تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

القول في تأويل قوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، (1) فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. (2)
* * *
وأما قوله:"ومن اتبعني"، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و"من" معطوف بها على"التاء" في"أسلمت"، كما:-
6773 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فإن حاجُّوك" أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم:"خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا"، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق ="فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 201 / ثم 5: 429، 430.
(2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510-512، وتفسير"الإسلام" في مراجعه التي ذكرتها آنفًا ص: 275 تعليق: 1.
(3) الأثر: 6773 - رواه ابن هشام في سيرته 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6770.

(6/280)


القول في تأويل قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وقل"، يا محمد، = للذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى ="والأميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ="أأسلمتم"، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، (1) وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه ="فإن أسلموا"، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له ="فقد اهتدوا"، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. (2)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فإن أسلموا فقد اهتدوا" عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل:"هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك"؟
قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة: 91] ، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [سورة المائدة: 112] ، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل:"هل أنت
__________
(1) "الأشراك" جمع"شريك"، كما يقال: يتيم وأيتام وشريف وأشراف. وقياسه شركاء، مثل شرفاء.
(2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف في فهارس اللغة. وتفسير"الأميين" فيما سلف: 257-259، والأثر رقم: 5827، وفي كلام الطبري نفسه 5: 441، تعليق: 2.

(6/281)


كافٌّ عنا"؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل:"أينَ، أين"؟ بمعنى: أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا) [سورة الصف: 10، 11] ، ففسرها بالأمر، (1) وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله:"هل أدلكم"، وفي قراءة عبد الله على قوله:"آمنوا"، على الأمر، لأنه هو التفسير. (2)
* * *
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل:
6774 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، الذين لا كتاب لهم ="أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا" الآية. (3)
6775 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، قال: الأميون الذين لا يكتبون.
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1: 202"ففسر (هل أدلكم) بالأمر"، وما هاهنا شبيه بالصواب أيضًا. هذا، وقراءتنا في مصحفنا"تؤمنون بالله" مكان"آمنوا" في قراءة عبد الله.
(2) هذا نص ما في معاني القرآن للفراء 1: 202.
(3) الأثر: 6774- ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6773.

(6/282)


القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن تولوا"، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، (1) فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي ="والله بصيرٌ بالعباد"، (2) يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "إن الذين يكفرون بآيات الله"، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:-
6776 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا،
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298، 299 / ثم 3: 115، 131 / ثم 4: 237.
(2) انظر تفسير"بصير بالعباد" فيما سلف آنفًا: 262. والمراجع في التعليق: 3.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناءه" والسياق يقتضي ما أثبت.

(6/283)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

من اليهود والنصارى فقال:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ" إلى قوله:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء". (1)
* * *
وأما قوله:"ويقتلون النبيين بغير حقّ"، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) ، بمعنى القتل.
* * *
وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: (وَيُقَاتِلُونَ) ، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: (وَقَاتَلُوا) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: (وَيُقَاتِلُونَ) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه:"ويقتلون"، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، (3) مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.
__________
(1) الأثر: 6776- ابن هشام 2: 227 من بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6774.
(2) انظر تفسير"يقتلون النبيين بغير الحق" فيما سلف 2: 140-142.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وهي عبارة لا أرتضيها، وأظن صوابها"لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به". وانظر معاني القرآن للفراء 1: 202 في بيان قراءة الكسائي هذه.

(6/284)


ذكر من قال ذلك:
6777 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [قومهم]- ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، (1) فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم.
6779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، (2) فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6780 - حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟
__________
(1) هكذا نص الطبري، ونقله كذلك في الدر المنثور 2: 13 وزدت منه ما بين القوسين. ومعنى عبارته أن الوحي كان يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل، كما هو بين في الروايات الأخرى، التي رواها البغوي في تفسيره (هامش ابن كثير) 2: 117، 118، والقرطبي 4: 46.
(2) قوله: "كان ناس من بني إسرائيل. . . كان الوحي يأتي إليهم" بحذف خبر"كان" الأولى، عبارة فصيحة محكمة في العربية، قد نبهت إلى مثلها مرارًا فيما سلف.

(6/285)


قال:"رجل قتل نبيًّا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس" (1) إلى أن انتهى إلى"وما لهم من ناصرين"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 13"الذين يقتلون النبيين"، وفي غيرها"ويقتلون" وأثبت ما جاء في رواية ابن أبي حاتم، فيما أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 118، وهو نص التلاوة.
(2) الأثر: 6780-"أبو عبيد الوصابي: محمد بن حفص الحمصي" مضت ترجمته برقم: 129 (وانظر ما سيأتي رقم: 7009) ، وكان هناك في الإسناد"حدثني أبو عبيد الوصابي، قال حدثنا محمد بن حفص" فرجح أخي السيد أحمد أن يكون خطأ، وقد أصاب، وكان الأجود حذف"قال حدثنا" من ذلك الإسناد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر" والصواب من تفسير ابن كثير 2: 118."وابن حمير" هو: "محمد بن حمير بن أنيس القضاعي"، روى عن إبراهيم عن أبي عبلة، ومحمد بن زياد الألهاني، ومعاوية بن سلام وغيرهم. سئل عنه أحمد فقال: "ما علمت إلا خيرًا"، وقال ابن معين: "ثقة" وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وكان في المطبوعة: "ابن حميد" بالدال، وهو خطأ، صوابه من ابن كثير، والبغوي بهامشه: 2: 118. وهو مترجم في التهذيب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذكر أبا عبيد الوصابي هذا فقال: "أدركته وقصدت السماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". أما "أبو الحسن مولى بني أسد"، فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 6: 364 قال؛: "أبو الحسن الأسدي" حدثنا عنه أبو كريب. مجهول، انتهى. ولم ينفرد عنه أبو كريب، بل روى عنه محمد بن حمير. وقال في روايته"مولى بني أسد، عن مكحول"، أخرج حديثه الطبري وابن أبي حاتم، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه". هذا وقد خرجه البغوي من طريق محمد بن عمرو بن حنان الكلبي، عن محمد بن حمير" (بهامش تفسير ابن كثير 2: 118) .

(6/286)


القول في تأويل قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فبشِّرهم بعذاب أليم"، فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع. (1)
* * *
وأما قوله:"أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم ="الذين حبطت أعمالهم"، يعني: بطلت أعمالهم (2) ="في الدنيا والآخرة". فأما في الدنيا، (3) فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
* * *
وأما قوله:"وما لهم من ناصرين"، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه. (4)
* * *
__________
(1) انظر معنى"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 = ثم تفسير: "أليم" فيما سلف 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330.
(2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فأما قوله: في الدنيا ... "، وحذفت قوله، لأني أرجح أنها سبق قلم من الناسخ، لأن سياق كلامه وسياق قوله بعد: "وأما في الآخرة" يقتضي حذفها.
(4) انظر معنى"نصر" فيما سلف 2: 35، 36، 489، 564 / ثم 5: 581.

(6/287)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد (1) ="إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب ="يدْعون إلى كتاب الله". (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي عنى الله بقوله:"يدعون إلى كتاب الله".
فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.
ذكر من قال ذلك:
6781 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، (3) والحارث
__________
(1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / ثم 5: 429، 430.
(2) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "نعيم بن عمرو" وكذلك جاء في تفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، ولكن الذي جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2: 201، "نعمان بن عمرو"، وكذلك جاء ذكره قبل ذلك في أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيرة ابن هشام 2: 161، وكذلك جاء أيضًا فيما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 14، ونسبه إلى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!!

(6/288)


ابن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال:"على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، (1) فأنزل الله عز وجل:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون" إلى قوله:"ما كانوا يفترون".
6782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس = فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة (2) = وقال أيضًا: فأنزل الله فيهما:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" = وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. (3)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ.
ذكر من قال ذلك:
6783 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم
__________
(1) في المطبوعة: "فأبوا عليه"، وهو تصرف من سوء رأي الناشر الأول، والصواب من المخطوطة، وسائر المراجع المذكورة في التعليق على الأثر التالي.
(2) "فهلما"، يعني بالتثنية، وأما الرواية السالفة"فهلموا" جميعًا. وجاء في مطبوعة سيرة ابن هشام 2: 201"فهلم" مفردة، وهو خطأ، فإن النسخة الأوروبية من سيرة ابن هشام، التي نشرت عنها طبعة الحلبي هذه، نصها"فهلما". فوافقت رواية الطبري. فهذا تحريف آخر من الطابعين!! وانظر إلى دقة أبي جعفر الطبري في إثبات الاختلاف اليسير في الرواية، وإلى استخفاف الناشرين من أهل دهرنا في إهمال ما هو مكتوب مرقوم بين أيديهم وتحت أبصارهم!!
(3) الأثران: 6781، 6782 - سيرة ابن هشام 2: 201، وتفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، والدر المنثور 2: 14.

(6/289)


ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، أولئك أعداء الله اليهود، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.
6784 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون!
6785 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم"، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. (1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود = الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة = أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة" ... بالحق يكون وفي الحدود"، وفي الدر المنثور 2: 14"بالحق وفي الحدود" بإسقاط"يكون"، وكلتاهما لا أراها تستقيم، وأنا أرجح أن صواب السياق يقتضي أن تكون: "بالحق يكون في الحدود" بحذف الواو. فقد جاء في رواية ابن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن الآية نزلت في أمر اليهودي واليهودية من أهل خيبر، فزنيا، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فرفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم برجمهما، فقالت الأحبار: ليس عليهما الرجم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيني وبينكما التوراة. فلما جاءوا بالتوراة، وانتهوا إلى آية الرجم، وضع ابن صوريا يده عليها وقرأ ما بعدها. والخبر مشهور. ثم إن كلام الطبري بعد مرجح لما قلت: وذلك قوله بعد: "ويجوز أن يكون ذلك كان في حد".

(6/290)


تنازعوا فيه، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته = ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه = ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به = ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم.
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، (1) فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، (2) هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.
* * *
ومعنى قوله:"ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، (3) ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: "على أن ذلك كان من أبى"، وهو مثله، والصواب ما أثبت. والمعنى: ولا دلالة في الآية على تعيين أحد هذه الأسباب، وأيها هو الذي كان. وهذا تعبير قد سلف مرارًا في كلام الطبري، انظر 1: 520"ولو كان في العلم بأي ذلك من أي رضًا، لم يخل عباده من نصب دلالة عليها ... " و 2: 517"إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ... " و 3: 64"ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي".
(2) في المطبوعة: "الذي دعوا إليه جملته"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "الذي دعوا إلى حمله" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، لأن الآية دالة عليه، وذلك قوله تعالى: "يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم" ولأن السياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي، بعد، س: 13 ما يدل على صواب ذلك أيضًا.
(3) انظر معنى"التولي" فيما سلف ص: 144 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر معنى"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299.

(6/291)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

وإنما قلنا إن ذلك"الكتاب" هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطعَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) }
يعني جل ثناؤه بقوله:"بأنهم قالوا"، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: (1) "لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات" = وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل (2) = ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم ="بما كانوا يفترون"، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. (3) فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.
* * *
__________
(1) قوله: "من أجل قولهم" تفسير لمعنى الباء في قوله: "ذلك بأنهم قالوا"، وانظر تفسير ذلك وبيانه فيما سلف 2: 139 في تفسير قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله".
(2) انظر تفسير قولهم: "لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة" فيما سلف 2: 274-278.
(3) التحلة (بفتح التاء وكسر الحاء، وتشديد اللام المفتوحة) : هو ما تكفر به يمينك. ويقال: "لم يفعل هذا الأمر إلا تحلة القسم": أي لم يفعله إلا بمقدار ما يحلل به قسمه ويخرج منه، غير مبالغ في ذلك الفعل. والمعنى: أن النار لا تمسهم إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف.

(6/292)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6786 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا = قال الله عز وجل:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، أي قالوا:"نحنُ أبناء الله وأحباؤه".
6787 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود = قال: وقال قتادة مثله = وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل:"وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، حين قالوا:"نحن أبناد الله وأحباؤه".
6788 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، قال: غرّهم قولهم:"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات".
* * *

(6/293)


فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فكيف إذا جمعناهم"، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله:"فكيف إذا جمعناهم" الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه"، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟
قيل: لمخالفة معنى"اللام" في هذا الموضع معنى "في". وذلك أنه لو كان مكان"اللام""في"، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول"اللام"، ولكن معناه مع"اللام": فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع"اللام" في"ليوم لا ريب فيه" نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد
__________
(1) انظر ألفاظ هذه الآية مفسرة فيما سلف، واطلبها في فهارس اللغة من الأجزاء الماضية.

(6/294)


قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول"اللام" في"اليوم" عليه، منه. (1) وليس ذلك مع"في"، فلذلك اختيرت"اللام" فأدخلت في"اليوم"، دون"في". (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وعنى بقوله:"ووُفِّيت"، ووَفَّى الله ="كلُّ نفس ما كسبت"، يعني: ما عملت من خير وشر (4) ="وهم لا يظلمون"، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ}
قال أبو جعفر: أما تأويل:"قل اللهم"، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب"ميم""اللهم"، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ = وفي دخول"الميم" فيه، وهو في الأصل"الله" بغير"ميم".
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قد ترك ذكره أخيرًا بدلالة دخول اللام في اليوم عليه منه"، وهو كلام خلو من المعنى، والظاهر أن الناسخ رأى تاء"أجزأت" متصلة بدال"دلالة"، فجعلها، "بدلالة" وجعل"أجزأ""أخيرًا" فذهب الكلام هدرًا ولغوًا. وسياق العبارة كما أثبتناها: "أجزأت منه دلالة دخول اللام في اليوم" فأخر"منه" على عادته في تأخير مثل ذلك في كل كلامه.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 202، 203، وعبارته هناك."تقول في الكلام: جمعوا ليوم الخميس، وكأن اللام لفعل مضمر في"الخميس"، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس = لم تضمر فعلا. وقوله: جمعناهم ليوم لا ريب فيه = أي للحساب والجزاء".
(3) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 221.
(4) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 101، 128 / 4: 449 / 6: 131.

(6/295)


فقال بعضهم: إنما زيدت فيه"الميمان"، لأنه لا ينادى بـ"يا" كما ينادى الأسماء التي لا"ألف" فيها ولا"لام". وذلك أن الأسماء التي لا"ألف" ولا"لام" فيها تنادى بـ"يا" كقول القائل:"يا زيد، ويا عمرو". قال: فجعلت"الميم" فيه خلفًا من"يا"، كما قالوا:"فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، (1) وُسْتهُم"، (2) وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه"ميم". قال: فكذلك حذفت من"اللهم""يا" التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت"الميم" خلفًا منها في آخر الاسم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"ودم، وهم"، والأولى"ودم" خطأ لا شك فيه، وسيأتي صوابه بعد أسطر، حين عاد فذكر الثلاثة جميعًا: "فم، وابنم، وهم"، على تصرف المطبوعة هناك في نص المخطوطة، ليوافق الذي كتبه هنا.
أما قوله: "وهم"، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن 1: 203، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن، فإذا هي كذلك"وهم"، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها، فعلقوا بما نصه: (كأنه يريد"هم" الضمير، وأصلها"هوم"، إذ هي جمع"هو"، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر) ، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي: (قوله: "ودم" كذا في النسخ، والكلمتان دم، وهم، لعلهما محرفتان عن: ابنم، ودلهم، أو دلقم، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم، وذكرها السيوطي في المزهر 2: 135) .
والذي قاله ناشرو معاني القرآن، لا يقوم، لأن الميم في هم، وإن كانت زائدة من وجه، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في"فم" و"ابنم"، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن"دلهم أو دلقم"، فليس بشيء، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه، وعجيب أن يتفق تصحيفها، وتصحيف نسختين من معاني القرآن، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها، وقد استقصيت أمرها ما استطعت، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) "زرقم، وستهم" (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله، زيدت الميم في آخره. وكذلك"رجل ستهم وامرأة ستهم": أسته، وهو العظيم الاست، الكبير العجز، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة: لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ ... وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ

(6/296)


وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي:"اللهم" بـ"يا" كما تناديه ولا"ميم"، فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه، لم تدخل العربُ"يا"، وقد جاءوا بالخلف منها. (1) وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب:
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (2)
ويُرْوَى:"سبَّحت أو كبَّرت". قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه"الميم" إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل:"الفم، وابنم، وهم"، (3) قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها"أمَّ"، بمعنى:"يا ألله أمَّنا بخير"، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في"الهاء" من همزة"أم"، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب:"هلم إلينا"، مثلها. إنما كان"هلم"،"هل" ضم إليها"أمّ"، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح"الميم":"يا اللهُ اغفر لي" و"يا أللهُ اغفر لي"، بهمز"الألف" من"الله" مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها"ألف ولام"، مثل"الألف واللام" اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف،
__________
(1) في المطبوعة: "لم تدخله العرب يا"، وفي المخطوطة: "لم تدخله العرسه يا"، وهذا من عجلة الناسخ، فرددتها جميعًا إلى أصلهما.
(2) لم يعرف قائله، والأبيات في معاني القرآن للفراء 1: 203، والجمل للزجاجي: 177 والإنصاف: 151، والخزانة 1: 359، واللسان (أله) وغيرها من كتب العربية والنحو، ومختلف من روايته، وجاءوا به شاهدًا على زيادة"ما" بعد"ياللهم" فروايته عند بعضهم"يا اللهم ما"، وبعد الأبيات زيادة زادها الكوفيون: مِنْ حَيْثُمَا وَكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا ... فإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نَعْدَمَا
(3) في المطبوعة: "مثل فم ودم وهم"، وأثبت نص المخطوطة، وهو موافق لنص الفراء في معاني القرآن 1: 203، وهو نص كلامه.

(6/297)


إذ كانت لا تسقط منه، وأنشدوا في همز الألف منها:
مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ ... عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (1)
قالوا: وقد كثرت"اللهم" في الكلام، حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا: (2)
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (3)
والرواة تنشد ذلك:
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
__________
(1) لم يعرف قائله، والبيتان في معاني القرآن 1: 203؛ والإنصاف: 150، واللسان (أله) .
(2) هو الأعشى.
(3) ديوانه: 193، ومعاني القرآن 1: 203، والخزانة 1: 345، واللسان (أله) ، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر، وكانت بينه وبينهم نائرة، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة: أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا ... أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
بَادُوا، فلمَّا أنْ تآدَوْا ... قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ
كَحَلْفةٍ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أودى بها: أهلكها وذهب بها. وقوله: "فلما أن تآدوا" من قولهم: "تآدى القوم تآديًا وتعادوا تعاديًا": تتابعوا موتًا. وأصله من آدى الرجل: إذا كان شاك السلاح قد لبس أداة الحرب، يعني أخذوا أسلحتهم فتقاتلوا حتى تفانوا. ومن شرح البيت"تآدوا" بمعنى تعاونوا وكثروا، فقد أخطأ، وذهب مذهبًا باطلا. يقول: لما هلكت إرم ودعاد، أتت على آثارهم ثمود، و"قدار" هو عاقر الناقة من ثمود فسموا القبيلة باسمه، إذ كان سببًا في هلاكهم إذ دمدم عليهم ربهم فسواها. وأبو رياح (بياء تحتية) رجل من بني ضبيعة، كان قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة جارًا لهم، فسألوه أن يحلف، أو يعطي الدية؛ فحلف لهم، ثم قتل بعد حلفته. فضربته العرب مثلا لما لا يغني من الحلف. وفي المطبوعة"رباح" بالباء الموحدة، وهو خطأ، وهذا البيت الأخير، جاء في هذا الموضع من الشعر في ديوانه، ولكن الأرجح ما رواه أبو عبيدة في قول الأعشى لبني جحدر: أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ ... إِلاّ عِرَارًا، فَذَا عِرَارُ
والعرار: القتال. يقول: أقسمتم أن لا تعطونا إلا بعد قتال، فهذا هو القتال، قضى عليكم كما قضيت على أبي رياح حلفته الكاذبة إذ سمعها ربه الأكبر. والكبار (بضم الكاف) صيغة المبالغة من"كبير".

