تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

تفسير سورة آل عمران

(6/147)


الم (1)

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّر
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد: (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله:"ألم" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله:"الله". (3)
* * *
وأما معنى قوله:"لا اله إلا هو"، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه = (4) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه =
__________
(1) في المطبوعة: "أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1: 205-224.
(3) انظر ما سلف 1: 122-126.
(4) سياق العبارة: "أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم".

(6/148)


ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه (1) يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (2) مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (3) - (4) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا = (5) أنه مقيم على ضلالة، ومُنعدلٌ عن المحجة، (6) وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي"الألوهية" أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، (7) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على
__________
(1) قوله: "ومعرفًا"، في المطبوعة والمخطوطة"ومعرف"، والصواب نصبها، لأن سياق الجملة"أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... معرفًا من كان من خلقه ... "، أما الواو العاطفة في قوله: "ومعرفًا"، فليست تعطف"معرفًا" على"احتجاجًا" فهذا غير جائز، بل هي عاطفة على جملة"أخبر عباده ... "، كأنه قال"وأخبرهم ذلك معرفًا".
(2) السياق"ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن. . .".
(3) الإلاهة: عبادة إله، كما سلف في تفسيره 1: 124.
(4) في المطبوعة: "ومتخذته دون مالكه ... "، وهو لا يستقيم، وقد أشكل عليه قوله قبل"التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته"، فظن هذا معطوفا عليه، وهو خطأ مفسد للسياق، بل هو معطوف على قوله: "مقيما على عبادة وثن".
(5) سياق الجملة: "ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن ... أنه مقيم على ضلالة ... ".
(6) في المطبوعة: "ومنعزل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي فيها غير منقوطة، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق: مال عنه وانحرف. يقال: عدل عن الشيء: حاد، وعدل عن الطريق: جار ومال واعوج سبيله.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "نيفًا وثلاثين آية"، وهو خطأ صرف، فالتنزيل بين عدده، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا" ... إلى بضع وثمانين آية".

(6/150)


ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (1)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:-
6543 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران: (2) ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم:"العاقب" أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ"عبد المسيح" = و"السيد" ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه"الأيهم" = (3) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (4) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "لرسول الله ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(3) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(4) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم، ويعني بقوله: "صاحب مدراسهم"، عالمهم الذي درس الكتب، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم.
(5) في المطبوعة: "في دينه"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2: 222-223، كما سيأتي في التخريج.

(6/151)


قال ابن إسحاق قال، محمد بن جعفر بن الزبير: (1) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب= (2) قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! = وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
= قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم:"العاقب"، وهو"عبد المسيح"، والسيد، وهو"الأيهم"، و"أبو حارثة بن علقمة" أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وُنبيه، وخويلد، وعمرو، (3) وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم:"أبو حارثة بن علقمة"، و"العاقب"، عبد المسيح، و"الأيهم" السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، (4) مع اختلاف من أمرهم. يقولون:"هو الله"، ويقولون:"هو ولد الله"، ويقولون:"هو ثالث ثلاثة"، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم:"هو الله"، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. (5)
__________
(1) في ابن هشام: "فلما قدموا ... ".
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر، وهو من جياد الثياب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وخويلد بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه من ابن هشام.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو من النصرانية"، والصواب من ابن هشام.
(5) في ابن هشام: "ولنجعله آية للناس"، كنص الآية.

(6/152)


ويحتجون في قولهم:"إنه ولد الله"، أنهم يقولون:"لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله". (1)
ويحتجون في قولهم:"إنه ثالث ثلاثة"، بقول الله عز وجل:"فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا". فيقولون:"لو كان واحدًا ما قال: إلا"فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت"، ولكنه هو وعيسى ومريم".
ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ"سورة آل عمران" إلى بضع وثمانين آية منها. فقال:"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، (2) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، (3) وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه = رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، (4) وجعلوا معه من الأنداد = واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال:"اللهُ لا إله إلا هو"، أي: ليس معه شريك في أمره. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "بشيء لم يصنعه ... "، وهو كلام فاسد، والصواب من المخطوطة. وفي ابن هشام: "وهذا لم يصنعه ... ".
(2) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر"ألم"، وأثبتها من ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "بتبرئة نفسه"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي ابن هشام: "بتنزيه نفسه".
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وردًا عليه" بواو العطف، وهو خطأ، والصواب من ابن هشام.
(5) الأثر: 6543 - في ابن هشام: "ليس معه غيره شريك في أمره". والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام 2: 222-225.

(6/153)


6544 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم"، قال: إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا! قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا! قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى! (1) قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، (2) ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟ قالوا بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنزل الله عز وجل:"ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم"
* * *
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور 2: 3 ما نصه: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب"، إلا أن الدر المنثور قد أسقط"قال" من هذه العبارة. أما البغوي (هامش تفسير ابن كثير) 2: 93: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب". وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى، كان فيها هذا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن عيسى حملته امرأة ... " والصواب"أمه"، كما في الدر المنثور والبغوي.

(6/154)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار (الْحَيُّ الْقَيُّوم) .
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) .
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: (الْحَيُّ الْقَيِّمُ) .
6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ:"الحيّ القيِّم".
قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:-
6547 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ:"الحيّ القيَّام".
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، (1) وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، "الحي القيُّومُ".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "تشاغر"، بالغين، وهو خطأ، وانظر ما سلف: 127 تعليق: 2. وانظر ما قلته عن قوله: "وراثة" فيما سبق ص: 127 تعليق: 3.

(6/155)


القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ} " اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"الحيّ ". (1)
فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك:
6548 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحي"، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران. (2)
6549 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي"، قال: يقول: حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحي"، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة = كما وصفها
__________
(1) انظر تفسير: "الحي" فيما سلف 5: 386، 387.
(2) الأثر: 6548- سيرة ابن هشام 2: 225، وهو من بقية الأثر السالف: 6543.

(6/156)


بالعلم، لأن لها علمًا = وبالقدرة، لأن لها قدرةٌ.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: (1) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت = وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْقَيُّومُ}
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:-
6550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الحي القيوم"، قال: القائم على كل شيء.
__________
(1) انظر تفسير"الحي" فيما سلف 5: 386، 387.

(6/157)


6551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6552 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: القيام على مكانه". ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
6553 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"القيوم"، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى = عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته = من قول العرب:"فلان قائم بأمر هذه البلدة"، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.
__________
(1) الأثر: 6553- في المخطوطة والمطبوعة: "عمر بن إسحاق" وهو خطأ بين، وهذا إسناد أبي جعفر إلى"محمد بن إسحاق"، الذي يدور في تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين: 6543، 6548، في سيرة ابن هشام 2: 225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر: "القيام على مكانه"، مكان"القائم على مكانه" والصواب من سيرة ابن هشام.

(6/158)


فـ"القيوم" = إذ كان ذلك معناه ="الفيعول" من قول القائل:"الله يقوم بأمر خلقه". وأصله"القيووم"، غير أن"الواو" الأولى من"القيووم" لما سبقتها"ياء" ساكنة وهي متحركة، قلبت"ياء"، فجعلت هي و"الياء" التي قبلها"ياء" مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ"الواو" المتحركة إذا تقدمتها"ياء" ساكنة. (1)
* * *
وأما"القيَّام"، فإن أصله"القيوام"، وهو"الفيعال" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة من"قيوام""ياء" ساكنة، فجعلتا جميعًا"ياء" مشدّدة.
ولو أن"القيوم""فَعُّول"، كان"القوُّوم"، ولكنه"الفيعول". وكذلك"القيّام"، لو كان"الفعَّال"، لكان"القوَّام"، كما قيل:"الصوّام والقوّام"، وكما قال جل ثناؤه: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة: 8] ، ولكنه"الفيعال"، فقيل:"القيام".
* * *
وأما"القيِّم"، فهو"الفيعل" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة"ياء" ساكنة، فجعلتا"ياء" مشددة، كما قيل:"فلان سيدُ قومه" من"ساد يسود"، و"هذا طعام جيد" من"جاد يجود"، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان"القيوم" و"القيّام" و"القيم" أبلغ في المدح من"القائم"، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله،"القيام"، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من"الياء""الواو"، فيقولون للرجل الصوّاغ:
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"القيوم": 5: 388، 389، وهنا زيادة في"القيام" و"القيم" لم يذكرها هناك.

(6/159)


نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

"الصيّاغ"، ويقولون للرجل الكثير الدّوران:"الدَّيار". (1) وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: (لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26] إنما هو"دوّار"،"فعَّالا" من"دار يَدُور"، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز، وأقِرّت كذلك في المصحف.
* * *
القول في تأويل قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب = يعني بـ"الكتاب"، القرآن ="بالحق" يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم ="مُصَدّقًا لما بين يديه"، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (2) لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6554 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 110.
(2) في المخطوطة"ومخفو ما جاءت به رسل الله"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.

(6/160)


عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه". قال: لما قبله من كتاب أو رسول.
6555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه"، لما قبله من كتاب أو رسول.
6556 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"نزل عليك الكتاب بالحق"، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (1)
6557 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: القرآن، ="مصدّقًا لما بين يديه" من الكتب التي قد خلت قبله.
6558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأنزل التوراة"، على موسى ="والإنجيل" على عيسى ="من قبل"، يقول: من قبل الكتاب الذي نزله عليك = ويعني بقوله:"هُدًى للناس"، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه
__________
(1) الأثر: 6556- هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها آنفًا رقم: 6553.

(6/161)


مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

من توحيد الله وتصديق رسله، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى، (1) وفي غير ذلك من شرائع دين الله، كما:-
6559 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"، هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه.
6560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل التوراة والإنجيل"، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ"الفرْقان"، إنما هو"الفعلان" من قولهم:"فرق الله
__________
(1) في المطبوعة: "ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي"، وفي المخطوطة هكذا: "وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي"، الحرف الأول حاء، والثاني"فاء" والثالث"ياء"، والرابع كالدال، إلا أنه بالكاف أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة: "نعتيك"، لأن الله لما نعت محمدًا بأنه نبيه ورسوله، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله"ونعتيك" معطوف على قوله: "من توحيد الله، وتصديق رسوله"، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في المطبوعة، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا.
(2) الأثر: 6560 - هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها رقم: 6556، وفي المطبوعة"على من كان قبلهما"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.

(6/162)


بين الحق والباطل"، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل، (1) إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى = وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال: معناه:"الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب":
6561 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل الفرقان"، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (3)
* * *
ذكر من قال: معنى ذلك:"الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام":
6562 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل الفرقان"، هو القرآن، أنزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
6563 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وأنزل الفرقان"، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يفصل بينهما ... بالحق" مضارعًا، والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته.
(2) انظر ما سلف 1: 98، 99 / ثم 3: 448. وفي المطبوعة"بالأيدي" بالياء في آخره، وهو خطأ. والأيد: الشدة والقوة.
(3) الأثر: 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها: 6560.

(6/163)


قال أبو جعفر: والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع = وأن يكون معنى"الفرقان" في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله:"نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه". ولا شك أن ذلك"الكتاب"، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و"الذين كفروا"، هم الذين جحدوا آيات الله = و"آيات الله"، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (1)
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"كفر" و"أبى".

(6/164)


وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله: (1) "وأنزل الفرقان" أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (2) لأنه عقب ذلك بقوله:"إن الذين كفروا بآيات الله"، يعني: إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنزله فرقًا بين المحق والمبطل ="لهم عذاب شديدٌ"، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه = ثم أخبرهم أنه"عزيز" في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ = وأنه"ذو انتقام" ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6564 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. (3)
6565 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"،
.........................................................................
............................................................................ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "يعني عن معنى قوله"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة ... "، وقوله: "عن" زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(3) الأثر: 6564- هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6561.
(4) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم: 6565، والأخبار بعده، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.

(6/165)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:-
6566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء"، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (2) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في
__________
(1) الأثر: 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6564، من سيرة ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة: "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.

(6/166)


رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما:-
6567 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: (1) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟ (2)
6568 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما:-
6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟
__________
(1) "أي" ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من سيرة ابن هشام، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.
(2) الأثر: 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6566 عن ابن إسحاق.

(6/167)


هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (1)
6570 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قال أبو جعفر: وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (2) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال:"هو العزيز" الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (3) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (4) ثم أعلمهم أنه"الحكيم"
__________
(1) الأثر: 6569- قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم: 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16: 189-195، وفي البخاري في كتاب"بدء الخلق" في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب"الحيض" باب: مخلقة وغير مخلقة.
(2) قوله: "ولجميع من ادعى ... " معطوف على قوله: "وتكذيب للذين قالوا..".
(3) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة، على وزن سمع) : هو الموئل، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم) : هو الملجأ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(4) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.

(6/168)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، (1) كما:-
6571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل -: إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (2) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (3)
6572 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك الكتاب = يعني ب"الكتاب"، القرآن.
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "في نصرته" وهو خطأ في المعنى، فإن"النصرة"، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو: الانتقام. وانتصر منه: انتقم.
(3) في ابن هشام: "في حجته وعذره إلى عباده"، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا: بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.

(6/169)


وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن"كتابًا" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله:"منه آيات محكمات" فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب"الآيات" آيات القرآن.
وأما"المحكمات"، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك.
* * *
ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء"الآيات المحكمات"، بأنهن:"هُنّ أمّ الكتاب" (2) . يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
* * *
وإنما سماهن"أمّ الكتاب"، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء"أمًّا" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر:"أمّهم"، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة:"أمها".
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
ووحَّد"أمّ الكتاب"، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال:"هُنّ" = لأنه أراد جميع الآيات المحكمات"أم الكتاب"، لا أن كل آية منهن"أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن"أم الكتاب"،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 99 / ثم 3: 86 وفهارس اللغة.
(2) في المخطوطة"بأنهن من الكتاب" وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر ما سلف 1: 107، 108.

(6/170)


لكان لا شك قد قيل:"هن أمهات الكتاب". ونظير قول الله عز وجل:"هن أمّ الكتاب" على التأويل الذي قلنا في توحيد"الأم" وهي خبر لـ"هُنّ"، قوله تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [سورة المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (1) ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده، (2) بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل:"هن أم الكتاب"، ولم يَقل:"هن أمهات الكتاب" على وجه الحكاية، كما يقول الرجل:"ما لي أنصار"، فتقول:"أنا أنصارك" = أو:"ما لي نظير"، فتقول:"نحن نظيرك". (3) قال: وهو شبيهُ:"دَعنى من تَمرْتَان"، وأنشد لرجل من فقعس: (4)
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (5)
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كان المعنى وإحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة" وهو كلام بلا معنى، ولكن الناقل عن المخطوطة لم يحسن القراءة، فإن الألف الأخيرة في"واحدًا" نزلت في مستقر الفاء من"فيما" غير منقوطة، فظنها"وإحداثهما"، وبدل"جعلا" فصيرها"جعلنا"، وهذا من عجائب الخلط.
(2) في المطبوعة: "ولو كان مراده الخبر ... " والصواب الجيد من المخطوطة.
(3) ربما كان الصواب: "ما لي نصير"، فتقول: "نحن نصيرك"، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه.
(4) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال: "منظور بن فروة بن مرثد"، وهو نفسه"منظور بن حبة الفقعسي الأسدي"، و"حبة" أمه، ويعرف بها.
(5) مجالس ثعلب: 602 (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية: 248 - 251، وسر صناعة الإعراب 1: 177- 179 / ثم 235، واللسان (طول) (قتل) ، وغيرها. ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب"بمجاز حل"، والأخير"عن قتللى"، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته."والطول" (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، وإنما شدد الراجز. لم تأل: لم تقصر. والضمير في هذا الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات: مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ لَيْلَى? مَنْ لِي? ... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ?

