تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى
اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
وجئتكم بآية من ربكم، أنّ الله ربي وربكم،
على ردّ"أن" على"الآية"، والإبدال منها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار،
وذلك كسر ألف"إن" على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على
صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ، وما انفرد به المنفرد عنها
فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة.
* * *
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا، ففيه الحجة البالغة من الله
لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من
أهل نجران، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما
نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه، من أنه لله
عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه
خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى
سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً
على نبوته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلما أحسّ عيسى منهم
الكفر"، فلما وَجد عيسى منهم الكفر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والحجة على نبوتهم"، وأثبت ما في المخطوطة
وهو الصواب. وقوله: "وحجة على نبوته" معطوف على قوله: "دليلا
على صدقه"، والضمير لعيسى، وما بين المعطوف والمعطوف عليه فصل.
(6/442)
"والإحساس"، هو الوجود، ومنه قول الله عز
وجل: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [سورة مريم: 98] .
فأما"الحَسُّ"، بغير"ألف"، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: (إذ
تحسونهم بإذنه) [سورة آل عمران: 152] .
"والحَسُّ" أيضًا العطف والرقة، ومنه قول الكميت:
هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ، ... أَوْ
يُبْكِيَ الدَّارَ مَاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ? (1)
يعني بقوله:"أن تحس له"، أن ترقّ له.
* * *
فتأويل الكلام: فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله
الله إليهم - جحودًا لنبوّته، وتكذيبًا لقوله، وصدًّا عما
دعاهم إليه من أمر الله، قال:"مَن أنصاري إلى الله"؟، يعني
بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، (2)
والمولِّين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، ="إلى الله" عز وجل؟
* * *
ويعني بقوله:"إلى الله"، مع الله.
وإنما حَسُن أن يقال:"إلى الله"، بمعنى: مع الله، لأن من شأن
العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم
أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه، جعلوا مكان"مع"،"إلى" أحيانًا،
وأحيانًا تخبر عنهما بـ"مع" فتقول:"الذود إلى الذود إبل"،
بمعنى: إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان
الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ"إلى"، ولم يجعلوا مكان"مع""إلى".
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 217، ومجالس ثعلب: 486، وإصلاح
المنطق: 240، واللسان (حسس) . والخضل: المتتابع الدائم الكثير
الهمول. يتعجب من الباكي على أطلال أحبابه، وما يرجو منها:
أترق له، أم تبكي لبكائه؟ يسفه ما يفعل. ثم انظر سائر ما قيل
في هذا الحرف من اللغة في المراجع السالفة.
(2) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 2: 489 / 5: 581.
(6/443)
غيرُ جائز أن يقال:"قدم فلانٌ وإليه مالٌ"،
بمعنى: ومعه مال. (1)
* * *
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله:"مَنْ أنصاري إلى الله"، قال
جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7120 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع
الله. (2)
7121 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله.
* * *
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين،
فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا.
فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:-
7122 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفتْه بنو
إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنزل في
قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك
جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن،
فدخل منزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟
أراه حزينًا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يُفرِّج
كربته! قالت: فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه
هو وجنودَه
__________
(1) انظر ما سلف 1: 299، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 218،
وهذا مختصر مقالته.
(2) الأثر: 7120- مضى هذا الإسناد قديمًا برقم: 2100، "محمد بن
الحسين بن موسى ابن أبي حنين الكوفي"، روى عن عبيد الله بن
موسى، وأحمد بن المفضل، وأبي غسان مالك بن إسماعيل. وهو صدوق
قاله ابن أبي حاتم في كتابه 3 / 2 / 230. و"أحمد بن المفضل
القرشي الأموي" الكوفي الحفري. روى عن الثوري، وأسباط بن نصر،
وإسرائيل. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما قال أبو حاتم:
"كان صدوقًا، وكان من رؤساء الشيعة". مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 1 / 1 / 77.
(6/444)
ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه
قد بلغت نَوبتُه اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك
عندنا سعة! قالت: فقولي له لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعُو له،
فيُكْفَي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمَّهْ،
إني إن فعلت كان في ذلك شرٌّ. قالت: فلا تُبالِ، فإنه قد أحسنَ
إلينا وأكرمنا! قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك، فاملأ
قُدُورك وخوَابيك ماء، ثم أعلمني. (1) قال: فلما ملأهنَّ
أعلمه، فدعا الله، فتحوَّل ما في القدُور لحمًا ومَرَقًا
وخبزًا، وما في الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قطّ وإياه
طعامًا. (2) فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ سأل: من أين
هذه الخمر؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا. قال الملك: فإنّ خمري
أوتَي بها من تلك الأرض، فليس هي مثل هذه! قال: هي من أرض
أخرى. فلما خلَّط على الملك اشتدّ عليه، قال: فأنا أخبرك، عندي
غلام لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا اللهَ، فجعل
الماءَ خمرًا. قال الملك = وكان له ابنٌ يريد أن يستخلفه، فمات
قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه = فقال: إن رجلا دعا الله
حتى جعل الماء خمرًا، ليُستجابَنّ له حتى يُحييَ ابني! فدعا
عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا
تفعلْ، فإنه إن عاش كان شرًا. فقال الملك: لا أبالي، أليس
أراه، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته
تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا؟ قال الملك: نعم. فدعا الله
فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادَوْا بالسلاح
وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه،
فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمُّه، وصحبهما
يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى:
شاركني. فقال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف
ندم، فلما ناما جعل اليهوديّ يريد أن يأكلَ الرغيف، فلما أكل
لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء! فيطرحها، حتى فرغ
من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى: هلمَّ طعامك! فجاء
برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا
واحد. فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى:
يا صاحب الغنم، أجزرْنا شاةً من غنمك. (3) قال: نعم، أرسل
صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهوديّ، فجاء بالشاة فذبحوها
وشوَوْها، ثم قال لليهودي: كل، ولا تكسِرنّ عظمًا. فأكلا. (4)
فلما شبعوا، قذفَ عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال:
قومي بإذن الله! فقامت الشاة تَثغُو، فقال: يا صاحبَ الغنم، خذ
شاتك. فقال له الراعي: من أنتَ؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال:
أنت الساحر! وفرّ منه. قال: عيسى لليهودي: بالذي أحيى هذه
الشاة بعدَما أكلناها، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف كان معه إلا
رغيف واحد، فمرُّوا بصاحب بَقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب
البقر، أجزرنا من بَقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. قال:
انطلق يا يهوديّ فجئ به. فانطلق فجاءَ به. فذبحه وشواه وصاحبُ
البقر ينظر، فقال له عيسى: كلْ ولا تكسِرَن عظمًا. فلما فرغوا،
قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه، = وقال: قم بإذن الله.
فقام وله خُوَارٌ، قال: خُذ عجلك. قال: ومن أنت؟ قال: أنا
عيسى. قال: أنت السحَّار! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى
أحييته بعد ما أكلناه! قالَ عيسى: فبالذي أحيَى الشاة بعد ما
أكلناها، والعجلَ بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف
بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا، حتى نزلا قريةً،
فنزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عَصا مثل
عصا عيسى وقال: أنا الآنَ أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة
مريضًا شديد المرض، فانطلق اليهودي يُنادي: من يبتغي طبيبًا؟
حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا
أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك
قد أعيَى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يُداويه ولا يُفيء دواؤه
شيئًا إلا أمر به فصلب. (5) قال: أدخلوني عليه، فإني سأبرئه.
فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه
بعصاه وهو ميت ويقول: قُم بإذن الله! فأخذ ليُصْلب، فبلغ عيسى،
فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم
صاحبكم، أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم. فأحيى اللهُ الملكَ
لعيسى، فقام وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنتَ أعظم الناس عليّ
منةً، والله لا أفارقك أبدًا. قال عيسى = فيما حدثنا به محمد
بن الحسين بن موسى قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا
أسباط، عن السدي = لليهودي: أنشُدك بالذي أحيى الشاة والعجلَ
بعد ما أكلناهما، وأحيى هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجِذْع بعد
ما رُفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفًا؟ قال: فحلف بهذا كله
ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرّا على
كنز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا
المال؟ قال عيسى: دعه، فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفسُ
اليهودي تَطلَّعُ إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع
عيسى. ومرّ بالمال أربعة نَفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال:
اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودوابَّ
نحملُ عليها هذا المال. فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعامًا
وشرابًا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في
طعامهما سَمًّا، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال
الآخر: نعم! ففعلا. وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام،
فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعامُ والدوابّ بيني
وبينك. فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام
فأكلا منه، فماتا. وأعْلِم ذلك عيسى، (6) فقال لليهودي: أخرجه
حتى نقتسمه، فأخرجه، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا
عيسى، اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت!! وما هذه
الثلاثة؟ قال له عيسى: هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب
الرغيف. قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف، تعطيني هذا
المال؟ فقال عيسى: نعم. قال: أنا هو. قال: عيسى: خذ حظي وحظَّك
وحظَّ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة. فلما حمله مَشى
به شيئًا، فخُسِف به. (7) وانطلق عيسى ابن مريم، فمر
بالحواريِّين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا:
نصطاد السمك. فقال: أفلا تمشون حتى نصطادَ الناس؟ قالوا: ومن
أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به وانطلقوا معه. فذلك
قول الله عز وجل:"مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريون نحنُ
أنصارُ الله أمنا بالله واشهدْ بأنا مسلمون".
7122م - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن
عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"فلما أحس عيسى منهم الكفر
قال من أنصاري إلى الله"، الآية قال: استنصر فنصرَه الحواريون،
وظهر عليهم.
* * *
وقال آخرون: كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ، لأن من استنصرَ
الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله.
ذكر من قال ذلك:
7123 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"فلما أحس عيسى منهم الكفر"، قال: كفروا
وأرادُوا قتله، فذلك حين استنصر قومه ="قال من أنصاري إلى الله
قال الحواريون نحن أنصارُ الله".
* * *
"والأنصار"، جمع"نصير"، (8) كما"الأشراف" جمع"شريف"،"والأشهاد"
جمع"شهيد".
* * *
وأما"الحواريون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من
أجله سموا"حواريون".
فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم.
ذكر من قال ذلك:
7124 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: مما روى أبي قال،
حدثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد
بن جبير قال: إنما سمُّوا"الحواريين"، ببياض ثيابهم.
* * *
__________
(1) الخوابي جمع خابية: وهي الحب (بضم الحاء) ، والحب: جرة
ضخمة يجعل فيها الماء والخمر وغيرهما.
(2) هذه الكلمة: "وإياه طعامًا" هكذا هي غير منقوطة في
المخطوطة، وأما المطبوعة، فإنها جعلتها"وإياه طعامًا"، ولم أجد
لها وجهًا أرتضيه. وقد رأيت كل من نقل خبر السدي قد أسقط هذه
الكلمة من روايته، فأسقطها الثعلبي في قصص الأنبياء: 341،
والبغوي في تفسيره (بهامش ابن كثير) 2: 146، والدر المنثور 2:
34، وغيرهم. وأنا أستبعد أن تكون زيادة من الناسخ، وأقطع بأنها
ثابتة في أصل أبي جعفر، ولكني لم أجد لها وجهًا من وجوه
التصحيف أحملها عليه، ولكنها ولا شك تعني: "وهيأ طعامًا".
وأرجو أن يوفق غيري إلى معرفة صوابها، وأسأل الله أن يوفقني
إلى مثله.
(3) في المخطوطة: "اجزر شاة"، والصواب ما في المطبوعة: أجزره
شاة: أعطاه شاة تصلح للذبح. وستأتي مرة أخرى على الصواب في
حديث البقرة الآتي، في المخطوطة.
(4) خالف بين الضمائر، فقال"فأكلا" يعني عيسى وصاحبه، ثم قال:
"فلما شبعوا"، يعني عيسى وصاحبه وأمه مريم عليهما السلام. وهذا
سياق لا بأس به في مجاز العربية.
(5) أفا يفيء: رد وأرجع. يعني: لا يرد عليه عافيته. وفي
المخطوطة: "لا يفي"، وهذا صواب قراءتها.
(6) في المطبوعة: "أعلم ذلك لعيسى"، والصواب ما في المخطوطة.
(7) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، كقول سالم بن وابصة الأسدي:
غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ ... فإن
زادَ شيئًا، عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا
وكقول عمر بن أبي ربيعة: وقالت لَهُنَّ: ارْبَعْنَ شيئًا،
لَعَلَّنِي ... وَإنْ لامَني فِيمَا ارْتَأَيْتَ مُلِيمُ
وهذا من نوادر اللغة، مما أغفلت بيانه المعاجم.
(8) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف قريبًا: 443، تعليق: 2.
والمراجع هناك.
(6/445)
وقال آخرون: سموا بذلك: لأنهم كانوا
قَصّارين يبيِّضون الثياب.
ذكر من قال ذلك:
7125 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة قال:"الحواريون"، الغسالون الذين
يحوّرون الثياب، يغسلونها.
* * *
وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم.
ذكر من قال ذلك:
7126 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن روح بن
القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين
تصلح لهم الخلافة.
7127 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر، عن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله:"إذ قال الحواريون"،
قال: أصفِياء الأنبياء.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى"الحواريين"،
قولُ من قال:"سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين".
وذلك أن"الحوَر" عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي"الحُوَّارَى"
من الطعام"حُوّارَى" لشدة بياضه، (1) ومنه قيل للرجل الشديد
البياض مقلة العينين"أحور"، وللمرأة"حوراء". وقد يجوز أن يكون
حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ،
وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه
أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل،
__________
(1) الحواري (بضم الحاء وتشديد الواو، وراء مفتوحة) : هو ما
حور من الطعام، أي بيض، ودقيق حوارى: هو الدقيق الأبيض، وهو
لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.