(6/298)


وقد أنشده بعضهم: (1) يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-
6789 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"قل اللهم مالك الملك"، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك. (3)
* * *
وأما قوله:"تؤتي الملك ممن تشاء"، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله:"وتنزع الملك من تشاء"، يعني: وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، (4)
__________
(1) قال الفراء: "وأنشدني الكسائي".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يسمعها الله والكبار"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء 1: 203، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة: "يسمعها الواحد الكبار".
(3) الأثر: 6789- سيرة ابن هشام 2: 227، ونصه: "أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره"، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6776.
(4) سقط من المطبوعة: "يعني: وتنزع الملك ممن تشاء"، فأثبتها من المخطوطة.

(6/299)


فترك ذكر"أن تنزعه منه"، اكتفاءً بدلالة قوله:"وتنزع الملك ممن تشاء"، عليه، كما يقال:"خذ ما شئتَ = وكنْ فيما شئت"، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار: 8] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك. (1)
* * *
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (2)
ذكر من قال ذلك:
6790 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى"إنك على كل شيء قدير".
6791 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.
* * *
وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى"الملك" في هذا الموضع: النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
6792 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، قال: النبوّة.
__________
(1) ما سلف مختصر ما في معاني القرآن للفراء 1: 204-205، وقد وفاه حقه.
(2) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148، 149 / 2: 488 / 5: 312، 315، 371.

(6/300)


6793- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وتعز من تشاء"، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له ="وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه ="بيدك الخير"، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-
6794 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"تؤتي الملك من تشاء"، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (1) ="إنك على كل شيء قدير"، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (2)
* * *
__________
(1) نص روايته ابن هشام: "أي: لا إله غيرك".
(2) الأثر: 6794- سيرة ابن هشام 2: 227 وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6789.

(6/301)


تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

القول في تأويل قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تولج" تُدْخل، يقال منه:"قد ولَج فلان منزله"، إذا دخله،"فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً" (1) - و"أولجته أنا"، إذا أدخلته.
* * *
ويعني بقوله:"تولج الليل في النهار" تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا ="وتولج النهارَ في الليل"، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:-
6795 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل"، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.
6796 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. (2)
6797 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في
__________
(1) قوله: "ولجا" مصدر لم تذكره كتب اللغة. وقوله"لجة" بوزن"عدة وزنة".
(2) الأثر: 6798-"حفص بن عمر العدني"، مترجم في الكبير 1 / 2 / 362، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 182. وقد مضى هذا الإسناد برقم: 533، 1406، وسيأتي أيضًا برقم: 6814، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حفص عن عمر"، وهو خطأ.

(6/302)


الليل" قال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان = أو: يتعاقبان، شك أبو عاصم = ذلك من الساعات. (1)
6798 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات.
6799 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر.
6801 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6802 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، (2) سمعت الضحاك يقول في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.
__________
(1) في المطبوعة: "ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر، متعاقبان ... " بزيادة"يدخل" وليست في المخطوطة، وانظر الأثر التالي. وقوله"يعتقبان" في المخطوطة: "معتقبان" غير منقوطة، وهو تحريف، والذي في المطبوعة تصرف لا معنى له.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير.

(6/303)


6803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هذا طويل وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ".
ذكر من قال ذلك:
6804 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
6805 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.
6806 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

(6/304)


6807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، فذكر نحوه.
6808 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.
6809 - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله."تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة. (1)
6810 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.
6811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ" الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك = قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة. (2)
__________
(1) الأثر: 6809 -"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، ثقة. روى عن أشعث بن عبد الله السجستاني، وروى عنه الأربعة، والطبري وغيرهم، مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم: 6255. وكان في المطبوعة: "حدثني محمد بن عمرو، وابن علي، عن عطاء المقدمي"، وفي المخطوطة: "محمد بن عمرو بن علي، عن عطاء المقدمي"، وكلاهما خطأ، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر: 6811-"يزيد بن عويمر"، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف لم أهتد إليه.

(6/305)


6812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء ="وتخرج الميت من الحيّ"، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا ="وتُخرج الميت من الحيّ"، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض".
ذكر من قال ذلك.
6813 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله:"تخرج الحي من الميت"، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ.
6814 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله."تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن".
ذكر من قال ذلك:
6815 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.

(6/306)


6816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن في قوله:"تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (1)
6819 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن. (2)
6820 - حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود = وأكبر ظني أنه عن سلمان = قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، (3) فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، (4) فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (5)
__________
(1) سقط من الترقيم 6817، 6818.
(2) الأثر: 6819-"سعيد بن عمرو"، لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون سقط من إسناده شيء، وأن صوابه"عبد الوارث بن سعيد، عن ... ". وعبد الوارث مترجم فيما سلف رقم: 2154.
(3) في المخطوطة: "ثم قال بعده فيه"، خطأ؛ وقوله: "قال بيده"، أي حرك يده.
(4) في المخطوطة-: "ثم خلط بينهما وقال. . . فمن ثم يخرج"، وبين الكلام بياض، وأتمته المطبوعة من الدر المنثور.
(5) الأثر: 6820-"بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي" من شيوخ أحمد وإسحاق. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". مترجم في التهذيب. و"سليمان التيمي"، هو: "سليمان بن طرخان التيمي"، روى عن أنس بن مالك وطاوس، ثقة. مترجم في التهذيب."وأبو عثمان" هو"أبو عثمان الصنعاني: شراحيل بن مرثد"، روى عن سلمان وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة وكعب الأحبار. قال ابن حبان في الثقات: "صاحب الفتوح، يروي المراسيل" وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 15، ونسبه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وأبو الشيخ في العظمة، (أخرج مثله، ونسبه لابن مردويه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) .

(6/307)


6821 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة، (1) فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! (2) وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. (3) قال: سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً، وكان أبوها كافرًا. (4)
6822 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك. (5)
* * *
__________
(1) قوله: "حسنة النعمة"، في المطبوعة: "النغمة" بالغين المعجمة، وهو خطأ، والنعمة (بفتح النون وسكون: العين) المسرة والفرح والترفه، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة: "حسنة الهيئة".
(2) في المطبوعة: "بهذه البلد"، وتاء"البلدة" في المخطوطة شبكت في دالها، واختلطت بها لام"لغرائب"، والذي أثبته هو نص ما في الإصابة، وفي ابن سعد"بهذه الأرض".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "خلدة ابنة الأسود"، وأخشى أن يكون أصلها"خالدة" كما في سائر الكتب، ورسمت بحذف الألف كما كانوا يكتبون قديمًا. وهي خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم"آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فهو أخت يغوث بن وهب. أما الأسود بن يغوث، فهو أحد المستهزئين حنى جبريل ظهره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله: "خالي! خالي! "، فقال جبريل: "دعه عنك! "، فمات الأسود.
(4) الأثر: 6821- رواه ابن سعد في الطبقات 8: 181، وذكر طرقه الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"خالدة بنت الأسود".
(5) الأثر: 6822-"محمد بن سنان الفزاز" سلفت ترجمته برقم: 1999، 2056، و"أبو بكر الحنفي"، هو"عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك البصري"، روى عنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن بشار، ثقة. مترجم في التهذيب."وعباد بن منصور الناجي"، روى عن عكرمة، وعطاء والحسن، والقاسم بن محمد وغيرهم. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر رقم: 6827 فيما يلي.

(6/308)


قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب، تأويلُ من قال:"يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة = وذلك إخراجُ الحيّ من الميت = ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء = وذلك إخراج الميت من الحيّ".
وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة: 28] .
* * *
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن = فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالتشديد، وتثقيل"الياء" من"الميت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت.
* * *

(6/309)


وقرأت جماعة أخرى منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بتخفيف"الياء" من"الميْت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات، دون الشيء الذي لم يمت، ويُخرج الشيء الميت، دون الشيء الذي لم يمت، من الشيء الحي.
* * *
وذلك أن"الميِّت" مثقل"الياء" عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات.
وأما"الميْت" مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا:"إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون". وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال:"هو الجائد بنفسه = والطائبة نفسه بذلك"، وإذا أريد معنى الاسم قيل:"هو الجوادُ بنفسه = والطيِّبة نفسه". (1)
* * *
قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد"الياء" من"الميِّت". لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل ="ويخرج الميِّت من الحيّ" النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في"الميت" 3: 318، 319، وهذا البيان عن معناه هنا، أجود مما تجده في كتب اللغة.

(6/310)


القول في تأويل قوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، (1) بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، (2) كما:-
6823 - حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وترزق من تشاء بغير حساب"، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، (3) أو أنه لك ولدٌ = وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:-
6824 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهارَ في الليل وتخرجُ الحيّ من الميِّت وتخرج الميِّت من الحيّ"، أي: بتلك القدرة = يعني: بالقدرة التي تؤتي
__________
(1) انظر معنى"الرزق" فيما سلف 4: 274 / 5: 43، 44.
(2) انظر تفسير"بغير حساب" فيما سلف 4: 274، 275.
(3) في المطبوعة: "واتخذوه" والصواب من المخطوطة.

(6/311)


الملك بها من تشاء وتنزعهُ ممن تشاء ="وترزُق من تشاء بغير حساب"، لا يقدر على ذلك غيرُك، ولا يصنعه إلا أنت. أي: فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله =: من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لتجعله آية للناس، (1) وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكُ الملوك، (2) وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت، (3) وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة: أنْ لو كان إلهًا، (4) لكان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرُب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! ! (5)
* * *
__________
(1) نص ابن هشام: "لأجعله آية للناس".
(2) في المطبوعة: "كتمليك الملوك"، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(3) في ابن هشام: "بأمر النبوة".
(4) في المطبوعة: "فلم يكن"، وأثبت ما في ابن هشام وفي مطبوعة الحلبي من السيرة"أفلم تكن" من إحدى نسخه، وهي جيدة. وفي مطبوعة الطبري: "إذ لو كان إلهًا ... "، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(5) الأثر: 6824- سيرة ابن هشام 2: 227، 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6794.

(6/312)


لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

القول في تأويل قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}
قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر"يتخذِ"، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر"الذال" منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. (1)
* * *
ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، (2) وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك ="فليس من الله في شيء"، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ="إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:-
6825 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاةً".
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 205.
(2) انظر تفسير"الولي" و"الأولياء" فيما سلف 2: 489، 564 / ثم: 5: 424 / 6: 141، 142 = والقول في"من دون" فيما سلف 2: 489.

(6/313)


6826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر، (1) وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم، فأنزل الله عز وجل:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى قوله:"والله على كل شيء قدير". (2)
6827 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين. (3)
6828 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، أما"أولياء" فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه = إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين.
6829 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) في المطبوعة: "بن زبير"، وصححته من سيرة ابن هشام، ومن ترجمته في الإصابة. وتسميته"رفاعة بن عبد المنذر"، ولكن هكذا جاء هنا، وكذلك في تفسير البغوي، وأظنه خطأ، فلم يذكروا ذلك في ترجمته.
(2) الأثر: 6826- لم أجده في سيرة ابن هشام التي بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق. وقوله: "بطنوا بنفر من الأنصار"، يقال: "بطن فلان بفلان يبطن بطونًا وبطانة" إذا كان خاصًا به، ذا علم بداخلة أمره، مؤانسًا له، مطلعًا على سره، ومنه المباطنة.
(3) الأثر: 6827- انظر التعليق عل الأثر السالف رقم: 6822.

(6/314)


عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
6830 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله.
6831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة. (1)
6832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6833 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل.
6834 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان.
6835 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة
__________
(1) خالق الناس يخالقهم مخالقة: عاشرهم على أخلاقهم، مثل"تخلق"، أي: تصنع وتجمل وتحسن.

(6/315)


الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.
* * *
وقال آخرون: معنى:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.
ذكر من قال ذلك:
6836 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله:"إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، (1) الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.
6837 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء"، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك.
6838 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة= فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع"تقاة"، وهي في المخطوطة: "تقية" بتشديد الياء بالقلم، وكذلك أثبتها، وهي إحدى القراءتين كما سيذكر الطبري بعد.

(6/316)


معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) ، على تقدير"فُعَلة" مثل:"تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة"، من"اتقيت".
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً) ، على مثال"فعيلة".
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها:"إلا أن تتقوا منهم تُقاة"، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب = (1) يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128.

(6/317)


قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ="إن تخفوا ما في صدوركم" من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه ="يعلمه الله"، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:-
6839 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال:"إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه".
* * *
وأما قوله:"ويعلم ما في السموات وما في الأرض"، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
* * *
وأما قوله:"والله على كل شيء قدير"، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
* * *

(6/318)


يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

القول في تأويل قوله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا،"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا" = يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
* * *
وكان قتادة يقول في معنى قوله:"محضرًا"، (1) ما:-
6840 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا"، يقول: موفَّرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك: (2) واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع:"واتقوا يوم كذا، وحين كذا".
* * *
وأما"ما" التي مع"عملت"، فبمعنى"الذي"، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع"تجد" عليه. (3) وأما قوله:"وما عملت من سوء"، فإنه معطوف على قوله:"ما" الأولى، و"عملت" صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل:"تود". (4)
__________
(1) هذا المعنى قلما تصيبه في كتب اللغة، فأثبته فيها.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(3) الوقوع: التعدي، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قيل تود"، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 206، ونص كلامه: "وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما) ، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) "، ويعني بذلك أن جملة"تود" مفعول ثان لقوله: "تجد"، كما كان"محضرًا" مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره.

(6/319)


فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا
* * *
"والأمد" الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ ... عُمْرِ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (1)
يعني: غاية أجله. وقد:-
6841 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، مكانًا بعيدًا.
6842 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أمدًا بعيدًا"، قال: أجلا.
6843 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا
__________
(1) ديوانه: 112، وهذه رواية الطبري، وكان يروي ديوان الطرماح، وقرأه بالمسجد الجامع بمصر، وأملاه على الناس، وشرح غريبة. ولا أدري أأخطأ أم عنده رواية أخرى غير التي وصلتنا، فالشعر في ديوانه كما يلي: بعد أن ذكر دار صاحبته، وما بقي بها من النؤى والرماد: تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا ... فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ
وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ ... إلى اليَوْمِ، يَوْمُهُ وغَدُهْ
لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ، ... وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ
كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ، ... وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ
وقوله: "شعبًا"، أي متفرقون، واستمرت: اشتدت وأحكمت عقدة حبال الدهر، فلم يعد له أمل في اجتماع أحبابه بعد الفراق. وقوله: "لا يليثان"، من ألاثه يليثه: أخره، وهو من"اللوث"، وهو البطء والتأخير. يقول: إن اختلاف الأيام من يوم وغد، لا يؤخران أجل المرء وإن طال عمره، حتى يفنياه ويذهبا به. وقوله: "مود" أي: هالك، إذا انقضى عدد أيامه وأكله في هذه الحياة الدنيا.

(6/320)


عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: (2) تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-
6844- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "خطيئته" وفي المخطوطة: "حطيته" هكذا نقطت، ورأيت الصواب أن أقرأها كما أثبتها.
(2) في المطبوعة: "ومن رأفته بهم"، وفي المخطوطة: "وأرض رأفته بهم"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) الأثر: 6844-"والحسن"، هو الحسن البصري بلا ريب، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره 2: 125، والسوطي في الدر المنثور 2: 17، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن الحسن"، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما "عمرو"، فلم أستطع أن أقطع من يكون، فمن روى عن الحسن، ممن اسمه"عمرو" كثير.

(6/321)


قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا نحب ربنا"، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:"إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
6845 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنزل الله عز وجل:"قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه.
6846- حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنًا:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه، وعذاب من خالفه. (1)
__________
(1) الأثران: 6845، 6846، سيذكر الطبري ضعفهما عنده بعد قليل.

(6/322)


6847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه.
6848- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن كنتم تحبون الله" الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال:"إن كنتم تحبون الله" الآية، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
6849 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل إن كنتم تحبون الله"، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - (2) حبًّا لله وتعظيمًا له =،"فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي: ما مضى من كفركم ="والله غفور رحيم". (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "تصديق لقولهم"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) ما بين الخطين زيادة تفسير من أبي جعفر. وفي سيرة ابن هشام: "إن كان هذا من قولكم حقًا، حبًا لله ... " بزيادة"حقًا"، وأخشى أن يكون ناسخ الطبري قد أسقطها.
(3) الأثر: 6849- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6824.

(6/323)


قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله."إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه. (1)
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، (2) وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم = فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه = إن اتبعتموني وصدّقتموني على
__________
(1) في المطبوعة: "نظير أخبارنا"، وفي المخطوطة: "نظير احسار بالله" غير منقوطة. وظاهر أن المطبوعة حذفت ما كان رسمه"لله"، وظاهر أن قراءتنا لنصها هو الصواب إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "إن كنتم تزعمون ... " بحذف"كما"، فأثبتها من المخطوطة.

(6/324)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

ما أتيتكم به من عند الله = يغفرُ لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، (1) وأنهم منهم، (2) بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:-
6850 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل أطيعوا الله والرسول"، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم="فإن تولوا" على كفرهم ="فإن الله لا يحبّ الكافرين". (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من كفر بجحد ما عرف ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "وأنهم منهم"، معطوف على قوله: "فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر ... "، "وأنهم منهم"، أي من هؤلاء الذين لا يحبهم الله، بجحودهم نبوتك.
(3) الأثر: 6850- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6849.

(6/325)


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما = وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. (1)
وإنما عنى ب"آل إبراهيم وآل عمران"، المؤمنين.
* * *
وقد دللنا على أن"آل الرجل"، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه. (2)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك روى القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.
6851 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران: 68] ، وهم المؤمنون.
6852 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.
6853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم
__________
(1) انظر تفسير"اصطفى" فيما سلف 3: 91، 69 / ثم 5: 312، 313.
(2) انظر ما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1.