(6/171)


"حَلِّ" أي: يحلّ به. (1) = على الحكاية، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك، كما يقول:"نوديَ: الصلاةَ الصلاةَ"، يحكي قول القائل:"الصلاةَ الصلاةَ".
وقال: قال بعضهم: إنما هي:"أنْ قتلا لي"، ولكنه جعله"عينًا"، (2) لأن"أن" في لغته تجعل موضعها"عن"، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت:"ضربًا لزيد".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، (3) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، (4) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن = وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله:"أمّ الكتاب"، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (5)
* * *
وأما قوله:"وأخَرُ" فإنها جمع"أخْرَى". (6)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كل أي يحكى به على الحكاية"، وهو كلام فاسد، ولكن العجب للذي أراد أن يصححه فقال: "لعل أصلها كما هو المفهوم من السياق: لم يقل، عن قتل، وأتى به على الحكاية"، أراد أن يصحح، فكرر الكلام، وهو أسخف ما يكون. بيد أن القارئ الذي نقل عن المخطوطة، لم يحسن قراءة نصها، فأفسدها إفسادًا، ولكنها بينة كما كتبتها من رسم المخطوطة.
وقوله"بمكان حل" ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين"مكان" و"مجاز"، وكسر الحاء من"حل". ولا أظنه صوابًا، فلم أجدهم يقولون: "مكان حل" بكسر الحاء، وإنما هو بفتحها بالإضافة، لا بالنعت: ": حل بالمكان حلولا وحلا". أي: نزل به.
وقوله: "على الحكاية" في سياق قوله: "وأنشد لرجل من فقعس ... ".
(2) في المطبوعة: "جعله عن"، ولا خير في هذا التغيير، والذي في المخطوطة عين الصواب.
(3) في المطبوعة: "استشهد بها"، والذي في المخطوطة صواب عريق في العربية.
(4) في المطبوعة: "حكايات حالهن"، وهو كلام لا مفهوم له. وفي المخطوطة"حالسهن" ولم يضع شرطة الكاف، فلذلك اشتبهت على الناسخ.
(5) في المخطوطة: "أخرج ذلك محلر الحكاية"، وكأن الصواب المحض ما في المطبوعة، وهذا تحريف من عجلة الناسخ، أراد أن يكتب"مخرج"، فزاد القلم لامًا، ثم راجع راء، ثم أسقط الجيم.
(6) انظر ما سلف 3: 459. وفي المطبوعة: "جمع آخر"، وفي المخطوطة، بغير مدة على الألف، ورجحت أن تكون"أخرى"، لما مضى من قوله في ذلك ولما سيأتي بعد قليل، ولأنه القياس.

(6/172)


ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف"أخَر".
فقال بعضهم: لم يصرف"أخر" من أجل أنها نعتٌ، واحدتها"أخرى"، كما لم تصرف"جُمَع" و"كُتَع"، لأنهن نعوتٌ.
* * *
وقال آخرون: إنما لم تصرف"الأخر"، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف"أخرى"، كما ترك صرف"حمراء" و"بيضاء"، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (1) ثم افترق جمع"حمراء" و"أخرى"، فبنى جمع"أخرى" على واحدته فقيل:"فُعَلٌ" و"أخر"، (2) فترك صرفها كما ترك صرف"أخرى" = وبنى جمع"حمراء" و"بيضاء" على خلاف واحدته فصرف، فقيل:"حمر" و"بيض"، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.
* * *
وأما قوله:"متشابهات"، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [سورة البقرة: 25] ، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم (3) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [سورة البقرة: 70] ، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. (4)
* * *
__________
(1) تركت قوله: "بالواو" على حاله، فإني لم أستطع أن أرجح زيادتها، ولم أعرف ما أراد بها إلا أن يكون أراد بها ألف التأنيث المقصورة، كالتي في"حبلى". والأخرى ألف التأنيث الممدودة.
(2) المرجح عندي أن قوله: "فعل" زيادة من الناسخ.
(3) انظر ما سلف 1: 385-394.
(4) انظر ما سلف 2: 209-211.

(6/173)


فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام = وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات"، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم:"المحكمات" من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ ="والمتشابهات" من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك:
6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"منه آيات محكمات"، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام: 151، 152] ، إلى ثلاث آيات، (1) والتي في"بني إسرائيل": (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: 23 - 39] ، إلى آخر الآيات. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "التي هاهنا"، وهو خطأ، فإن الآيات كما ترى من سورة الأنعام وأثبت ما في الدر المنثور 2: 4. وانظر التخريج في آخر الأثر.
(2) الأثر: 6573- هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أخشى أن يكون سقط من إسناده"عن أبي إسحاق"، بعد"قال أخبرنا العوام". و"العوام" هو العوام بن حوشب، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في الإسناد"عمن حدثه" فإن ذلك كذلك، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي، هو"عبد الله بن قيس"، مذكور بروايته هذا الأثر، وراويه عنه هو أبو إسحاق السبيعي، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب 5: 365) . والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك 2: 288 من طريق: "علي بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس". ونصه: "آيات محكمات، هي التي في الأنعام: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر الثلاث الآيات". وقال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي. من أجل ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري"عن أبي إسحاق"، ولكني لم أثبته في نصه.

(6/174)


6574 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب"، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به = قال:"وأخر متشابهات"، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به.
6575 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وأخر متشابهات"، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
6576 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى قوله:"كل من عندنا ربنا"، أما"الآيات المحكمات": فهن الناسخات التي يعمَل بهن = وأما"المتشابهات" فهن المنسوخات.
6577 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، و"المحكمات": الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه = وأما"المتشابهات": فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آيات محكمات"، قال: المحكم ما يعمل به.
6579 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن

(6/175)


أبيه، عن الربيع:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات"، قال:"المحكمات"، الناسخ الذي يعمل به = و"المتشابهات": المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
6580 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخات ="وأخر متشابهات"، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى.
6581 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ = وما تشابه منه: ما نسخ.
6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخ ="وأخر متشابهات"، قال: المنسوخ.
6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منه آيات محكمات"، يعني الناسخ الذي يعمل به ="وأخر متشابهات"، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به.
6584- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"منه آيات محكمات"، قال: ما لم ينسخ ="وأخر متشابهات"، قال: ما قد نسخ.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه ="والمتشابه" منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك:

(6/176)


6585 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"منه آيات محكمات"، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو"متشابه"، يصدّق بعضُه بعضًا = وهو مثل قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) [سورة البقرة: 26] ، ومثل قوله: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام: 125] ، ومثل قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [سورة محمد: 17] .
6586 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ="والمتشابه" منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك:
6587 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات"، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه = (1) "وأخَرُ متشابهات"، في الصدق، (2) لهن تصريف وتحريف وتأويل، (3) ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (4)
* * *
__________
(1) في نص ابن هشام: "ليس لهن تصريف ... عما وضعن".
(2) في المطبوعة: "وأخر متشابهة"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. وليس في نص ابن هشام: "في الصدق"، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(3) ليس في نص رواية ابن هشام"وتحريف".
(4) الأثر 6587- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها: 6571، من روايته عن ابن إسحاق.

(6/177)


وقال آخرون: معنى"المحكم": ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته ="والمتشابه"، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى. (1)
ذكر من قال ذلك:
6588 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: (ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: 1] ، قال: وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها: (2) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) [سورة هود: 49] ، ثم ذكر (وَإِلَى عَادٍ) ، فقرأ حتى بلغ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (3) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين"أحكمت آياته ثم فصلت" = (4) قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة
__________
(1) في المطبوعة: "فقصة اتفاق الألفاظ ... وقصة باختلاف الألفاظ ... " وهو فاسد، والصواب من المخطوطة.
(2) يعني من"سورة هود"، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف.
(3) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود: 89- ولكن هذه الآية في ذكر خبر شعيب عليه السلام، فلا أدري ما قوله بعد: "ثم مضى، ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا". وظني أن نص عبارته:
"ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا ... " بإسقاط"ثم" الثانية. وانظر التعليق التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: وهذا يقين ذلك يقين أحكمت ... " وكأن الصواب ما أثبت.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان، ولكني وجدت السيوطي في الدر المنثور 3: 320، في تفسير"سورة هود" قال: "أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه أنه قرأ: "ألر كتاب أحكمت آياته" قال: هي كلها مكية محكمة - يعني سورة هود -"ثم فصلت". قال: ثم ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم، فحكم فيما بينه وبين من خالفه، وقرأ: "مثل الفريقين"، الآية كلها. ثم ذكر قوم نوح، ثم قوم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوله محكمًا. قال: وكان أبي رضي الله عنه يقول ذلك - يعني: زيد بن أسلم".
فمن أجل ذلك، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي، ورجحت أن تكون"يقين" في الموضعين: "تبيين".

(6/178)


كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه: (فَاسْلُكْ فِيهَا) (احْمِلْ فِيهَا) ، (اسْلُكْ يَدَكَ) (أدخل يدك) ، (حَيَّةً تَسْعَى) (ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) = (1) قال: ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها، (2) وصالحًا في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطًا في ثماني آيات منها، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) [سورة هود: 100] . وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟
* * *
وقال آخرون: بل"المحكم" من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره = و"المتشابه": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب"المتشابه"، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو"ألم" و"ألمص"، و"ألمر"، و"ألر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ
__________
(1) من أول قوله: "قال: والمتشابه ... " معترض في سياق حديثه عن تفصيل القصص في"سورة هود" وتعداد آيات كل قصة. أما الآيات المذكورة هنا، فهذا بيان مواضعها على الترتيب: "سورة المؤمنون: 27" / "سورة هود: 40" / "سورة القصص: 32" / "سورة النمل: 12" / "سورة طه: 20" / "سورة الأعراف: 107" و"سورة الشعراء: 22.
(2) "منها" يعني من"سورة هود"، وكذلك سائر ما بعده.

(6/179)


محمد وأمته، (1) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: (2) أن هذه الآية نزلت فيه، (3) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (4) [سورة البقرة: 2]
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، (5) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى= [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (6) = وذلكَ
__________
(1) في المطبوعة: "أجل أمته"، وهو تحريف من الطابع، وأثبت ما في المخطوطة: والأكل (بضم فسكون) : مدة العمر، وانظر التعليق ص: 196، تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "بن رباب" وهو خطأ، والصواب ما أثبت و"رئاب" بكسر الراء. وانظر ما سلف 1: 216 وما سيأتي في التعليق: 4، وفيه المرجع.
(3) قوله: "فيه"، أي: في هذا القول. لا في"جابر بن عبد الله".
(4) انظر ما سلف 1: 245-224 في تفسير"ألم"، والأثر رقم: 246 والتعليق عليه.
(5) في المطبوعة: "لخلقه"، وفي المخطوطة: "محلقه" غير منقوطة، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة، وصواب قراءته ما أثبت.
(6) هذه الجملة التي بين القوسين، هكذا جاءت في المطبوعة، ومثلها في المخطوطة وإن كان قوله "اصطرته" غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى، وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع، فاختلط الكلام علينا وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها، ووضعتها بين قوسين، وحصرتها بين الخطوط، ليعرف مكانها، ومكان السقط الذي رجحت أنه سهو من الناسخ.

(6/180)


كقول الله عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [سورة الأنعام: 158] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طُلوع الشمس من مغربها. (1) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. (2) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، (3) هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله:"ألم" و"ألمص" و"ألر" و"ألمر" ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه = (4) أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في
__________
(1) انظر تفصيل ذلك والعلة في تفسير الآية من تفسير الطبري 8: 71-77 (بولاق) .
(2) في المطبوعة: "بعد بالسنين ... "، وفي المخطوطة: "بعد السنين ... "، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من"بعدد".
(3) في المطبوعة: "لا حاجة لهم" باللام، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"مبينة"، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست"ميما"، وصواب قراءة النص هو ما أثبت.

(6/181)


معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب}
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (1) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"هن أم الكتاب"، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (2)
ذكر من قال ذلك:
6589- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية:"محكمات هنّ أم الكتاب". قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين = وضرب لذلك مثلا فقال:"أمّ القرى" مكة،"وأم خراسان"، مَرْو،"وأمّ المسافرين"، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. (3)
6590 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هن أم الكتاب"، قال: هن جماع الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا: 170.
(2) في المطبوعة: "نحو قلنا" وهو سهو صوابه من المخطوطة.
(3) الأثر: 6589-"عمران بن موسى الفزار"، و"عبد الوارث بن سعيد" مضت ترجمتهما برقم 2154. وانظر التعليق على الأثر رقم: 6591، التالي.

(6/182)


وقال آخرون: بل يعني بذلك: (1) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6591 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية:"منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال:"أم الكتاب" فواتح السور، منها يستخرج القرآن - (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، منها استخرجت"البقرة"، و (الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) منها استخرجت"آل عمران". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.
* * *
يقال منه:"زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا"، و"أزاغه الله" - إذا أماله -"فهو يُزيغه"، ومنه قوله جل ثناؤه: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لا تملها عن الحق = (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [سورة آل عمران: 8] .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "معنى بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 6591-"أبو فاختة" هو"سعيد بن علاقة الهاشمي"، مولى أم هانئ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم: 6589. فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور 2: 4، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال: "عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: هن أم الكتاب، فقال أبو فاختة ... وقال يحيى بن يعمر ... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا.

(6/183)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:-
ذكر من قال ذلك:
6592 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فأما الذين في قلوبهم زيغٌ"، أي: ميل عن الهدى. (1)
6593 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"في قلوبهم زيغ"، قال: شك.
6594 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6595 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، قال: من أهل الشك.
6596 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أما الزيغ فالشك.
6597 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال:"زيغ" شك = قال ابن جريج:"الذين في قلوبهم زيغ"، المنافقون.
* * *
__________
(1) الأثر: 6592- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6587، عن ابن إسحاق.

(6/184)


القول في تأويل قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا = بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك = ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:-
6598 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فيتبعون ما تشابه منه"، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم.
6599 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فيتبعون ما تشابه منه"، أي: ما تحرّف منه وتصرف، (1) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (2)
6600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"فيبعون ما تشابه منه"، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:
__________
(1) في ابن هشام: "أي: ما تصرف منه"، وليس فيه"تحرف".
(2) الأثر: 6599- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6592، بإسناده عن ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام 2: 226"لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة".
وتركت ما في التفسير هنا على حاله، لأن روايته عن ابن إسحاق، غير رواية ابن هشام".

(6/185)


6601 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله:"فيتبعون ما تشابه منه"، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية، (1) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار، (2) وفي مكان آخر: مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار؟
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك:
6602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "مجاز هذه الآية"، أما المخطوطة، فهي غير بينة، وآثرت قراءتها"مكان".
(2) في المطبوعة: "يعد به النار" بالدال المهملة، ولا معنى له. وفي المخطوطة"عد به" غير منقوطة، وصواب قراءتها"يعذبه"، وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام.

(6/186)


إن الله جل ثناؤه: أنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [سورة آل عمران: 59] ، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، (1) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله:"ألم و"ألمص"، و"ألمر" و"ألر"، فقال الله جل ثناؤه فيهم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق ="فيتبعون ما تَشابه منه" يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ="ابتغاءَ الفتنة".
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها"البقرة". (2)
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك:
6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة"، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، (3) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر
__________
(1) في المطبوعة: "أجله وأجل أمته"، وانظر تفسير"الأكل" فيما سلف ص: 180، تعليق: 1.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 246.
(3) "الحرورية"، هم الخوارج، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة، فكان هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا، وأما "السبائية"، فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي"عبد الله بن سبأ" وهو الذي قال لعلي: "أنت أنت" يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة"السبائية"، وفي المطبوعة"السبئية"، وآثرت ما في المخطوطة لأنها هكذا هي في أكثر الكتب.

(6/187)


والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر، وعبرةٌ لمن استعبر، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (1) إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (2) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، (3) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، (4) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدْعة، (5) وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.
6604 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان = وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله:"وما يذَّكر إلا أولوا الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم. (6)
__________
(1) يعني بذلك العبرة التي كانت في بدر، حين أشار على رسول الله أصحابه أن يدع منزله الأول الذي نزله، إلى المنزل الذي أشاروا به عليه - والعبرة التي كانت في الحديبية حين قال بعض أصحاب بيعة الرضوان ما قالوا في كراهة الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش. وفي ذلك برهان على فساد مقالة الخوارج، ومقالة السبائية.
(2) ألاص الأمر: أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر: أداره على الشيء الذي يريده.
(3) في المطبوعة: "أفلحه" بالحاء المهملة، وهو في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته: أظهرها، وجعل له الفلج، أي الفوز والغلبة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "وإن كتموا ... "، والسياق يقتضي حذف الواو.
(5) عنى باليهودية والنصرانية، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مقالاتهم.
(6) الحديث: 6605- هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا، كلها من رواية ابن أبي مليكة، إلا واحدًا، وهو الحديث: 6611. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل صحيح، كما سيأتي.
وابن أبي مليكة: هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، القرشي المكي. وهو تابعي كبير ثقة، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في الصغير، ص: 131، وابن سعد 5: 347-348، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 99-100، والمصعب في نسب قريش، ص: 293.
فقال الترمذي: 4: 80، بعد أن روى الحديث بالوجهين، كما سيأتي-: "هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا فيه: عن القاسم بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم: عن القاسم بن محمد، في هذا الحديث. وابن أبي مليكة، هو"عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة أيضًا".
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر"القاسم" في الإسناد، كما زعم الترمذي. وسيجيء بيان ذلك، إن شاء الله.
وقال الحافظ في الفتح 8: 157: "قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا، وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث..".
والحديث - من هذا الوجه، من رواية ابن علية، عن أيوب -: رواه أحمد في المسند 6: 48 (حلبي) ، عن ابن علية، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه: 47، عن محمد بن خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية، به.
ومحمد بن خالد بن خداش، هذا: مترجم في التهذيب. وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب عن أبيه".
ولم يترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد، مع أنه سكنها، كما في التهذيب.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 97، عن رواية المسند. ثم قال: "هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، ليس بينهما أحد". ثم أشار إلى رواية ابن ماجه، وإلى روايات أخر، تذكر فيما سيأتي.
ولكن وقع في ابن كثير"يعقوب" بدل"أيوب"! وهو خطأ ناسخ أو طابع. وثبت في المسند على الصواب"أيوب".