(6/450)
حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه
وأنصاره:"حواريُّه"، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
7128 -"إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا، وَحوَاريَّ الزبير". (1)
* * *
= يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى
والأمصار"حَوَاريَّات"، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن،
ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري: (2)
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ... وَلا
تَبْكِنَا إلا الكِلابُ النَّوابِحُ (3)
* * *
ويعني بقوله:"قال الحواريون"، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا،
من تبييضهم الثياب:"آمنا بالله"، صدقنا بالله، واشهد أنتَ يا
عيسى بأننا مسلمون.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه
الذي ابتعثَ به
__________
(1) الأثر: 7128- ذكره الطبري بغير إسناد، وهو من صحيح الحديث.
أخرجه البخاري في مواضع (الفتح 6: 39 / 7: 64، 412 / 13: 203،
204) ، وأخرجه مسلم في صحيحه 15: 188. وكان في المطبوعة: "إن
لكل نبي حواري"، وصوابه ما أثبت. والرواية الأخرى بحذف: "إن"
أي: "لكل نبي حواري".
(2) هو أبو جلدة بن عبيد بن منقذ اليشكري، من شعراء الدولة
الأموية، كان من أخص الناس بالحجاج، ثم فارقه وخرج مع ابن
الأشعث، وصار من أشد الناس تحريضًا على الحجاج. فلما قتل وأتى
الحجاج برأسه ووضع بين يديه، مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم
من سر أودعته هذا الرأس فلم يخرج منه حتى أتيت به مقطوعًا!!
(3) الؤتلف والمختلف للآمدي: 79، والأغاني 11: 311، والوحشيات:
36، وحماسة ابن الشجري: 65، واللسان (حور) ، وبعده. بَكَيْنَ
إِلَيْنَا خَشْيَةً أَنْ تُبِيحَهَا ... رمَاحُ النَّصَارَى
والسُّيُوفُ الجوارحُ
بَكَيْنَ لِكَيْمَا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْهُمُ ... وَتَأْبَى
قُلُوبٌ أَضْمَرَتْها الجَوَانِحُ
يقولها تحريضًا وتحضيضًا على قتال أهل الشام.
(6/451)
عيسى والأنبياءَ قبله، لا النصرانية ولا
اليهوديةَ = وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان
بها، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك
احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد
نجران، كما:-
7129 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن
محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر" والعدوان
(1) ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله
آمنا بالله"، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم
="واشهد بأنا مسلمون"، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه -
يعني وفدَ نصارَى نجران. (2)
* * *
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "والعدوان عليه".
(2) الأثر: 7129- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو تتمة الآثار التي
آخرها رقم: 7119.
(6/452)
رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53)
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم
قالوا:"ربنا آمنا"، أي: صدّقنا ="بما أنزلت"، يعني: بما أنزلتَ
على نبيك عيسى من كتابك ="واتبعنا الرسول"، يعني بذلك: صرنا
أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي
أرسلتَه به إلى عبادك = وقوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يقول:
فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك
بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في
عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا
تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.
(6/452)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي
أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا
إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته = ويكذّب بذلك الذين
انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة، في دعواهم على أنبياء
الله أنهم كانوا على غيرها = ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران: بأنّ قِيلَ مَنْ
رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم، ومنهاجهم غير
منهاجهم، كما:-
7130 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول
فاكتبنا مع الشاهدين"، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني
إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.
* * *
وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك
بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه
إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:-
7131 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم = يعني: بالحواريين
الذين كانوا
__________
(1) الأثر: 7130- سيرة ابن هشام 2: 230، هو تتمة الآثار التي
آخرها رقم: 7129.
(6/453)
يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم
= حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم، فذلك قوله: (فَآمَنَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)
الآية [سورة الصف: 14] .
* * *
وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى
على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى،
وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:-
7132 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال:
حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ
عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ
صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى
السماء، فذلك قوله:"ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين".
فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد
صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون
رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى
ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله
عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ) [سورة النساء: 157] .
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى"مكر الله بهم"، استدراجُه إياهم ليبلغ
الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: (اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: 15] . (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 301-306.
(6/454)
إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين
حاولوا قتلَ عيسى = مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم
به من عند ربهم = إذ قال الله جل ثناؤه:"إني متوفيك"، فـ"إذ"
صلةٌ من قوله:"ومكر الله"، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله
لعيسى"إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل
في هذه الآية.
فقال بعضهم:"هي وفاة نَوْم"، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني
مُنِيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك:
7133 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إني متوفيك"، قال: يعني
وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه = قال الحسن: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لليهود:"إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ
إليكم قبل يوم القيامة. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ،
قالوا: ومعنى"الوفاة"، القبض، لما يقال:"توفَّيت من فلان ما لي
عليه"، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله:"إني متوفيك
ورافعك"، أي: قابضك من
__________
(1) الأثر: 7133- هو أثر مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور
2: 36، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم، وساقه ابن كثير في
تفسيره 2: 150 بإسناد ابن أبي حاتم.
(6/455)
الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي
بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
ذكر من قال ذلك:
7134 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن
شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك
من الدنيا، وليس بوفاة موت. (1)
7135 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من
الأرض.
7136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين
كفروا"، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين
كفروا.
7137 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت
عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده،
فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله
عز وجل، فأوحى الله إليه:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، وليس مَنْ
رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم
تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم حيث
__________
(1) الأثر: 7134-"علي بن سهل الرملي"، ثقة. مضت ترجمته رقم:
1384."ضمرة ابن ربيعة الفلسطيني الرملي"، قال ابن سعد: "كان
ثقة مأمونًا خيرًا، لم يكن هناك أفضل منه". وقال آدم بن أبي
إياس: "ما رأيت أحدًا أعقل لما يخرج من رأسه منه". وهو رواية
ابن شوذب. مترجم في التهذيب."ابن شوذب" هو: عبد الله بن شوذب
الخراساني. ثقة. مترجم في التهذيب. و"مطر الوراق" هو: مطر بن
طهمان الوراق. مضى في رقم: 1913.
(6/456)
قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في
آخرها. (1)
7138 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"يا عيسى إني متوفيك"، أي قابضُك.
7139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، قال:"متوفيك": قابضك =
قال:"ومتوفيك" و"رافعك"، واحدٌ = قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل
الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل:"ويكلم الناس في المهد
وكهلا"، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا = قال: وينزل
كهلا.
7140 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن
عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل:"يا عيسى إني متوفيك ورافعك
إلي"، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ.
ذكر من قال ذلك:
7141 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إني متوفيك"، يقول: إني
مميتك.
7142 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا
يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن
مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
__________
(1) الأثر: 7137- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36، ونسبه
للطبري وحده، وقال: "وأخرج ابن جرير بسند صحيح"، وذكر الأثر،
وحديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مرسل، ومهما كان
سنده صحيحًا، فإن روايته كعب الأحبار إنما هي لا شيء، ولا يحتج
بها. وصدق معاوية في قوله في كعب الأحبار: "إن كان لمن أصدق
هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك
لنبلو عليه الكذب"، رواه البخاري.
(6/457)
7143 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من
النهار، ثم أحياهُ الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ
ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا.
وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه
التقديم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من
قال:"معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ"، لتواتر
الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل عيسى
ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت
الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
7144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى
ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل
الخنزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه،
وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما
جميعًا. (1)
__________
(1) الحديث: 7144- سلمة: هو ابن الفضل الأبرش. رجحنا توثيقه
في: 246.
حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي - ويقال"السلمي"-: تابعي ثقة
معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7890 (ج 2 ص 290-291 حلبي) ،
بنحوه، مطولا، عن يزيد، وهو ابن هارون، عن سفيان، وهو ابن
حسين، عن الزهري، عن حنظلة.
ورواه أحمد قبل ذلك، مختصرًا: 7271، عن سفيان، وهو ابن عيينة.
و: 7667، عن عبد الرزاق، عن معمر - كلاهما عن الزهري، عن
حنظلة.
ورواه أيضًا مختصرًا: 10671 (ج 2 ص 513) ، من طريق ابن أبي
حفصة. و: 10987 (ج 2 ص 540) ، من طريق الأوزاعي - كلاهما عن
الزهري، عن حنظلة.
وهذه الرواية المختصرة عند أحمد - رواها مسلم 1: 356-357.
وروى أحمد معنى هذا الحديث مفرقًا في أحاديث، من طرق عن أبي
هريرة. انظر المسند: 7267، 7665، 7666، 9110 (ج 2 ص 394) ،
9312 (ص 411) ، 10266 (ص 482-483) ، 10409 (ص 493-494) ، 10957
(ص 538) .
وذكر ابن كثير كثيرًا من طرقه ورواياته، في التفسير 3: 15-16.
وانظر أيضًا تاريخه 2: 96-101.
قوله: "أو ليثنين بهما"- هذا هو الصواب الثابت في المخطوطة،
والصحيح المعنى. ووقع في المطبوعة"أو يدين بهما"!! وهو تخليط
لا معنى له.
(6/458)
7145 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن
آدم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ، أمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد. وأنا
أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه
خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل
مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سَبط الشعر، كأن شَعرَه
يقطُر، وإن لم يصبه بَللٌ، بين مُمصَّرَتين، يدق الصّليبَ،
ويقتل الخنزير، ويُفيضُ المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى
يهلك الله في زمانه المِللَ كلها، ويهلك الله في زمانه مسيحَ
الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع
الأسُود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب
الغلمانُ بالحيات، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا، فيثبت في الأرض
أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7145- إسناده ضعيف جدًا. وأصل الحديث صحيح، كما
سيأتي.
الحسن بن دينار البصري، كذاب لا يوثق به. وقد مضت ترجمته في:
682.
عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن: تابعي
ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في صحيحه،
وترجمنا له في شرح المسند: 7213.
والحديث سيأتي بإسناد آخر صحيح: من رواية سعيد - وهو ابن أبي
عروبة - عن قتادة بهذا الإسناد نحوه (ج 6 ص 16 بولاق) .
وقد رواه أحمد في المسند: 9259 (ج 2 ص 406 حلبي) ، عن عفان، عن
همام، عن قتادة، به نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 595، من طريق عفان. وقال:
"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكر ابن كثير في التفسير 3: 16، من رواية أحمد بن عفان. ثم
أشار إلى أن أبا داود رواه من طريق همام، ثم أشار إلى رواية
الطبري الآتية، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه أحمد أيضًا: 9630 (ج 2 ص 437) ، من طريق سعيد بن أبي
عروبة، عن قتادة، به نحوه.
ثم رواه: 9631، من طريق هشام، و: 9632، من طريق شيبان - كلاهما
عن قتادة. ولم يذكر لفظه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 98-99، عن رواية ابن أبي عروبة
في المسند، وأشار إلى روايتي أحمد وأبي داود من طريق همام.
وليس في هذه الروايات ولا في رواية الطبري الآتية-: الكلمة
التي هنا في رواية الحسن بن دينار: "وإنه خليفتي على أمتي".
وهي عندنا كلمة شاذة، انفرد بروايتها رجل غير موثق به.
وصدر هذا الحديث رواه أحمد، والبخاري، وابن حبان، من أوجه، عن
أبي هريرة. وانظر تفسير ابن كثير 3: 16، وتاريخه 2: 98-99.
قوله: "إخوة لعلات" - بفتح العين المهملة وتشديد اللام- قال
ابن الأثير: "أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد.
أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة".
قوله: "وإنه نازل" - نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: مما
لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره
طائفة طيبة منها، ج 3 ص 15-24. وهذا معلوم من الدين بالضرورة،
لا يؤمن من أنكره.
قوله: "مربوع الخلق" - بفتح الخاء وسكون اللام- المربوع: هو
بين الطويل والقصير. يقال: رجل ربعة ومربوع.
"الشعر السبط": المنبسط المسترسل.
قوله: "بين ممصرتين" - الممصرة من الثياب، بتشديد الصاد
المهملة المفتوحة: هي التي فيها صفرة خفيفة.
(6/459)
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته
الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه
ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم
يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: (اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ
ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الروم: 40] .
* * *
(6/460)
فتأويل الآية إذًا: قال الله لعيسى: يا
عيسى، إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا
فجحدوا نبوّتك.
* * *
وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل
احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في
عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا،
وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ
في دعواهم وزعمهم، كما:-
7146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ
عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، (1) كيفَ رفعه وطهره منهم،
فقال:"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ". (2)
* * *
وأما"مطهِّرك من الذين كفروا"، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن
كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل
غيرها، كما:-
7147 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: إذْ همُّوا
منك بما همّوا. (3)
7148 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن
عباد،
__________
(1) في المطبوعة: "فيما أخبروا هم واليهود بصلبه"، وما أثبته
هو نص المخطوطة ولكن الناسخ أساء كعادته فكتب"أحروا لليهود"
كأنها حاء، فبدل الناشر لما شاء كما شاء. ومع ذلك، فالذي في
المخطوطة هو نص ابن هشام أيضًا على الصواب.
(2) الأثر: 7146- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو تتمة الآثار التي
آخرها رقم: 7130.
(3) الأثر: 7147- سيرة ابن هشام 2: 231، تتمة الأثر السالف
رقم: 7146.
(6/461)
عن الحسن في قوله:"ومطهرك من الذين كفروا"،
قال: طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على
منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك
وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل، (1) فكذّبوا بما جئت به
وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:-
7149 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة"، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته
وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
7150 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق
الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
7151 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل"، وفي
المخطوطة: "وخالفوا سبيلهم جميع وهل الملل"، والصواب زيادة
[من] ، يعني: وخالفوا سبيل الذين اتبعوك، من جميع أهل الملل.
أهو صواب المعنى، إن شاء الله.
(6/462)
ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين
كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
7152 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة"، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا
إلى يوم القيامة.
7153 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا
إلى يوم القيامة"، أما"الذين اتبعوك"، فيقال: هم المؤمنون، =
ويقال: بل هم الرّوم. (1)
7154 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن
عباد، عن الحسن:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة"، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام
إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق
اليهود.
ذكر من قال ذلك:
7155 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قول الله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: الذين كفروا من بني
إسرائيل ="وجاعل الذين اتبعوك"، قال: الذين آمنوا به من بني
إسرائيل وغيرهم ="فوق الذين كفروا"، النصارى فوقَ اليهود إلى
يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق
يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيقال هم المؤمنون، ليس هم الروم" بدل ما في
المخطوطة، والروم كانوا هم النصارى يومئذ، ويعني بالمؤمنين
فيما سلف، أهل الإسلام ممن لم يبدل ولم يقل في عيسى ما قالت
النصارى بعد.