(6/326)


ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

على العالمين، فكان محمدٌ من آل إبراهيم.
6854 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم" إلى قوله:"والله سميع عليم"، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران"ذريةً بعضها من بعض".
* * *
ف"الذرية" منصوبة على القطع من"آل إبراهيم وآل عمران"، لأن"الذرية"، نكرة،"وآل عمران" معرفة. (2)
ولو قيل نصبت على تكرير"الاصطفاء"، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض. (3)
* * *
وإنما جعل"بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 71] ، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 67] ، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله:
__________
(1) في المطبوعة: "المطيعين لربهم"، كما في الدر المنثور 2: 17، 18، ولكن المخطوطة واضحة جدًا، ومطابقة لقوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم ... ".
(2) انظر ما سلف في معنى"القطع"، وهو الحال، قريبًا ص: 270، تعليق: 3.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 207.

(6/327)


إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

"ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:-
6855 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
* * *
وقوله:"والله سميعٌ عليمٌ"، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع". (1)
* * *
وأمّا"امرأة عمران"، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، (2) كذلك:-
6856 - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه = وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (3)
* * *
فأما زوجها"عمران"، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن
__________
(1) يعني أن الظرف"إذ" متعلق بقوله: "سميع" في الآية السابقة. وقد ظن الناشر الأول للتفسير، أن في الكلام سقطًا، وليس كذلك، والكلام تام لا خرم فيه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.

(6/328)


أحزيق (1) بن يوثم (2) بن عزاريا (3) بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو (4) بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر (5) بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:-
6857 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.
* * *
وأما قوله:"رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا"، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.
* * *
ونصب"محرّرًا" على الحال مما في الصفة من ذكر"الذي". (6)
* * *
"فتقبل مني"، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ ="إنك أنت السميع
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريق" وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.
(2) في المطبوعة: "يويم"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وفي تاريخ الطبري: "يوثام" فجعلتها"ثاء" بغير ألف، مطابقة للرسم.
(3) في تاريخ الطبري"عزريا" بغير ألف.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريهو" بالراء.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "يازم" بالزاي، وفي تاريخ الطبري: "يهشافاظ"، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة: "أشا" بالشين المعجمة، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا: "أسابرابان" والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري.
(6) في المطبوعة: "ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) ". فغيروا ما في المخطوطة، وأساءوا أشد الإساءة، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل"محررًا" حالا من"ما"، والذي ذهب إليه الطبري أن"محررًا" حال من الضمير الذي في الجار والمجرور"في بطني"، والعامل في الجار والمجرور هو"استقر". وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان 1: 437، وتفسير الألوسي 3: 118 وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى"الصفة"، وهو: حرف الجر، وحروف الصفات هي حروف الجر، كما مضى 1: 299 تعليق: 1 / 3: 475 تعليق: 1 / 4: 227 تعليق: 1 / ثم: 247 تعليق: 3.

(6/329)


العليم"، يعني: إنك أنتَ يا رب"السميع" لما أقول وأدعو ="العليمُ" لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته. (1)
* * *
وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران = الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-
6858 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً = و"النذيرة"، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.
6859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال = ثم ذكر امرأة عمران وقولها:"ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا = (2) "فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم". (3)
6860- حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة
__________
(1) انظر معنى"النذر" فيما سلف 5: 580.
(2) نص ابن هشام: "أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا"، فتركت رواية الطبري على حالها.
(3) الأثر: 6859- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6850.

(6/330)


قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"محررًا"، قال: خادمًا للبِيعة. (1)
6861 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.
6862 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا"، قال: فرّغته للعبادة.
6863 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.
6864 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.
6865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للكنيسة يخدُمها.
6866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6867 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
6868 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،
__________
(1) الأثر: 6860-"عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون، مولى بني هاشم" بغدادي، روى عن محمد بن ربيعة، وروى عنه الترمذي والنسائي، وابن جرير. مترجم في التهذيب. و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي" ابن عم وكيع. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى، أو كنيسة اليهود.

(6/331)


عن سعيد بن جبير:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للبيعة والكنيسة.
6869 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: محرّرًا للعبادة.
6870 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.
6871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: نذرت ولدها للكنيسة.
6872 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم"، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.
6873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.
6874 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.
6875 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني

(6/332)


فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله:"نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = إنها للحرّة ابنة الحرائر ="محررًا" للكنيسة يخدمها.
6876 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إذ قالت امرأة عمران" الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلما وضعتها"، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت"الهاء" عائدة على"ما" التي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، لكان الكلام:"فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى".
* * *
ومعنى قوله: (وضعتها) "، ولدتها. يقال منه:"وضعت المرأة تَضَع وضْعًا".
* * *
__________
(1) سيب الشيء: تركه. وسيب الناقة أو الدابة: تركها تسيب حيث شاءت، والدابة سائبة، فإذا كانت نذرًا، كان لا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وهي التي قال الله فيها"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة". ثم قيل منه للعبد إذا أعتقه مولاه، وأراد أن لا يجعل ولاءه إليه، فهو لا يرثه، وللمعتق أن يضع نفسه وماله حيث شاء"سائبة". انظر ما سلف 3: 386 في خبر أبي العالية.
أما قوله: "سيبتها" هنا، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله، ليس لأحد عليها سبيل، وهو قريب من معنى"التحرير".

(6/333)


="قالت ربّ إني وضعتها أنثى"، أي: ولدت النذيرة أنثى ="والله أعلم بما وضعت".
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة القرأة: (وَضَعَتْ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها:"ربّ إني وضعتها أنثى".
* * *
وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة:"والله أعلم بما ولدتُ مني".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ"والله أعلم بما وضعتْ"، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت = ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها -:"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس ="وإني سميتها مريم"، كما:-
6877 - حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (1)
6878 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:
__________
(1) الأثر: 6877- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6859. ونص ابن هشام في المطبوعة الأوربية: "لما جعلتها محررًا له نذيرة" كنص الطبري هنا، وفي مطبوعة الحلبي: "محررًا لك"، وفي إحدى نسخ سيرة ابن هشام"محررة"، وهي صواب جيد، ولكن مطبوعة الطبري غيرت نص المخطوطة الذي أثبته، فجعلتها: "لما جعلتها له محررة نذيرة"، ولست أدري لم فعل ذلك!!

(6/334)


"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.
6879 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليس الذكر كالأنثى"، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك = (1) يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها = مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: (2) "ليس الذكر كالأنثى".
6880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قالت رب إني وضعتها أنثى"، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال:"وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم".
6881 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك = يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها = لما يصيبها من الأذى.
6882 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله:"رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى"، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله:"والله أعلم بما وضعت"، فقالت:"إني سَمّيتها مريم".
__________
(1) في المطبوعة: "لا تستطيع"، وفي المخطوطة: "لا تستطاع"، وهو الصواب، إلا أن الناسخ أخطأ فجعلها بالتاء الفوقية.
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا أرجح أن الصواب: "فعن ذلك قالت"، أي من أجل ذلك قالت. و"عن" هنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالى: "وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك". وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية.

(6/335)


6883 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة:"فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى" ="وليس الذكر كالأنثى"، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال = أمها تقول ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
قال أبو جعفر: تعني بقولها:"وإني أعيذُها بك وذُريتها"، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.
* * *
وأصل"المعاذ"، الموئل والملجأ والمعقل. (1)
* * *
= فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.
* * *
6884 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت:"رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه. (2)
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"عاذ يعوذ" 1: 111، قال: "الاستعاذة: الاستجارة".
(2) الحديث: 6884 - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني: تابعي فقيه ثقة من الثقات، من شيوخ مالك، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة.
والحديث سيأتي، عقب هذا، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق، بهذا الإسناد، نحوه.
وأشار إليه ابن كثير في التاريخ 2: 57، من رواية ابن إسحاق، دون تعيين في تخريجه.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 594، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هرير. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، قارئ أهل المدينة: ثقة مأمون، شارك مالكًا في أكثر شيوخه.
ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي: "يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن أبي هريرة". وزيادة"عن أبيه" في الإسناد - خطأ صرف، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية، ولم يذكره أحد في رواة الحديث.
ثم رواه ابن جرير بنحوه، بأسانيد متعددة، إلى رقم: 6899. وكلها عن أبي هريرة، إلا: 6893، فإنه عن ابن عباس.

(6/336)


6885 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب.
6886 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
6887 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (1)
__________
(1) الحديث: 6887 -عمرو- شيخ هارون: هو عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق، وهو ثقة، أثنى عليه الثوري.
شعيب بن خالد البجلي، قاصي الري: ثقة، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة: "حفظ من الزهري ومالك شابًا".
وهو هنا يروي عن"الزهري". ووقع في المطبوعة"الزبير" بدل"الزهري". وهو خطأ. صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه البخاري 6: 338 - 339، من طريق شعيب، عن الزهري، بهذا، بنحوه. و"شعيب" - في إسناد البخاري-: هو"شعيب بن أبي حمزة الحمصي". وأما "شعيب بن خالد" فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود.
وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق شعيب بن أبي حمزة.
وانظر: 6891.

(6/337)


6888 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها. (1)
6889 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. (2)
6890 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن
__________
(1) الحديث: 6888- عجلان مولى المشمعل: تابعي ثقة.
والحديث: رواه أحمد في المسند: 7866، عن إسماعيل بن عمر: و: 7902، عن يزيد بن هارون، و: 7902، عن هاشم بن القاسم (2: 288، 292، 319 حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الرواية الأولى من روايات المسند.
وذكره في التفسير 2: 130، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه.
(2) الحديث: 6889 - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري: مضت ترجمته في: 1387.
سليم - بضم السين - بن جبير، أبو يونس مولى أبي هريرة: تابعي مصري ثقة.
وقع في المطبوعة: "أن أبا يونس سليمان"، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة"سليما"، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق: "أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة"، فرسم بالتنوين دون ألف، على لغة ربيعة، في الوقوف على المنصوب بالسكون.
والحديث رواه مسلم 2: 224، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بهذا الإسناد.

(6/338)


أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1)
6891 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (2)
6892 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". (3)
__________
(1) الحديث 6890 -"عمران" - في الإسناد: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة. ولا ندري من هو؟ والظاهر أنه خطأ من الناسخين، فرجح أن صوابه"ابن عمران". فإن يكنه يكن"حرملة بن عمران التجيبي المصري". وهو ثقة، يروي عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة، راوي هذا الحديث. ويروي عنه ابن وهب. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) الحديث: 6891- مضى بنحوه: 6887، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري.
وقد رواه أحمد في المسند: 7694، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند.
وكذلك رواه البخاري 8: 159، ومسلم 2: 224 كلاهما من طريق عبد الرزاق.
ورواه أحمد أيضًا: 7182، عن عبد الأعلى، عن معمر، به.
وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق عبد الأعلى.
(3) الحديث: 6892 - الحماني، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم: هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 291، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 168-170، وتاريخ بغداد 14: 167- 177، وتذكره الحفاظ 2: 10-11.
قيس: هو ابن الربيع الأسدي، وهو ثقة، كما رجحنا في: 4842.
والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، والتاريخ 2: 57 - تعليقًا عن قيس، دون أن يبين مخرجه.
ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري، يعني هذا الإسناد.
فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية: 6899، ثم قال: "وروي من حديث قيس، عن الأعمش. . ." - إلخ. فهذا الفعل"روى"، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل، فيكون معناه أن ابن جرير"روى من حديث قيس". ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه، بالبناء للمجهول، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل.
ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا، عطفًا عليه - ما نصه: "ومن حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة".
فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين.
فرأيت - تمامًا للسياق- أن أذكره هنا من رواية أحمد، واحتياطًا أيضًا:
فقال الإمام أحمد في المسند: 8801 (ج 2 ص 368 حلبي) : "حدثنا هُشيم، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ، كيفَ يَصْرُخُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه".
وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي 2: 19، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "عصره الشيطان. . ." - عصر العنب وغيره عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز، أي: شديده عليه وضغطه.

(6/339)


6893 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه. (1)
__________
(1) الحديث: 6893- هذا إسناد صحيح.
ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري، وكذلك ذكره السيوطي 2: 19، ولم ينسبه لغيره.
وقوله"ولم ينهزه" - من"التهز"، وهو الدفع."تهزه ينهزه نهزًا": دفعه، مثل"نكزه"، و"وكزه".

(6/340)


6894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! (1) فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، (2) ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، (3) وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، (4) ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة. (5)
6895 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء = وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. = وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.
__________
(1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة.
(2) الخافقان: أفق المشرق وأفق المغرب، محيطان بجانبي الأرض.
(3) المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة.
(4) أيس الرجل يأيس يأسًا، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة.
(5) الأثر: 6894 - في المخطوطة"أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان"، أو كأنها تقرأ"معتمر" ثم ضرب على"معمر". والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق، وروى عنه معتمر بن سليمان، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري"حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال: أخبر المنذر بن النعمان الأفطس". والمنذر مترجم في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 242، وتعجيل المنفعة: 410.

(6/341)


6896 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ. (1)
6897 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (2)
6898 - حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن
__________
(1) الأثران: 6895، 6896 - هذان خبران مرسلان كما هو ظاهر.
(2) الحديث: 6897- جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري: ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة.
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني: تابعي ثقة مشهور، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند: 7276، وابن سعد 5: 209، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك، ومات سنة 117.
والحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، من رواية الليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه.
وقد رواه أحمد في المسند: 10783 (ج 2 ص 523 حلبي) ، عن عبد الملك بن عمرو، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحوه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند. وقال: "وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه".
ووقع في ابن كثير"المغيرة، وهو ابن عبد الله الحزامي"، وهو خطأ مطبعي.
ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم"لم يخرجوه من هذا الوجه" - فإن البخاري رواه 6: 242، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحو روايتي المسند والطبري.
فهذا من هذا الوجه: يجتمع مع إسناد المسند في"أبي الزناد"، ومع إسناد الطبري في"الأعرج".

(6/342)


جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها. (1)
6899 - حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6898- وهذا حديث صحيح، بالإسناد السابق نفسه. وظاهره أنه موقوف، من كلام أبي هريرة. وعن ذلك - فيما أرى - فصله الطبري عن المرفوع الذي قبله.
ومعناه ثابت صحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
فرواه مسلم 2: 224، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه، عن أبي هرير، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان".
ثم معناه ثابت مرفوعًا، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة.
(2) الحديث: 6899 - بقية بن الوليد الحمصي: ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة.
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة، روى له الشيخان.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الموضع، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي"عبد الله بن الزبيدي"! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم.
وهذه الرواية، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه: 6887، 6891، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان.
وقد أشار الحافظ في الفتح 6: 338 إلى هذه الرواية، عند رواية الزهري عن ابن المسيب، فقال: "كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري".
ووقع في الفتح"السدي" بدل"الزبيدي". وهو تحريف من الناسخين.

(6/343)


فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

القول في تأويل قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها = (1) "بقبول حَسن".
* * *
"والقبول" مصدر من:"قبِلها ربُّها"، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان:"فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا". وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم:"تكلم فلان كلامًا"، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل:"تكلم فلان تكلمًا". ومنه قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، ولم يقل: إنباتًا حسنًا. (2)
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في"قبول"، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل:"الدُّخول، والخروج". قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.
6900 - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.
* * *
وأما قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-
__________
(1) في المطبوعة: "بتحريرها"، وفي المخطوطة"تحريرها" بغير باء قبلها، وكأن الصواب"وتحريرها" كما أثبت، معطوفًا على"تقبل مريم".
(2) انظر بيان ذلك فيما سلف 1: 116، وقد عدد هناك شواهده / ثم 5: 533، 534.

(6/344)


6901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربها بقبول حسن"، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها ="وأنبتها"، قال: نبتت في غذاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكفلها"
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (وَكَفَلَهَا) مخففة"الفاء". بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران: 44] .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَكَفَّلَهَا) مشددة"الفاء"، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (1)
__________
(1) قرع (بفتح القاف والراء) : أصابته القرعة دونهم. يقال: قارعني فلان فقرعته: خرجت لي القرعة دونه. وشاحه في الأمر وعليه، وتشاحا عليه وفيه (بتشديد الحاء) : إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته، كأن بعضهم يشح على بعض فيه.

(6/345)


وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. (1) فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، (2) فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها. (3)
* * *
وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، (4) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.
* * *
قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.
__________
(1) في المطبوعة: "رموا بها"، والصواب بالفاء، من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " رتب قدح زكريا"، ورتب الشيء: ثبت، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها"ارتز"، والراء مشبوكة بأسفل التاء، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و"رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا، فارتز فيه": أثبته فثبت، مثل رز السكين في الحائط، فهو يرتز فيه.
(3) في المطبوعة: "فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها" لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة"فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه ... "، وكان النساخ قد كتب"آية"، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم، ليجعل"آية""وعلمًا"، فاضطرب الخط، فلم يحسن الناشر قراءتها، فأسقطها، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة"المتنازعين فيها ها" فلم يحسن قراءة"ها" الأخيرة، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا.
(4) في المطبوعة: "بل صعد قدح زكريا"، وفي المخطوطة"صاعد"، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال: "صعد"، و"اصعد" (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و"اصاعد" (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع.

(6/346)


وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد"كفَّلها".
* * *
وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف"الفاء"، من قول الله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله:"وكفلها" = فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (1)
ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل:"كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان". فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
* * *
قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"زكريا".
فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.
وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.
وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
* * *
غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ"زكريا" أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، (2) ولأن قراءتنا في"كفَّلها" بالتشديد، وتثقيل"الفاء". فـ"زكرياء" منصوب بالفعل الواقع عليه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على ضعف اختيار المحتج بها"، وهي فاسدة ضعيفة المعنى، والصواب من المخطوطة. والاحتيال: طلب الحيلة والمخرج.
(2) الإجراء: الصرف. يعني: لا يصرف، لأنه ممنوع من الصرف، كما يقول النحاة.
(3) الواقع عليه: المتعدي إليه. وقد سلف أن"الوقوع" هو"التعدي"، فاطلبه في فهرس المصطلحات.

(6/347)


وفي"زكريا" لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو"زكريّ" بحذف المدة و"الياء" الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ"ياء" النسبة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر: (2)
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (3)
يراد به: (4) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (5)
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم:"هفا الظَّليم"، إذا أسرَع الطيران.
يقال منه للرجل:"ما لك تكفُل كلَّ ضالة"؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
__________
(1) انظر مقالة الفراء في"زكريا" في معاني القرآن 1: 208.
(2) غاب عني قائله، وإن كنت أذكر الشعر.
(3) "الهوام"، هي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490.
(4) في المطبوعة: "يراد أنه"، والصواب من المخطوطة.
(5) "الهوام"، وهي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490.