(6/188)


6606-حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال: يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله، فاحذرهم = قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (1)
__________
(1) الحديث: 6606- ابن عبد الأعلى: هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني. مضت ترجمته في: 1236.
مطر: هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة 125.
والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 75 بتحقيقنا، من طريق عاصم بن النضر الأحول، عن المعتمر بن سليمان، بهذا الإسناد.
وقال ابن حبان عقب روايته: "سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي مليكة جميعًا".
وهذا خطأ، فاتنا أن ننبه إليه هناك، إذ فهمناه على المعنى الصحيح، لم نتنبه إلى اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول: "سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق، جميعًا عن ابن أبي مليكة".
فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة، وهو قد ذكره في الثقات، ص: 344-345، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك، وأنه مات سنة 125، قيل: 129. ومع ذلك فلم يسلم له هذا، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 78، عن أبي زرعة، قال: "مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل".
ولكن يعكر على كلام ابن حبان- إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا-: أن رواية الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث. ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا، بلفظ"فاحذروهم"، وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله. ومطر وأيوب من طبقة واحدة.

(6/190)


6607 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (1)
6608- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
6609 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم. (3)
__________
(1) الحديث: 6607- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت ترجمته في: 2039. والحديث - من هذا الوجه-: رواه ابن ماجه: 47، عن أحمد بن ثابت الجحدري، ويحيى بن حكيم، كلاهما عن عبد الوهاب، به.
وأشار إليه ابن كثير 2: 97، من رواية ابن ماجه. ثم قال: "ورواه محمد بن يحيى العبدي، في مسنده، عن عبد الوهاب الثقفي، به".
(2) الحديث: 6608- هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن كثير 2: 97، قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب".
ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق، مخطوطة دار الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة، إلى أوائل سورة النساء.
(3) الحديث: 6609- الحارث: هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 1 / 2 / 282: "منكر الحديث". وكذلك قال في الصغير، ص: 185. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير، عن البخاري: "منكر الحديث، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا". وروى ابن أبي حاتم 1 / 2 / 91-92، عن أحمد بن حنبل، قال: "رجل صالح، ولم يكن يعرف بالحديث، ولا يحفظه، منكر الحديث".
وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا، فإن أصل الحديث صحيح، بالأسانيد الأخر: السابقة واللاحقة.

(6/191)


6610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب"، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم. (1)
6611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول الله
__________
(1) الحديث: 6610- ابن وكيع: هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف، كما بينا في: 1692.
أبو أسامة: هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته: 2995.
يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ: ثقة ثبت. وثقه أحمد، ووكيع، وأبو حاتم، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم.
وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث، التي فيها زيادة"القاسم بن محمد"، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد: سمعه ابن أبي مليكة من عائشة، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين، تارة هكذا، وتارة هكذا.
والحديث - من هذا الوجه-: رواه أبو داود الطيالسي: 1433، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد، نحوه، مختصرًا قليلا.
ورواه البخاري 8: 157-159 (فتح) . ومسلم 2: 303-304. وأبو داود: 4598- ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي: 4: 80، عن عبد بن حميد، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، به، نحوه. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 72 بتحقيقنا، من طريق عبد الله - وهو ابن المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم، به.
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، فسيأتي بإسناد آخر: 6615، بزيادة القاسم، وسيأتي أيضًا عقب هذا: 6611 من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه.

(6/192)


صلى الله عليه وسلم:"يتبعُون ما تَشابه منه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (1)
6612 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ابن أبي مليكة، حدثتني] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نزع:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه"، ولا يعملون بمحكمه. (2)
__________
(1) الحديث: 6611- علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشام: مضت ترجمته في: 2184.
عبد الرحمن: هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في: 2836.
وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد.
وقد نقله ابن كثير 2: 98. ثم قال: "ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به".
وانظر الحديث الآتي: 6615.
وقوله: "نزع رسول الله" - يقال: انتزع بالآية والشعر: تمثل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله: "قد انتزع معنى جيدًا" و"نزعه"، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها"نزع" هنا -: استشهد، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث: 6612- نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل، الجمحي القرشي المكي: ثقة، قال أحمد بن حنبل: "ثبت ثبت صحيح الحديث". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 86، وابن سعد 5: 363. ونسب قريش للمصعب: 400. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 456، وتذكرة الحفاظ 1: 213.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا: "نافع عن عمر"! بدل"نافع بن عمر". وهو خطأ. تصويبه عن الفتح 8: 157، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث"عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم" -".... ونافع بن عمر، وابن جريج، وغيرهما". وكذلك صححناه عن ابن كثير، كما سنذكر.
ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما: "عن نافع، عن عمر، عن عائشة"!! فحذف"ابن أبي مليكة" من الإسناد. ثم حذف تصريحه بالسماع من عائشة.
فصححنا الإسناد، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين، وهو ما زدناه بعد كلمة"عن"، بين علامتي الزيادة: [ابن أبي مليكة، حدثتني] .
وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير 2: 98، حيث قال: "ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم، ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وقال نافع في روايته: عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة. فذكره".
فهذا هو الصواب، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله.
ثم إن الحديث سيأتي: 6614، من هذا الوجه، على الصواب، من رواية خالد بن نزار، عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي-"عن ابن أبي مليكة، عن عائشة".

(6/193)


6613- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. (1)
6614- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية،"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، الآية،"يتبعها"، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله. (2)
__________
(1) الحديث: 6613- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: مضت ترجمته في: 2747. وعمه: هو عبد الله بن وهب.
شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري: قال ابن المديني: "ثقة، كان يختلف إلى مصر في تجارة، وكتابه كتاب صحيح". وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 234، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 359.
و"الحبطي": بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى"الحبطات". بطن من تميم.
روح بن القاسم التميمي العنبري البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال سفيان بن عيينة: "لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن القاسم".
وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير 2: 98، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله.
(2) الحديث: 6614- خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي: ثقة. مترجم في التهذيب فقط. وشيخه نافع: هو ابن عمر الجمحي.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 6612، من رواية نافع الجمحي، ومؤيد لما ذكرنا أنه سقط من ذاك الإسناد.
فهؤلاء: أيوب، ونافع بن عمر، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - مباشرة، دون واسطة"القاسم" بينهما، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن أبي مليكة إياه من عائشة، كما مضى في: 6612.
وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز:
فرواه الترمذي 4: 80، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - دون ذكر القاسم.
وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته: 5458.
وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير 2: 98، والحافظ في الفتح 8: 157. وإسنادها صحيح.
ورواه أيضًا سعيد بن منصور، عن حماد بن يحيى، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة، نقله ابن كثير 2: 98. وهو إسناد صحيح.
وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح 8: 157، ولكن لم يذكر من خرجه. ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر.

(6/194)


6615- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى آخر الآية، قال: هم الذين سَمّاهم الله، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله، إمّا
__________
(1) الحديث: 6615- وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، كمثل رواية يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة، الماضية: 6610.
وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة، كما ذكرنا في 6605. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة، في هذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 1432، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
وقد جمع الروايتين: رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته عنهما. فرواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. نقله ابن كثير 2: 98، عن ابن أبي حاتم، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 157.
وقد مضت من قبل: 6611 رواية حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم: رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم.
وهناك متابعة أخرى عن القاسم، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير 2: 98"ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به". فلم يذكر ما هي، ولا ما إسنادها، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح.
ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 5، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل.

(6/195)


في أمر عيسى، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (1)
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله:"وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله"، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3)
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك:
6616 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ابتغاء الفتنة"، قال: إرادة الشرك.
6617- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إما مدة أجله وأجل أمته"، والتصحيح من المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك التحريف في ص: 180، تعليق: 1، وص: 187، تعليق: 1 وفي الجزء الأول من التفسير ص: 217 تعليق: 4. والأكل" (بضم الألف وسكون الكاف) : الرزق، لأنه يؤكل. ومنه قيل لمدة العمر التي يعيشها المرء في الدنيا"أكل". يقال للميت: "انقطع أكله"، انقضت مدته، وفنى عمره.
(2) في المطبوعة: " ... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد"، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها، "الآجال" جمع أجل، وهو الذي أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 3: 508 / ثم 4: 163. وتفسير"الفتنة" فيما سلف، 2: 443، 444 / ثم 3: 565، 566، 570، 571 / ثم 4: 301.

(6/196)


وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاءَ الشّبهات.
ذكر من قال ذلك:
6618 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا.
6619 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ابتغاء الفتنة"، الشبهات، قال: هلكوا به.
6620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.
6621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ابتغاء الفتنة"، أي اللَّبْس. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه:"إرادةُ الشبهات واللبس".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (2) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
* * *
__________
(1) الأثر: 6621 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم 6599، بإسناده عن ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "واحتمل صرفه في وجوه التأويلات"، وقد قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع، والتي تليها كلها أفراد، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ"صرف صرفه" (بغير ألف في: صارفه) كما كانت تكتب قديمًا، فظنها خطأ، فحذف الأولى"صرف" وأبقى الأخرى"صرفه"، فاضطربت الضمائر.

(6/197)


قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان (1) من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، (2) أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم"، وكما:-
6622 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، (3) فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس:"وما يعلم تأويله إلا الله"، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله:"ابتغاء الفتنة"، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "البدعة"، وصواب قراءتها إن شاء الله"المبتدعة"، كما يدل عليه السياق.
(2) هكذا كتبت هنا"سبئيًا"، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع الماضية"سبائيًا"، فتركت هذا الرسم كما هو، وهو صواب.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وما يلقون عند الفرار"، وهو كلام لا معنى له، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة والإخبات عند سماع القرآن، وذلك من أمر الخوارج مشهور، وهم الذين جاء في صفتهم: "تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم" في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس: "يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه" متعجبًا من فعلهم في خشوعهم، وضلالهم في تأويلهم المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم.

(6/198)


عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال:"فعلوا ذلك إرادةَ الشرك"، وهم قد كانوا مشركين.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"التأويل"، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"وابتغاء تأويله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل،"ألم"، و"ألمص"، و"ألر"، و"ألمر"، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك:
6623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، يعني تأويله يوم القيامة ="إلا الله".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"عواقبُ القرآن". وقالوا:"إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك".
ذكر من قال ذلك:
6624 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وابتغاء تأويله"، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال

(6/199)


الله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، وتأويله، عواقبه= متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة".
ذكر من قال ذلك:
6625 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وابتغاء تأويله"، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم = (1) "خلقنا"، و"قضينا".
* * *
قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ:"ابتغاء التأويل" الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة = والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه = (2) أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - (3) أولى بتأويل قوله:"وابتغاء تأويله"،
__________
(1) في المطبوعة: "في قوله"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام 2: 226. وقوله بعد ذلك: "خلقنا، وقضينا"، كلام منقطع، إشارة إلى ما مضى من صدر هذا الأثر الطويل المتتابع، الذي يرويه الطبري مفرقًا عن ابن إسحاق، وذلك مذكور في الأثر رقم: 6543 فيما سلف ص: 153 س: 3، 4. إذ قال: "ويحتجون في قولهم: "إنه ثالث ثلاثة، بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا. فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا: فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم".
(2) "جاء" اسم فاعل من الفعل"جاء يجيء فهو جاء". وسياق الجملة: "والقول الذي قاله ابن عباس ... والذي ذكرنا عن السدي ... أولى بالصواب".
(3) قوله: "بمتشابه آي القرآن ... " من صلة قولهم: "إن طلب القوم معرفة الوقت.." جار ومجرور، متعلق بقوله: "طلب".

(6/200)


لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله:"قضينا""فعلنا"، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، (1) وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون:"آمنا به، كل من عند ربنا" - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل"الراسخون" معطوف على اسم"الله"، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، (2) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "مدة أجل محمد ... "، والصواب ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف ص: 196 رقم: 1.
(2) في المطبوعة: "أوهم مستأنف ... "، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/201)


6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله. (1)
6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به) (2)
6628 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية،"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
6629 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة:"وما يعلم تأويله إلا الله = والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
__________
(1) الأثر: 6626- انظر الأثر السالف رقم: 6614، والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة"يقول الراسخون" بحذف الواو. والصواب إثباتها، لأنه سيأتي في ص: 204 س: 13 أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في الأصل"كان ابن عباس يقرأ""وما يعلم تأويله.."، ولكن الناسخ مضى على عجلته، فكتب مكان"يقرأ""يقول"، ثم أسقط الواو من"ويقول الراسخون ... ". فلذلك أثبت الواو، وهي الصواب المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم] ، لأن هذه قراءة في الآية، لا تفسير من ابن عباس، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة.

(6/202)


6630 - حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول:"والراسخون في العلم"، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا،"آمنا به كلٌّ من عند ربنا".
6631 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله:"وما يعلم تأويله إلا اللهّ"، قال: ثم ابتدأ فقال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وليس يعلمون تأويله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون:"آمنا به كلّ من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
6632 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
6633 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
6634- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله ويقولون:"آمنا به".
6636 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يعلم تأويله" الذي أراد، ما أراد، (1) "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا"، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير 2: 100، أما سيرة ابن هشام 2، 226 ففيها"أي: الذي به أرادوا ما أرادوا" وكأن الصواب ما في التفسير، وقوله: "ما أراد" استفهام. أما قوله: "الذي أراد"، أي الذي أراده الله سبحانه. وما في سيرة ابن هشام صواب أيضًا، والضمير في"أرادوا" يعني به الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهذا ما أرادوا.

(6/203)


من ربّ واحد؟ (1) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذَت به الحجة، وظهر به العذر، وزاحَ به الباطل، (2) ودُمغ به الكفر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع"الراسخين في العلم" بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره:"يقولون آمنا به". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في"يقولون". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي:"يقولون".
* * *
ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ"الراسخين" على اسم"الله"، فرفعهم بالعطف عليه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو:"يقولون"، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: (وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (4) وفي قراءة عبد الله: (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) .
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى"التأويل" في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:
__________
(1) من أول قوله: "كل من عند ربنا" إلى قوله: "من رب واحد" زيادة من نص رواية ابن هشام في السيرة 2: 226، ولا شك أن الناسخ قد أسقطها من عجلته وسهوه.
(2) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد وزال.
(3) الأثر 6636- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6625 بإسناده عن ابن إسحاق، وهو في سيرة ابن هشام 2: 226.
(4) انظر التعليق السالف على الأثر: 6627، ص: 202 س: 7، تعليق: 2.

(6/204)


عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
وأصلهُ من:"آل الشيء إلى كذا" - إذا صار إليه ورجع"يَؤُول أوْلا" و"أوَّلته أنا" صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [سورة النساء: 59 \ سورة الإسراء: 35] أي جزاءً. وذلك أن"الجزاء" هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله:"تأوّلُ حُبها": تفسير حبها ومرجعه. (2) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (3)
__________
(1) ديوانه: 88، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 86 الصاحبي: 164، اللسان (صحب) (ربع) (أول) (ولى) ، ثم ما سيأتي بعد قليل من ذكر رواية أخرى، لم أجدها في غيره بعد.
أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع) ، (ولى) فهي: عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
الربعي: الذي ولد في أول النتاج. والسقاب جمع سقب (بفتح فسكون) : وولد الناقة ساعة تضعها يقال له"سليل" قبل أن يعرف أذكر هو أم أنثى، فإذا علم أنه ذكر فهو"سقب". وأصحب: ذل وانقاد وأطاع. وهذا البيت بهذه الرواية التي ذكرتها هنا، قد فسرها الأزهري وقال: "هكذا سمعت العرب تنشده. وفسروا"توالي ربعى السقاب" أنه من الموالاة: وهو تمييز شيء من شيء. يقال: "والينا الفصلان عن أمهاتها فتوالت"، أي فصلناها عنها عند تمام الحول، وتشتد عليها الموالاة، ويكثر حنينها في إثر أمهاتها، ويتخذ لها خندق تحبس فيه وتسرح الأمهات في وجه من مراتعها. فإذا تباعدت عن أولادها سرحت الأولاد في جهة غير جهة الأمهات، فترعى وحدها، فتستمر على ذلك وتصحب بعد أيام. أخبر الأعشى أن نوى صاحبته اشتدت عليه، فحن إليها حنين ربعى السقاب إذا وولى (فصل) عن أمه. وأخبر أن هذا الفصيل يستمر على الموالاة، وأنه يصحب إصحاب السقب. قال الأزهري: وإنما فسرت هذا البيت، لأن الرواة لما أشكل عليهم معناه، تخبطوا في استخراجه وخلطوا، ولم يعرفوا منه ما يعرفه من شاهد القوم في باديتهم".
أما الرواية الأولى، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي، وأما روايته الثانية، وهي قوله: "توابع حبها"، فإني لم أدر ما معناها، وأخشى أن يكون صوابها: "نزائع حبها". والنزائع جمع نزيعة، يقال: ناقة نازع من نوق نوازع. وناقة نزيعة: وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه: حن واشتاق.
(2) في المخطوطة: "وتفسير حبها ... " بزيادة الواو، وهو خطأ. وهذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87، على خطأ فيه، إذ ظن الناشر أن قوله: "تفسيره"، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا: "تفسيره: ومرجعه" وعندئذ فلا معنى للواو في"ومرجعه"، والصواب ما أثبتناه.
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87.

