة رقم: 5938 وقوله: "آخر" هنا بمعنى: الباقى بعد
رده الروح رأسه. وهو مجاز عربي لا يعاب. وانظر التعليق على
رقم: 5938 فيما سيأتي بعد.
(7) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "والحروث"، وأخشى أن يكون
الصواب: "والحراث" جمع حارث، وهو الذي يحرث الأرض.
(8) الرمة (بضم الراء، أو كسرها، وتشديد الميم) : قطعة من
حبل يقيد به الأسير، أو يوضع في عنق البعير، وأصحاب اللغة
يقولون: هي القطعة البالية. ولكنه هنا استعملها بغير هذه
الصفة، بل وصفها بأنها رمة جديدة، وهو جيد لا بأس به.
(9) في المخطوطة والمطبوعة: "لم تنتقص" بالصاد المهملة،
وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
انتض الحبل وغيره، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت.
وقوله: "شيئا"، أي قليلا ولا كثيرا، وهو تعبير جيد في
العربية.
(10) الأثر: 5911 -"محمد بن عسكر"، هو: محمد بن سهل بن
عسكر البخاري، مضت ترجمته في رقم: 5598. و"ابن زنجويه"
رجلان: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، روى عنه
الأربعة وعبد الله بن أحمد وآخرون. مات سنه 258. وهو ثقة
كثير الخطأ،
والآخر: حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى، روى عنه أبو داود،
والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهم. كان حسن الفقه،
وكتب ورحل، وكان رأسا في العلم، قال أبو عبيد القاسم بن
سلام: "ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن
شبويه". اختلف في وفاته بين سنة 247، إلى سنة 251.
وأطن هذا هو شيخ الطبري، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن
شاء الله.
(11) التأم الشيء يلتئم، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) :
إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع.
(5/455)
في مِكتل، وقلّة فيها ماء. (1) .
5913 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) وذلك
أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ
وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده
وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ =ليس تكذيبًا منه
وشكًّا= فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما
مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال:
لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر
إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير = (لم
يتسنَّه) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ثم بعثه) ، ثم
أثاره حيًّا من بعد مماته.
* * *
وقد دللنا على معنى"البعث"، فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وأما معنى قوله (كم لبثت) فإن"كم" استفهام في كلام العرب
عن مبلغ العدد، (3) . وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"،
وتأويله: قال الله له:
__________
(1) الأثر: 5912 -قد مضى مبتورا في رقم 5661، وانظر
التعليق عليه هناك. و"المكتل" (بكسر الميم) : الزبيل الذي
يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما.
(2) انظر ما سلف 2: 84، 85.
(3) انظر ما سلف في معنى"كم" في هذا الجزء 5: 352.
(5/457)
كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن
أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا
إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
* * *
وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ، أو من كان ممن أخبر
الله عنه هذا الخبر.
* * *
وإنما قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) لأن الله تعالى ذكره
كان قبض رُوحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد
المائة عام فقيل له: (كم لبثت) ؟ قال: لبثت يومًا; وهو يرى
أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض
روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو
يرى أن الشمس قد غربت، فقال: (لبثت يومًا) ، ثم رأى بقية
من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: (أو بعض يوم) ، بمعنى: بل
بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ، بمعنى:
بل يزيدون. (1) . فكان قوله: (أو بعض يوم) رجوعًا منه عن
قوله: (لبثت يومًا) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5914 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض
يوم) ، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بعثه قبل غيبوبة
الشمس، فقال: (لبثت يومًا) . ثم التفت فرأى بقية من الشمس،
فقال: (أو بعض يوم) . فقال: (بل لبثت مائة عام) .
5915 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر،
__________
(1) انظر ما سلف في"أو" بمعنى"بل" 2: 235 -237.
(5/458)
عن قتادة: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها)
قال: مر على قرية فتعجّب، فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد
موتها) فأماته الله أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه
في آخر النهار، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض
يوم) ، قال: (بل لبثت مائة عام) .
5916 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه،
قال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) . قال: (بل
لبثت مائة عام) .
5917 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج،
قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت
نصر، قال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ! كيف يعيدها
كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى، وبعث
قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: (كم لبثت) ؟ قال:
(يومًا) . فلما رأى الشمس، قال: (أو بعض يوم) .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فانطر إلى طعامك
وشرابك لم يتسنَّه) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.
* * *
وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة
ماء.
وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا
من عصير. (1) .
وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دَنَّ خمر -أو
زُكْرَةَ خمر. (2) .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " زق" بالرفع، والنصب أجود.
(2) الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب
أو خل.
(5/459)
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، (1)
. ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
* * *
وأما قوله: (لم يتسنَّه) ففيه وجهان من القراءة:
أحدهما:"لَمْ يَتَسَنَّ" بحذف"الهاء" في الوصل، وإثباتها
في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في"يتسنَّه"
زائدة صلة، (2) . كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)
[الأنعام: 90] وجعل"تفعّلت" منه: (3) ."تسنَّيتُ
تسنِّيًا"، واعتل في ذلك بأن"السنة" تجمع سنوات،
فيكون"تفعلت" على صحة. (4) .
ومن قال في"السنة""سنينة" فجائز على ذلك = وإن كان قليلا =
أن يكون"تسنَّيت" (5) ."تفعَّلت"، بدّلت النون ياء لما
كثرت النونات كما قالوا:"تظنَّيت" وأصله"الظن"; وقد قال
قوم: هو مأخوذ من قوله: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:
26، 28، 33] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو
أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. (6) .
وهو قراءة عامة قراء الكوفة.
* * *
__________
(1) يعنى الآثار التي سلفت في خبر"الذي مر على القرية".
(2) "صلة" أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء، انظر ما سلف 1:
190، 405، تعليق: 4/ 406 تعليق: 2ثم: 548.
(3) في المطبوعة: "فعلت" وهو خطأ، وأما المخطوطة، فقد كتب
الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن
يقرأها على وجهها، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر"تفعلت"، هذه،
مما يدل على صواب قراءتنا.
(4) في المطبوعة: "على نهجه" والصواب في المخطوطة: "على
صحه"، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما
شاء! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان"على صحة" فلذلك
أثبتها منهما.
(5) في المطبوعة: "تسننت" بالنونات، والصواب ما أثبت من
المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
(6) هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 172، 173
واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ00
(5/460)
والآخر منهما: إثبات"الهاء" في الوصل
والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل"الهاء" في"يتسنَّه" لامَ
الفعل، ويجعلها مجزومة ب"لم"، ويجعل"فعلت" منه:"تسنَّهت"،
و"يفعل":"أتسنَّه تسنُّها"، (1) وقال في
تصغير"السنة":"سُنيهة" و"سنيَّة"،"أسنيتُ عند القوم"
و"أسنهتُ عندهم"، إذا أقمت سنة. (2) .
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك
إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف
المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
* * *
ومعنى قوله: (لم يتسنَّه) ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر،
على لغة من قال:"أسنهت عندكم أسْنِه": إذا أقام سنة، وكما
قال الشاعر: (3) .
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ ... وَلكِنْ
عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ (4)
__________
(1) أراد هنا بقوله"فعل"و"يفعل" الماضي والمضارع، وهو غير
قوله"تفعلت" السالفة التي صححناها كما جاء في ص: 460،
التعليق رقم: 3.
(2) في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير، كان فيها: "وقال في
تصغير السنة سنيهه، ومنه: أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم"،
وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب، وإن كانت الشبهة قد
دخلت عليه من ذكر"سنية" و"أسنيت"، ولكن جائز أن يكون قائل
هذا القول ممن يرى جواز كليهما، فلذلك أثبته كما كان في
المخطوطة، ولا يبدل إلا بحجة، وسيأتي كلام الطبري بعد
قليل: "أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين".
(3) سويد بن الصامت الأنصاري، ويقال: أحيحة بن الجلاح.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 173. والأمالى 1: 21، وسمط
اللآلى: 361، وتهذيب الألفاظ: 520، واللسان (عرا) (قرح)
(سنه) (خور) (رجب) ، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها
في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه
فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر: وَأَصْبَحْتُ قد
أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي ... جَنَيْتُ لَهُمْ
بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ ... وِلكِنْ
عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها ... طُلِينَ
بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكنْ
عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا ... لِمَوْلًى
قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة
الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع
قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها.
والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة،
لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح:
الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما،
ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله: "رجبية" (بضم
الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد)
وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد
النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها،
فيبني تحتها دكان ترجب به -أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى
الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي
يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح:
السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال.
يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي،
ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه
نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم.
(5/461)
فجعل"الهاء" في"السنة" أصلا وهي اللغة
الفصحى.