(6/348)


مَرْيَمَ) ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، (1) فكفلها زكريا.
6903 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وكفلها زكريا"، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، (2) فَقرَعهم.
6904 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، (3) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. (4) فلما أتوا بها اقترعوا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا قلم زكريا صاعدًا"، وهو لا معنى له، وانظر ما سلف ص 346 تعليق: 4. وقوله: "الجرية" (بكسر الجيم وسكون الراء) ، وهي حالة الجريان، والذي يسميه كتابنا اليوم: "التيار".
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "فاستقبلت"، ولست أرتضيها، وكأنها"واستعلت"، من قولهم: "علاه وتعلاه واستعلاه"، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه: "ومنه: وعال قلم زكريا الجرية، وجرت الأقلام مع جرية الماء"، وكأن هذا اللفظ"وعالى"، وكلتاهما صواب بمعنى: قهر وغلب، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله: "فقرعهم"، فقد سلف تفسيرها ص: 345، تعليق: 1.
(3) في المطبوعة، وسنن البيهقي 10: 286 هكذا"يجربونه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وأخشى أن يكون هذا خطأ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور 2: 20، خرج هذا الأثر، ونسبه للبيهقي في السنن، وفيه: "إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر، اقترعوا عليه ... "، فكأن صواب هذا الحرف"يحررونه" اتصلت الراء بالواو فقرأوها"يجربونه". وهذا الأثر الذي رواه السدي، هو في سنن البيهقي، بإسناد السدي في التفسير، الذي مضى الكلام فيه في رقم: 168، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي، لما طال الكتاب.
(4) في سنن البيهقي، والدر المنثور: "وكانت أخت مريم تحته"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم، كانا متزوجين بأختين، إحداهما عند زكريا، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران، وهي أم مريم، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري 2: 13.

(6/349)


عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! (1) فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، (2) فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:"وكفلها زكريا"، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. (3)
6905 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكفلها زكريا"، يقول: ضمها إليه.
6906 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وكفلها زكريا"، قال: سَهمهم بقلمه. (4)
6907 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
6908 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، (5) فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.
__________
(1) في المطبوعة: "تحتي خالتها"، والصواب ما في الطبري والدر المنثور وسنن البيهقي، وكأن الناشر ظن أنه أراد"أخت مريم"، فغيرها، وإنما أراد زكريا بمقالته، أخت أم مريم، التي جاءت تحملها.
(2) القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال: لحد السيف والسنان والسهم وغيرها"قرنة"، وهو طرفه وذبابه.
(3) الأثر: 6904- سنن البيهقي 10: 286، والدر المنثور 2: 20.
(4) ساهم القوم فسهمهم، وقارعهم فقرعهم: فاز سهمه، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه.
(5) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "زوج أختها"، وظاهر أن كلام قتادة مختصر، كان في ذكر"أم مريم"، وأن قوله: " زوج أختها"، أي زوج أخت مريم، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص 350 تعليق: 1. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد.

(6/350)


6909 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها = يعني: أمّ مريم = بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا = وكان عمران يؤُمهم في الصلاة = وصاحب قُرْباننا! (1) فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها.
6910 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل:"وكفلها زكريا" = قال حجاج قال، ابن جريج:"الكاهنُ" في كلامهم: العالمُ.
6911 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وكفلها زكريا"، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (2)
6912 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وصاحب قربانهم"، وفي المخطوطة"وصاحب" وما بعدها بياض، واستظهر الناشر زيادتها هكذا، وأستظهر أن زيادتها كذلك، على أنها من تمام قولهم: "هذه ابنة إمامنا معطوفًا عليه، وما بينهما جملة معترضة للبيان من راوي الخبر.
(2) الأثر: 6910- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم 6877.

(6/351)


عطاء، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: كانت عنده.
6913 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.
6914 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.
* * *
وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (1) = وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع=. (2)
6915 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إيشاع"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري 2: 13، وهو في كتاب القوم"أليصابات"، ومعناها كما في قاموسهم كتابهم"الله حلفها، أي عائدة الله"، وكأنه هو الاسم العبري القديم"أليشابع"، ومعناه أيضًا"الله حلفها"، وهو اسم امرأة هارون.
(2) في المطبوعة: "أشيع" بالياء، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(3) الأثر: 6915-"وهب بن سليمان الجندي اليماني"، روى عن شعيب الجبأي، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير 4 / 2 / 169، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 27. و"شعيب الجبأي، الجندي البجلي"، منسوب إلى"جبأ" وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو: "شعيب بن الأسود". قال: يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير 2 / 2 / 219، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 353. وكان في المطبوعة: "شعيب الحياني" خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

(6/352)


= فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.
قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.
6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.
= فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ:"وكفَلها زكريا" بتخفيف"الفاء"، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (1) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
* * *
القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.
__________
(1) السهم الفالج: الفاتر.

(6/353)


ذكر من قال ذلك:
6917 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (1)
6918 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا"، قال: العنب في غير حينه.
6919 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهة في غير حينها.
6920 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف = يعني في قوله:"وجد عندها رزقًا". (2)
6921 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.
6922- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.
6923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
6924 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.
6925 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) المكتل والمكتلة (بكسر الميم) : الزبيل الكبير يحمل فيه التمر أو العنب، كأن فيه كتلا منه، أي قطعًا مجتمعة.
(2) الأثر: 6920-"أبو إسحاق الكوفي"، هو: عبد الله بن ميسرة، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة، روى عنه هشيم، وكناه أبا إسحاق، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري.

(6/354)


عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.
6926 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
6927 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
6928 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
6929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.
6930 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.
6931 - حدثني موسى [بن عبد الرحمن] (1) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (2)
__________
(1) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني"، وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168.
(2) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني" وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168.

(6/355)


6932 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وجدَ عندها رزقًا"، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.
6933 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس"كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.
6934 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.
6935 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها = يعني على مريم = المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.
ذكر من قال ذلك:
6936 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن

(6/356)


حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! (1) فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول:"يا مريم، أنَّى لك هذا"؟ فتقول:"هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب".
* * *
قال أبو جعفر: وأما"المحراب"، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:
كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ ... كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (2)
__________
(1) في المخطوطة: "لقد جهدنامن هذه السنة ما أصابكم" وبينهما بياض، والذي في المطبوعة صواب جيد.
(2) ديوانه في شعراء الجاهلية: 455، وسيأتي في التفسير 22: 48 (بولاق) ، يصف نساء، يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة: وهي البستان الحسن، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي"الروض" على الإفراد فقال: "زهره مستنير"، كأنه عده مفردًا مذكرًا، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد، مثل ثور ونور، وأشباهها فذكره للفظه، وإن كنت أستجيز أن يكون"الروض" مفردًا غير جمع، ولم أجد ذلك في كتب اللغة، ولكن البيت شاهد عليه، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد.
وقوله: "مستنير" من"النور"، وهو زهر الشجر والنبات. يقال: "نورت الشجرة وأنارت"، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة"استنارت الشجرة"، ولكن بيت عدي شاهد جيد، وهو من عتيق العربية.
يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون، فزادها بهاء، وزادته حسنًا.
وهذا البيت في المخطوطة: "وهو مشتق / مستنير" و"مستنير" مكتوبة في هامش الصفحة، ولم أدر كيف كان، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة، وأخشى أن يكون الناسخ كتب: "وهو مشتق" ثم عاد فقرأ"مشتق""مستنير" فكتبها في الهامش، فيكون الخطأ في كتابته"وهو"، التي هي: "زهره".

(6/357)


و"المحاريب" جمع"محراب"، وقد يجمع على"محارب". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قال" زكريا:"يا مريم: أنَّى لك هذا"؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ (2) قالت مريم مجيبة له:"هو من عند الله"، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
* * *
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله.
6937 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.
6938 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.
6939 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله"، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة
__________
(1) لم ينص على ذلك أصحاب اللغة، ولكنه قياس يرتضى. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 91.
(2) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / ثم 5: 312، 447.

(6/358)


عند أحد، فكان زكريا يقول:"يا مريم أنَّى لك هذا"؟
* * *
وأما قوله:"إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب"، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، (1) ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من يخشى النقصان من ملكه بخروج ما خرج من عنده. . ."، وفي المخطوطة: "من يخشى النقصان من ملكه، ودخول بخروج ما خرج من عنده ... "، وبين الكلامين بياض، فلما لم يجد الناشر ما يكتبه مكانها، حذف"ودخول" ووصل الكلامين. وزدت أنا"النفاد عليه" مكان البياض استظهارًا من سياق الكلام، ومن تفسير هذه الجملة في مواضع أخرى سأذكرها فيما يلي.
(2) انظر تفسير: "يرزق من يشاء بغير حساب" فيما سلف 4: 274 / ثم 6: 311.

(6/359)


هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

القول في تأويل قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:"هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (1) ومعاينته عندَها الثمرة
__________
(1) قوله: "ومعاينته عندها ... " معطوف على قوله آنفًا: "عند رؤية زكريا. . .".

(6/359)


الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض = (1) طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةُ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
6940 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم: 4-6] ، = وقوله: (2) (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) = وقال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [سورة الأنبياء: 89] .
6941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
__________
(1) سياق الجملة: أي عند رؤية زكريا ما رأى. . . وعند معاينته عندها الثمرة ... طمع بالولد ... " وفي المطبوعة: "طمع في الولد.."، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت، وذاك من عجلة الناسخ.

(6/360)


قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل:"هنالك دعا زكريا ربه"، قال: فذلك حين دعا.
6942 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى قوله: (رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) الآية.
6943 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء"، ثم شكا إلى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) الآية.
* * *
وأما قوله:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، فإنه يعني بـ"الذرية" النسل، وبـ"الطيبة" المباركة، (1) كما:-
6944 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، يقول: مباركة.
* * *
__________
(1) انظر قوله"ذرية" فيما سلف 3: 19، 79 / ثم 5: 543 / 6: 327 ولم يفسرها في هذه المواضع، ثم فسرها هنا، وهو من اختصار هذا الكتاب الجليل، كما قيل في ترجمته.
ثم انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / ثم 5: 555.

(6/361)


وأما قوله:"من لدنك"، فإنه يعني: من عندك.
* * *
وأما"الذرية"، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم: 5] ، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث"طيبة"، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر: (1)
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ، ذَاكَ الكَمَالُ (2)
فقال:"ولدته أخرى"، فأنَّث، وهو ذَكر، لتأنيث لفظ"الخليفة"، كما قال الآخر: (3)
فَمَا تَْزدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ، إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا (4)
فأنث"الجبلية" لتأنيث لفظ"الحية"، ثم رجع إلى المعنى فقال:"إذا مَا عَضّ"، لأنه كان أراد حَية ذكرًا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه"فلانٌ" من الأسماء، كـ"الدابة، والذرية، والخليفة". فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك،
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 208 سيأتي في التفسير 4: 150 (بولاق) .
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 208، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة: "كما تزدري ... سكاب ... ليس بأزدرا"، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية، فذاك أشد لها ولسمها، يقول عنترة: أَصَمَّ جبَالِيٍّ، إِذا عَضَّ عَضَّةً ... تَزَايَلَ عَنْهُ جِلْدُه فتبدّدَا
وحية سكوت وسكات (بضم السين) : إذا لم يشعر الملسوع به حتى يلسعه، والأدرد: الذي سقطت أسنانه، فلم يبق في فمه سن. يصف رجلا داهية. يقول: كيف تستخف به، وهو حية فاتكة، لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط ولم يذهب سمه.

(6/362)


فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

فكان في معنى"فلان"، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته. (1)
* * *
وأما قوله:"إنك سميع الدعاء"، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ"سميع"، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له. (2)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة:"فنادته الملائكة" على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع"الملائكة". وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها، أنَّثت أفعالها، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث، كقولهم: جاءَت الطَّلحات".
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، (3) بمعنى فناداه جبريل، فذكروه للتأويل، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ، (4) فكذلك يذكِّرون
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 208، 209.
(2) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 2: 140، 377، 540 / 3: 399 / 4: 488.
(3) يعني قراءة من قرأ"فناداه" ممالة، ورسمها في المصحف عندئذ"فناديه" بالياء، وهي قراء حمزة والكسائي.
(4) انظر ص: 362.

(6/363)


فعلَ المؤنث أيضًا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءةٍ يذكر أنها قراءَةُ عبد الله بن مسعود، وهو ما:-
6945 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، أنّ قراءة ابن مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) .
* * *
وكذلك تأوّل قوله:"فنادته الملائكة" جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6946 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فنادته الملائكة"، (1) وهو جبريل = أو: قالت الملائكة، وهو جبريل ="أنّ الله يُبشرك بيَحيى".
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل:"فنادته الملائكة"، و"الملائكة" جمع لا واحد؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام:"خرج فلان على بغال البُرُد"، وإنما ركب بغلا واحدًا ="وركب السفن"، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال:"ممن سمعتَ هذا الخبر"؟ فيقال:"من الناس"، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران: 173] ، والقائلُ كانَ = فيما كان ذُكر - واحدًا = (2) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)
__________
(1) في المخطوطة: "فناداه الملائكة".
(2) انظر ما سلف 1: 292، 293 / 4: 191.

(6/364)


[سورة الروم: 33] ، والناس بمعنى واحد. وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك، أنهما قراءتان معروفتان = أعني"التاء" و"الياء" = فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب، وذلك أنّ"الملائكة" إن كان مرادًا بها جبريل، كما روى عن عبد الله، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها.
وإن كان مرادًا بها جمع"الملائكة"، فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قَبلها، للفظها. (2) وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها، أنثته، فقالت:"قالت النساء". وجائز التذكير في فعلها، بناءً على الواحد، إذا تقدم فعله، فيقال:"قال الرجال".
* * *
وأما الصّواب من القول في تأويله، فأنْ يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، وجبريلُ واحد.
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن (3) إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل = ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم: قتادة، والربيع
__________
(1) انظر معان القرآن للفراء 1: 210
(2) في المطبوعة: "وهو من قبلها" والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن يجوز ... "، والأشبه بالصواب ما أثبت.

(6/365)


بن أنس، وعكرمة، ومجاهد، وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مَضَى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وهو قائم:" فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله:"وهو قائم"، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا.
وقوله:"يُصَلي" في موضع نصب على الحال من"القيام"، وهو رفع بالياء.
* * *
وأما"المحراب"، فقد بينا معناه، وأنه مقدّم المسجد. (2)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أنّ اللهَ يبشرك".
فقرأته عامة القرأة: (أَنَّ اللَّهَ) بفتح"الألف" من"أن"، بوقوع"النداء" عليها، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بكسر"الألف"، بمعنى: قالت الملائكة: إنّ الله يبشرك، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) قالوا: وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله:"يا زكريا"، فباطلً أيضًا
__________
(1) لم يمض من ذلك شيء في خبر زكريا ومريم، وأنا أخشى أن يكون في النسخ المخطوطة التي بأيدينا اختصار في هذا الموضع.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 357، 358.

(6/366)


أن يكون عاملا في"إن".
* * *
والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"أنّ الله يبشرك" بفتح"أن" بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر"إن" = منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك، فقرأوها كذلك = [لهم بعلة] (1) وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم، وقد اعترض بنداء زكريا بين"إن" وبين قوله:"فنادته"، (2) وإذا اعترض به بينهما، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في"أنّ"، وتبطله عنها. أما الإبطال، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله، (3) فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقعٌ. كسائر الأفعال. (4)
وأما قراءتنا، (5) فليس نداء زكريا ب"يا زكريا" معترضًا به بين"أن" وبين قوله:"فنادته". وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ:"ناديت" اسمَ المنادِى وأوقعوه عليه، أن يوقعوه كذلك على"أنّ" بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله، فقوله:"نادته"، قد وَقع على مكنيّ"زكريا"، (6) فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على"أن" وعاملا فيها. (7)
__________
(1) في المطبوعة: "من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد الله ... "، حذف من نص المخطوطة ما أثبته"فقرأوها كذلك"، وبقيت الجملة بعد ذلك مختلة، قد سقط منها خبر"وليست العلة ... "، فاستظهرت من سياق كلامه أنه قد سقط من الناسخ قوله: "لهم بعلة" فزدتها بين قوسين، والسياق"وليست العلة ... لهم بعلة".
(2) في المطبوعة: "وقد اعترض بيا زكريا" وفي المخطوطة: "بهذا زكريا"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المخطوطة أيضًا"فناداه"، مكان"فنادته".
(3) في المطبوعة: "فإنه بطل عن العمل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(4) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(5) في المخطوطة: "وأما قراءتها"، والصواب ما في المطبوعة.
(6) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(7) انظر تفصيل ما أجمله الطبري في معاني القرآن للفراء 1: 210، 211.

(6/367)


مع أنّ ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام. ولا يُعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيءَ الحجة.
* * *
وأما قوله:"يبشرك"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بتشديد"الشين" وضم"الياء"، على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس:"بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا"، أي: أتته بشارات البُشراء بذلك. (1)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) ، بفتح"الياء" وضم"الشين" وتخفيفها، بمعنى: أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك، من قول الشاعر: (2)
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجُ يُتْلَى كِتَابُهَا (3)
وقد قيل: إن"بشَرت" لغة أهلِ تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون:"بشَرتُ فلانًا بكذا، فأنا أبشُرُه بَشْرًا"، و"هل أنتَ باشرٌ بكذا"؟ وينشد لهم البيت في ذلك: (4)
وَإذَا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إلَى العُلَى ... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "البشرى" مكان"البشراء" في الموضعين، والصواب ما أثبت، وظاهر أن الناسخ رآها"البشرا"، بغير همزة كالكتابة القديمة، فظنها"البشرى" فكتبها كذلك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) معاني القرآن للفراء، وقال: "أنشدني بعض العرب".
(4) هو عبد قيس بن خفاف البرجمي.
(5) الأصمعيات رقم: 87، والمفضليات رقم: 116، ولسان العرب (كرب) (بشر) (يسر) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 212، وغيرها من المراجع. وهي نصيحته إلى ولده جبيل، وهي من حكيم الشعر.
بهش إلى الشيء: فرح به فأسرع إليه، وروايتهم"إلى الندى"، وهو الكرم. والقاع: أرض سهلة مستوية تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر. والممحل: المجدب. يقول: إذا رأيت الكرام الأسخياء، قد أجهدتهم السنة والقحط والجدب حتى اغبرت أيديهم من قلة ما يجدون، وكثرة ما بذلوا في معونة الناس.. فأعنهم.

(6/368)


فَأَعِنْهُمُ، وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ، ... وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ (1)
فإذا صاروا إلى الأمر، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال:"ابشَرْ فلانًا بكذا"، ولا يكادون يقولون:"بشِّره بكذا، ولا أبشِره". (2)
* * *
وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: (يبشرك) ، بضم"الياء" وكسر"الشين" وتخفيفها. وقد:-
6947 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفيّ قال: من قرأ: (يُبَشِّرُهُمْ) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ: (يَبْشُرُهُمْ) ، مخففة، بنصب"الياء"، فإنه من السرور، يسرُّهم.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك، ضم"الياء" وتشديد"الشين"، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة: (فَبِمَ تُبِشِّرُون) [سورة الحجر: 54] ، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره، أنْ يكون مثله في التشديد وضم"الياء".
* * *
__________
(1) "وابشر" هي من"بشر" على وزن (فرح) "يبشر" (بفتح الشين) يقال: "أتاني أمر بشرت به" أي سررت به. يقول: شاركهم في ارتياحهم وفرحهم بالسخاء مع ما يلقون من جهد السنة. والضنك: الضيق. يقول: كن مع الكرام حيث كانوا، وانزل معهم كل منزل أنزلهموه كرمهم، من ضنك وحاجة.
(2) انظر تفسير: "بشرى" و"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393، / 3: 221 / 6: 287.