(6/205)


وقد يُنشد هذا البيت:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني ب"الراسخين في العلم"، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.
* * *
وأصل ذلك من:"رسوخ الشيء في الشيء"، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه:"رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا". (2)
* * *
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال:"من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. (3)
* * *
__________
(1) انظر ص 204، تعليق: 4
(2) قوله: "رسخًا"، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة.
(3) الحديث: 6637- فياض بن محمد الرقى: ترجمه البخاري 4 / 1 / 135، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 87، فلم يذكرا فيه جرحًا.
عبد الله بن يزيد بن آدم: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 197، قال: "روى عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: كيف تبعث الأنبياء؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى ... سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه. وهذا حديث باطل".
وترجمه الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد، قال: "أحاديثه موضوعة". وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد بالوضع.

(6/206)


6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي = قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال: من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم"الراسخين
__________
(1) الحديث: 6638- هو الحديث الماضي بزيادة قليلة، وزيادة"أنس بن مالك".
ولكن في هذا الإسناد"عبد الله بن يزيد الأودي". والراجح أن هذا خطأ من أحد الرواة، أو من الناسخين، وأن صوابه كالإسناد السابق"عبد الله بن يزيد بن آدم". وأما "عبد الله بن يزيد الأودي"، فهو غير هذا يقينًا. وقد مضى في: 5461. وترجمته عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 200: أنه"روى عن سالم بن عبد الله، عن حفصة، في الصلاة الوسطى، روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية". والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة، والراوي هنا كذاب.
والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن محمد بن عوف الحمصي، عن نعيم بن حماد، عن فياض الرقى"حدثنا عبد الله بن يزيد"، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه"الأودي". ووقع في ابن كثير"عبيد الله"، بدل"عبد الله"، وهو خطأ.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324"عن عبد الله بن يزيد بن آدم، قال: حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك ... ". وقال: "رواه الطبراني، وعبد الله بن يزيد: ضعيف". فزاد في رواية الطبراني صحابيًا رابعًا، هو واثلة بن الأسقع.
وذكره السيوطي 2: 7، عن هؤلاء الصحابة الأربعة، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني. وهو تساهل منه، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم"واثلة بن الأسقع"، بل هو في رواية الطبراني فقط.
ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر: "من طريق عبد الله بن يزيد الأودي، سمعت أنس بن مالك يقول ... ".
فهذا يرجح أن زيادة"الأودي" - خطأ من أحد الرواة، لا من الناسخين.

(6/207)


في العلم"، بقولهم:"آمنا به كل من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
6639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به، (1) قال:"الراسخون" الذين يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
6640 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والراسخون في العلم"، هم المؤمنون، فإنهم يقولون:"آمنَّا به"، بناسخه ومنسوخه ="كلٌّ من عند ربنا".
6641 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قال، عبد الله بن سلام:"الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم = قال ابن جريج:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، وهم الذين يقولون = (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ويقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الآية.
* * *
وأما تأويل قوله:"يقولون آمنا به"، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله، وقد:-
6642 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: المحكم والمتشابه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الراسخون في العلم ... "، بغير واو، وأثبت نص الآية.

(6/208)


القول في تأويل قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كل من عند ربنا"، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه ="من عند ربنا"، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
6643 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"كل من عند ربنا"، قال: يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ.
6644 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، قالوا:"كلّ من عند ربنا"، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كل من عند ربنا"، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا.
6646 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله. (1)
6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"والراسخون في العلم" يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يؤمن ... ويدين" جميعًا بالياء، والسياق يقتضي أن تكون بالنون.

(6/209)


قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في حكم"كلّ" إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين: إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي"الكل" إليه مضاف في هذا الموضع، (1) لأنها اسمٌ، كما قال: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) [سورة غافر: 48] ، بمعنى: إنا كلنا فيها. قال: ولا يكون"كل" مضمرًا فيها وهي صفة، لا يقال:"مررت بالقوم كل" وإنما يكون فيها مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان:"إنا كُلا فيها" على الصفة لم يجز، لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل"الكل" و"البعض" في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسمًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا جاز حذف المراد"، وعلق الطابعون السابقون أنها زائدة من قلم الناسخ!! وسبب ذلك سوء كتابة الناسخ، فلم يحسنوا قراءته.
(2) انظر ما سلف عن"كل" 3: 195 / ثم 5: 509.

(6/210)


القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، (1) وقد:-
6648 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، يقول: وما يذكر في مثل هذا = يعني: في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يَتّسقا على معنى واحد ="إلا أولو الألباب". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك ="لا تزغ قلوبنا"،
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"يذكر" 5: 580 / 6: 5 = وفي تفسير"الألباب": 3: 68 / ثم 4: 162 / ثم 5: 80.
(2) الأثر: 6648- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6636 بإسناده عن ابن إسحاق.

(6/211)


لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ="وهب لنا" يا ربنا ="من لدنك رحمة"، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه ="إنك أنتَ الوهاب"، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك، كما:-
6649 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا (1) ="وهب لنا من لدنك رحمة". (2)
* * *
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به = من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون = ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: (3) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا"، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم = بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (4) = أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ
__________
(1) في المطبوعة: "بأجسادنا"، وهو لا معنى له، وهو تحريف للرواية عن ابن إسحاق. وصوابها من المخطوطة وابن هشام 2: 226. والأحداث جمع حدث: وهو الفعل. يسألون الله أن يثبت قلوبهم بالإيمان، وإن مالت أفعالهم إلى بعض المعصية.
(2) الأثر: 6649- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6648.
(3) القدرية: هم نفاة القدر والصفات، ويعني المعتزلة.
(4) في المطبوعة: "مسألتهم" بحذف الباء، والصواب من المخطوطة.

(6/212)


بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت: 46] . ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه.
6650 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ:"ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا"، إلى آخر الآية. (1)
6651 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2)
__________
(1) الحديث: 6650- هذا إسناد صحيح.
عبد الحميد بن بهرام: ثقة، مضت ترجمته في: 1605. وشهر بن حوشب: ثقة أيضًا، كما قلنا في: 1489.
وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في: 6652، ونخرجه هناك، إن شاء الله. ويأتي بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك، في: 6658.
(2) الحديث: 6651 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء، وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم المؤمنين.
ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري، وإلا رواية ذكرها ابن كثير، عن ابن مردويه.
قال ابن كثير 2: 102 بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية: "ورواه ابن مردويه، من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه ... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث.
ثم قال ابن كثير: "وهكذا رواه ابن جرير، من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ثم قال: "ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه"عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن" - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين، في زيادة حرف"عن". وأن صوابه"عن أم سلمة أسماء ... ".
و"أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية": صحابية معروفة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وكنيتها"أم سلمة". وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها، بل قال ابن السكن: "هو أروى الناس عنها". وكان من مواليها.
ولم نسمع قط أن"أم سلمة أم المؤمين" روت عن أسماء هذه، ولا روت عن غيرها من الصحابة.
وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث"أسد بن موسى" و"الحجاج بن منهال" - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان الآتيتان: 6652، 6658 -: فهي مشكلة، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه: "عن أم سلمة أسماء بنت يزيد".
ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري: 6650، 6652، 6658، التي فيها"عن أم سلمة" مراد بها"أم سلمة أسماء بنت يزيد".
فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن"أم سلمة" في هذه الروايات الثلاث - هي أم المؤمنين يقينًا، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا: 6652.

(6/213)


6652 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟ قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن. (1)
__________
(1) الحديث: 6652- هذه هي الرواية المطولة، التي أشرنا إليها في: 6650، وسيأتي مختصرًا قليلا: 6658، كما قلنا من قبل.
والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - 6: 294 (حلبي) ، عن وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا مقلب القوب، ثبت قلبي على دينك". وهذا نحو الرواية الماضية: 6650، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية.
ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - 6: 301-302، عن هاشم -وهو ابن القاسم أبو النضر- عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد، نحوه. إلا أنه قال في آخره: "وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا".
ثم رواه مختصرًا، بدون ذكر الآية، ولا قوله"فنسأل الله ربنا" -إلخ، 6: 315 (حلبي) ، عن معاذ بن معاذ، قال: "حدثنا أبو كعب صاحب الحرير، قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟..".
ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه -: سألت أبي عن أبي كعب؟ فقال: ثقة، واسمه عبد ربه بن عبيد".
وكذلك رواه الترمذي 4: 266، عن أبي موسى الأنصاري، عن معاذ بن معاذ، به. وقال: "هذا حديث حسن".
وأبو كعب صاحب الحرير، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي: وثقه أيضًا يحيى بن سعيد، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 41-42.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات، 6: 325، 7: 210، 10: 176، عن رواية المسند، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب، "وهو ضعيف وقد وثق". وقال في الأخير: "إسناده حسن".
وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، دون فصل بين الروايات.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 55، من رواية ابن وهب، عن إبراهيم بن نشيط الوعلاني، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا.
ورواه أبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 316، من وجهين آخرين، عن أم سلمة.
ووقع في المطبوعة: "ما خلق الله من بشر، من بني آدم"، بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه الكلمة.

(6/214)


6653 - حدثني محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله: يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به؟! قال: إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى، يقول بهما هكذا = وحرّك أبو أحمد إصبعيه = قال أبو جعفر: وإن الطوسي وَسَق بين إصبعيه. (1)
__________
(1) الحديث: 6653- محمد بن منصور بن داود، الطوسي العابد، شيخ الطبري: ثقة، أثنى عليه أحمد، ووثقه النسائي وغيره.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 288-289، من طريق الأعمش، بهذا الإسناد. وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور، لأن في أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي.
وذكره السيوطي 2: 9: وزاد نسبته للطبراني في السنة.
وأشار إليه الترمذي 3: 199، كما سنذكر في الحديث بعده.
وقوله: "يقول بهما" هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة"يقول به".
قوله: "وسق بين إصبعيه"، وسق الشيء: جمعه. يريد: ضم إصبعيه.

(6/215)


6654 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدّقنا بما جئت به، فيُخاف علينا؟! قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها تبارك وتعالى. (1)
__________
(1) الحديث: 6654- رواه أحمد في المسند: 12133، (ج 3 ص: 112 حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد.
ثم رواه: 13731 (ج 3 ص: 257 حلبي) ، عن عفان، عن عبد الواحد، عن سليمان بن مهران - وهو الأعمش- به.
ورواه الترمذي 3: 199، عن هناد، عن أبي معاوية، به. ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس. وروى بعضهم عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان عن أنس-أصح".
يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع: تابعي ثقة، سمع من جابر ومن أنس، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع التابعي الحديث الواحد من صحابيين.
ورواه الحاكم 1: 526، مختصرًا، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، وصححه هو والذهبي.
ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر، فرواه: 3834، من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف".
وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى- في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي؛ وها هو ذا من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به.
وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد، ص: 100. فرواه مختصرًا، من طريق أبي الأحوص: "عن الأعمش، عن أبي سفيان ويزيد، عن أنس".
وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(6/216)


6655 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر = وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا أيوب بن بشر = جميعًا، عن ابن جابر قال: سمعت بُسْر بن عبيد الله قال، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة. (1)
__________
(1) الحديث: 6655- بشر بن بكر التنيسي: ثقة مأمون. روى عنه الشافعي، والحميدي، وغيرهما. وأخرج له البخاري.
أيوب بن بشر: لم أجد راويًا بهذا الاسم، ولا ما يقاربه في الرسم، إلا رواة باسم"أيوب بن بشير" ليسوا من هذه الطبقة، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن الرواة عن ابن جابر: "أيوب بن سويد الرملي". ومن القريب جدًا أن يروي عنه بلديه"علي بن سهل الرملي". ولكن تصحيف"سويد" إلى"بشر" صعب.
ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة، أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني: "يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشأم بعد الصحابة".
بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر: "هو أحفظ أصحاب أبي إدريس" يعني الخولاني.
و"بسر": بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه"عبيد الله": بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا"بشر". وهو تصحيف. وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر، ووقع في بعضها اسم أبيه"عبد الله". وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع.
أبو إدريس الخولاني: عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في: 4840.
النواس: بفتح النون وتشديد الواو، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 17707 (ج 4 ص: 182 حلبي) ، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 199، من طريق صدقة بن خالد، عن ابن جابر، به. وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح".
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 54، وأبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 317-318، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جابر.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 289، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248- عن الحاكم، من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين.
وهذا الموضع في المستدرك، مخروم في أصله المطبوع عنه، فأثبته الناشر عن مختصر الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم.
ورواه الحاكم أيضًا 4: 321، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا 1: 525. عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن بشر بن بكر، عن ابن جابر، به.
وقال الحاكم في الموضعين: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"! ومن عجب أن يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور، وإن كان ثقة، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم شيئًا!!
والحديث ذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى، لأنه لم يروه في السنن الصغرى.

(6/217)


6656 - حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال، حدثنا محمد بن عبيدة قال، حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني، عن الزبيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الموازين بيد الله، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه. (1)
__________
(1) الحديث: 6656- عمر بن عبد الملك بن حكيم الطائي الحمصي - شيخ الطبري: لم أجد له إلا ترجمة موجزة في التهذيب، فيها: "روى عنه النسائي وقال: صالح".
محمد بن عبيدة: لا أدري من هو؟ ولا وجدت له ترجمة، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا لعمر بن عبد الملك الطائي، وذكره باسم: "محمد بن عبيدة، المددي، اليماني". ولم أجد معنى لنسبة"المددي" هذه، بدالين. ومن المحتمل أن تكون محرفة عن"المدري" بالراء، نسبة إلى"مدر" بفتح الميم والدال وآخرها راء، وهي قرية باليمن، على عشرين ميلا من صنعاء، كما في معجم البلدان 7: 416.
الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي: ثقة، وهو مشهور في أهل الشام. وهو غير"الجراح بن مليح بن عدي" والد"وكيع بن الجراح".
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، أبو الهذيل الحمصي، قاضيها. وهو ثقة ثبت، قال ابن سعد 7 / 2 / 169: "كان أعلم أهل الشأم بالفتوى والحديث". وكان الأوزاعي"يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهري".
جويبر: هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين، ولا شأن لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر: ضعيف جدًا، كما بينا في: 284. وإنما الحديث معروف عن"جبير بن نفير"، كما سيأتي.
سمرة بن فاتك الأسدي: هكذا ثبت في الطبري"سمرة" بالميم، فتكون مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه.
والصحيح الراجح أن اسمه"سبرة"، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة.
وهناك صحابي آخر، اسمه: "سمرة بن فاتك الأسدي". غير هذا. وكذلك فرق البخاري بينهما في التاريخ الكبير: 2 / 2 / 188، في"سبرة" و: 178 في"سمرة". وذكر هذا الحديث في"سبرة" وكذلك فرق بينهما ابن أبي حاتم 1 / 2 / 295، "سبرة" و: 155، "سمرة".
وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر، الذي اسمه"سمرة" -"سبرة". وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة 3: 63-64، 131-132: أنهما اثنان، كما قلنا، وأن راوي هذا الحديث هو"سبرة".
ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح: "سبرة" - لوجود القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا.
و"سبرة": بسكون الباء الموحدة، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته في الإصابة خطأ شديد، إذ قال الحافظ: "بفتح أوله وكسر ثانيه"؛ ولم يقل أحد ذلك في ضبط اسم"سبرة" مطلقًا، بل هو نفسه ضبط اسم"سبرة"، في غير هذه الترجمة"بسكون الموحدة". وضبط اسم هذا الصحابي بالسكون أيضًا، في المشتبه للذهبي، ص: 255. ولم يذكر اسم آخر بهذا الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم.
و"الأسدي" - في هذه الترجمة: "بفتح الهمزة وسكون السين". وهو: الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص". قاله الحافظ في الإصابة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"سبرة بن فاتك". قال: "حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عمن حدثه، عن جبير بن نفير، عن سبرة بن فاتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الموازين بيد الله، يرفع قومًا ويضع قومًا، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، فإذا شاء أقامه، وإذا شاء أزاغه".
فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير- عنه البخاري.
وقال الحافظ في الإصابة: "وقد وقع لي في غرائب شعبة، لابن مندة، من طريق جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى، فقال: سمرة".
فلم نعرف رواية ابن مندة: أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير، أم عرف باسمه فيها؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون هذا المبهم - هو"عبد الرحمن بن جبير بن نفير" فإنه يروي عن أبيه، ويروي عنه الزبيدي.
ومما يرجح -عندي- أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات: أن الهيثمي ذكر هذا الحديث في مجمع الزوائد 7: 211"عن سمرة بن فاتك الأسدي"، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وذكره السيوطي 2: 8، ونسبه للبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطبراني. ولم يزد.
في المطبوعة: "إن شاء ... وإن شاء". وأثبت ما في المخطوطة. وهو الموافق لرواية الكبير للبخاري.