* * *
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله = في حال وقف أو وصل =
لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد
على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ، وذلك
كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90] وقوله:
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [الحاقة: 25] فإن
ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على
نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ
زائد، فغير جائز = وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ = صرفُه إلى
أنه من الزوائد والصلات. (1) .
__________
(1) انظر معنى"الصلة" فيما سلف قريبا ص: 460 تعليق: 2.
(5/462)
على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه
من الزوائد، (1) . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق
به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وَصْلها إياه
وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ
جميع ذلك بإثبات"الهاء" في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن
كان كذلك، فلقوله: (لم يتسنّه) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان
هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. (2) .
* * *
ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن"الهاء" في"يتسنه" من لغة
من قال:"قد أسنهت"، و"المسانهة"، ما:-
5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي،
عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى
عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد:
سله عن قوله:"لم يتسنّ"، أو"لم يتسنَّه"، فقال عثمان:
اجعلوا فيها"هاء".
5919 - حدثت عن القاسم = وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن
القاسم، وحدثنا أحمد والعطار = جميعًا، عن القاسم، قال:
حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: حدثني أبو وائل شيخ
من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم
يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب
فيها:"لَمْ يَتَسَنَّ" و"فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين"
[الطارق: 17] و"لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ" [الروم: 30] .
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان زائدا"، والصواب ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه"
بالتذكير، وهو صواب جدا، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة.
(5/463)
قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب
(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ومحا"فأمْهِلْ" وكتب
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) وكتب: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ألحق
فيها الهاء. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من"يتسنى" أو"يتسنن" لما ألحق
فيه أبيّ"هاء" لا موضع لها فيه، (2) ولا أمرَ عثمان
بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ
بن كعب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لم
يتسنَّه) .
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.
* ذكر من قال ذلك:
5920 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن المفضل، عن
محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: (لم يتسنَّه)
لم يتغير.
5921 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (لم يتسنَّه) لم يتغير.
5922 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
5923 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط،
__________
(1) الأثر: 5918 -"هانئ" هو هانئ البربري، مولي عثمان بن
عفان مترجم في الكبير 4/ 2/ 229، وابن أبي حاتم 4/ 2/ 100،
وسليمان بن"، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن
المبارك. مترجم في الكبير 2/ 2/ 30، وابن أبي حاتم 2/ 1/
133. أما"أبو الجراح" فلم أعرفه، وانظر الأثر التالي، فإني
أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط، فإن ابن المبارك هو الذي
يروي عن"سليمان بن عمير". وانظر الدر المنثور 1: 323.
(2) في المخطوطة: "لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه" هذا
فاسد، والذي في المطبوعة مستقيم.
(5/464)
عن السدي: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم
يتسنه) يقول:"فانظر إلى طعامك" من التين والعنب ="وشرابك"
من العصير ="لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمُض التين
والعنب، ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه
مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين،
فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. (1) .
5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال:
أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:
(فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول: لم يتغير، وقد
أتى عليه مائة عام.
5925 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو
زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
5926 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لم يتسنه) لم يتغير.
5927 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة:
(لم يتسنه) لم يتغير.
5928 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن
زيد: (لم يتسنه) لم يتغير في مائة سنة.
5929 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر
بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين
خرّبها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله
إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة،
فنظر إليها فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته
الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه،
وإذا طعامه سَلُّ عنب
__________
(1) الأثر: 5923 -هو تمام الأثر السالف رقم: 5913.
(5/465)
وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله = (1) .
قال يونس: قال لنا سلم الخواص: (2) . كان طعامه وشرابه سل
عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
* ذكر من قال ذلك:
5930 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (لم يتسنه) لم ينتن.
5931 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5932 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال، قال مجاهد قوله: (إلى طعامك) قال: سَلُّ
تين = (وشرابك) ، دنُّ خمر = (لم يتسنه) ، يقول: لم ينتن.
* * *
قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك
بقولهما، (3) . رأوا أن قوله: (لم يتسنه) من قول الله
تعالى ذكره: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26، 28، 33]
بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل:"تسنَّن". وقد
بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. (4) .
فإن ظن ظانّ أنه من"الأسَن" من قول القائل:"أسِنَ هذا
الماء يأسَنُ أسَنًا،
__________
(1) الرباط: ما ربط به، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه،
وهو المربط. و"السل والسلة"، سواء: وهو الجؤنة التي يحمل
فيها الخبز وغيره. ويقال"سل" جمع"سلة"، وهو من الجموع
العزيزة، لأنه مصنوع غير مخلوق، لا يكون الفارق بينه وبين
واحده التاء، مثل عنب وعنبه، وبر وبرة.