(6/463)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ثم إليّ"، ثم إلى الله،
أيها المختلفون في عيسى ="مرجعكم"، يعني: مصيركم يوم القيامة
="فأحكم بينكم"، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى
بالحق ="فيما كنتم فيه تختلفون" من أمره.
وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة،
وذلك أن قوله:"ثم إليَّ مرجعكم"، إنما قُصد به الخبرُ عن
متَّبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا
بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى
الخطاب لسبوق القول، (1) على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي
يخرج على وجه الحكاية، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس:
22] . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لسوق القول" وهو خطأ لا معنى له. وفي
المخطوطة"لسوق" غير منقوطة، فلم يحسن قراءتها. والطبري يكثر
استعمال"سبوق" مصدر"سبق"، كما أشرت إليه في 4: 287، تعليق: 4 /
ثم ص: 427، تعليق: 1 / ثم ص: 446، تعليق: 4، وغيره من المواضع.
ويعني بقوله: "لسبوق القول" مثل ما مضى من قوله في 1: 153 أن
من شأن العرب"إذا حكت، أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن
تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبر عن غائب ثم تعود إلى الخطاب، لما
في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب". والقول هنا هو
قوله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى ... ". ومعنى ما قال الطبري،
أن قوله تعالى: "ثم إلي مرجعكم ... " إنما هو في أمر الذين
اختلفوا في أمر عيسى، وقالوا فيه ما قالوا من اليهود والنصارى
وغيرهم، وأمر الذين قالوا فيه الحق ولم يمتروا فيه أنه عبد
الله ورسوله. وذلك بعد أن كان الخطاب إلى عيسى نفسه، وكان ذكر
الذين اتبعوه والذين كفروا به، غائبًا في خطاب عيسى، فرد
الخطاب إليهم في آخر الآية.
(2) انظر ما سلف 1: 153، 154 / 3: 304، 305.
(6/464)
فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأما الذين كفروا"، فأما
الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم
به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي
أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان،
فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء
والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا
="وما لهم من ناصرين"، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا
عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو
الانتقام.
* * *
وأما قوله:"وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، فإنه يعني
تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك -
فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا
بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على
لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما:
7156 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وعملوا الصالحات"، يقول:
أدوا فرائضي.
* * *
="فيوفيهم أجورَهم"، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة
كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.
* * *
(6/465)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
وأما قوله:"والله لا يحب الظالمين"، فإنه
يعني: والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له، أو وضع شيئًا في
غير موضعه.
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ
ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن
به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين
ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ
الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه
وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، (1) ووعد منه للمؤمنين به
وبرسله، (2) لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا
المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره
ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ
وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، هذه الأنباءَ التي
أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا
وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى
إسرائيل ="نتلوها عليك"، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد
على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، (3) بوحيناها إليك ="من
__________
(1) في المطبوعة: "كأنه وعيد منه"، وهو خطأ بين، لم يحسن قراءة
المخطوطة لسوء خط الناسخ.
(2) في المخطوطة: "ووعيد منه للمؤمنين"، وهو خطأ بين، والصواب
ما في المطبوعة.
(3) انظر معنى"التلاوة" فيما سلف 2: 411، 569.
(6/466)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الآيات"، يقول: من العبر والحجج على من
حاجَّك من وفد نصارى نجران، (1) ويهود بني إسرائيل الذين
كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي ="والذكر"، يعني:
والقرآن (2) ="الحكيم"، يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ
والباطل، (3) وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، كما:-
7157 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"،
القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى
وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره. (4)
7158 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"،
قال: القرآن.
7159 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والذكر"، يقول:
القرآن ="الحكيم" الذي قد كمَلَ في حكمته.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (59) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير
فحل = فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران = عندي، كشبه
آدمَ الذي
__________
(1) انظر معنى"الآيات"، فيما سلف قريبًا، ومادة (أيي) من فهارس
اللغة.
(2) انظر تفسير"الذكر" فيما سلف 1: 94، 99.
(3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف، في مادة (حكم) من فهارس
اللغة.
(4) الأثر: 7157- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار
التي آخرها رقم: 7147، وكان في المطبوعة: "فلا يقبلن" بالياء،
وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
(6/467)
خلقتُه من تراب ثم قلت له:"كن"، فكان من
غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير
فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، وأمري إذ أمرته
أن يكون فكان لحمًا. يقول: فكذلك خلقى عيسى: أمرتُه أن يكون
فكانَ. (1)
* * *
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجًا
لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين
حاجُّوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك:
7160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر
قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا
يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه
الآية في سورة آل عمران:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه
من تراب ثم قال له كن فيكون"، إلى قوله"فنجعل لعنةَ الله على
الكاذبين".
7161 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن مثل عيسى عند الله
كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، وذلك أن رهطًا من
أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم = وكان فيهم
السيّد والعاقب = فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من
هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بأعجب من خلقى آدم من غير ذكر ولا
أنثى (فكان لحمًا يقول) ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان. فكذلك
خلقى عيسى ... " وهي عبارة مضطربة اضطرابًا فاسدًا جدًا، وذلك
أن الناسخ عجل نظره وهو ينسخ فكتب ما وضعته بين القوسين آنفًا
في هذا المكان ثم استمر يكتب، ثم نسي أن يضرب على هذا الكلام
ويعيده إلى مكانه فإن قوله: "وأمري إذ أمرته" معطوف على
قوله"بأعجب من خلقى آدم"، وغير ممكن أن يفصل بينهما بمثل قوله:
"فكان لحمًا يقول"، واستظهرت أن مكانها حيث أثبت في آخر
الجملة، فرددتها إلى مكانها، فاستقام الكلام إن شاء الله.
(6/468)
أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت
مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى
الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا
أتوك:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم"، إلى آخر الآية.
7162 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له
كن فيكون"، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد
والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى
فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز
وجل فيه هذه الآية:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون".
7163 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه
من تراب"، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل
نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد،
وما سَرجس، ومار يحز. (1) فسألوه ما يقول
__________
(1) هكذا جاء الاسمان في المخطوطة والمطبوعة، أما "ماسرجس"
فالمشهور"مَارَسَرْجِسَ"، وهكذا رأيته في أشعارهم كقول جرير
للأخطل: قال الأُخَيْطِلُ إِذْ رَأَى رَايَاتِهِمْ ...
يَامَارَ سَرْجِسَ لا نُرِيدُ قِتَالاَ
ويقولن فيه أيضًا: "مارسرجيس" بالياء، كما قال الأخطل: لَمَّا
رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا ... وَمَارَ سَرْجِيسَ وسمًّا
ناقِعَا
وهذا الذي ذكره جرير والأخطل رجل مشهور من قديسيهم. وأما
"ماريحز"، فلم أعرف ضبطه وأظنه غير صحيح، وكأنه مصحف، وقد جاء
في الدر المنثور 2: 37"مار بحر"، وقد ذكر ابن هشام في سيرته 2:
224، أسماء الأربعة عشر الذين يؤول إليهم وفد نصارى نجران. فلم
أجد فيها"ماسرجس" ولا"مار يحز"، وأخشى أن يكون"مار يحنس" فقد
ذكر فيهم"يحنس"، ولكنه رجم لا أحققه.