(6/218)


6657- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن

(6/219)


حيوة بن شريح قال، أخبرني أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد، يصرّف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى طاعتك. (1)
6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتقلَّب؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاءَ أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6657 - أبو هانئ الخولاني- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو: هو حميد بن هانئ المصري. وهو ثقة معروف.
أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة: هو عبد الله بن يزيد المعافري- بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي، ج 1 ص: 64-65، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: 21.
والحديث رواه أحمد في المسند: 6569، عن أبي عبد الرحمن، وهو المقرئ، عن حيوة بن شريح، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم 2: 301، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ.
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، ص: 316، بإسنادين، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248 - كلاهما من طريق المقرئ.
وذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي.
(2) الحديث: 6658- هو مختصر من الحديث: 6652. وقد وفينا تخريجه، وأشرنا إلى هذا هناك.
ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "من بني آدم بشر". ولعل الأجود أن يكون"من بشر"، كالروايات الأخر.

(6/220)


رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا = مع قولهم: آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا =: يا ربنا،"إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد".
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا، فإنك لا تخلف وَعْدك: أنّ من آمن بك، واتَّبع رَسُولك، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك، أنك غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم، (1) بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم، وجبتْ لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلَها من القوم: مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم.
* * *
وأما معنى قوله:"ليوم لا ريب فيه"، فإنه: لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من حسن نصرتهم"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: "نصرتهم". غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 78.

(6/221)


ومعنى قوله:"ليوم"، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء بينهم في موقف العَرضْ والحساب.
* * *
"والميعاد""المفعال"، من"الوعد".
* * *

(6/222)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ="لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم، (1)
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا، وهم في الآخرة ="وقودُ النار"، يعني بذلك: حَطبُها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بعد تثبيتهم"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة "تثبيتهم" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر تفسير"الوقود" فيما سلف 1: 380.

(6/222)


كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم = (1) ="والذين من قبلهم" من الأمم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا، (2) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كدأب آل فرعون".
فقال بعضهم: معناه: كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك:
6659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كدأب آل فرعون"، يقول: كسنتهم.
* * *
وقال بعضهم: معناه: كعملهم.
ذكر من قال ذلك:
6660 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان =
__________
(1) في المخطوطة: "ودعاتهم" غير منقوطة، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو سبق قلم من الناسخ، وهذا اللفظ هو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87.
(2) في المطبوعة: "فلن تغني عنهم ... "، وهو مخالف للسياق. وفي المخطوطة: "فلن تغن عنهم ... " وهو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.

(6/223)


وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان = جميعًا، عن جويبر، عن الضحاك:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون.
6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون.
6662 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعلهم، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل = وقرأ قول الله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) [سورة غافر: 31] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأبُ العمل.
6663 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون.
6664 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كصنع آل فرعون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون.
ذكر من قال ذلك:
6665 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم"، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الدأب" من:"دأبت في الأمر دأْبًا"، إذا أدمنت

(6/224)


العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى: الشأن، والأمر، والعادة، كما قال امرؤ القيس بن حجر:
وَإنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة ... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ (1) كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِث قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يعني بقوله:"كدأبك"، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه:"هذا دَأبي ودأبك أبدًا". يعني به. فعلي وفعلك، وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه:"دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا". وحكى عن العرب سماعًا:"دأبْتُ دأَبًا"، مثقله محركة الهمزة، كما قيل:"هذا شعَرٌ، ونَهَر"، (2) فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة، (3) فألحق"الدأب" إذ كان ثانية من الحروف الستة، كما قال الشاعر: (4)
لَهُ نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ (5)
* * *
وأما قوله:"واللهُ شديدُ العقاب"، فإنه يعنى به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه.
* * *
__________
(1) ديوانه: 125 من معلقته المشهورة، ثم يأتي في التفسير 12: 136 (بولاق) البيت الثاني. وهو شعر مشهور خبره، فاطلبه في موضعه.
(2) في المطبوعة: "بهر" بالباء، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بالنون.
(3) "الحروف الستة"، يعني حروف الحلق.
(4) هو كثير عزة.
(5) ديوانه 2: 112، الحيوان 1: 266، والبيان 3: 109، 112 واللسان (نعل) . ورواية اللسان"وسط المجالس"، أما رواية الديوان فبخلاف هذا ولا شاهد فيها، كما سترى. والشعر مما قاله كثير حين بلغه وفاة عبد العزيز بن مروان بمصر، فرثاه، فكان مما قال فيه: يَؤُوبُ أُولُو الحَاجَاتِ مِنْهُ إذَا بَدَا ... إلَى طَيِّبِ الأَثْوَابِ غَيْرِ مُؤَمَّتِ
كَأَنَّ اُبْنَ لَيْلَى حِينَ يَبْدُو فَتَنْجَلِي ... سُجُوفُ الخِبَاءِ عَنْ مَهِيبٍ مُشَمَّتِ
مُقَارِبُ خَطْوٍ لا يُغَيِّر نَعْلَهُ ... رَهِيفَ الشِّرَاكِ، سَهْلَةَ المُتَسَمَّتِ
إِذَا طُرِحتْ لَمْ تَطَّبِ الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإِنْ وُضِعتْ في مَجْلِس القَوْم شُمَّتِ
يقول: لا يلبس من النعال إلا المدبوغ الجلد، فذهبت رائحة الجلد منها، لأن النعل إذا كانت من جلد غير مدبوغ، وظفر بها كلب أقبل عليها بريحها فأكلها. يصفه بأنه من أهل النعمة واليسار والترف. ثم زادها صفة أخرى بأن جعلها قد كسبت من طيب رائحته طيبًا، حتى لو وضعت في مجلس قوم، تلفتوا يتشممون شذاها من طيبها. وقوله: "يطبى" من: "اطباه" أي: دعاه إليه.

(6/225)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في ذلك.
فقرأه بعضهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) بالتاء، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) . قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله:"ستغلبون"، كذلك، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية: أنّ الموعودين بأن يُغلبوا، هم الذين أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم = أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نزل، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام:"قلت للقوم: إنكم مغلوبون"، و"قلت لهم: إنهم مغلوبون". وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ) [سورة الأنفال: 38] ، وهي في قراءتنا: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) .
* * *
وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) ، على معنى: قل لليهود: سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك

(6/226)


كذلك على هذا التأويل، لم يجز في قراءته غير الياء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي نختار من القراءة في ذلك، قراءةُ من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، على قراءته بالياء، لدلالة قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) ، على أنهم بقوله:"ستغلبون"، مخاطبون خطابهم بقوله:"قد كان لكم"، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب.
= وأخرى أنّ:-
6666 - أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، (2) إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! (3) فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد" إلى قوله:"لأولي الأبصار".
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 191-192.
(2) في سيرة ابن هشام: "لا يغرنك من نفسك". والأغمار جمع غمر (بضم فسكون) : وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب.
(3) في ابن هشام: "لم تلق مثلنا".

(6/227)


6667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمر بن قتادة، قال: لما أصاب الله قريشًا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن يونس. (1)
6668 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قَينُقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النِّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك! (2) لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. (3)
6669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم:"قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد" إلى"لأولي الأبصار". (4)
6670 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنزلت هذه الآية:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
* * *
__________
(1) الأثر: 6666، 6667- في سيرة ابن هشام 2: 201.
(2) في ابن هشام: "أنا قومك" بحذف الكاف، وهي جيدة جدًا، ولكن ما في التفسير موافق لما في التاريخ.
(3) الأثر: 6668- سيرة ابن هشام 3: 50 / تاريخ الطبري 2: 297.
(4) الأثر: 6669 - سيرة ابن هشام 3: 51.

(6/228)


قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، هم اليهود المقولُ لهم:"قد كان لكم آية في فئتين"، الآية - وتدل على أن قراءَة ذلك بالتاء، أولى من قراءته بالياء.
* * *
ومعنى قوله:"وتحشرون"، وتجمعون، فتجلبون إلى جهنم. (1)
* * *
وأما قوله:"وبئس المهاد"، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. (2) وكان مجاهد يقول كالذي:-
6671 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وبئس المهاد"، قال: بئسما مَهدُوا لأنفسهم.
6672 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قُلْ، يا محمد، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك:"قد كان لكم آية"، يعني: علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول: إنكم ستغلبون، وعبرة، (3) كما:-
6673 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) لم يفسر أبو جعفر"تحشرون" فيما سلف 4: 228، وذلك دليل على ما روى من اختصاره هذا التفسير اختصارًا.
(2) انظر ما سلف 4: 246.
(3) انظر تفسير"الآية" في (أيى) من فهارس اللغة.

(6/229)


"قد كان لكم آية"، عبرةٌ وتفكر.
6674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله = إلا أنه قال: ومُتَفَكَّر.
* * *
="في فئتين"، يعني: في فرقتين وحزبين = و"الفئة" الجماعة من الناس. (1) ="التقتا" للحرب، وإحدى الفئتين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش.
="فئة تُقاتل في سبيل الله"، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، (2) وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، وهم مشركو قريش، كما:-
6675 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ="وأخرى كافرة"، فئة قريش الكفار. (3)
6676 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. (4)
6677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"فئة" 5: 352، 353.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 2: 497 / ثم 3: 563، 583 / ثم 4: 318 / ثم 5: 280.
(3) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.
(4) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.

(6/230)


جريج، عن عكرمة:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، قريش يوم بدر.
6678 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين"، قال: في محمد وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر.
6679 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، قال: ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار.
* * *
قال أبو جعفر: ورفعت:"فئةٌ تقاتل في سبيل الله"، وقد قيل قبل ذلك:"في فئتين"، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء، كما قال الشاعر: (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ (2)
__________
(1) هو كثير عزة.
(2) ديوانه 1: 46، ومعاني القرآن للفراء 1: 192، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، وسيبويه 1: 215، والخزانة 2: 376 وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 30: 58 (بولاق) ، وهو من قصيدته التائية المشهورة، وهذا البيت معطوف على أمنية تمناها في الأبيات السالفة: فَلَيْتَ قَلُوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيّدَ تْبِحَبْلٍ ... ضَعيفٍ غُرَّ مِنْهَا فَضَلَّتِ
وغُودِرَ فِي الحَيِّ المُقِيمِينَ رَحْلُهَا ... وكَانَ لَهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الأعلم: "تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وتضل ناقته فلا يرحل عنها". وقال آخرون: "تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة، فيكون ببقائه في حي عزة كذي رجل صحيحة، ويكون من عدمه لقلوصه كذي رجل عليلة". وقال ابن سيدهْ: "لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده، وثبت هو على عهدها، صار كذي رجلين: رجل صحيحة: هو ثباته على عهدها، وأخرى مريضة: وهو زللها عن عهده". وقال آخرون: "معنى البيت: أنه بين خوف ورجاء، وقرب وثناء"، ولي في معنى الأبيات رأي ليس هذا موضع بيانه.

(6/231)


وكما قال ابن مفرِّغ: (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ (2) فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ، ... وَأَمَّا الّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه، إذا كان مع المكرر خبر: تردُّه على إعراب الأوّل مرة، وتستأنفه ثانيةً بالرفع، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كله، فخفض على الردّ على أوّل الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك: فكنت كذلك رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله:"فئة"، جائز على الردّ على قوله:"في فئتين التقتا"، في فئة تقاتل في سبيل الله.
وهذا وإن كان جائزًا في العربية، فلا أستجيز القراءة به، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله:"فئة"، جاء نصبًا، كان جائزًا أيضًا على قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"، مُختلفتين. (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف نسبة هذا الشعر إلى ابن مفرغ، وهو بلا شك للنجاشي الحارثي، من قصيدته في معاوية وعلي، وأكثرها في الوحشيات لأبي تمام، ووقعة صفين: 601-605.
(2) الوحشيات رقم: 183، وحماسة ابن الشجري: 33، وخزانة الأدب 2: 378، وأزد شنوءة، وأزد عمان، كانا من القبائل التي قاتلت يوم صفين، وكانت أزد شنودة مع أهل الشام، وأزد عمان في أهل العراق. ورواية الشعر: "وكنتم كذي رجلين ... "، والخطاب لبني تميم وغطفان في قوله قبل ذلك: أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... تَمِيمًا، وَهذَا الحَيَّ مِنْ غَطَفَان
بيد أن رواية البيت: فأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزدُ شَنُوءةٍ ... وأَمَّا التي صَحَّتْ فَأَزدُ عُمَانِ
لأن النجاشي كان مع علي، وكانت أزد عمان معه. أما أزدشنوءة فكانت مع معاوية.
(3) انظر أكثر هذا وأبسط منه في معاني القرآن للفراء 1: 192-194، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، 88.

(6/232)


القول في تأويل قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة: (تَرَوْنَهُمْ) بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آيةٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرةٌ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم، يقول: إن لكم عبرةً، أيها اليهود، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم، بهؤلاء مع كثرة عددهم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم، يا معشر اليهود، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، (1) ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.
__________
(1) قوله: "قللها الله عز وجل في أعينها"، وذلك أن المشركين كانوا أكثر منهم أمثالا، فأراهم الله عددهم مثليهم وحسب. وسيأتي بيان ذلك بعد قليل. وانظر التعليق التالي.

(6/233)


ذكر من قال ذلك:
6681 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يُضْعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44]
* * *
فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم، يا معشر اليهود، آيةٌ في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عدد الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليلُ عددُها، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد، (1) فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم.
والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني، على ما قاله ابن مسعود: وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا) .
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم، هم
__________
(1) في المطبوعة: ". . . أمثالا لها أنها تكثرها. . ."، والصواب من المخطوطة، وكأن الطابع خفي عليه معنى الحصر في هذا الكلام، فغيره. وانظر التعليق السالف.

(6/234)


المسلمون. غير أن المسلمين رَأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقلَّلوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرةٌ، يخوّفهم بذلك أنْ يحل بهم منهم مثل الذي أحَلَّ بأهل بدر على أيديهم.
ذكر من قال ذلك:
6682 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة"، أنزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا (1) وكان المشركون مثليهم، فأنزل الله عز وحل:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين.
فقال بعضهم: كان عددهم ألفًا = وقال بعضهم: ما بين التسعمئة إلى الألف.
ذكر من قال:"كان عددهم ألفًا".
6683 - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت، وأما مولى
__________
(1) في المطبوعة: "كأن المؤمنين كانوا ... "، وهو فاسد جدًا، لم يحسن الناشر أن يقرأ المخطوطة، فقرأها على وجه لا يصح.

(6/235)


عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير شديدٌ بأسُهم! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، (1) حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير شديدٌ بأسهم! فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبره كم هم، فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله:"كم يَنحرون من الجزُر؟ قال: عشرة كل يوم. (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ألفٌ. (3)
6684 - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. (4)
* * *
ذكر من قال:"كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف":
6685 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه، (5) فأصابوا راويةً من قريش: (6) فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "إذا قال ذلك صدقوه"، وهو خطأ بين، والصواب من تاريخ الطبري، وسيأتي مرجعه في آخر الأثر.
(2) في التاريخ: "عشرًا" وهي الأجود. والجزر جمع جزور: وهي الناقة المجزورة أو البعير المجزور، فهو يقع على الذكر والأنثى.
(3) الأثر: 6683- تاريخ الطبري 2: 269.
(4) الأثر: 6684-"أبو سعيد بن يوشع البغدادي"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب، وانظر رقم: 6690 أيضًا.
(5) في المخطوطة: "يلتمسون له عليه" بينهما بياض، وأتمتها المطبوعة، كنص ابن هشام.
(6) الرواية: هي المزادة فيها الماء، ثم سمي البعير الذي يستسقى عليه الماء"راوية"، وسمي الرجل المستسقى أيضًا"راوية". وجاء في روايته هنا بالإفراد"راوية"، وهي بمعنى الجمع، أي الذين يستقون للقوم، أو الإبل التي يستقى عليها.