(2) في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من
المخطوطة، وهو سلم بن ميمون الخواص، مضت ترجمته في رقم:
5890.
(3) لم يذكر الطبري خبرا عن"الربيع" قبل، فأخشى أن يكون
سقط من الناسخ خبره، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه
الآية فيما سلف بإسناده رقم: 5916.
(4) انظر ما سلف، ص: 460.
(5/466)
كما قال الله تعالى ذكره: (فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد: 15] ، فإنّ ذلك
لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم
يتأسَّن، ولم يكن"يتسنه".
* * *
[فإن قيل] : (1) . فإنه منه، غير أنه ترك همزه.
قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه،
لأن"النون" غير مشددة، وهي في"يتسنَّه" مشددة، ولو نطق
من"يتأسن" بترك الهمزة لقيل:"يَتَسَّنْ" بتخفيف نونه
بغير"هاء" تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن
يكون من "الأسَن".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وانظر
إلى حمارك) .
فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك، وإلى
عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.
ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.
فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه
خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره = تعريفًا منه تعالى
ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها،
فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = مستنكرًا إحياء
الله إياها.
* ذكر من قال ذلك:
5933 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
عمن لا يتهم،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(5/467)
عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: (كم
لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم) إلى قوله: (ثم نكسوها
لحمًا) قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض = (1) .
وقد كان مات معه = بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم
حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره
وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من
قدرة الله ما عاين، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
(2) .
5934 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت
يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك
وشرابك لم يتسنَّه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه،
وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.
فبعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت
به الطير والسباع، فاجتمعت، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر،
فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا
العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح.
ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق
الحمار، فقال: (أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ) .
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا
القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها
ثم نكسوها لحمًا، ولنجعلك آية للناس = فيكون في قوله:
(وانظر إلى حمارك) ، متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره
عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: (وانظر إلى
العظام) بدلا من"الهاء" المرادة في المعنى، لأن معناه:
وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يتصل بعض إلى بعض"، وقد مضى في رقم
5910، أن المخطوطة هناك"ياتصل"، وعلقت عليها في ص: 454،
تعليق: 2 وقد جاءت هنا في المخطوطة"ياتصل" أيضًا، فهذا حجة
قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين.
فراجع ما كتب هناك.
(2) الأثر: 5933 -هو آخر الأثر السالف رقم: 5910.
(5/468)
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره
ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. (1) . قالوا: وهي
أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه
خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره.
* ذكر من قال ذلك:
5935 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال:
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا
من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله
حين يحييه الله، (2) . وإلى حماره حين يحييه الله.
5936 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5937 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه
فأنشزها، ثم وَصَل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم
العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بَلي
وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي:"يا عظام
اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا"، فسعى كل عظم إلى
صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم
الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعًا، فأحياه الله كبيرًا
قد تشنَّن، (3) . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن.
وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن
مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين
نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في عينه" بالإفراد، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فنظر"، وفي المخطوطة: "فنظر" غير منقوطة
والصواب كما قرأتها لك.
(3) الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره.
وتشنن الجلد والسقاء: إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم.
(5/469)
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه
وبصره، وجسدُه ميتٌ، (1) . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم
ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله
له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
* ذكر من قال ذلك:
5938 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن
منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده
ميت، (2) . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى
حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى
الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. (3) .
5940 - حدثت عن الحسين، قال: (4) . سمعت أبا معاذ، قال:
حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:
(فأماته الله مائة عام ثم بعثه) ، فنظر إلى حماره قائمًا
قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة
عام، (وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا) فكان
أول شيء أحيا الله منه رأسَه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه
يُخلق.
5941 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو
زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (فأماته الله مائة عام
ثم بعثه) فنظر إلى حماره قائمًا، وإلى طعامه وشرابه لم
يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وجسده ميتا"، وهو خطأ، ويدل
على صواب ما أثبت، الآثار التالية.
(2) يعنى بقوله: "وآخر جسده ميت"، أي سائره وباقيه، وقد
جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة،
وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم: 5911، محرفة، فهذا دليل
آخر على صواب قراءتنا للنص.
(3) الأثر: 5938 -انظر الأثر السالف رقم: 5911، والتعليق
عليه.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن"، وهو خطأ، بل
هو"الحسين بن الفرج"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه
رقم: 5924.