(6/369)


وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك، فلم نجدْ أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لما حُكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية:
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلا غَضِبْتَ لَنَا? وَأَنْتَ أَمِيرُ! (1)
فقد علم أنه أراد بقوله"التبشير"، الجمال والنضارة والسرور، فقال"التبشير" ولم يقل"البشر"، فقد بيَّن ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحدٌ.
* * *
6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله يبشرك بيحيى"، قال: بشرته الملائكة بذلك.
* * *
وأما قوله:"بيحيى"، فإنه اسم، أصله"يفعل"، من قول القائل:"حيي فلانٌ فهو يحيَى"، وذلك إذا عاش."فيحيى""يفعل" من قولهم"حيي".
وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك، لأنه يتأوّل اسمه: أحياه بالإيمان.
ذكر من قال ذلك:
6949 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أنّ الله يبشرُك بيحيى"، يقول: عبدٌ أحياه الله بالإيمان.
6950- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) ديوانه: 301، وطبقات فحول الشعراء: 378، وغيرها. من قصيدته التي قالها لبشر بن مروان، وكان قدم معه العراق، سراقة البارقي، وكان بشر يغري بين الشعراء، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه. فترك جرير بشرًا، بل مدحه، وأخذ بمجامع سراقة يخنقه حتى فضحه. وعاتب بشرًا عتاب من يظهر الجهل بأمر بشر، وهو يعلمه. وهذا البيت دال على ذلك.
كان في المطبوعة: "حق لبشرك التبشير"، وهو من سهو الناشر، كما سلف من سهوه، والصواب في المخطوطة وسائر المراجع.

(6/370)


جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى"، قال: إنما سمي يحيى، لأن الله أحياه بالإيمان.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (1) أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك، ="مصدّقًا بكلمة من الله"، يعني: بعيسى ابن مريم.
* * *
ونصب قوله:"مصدقًا" على القطع من"يحيى"، (2) لأنّ"مصدقًا" نعتٌ له، وهو نكرة، و"يحيى" غير نكرة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6951 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربيّ، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال: فوضعت امرأةُ زكريا يحيى، ومريمُ عيسى، ولذا قال:"مصدِّقًا بكلمة من الله"، قال: يحيى مصدّق بعيسى.
6952 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله:"يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بقوله جل ثناؤه"، والصواب من المخطوطة.
(2) القطع: الحال، كما سلف مرارًا، آخرها ص: 327 تعليق 2، والمراجع هناك.

(6/371)


6953 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6954 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدقًا بعيسى.
6955 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدّقًا بعيسى ابن مريم، وعلى سُنَّته ومنهاجه. (1)
6956 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، يعني: عيسى ابن مريم.
6957 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدقًا بعيسى ابن مريم، يقول على سننه ومنهاجه.
6958 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى، وهو كلمة من الله ورُوحٌ.
6959 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مصدقًا بكلمة من الله"، يصدق بعيسى.
6960 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.
__________
(1) في المطبوعة: "مصدق ... وعلى سننه"، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/372)


6961 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: عيسى ابن مريم، هو الكلمة من الله، اسمه المسيح.
6962- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى: سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى. (1)
6963 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: الكلمة التي صدق بها: عيسى.
6964 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى، وهذه حامل بيحيى، وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم: استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا: فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله:"مصدّقًا بكلمة من الله".
6965- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله:"أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة، (2)
__________
(1) السجود هنا: الخضوع والتطامن والخشوع، لا سجود الصلاة والعبادة. وإنما سجود الصلاة مجاز من هذا الأصل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 104، 105.
(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن 1: 91.

(6/373)


أنّ معنى قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، بكتاب من الله، من قول العرب:"أنشدني فلانٌ كلمة كذا"، يراد به: قصيدة كذا = جهلا منه بتأويل"الكلمة"، واجتراءً على تَرجمة القرآن برأيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَسَيِّدًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وسيدًا"، وشريفًا في العلم والعبادة.
* * *
ونصب"السيد" عطفًا على قوله:"مصدقًا".
* * *
وتأويل الكلام: أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا، وسيدًا.
* * *
"والسيد""الفيعل" من قول القائل:"سادَ يسود"، (2) كما:-
6966 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وسيدًا" إي والله، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع.
6967 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا"، قال: السيدُ، لا أعلمه إلا قال: في العلم والعبادة.
__________
(1) ترجمة القرآن تفسيره وبيانه، وانظر ما سلف 1: 70، تعليق: 1، وانظر فهرس المصطلحات. وإذا كان أبو جعفر يعد هذا اجتراء على تفسير كتاب الله، فليت شعري ماذا يقول في الذين نصبوا أنفسهم، من أهل زماننا، للتهجم على كتاب الله، بما لا تعد فيه مقالة أبي عبيدة، إلا تسبيحًا واستغفارًا واجتهادًا في العبادة!!
(2) انظر ما سلف 3: 319.

(6/374)


6968 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: السيد الحليم.
6969 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير،"وسيدًا"، قال: الحليم.
6970 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"وسيدًا"، قال: السيد التقىّ.
6971 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وسيدا"، قال: السيد الكريم على الله.
6972 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرّقاشي أنّ السيد، الكريم على الله.
6973 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الحليم التقي.
6974 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسيدًا"، قال: يقول: تقيًّا حليما.
6975 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله:"وسيدًا"، قال: حليما تقيًّا.
6976 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"وسيدًا"، قال: السيد: الشريف.
6977 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية بن الوليد،

(6/375)


عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الفقيه العالم.
6978 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وسيدًا"، قال، يقول: حليما تقيًّا.
6979 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة:"وسيدًا"، قال: السيد الذي لا يغلبُه الغضب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء، من قول القائل:"حَصِرْتُ من كذا أحْصَر"، إذا امتنع منه. ومنه قولهم:"حَصِرَ فلان في قراءته"، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك"حَصْرُ العدوّ"، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا،"حَصُور"، كما قال الأخطل:
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي ... لا بِالَحصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ (1)
ويروى:"بسآر". ويقال أيضًا للذي لا يخرج سره ويكتمه"حصور"،
__________
(1) ديوانه: 116، ومجاز القرآن 1: 92، وطبقات فحول الشعراء: 432، واللسان (حصر) (سأر) (سور) ، من قصيدته التي قالها ليزيد بن معاوية، لما منعه حين هجا الأنصار في قصة مشهورة. وفي المخطوطة"مرجح بالكأس"، وهو خطأ. والمربح: المعطي الربح للتاجر، يريد أنه يغالي بثمن الخمر لا يبالي بما يبذل فيها. والسوار: الذي تسور الخمر في دماغه، فيعربد على إخوانه وندمائه عربدة رديئة، والخمر عندهم تشف عن غرائز شاربيها. وأما رواية"سآر" التي سيذكرها، فهي من السؤر: وهو بقية الخمر في القدح. يريد أنه عرضة شراب، لا يكف عن الخمر، ولا يدع في كأسه سؤرًا من قلة صبره، أو سوء احتماله لشدتها.

(6/376)


لأنه يمنع سره أن يظهر، كما قال جرير:
وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الوُشَاةُ، فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا (1)
وأصل جميع ذلك واحد، وهو المنع والحبس.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6980 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن خلف قال، حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
6981 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله"سيدًا وحصُورًا". (2)
__________
(1) ديوانه: 578، ومجاز القرآن 1: 92 واللسان (حصر) (سقط) ، ورواية هذه الكتب وفي المطبوعة: "تَسَقَّطَنِي" غيروا ما في المخطوطة، كما أثبته. وتسقطه واستسقطه: تتبع عثرته وسقطته أن يفرط منه ما يؤخذ عليه. من السقط (بفتحتين) وهو الخطأ في القول، أو من السقطة (بفتح فسكون) وهي العثرة والزلة. وأما ما جاء في المخطوطة: "تساقطني"، فإني أستجيدها. جيد أن يقال"ساقطه" بمعنى"تسقطه واستسقطه"، وكأن"السقاط" بمعنى العثرة والزلة، مصدر"ساقطه"، وقد قال سويد بن أبي كاهل: كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي، بَعْدَ مَا ... جَلَّلَ الرأسَ مشيبٌ وصَلَعْ
كأنه يجاذبه القول، حتى يسقط ويزل، وهو نفس المعنى في"تسقطه واستسقطه"، وإذا جاز في صريح العربية، فلا معنى لاطراحه. وفي المخطوطة، أسقط الناسخ"أميم" من البيت وترك مكانها بياضًا، وضع فيه نقطة حمراء.
(2) الأثر: 6981- انظر التعليق على الأثر: 6983.

(6/377)


6982 - حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد قال، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ليس أحدٌ إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذَنْبٌ إلا يحيى بن زكريا، كان حصورًا، معه مثل الهُدْبة.
6983 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا عمر بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه -: ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. (1)
6984 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله:"وحصورًا" قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
6985 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
6986 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد مثله.
6987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد مثله.
6988 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال،
__________
(1) الحديث: 6983- رواه الطبري قبل ذلك: 6981، عن سعيد بن المسيب: "حدثني ابن العاص ... " - فذكره مطولا مرفوعًا. ثم رواه هنا عن ابن المسيب، عن ابن العاص- مع الشك في أنه"عبد الله بن عمرو" أو "أبوه"- موقوفًا. وقد ذكره ابن كثير 2: 135، من رواية ابن أبي حاتم - بهذا الشك - ولكنه مرفوع. ثم ذكره ص 135-136، من رواية ابن أبي حاتم أيضًا"عن عبد الله بن عمرو بن العاص" - موقوفًا. ووصف المرفوع بأنه"غريب جدًا". ثم قال بعد الموقوف: "فهذا موقوف أصح إسنادًا من المرفوع". وكذلك ذكر السيوطي 2: 22 المرفوع والموقوف، وقال: "وهو أقوى إسنادًا من المرفوع".

(6/378)


حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:"وحصورًا"، قال: الذي لا يأتي النساء.
6989 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الحصور: لا يقرَبُ النساء.
6990 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرقاشي:"الحصور" الذي لا يقرب النساء.
6991 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"الحصور"، الذي لا يولد له، وليس له ماء.
6992 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وحصورًا"، قال: هو الذي لا ماء له.
6993 - حدثنا بشر قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وحصورًا"، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء.
6994 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
6995 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله.
6996 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
6997 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينزل الماء.
6998 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد:"وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.

(6/379)


6999 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يريد النساء.
7000 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وحصورًا"، قال: لا يقرب النساء.
* * *
وأمّا قوله:"ونبيًّا من الصالحين" فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم.
* * *
ويعني بقوله:"من الصّالحين"، من أنبيائه الصالحين. (1)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"النبوّة" وما أصلها، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91.
(2) انظر تفسير"النبي" فيما سلف 2: 140-142.
هذا، وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وكتب هنا ما نصه:
"يتلُوُه، إن شاء الله، القولُ في تأويل قوله:
{قال ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكِبَر وامرأتي عاقر} .
والحمد لله وحده على إحسانه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري".

(6/380)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}
قال أبو جعفر: يعني أنّ زكريا قال = إذ نادته الملائكة:"أنّ الله يُبشرّك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين" ="أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر"؟ يعني: مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ ="وامرأتي عاقر".
* * *
"والعاقر" من النساء التي لا تلد. يقال منه:"امرأة عاقر، ورجلٌ عاقرٌ"، كما قال عامر بن الطفيل:
لَبِئْسَ الفَتَى! إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا ... جَبَانًا، فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!! (1)
* * *
وأما"الكبر" فمصدر:"كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا".
وقيل:"بلغني الكبر"، وقد قال في موضع آخر: (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ)
__________
(1) ديوانه 119، ومجاز القرآن 1: 92، وحماسة الشجري: 7 وغيرها، وسيأتي في التفسير 16: 37 (بولاق) وعامر بن الطفيل، أحد العوران الأشراف (المحبر: 303) ، وقد ذهبت عينه يوم فيف الريح. وأما خبر عقمه، فإنه صدق قول علقمة بن علاثة فيه، فقال: "فقد والله صدق: ما لي ولد، وإني لعاهر الذكر، وإني لأعور البصر" (ديوانه 91، 92) ، وهذا البيت من أبيات قالها في يوم فيف الريح، يذكر صبره في قتالهم، وقد ذهبت عينه حين طعنه مسهر بن يزيد الحارثي بالرمح، ففلق وجنته، وانشقت عين عامر ففقأها. وذكروا أن عامرًا طعن يومئذ بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنة، فقال عامر: لَعَمْري، ومَا عَمْري عَلَيَّ بِهَيَّنٍ ... لقَدْ شَانَ حُرَّ الوَجْهِ طَعْنَةُ مُسْهِرِ
فَبِئْسَ الفَتَى. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول: من يعذرني إذا هبت عدوى وأحجمت عن حر الطعان؟

(6/381)


[سورة مريم: 8] ، لأن ما بلغك فقد بلغته. وإنما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل:"قد بلغني الجهد" (1) بمعنى: أني في جهد.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله:"ربّ أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر"، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية!
قيل: كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننتَ، بل كان قِيله ما قال من ذلك، كما:-
7001 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه، (2) وقال:"أنَّي يكون لي غلام"، ذكرٌ؟ = يقول: من أين؟ = (3) "وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر".
7002 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم! نادتني ملائكتهُ ربي! (4) قال: بل ذلك الشيطان!
__________
(1) في المطبوعة: "وقد بلغني الجهد" زاد واوًا لا خير فيها، والصواب من المخطوطة.
(2) قوله: "فشك مكانه"، أي من ساعته، من فوره. ويقال: "فعل ذلك على المكان"، أي من ساعته غير متلبث ولا متصرف، قبل أن يفارق مكانه.
(3) في المطبوعة: "ومن أين" بالواو، وفي المخطوطة واو أيضًا، لكنه ضرب عليها.
(4) في المطبوعة: "ناداني"، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/382)


لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك! فقال:"رب اجعل لي آية".
* * *
= فكان قولهُ ما قال من ذلك، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله:"أنى يكون لي غلام"، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة، فقال:"رب أنَّي يكون لي غلام"، مستثبتًا في أمره، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - (1) أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال:"رب اجعل لي آية".
* * *
وقد يجوز أن يكون قيله ذلك، مسألةً منه ربَّه: من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به؟ أمن زوجته؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك الله"، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة، كما:-
7003 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة: "يريه الله في ذلك"، والصواب ما في المخطوطة.

(6/383)


قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

السدي قال:"كذلك الله يفعل ما يشاء"، وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية = يقول: علامةً = أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك، كما:-
7004 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"رب اجعل لي آية"، قال: قال - يعني زكريا -: يا ربّ، فإن كان هذا الصوت منكَ، فاجعل لي آيةً.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"الآية"، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها، ومن شأنها همزُ كل"ياء" جاءت بعد"ألف" ساكنة.
فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت"أيَّة"، فثقُل عليهم التشديد، فأبدلوه"ألفًا" لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا:"أيْما فلانٌ فأخزاه الله". (2)
* * *
وقال آخرون منهم: بل هي"فاعلة" منقوصة.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 106، ثم انظر فهرس اللغة مادة (أيى) في الأجزاء السالفة.
(2) "أيما"، بمعنى "أما" مشددة الميم.

(6/384)


فسئلوا فقيل لهم: فما بال العرب تصغرها"أيَيَّة"، ولم يقولوا"أوَيَّة". (1) فقالوا: قيل ذلك، كما قيل في"فاطمة"،"هذه فُطيمة". فقيل لهم: فإنهم إنما يصغرون"فاعلة"، على"فعيلة"، إذا كان اسمًا في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم"فاعلة" على"فعيلة". (2)
* * *
وقال آخرون: إنه"فَعْلة" صيرت ياؤها الأولى"ألفا"، كما فعل بـ"حاجة، وقامة".
فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. (3)
وقال من أنكر ذلك من قِيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في"نواة" ناية، وفي"حَياة" حَاية. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا}
قال أبو جعفر: فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته = على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أويية"، والصواب ما أثبت بتشديد الياء.
(2) قائل ذلك، هو الكسائي وأصحابه. وسائلوه: هم الفراء وأصحابه. انظر لسان العرب مادة (أيا) .
(3) أولاد الثلاثة: يعني الاسم الثلاثي.
(4) انظر تفصيل ما سلف، وبعضه بنصه في لسان العرب 18: 66، وهذه الردود كلها للفراء، كما يظهر من نص اللسان، وكأن في نص الطبري بعض الاضطراب، فإن قوله: "فقيل لهم: إنما يفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة"، إنما هو رد على قول من زعم إنها"فاعلة" منقوصة، مثل حاجة وقامة، وأن أصلها حائجة وقائمة. وأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط، أو قدم شيئًا، فاضطرب الكلام.

(6/385)


بيحيى أنه من عند الله = (1) آية من نفسه، جمعَ تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربَّه على ما يبيِّن له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصًا له من هفوته، وخطإ قِيله ومسألته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7005 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا"، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشَّرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا".
7006 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أن الله يبشرك بيحيى مصدِّقًا"، قال: شافهته الملائكة، فقال:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبةً عُوقب بها، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
7007 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله:"رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
__________
(1) في المطبوعة: "على تخصيص ما سمع ... "، وهو فاسد لا معنى له، وأوقعه في ذلك أن كاتب المخطوطة كتب أولا تخصيص" ثم عاد فطمس الصاد الأولى، ووضع عليها نقطتي القاف، ثم ركب على حوض الصاد (ص) دائرة القاف، فلم يستطع الناشر الأول أن يقرأ ذلك إلا على الوجه الذي هرب منه الناسخ!!
وسياق هذه العبارة"فجعل آيته. . . آية من نفسه" وتلك الآية: أنه حبس لسانه فلم يكلم الناس إلا كما أمر، رمزًا.

(6/386)


أيام إلا رمزًا"، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعدُ، فأخِذَ بلسانه.
7008 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت:"أنّ الله يبشرك بيحيى"، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخِذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول: يومئ إيماءً.
7009 - حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جُبير بن نُفير في قوله:"قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: ربَا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله:"ألا تكلم الناس"، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام = فكانت"أن" هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام = أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام = كان وجه الكلام الرفع. لأن"أن" كانت تكون حينئذ بمعنى
__________
(1) الأثر: 7009-"أبو عبيد الوصابي" هو: "محمد بن حفص"، مضى في التعليق على رقم: 129، 6780، وكان في المطبوعة: "الرصافي"، وفي المخطوطة"الوصافي"، وكلاهما خطأ. و"محمد بن حمير" مضى أيضًا في: 129: 6870. و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي الحمصي" روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي وجبير بن نفير، وجماعة. كان ثقة مأمونًا، مترجم في التهذيب. و"جبير بن نفير"، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وكان جاهليًا، أسلم زمن أبي بكر وروى عن رسول الله وعن أبي بكر مرسلا، وروى عن أبي ذر وأبي الدرداء وغيرهما من الصحابة. قال أبو حاتم: "ثقة من كبار تابعي أهل الشام". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "جويبر بن نصير"!! وهو خطأ لا شك فيه، والصواب في المخطوطة.