(6/236)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير! قال: ما عدّتهم؟ قالا لا ندري! قال: كم يَنحرون كل يوم؟ قالا يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ما بين التسعمئة إلى الألف. (1)
6686 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، ذلكم يوم بدر، ألفٌ المشركون أو قاربوا، (2) وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
6687 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة" إلى قوله:"رأي العين"، قال: يُضْعفون عليهم، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، يوم بدر.
6688 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين"، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمئة وخمسين، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وثلاثة عشر.
6689 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف.
* * *
__________
(1) الأثر: 6685- هو مختصر ما في سيرة ابن هشام 2: 268، 269، وتاريخ الطبري 2: 275.
(2) في المخطوطة: "أللف"، وعلى اللام الأولى شدة، وأظنه كان أراد أن يكتب: "لألف".

(6/237)


قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القولَ الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر. فإذْ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة -[صحيحًا] ، (1) فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود، أولى بتأويل الآية.
* * *
وقال آخرون: كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا: أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله:"يرونهم مثليهم"، المخاطبين بقوله:"قد كان لكم آية في فئتين". قالوا: وهم اليهود، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (2) [سورة يونس: 22]
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل:"يرونهم مثليهم رأي العين"، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين؟
قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد:"أحتاج إلى مثله"، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، (3) ثم يقول:"أحتاج إلى مثليه"، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. (4) وكما يقول الرجل:"معي ألفٌ وأحتاج
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة فالتأويل الأول ... "، وهي عبارة غير مستقيمة، وسهو من الناسخ كثير، فرجحت أن صوابها: "حكينا قوله" في الموضع الأول، وزيادة"صحيحًا" في آخر الجملة كما وضعتها بين القوسين.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 195.
(3) في المطبوعة: "أنا محتاج إليه وإلى مثله"، وهو إفساد. والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء 1: 194.
(4) عبارة الفراء أوضح وهي: "فأنت إلى ثلاثة محتاج".

(6/238)


إلى مثليه". فهو محتاج إلى ثلاثة. (1) فلما نوى أن يكون"الألف" داخلا في معنى"المثل" صار"المثل" اثنين، والاثنان ثلاثة. (2) قال: ومثله في الكلام: (3) "أراكم مثلكم"، كأنه قال: أراكم ضعفكم = (4) "وأراكم مثليكم". يعني: أراكم ضعفيكم. قالوا: فهدا على معنى ثلاثة أمثالهم. (5)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم.
وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى.
* * *
قال أبو جعفر: وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهُمْ) بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات بالصواب، قراءةُ من قرأ:"يرونهم" بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم - يعني: مثلي عدد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو محتاج"، والسياق يقتضي الفاء، كما في معاني القرآن للفراء: "فهو يحتاج ... ".
(2) في المطبوعة: "صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة"، وهو تصحيف، وفي المخطوطة: "اسرب" غير واضحة بل مضطربة، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(3) قوله: "قال" يعني الفراء، فالذي مضى والذي يأتي نص كلامه أو شبيه بنص كلامه أحيانًا، وقلما يصرح أبو جعفر باسم الفراء، كما رأيت في جميع المواضع التي أشرنا إليها مرارًا، أنه نقل عنه نص كلامه.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما يقال إن لكم ضعفكم"، وهو كلام بلا معنى، واستظهرت صوابه من نص الفراء في معاني القرآن وهو: "ومثله في الكلام أن تقول: أراكم مثلكم - كأنك قلت: أراكم ضعفكم".
(5) أكثر هذا بنصه من معاني القرآن للفراء 1: 194.

(6/239)


المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال، فكان حَزْرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، (1) ثم تقليلا ثالثًا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين، كما:-
6690 - حدثني أبو سعيد البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تَرَاهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا.
* * *
وقد روى عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت:"ترونهم"، لكانت"مثليكم".
6691 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بذلك. (2)
* * *
قال أبو جعفر: ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ، على
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "مثلى عدد المسلمين" هنا أيضًا، وهو خطأ ظاهر، والسياق الماضي والآتي يدل على خلافه، وهو كما أثبت.
(2) الأثر: 6691-"عبد الرحمن بن أبي حماد" لم أعرف من هو على التحقيق. وقد مر"عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي القارئ" في رقم: 3109، 4077، ولكن لم يرو عنه"المثنى" إلا بالواسطة، وإسناده: "حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد"، ولا أظنه هو هو. وقد جاء في تاريخ الطبري 1: 171: "حدثني المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ... "، فأكبر الظن أنهما رجلان.
أما "ابن المبارك" فهو"عبد الله المبارك" فيما رجحت، وقد كان في المطبوعة"عن ابن المعرك"، ولم أجد من يسمى بهذا الاسم، وفي المخطوطة: "عن ابن المسرل" كأنها ميم وسين ثم راء ثم كاف أو لام. فلعلها كانت مكتوبة في الأصل"ابن المبرك" بغير ألف بين الباء والراء، فقرأها الناسخ هكذا. والله أعلم.

(6/240)


ما كان به عندهم، (1) مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين = (2) إعلامًا منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يُحلّ بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثلَ الذي أحلّ بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر. (3)
* * *
وأما قوله:"رأي العين"، فإنه مصدر:"رَأيتهُ" يقال:"رأيته رأيًا ورُؤْية"، و"رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ"، غير مُجْراة. يقال:"هو مني رَأيَ العين، ورِئاءَ العين"، (4) بالنصب والرفع، يراد: حيث يقع عليه بصري، وهو من"الرأي" مثله. و"القوم رئاءٌ"، (5) إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا.
* * *
فمعنى ذلك: يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت في المطبوعة، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وقوله: "اليهود" مفعول به لقوله: "فأخبر الله عز وجل ... ". وقوله: "على ما كان به عندهم"، مما لم أعرف له وجهًا أرضاه. أما المخطوطة فهكذا نصها: "فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عرم المسلمين اليهود على ما كان به عندهم"، وهو كلام مضطرب أخشى أن يكون قد سقط منه شيء.
(2) سياق الكلام على ما ترى: "فأخبر الله عز وجل ... اليهود ... إعلامًا منه لهم".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "ببدرهم"، وهو كلام ليس بعربي، فآثرت حذف الضمير، وجعلتها"ببدر"، إلا أن يكون في الكلام تحريف لم أتبينه. هذا والناسخ كما ترى، في كثير من هذه الصفحات قد عجل فزاد وحرف ونقص. غفر الله له.
(4) في المطبوعة: "ورأي العين"، وفي المخطوطة"ورآا العين"، وصواب قراءتها ما أثبت وإنما حمل الناشر الأول أن يقرأها كذلك، أنه لم يجد نصها في كتب اللغة، ولكن قوله بعد: "وهو من الرأى مثله"، إنما يعني به هذه الكلمة، ثم ما سيأتي في الجملة التالية: "والقوم رثاء"، مما استدل به على ذلك أيضًا. ولكن الناشر الأول، لم يحسن قراءة المخطوطة فتصرف فيه، وأعانه ذلك على التصرف في رسم الذي قبله، كما سنرى في التعليق التالي. وانظر أيضًا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88.
(5) في المطبوعة: "والقوم راأوا"، ولا أدري كيف أراد أن يقرأها الناشر الأول، وماذا ظنها!! والصواب ما أثبت، ورسمه في المخطوطة"والقوم رآء" وتحت الراء كسرة، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر التعليق السالف.

(6/241)


القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "والله يؤيد"، يقوّي ="بنصره من يشاء".
* * *
= من قول القائل:"قد أيَّدت فلانًا بكذا"، إذا قوّيته وأعنته،"فأنا أؤيّده تأييدًا". و"فَعَلت" منه:"إدته فأنا أئيده أيدًا"، (2) ومنه قول الله عز وجل: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ) [سورة ص: 17] ، يعني: ذا القوة. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قد كان لكم = (4) يا معشر اليهود، في فئتين التقتا، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم = (5) معتبر ومتفكر، والله يقوّى بنصره من يشاء.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، ولكن السياق كما ترى يقتضي ما أثبت.
(2) لم تذكر كتب اللغة هذا الفعل الثلاثي متعديًا، بل قالوا: "آد يئيد أيدًا، إذا اشتد وقوى"؛ فهذه زيادة لم أجدها في غير هذا التفسير الجليل.
(3) انظر تفسير"الأيد" و"أيد" فيما سلف 2: 319، 320 / ثم 5: 379.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.

(6/242)


زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

وقال جل ثناؤه"إنّ في ذلك"، يعني: إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم: من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها ="لعبرة"، يعني: لمتفكرًا ومتَّعظًا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق، كما:-
6692 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار"، يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم.
6693 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه.
* * *
وكان الحسن يقول: منْ زَيْنِها، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها. (1)
6694 - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث عنه.
__________
(1) في القرطبي 4: 28: "من زينها؟ " استفهام"زينها" فعل. ولم أجد خبر الحسن، ولكني أذكر كأني قرأته قديمًا، وهو يسخر من أمر الدنيا، ويقول: من حسنها، أن الذي يذمها ويقبحها هو الذي خلقها! و"الزين" خلاف الشين، مصدر"زان الشيء يزينه زينًا".

(6/243)


6695 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال، قال عمر: لما نزل:"زُيِّن للناس حب الشهوات"، قلت: الآن يا رَبِّ حين زيَّنتها لنا! فنزلت: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [سورة آل عمران: 15] ، الآية.
* * *
وأما"القناطير" فإنها جمع"القنطار".
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار.
فقال بعضهم: هو ألف ومئتا أوقية.
ذكر من قال ذلك:
6696 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل قال: القنطار: ألف ومئتا أوقية.
6697 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ مثله.
6698 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
6699 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال، أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
6700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. (1)
__________
(1) الأثر: 6700- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 109، 110، وأشار إلى رواية أحمد: "حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار اثنا عشر ألف أوقيه، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض" وذكر رواية ابن ماجه ووكيع، وصحح أن هذا الأثر موقوف، كما رواه ابن جرير ووكيع.

(6/244)


6701 - حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبى ميمونة، عن زِرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية. (1)
* * *
وقال آخرون: القنطار ألف دينار ومئتا دينار.
ذكر من قال ذلك:
6702 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القنطارُ ألف ومئتا دينار.
__________
(1) الأثر: 6701-"زكريا بن يحيى الضرير" هو: "زكريا بن يحيى بن أيوب، أبو علي الضرير المدائني"، حدث عن زياد البكائي، وشبابة بن سوار، وسليمان بن سفيان الجهني، روى عنه محمد بن علي المعروف بمعدان، ومحمد بن غالب التمتام، ويحيى بن صاعد، والقاضي المحاملي. مترجم في تاريخ بغداد 8: 457. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "زكريا بن يحيى الصديق"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 2: 110.
و"شبابة" هو"شبابة بن سوار الفزاري". قال أحمد: "تركته لم أكتب عنه للإرجاء، كان داعية". وقال زكريا الساجي: "صدوق، يدعو إلى الإرجاء. كان أحمد يحمل عليه". وقد وثقه ابن معين وابن سعد على إرجائه. مترجم في التهذيب، و"مخلد بن عبد الواحد" أبو الهذيل البصري روى عن علي ابن زيد بن جدعان، وروى عنه شبابة. قال ابن حبان: "منكر الحديث جدًا". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 348. و"علي بن زيد بن جدعان" مضى برقم: 40. و"عطاء بن أبي ميمونة" روى عن أنس وعمران وجابر بن سمرة، وغيرهم. وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه وكان قدريًا"، وقال ابن عدي: "في أحاديثه بعض ما ينكر عليه".
وقد روى ابن كثير هذا الأثر في تفسيره 2: 110 وقال: "وهذا حديث منكر أيضًا". والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة" - يعني كالأثر السالف الموقوف على أبي هريرة، وما قبله عن معاذ بن جبل وابن عمر.

(6/245)


6703 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: القنطار: ألف ومئتا دينار.
6704 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
6705 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"القناطير المقنطرة"، يعني: المالَ الكثير من الذهب والفضة، والقنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
* * *
وقال آخرون: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
ذكر من قال ذلك:
6706 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
6707 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: القنطار ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم. (1)
6708 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا.
6709 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار اثنا عشر ألفا.
__________
(1) الورق (بفتح الواو وكسر الراء) : الفضة، أو الدراهم من الفضة.

(6/246)


6710 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا.................... قال أخبرنا عوف، عن الحسن: اثنا عشر ألفا. (1)
6711 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله.
6712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن قال: القنطار ألفُ دينار، ديةُ أحدكم.
* * *
وقال آخرون: هو ثمانون ألفًا من الدراهم، أو مئة رطل من الذهب.
ذكر من قال ذلك:
6713 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
6714 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
6715 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق.
6716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
6717 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: القنطار مئة رطل.
6718 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الأثر: 6710- هذا إسناد ناقص بلا ريب، وقد وضعت مكان الخرم هذه النقط، وسبب ذلك أن الناسخ انتهى في آخر الصفحة بقوله: "حدثنا ابن بشار قال، حدثنا" وانتقل إلى الصفحة التالية فبدأها: "قال أخبرنا عوف" فهو سهو منه. وإسناد"محمد بن بشار" إلى"عوف عن الحسن"، مختلف، منه الأسناد رقم: 2570 مثلا: "حدثنا محمد بن بشار، قال حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن"، وغيره مما لم أستطع أن أتتبعه الآن.

(6/247)


السدي: القنطار يكون مئة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال.
* * *
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفًا.
ذكر من قال ذلك:
6719 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القناطير المقنطرة"، قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
6720- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6721 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عمر بن حوشب قال، سمعت عطاء الخراساني قال: سئل ابن عمر عن القنطار فقال: سبعون ألفًا. (1)
* * *
وقال أخرون: هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا. (2)
ذكر من قال ذلك:
6722 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد الجرَيْري، عن أبي نضرة قال: ملءُ مَسك ثور ذهبًا.
6723 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث، عن أبي نضرة: ملء مَسك ثور ذهبًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 6721-"عمر بن حوشب الصنعاني"، روى إسماعيل بن أمية. وروى عنه عبد الرزاق ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن القطان: "لا يعرف حاله"، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3 / 1 / 105.
(2) المسك (بفتح الميم وسكون السين) : هو مسلاخ الجلد الذي يكون فيه الثور وغيره.

(6/248)


وقال آخرون: هو المال الكثير.
ذكر من قال ذلك:
6724 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"القناطير المقنطرة"، المال الكثير، بعضُه على بَعض.
* * *
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب: (1) أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول:"هو قَدْرُ وزنٍ". (2)
قال أبو جعفر: وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. (3) وقد قيل ما قيل مما روينا.
* * *
وأما"المقنطرة"، فهي المضعَّفة، وكأن"القناطير" ثلاثة، و"المقنطرة" تسعة. (4) وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثيرُ بعضه على بعض، كما:-
6725 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة:"القناطير المقنطرة من الذهب والفضة"، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.
__________
(1) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى، كما أشار إليه بذلك مرارًا سلفت، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88.
(2) نص أبي عبيدة"هو قدر وزن، لا يحدونه"، بإضافة"قدر" إلى"وزن"، وهو كذلك في المخطوطة، ولكن المطبوعة زادت واوًا فجعلته"قدر ووزن".
(3) في المطبوعة: "على تعنف"، وفي المخطوطة: "على تعنف" غير منقوطة، وأظن صواب قراءتها ما أثبت.
(4) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 195 بتصرف، ونصه"والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، كذلك سمعت".