(5/470)
إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما
تبيَّن له، قال: (أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير) .
5942 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا
سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه
رأسَه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر،
فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض، وبِعَيْن نبيّ الله
عليه السلام كان ذلك، فقال: (أعلم أن الله على كل شيء
قدير) .
5943 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى
حمارك) وكان حماره عنده كما هو = (ولنجعلك آيه للناس) ،
وانظر إلى العظام كيف ننشزها) . قال الربيع: ذكر لنا والله
أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر! فجعل ينظر
إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: (1)
. (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
4644 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن
زيد قال قوله: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر
إلى حمارك) واقفًا عليك منذ مائة سنة = (ولنجعلك آية للناس
وانظر إلى العظام) يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين
سألتنا:"كيف نحيي هذه"؟ (2) . قال: فجعل الله الروح في
بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله
فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال:
فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه،
حتى اتصلت وهو يراها، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى
الموضع الذي انكسرت منه، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقيل: أعلم ... "، وهو سبق
قلم من الناسخ.
(2) في المطبوعة: "كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها"، وليس
ذلك في المخطوطة، بل الذي أثبت، وهما سواء.
(5/471)
وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب
والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم
قال: (انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا) فلما
تبين له ذلك، (قال أعلم أن الله على شيء قدير) . قال: ثم
أمر فنادى تلك العظام التي قال: (أنَّى يُحيي هذه الله بعد
موتها) كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياهُ.
5945 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر
بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة
عام، ثم بعثه، (1) فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال:
وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين
سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال:
فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: (أوْ
كالذي مرّ على قرية وهي خاوية ... ) ، الآية. (2) .
* * *
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك
آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم
نكسوها لحمًا، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى
وأهلها بعد مماتها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أرميا"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد سلف
مثل ذلك مرارا، حتى في الأثر الواحد، انظر ما سلف -ص: 448
تعليق: 1.
(2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي
نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوهُ: ومعنى الآية على تأويل هؤلاء:
وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس. * * *
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يبدأ بعده بما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم".
(5/472)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية
بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: (أنَّى
يحيي هذه الله بعد موتها) من مماته، ثم أراه نظير ما
استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها
عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من
إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية
التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة
في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل
القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله: (وانظر إلى
العظام) إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك
كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا.
وقد كان حماره أدركه من البلى = في قول أهل التأويل جميعًا
= نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف
معنى قوله: (وانظر إلى العظام) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى
عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه
أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان
ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان
الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه
طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع
ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (ولنجعلك آيه للناس)
أمتناك مائة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت"الواو" مع اللام التي في قوله: (ولنجعلك آيه
للناس) وهو
(5/473)
بمعنى"كي"، لأن في دخولها في كي وأخواتها
دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا
وكذا فعلنا ذلك. (1) . ولو لم تكن قبل"اللام" أعني"لام"
كي"واو"، كانت"اللام" شرطًا للفعل الذي قبلها، وكان يكون
معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس.
* * *
وإنما عنى بقوله: (ولنجعلك آية) ، ولنجعلك حجة على من جهل
قدرتي، وشكَّ في عظمتي، (2) . وأنا القادر على فعل ما أشاء
من إماتة وإحياء، وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء،
بيدي ذلك كلُّه، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد
مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ.
* ذكر من قال ذلك:
5946 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة
بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: (ولنجعلك آيه
للناس) قال: جاء شابًّا وولده شيوخ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية
لمن قدِم عليه من قومه.
* ذكر من قال ذلك:
5947 - حدثني موسى، قال، حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبُنيت، وهلك
من كان يعرفه،
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 173.
(2) انظر معنى"آية" فيما سلف في هذا الجزء 5: 377،
والتعليق: 2، ومراجعه هناك.
(5/474)
فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟
قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!!
قال: فإن عزيرًا أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا
ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن
يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في
هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده
وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى
من بُعث إليه منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ
كَيْفَ نُنْشِزُهَا}
قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي
أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف
المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك
بما أغنى عن إعادته.
* * *
وأما قوله: (كيف ننشزُها) فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ بعضهم: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا) بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قرأة
الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض، وننقل
ذلك إلى مواضع من الجسم.