(6/387)


الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزًا، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر.
* * *
وأما"الرّمز"، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت:"الرمز"، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ: (1)
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزًا ... وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ (2)
يقال منه:"رَمز فلان فهو يَرْمِزُ ويرمُز رَمزًا = ويترمَّزُ ترمُّزًا"، ويقال:"ضربه ضربةً فارتمز منها"، أي اضطرب للموت، قال الشاعر: (3)
خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ (4)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، وأيّ معاني"الرمز" عني بذلك؟
فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "حوبة بن عابد"، وهو لا معنى له في الصواب ولا في الخطأ. وهو في المخطوطة بهذا الرسم غير منقوط. والصواب ما أثبت.
وهو جؤبة بن عائذ النصري، فيما روى ابن السكيت في تهذيب الألفاظ: 125. أما الآمدي في المؤتلف والمختلف: 83، فقد سماه: "عائذ بن جؤية بن أسيد بن جرار بن عبد بن عاثرة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذكره أيضًا البغدادي في الخزانة 1: 476. والعجب لبعض من يعلق على تفسير الطبري أن يزعم كالقاطع الجازم أنه"جؤية بن عائذ الكوفي النحوي"!!
(2) لم أجد البيت فيما بين يدي من الكتب، ولكني أذكره. وكان في المطبوعة: "وكان يكلم" والصواب ما أثبت.
(3) لم أعرف هذا الراجز.
(4) اللسان (رمز) .

(6/388)


7010 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"إلا رمزًا"، قال: تحريك الشفتين.
7011 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: إيماؤه بشفتيه.
7012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك:
7013 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"إلا رمزًا"، قال: الإشارة.
7014 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا رمزًا"، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم.
7015 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إلا رمزًا"، قال: الرمزُ: أنْ أخِذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده.
7016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إلا رمزًا"، قال: والرمز الإشارة.
7017- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، الآية، قال:

(6/389)


جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا، إلا أنه يذكر الله. والرّمز: الإشارة، يشير إليهم.
7018 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا رمزًا"، إلا إيماءً.
7019 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7020 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا رمزًا"، يقول: إشارة.
7021 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"إلا رمزًا"، إلا إشارة.
7022 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: أمسكَ بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (41) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا،"آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، ="واذكر ربك كثيرًا"، فإنك لا تمنع ذكرَه، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، (1) وقد:-
__________
(1) انظر تفسير"سبح" فيما سلف 1: 472-474، وفهارس اللغة.

(6/390)


7023 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخَّص لزكريا حيث قال:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا"، أيضًا.
* * *
وأما قوله:"وسبح بالعشي"، فإنه يعني: عَظِّم ربك بعبادته بالعشي.
* * *
و"العَشيّ" من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر: (1)
فَلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ، ... وَلا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ (2)
فالفيء، إنما تبتدئ أوْبته عند زوال الشمس، وَيتناهى بمغيبها.
* * *
__________
(1) هو حميد بن ثور الهلالي.
(2) ديوانه: 40، وهو من قصيدته الجيدة التي قالها، لما تقدم عمر بن الخطاب إلى الشعراء، أن لا يشبب أحد بامرأة إلا جلده، فخرج من عقوبة عمر بأن ذكر"سرحة" وسماها"سرحة مالك" فشكا أهلها إلى عمر، فقال لهم: تجرَّمَ أهْلُوهَا، لأَنْ كُنْتُ مُشْعَرًا ... جُنُونًا بها!! يا طُولَ هذَا التَجَرُّمِ!
وَمَا لِيَ من ذَنْبٍ إِلَيْهِمْ عَلِمْتُهُ ... سِوَى أنّني قَدْ قُلْتُ: "يَا سَرْحَةُ اسْلَمِى"
بَلَى، فاسلِمي، ثُمَّ اسْلَمِي، ثُمَّتَ اسلمي، ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ، وإن لم تَكَلَّمي
فكان رحمه الله خفيف الدم (كما يقول المصريون) . أما الأبيات التي منها البيت المستشهد به، فإنه ذكر السرحة واستسقى لها، ووصفها واستجاد لصفتها مكارم الصفات، ثم قال: فَيَا طِيبَ رَيَّاهَا، وَيَا بَرْدَ ظِلِّهَا ... إذَا حَانَ من حَامي النّهارِ وُدُوقُ
وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ ... من السَّرْحِ، مَسدُودٌ عَلَيَّ طريقُ
حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيقَةِ، خَائِفٌ ... عَلَيْهَا غَرَامَ الطَّائِفينَ، شَفِيقُ
فَلاَ الظِلَّ مِنْهَا بالضُّحَى تَسْتَطِيعُه ... وَلاَ الفَيْءَ مِنْهَا بالعَشِيّ تَذُوقُ
مع اختلاف الروايتين كما ترى.

(6/391)


وأما"الإبكار" فإنه مصدر من قول القائل:"أبكر فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا"، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى، فذلك"إبكار". يقال فيه:"أبكر فلان" و"بكر يَبكُر بُكورًا". فمن"الإبكار"، قول عمر بن أبي ربيعة:
أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ (1)
ومن"البكور" قول جرير:
أَلا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا ... وَشَقَّ العَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا (2)
ويقال من ذلك:"بكر النخلُ يَبْكُر بُكورًا = وأبكر يُبكر إبكارًا"، (3) و"الباكور" من الفواكه: أوّلها إدراكًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7024 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وسبِّح بالعشيّ والإبكار"، قال:
__________
(1) ديوانه: 1، من قصيدته النفيسة، يقولها في"نعم"، وهي امرأة من قريش، من بني جمح، كان عمر كثير الذكر لها في شعره. وكأن شعره فيها من أصدق ما قال في امرأة، وهذا الشطر أول القصيدة وتمامه: غَدَاةَ غَدٍ? أمْ رَائحٌ فَمُهَجِّر?"
(2) ديوانه: 293، والنقائض: 7، يجيب حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جريرًا. قال أبو عبيدة: "شق العصا: التفرق، ومن هذا يقال للرجل المخالف للجماعة: قد شق العصا. وأميرها: الذي تؤامره، زوجها أو أبوها".
(3) هذا نص خلت منه كتب اللغة، وحفظه أبو جعفر. وهو صواب، فإنهم قالوا: "البكيرة والباكورة والبكور" من النخل: التي تدرك في أول النخل، فذكروا الصفات، وتركوا الفعل. فهي زيادة ينبغي تقييدها.

(6/392)


وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

الإبكار أوّل الفجر، والعشيّ مَيْل الشمس حتى تغيب. (1)
7025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله سميعٌ عليم إذ قالت امرأة عمران ربّ نذرتُ لك ما في بطني محرَّرًا"،"وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك".
* * *
ومعنى قوله:"اصطفاك"، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته. (2)
* * *
وقوله:"وطهَّرك"، يعني: طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم (3)
* * *
="واصطفاك على نساء العالمين"، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، (4) بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهم، كما روى عن رسول الله صلى الله
__________
(1) في المخطوطة: "مثل الشمس حيا يعيب"،!!! هكذا كتب وأعجم!!
(2) انظر معنى"اصطفى" فيما سلف 3: 91 / ثم 5: 312 / 6: 326.
(3) انظر معنى"طهر" فيما سلف 3: 38-40، وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146 / 2: 23-26 / ثم 5: 375.

(6/393)


عليه وسلم أنه قال:"خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد" = يعني بقوله:"خير نسائها"، خير نساء أهل الجنة.
7026 - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا محاضر بن المورّع قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًّا بالعراق يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة. (1)
7027 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. (2)
__________
(1) الحديث: 7026- محاضر بن المورع الهمداني الكوفي، وكنيته"أبو المورع" أيضًا: ثقة، لينة أحمد وأبو حاتم. ورجحنا في المسند: 3823 توثيقه. ووثقه ابن سعد 6: 278. و"محاضر": بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة. و"المورع": بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وآخره عين مهملة.
والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الله بن نمير: 640، وعن وكيع: 1109، وعن محمد ابن بشر: 1211- ثلاثتهم عن هشام بن عروة. ورواه ابنه عبد الله، في المسند: 938، عن طريق أبي خيثمة، ووكيع، وأبي معاوية - ثلاثتهم عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري 6: 339، و 7: 100-110، ومسلم 2: 243، والترمذي 4: 365- كلهم من طريق هشام بن عروة، به.
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 184، عن طريق ابن نمير، ثم من طرق المسند عن وكيع وابن نمير.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، وفي التاريخ 2: 59، عن رواية الصحيحين.
وذكره السيوطي 2: 23، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وابن مردويه.
(2) الحديث: 7027- المنذر بن عبد الله بن المنذر الحزامي: ثقة، كان من سروات قريش وأهل الندى والفضل. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 243- فلم يذكرا فيه جرحًا.
والحديث هو الحديث السابق. ولكنه هنا من حديث عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من حديثه عن عمه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهو إما مرسل صحابي، وإما قصر الراوي عن هشام، فترك ذكر علي، والأرجح أن يكون عبد الله بن جعفر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعه عنه بواسطة علي. فرواه على الوجهين. وهو صحيح بكل حال.

(6/394)


7028 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، من نساء العالمين = قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"خيرُ نساء ركبن الإبل صوالحُ نساء قريش، أحناهُ على ولد في صغره، وأرعاهُ على زوج في ذات يده" = (1) قال قتادة: وذكر لنا أنهُ كان يقول:"لو علمت أنّ مريم ركبت الإبل، ما فضّلت عليها أحدًا". (2)
__________
(1) من العربية العريقة إعادة الضمير المفرد بعد أفعل التفضيل، على الجمع، وقد جاء في الشعر، وجاء في الآثار كقوله: "كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا". وقد سلف بيان ذلك في رقم: 5968، 6129، (فانظره) .
(2) الحديث: 7028 - هو حديث مرسل. بل هو في حقيقته ثلاثة أحاديث، يقول قتادة في أول كل منها: "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول":
فأولها -"حسبك بمريم ... "-: ثبت موصولا. فرواه أحمد في المسند: 12418 (ج 3 ص 135 حلبي) - عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - هو ابن مالك - مرفوعًا، بنحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 3: 157-158، عن أبي بكر القطيعي - راوي المسند - عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن عبد الرزاق. ولكنه ذكر أنه رواه عن القطيعي "في فضائل أهل البيت، تصنيف أبي عبد الله أحمد بن حنبل". فلم يروه من كتاب (المسند) ، إنما رواه من كتاب آخر لأحمد والإسناد واحد.
ورواه الترمذي 4: 366، وابن حبان في صحيحه (2: 375 من مخطوطة التقاسيم والأنواع) - كلاهما من طريق عبد الرزاق، به.
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: حسبك من نساء العالمين - يسوي بين نساء الدنيا".
وقد يوهم كلام الحاكم أن الشيخين روياه من حديث أنس بغير هذا اللفظ. والشيخان لم يروياه من حديث أنس أصلا.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 59-60، من رواية المسند، وفي التفسير 2: 138-139، من رواية الترمذي. وأشار في الموضعين إلى رواية ابن مردويه إياه من طريق ثابت عن أنس. وسيأتي من رواية ثابت: 7030. وسنذكره هناك، إن شاء الله.
وأشار الحافظ في الفتح 6: 340، إلى رواية الترمذي إياه، وقال: "بإسناد صحيح".
وثانيها: "خير نساء ركبن الإبل ... " - وسيأتي عقب هذا: 7029، من رواية قتادة، عن أبي هريرة. وسيأتي عقب هذا: ونذكر علته وتخريجه هناك، إن شاء الله.
وثالثها: "لو علمت أن مريم ركبت الإبل، ما فضلت عليها أحدًا". وهو لفظ منكر، ما علمته ثبت من طريق متصل. والصحيح أنه من كلام أبي هريرة، كما سيأتي في الحديث التالي.

(6/395)


7029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان أبو هريرة يحدث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرُ نساء ركبن الإبل صُلحُ نساء قُرْيش، أحناه على ولد، وأرعاه لزوج في ذات يده = قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط. (1)
__________
(1) الحديث: 7029- وهذا إسناد منقطع، لأن قتادة بن دعامة السدوسي لم يدرك أبا هريرة، لأنه ولد سنة 61، بعد وفاة أبي هريرة. ولذلك قال هنا: "كان أبو هريرة يحدث"، فهو شبيه في عبارته بالبلاغ.
ومتن الحديث صحيح:
فرواه أحمد في المسند: 7637، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، بنحوه، مطولا.
ورواه كذلك: 7695، بهذا الإسناد، مختصرًا.
ورواه: 7638، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، مختصرًا.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، عن الرواية الأولى من المسند، ثم قال: "ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد - كلاهما عن عبد الرزاق، به". وذكره أيضًا في التاريخ 2: 60، ثم أشار إلى رواية مسلم.
ورواية مسلم، هي في صحيحه 2: 370.
ورواه أيضا البخاري 9: 107-108، و 448، ومسلم 2: 369-370، من طرق عن أبي هريرة.
والروايات الصحاح، هي أن أبا هريرة قال من عند نفسه، في آخر الحديث: "ولم تركب مريم بعيرًا قط".
وأما رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ الذي في الحديث السابق - فهو كما قلنا: "لفظ منكر".
قوله"صلح" - بضمتين: هكذا في المخطوطة. وكان ناسخها كتب"صوالح"، ثم ضرب عليها وكتب"صلح". و"صلح": جمع"صليح". يقال: صالح وصلح، وهو جمع محمول على"فعيل" في الأسماء، فقالوا في جمع الصفات: "نذير ونذر، وجديد وجدد"، كما قالوا في الأسماء"كثيب وكثب". وهذا حرف لم ينص عليه في كتب اللغة.

(6/396)


7030 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان ثابت البناني يحدث، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1)
7031 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرّجال كثيرٌ،
__________
(1) الحديث: 7030- هذا إسناد ضعيف، لجهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري، إذ قال"حدثت" بالبناء للمجهول.
وابن أبي جعفر: هو عبد الله الرازي. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 127.
أبوه "أبو جعفر الرازي": اختلف في اسمه، والراجح أنه"عيسى بن ماهان". وهو ثقة، وثقه ابن المديني، وابن سعد 7 / 2 / 109، وغيرهما. ترجم في التهذيب في الكنى، وترجمه ابن أبي حاتم في ترجمة"عيسى" 3 / 1 / 280. وقد أشرنا إلى ترجمته في: 164. ولم أستطع أن أجد ما يدل على أنه أدرك ثابتًا البناني.
ثم هذا الحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 139، والتاريخ 2: 60 أنه رواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس. وزاد في التاريخ أنه رواه ابن عساكر من طريق تميم بن زياد، عن أبي جعفر الرازي، ولكنه لم يكشف عن سنده في ابن مردويه إلى ابن أبي جعفر، ولا عن سنده في ابن عساكر إلى تميم بن زياد، فلا نستطيع أن نتبين صحة هذين الإسنادين أو أحدهما.
وقد مضى في شرح 7028، أنه رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم - من حديث معمر، عن قتادة، عن أنس. فأغنى ثبوته من ذاك الوجه الصحيح عن هذا الوجه الضعيف، أو المشكوك في صحته. والحمد لله.

(6/397)


ولم يكمل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1)
7032 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود المصري قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيتُ، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتًا في عامي هذا، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت: فبكيتُ، ثم قال: أنت سيدة
__________
(1) الحديث: 7031- آدم العسقلاني: هو آدم بن أبي إياس، شيخ البخاري. مضى مرارًا.
عمرو بن مرة: هو الجملي المرادي. مضى توثيقه: 175. واسم جده"عبد الله بن طارق". فمرة أبوه، غير"مرة الهمداني" شيخه هنا. فإنه"مرة بن شراحيل الهمداني" الثقة التابعي المخضرم. وقد مضى مرارًا. والحديث رواه البخاري 6: 340، عن آدم - وهو ابن أبي إياس العسقلاني، بهذا الإسناد، مطولاً.
ورواه أيضا 6: 320، من طريق وكيع، عن شعبة، ورواه أيضًا 7: 83، عن آدم، وعن عمرو - وهو ابن مرزوق - كلاهما عن شعبة.
ونقله ابن كثير في التفسير 2: 139، عن هذا الموضع من الطبري، ثم قال: "وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة، به". ثم ذكر أنه استقصى طرقه في التاريخ. ولكنه لم يفعل، فإنه ذكره فيه 2: 61، منسوبًا إلى"الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة".
وذكره السيوطي 2: 23، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(6/398)


نساء أهل الجنة إلا مريم البتول. فتوفي عامه ذلك. (1)
7033 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال
__________
(1) الحديث: 7032- أبو الأسود المصري: هو النضر بن عبد الجبار بن نصير المرادي. وهو ثقة. روى عنه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وغيرهما.
عمارة بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء التحتية - بن الحارث، الأنصاري المازني المدني: ثقة، وثقه ابن سعد، والدارقطني، وغيرهما، وأخرج له مسلم في الصحيح.
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ثقة، وثقه النسائي، والعجلي، وغيرهما. وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا". وكان جوادًا ممدحًا. وهو المعروف بالديباج، لحسنه. وأبوه"عبد الله بن عمرو بن عثمان": هو المعروف بالمطرف، لحسنه أيضًا.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة"محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان". وهو خطأ يقينًا في اسم والد"محمد". فهو"عبد الله"، لا"عبد الرحمن".
وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: تابعية ثقة. كانت تحت ابن عمها"الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، وأعقبت منه، فلما مات تزوجت"المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان". زوجه إياها ابنها عبد الله بن حسن بن حسن، بأمرها، فأعقبت منه أولادًا، منهم "محمد" الراوي عنها هنا. وعمرت فاطمة حتى قاربت التسعين.
وروايتها عن جدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواية منقطعة، ظاهرة الإرسال، لأن الزهراء ماتت بعد أبيها بستة أشهر، وكان ولدها الحسن والحسين صغيرين.
فهذا الحديث ضعيف الإسناد، لهذا الانقطاع.
ولم أجده في شيء من الدواوين غير هذا الموضع.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح مرتين، لم ينسبه فيهما لغير الطبري:
فأشار إليه 6: 104، وجعله"عند الطبري من وجه آخر عن عائشة"، وهو وهم، فإنه من حديث فاطمة، كما ترى.
ثم أشار إليه 7: 82 على الصواب، من حديث فاطمة.
ووقع فيه في الموضعين غلط من ناسخ أو طابع.
وأصل هذه القصة ثابت من حديث عائشة، في الصحيحين وغيرهما. ولكن ليس فيه ذكر عيسى وعمره، ولا أنه"لم ترزأ امرأة ... ".
وعمر عيسى المذكور - في هذه الرواية- منكر جدًا، لم نجد أحدًا قال مثل هذا، فيما نعلم. وهو من دلائل ضعف هذه الرواية.
وانظر حديث عائشة في البخاري 65: 462، و 7: 63-64، و 8: 103-104 (فتح) ، ومسلم 2: 248-249، وابن سعد 2 / 2 / 39-40، و 8: 17.