(6/249)


6726 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"القناطير المقنطرة"، يعني المال الكثير من الذهب والفضة.
* * *
وقال آخرون: معنى"المقنطرة": المضروبة دراهم أو دنانير.
ذكر من قال ذلك:
6727 - حدثنا موسى قالى، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"المقنطرة"، فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
* * *
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"وآتيتم إحداهن قنطارًا" - خبرٌ لو صحّ سندُه، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما:-
6728 - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال، حدثنا زهير بن محمد قال، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) [سورة النساء: 20] ، قال: ألفا مئين يعني = ألفين. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 6728- ابن عبد الرحمن البرقي: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولم أعرف من هو. ونقل ابن كثير 2: 110 هذا الحديث من تفسير ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ... ". فلم أجد أيضًا"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" - ولم يترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ويبعد جدًا أن لا يترجم لشيخه.
ولكن من شيوخ الطبري: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي الحافظ. روى عنه في: 22 باسم"ابن البرقي". وفي: 160، باسم"أحمد بن عبد الرحيم البرقي". نسب إلى جده. وفي: 5444، باسم"ابن البرقي". وهو في الرواية الأخيرة يروى عن عمرو بن أبي سلمة، كمثل الرواية التي هنا.
فمن المحتمل أن يكون هو الذي هنا، وأن تكون كتابة"ابن عبد الرحمن" بدلا من"ابن عبد الرحيم" خطأ من الناسخين.
ولكن يعكر عليه اتفاق"بن عبد الرحمن" في رواية ابن أبي حاتم وما ثبت هنا. فإنه يبعد جدًا اتفاق الناسخين على خطأ واحد معين، في كتابين مختلفين، لمؤلفين، ليس أحدهما ناقلا عن الآخر.
فلعل"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" أو "البرقي" - شيخ آخر روى عنه الطبري وابن أبي حاتم لم تقع إلينا ترجمته.
عمرو بن أبي سلمة: مضت ترجمته في: 5444.
زهير بن محمد التميمي الخراساني المروزي: ثقة، وثقه أحمد وغيره.
أبان بن أبي عياش، واسم أبي عياش"فيروز": تابعي روى عن أنس، ولكنه ضعيف. قال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، وكان رجلا صالحًا، ولكن بلى بسوء الحفظ". وقال البخاري: "كان شعبة سيئ الرأي فيه".
ولكن ضعف أبان لا يؤثر في صحة هذا الحديث، لأن زهير بن محمد سمعه منه، وسمعه أيضًا من"حميد الطويل"، وحميد: ثقة، كما مضت ترجمته في: 3877.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 178، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "حدثنا حميد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (والقناطير المقنطرة) ؟ قال: القنطار ألفا أوقية". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ووقع في مختصر الذهبي المطبوع مع المستدرك"ألف أوقية" بالإفراد، وهو خطأ مطبعي، وثبت على الصواب في مخطوطة المختصر التي عندي، موافقًا لما في أصل المستدرك.
ونقله ابن كثير 2: 110 - كما قلنا من قبل - عن رواية ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن الرقي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "أنبأنا حميد الطويل، ورجل آخر قد سماه، يعني يزيد الرقاشي، عن أنس". وفيه: "يعني ألف دينار".
فالرجل الآخر المبهم في رواية الحاكم، يحتمل أن يكون أبان بن أبي عياش، كما في رواية الطبري هذه، ويحتمل أن يكون يزيد الرقاشي، كما في رواية ابن أبي حاتم، ويزيد بن أبان الرقاشي: ضعيف أيضًا، كما مضى في شرح: 6654.
وقد ذكر السيوطي رواية الحاكم، في هذا الموضع من تفسير آية آل عمران 2: 10 وذكر رواية الطبري التي هنا، في موضعها من تفسير الآية: 20 من سورة النساء، الدر المنثور 2: 133.
ولفظ الحديث هنا اضطربت فيه النسخ، ففي المطبوعة: "ألفا مئين، يعني ألفين" وذكر مصححها بالهامش أن هذا في بعض النسخ، وأن في بعضها: "ألفًا ومئين". ورواية السيوطي - نقلا عن الطبري: "ألفا ومئتين، يعني ألفين".
والراجح عندي أن هذا كله تحريف، وأن الصحيح اللفظ الذي في رواية الحاكم.

(6/250)


القول في تأويل قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"المسوَّمة".
فقال بعضهم: هى الراعية.
ذكر من قال ذلك:
6729 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن

(6/251)


أبي ثابت، عن سعيد بن جبير:"الخيل المسوّمة"، قال: الراعية، التي ترعى.
6730 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله.
6731 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير مثله.
6732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني: السائمة.
6733 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة القناد قال، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
6734 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والخيل المسومة". قال: الراعية.
6735 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،:"والخيل المسومة" المسرَّحة في الرّعي.
6736 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"والخيل المسوّمة، قال: الخيل الراعية.
6737 - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقول: الخيل الراعية.
* * *
وقال آخرون:"المسوّمة": الحسان.
ذكر من قال ذلك:
6738 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال: قال مجاهد:"المسوّمة"، المطهَّمة.
6739 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسومة"، قال: المطهَّمة الحسان.

(6/252)


6740- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: المطهمة حسْنًا.
6741- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6742- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة.
6743 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سألت عكرمة عن"الخيل المسوّمة"، قال: تَسويمها، حُسنها. (1)
6744 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سمعت عكرمة يقول:"الخيل المسوّمة"، قال: تسويمها: الحُسن. (2)
6745 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الخيل المسوّمة والأنعام"، الرائعة.
* * *
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى، قال: الراعية.
* * *
وقال آخرون:"الخيل المسوّمة"، المعلَمة.
__________
(1) الأثر: 6743-"أبو عبد الرحمن المقرئ" هو: "عبد الله بن يزيد العدوي مولى آل عمر" مترجم في التهذيب. و"بشير بن أبي عمرو الخولاني" مصري، روى عن عكرمة والوليد بن قيس التجيبي، روى عنه سعيد بن أبي أيوب والليث وابن لهيعة. ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 377. وفي المطبوعة والمخطوطة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ.
(2) الأثر: 6744- في المخطوطة والمطبوعة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ. انظر التعليق السالف.

(6/253)


ذكر من قال ذلك:
6746 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والخيل المسوّمة"، يعني: المعلَمة.
6747 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والخيل المسوّمة"، وسيماها، شِيَتُها. (1)
6748 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: شِيَة الخيل في وُجوهها.
* * *
وقال غيرهم:"المسوّمة"، المعدّة للجهاد.
ذكر من قال ذلك:
6749 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والخيل المسومة"، قال: المعدّة للجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والخيل المسوّمة"، المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسنًا من رآها. لأن"التسويم" في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي"المطهَّمة"، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل:
بِضُمْرٍ كَالقِدَاحِ مُسوَّماتٍ ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ (2)
__________
(1) "الشية": كل ما خالف اللون من جميع جسد الفرس أو غيره، وجمعها"شيات"، وأصلها من"الوشي". وشي الثوب وشيًا وشية: حسنه ونمنمه ونقشه.
(2) ديوانه: 86، من قصيدته حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، وقتلت بنو أسد منهم رجلين، فأراد عيينة بن حصن عون بني عبس، وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان، فقال: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ثم أثنى عليهم، وذكر أيامهم، فمما ذكر: وَقَدْ زَحَفُوا لِغَسَّانٍ بزَحْفٍ ... رَحِيبِ السَّرْبِ أَرْعَنَ مُرْجَحِنِّ
بِكُلِّ مُحَرَّبٍ كاللَّيْثِ يَسْمُو ... عَلَى أوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
وضُمْرٍ كَالقِدَاحِ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بسمر"، وليس من صفة الجياد أن يقال"سمر"، بل السمر الرماح، أما الضمر (بضم فسكون) فجمع ضامر، وقياس جمعه ضوامر، إلا أن (فاعل) الصفة منه ما يجمع على (فعل) بضم الفاء والعين، مثل"بازل وبزل، وشارف وشرف"، شبهوه بفعول لمناسبته له في عدد الحروف. ثم يخفف (فعل) عند بني تميم فتسكن عينه. والقداح جمع قدح (بكسر فسكون) : وهو السهم إذا قوم وأنى له أن يراش. تشبه به الخيل الضوامر.

(6/254)


يعني ب"المسوّمات"، المعلمات، وقول لبيد:
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ ... زُجَلا يُلُوحُ خِلالَهَا التَّسْوِيمُ (1)
فمعنى تأويل من تأول ذلك:"المطهمةَ، والمعلمة، والرائعة"، واحدٌ.
* * *
وأما قول من تأوّله بمعنى: الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل:"أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة"، إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله
__________
(1) ديوان قصيدة: 16، البيت: 41، والبيت من أبيات في القصيدة يذكر فيها عزه وعز قومه، أولها: إنِّي امْرُءٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِى، وقد جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
جَهَدُوا العَدَاوةَ كُلَّها، فأَصَدَّها ... عِّني مَنَاكِبُ عِزُّها مَعْلُومُ
مِنْها: حُوَيٌّ، والذُّهابُ، وقَبْلَهُ ... يَوْمٌ بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ كَرِيمُ
وغَدَاةَ قَاعِ القُرْنتين. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و"حوى"، و"الذهاب" و"برقة رحرحان" و"قاع القرنتين" كلها مواضع كانت لقومه فيها وقائع، ظفروا فيها. وقوله: "أتينهم" الضمير للخيل عليها أصحابها. والضمير الآخر لأعدائه. والزجل جمع زجلة (بضم فسكون) : الجماعة من الناس والخيل. ورواية ديوانه: "رهوًا"، أي متتابعة. وخلالها: وسطها.

(6/255)


عز وجل: (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [سورة النحل: 10] ، بمعنى: ترعَوْن، ومنه قول الأخطل:
مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كآخَرَ مِثْلِهِ، ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الأجْمَالِ! (1)
يعني بذلك: راعية الأجمال. فإذا أريد أنّ الماشية هي التي رعت، قيل:"سامت الماشية تسوم سومًا"، ولذلك قيل:"إبل سائمة"، بمعنى: راعية، غير أنه غير مستفيض في كلامهم:"سوَّمتُ الماشيةَ"، بمعنى أرعيتها، وإنما يقال إذا أريد ذلك:"أسمتها".
* * *
__________
(1) ديوانه: 159، والأغاني 8: 319، وطبقات فحول الشعراء: 418، وسيأتي في التفسير 14: 60 (بولاق) ، وهو من قصيدته التي رفع فيها ذكر عكرمة بن ربعي الفياض، كاتب بشر بن مروان. وذلك أن الأخطل أتى حوشب بن رويم الشيباني فقال: إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي! فنهره. فأتى شداد بن البزيعة، (هو شداد بن المنذر الذهلي، أخو الحضين بن المنذر صاحب راية علي يوم صفين) ، فسأله، فاعتذر إليه شداد. فأتى عكرمة الفياض فأخبره بما قال له الرجلان، فقال: أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك، ولكني أعطيك إحداهما عينًا، والأخرى عرضًا. فأشاد به الأخطل وهجا الرجلين فقال: وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى رَبِيعَةَ كلَّها ... وكَفَيْتَ كُلَّ مُواِكلٍ خَذّالِ
كَزْمِ اليَدَيْنِ عَنِ العَطِيَّةِ مُمْسِكٍ ... لَيْسَتْ تَبِضُّ صَفَاتُهُ ببِلالِ
كابنِ البَزِيَعةِ، أو كآخَرَ مِثْلِه، ... أَوْلَى لك ابْنَ مُسِيَمةِ الأَجْمَالِ!
إِنَّ اللَّئِيمَ إذَا سَأَلْتَ بَهَرْتَهُ ... وترَى الكَرِيمَ يَرَاحُ كالمُخْتَالِ
وفي المخطوطة: "أولى ابن مسيمة ... "، خطأ."وابن البزيعة"، هو"ابن بزعة" في رواية الطبري هنا. والبزيعة (على وزن كريمة) أم شداد بن المنذر. وقد ضبطتها في طبقات فحول الشعراء بالتصغير، اتباعًا لما في تاريخ الطبري مضبوطًا بالقلم. ولكني هنا أستدرك هذا، وأرجح أني كما ضبطته هنا: "البزيعة": الجارية الظريفة المليحة الذكية القلب. وقد ذكر شداد بن بزيعة عند زياد بن أبي سفيان في الشهود وهو (زياد بن سمية، وابن أبيه) فلما قيل: "ابن بزيعة" قال: ما لهذا أب ينسب إليه؟ ألقوا هذا من الشهود". فقيل له: إنه أخو حضين بن المنذر! قال: فانسبوه إلى أبيه. فبلغ ذلك شدادًا فقال: ويل علي ابن الزانية! أو ليست أمه أعرف منه بأبيه؟ والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية!! (تاريخ الطبري 6: 151) .

(6/256)


فإذْ كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل"المسوّمة" إلى أنها"المعلمة" بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها، أصحّ.
* * *
وأما الذي قاله ابن زيد: من أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى"المسوّمة"، بمعزِلٍ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ}
قال أبو جعفر: فـ" الأنعام" جمع"نَعَم"، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه: من الضّأن والمعِز والبقر والإبل. (1)
* * *
وأما"الحرث"، فهو الزّرع. (2)
* * *
وتأويل الكلام: زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن كذا، ومن كذا، ومن الأنعام والحرث.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جَل ثناؤه:"ذلك"، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة
__________
(1) في سورة الأنعام: 142-144.
(2) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240-243، 397.

(6/257)


والأنعام والحرث. فكنى بقوله:"ذلك" عن جميعهن. وهذا يدل على أن"ذلك" يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك.
* * *
وأما قوله:"متاع الحياة الدنيا"، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً، فيتبلَّغون به فيها، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم، وسببًا لقضاء شهواتهم، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم، (1) دون أن تكون عدّة لمعادهم، وقُرْبة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلِك في سبيله، وأنفق منه فيما أمَر به. (2)
* * *
وأما قوله:"والله عنده حسن المآب"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حُسن المآب = يعني: حسن المرْجع، كما:-
6750 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي:"والله عنده حسن المآب"، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة.
* * *
= وهو مصدر على مثال"مَفْعَل" من قول القائل:"آب الرجل إلينا"، إذا رجع،"فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا"، (3) غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من"الواو" إلى"الألف" بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، (4) وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت"ألفا"، كما قيل:"قال" فصارت عين الفعل"ألفًا"، لأن حظها الفتح."والمآب" مثل"المقال" و"المعاد" و"المجال"، (5)
__________
(1) في المخطوطة: "زين لهم حملها ... "، وهو من أوهام صاحبنا الناسخ.
(2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / ثم 3: 55 / ثم 5: 260.
(3) "أيبة" بفتح الهمزة وكسرها وسكون الياء، وهي على المعاقبة من الواو.
(4) في المخطوطة: "قلنا كان حظها ... " وهي من لطائف صاحبنا غفر الله له.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "المحال" بالحاء، والصواب ما أثبت.

(6/258)


قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

كل ذلك"مفعَل" منقولة حركة عينه إلى فائه، فمصيَّرةٌ واوه أو ياؤه"ألفًا" لفتحة ما قبلها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"والله عنده حسن المآب"، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب؟
قيل: إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس، ومعنى ذلك: (1) والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها.
* * *
فإن قال: وما"حسن المآب"؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: قل، يا محمد، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه:"أؤنبئكم"، أأخبركم وأعلمكم (2) ="بخير من ذلكم"، يعني: بخير وأفضل لكم ="من
__________
(1) في المخطوطة كتب"وبين" والواو متصلة بما بعدها، حتى ما تكاد تقرأ، والذي في المطبوعة لا بأس به في قراءة هذه الكلمة.
(2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف 1: 488، 489.

(6/259)


ذلكم"، يعني: مما زُيِّن لكم في الدنيا حبُّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا.
* * *
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام.
فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله:"من ذلكم"، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم، فقيل:"للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، فلذلك رفع"الجنات".
* * *
ومن قال هذا القول لم يجز في قوله:"جنات تجري من تحتها الأنهار" إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله:"بخير"، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى"الخير" الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: للناس: أؤنبئكم به؟ "والجنات" على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله:"للذين اتقوا عند ربهم".
* * *
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله:"للذين" من صلة"الإنباء"، جاز في"الجنات" الخفض والرفع: الخفضُ على الرد على"الخير"، والرفع على أن يكون قوله:"للذين اتقوا" خبرَ مبتدأ، على ما قد بيَّناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله:"عند ربهم"، ثم ابتدأ:"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار". وقالوا: تأويل الكلام:"قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم"، ثم كأنه قيل:"ماذا لهم". أو:"ما ذاك"؟ (1) فقال: هو"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار"، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بعد هذا، وقيل قوله: "فقال: هو جنات ... " ما نصه: "أو على أنه يقال: ماذا لهم؟ أو ما ذاك؟ " ومن البين أن هذا تكرار لا معنى له، وأنه من سهو الناسخ الكثير السهو. فمن أجل ذلك طرحته من المتن.