* * *
وأصل"النشوز": الارتفاع، (1) . ومنه قيل:"قد نشز الغلام"،
إذا ارتفع
__________
(1) جاء في المطبوعة والمخطوطة "وأصل النشز": الارتفاع"،
وأنا أرى صوابه: "النشوز"، لأنه هو المصدر، ولا مصدر لهذا
الفعل غيره في رواية أهل اللغة، ومحال أن يدع الطبري
المعروف إلى المجهول. والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا،
كثيرة التصحيف والإهمال، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه،
وفساد خط كاتبه وإهماله، كما ترى في التعليق التالي.
(5/475)
طوله وشبَّ، ومنه"نشوز المرأة" على زوجها.
(1) . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشَز ونَشْز
ونشاز"، (2) . فإذا أردت أنك رفعته، قلت:"أنشزته إنشازًا"،
و"نشز هو"، إذا ارتفع.
* * *
فمعنى قوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) في قراءة من
قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها
إلى أماكنها من الجسد. (3) .
* * *
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5948 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال:
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (كيف ننشزها)
كيف نُخرجها.
5949 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي: (كيف ننشزها) قال: نحرِّكها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِرُهَا" بضم النون. قالوا: من قول القائل،"أنشرَ الله
الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل
المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها
لحمًا.
* ذكر من قال ذلك:
5950 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال:
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كيف نُنشِرها"
قال: انظر إليها حين يحييها الله. (4) .
__________
(1) في المخطوطة: "وفيه نشور المرأة على وجهها"، وهذا دليل
على شدة إهماله.
(2) في المخطوطة: "نشر ونشره ونشاره"، وهو خطأ كله،
والصواب ما أثبت.
(3) في المخطوطة: "فبرزها إلى أماكنها"، وهو فاسد. وفي
المطبوعة: " الجسم"، ورددته إلى المخطوطة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "نظر إليها"، والصواب ما أثبت.
(5/476)
5951 - حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة،
قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5952 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة مثله.
5953 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد
في قوله:"وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها" قال: كيف نحييها.
* * *
واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: (ثُمَّ
إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس: 22] ، فرأى أنّ من الصواب
إلحاق قوله:"وانظر إلى العظام كيف ننشرها" به. (1) .
* * *
وقرأ ذلك بعضهم:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نَنْشُرُهَا"، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك
إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. (2) . وذلك قراءة غير
محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:"أنشر
الله الموتى"، فنشروا هم" بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل
على ذلك قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وقوله:
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)
[الأنبياء: 21] ؛ (3) .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي،
الميت وعاش بعد مماته، قيل:"نَشَر"، ومنه قول أعشى بني
ثعلبة: (4) .
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا: ... يَا عَجَبًا
لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (5)
__________
(1) هو ابن عباس، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173.
(2) هو الحسن، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173.
(3) سقت الآية بتمامها، وفي المطبوعة والمخطوطة: "آلهة من
الأرض هم ينشرون".
(4) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط: "ومنه"، وهو غير
مستقيم.
(5) ديوانه: 105، وسيأتي في التفسير 19: 14 / 25: 32 / 30:
36 (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في 1:
474، تعليق: 2 /3: 131. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع:
عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ ... هَيْفَاءَ
مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا ... فِي مُشْرِقٍ
ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ، وَلَمْ
يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ. . . ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا
كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: "نار الشيء فهو نير
ونائر" و"أنار فهو منير".
(5/477)
وروي سماعًا من العرب:"كان به جَرَبٌ
فنَشَر"، إذا عاد وَحَيِيَ. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز"
ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ
والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة
الحياة إلى العظام. (2) . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى
أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن
اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما
الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ
القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، (3) . ولا حجة توجب
لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. (4) .
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 30.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " ... ورد العظام من العظام،
وإعادتها لا شك ... " وهذا كلام لا يستقيم قط، والنسخة في
هذا الموضع محرفة أشد التحريف، والناسخ كثير الإهمال
والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية، فلذلك اجتهدت في
تصحيح هذا، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه.
(3) في المخطوطة: " لا نعماد ومعنها"، والصواب ما في
المطبوعة. وقوله: "لانقياد معنييهما"، أي لاستقامة
معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف، كأن
يقود أحدهما الآخر. وانظر ما مضى 4: 105 تعليق: 1، في
قوله: "قاد قوله" وتفسير قولهم: "هذا لا يستقيم على قود
كلامك".