(6/469)
في عيسى، فقال: هو عبد الله ورُوحُه
وكلمته. قالوا هم: لا! ولكنه هو الله، نزل من ملكه فدَخل في
جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط
إنسانًا خُلق من غير أب؟ فأنزل الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند
الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". 7164 - حدثنا
القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، عن
عكرمة قوله:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم
قال له كن فيكون"، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران،
وهما نصرانيان. = قال ابن جريج: بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم
وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم السيد والعاقبُ،
وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيما تشتمُ
صاحبنا؟ قال: من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجل، إنه عبدُ الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا
فأرنا عبدًا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة
الطير فينفخ فيه، الآية، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ
فقال: يا محمد: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 17،
72] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، إنهم
سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل: مثلُ عيسى كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له: كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا، فقرأ
عليهم الآيات.
7165 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"إن مثل عيسى عند الله"، فاسمع، (1) "كمثل
آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من
الممترين"، فإن قالوا:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فاسمع"، وفي سيرة ابن هشام:
"فاستمع".
(6/470)
خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من
تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى
لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ
من هذا. (1)
7166 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قول الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب"، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى
كذلك؟ قال: فأنزل الله عز وجل:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، أكان لآدم أب أو أم! ! كما
خلقت هذا في بطن هذه؟
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال:"كمثل آدم خلقه"،"وآدم"
معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟
قيل: إن قوله:"خلقه من تراب" غير صلة لآدم، (2) وإنما هو بيان
عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان. (3)
* * *
وأما قوله:"ثم قال له كن فيكون"، فإنما قال:"فيكون" وقد ابتدأ
الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر
عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه:"خلقه من تراب ثم
قال له كن"، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه
الأشياء بقوله:"كن"، ثم قال:"فيكون"،
__________
(1) الأثر: 7165- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار
التي آخرها رقم: 7157، ولكن أبا جعفر اختصر كلام ابن إسحاق
هنا، ولكنه سيسوقه وما حذف منه، برقم: 7169.
(2) يعني بقوله"صلة" التابع، وهو النعت بالجملة. فإن شرط النعت
بالجملة أن يكون المنعوت نكرة لفظًا أو معنى، وأن يكون في
الجملة ضمير ملفوظ أو مقدر يربطها بالموصوف، وأن تكون الجملة
خبرية. فهذه ثلاثة شروط، أحدها في المنعوت، وشرطان في جملة
النعت.
(3) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 219.
(6/471)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
خبرًا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم
عند قوله:"كنْ". (1)
فتأويل الكلام إذًا:"إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن"، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك"كن"،
فهو كائن.
فلما كان في قوله:"كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"،
دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه
وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا
أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى،
وقيل:"فيكون"، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية:"فيكون"، رفع على الابتداء، ومعناه:
كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ (60) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر
عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه"كن" =
هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك ="فلا تكن
من الممترين"، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، (2)
كما:-
7167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن في
شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله
ورُوحه.
__________
(1) انظر الفقرتين الآتيتين، ففيهما تفسير هذه الجملة السالفة.
ولقد بين الطبري عنها بيانًا شافيًا قل أن تظفر بمثله في كتاب
من كتب التفسير أو غيرها. والمذهب الذي ذهب إليه أبو جعفر في
تفسيره، هو عندي أرجح من القول الآتي، وهو الذي اشتهر في كتب
التفسير.
(2) انظر تفسير"الامتراء"، وتفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 3:
190، 191.
(6/472)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
7168 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحق من
ربك فلا تكن من الممترين"، يقول: فلا تكن في شكّ مما قصصنا
عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمةٌ منه ورُوحٌ، وأنّ مثله
عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون.
7169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"الحق من ربك"، ما جاءك من الخبر عن عيسى
="فلا تكن من الممترين"، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ
فيه. (1)
7170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فلا تكن من الممترين"، قال: والممترون الشاكون.
* * *
"والمرية""والشك""والريب"، واحد سواءٌ، كهيئة ما
تقول:"أعطني""وناولني""وهلم"، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن حاجك فيه"، فمن جادلك،
يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم. (2)
* * *
والهاء في قوله:"فيه"، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون
عائدة
__________
(1) الأثر: 7169- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار
التي آخرها رقم: 7165، فانظر التعليق على هذا الأثر. وفي سيرة
ابن هشام"فلا تمترين فيه"، وهي أجود.
(2) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121 / 5: 429 / 6: 280.
(6/473)
على"الحق" الذي قال تعالى ذكره:"الحق من
ربك".
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءك من العلم"، من بعد ما جاءك من
العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله ="فقل تعالوا"،
هلموا فلندع = (1) "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل"، يقول: ثم نلتعن.
* * *
يقال في الكلام:"ما لهُ؟ بَهَله الله" أي: لعنه الله ="وما له؟
عليه بُهْلةُ الله"، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا
فقال:
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (2)
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
* * *
="فنجعل لعنة الله على الكاذبين" منا ومنكم في أنه عيسى، (3)
كما:-
__________
(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما يلي ص: 483، 485.
(2) ديوانه قصيدة 39، البيت: 81 وأساس البلاغة (بهل) ، وأمالي
الشريف المرتضي 1: 45، من قصيدة مضى بعض أبياتها، وهي من شعره
الذي رثى فيه أربد: وَأَرَى أَرْبَدَ قَدْ فَارَقَنِي ...
وَمِنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَلَلْ
مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ، ... وَعَلَى الأَدْنَيْنَ
حُلْوٌ كَالْعَسَلْ
فِي قُرُومٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَر الدَّهْرُ
إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وهذا التفسير الذي ذكره الطبري لمعنى بيت لبيد، جيد. وجيد
أيضًا تفسير الزمخشري في أساس البلاغة قال: "فاجتهد في
إهلاكهم". وكأن أجود تفسير للابتهال أن يقال: هو الاسترسال في
الأمر، والاجتهاد فيه، ومعنى البيت: فاسترسل في أمرهم، واجتهد
في إهلاكهم فأفناهم. وأما قوله: "نظر الدهر إليهم"، فقد قال
الجوهري وغيره: "نظر الدهر إلى بني فلان فأهلكهم"، فقال ابن
سيده: "هو على المثل، وقال: ولست على ثقة منه". وقال الزمخشري:
"ونظر الدهر إليهم: أهلكهم"، وهو تفسير سيئ، إذا لم يكن في
نسخة الأساس تحريف. وصواب المعنى أن يقال: "نظر الدهر إليهم"،
نظر إليهم مكبرًا أفعالهم، فحسدهم على مآثرهم وشرفهم. كما
يقال: "هو سيد منظور"، أي: ترمقه الأبصار إجلالا. وإكبارًا.