(6/260)


قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من جعل الاستفهام متناهيًا عند قوله:"بخير من ذلكم"، والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله:"للذين اتقوا عند ربهم جنات"، فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى"الخير" الذي قال: أؤنبئكم به؟ (1) فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله:"خالدين فيها"، فمنصوب على القطع (2)
* * *
ومعنى قوله:"للذين اتقوا"، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (3) ="عند ربهم"، يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم.
* * *
"والجنات"، البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى = وأنّ قوله:"تجري من تحتها الأنهار"، يعني به: من تحت الأشجار، وأن"الخلود" فيها دوام البقاء فيها، وأن"الأزواج المطهرة"، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أنبئكم به"، والصواب ما أثبت، وانظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 195-198.
(2) عند هذا انتهى آخر جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وأما قوله: {خالدين فيها} فمنصوب على القطع.
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطاهرين وسَلّم كثيرًا"
ويتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم".
"القطع"، يعني: الحال، كما بينت في 2: 392، والمراجع هناك، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. ثم انظر ما سيأتي: ص 270، تعليق: 3.
(3) انظر تفسير"اتقى" في فهارس اللغة مادة"وقى".

(6/261)


أذًى يكون بنساء أهل الدنيا، من الحيض والمنىّ والبوْل والنفاس وما أشبه ذَلك من الأذى = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"ورِضْوَانٌ من الله"، يعني: ورضى الله، وهو مصدر من قول القائل:"رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى" منقوص"ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً". فأما"الرُّضوان" بضم الراء، فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير = رضْوانَه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة، كما:-
6751 - حدثنا ابن بشار قال، حدثني أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون: أيْ ربنا، أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (2)
* * *
وقوله:"والله بصير بالعباد"، يعني بذلك: واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه، (3) فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى
__________
(1) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 1: 384 / ثم 5: 535، 542 = وتفسير"الخلود" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 286 / 4: 317 / 5: 429 = وتفسير"الأزواج المطهرة" فيما سلف 1: 395-397.
(2) الأثر: 6751- هذا خبر غير مرفوع، ولكن شاهده من المرفوع ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك! قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدًا".
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى حديث جابر في الفتح 11: 364، وقال: عند البزار وصححه ابن حبان". ولم أجد لفظه.
(3) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 2: 140، 376، 506 / ثم 5: 76، 167.

(6/262)


ذكره = وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زيِّن له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال، على ما عنده من النعيم المقيم = عالمٌ تعالى ذكره بكلّ فريق منهم، حتى يجازي كلَّهم عند معادهم إليه جزاءَهم، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
* * *

(6/263)


الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)

القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) }
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [الذين] يقولون:"ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار".
* * *
وقد يحتمل"الذين يقولون"، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على"الذين" الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها"الذين" الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) [سورة التوبة: 111] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [سورة التوبة: 112] . ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا. (1)
* * *
ومعنى قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا": الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها ="وقنا عذاب النار"،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 198.

(6/263)


الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
* * *
وأصل قوله:"قنا" من قول القائل:"وقى الله فلانًا كذا"، يراد: دفع عنه،"فهو يقيه". فإذا سأل بذلك سائلٌ قال:"قِنِى كذا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"الصابرين"، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ"الصادقين"، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ"القانتين"، المطيعين له.
* * *
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-
6752 - حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير"قنا" و"وقى" فيما سلف 4: 206.
(2) انظر تفسير"الصابرين" فيما سلف 2: 11 / ثم 3: 214، 349 = وتفسير"الصادقين" فيما سلف 3: 356 = وتفسير"القانتين" فيما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228-237.

(6/264)


قوله:"الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين"،"الصادقين": قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية ="والصابرين"، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه ="والقانتون"، هم المطيعون لله.
* * *
وأما"المنفقون"، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (1)
* * *
وأما"الصابرين" و"الصادقين"، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا"، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله:"الذين يقولون" خفض، ردًّا على قوله:"للذين اتقوا عند ربهم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك:
6753 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، هم أهل الصلاة.
6754 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: يصلون بالأسحار.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف: 5: 555، 580.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199.

(6/265)


وقال آخرون: هم المستغفرون.
ذكر من قال ذلك:
6755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (1)
6756 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
6757 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
6758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.
* * *
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
__________
(1) الأثر: 6755-"حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري، أبو عمر الحناط" روى عن الشعبي والحكم بن عتيبة، وروى عنه شريك، وابن نمير، ووكيع، قال ابن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم"ضعيف الحديث". وقال البخاري: "فيه نظر، ليس بالقوي عندهم". وعلق له البخاري في الأضاحي، مترجم في التهذيب. وأما "إبراهيم بن حاطب" فلم أجد له ولا لأبيه"حاطب" ترجمة، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو سقط، وأن يكون"حاطب" هذا، هو"حاطب بن أبي بلتعة" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأثر بنصه هذا في تفسير ابن كثير 2: 113، ولم يقل فيه شيئًا.

(6/266)


شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

ذكر من قال ذلك:
6759 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، (1) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ"المستغفرين بالأسحار"، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله:"والمستغفرين بالأسحار"، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
* * *
="بالأسحار" وهى جمع"سَحَر".
* * *
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم.
=فـ"الملائكة" معطوف بهم على اسم"الله"، و"أنه" مفتوحة بـ"شهد".
* * *
قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله:"شهد الله"، قضى الله، ويرفع"الملائكة"، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم. (2)
* * *
__________
(1) أخوه هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي"، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.
(2) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 89، ولم يسمه الطبري، بل قال"بعض البصريين". وانظر رد الطبري قوله في ص: 272.

(6/267)


وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من"أنه"، على ما ذكرت من إعمال"شهد" في"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إن" الثانية وابتدائها. (1) سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية، (2) كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ"أن الدين" على"أنه" الأولى، ثم حذف"واو" العطف، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) الآية. ثم قال:"أنّ الدين"، بكسر"إنّ" الأولى، وفتح"أنّ" الثانية بإعمال"شهد" فيها، وجعل"أن" الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها"شَهد" = وأن ابن مسعود قرأ:"شهد الله أنه لا إله إلا هو" بفتح"أن" وكسر"إنّ" من:"إنّ الدّين عند الله الإسلام" = على معنى إعمال"الشهادة" في"أن" الأولى، و"أن" الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. (3) فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته، خروجها من قراءة أهل الإسلام.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إنّ" الثانية، أعني من قوله:
__________
(1) يعني، في قوله في صدر الآية التالية: "إن الدين عند الله الإسلام".
(2) هو الكسائي، انظر معاني القرآن للفراء 1: 200 وتفسير القرطبي 4: 42، 43.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199-200.

(6/268)


"إنّ الدين عند الله الإسلام"، ابتداءً.
* * *
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح"أنّ" من قوله:"أنّ الدين"، وهو ما:-
6760 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، (1) قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام.
* * *
فهذا التأويل يدل على أن"الشهادة" إنما هي عاملة في"أنّ" الثانية التي في قوله:"أن الدين عند الله الإسلام". فعلى هذا التأويل جائز في"أن" الأولى وجهان من التأويل: (2)
= أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد = فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ="والشهادة" عاملة في"أن" الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم"لأنه واحد"، فتفتحها على ذلك التأويل.
= والوجه الثاني: أن تكون"إنّ" الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد
__________
(1) في المطبوعة: "فإن الله يشهد"، وفي المخطوطة: فأن الله يشهد"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "في أن في الأولى وجهان"، أما المخطوطة فقد وضع فوق"أن""في" صغيرة. كأنه أراد: "جائز في الأولى"، بحذف"أن"، لأنه لم يضع علامة تدل على الزيادة. فلذلك أسقطتها.

(6/269)


الله = فإنه لا إله إلا هو - والملائكة، أنّ الدين عند الله الإسلام، كقول القائل:"أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ"، فـ"إن" الأولى مكسورة، لأنها معترضة،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قائمًا بالقسط"، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.
* * *
"والقسط"، هو العدل، من قولهم:"هو مقسط" و"قد أقسط"، إذا عَدَل. (2)
* * *
ونصب"قائمًا" على القطع. (3)
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من"هو" التي في"لا إله إلا هو".
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم"الله" الذي مع قوله:"شهد الله"، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: (وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ) ، ثم حذفت"الألف واللام" من"القائم"، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، (4)
__________
(1) انظر بيان ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 200.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: 77.
(3) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.
(4) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.

(6/270)


على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لأن"الملائكة وأولي العلم"، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله:"قائمًا" حالا منه.
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. (1)
* * *
ويعني ب"العزيز"، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه (2) ="الحكيم" في تدبيره، فلا يدخله خَلل. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.
__________
(1) قوله: "العبودة" هو مصدر من"عبد" على وزن"شرف" يقال: "هو عبد بين العبودة والعبودية والعبدية" وقد استعملها الطبري بهذا المعنى فيما سلف 3: 347، وانظر التعليق هناك. وهو بمعنى الخضوع والتذلل، فكأنه استعمله هنا أيضًا بذلك المعنى، كأنه قال: فإنه نفي أن يكون شيء يستحق الخضوع له والتذلل، غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. وقد صرح ابن القطاع في كتاب الأفعال 2: 337 أن مصدر"عبد الله يعبده": "عبادة وعبودة وعبودية"، أي: خدم، وذل أشد الذل.
(2) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / ثم هذا ص: 168، 169 وفهارس اللغة (عزز) .
(3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف 3: 88، وفهارس اللغة (حكم) .

(6/271)


والمرادُ من الكلام، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه: (1) من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم، (2) منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق، (3) فقال: شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ = احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى.
* * *
واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، (4) كما قال جل ثناؤه: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [سورة الأنفال: 41] ، افتتاحًا باسمه الكلام، (5) فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.
* * *
فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله:"شهد"، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن"الشهادة"، معنًى،"والقضاء" غيرها. (6)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقدموه" كأنه أراد معنى: "البدء بذكره تعالى"، ولو كان كذلك لكان أجود أن يقول: "فقدموا ذكره"، ولكنى أستظهر من سياق كلامه معنى التنزيه، فلذلك رأيت أنها تصحيف قوله: "فقدسوه".
(2) سياق الكلام: فأعلمهم أن ملائكته. . . وأهل العلم منهم، منكرون. . .".
(3) قوله: "وقول من اتخذ ربًا غيره. . ." بنصب"وقول" عطفًا على قولهم"ما هم عليه مقيمون"، وهو مفعول به لقوله: "منكرون".
(4) في المطبوعة: "على ما نبينه"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها.
(5) معنى ذلك: أن ذكر"الله" في آية الأنفال هذه، إنما هي افتتاح كلام، قال أبو جعفر في تفسيرها (10: 3 بولاق) : "قال بعضهم: قوله: "فأن الله خمسه" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما. وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه". وهذا القول هو الذي رجحه الطبري في تفسير الآية هناك.
(6) هذا رد على مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن، كما سلف في ص: 267 تعليق: 2.

(6/272)


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك.
6761 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم"، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى ="قائمًا بالقسط"، أي بالعدل. (1)
6762 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط"، بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}
قال أبو جعفر: ومعنى"الدين"، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر: (2)
وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّ ... وَكَانَ النَّاسُ، إِلا نَحْنُ دِينَا (3)
__________
(1) الأثر: 6761- هو ما رواه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها فيما سلف رقم: 6649.
(2) لم أعرف قائله بعد.
(3) سيأتي في التفسير 26: 115 (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين) ، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت، ولم أعرف"يوم الحزن"، ما أراد به. وأظن"حشدت"، "حشرت" من"الحشر"، والبيت الذي يليه: عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ، حتَّى ... صَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَا
هكذا صححته هنا من معاني القرآن للفراء، تفسير سورة (ق) مخطوطة، وهو في المطبوعة من التفسير (26: 115) "صحبنا الخوف أكفًا" وهو كلام لا معنى له. وقد قال الطبري بعد هذا البيت هناك"ويروى: الحوف. وقال: أراد بالجبار: المنذر، لولايته" وصوابه"الجرف" فإذا كان ذلك كذلك، فأكبر ظني أنه كما أثبته"الجرف" (بضم الجيم وسكون الراء) : وهو موضع بالحيرة كانت به منازل المنذر.
وفي الطبري هناك"صحبنا" وهو خطأ. و"صبحنا"، من قولهم: "صبح القوم شرًا" أي جاءهم به، و"صبحتهم الخيل"، جاءتهم صبحًا. و"ألفًا" يعني: ألف فرس عليها فرسانها. و"المعلم": الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان، أو جعل على فرسه علامة، فهو فرس معلم. يريد: غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري"حرمة الجبار"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء، كما أسلفت.

(6/273)


يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:
كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (1)
يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ ... ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2)
يعني بقوله:"دان" ذلل = وبقوله:"كرهوا الدين"، الطاعة.
* * *
وكذلك"الإسلام"، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه:"أسلم" بمعنى: دخل في السلم، كما يقال:"أقحط القوم"، إذا دخلوا في القحط،
__________
(1) ديوانه: 15، من أبيات جياد وصف فيها صاحبته"أميمة"، وسماها"جنوب" في البيت الذي رواه الطبري، وسماها"نوار"، ويروى: "ظلوم"، فكان مما قال: رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ، بَعْدَ ما ... كانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا
""أي": تفعل بك الأفاعيل. ويقال: تستعبدك، أو: أنها كانت تعذبك. أو تدينك: تجزيك". وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌ ... شَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَا
فَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ، فَلاَ تُجِبْ ... فَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَا
نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةً ... وعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَا
وَإذَا وَعَدْنَ، فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍ ... خُلْفًا، وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَا
وَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً، ... فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا!
وهذا شعر بارع مقدم.
(2) مضى بيان هذا البيت فيما سلف 3: 571.

(6/274)


"وأربعوا"، إذا دخلوا في الربيع = فكذلك"أسلموا"، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. (1)
* * *
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله:"إنّ الدّين عند الله الإسلام": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6763 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الدين عندَ الله الإسلام"، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، (3) وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.
6764 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله:"إن الدين عند الله الإسلام"، قال:"الإسلام"، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له،
__________
(1) انظر تفسير"الإسلام" و"السلم" فيما سلف 2: 510، 511 / ثم 3: 73، 74، 92، 94، 110 / ثم 4: 251-255.
(2) في المطبوعة: "في العبودية والألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص: 271، تعليق: 1. و"الألوهة، والإلاهة، والألوهية": العبادة، وانظر ما سلف 1: 124 وما قبلها.
(3) قوله: "بما جاء به"، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، ولا تتم شهادة إلا به، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور 2: 12، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ.

(6/275)


وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.
6765 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أَسْلَمْنَا) [سورة الحجرات: 14] ، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب. (1)
6766 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الدين عند الله الإسلام"، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو"الكتاب" الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض ="إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم"، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (3) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ
__________
(1) الأثر: 6765- سيأتي في تفسير"سورة الحجرات" (26- 90 بولاق) ، بغير هذا اللفظ مطولا: "وأسلمنا: استسلمنا، دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال". وإسناده هو هو.
(2) الأثر: 6766 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وأسقط"من" من قوله: "من التوحيد". وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6761.
(3) انظر تفسير"البغي" فيما سلف 2: 342 / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف 4: 281، 282.

(6/276)


ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:-
6767 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم ="بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.
6768 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية:"إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، (1) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.
6769 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، (2) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى
__________
(1) في المطبوعة: "ما كان علينا من يكون بعد أن يأخذ فينا ... " حذف"علينا" الثانية فاختلط الكلام اختلاطًا، والصواب من المخطوطة. ومعناه: ما كان يضيرنا أن يكون علينا واليًا كائنًا من كان، بعد أن يقيم فينا كتاب الله وسنة رسوله؟
(2) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا، وفي الدر المنثور 2: 13، كأنه قال: استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها.

(6/277)


أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله:"إن الدّين عند الله الإسلام" إلى قوله:"والله بصير بالعباد".
* * *
فقولُ الربيع بن أنس هَذا، (1) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب"، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم. (2)
* * *
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك:
6770 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم"، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك ="بغيًا بينهم"، يعني بذلك النصارى. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول الربيع بن أنس هذا يدل ... "، وهو فاسد جدًا. فإن هذا قول الطبري وتعليقه على خبر الربيع. والصواب ما أثبت، كما هو ظاهر.
(2) قوله: "دون النصارى منهم" معناه: دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله: "وغيرهم"، أي: ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم 6768. وكان في المطبوعة: "دون النصارى منهم ومن غيرهم"، وهي جملة لا يستقيم معناها، فحذفت"من" لذلك.
(3) الأثر: 6770- رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6766، وقوله: "يعني بذلك النصارى"، ليس في ابن هشام، وكأنه من تفسير الطبري للخبر.

(6/278)


القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه"سريع الحساب"، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"سريع الحساب"، كان مجاهد يقول:
6771 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب"، قال: إحصاؤه عليهم.
6772 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، إحصاؤه.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الكفر" و"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) ، و (أبى) . وتفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207، وأيضًا: 274، 275 / ثم: هذا: 101، 102.

(6/279)