(4) في المطبوعة: "لإحداهما من القضاء" بزيادة"من"، وفي
المخطوطة"لأحدهما من القضاء" بزيادة وخطأ، والصواب ما
أثبت.
(5/478)
فإن ظنّ ظانٌ أن"الإنشارَ" إذا كان إحياءً،
(1) . فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام
وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: (أنَّى
يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = [فقد أخطأ] . (2) . فإن
إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى
أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، (3) . لإعادة
الروح التي كانت فارقتها عند الممات. (4) . والذي يدل على
ذلك قوله: (ثم نكسوها لحمًا) . ولا شك أن الروح إنما نفخت
في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. (5)
وإذ كان ذلك كذلك، (6) . وكان معنى"الإنشاز" تركيب العظام
وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى"الإنشار" =.
(7) . وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى
لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
* * *
وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي
قراءة من قرأ:"كَيْفَ نَنْشُرُهَا" بفتح النون وبالراء،
لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من
كلام العرب.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "إذا كان حيا" خطأ صرف، وفي المطبوعة:
"إذا كان إحياء"، وهو الصواب، إلا أن حق الكلام في هذا
الموضع"إذ" لا"إذا".
(2) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه السياق. ولا معنى
لالتماس تصحيح هذه الجملة، بتعليق قوله: فإن إحياء العظام
... " جوابا لقوله: "فإن ظن ظان ... ".
(3) يحيى"بالبناء للمجهول، من"الإحياء".
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا إعادة الروح ... "، وهو
خطأ بين، بدل عليه سياق ما بعده. فإنه يعنى أن"إحياء
العظام" مركب من أمرين: رد العظام إلى أماكنها، وإعادة
الروح إليها. وسترى ذلك في حجته بعد.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "العظام التي أنشرت" بالراء،
وهو خطأ، والصواب بالزاى، أى ركبت وردت إلى مواضعها.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا كان ذلك كذلك"،
والصواب"إذ".
(7) قوله: "وكان ذلك معنى الإنشار"، وكان معنى الإنشار
أيضًا، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح
التي كانت فارقتها عند الممات، كما سلف منذ قليل.
(5/479)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (1) . (ثم نكسوها)
أي العظام (لحمًا) ، و"الهاء" التي في قوله: (ثم نكسوها
لحمًا) من ذكر العظام.
* * *
ومعنى"نكسوها": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ
الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل
شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، (2) . ومنه قول
النابغة الجعدي: (3) .
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى
اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا (4)
فجعل الإسلام -إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه-
كُسوةً له وسِربالا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بذلك" مكان"بقوله"، وهو لا
يستقيم.
(2) انظر ما سلف في معنى"لباس" و"كسوة" 3: 489 -492 / ثم
هذا الجزء: 44.
(3) وينسب هذا البيت إلى"لبيد بن ربيعة العامري" وإلى"قردة
بن نفاثة السلولي"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: 228:
"وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ
أسلم.
وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: ... " وذكر
البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة
السلولى، وهو أصح عندي". ثم عاد في ص 536، فذكر قردة بن
نفائة السلولى فقال: "كان شاعرًا، قدم على رسوله الله صلى
الله عليه وسلم في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم
وأسلموا، فأنشأ يقول: بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ
بِهِ بَالاَ ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ
إِقْبَالاَ
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ ... وَقَدْ
أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ
الْحَمْدُ لله. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في
الإسلام غيره". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه 14: 94،
وغيره. وانظر معجم الشعراء: 338، 339، والشعر والشعراء:
232 والمعمرين 66، وديوان لبيد، الزيادات: 56. وغيرها
كثير.
(4) انظر التعليق السالف، وهذا البيت ثابت في قصيدة
النابغة (في ديوانه: 86) ، في هجائه ابن الحيا، والحيا
أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري -وكان هجا الجعدي وسب
أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك
قصيدته التي أولها: إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ
حَسَرَتْ ... عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ
.
(5/480)
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (259) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فلما تبيَّنَ له) ،
فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته
عنده قبل عيانه ذلك = (1) . (قال: أعلم) الآن بعد المعاينة
والإيضاح والبيان = (2) . (أن الله على كل شيء قدير) .
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: (قال أعلم أن الله) .
فقرأه بعضهم:"قَالَ اعْلَمْ" على معنى الأمر بوصل"الألف"
من"اعلم"، وجزم"الميم" منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل
الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ"
على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، (3) . فأمر
بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن
عباس.
5954- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي، قال: حدثنا القاسم بن
سلام، قال: حدثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد
الله:"قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ" على وجه الأمر. (4) .