(6/399)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: فُضّلت خديجةُ على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين. (1)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله:"وطهرك"، أنه: وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب، قاله مجاهد. (2)
7034 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن الله اصطفاك وطهرك"، قال: جعلك طيبةً إيمانًا.
7035 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
7036 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح:"واصطفاك على نساء العالمين"، قال: ذلك للعالمين يومئذ. (3)
* * *
وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا.
7037 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال:
__________
(1) الحديث: 7033- هذا إسناد ضعيف بكل حال.
أما أبو زياد الحميري: فلم نعرف من هو؟ ولم نجد له ترجمة ولا ذكرًا. والغالب أنه محرف عن شيء لا ندريه.
وأما "عمار بن سعد بن عابد المؤذن": فإنه المعروف أبوه بلقب"سعد القرظ" المؤذن. وعمار هذا تابعي، نص في التهذيب على أن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة. وقد ترجمه الحافظ في الإصابة 5: 83، في القسم الثاني، الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قال مجاهد"، والصواب ما أثبت كما يدل عليه السياق.
(3) انظر ما سلف ص: 393 تعليق: 4، مراجع تفسير"العالمين".

(6/400)


يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

كانت مريم حبيسًا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غُلام اسمه يُوسف، وقد كانَ أمه وأبوه جعلاه نذيرًا حبيسًا، فكانا في الكنيسة جميعًا، وكانت مريم، إذا نَفِدَ ماؤها وماء يوسف، أخذا قُلَّتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذِبان منه، (1) فيملآن قلتيهما، ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم:"يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، فإذا سمع ذلك زكريا قال: إنّ لابنة عمرانَ لشأنًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم:"يا مريم اقنتي لربك"، أخلصي الطاعة لربك وحده.
* * *
وقد دللنا على معنى"القنوت"، بشواهده فيما مضى قبل. (2) والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معنى"اقنتي"، أطيلي الرُّكود.
ذكر من قال ذلك:
7038 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) يستعذبان: يستقيان، وأصله من قولهم: "استعذب": أي استقى أو طلب ماء عذبًا. وفي الحديث: "أنه كان يستعذب له من بيوت السقيا"، أي يحضر له منها الماء العذب.
(2) انظر ما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228، 237 / 6: 264.

(6/401)


عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود، يعني القنوت.
7039 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7040 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"اقنتي لربك"، قال قال مجاهد: أطيلي الركود في الصّلاة = يعني القنوت.
7041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى وَرِم كعباها.
7042 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى ورمت قدَماها.
7043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد:"اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود.
7044 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة. يقول: اركدي لربّك: أي انتصبي له في الصلاة ="واسجدي واركعي مع الراكعين".
7045 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تصلي حتى تَرِم قدماها.

(6/402)


7046 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا الأوزاعي:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تقوم حتى يَسيل القيح من قدميها.
* * *
وقال أخرون: معناه: أخلصي لربك.
ذكر من قال ذلك:
7047 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أخلصي لربك.
* * *
وقال أخرون: معناه: أطيعي ربك.
ذكر من قال ذلك:
7048 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"اقنتي لربك"، قال: أطيعي ربك.
7049 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اقنتي لربك"، أطيعي ربك.
7050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله. (1)
7051 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"يا مريم اقنتي لربك"، قال يقول: اعبدي ربك.
* * *
__________
(1) الأثر: 7050 - هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم: 5518 من طريق الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن ابن لهيعة.

(6/403)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قال أبو جعفر: وقد بينا أيضًا معنى"الرّكوع""والسجود" بالأدلة الدالة على صحته، (1) وأنهما بمعنى الخشوع لله، والخضوع له بالطاعة والعُبُودة. (2)
* * *
فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دَهرك.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا"، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فقال: هذه الأنباء من"أنباء الغيب"، أي: من أخبار الغيب.
ويعني ب"الغيب"، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من
__________
(1) انظر تفسير"السجود" فيما سلف 2: 104، 105، 242، وفهارس اللغة، وتفسير"الركوع" فيما سلف 1: 574، 575 / ثم 3: 43، 44، وفهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت صواب ما في المخطوطة، والطبري يكثر من استعمالها كذلك. انظر ما سلف: 271؛ والتعليق: 1.

(6/404)


قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
* * *
وأما"الغيْب" فمصدر من قول القائل:"غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً". (1)
* * *
وأما قوله:"نُوحيه إليك"، فإن تأويله: نُنَزِّله إليك.
* * *
وأصل"الإيحاء"، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [سورة النحل: 68] ، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) [سورة المائدة: 111] ، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز: (2)
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (3)
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم: 11] ، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. (4) والأصل
__________
(1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1: 236، 237.
(2) هو العجاج.
(3) ديوانه 5، واللسان"وَحَى"، وسيأتي في التفسير 4: 142 (بولاق) ، وغيرها. ورواية ديوانه، وإحدى روايتي اللسان"وحى" ثلاثيًا، وقال: "أراد أوحى"، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف"، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (16: 41 بولاق) . والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله: الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ ... بِإِذْنِه السَّماءُ، وَاطْمأَنَّتِ
بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ ... وَحَى لَهَا القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ
وَشدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثَّبتِ ... رَبُّ البِلادِ والعِبَادِ القُنَّتِ
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فألقى ذلك إليهم أيضًا"، وهو خطأ بين، والصواب ما أثبته، وانظر ما سلف قريبًا في بيان قوله تعالى: "رمزًا"، ص: 388، وما بعدها.

(6/405)


فيه ما وصفتُ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله: (1) (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) [سورة الأنعام: 121] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً، وقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام: 19] ، (2) ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.
وأما"الوحْي"، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب"وحيًا"، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير:
أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (3)
يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب:"وحَى" بغير ألف، ومنه قول رؤبة:
كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وذلك قوله"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) قوله: "لأنذركم به ومن بلغ"، ليس في المخطوطة.
(3) ديوانه: 64، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف 1: 106، وهي قصيدة جيدة، يرد فيها ما قاله فيه مزرد، أخو الشماخ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه، فغضب مزرد وهجاه، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير: فَإِنْ تَسْأَلِ الأَقْوَامَ عَنِّي، فَإِنَّنِي ... أَنَا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ
أنَا ابنُ الَّذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً ... فَلَمْ يَخْزَ يَوْمًا في مَعَدٍّ وَلَمْ يُلَمْ
وَأَكْرَمَهُ الأكْفَاءُ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... كِرَامٍ، فَإِنْ كَذَّبْتَني، فَاسْأَلِ الأُمَمْ
أَتَى العُجْمَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) ديوانه: 149، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح، وهو غريب الكلام، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه، وعفته الرياح. وقوله: "تدهمه" تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون) : كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا: ضربها فأثر فيها، كما يثم الفرس الأرض بحوافره: أي يدقها، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب: رقشه وزخرفه وأدق حظه: وقارب بين حروفه الدقاق، وتلك هي النمنمة.

(6/406)


القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كنت لديهم"، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ.
* * *
ومعنى قوله:"لديهم"، عندهم.
* * *
ومعنى قوله:"إذ يلقون"، حينَ يلقون أقلامهم.
* * *
وأما"أقلامهم"، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله:"وكفَّلها زكريا". (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7052 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وما كنت لديهم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
7053 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
__________
(1) انظر ما سلف ص: 345-352.

(6/407)


عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يلقون أقلامهم"، زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم.
7054 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها،"فكفَّلها زكريا"، يقول: ضمها إليه. (1)
7056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يلقون أقلامهم"، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا.
7057 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون".
7058 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد
__________
(1) قوله: "وكان زوج أختها"، يعني زوج أخت أم مريم، لا زوج أخت مريم، وكأن الخبر لما اختصر، سقط منه ذكر أم مريم، وبقي باقي الخبر على حاله، وقد بينت ذلك فيما سلف ص: 349، تعليق: 4.

(6/408)


قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم، فقرَعهم زكريا.
7059 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم"، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله.
* * *
وإنما قيل:"أيهم يكفل مريم"، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل:"إذ يلقون أقلامهم"، دلالة على محذوف من الكلام، وهو:"لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه".
* * *
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في"أيهم" النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن"النظر" و"التبين" و"العلم" مع"أيّ" يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ"أىّ" في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل:"لأنظُرَنّ أيهم قام"، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم:"لأعلمن".
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى"يكفل"، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 348.

(6/409)


القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.
وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟
كما:-
7060 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما كنت لديهم إذ يختصمون"، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت الملائكة"، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك.
* * *
__________
(1) الأثر: 7060- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو من بقية الآثار التي كان آخرها رقم: 6911.

(6/410)


" والتبشير" إخبار المرء بما يسره من خبر. (1)
* * *
وقوله:"بكلمة منه"، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل:"ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها"، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) [سورة النساء: 171] ، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها.
* * *
فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.
* * *
وقد قال قوم - وهو قول قتادة -: إن"الكلمة" التي قال الله عز وجل:"بكلمة منه"، هو قوله:"كن".
7061 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"بكلمة منه"، قال: قوله:"كن".
* * *
فسماه الله عز وجل"كلمته"، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء:"هذا قدَرُ الله وقضاؤُه"، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) [سورة النساء: 47 \ سورة الأحزاب: 37] ، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (2)
* * *
__________
(1) انظر معنى"التبشير" فيما سلف في هذا الجزء: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة هنا"من خير". وفي المخطوطة غير منقوطة، وصوابه ما أثبت.
(2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

(6/411)


وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.
* * *
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"الكلمة" هي عيسى.
7062 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه"، قال: عيسى هو الكلمة من الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل:"اسمه المسيح"، فذكَّر، ولم يقُل:"اسمُها" فيؤنث، و"الكلمة" مؤنثة، لأن"الكلمة" غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى"فلان"، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية"الذرّية" و"الدابّة" والألقاب، (1) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (2)
* * *
فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى = ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال:"اسمه المسيح"، وقد قال:"بكلمة منه"، و"الكلمة"، عنده هي عيسى = لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا) ، ثم قال (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا) [سورة الزمر: 56- 59] ، وكما يقال:"ذو الثُّدَيَّة"، لأن يده
__________
(1) الكناية: الضمير، كما سلف مرارًا، وهو من اصطلاح الكوفيين.
(2) انظر ما سلف 2: 210 / ثم هذا الجزء: 362، 363، ومواضع أخرى.

(6/412)


كانت قصيرة قريبة من ثدييه، (1) فجعلها كأنّ اسمها"ثَدْيَة"، ولولا ذلك لم تدخل"الهاء" في التصغير.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ"الهاء" من ذكر"الكلمة"، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله"اسمه"، و"الكلمة"، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل:"اسمه"، وقد قدّمت"الكلمة"، ولم يقل:"اسمها"، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ"فلان" و"فلان"، وذلك، مثل"الذرّية" و"الخليفة" و"الدابة"، ولذلك جاز عنده أن يقال:"ذرية طيبة" و"ذرّيةً طيبًا"، ولم يجز أن يقال:"طلحة أقبلت = ومغيرة قامت". (2)
* * *
وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ"ذي الثدية"، وقالوا: إنما أدخلت"الهاء" في"ذي الثدية"، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل:"كنا في لحمة ونَبيذة"، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
* * *
وأما قوله:"اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم"، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، (3) كما:-
__________
(1) خبر ذي الثدية مشهور معروف، انظر سنن أبي داود"باب قتال الخوارج" 4: 334-338.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 362، 363.
(3) في المطبوعة: "قذفت به"، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء: رماه به واتهمه، فهو مقروف. وقوله: "المفترية" مرفوعة فاعل"قرفت أمه به"، ويعني الفئة المفترية.

(6/413)


7063 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، أي: هكذا كان أمرُه، لا ما يقولون فيه. (1)
* * *
وأما"المسيح"، فإنه"فعيل" صرف من"مفعول" إلى"فعيل"، وإنما هو"ممسوح"، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم:"المسيح" الصدّيق ... (2)
7064 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
7065 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
* * *
وقال آخرون: مُسح بالبركة.
7066 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي"المسيح"، لأنه مُسِح بالبركة.
* * *
__________
(1) الأثر: 7063- سيرة ابن هشام 2: 229-230، وهو من بقية الآثار التي آخرها: 7060، ونصه: "لا كما تقولون فيه".
(2) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى"إبراهيم" ثم يليه الأثر رقم: 7064، فيه أن المسيح هو الصديق، كما ذكر. وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط: "وقال آخرون: مسح بالبركة"، وهو كلام لا يستقيم، كما ترى، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم: 7066، واستجزت أن أصنع ذلك، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة.
هذا، وفي تفسير"المسيح" أقوال أخر كثيرة، لا أظن الطبري قد غفل عنها، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا.

(6/414)


إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

القول في تأويل قوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله"وجيهًا"، ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس"وجيه"، يقال منه:"ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً" ="وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً"، و"الجاه" مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل:"جاه"، وإنما هو"وجه"، و"فعل" من الجاه:"جاهَ يَجوه". مسموع من العرب:"أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا"، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
* * *
وأما نصب"الوجيه"، فعلى القطع من"عيسى"، (1) لأن"عيسى" معرفة، و"وجيه" نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على"الكلمة" كانَ جائزًا.
* * *
وبما قلنا (2) = من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله = قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.
7067 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وجيهًا"، قال: وجيهًا في الدنيا والأخرة عند الله. (3)
* * *
وأما قوله:"ومِنَ المقرّبين"، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-
__________
(1) "القطع"، كما أسلفنا في مواضع متفرقة، هو الحال، انظر ما سلف في هذا الجزء: 371، تعليق: 2، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 213.
(2) في المطبوعة: "كما قلنا"، والصواب من المخطوطة.
(3) الأثر: 7067- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7063.

(6/415)


7068 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن المقربين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
7069 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن المقرّبين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
7070 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *

(6/416)


وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

القول في تأويل قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويكلمُ الناس في المهد"، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
= ف"يكلم"، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة"يفعل" بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (1)
بِتُّ أُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ (2)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167، والخزانة 2: 345، واللسان (كهل) . وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر، "ويعشيها" من العشاء، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم، والعضب: السيف القاطع، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.
هذا، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1: 213، 214.

(6/416)


وأما"المهد"، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:-
7071 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"ويكلم الناس في المهد"، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.
* * *
وأما قوله:"وكهلا"، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (1) ودُون الشيخوخة، يقال منه:"رجل كهل = وامرأة كهلة"، كما قال الراجز: (2)
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيَّا ... أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصَّبِيَّا (3)
* * *
__________
(1) يقال: "غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية"، مثل: "الطفولة والطفولية".
(2) هو عذافر الفقيمي.
(3) الجمهرة 3: 339، المخصص 1: 40 أمالي، القالي 2: 215، والسمط: 836، شرح أدب الكاتب لابن السيد: 217، 389، وللجواليقي: 295، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة، فأكرى معه رجل من بني حنيفة، من أهل البصرة، بعيرًا يركبه هو وزوجته، وكان اسمها"شعفر"، فقال يرجز بهما: لَوْ شَاءَ رَبِّي لَمْ أكُنْ كَرِيَّا ... وَلَمْ أَسُقْ بَشَعْفَرَ المطَّيا
بَصْرِيّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيَّا ... يُطْعِمُهَا المَالِحَ والطَّرِيَّا
وَجَيِّدَ البُرِّ لَهَا مَقْلِيَّا ... حَتَّى نَتَتْ سُرَّتُها نَتِيَّا
وَفَعَلَتْ ثُنَّتُها فَرِيَّا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والرجز المروي بعد هذه الأبيات، فيما يظهر. والكري: المكاري، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر: وَالْعَزَبَ المُنَفَّهَ الأُمِّيَّا
والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام.

(6/417)


وإنما عنى جل ثناؤه بقوله:"ويكلم الناسَ في المهد وكهلا"، ويكلم الناس طفلا في المهد = دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، (1) وحجة له على نبوّته = وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، (2) بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينزل عليه من كتابه. (3)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (4) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (5) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم
__________
(1) في المطبوعة: "قذفها"، وانظر آنفًا: ص 413، تعليق: 3.
(2) قوله: "وبالغًا" معطوف على قوله آنفًا: "طفلا في المهد". ثم قوله: بعد"بوحي الله" جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: "ويكلم الناس. .".
(3) في المطبوعة: "وما تقول عليه"، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة، مستفسدة مستصلحة، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!
(4) في المطبوعة: "بالباطل"، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: "الباطل" منصوب مفعول به لقوله: "القائلين ... "
(5) في المطبوعة: "وأنه كان في معناه أشياء مولودًا ... "، وفي المخطوطة: "وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا ... "، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا، حتى ضفت به، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن"معه أشيا" هي"منذ أنشأه" كما أثبتها. والسياق: "أنه كان ... يتقلب في الأحداث"، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.

(6/418)


لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:-
7072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين": يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (1)
7073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين"، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7074 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7075 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكهلا ومن الصالحين"، قال: الكهلُ الحليم.
7076 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.
7077 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 7072- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7067.

(6/419)


قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

وقال آخرون: معنى قوله:"وكهلا"، أنه سيكلمهم إذا ظهر.
ذكر من قال ذلك:
7078 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.
* * *
ونصب"كهلا"، عطفًا على موضع"ويكلم الناس".
* * *
وأما قوله:"ومن الصالحين"، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم = إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه =:"ربِّ أنَّى يكون لي ولد"، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ (1) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، (2) ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها ="كذلك الله يخلق ما يشاء"، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد
__________
(1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / 5: 312، 447 / 6: 358.
(2) في المخطوطة: "أي تبتدئ"، وهو خطأ، وفي المطبوعة: "أو تبتدئ" وآثرت الذي أثبت.

(6/420)


وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)

من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له: (1) "كن فيكون" ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء، كما:-
7079 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء"، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر ="إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن"، مما يشاء وكيف يشاء ="فيكون" ما أراد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: (وَيُعلِّمُهُ) بالياء، ردًّا على قوله:"كذلك الله يخلق ما يشاء"،"ويعلمه الكتاب"، فألحقوا الخبرَ في قوله:"ويعلمه"، بنظير الخبر في قوله:"يخلق ما يشاء"، وقوله:"فإنما يقول له كنْ فيكون".
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من السياق.
(2) الأثر: 7079- سيرة ابن هشام 2: 230 من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7072، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إذا قضى أمرًا ... "، وظاهر أن"أي" لا مكان لها هنا، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا"فإنما يقول له كن فيكون، مما يشاء ... ". وظاهر أيضًا زيادة"فيكون" هنا، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا، ولأنها ستأتي بعد، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام"فيكون، كما أراد"، وكلاهما صواب.