وإنما فسرته بالحسد، لأنهم سموا الحسد"العين"، فيقال: "عان
الرجل يعينه عينًا، فهو معين ومعيون"، والنظر بالعين لا يزال
مستعملا في الناس بمعنى الحسد، وإنما أغفل شارحو بيت لبيد هذا
المعنى.
(3) في المطبوعة: "في آية عيسى"، وهذا لا معنى له هنا والصواب
ما في المخطوطة، وإنما أراد: الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى
عبد الله ورسوله، لا أنه"الله" تعالى الله عما يقولون علوًا
كبيرًا، وقد مضى في الأثر رقم 7164، قولهم: "ولكنه الله".
(6/474)
7171 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من
العلم"، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله
وروحه ="فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، إلى قوله:"على
الكاذبين".
7172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم"،
أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره ="فقل تعالوا
ندع أبناءَنا وأبناءكم"، الآية. (1)
7173 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، يقول: من
حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
7174 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ثم
نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، قال: منا ومنكم.
7175 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة،
عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء
الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليتَ بيني
وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما
كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7172- سيرة ابن هشام 2: 232، وهو من تتمة الآثار
التي آخرها: 7169.
(2) الحديث: 7175- سليمان بن زياد الحضرمي المصري: تابعي ثقة،
وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم: "شيخ صحيح الحديث".
عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي: صحابي نزل
مصر، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
و"جزء": بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و"الزبيدي": بضم
الزاي، نسبة إلى القبيلة.
ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب: "وحدثني ابن لهيعة" - ومثل
هذا يكون كثيرًا في الأسانيد: يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث،
فيذكرها بحرف العطف، عطف حديث على حديث، وإسناد على إسناد،
فإذا حدث السامع عن الشيخ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره.
والأمر قريب.
والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ص: 301، بنحوه، عن
عبد الملك بن مسلمة، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما
عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 2: 38، عن ابن جرير وحده.
(6/475)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا
محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي
وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق،
فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ
بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم.
* * *
ويعني بقوله:"العزيز"، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره،
وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه (1) ="الحكيم" في
تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ. (2)
* * *
"فإن تولوا"، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما
جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله
من الهدى والبيان،
__________
(1) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / 6: 165، 168، 271.
(2) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف قريبًا: 467، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(6/476)
فأعرضوا عنه ولم يقبلوه = (1)
"فإن الله عليم بالمفسدين"، يقول: فإن الله ذو علم بالذين
يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو
إفسادهم. (2) يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها
عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.
* * *
وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
7176 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، أي: إن هذا الذي
جئتَ به من الخبر عن عيسى، ="لهو القصَص الحقّ"، من أمره. (3)
7177 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"إنّ هذا لهو القصص"، إن هذا الذي قُلنا في عيسى
="لهو القصَص الحق".
7178 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في
عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى
أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، (4) وروحًا منه، وعبدَ
الله ورسوله.
7179 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنّ هذا لهو القصص الحق"،
إنّ هذا الذي قلنا في
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298 / 3: 131 / 4:
237 / 6: 283، 291.
(2) انظر معنى"الفساد" فيما سلف 1: 287، 416 / 4: 238، 243،
244 / 5: 372.
(3) الأثر: 7176- سيرة ابن هشام 2: 232، هو بقية الآثار التي
آخرها رقم: 7172.
(4) في المطبوعة: "ولا يجاوز أي يتعدى ... "، والصواب ما في
المخطوطة.
(6/477)
عيسى، هو الحق ="وما من إله إلا الله"،
الآية.
* * *
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين
الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه
(1) = إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله،
وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا
الجدلَ والخصومة = (2) أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة،
كالذي:-
7180 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر
قال: فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم -
يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك
من العلم"، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ.
فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا
إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، (3) وقال لهم: إن
كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان
ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. (4) قالوا: فكيف لنا وقد
واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه
عليه، فقولوا:"نعوذ بالله"! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له:"نعوذ
بالله"! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى
الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي
خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وأمره ... " بالواو، وهي زائدة
مفسدة، فأسقطتها.
(2) سياق الجملة: "أمره ... أن يدعوهم إلى الملاعنة"، وما
بينهما فصل.
(3) قوله: "ندمهم" (مشدد الدال) لامهم حتى حملهم على الأسف
والندم. وهذا لفظ عربي عريق قل أن تظفر به في كثير من كتب
اللغة.
(4) في المطبوعة: "لا يستبقينكم"، بزيادة النون، والصواب من
المخطوطة.
(6/478)
فقالوا:"نعوذ الله"! ثم دعاهم فقالوا:"نعوذ
بالله"! مرارًا قال: فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين
وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا
الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما
نملك إلا أنفسنا! قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما
قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي
الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفًا في رجب،
وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني
البشير بهلكه أهل نجران، (1) حتى الطير على الشجر = أو:
العصافيرُ على الشجر = لو تمُّوا على الملاعنة. (2)
= حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس
يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما
الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم
يكن في الحديث! (3)
7181 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق" إلى قوله:"فقولوا
اشهدُوا بأنا مسلمون"، فدعاهم إلى النَّصَف، (4) وقطع عنهم
الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله
عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من
ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه = (5) دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا
أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل
فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا
رَأيهم، (6) فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال:
__________
(1) في المطبوعة: "قد أتاني"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) "تم على الشي" استمر عليه وأمضاه.
(3) هذه الفقرة من تتمة الأثر السالف، فلذلك لم أفردها
بالترقيم.
(4) النصف والنصفة (كلاهما بفتحتين) : هو الإنصاف، وإعطاء الحق
لصاحبك كالذي تستحق لنفسك.
(5) في المخطوطة: "أو ردوا عليه"، وهو خطأ، والصواب ما في
المطبوعة مطابقًا لسيرة ابن هشام، وفيها: "إن ردوا ذلك عليه".
(6) "ذو رأيهم"، صاحب الرأي والتدبير، يستشار فيما يعرض لهم
لعقله وحسن رأيه.
(6/479)
والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أنّ
محمدًا لنبيّ مرسل، (1) ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد
علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم،
وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ
دينكم، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم،
فوادِعوا الرجلَ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه.
(2) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا
القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنَك، وأن نتركك على دينك، ونرجع
على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا، يحكم
بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا
رِضًى. (3)
7182 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي
الجارود، عن زيد بن علي في قوله:"تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"
الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة
والحسن والحسين. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "أن محمد نبي مرسل"، وهو خطأ، وتحريف لما في
المخطوطة كما أثبتها، وهو المطابق أيضًا لما في سيرة ابن هشام.
(2) قوله: "حتى يريكم زمن رأيه" ليست في سيرة ابن هشام. ويعني
بذلك: حتى يمضي زمن، وتتقلب أحوال، فترون عاقبة أمره، صلى الله
عليه وسلم، وقد قال شارح السيرة، السهيلي، في الروض الأنف 2:
50"وفي حديث أهل نجران، زيادة كثيرة عن ابن إسحاق، من غير
رواية ابن هشام".