__________
(1) انظر معنى"بين" فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء
السالفة.
(2) في المطبوعة: "بعد المعاينة والاتضاح به والبيان" وهو
فاسد مريض، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "للذي أحيى" وما في المخطوطة عين الصواب.
(4) الأثر: 5954 -"أحمد بن يوسف التغلبي"، الأحوال، صاحب
أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بذلك. روى عن سليمان بن
حرب، ومسلم بن إبراهيم، ورويم بن زيد، وأبي عبيد القاسم
ابن سلام وغيرهم. روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي،
ومحمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، ومكرم بن أحمد،
وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: "ثفة"، مات سنة 272، وصحبته
لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر
السالف رقم: 5919، وانظر التعليق عليه. وفي المطبوعة
والمخطوطة: "الثعلبي". وهو خطأ.
(5/481)
5955 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه =
أحسبه، شكَّ أبو جعفر الطبري =، سمعت ابن عباس
يقرأ:"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ" قال: إنما
قيل ذلك له.
5956 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له"انظر"!
فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك
بعينيه، فقيل:"اعلم أن الله على كل شيء قدير".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من
أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل
شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله:"قال اعلم" -وقد قرأه
على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ
في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقول
القائل:"اعلم أن قد كان كذا وكذا"، على وجه الأمر منه
لغيره وهو يعني به نفسه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (قَالَ أَعْلَمُ) ، على وجه الخبر عن نفسه
للمتكلم به، بهمز ألف"أعلم" وقطعها، ورفع الميم، بمعنى:
فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما
عاينه، قال المتبيِّن ذلك: (1) .
أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، (2) . وبعض قرأة أهل
العراق. وبذلك من
__________
(1) في المخطوطة: "قال أليس ذلك أعلم الآن ... "، وهو كلام
يرتكس في الفساد ارتكاسًا.
وفي المخطوطة: "المسن" غير منقوطة، وهي الصواب عين الصواب.
(2) سقط من الناسخ"قرأة" في هذا الموضع والذي يليه، وكتبها
في الهامش مرة واحدة، لم يكررها، ولذلك أثبتها الطابع في
موضع واحد، هو الأخير منهما.
(5/482)
التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله
ما عاينَ، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
5958 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: (فلما
تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) .
5959 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، قال: بعين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم = (1) .،
يعني إنشازَ العظام = فقال: (أعلم أن الله على كل شيء
قدير) .
5960 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله
حماره- (أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) .
5961 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو
زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه
يوصلُ بعضه إلى بعض، (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على
كل شيء قدير) .
5962 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن
زيد، نحوه.
* * *
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"اعْلَمْ"
بوصل
__________
(1) في المطبوعة: "يعنى نبي الله عليه السلام"، وفي
المخطوطة مضطربة وغير منقوطة، فمن أجل ذلك لم يحسن
قراءتها. أي: أن إنشاز العظام كان بعين النبي، يراه عيانا،
وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم: 5942.
(5/483)
"الألف" وجزم"الميم" على وجه الأمر من الله
تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن
الله = الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه،
من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى
عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه
وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير
= (1) . على كل شيء قادرٌ كذلك. (2)
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره;
لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي
أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: (فانظر
إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر
إلى العظام كيف ننشزها) ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن
مسألته ربَّه: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ! قال الله
له:"اعلم أن الله" = الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت =
على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله،
(3) . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه
وسلم = بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: (رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) = (وَاعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (4) . فأمر إبراهيم بأن يعلم،
بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك
أمر الذي سأل فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ بعد
أن أراه كيفية إحيائه إياها = أن يعلم أنّ الله على كل شيء
قدير. (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وحفظ عليه طعامه ... "، وهو
اختلال في الكلام، والصواب ما أثبت. وقوله: "وحفظه" مجرور
معوطف على قوله: "من إحيائه إياه وحماره ... ".
(2) قوله: "على كل شيء قادر كذلك" متعلق بقوله: بأن يعلم
أن الله ... على كل شيء قادر"، وما بينهما صفة لله تعالى،
فصلت بين اسم"إن" وخبرها.
(3) سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف: "أعلم أن
الله ... على غير ذلك من الأشياء قدير".
(4) هي الآية التالية من"سورة البقرة".
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "وكذلك أمر الذي سأل ... "
بالواو، والصواب بالفاء.
هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 173 - 174.
(5/484)
|