(6/421)


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (وَنُعَلِّمُهُ) بالنون، عطفًا به على قوله:"نوحيه إليك"، كأنه قال:"ذلك من أنباء الغيب نُوحيه إليك""ونعلمه الكتاب". وقالوا: ما بعد"نوحيه" في صلته إلى قوله:"كن فيكون"، ثم عطف بقوله:"ونعلمه" عليه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه.
* * *
وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده = والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب = والتوراة، وهي التوراة التي أنزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى = والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.
وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ونعلمه الكتاب"، قال: بيده.

(6/422)


وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

7081 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة.
7082 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، قال:"الحكمة" السنة ="والتوراة والإنجيل"، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.
7083 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة.
7084 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال:"ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة" التي كانت فيهم من عهد موسى ="والإنجيل"، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ورسولا"، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر"ونجعله" لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7084- سيرة ابن هشام 2: 230، من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7079. وفي ابن هشام: "لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده"، أسقط"علمه" ومكان"قبله""بعده"، والصواب فيها نص الطبري في روايته عن ابن إسحاق.
(2) مضى البيت وتخريجه في 1: 140.

(6/423)


وقوله:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: (1) ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيّي وبشيرى ونذيرى (2) = وحجتي على صدقي على ذلك:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: بعلامة من ربكم تحقق قولي، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم، كما:-
7085 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، أي: يُحقق بها نبوّتي، أني رسولٌ منه إليكم. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، ثم بين عن الآية ما هي، فقال:"أني أخلق لكم".
* * *
فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بمعنى"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "نبي وبشير ونذير"، والصواب من المخطوطة. هذا، وقوله: "ونجعله رسولا ... "، إلى قوله: "ونذيري" بيان عن قول الله تعالى لمريم: "رسولا إلى بني إسرائيل" - ثم ابتدأ في بيان قول عيسى عليه السلام: "أني قد جئتكم بآية"، فقال عيسى عليه السلام: "وحجتي على صدقي في ذلك ... ". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "على صدقي على ذلك"، وهو لا يستقيم، خطأ أو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.
(3) الأثر: 7085- سيرة ابن هشام 2: 230، تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7084، وكان في المطبوعة: تحقق بها نبوتي، وأني رسول ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ابن هشام.

(6/424)


"والطير" جمع"طائر".
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا) ، على التوحيد.
* * *
وقرأه آخرون: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا) ، على الجماع فيهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا، على الجماع فيهما جميعًا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به، أعجب إليّ من خلاف المصحف.
* * *
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:-
7086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال:"كن طائرًا بإذن الله"، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم،
__________
(1) في المطبوعة: "على الجماع كليهما"، وفي المخطوطة"كلهما" أيضًا، دون شرطة الكاف كأنه أراد أن يكتب"كليهما"، ثم استدرك، فترك عقدة الكاف على حالها ليعود فيجعلها"فيهما" وكذلك أثبتها.

(6/425)


فأفشوه في الناس. وترعرع، فهمَّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها، ثم خرجت به هاربة. (1)
* * *
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ فقيل له: الخفاش، كما:-
7087 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قوله:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"فأنفخ فيه"، وقد قيل:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"؟
قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك:"فأنفخ فيها". كان صحيحًا جائزًا، كما قال في المائدة، (فَتَنْفُخُ فِيهَا) [سورة المائدة: 110] : (2) يريد: فتنفخ في الهيئة. (3) وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين:"فأنفخها"، بغير"في". (4) وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول:"رب ليلة قد بتُّها، وبتُّ فيها"، قال الشاعر: (5)
__________
(1) "حمير" (بضم الحاء وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) ، تصغير"حمار"، وهو مضبوط هكذا في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فأنفخ فيها"، وهو مخالف للتلاوة في سورة المائدة، وهو سهو من الناسخ لقرب عهده بآية آل عمران، وتابعه الناشرون.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فأنفخ" أيضًا، وهو متابعة للسهو السالف.
(4) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 214، وهو: (وفي إحدى القراءتين: "فأنفخها" وفي قراءة عبد الله بغير"في"، وهو مما تقوله العرب: رب ليلة قد بت فيها وبتها) . ولعله تصرف واختصار من الطبري نفسه كعادته في الذي ينقله عن الفراء، وظني أن في نص الفراء خطأ، وصوابه: "وهي قراءة عبد الله..".
(5) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري.

(6/426)


مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ (1)
بمعنى: ولا قامت عليك، وكما قال الآخر: (2)
إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا ... حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ (3)
* * *
__________
(1) الأغاني 17: 68، ومعاني القرآن للفراء 1: 215. وهو من أبيات من خبرها أن عبيد الله بن زياد، كان عدوًا لابن مفرغ، فلما قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد يوم الزاب، قال ابن مفرغ فيه، وفي طغيانه عليه، وهو عظة لكل جبار طاغية: إِنَّ الَّذِي عَاشَ خَتَّارًا بِذِمَّتِه ... وعاشَ عبدًا، قَتِيلُ الله بالزَّابِ
العَبْدُ لِلْعَبْدِ، لا أَصْلٌ وَلاَ طرَفٌ، ... أَلْوَتْ بِهِ ذَاتُ أظْفَارٍ وأنْيَابِ
إِنّ المَنَايَا إِذَا ما زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَكْنَ عَنْهُ سُتُورًا بَيْنَ أبْوَابِ
هَلاَّ جُمُوعَ نِزَارٍ إذْ لَقِيتَهُمُ ... كُنْتَ امْرَءًا مِنْ نِزَارٍ غَيْرَ مُرْتَابِ
لاَ أنْتَ زَاحَمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمنَعَهُ ... وَلاَ مَدَدْتَ إلَى قَوْمِ بأَسْبَابِ
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا نَاحَتْكَ نَائِحَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأغاني"ناحتك"، جارية على القياس، يقال: "ناحت المرأة"، لازمًا، و"ناحت المرأة زوجها"، أما رواية الفراء وأبي جعفر، فهي التي حذف من قوله: "قامتك" حرف الجر، من"قامت عليك". والأسلاب جمع سلب (بفتحتين) : وهو ما على المحارب والرجل من ثيابه وثياب الحرب، فإذا قتل أخذ قاتله سلبه، أي ما عليه من ثياب وسلاح، وما معه من دابة. يقول: لست فارسًا من أهل الحرب والمعارك، فيحبك فرسك، فيبكيك عند مصرعك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) "بنو عيذ الله" (بتشديد الياء المكسورة) ، وهم بنو عيذ الله بن سعد العشيرة بن مذحج."استمر بها": ذهب بها."حلو العصارة": حلو الأخلاق. والعصارة والعصير: ما يتحلب من الشيء إذا عصر. يقول: ذهب بها فلن تعود إلى يوم الدين.

(6/427)


القول في تأويل قوله: {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأبرئ"، وأشفي. يقال منه:"أبرأ الله المريض"، إذا شفاه منه،"فهو يُبرئه إبراءً"، و"بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ"، وقد يقال أيضًا:"بَرئ المريض فهو يبرَأ"، لغتان معروفتان.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الأكمه".
فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويُبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك:
7088 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمَّه. (1)
7089 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك:
7090 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّثُ أن"الأكمه"، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين. (2)
7091 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأبرئ الأكمه والأبرص"، قال: كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى، مضموم العينين. (3)
* * *
__________
(1) يقال: "خرج يتكمه في الأرض"، إذا خرج متحيرًا مترددًا، راكبًا رأسه، لا يدري أين يتوجه.
(2) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: " مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائى للخط. والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذ ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.
(3) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: "مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائي للخط، والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذا ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.

(6/428)


7092 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأكمه، الذي يولد وهو أعمى.
* * *
وقال آخرون: بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك:
7093 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأبرئ الأكمه"، هو الأعمى.
7094 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الأعمى.
7095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الأعمى.
7096 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمى.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمش.
ذكر من قال ذلك:
7097 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمش.
* * *
قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى"الكمه"، العَمى، يقال منه:"كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا، وأكمهتها أنا" إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:

(6/429)


كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا ... فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ (1)
ومنه قول رؤبة:
هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ ... فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ (2)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن: الكَمَه والبرص لا علاج لهما، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله: إنه لله رسول، لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته.
* * *
فأما ما قال عكرمة من أن"الكمه"، العمش، وما قاله مجاهد: من أنه
__________
(1) المفضليات: 405، اللسان (كمه) في المطبوعة: {كِمِهَتْ عَيْنَاهُ} ، وهي رواية المفضليات وفيها"كمهت عيناه لما ابيضتا". والبيت من قصيدته الفذة. يذكر في هذه الأبيات التي قبل البيت، بعض عدوه، كان يريد سقاطه بعد احتناكه وشدته، وكيف تلقى العداوة عن آبائه، فسعى كما سعى آباؤه فلم يظفر من سويد بشيء، فضرب لنفسه مثلا بالصفاة التي لا ترام، فقال أن عدوه ظل: مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ ... فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ
مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كانَ بِهِ ... غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أنْ تُقْتَلَعْ
غَلَبَتْ عَادًا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ... فَأَبَتْ بَعْدُ، فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ
لاَ يَرَاها النَّاسُ إِلا فَوْقَهُمْ ... فَهْيَ تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ
وَهْوَ يَرْمِيهَا، وَلَنْ يَبْلُغَها، ... رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول: عمي من شدة ما يلقى، أو أعمته هي بشدتها. فلما كف عنها ونزع، ظل يلوم نفسه على تعرضه لها.
(2) ديوانه: 166، واللسان (كمه) (هرج) (تهته) وجاز القرآن 1: 93، وسيرة ابن هشام 2: 230، من قصيدة يذكر فيها نفسه وأيامه، وقد سلفت منها أبيات كثيرة، يذكر قبله خصما له قد بالغ في ضلاله، فرده وزجره، "هرج بالسبع": صاح به وزجره. و"الغائلات": التي تغوله وتهلكه. و"المتهته": الذي تهته في الأباطيل. أي تردد فيها. ورواية الديوان"في غائلات الخائب.."، وهي قريب من قريب.

(6/430)


سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيلُ إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتجَّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوته، أنه يبرئ الأعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، لقدروا على معارضته بأن يقولوا:"وما في هذا لك من الحجة، وفينا خَلقٌ ممن يعالج ذلك، وليسوا لله أنبياءَ ولا رسلا"
ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا، من أنّ"الأكمه"، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة: - من أنه المولود كذلك - أشبهُ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاجُ الأبرص.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}
قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له، كما:-
7098 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معفل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه = قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى

(6/431)


في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله.
* * *
وأما قوله:"وأنبئكم بما تأكلون"، فإنه يعني: وأخبرُكم بما تأكلون، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه ="وما تدّخرون"، يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبَأونه ولا تأكلونه.
= يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته = مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه، وآيةً له على حقيقة قوله، من أنبيائه ورسله، وَمن أحبّ من خلقه = (1) إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه، عليه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب؟
قيل: إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك، (3) أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج، ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه، (4)
__________
(1) قوله: "إنباءه" خبر"أن" في قوله آنفًا: "أن من حجته أيضًا على بنوته.. إنباءه".
(2) قوله"عليه" من تمام قوله: "الذي لا سبيل لأحد ... ".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "عند من يخبره بذلك" وسياق الضمائر يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "ولكن ابتدأ"، والصواب ما أثبته، ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة.

(6/432)


من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه، أو بنى عليه، أو فزع إليه، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيِّه. (1) فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله، أو المدَّعية علم ذلك، كما:-
7099 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان، (2) فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! !
7100 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم.
7101 - حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم"، قال: كان عيسى ابن مريم، إذْ كان في الكتّاب، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون.
7102 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب:
__________
(1) الرئي: هو التابع من الجن، يراه الإنسان أو الكاهن، فيؤالفه ويعتاده ويحدثه بما يكذب به من النبأ عن المغيب.
(2) المكتب (بضم الميم وفتح الكاف وتشديد التاء المكسورة) على وزن"معلم": هو الذي يعلم الصغار الكتابة. ويقال أيضًا"المكتب" (بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء) على وزن"مبصر" وهو المعلم أيضًا.

(6/433)


"يا فلان، إن أهلكُ قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام، فتطعمني منه"؟
* * *
قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله.
* * *
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7103 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه = عيسى ابن مريم يقوله.
7104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7105 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" - قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علمه الله إياه.
7106 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال:"ما تأكلون"، ما أكلتم البارحةَ من طعام، وما خبأتم منه.
7107 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم، وبما يَرْفعون لهم، وبما يأكلون. ويقول للغلام:

(6/434)


"انطلق، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا"، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء. (1) فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى! = فذلك قول الله عز وجل:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" = فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم هاهنا، فقال: ما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون! ففتحوا عنهم، فإذا هم خنازير. فذلك قوله: (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 78] .
7108 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما تدخرون في بيوتكم"، قال: ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه. (2)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها.
ذكر من قال ذلك:
7109 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة، (3) فأمر القوم أن
__________
(1) "يبكي عليهم"، يلح عليهم بالبكاء، عدى"بكى" بعلى، لتضمينه معنى"الإلحاح".
(2) في المطبوعة: "ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء"، زاد في نص المخطوطة"لا"، و"شيء". أما المخطوطة ففيها" ... الذي يمسك أن يخلفه". وكلاهما لا معنى له. والمخطوطة مضطربة الحروف في هذا الموضع، وأخشى أن يكون صواب الجملة: "ما تخبأون مخافة عليه، الذي تمسكون خيفة عليه". وتركت نص المخطوطة، على حاله في الأصل.
(3) في المطبوعة: "فكانت جرابًا ينزل عليه"، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المخطوطة"حوابا" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. والمائدة، هي الخوان، وقال أهل اللغة: "لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان".

(6/435)


لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد، بلاءٌ ابتلاهم الله به. فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم".
7110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون"، قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلتْ: أن يأكلوا ولا يدّخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سورة المائدة: 115] .
= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك.
* * *
وأصل"يدخرون" من"الفعل"،"يفتعلون" من قول القائل:"ذخرتُ الشيء" بالذّال،"فأنا أذخره". ثم قيل:"يدّخر"، كما قيل:"يدَّكِرُ" من:"ذكرت الشيء"، يراد به"يذتخر". فلما اجتمعت"الذال" و"التاء" وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا"دالا" مشددة، صيروها عَدْلا بين"الذال" و"التاء". (1) ومن العرب من يغلب"الذال" على"التاء"، فيدغم"التاء" في"الذال"، فيقول: وما تَذَّخِرون"،"وهو مذّخَر لك"،"وهو مُذَّكِر".
واللغة التي بها القراءةُ، الأولى، وذلك إدغام"الذال" في"التاء"، وإبدالهما
__________
(1) قوله"عدلا"، أي متوسطة بينهما، وهذا نص عبارة الفراء في معاني القرآن 1: 215.

(6/436)


"دالا" مشددة. لا يجوز القراءة بغيرها، لتظاهر النقل من القرأة بها، وهي اللغة الجُودَى، (1) كما قال زهير:
إنّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْوًا، وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فَيَظَّلِمُ (2)
يروى"بالظاء"، يريد:"فيفتعل" من"الظلم"، ويروى"بالطاء" أيضًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة = لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم:"إني رسولٌ من ربكم إليكم"، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ="إن كنتم مؤمنين"، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
* * *
__________
(1) "الجودى"، "فعلى" من"الأجود" مثل"أفضل، وفضلى"، ولم أرها مستعملة إلا قليلا عند أهل طبقة أبي جعفر. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 215، 216.
(2) ديوانه: 152 وسيبويه 2: 421، والمخصص 2: 206، 207، واللسان (ظلم) وغيرها. هكذا جاء به أبو جعفر، وصواب روايته ما جاء في ديوانه، لأن قبله: إنّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ وَلـ ... ـكِنَّ الجوادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانظر روايات مختلفة للبيت، وبيان هذه الروايات في هذه الكتب وغيرها.

(6/437)


وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

القول في تأويل قوله: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة، ولذلك نصب"مصدّقًا" على الحال من"جئتكم".
والذي يدل على أنه نصب على قوله:"وجئتكم"، دون العطف على قوله:"وجيهًا"، قوله:"لما بين يديّ من التوراة". ولو كان عطفًا على قوله"وجيهًا"، لكان الكلام: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. (1)
* * *
وإنما قيل:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة"، (2) لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها، كما:-
7111 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار. (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 216.
(2) انظر تفسير"لما بين يدي" و"لما بين يديه" فيما سلف من هذا الجزء: 160، 161.
(3) الآصار جمع إصر (بكسر فسكون) : وهو العهد، أي ما عقد من عقد ثقيل عليهم، مثل قتلهم أنفسهم، وما أشبه ذلك من قرض الجلد إذا أصابته النجاسة، وغير ذلك من الأحكام المشددة.

(6/438)


7112 - حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومصدقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم"، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حُرّم عليهم فيما جاء به موسى لحومُ الإبل والثُّروب، وأشياء من الطير والحيتان. (1)
7113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال: وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحومُ الإبل والثُّروب، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له، (2) وفي أشياء حرّمها عليهم، وشدّدها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
7114 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا.
7115 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
__________
(1) الثروب جمع ثرب (بفتح فسكون) : وهي الشحم الرقيق الذي يغشى الكرش والأمعاء والمصارين من الذبائح والأنعام.
(2) صيصية الديك (بكسر الصاد الأولى والثانية وفتح الياء الأخير) ، وجمعها الصياصي: هي الشوكة التي في رجل الديك. وقرون البقر يقال لها"الصياصي"، ومنه قيل للحصون"الصياصي" لأن المقاتلين يحتمون بها كما تحتمي البقر بقرونها.

(6/439)


جعفر بن الزبير:"ومصدقًا لما بين يدىّ من التوراة"، أي: لما سبقني منها -"ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم"، أي: أخبركم أنه كان حرامًا عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم، فتصيبون يُسْرَه، وتخرجون من تِباعَته. (1)
7116 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان حرّم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم، يبتغي بذلك شُكْرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما:-
7117 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، قال: ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
7118 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها.
* * *
ويعني بقوله:"من ربكم"، من عند ربكم.
* * *
__________
(1) الأثر: 7115- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار التي كان آخرها رقم: 7085. وقوله: "وتخرجون من تباعته"، أي من إثمه الذي تبعكم إن اقترفتموه. والتبعة والتباعة (بكسر التاء) : ما كان فيه إثم يتبع به مقترفه، يقال: "ما عليه من الله في هذا تبعة، ولا تباعة".

(6/440)


القول في تأويل قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول ="فاتقوا الله"، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه ="وأطيعون"، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه، (1) كما:-
7119 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم"، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني: ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم ="فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، أي: هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به. (2)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إن الله ربي وربكم فاعبدوه".
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بكسر"ألف""إنّ" على ابتداء الخبر.
* * *
وقرأه بعضهم: (أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، بفتح"ألف""أنّ"، بتأويل:
__________
(1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177 / 3: 140، 141.
(2) الأثر: 7119- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7115.

(6/441)