(3) الأثر: 7181- سيرة ابن هشام 2: 232، 233، وهو بقية الآثار
التي آخرها رقم: 7176- يقال: "رجل رضى من قوم رضى"، أي مرضى،
وصف بالمصدر مثل رجل عدل، كما قال زهير: مَتَى يَشْتَجِرْ
قَوْمٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ: ... هُمُ بَيْنَنَا، فَهُمُ
رِضًى، وهُمُ عَدْلُ
(4) الأثر: 7182-"عيسى بن فرقد المروزي"، أبو مطهر. روى عنه
عمرو بن رافع، وابن حميد، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه
فقال: مروزي. قلت: ما حاله؟ قال: شيخ". مترجم في ابن أبي حاتم
3 / 1 / 284. و"أبو الجارود" هو: زياد بن المنذر الهمداني. قال
ابن معين: "كذاب، عدو الله، ليس يسوي فلسًا". وكان رافضيًا يضع
الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى في
فضائل أهل البيت رضي الله عنهم أشياء ما لها أصول. لا يحل كتب
حديثه، وهو من غلاة الشيعة، وله فرقة تعرف بالجارودية.
(6/480)
7183 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن حاجك فيه من
بعد ما جاءك من العلم"، الآية، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله
عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا.
فخرجَ معهم، فلم يخرج يومئذ النصارَى، وقالوا: إنا نخاف أن
يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبيّ
كغيرها! ! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:"لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح: على أنّ له عليهم
ثمانين ألفًا، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض: الحُلة بأربعين
= وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا، وثلاثًا وثلاثين
بعيرًا، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم.
7184 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من
وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن
ذلك وخافوا = وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على
أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض. (1)
7185 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك
من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، قال: بلغنا أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران، (2) فلما رأوه
خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا = قال معمر، قال قتادة: لما
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين
وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.
__________
(1) جديد الأرض، وجدها (بفتح الجيم وكسرها) وجددها (بفتحات) :
هو وجه الأرض.
(2) في المطبوعة: خرج ليلاعن أهل نجران"، قرأ"ليداعي""ليلاعن"،
و"يداعي" من"الدعاء"، يعني هذه المباهلة والملاعنة.
(6/481)
7186 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه
وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
7187 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا
عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس
مثله.
7188 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي
بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك
الله الكاذبين.
7189 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد
قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن
كنتَ تأتي حين قلت"أبناءَنا وأبناءَكم"؟ قال: حسن وحسين.
7190 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال:
لما نزلت هذه الآية:"فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم"، الآية، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ
وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال
شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين
مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7190-"المنذر بن ثعلبة بن حرب الطائي"، ذكره ابن
حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"علباء بن أحمر اليشكري"
روى عن عكرمة مولى ابن عباس. قال أحمد: "لا بأس به، لا أعلم
إلا خيرًا"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
هذا وأحاديث هذا الباب كلها مرسلة، كما رأيت، إلا خبر ابن
عباس.
(6/482)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (64) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لأهل الكتاب،
وهم أهل التوراة والإنجيل ="تعالوا"، هلموا (1) ="إلى كلمة
سواء"، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، (2) والكلمة العدل،
هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا
نشرك به شيئًا.
= وقوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا"، يقول: ولا يدين
بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه
بالسجود له كما يسجدُ لربه ="فإن تولوا"، يقول: فإن أعرضوا عما
دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، (3)
فلم يجيبوك إليها ="فقولوا"، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك
="اشهدوا بأنا مسلمون".
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى
مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
7191 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل
المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف قريبًا: 474، وسيأتي ص: 485.
(2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495-497.
(3) انظر معنى"تولى" فيما سلف قريبًا ص: 477، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(6/483)
7192 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا
أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة
السَّواء.
7193 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ
أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم = قال: دعاهم إلى
قول الله عز وجل:"قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء
بيننا وبينكم"، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك:
7194 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن جعفر بن الزبير:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
بيننا وبينكم" الآية، إلى قوله:"فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"،
قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران.
(1)
7195 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ
من نصارى نجران - فقال:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
بيننا وبينكم"، الآية.
7196 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال
قال: يعني جل ثناؤه:"إنّ هذا لهو القصص الحقّ"، في عيسى = على
ما قد بيناه فيما مضى = (2) قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران
- فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا،"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم"،
__________
(1) الأثر 7194- سيرة ابن هشام 2: 232، ومضى أيضًا برقم: 7181،
وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7181.
(2) يعني الأثر السالف رقم: 7178.
(6/484)
فقرأ حتى بلغ:"أربابًا من دون الله"، فأبوا
أن يقبلوا هذا ولا الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله:"يا أهل الكتاب"، أهلَ
الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه
بقوله:"يا أهل الكتاب" بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا
ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا
إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن
يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ
الفريقين بذلك بأولى من الآخر = لأنه لا دلالة على أنه المخصوص
بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح = فالواجب أن يكون كل كتابيّ
معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد
له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب"،
يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، (1) فكان معلومًا بذلك أنه عني
به الفريقان جميعًا.
* * *
وأما تأويل قوله:"تعالوا"، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. (2)
وإنما"هو تفاعلوا" من"العلوّ" فكأن القائل لصاحبه:"تعالَ
إليّ"، قائلٌ"تفاعل" من"العلوّ"، (3) كما يقال:"تَدَانَ مني"
من"الدنوّ"، و"تقارَبْ مني"، من"القرب".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأهل الكتاب يعم أهل التوراة وأهل الإنجيل"،
غير ما في المخطوطة حين لم يحسن قراءة ما فيه من التصحيف، وكان
في المخطوطة: "وأنتم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة وأهل
الإنجيل" صحف الكاتب فكتب مكان"واسم"، "وأنتم"، وصواب قراءتها
ما أثبت.
(2) قد فسر أبو جعفر"تعالوا" في موضعين سلفا ص: 474، ص: 483،
ولكنه استوفى هنا الكلام في بيانها، ولا أدري لم يفعل مثل ذلك،
وكان الأولى أن يفسرها أول مرة.
(3) في المطبوعة: "فكأن القائل تعالى إلى، فإنه تفاعل من
العلو" لأنه لم يفهم ما كان في المخطوطة، فبدله، ووضع علامة
(3) للدلالة على أنه خطأ لا معنى له، أو سقط في الكلام.
والصواب ما أثبت.
(6/485)
وقوله:"إلى كلمة سواء". فإنها الكلمة
العدلُ،"والسَّواء" من نعتِ"الكلمة". (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع"سواء" في الإعراب"لكلمة"،
وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة: جر"سواء" لأنها من صفة"الكلمة" وهي
العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد"استواء"، كان النصب. وإن
شاء أن يجعلها على"الاستواء" ويجرّ، جاز، ويجعله من
صفة"الكلمة"، مثل"الخلق"، لأن"الخلق" هو"المخلوق"."والخلق" قد
يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل"الاستواء" مثل"المستوى"، قال عز وجل:
(الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ) [سورة الحج: 25] ، لأن"السواء" للآخر، وهو اسمٌ
ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به"الاستواء". فإن
أراد به"مستويًا" جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا
المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا
تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل"عدل" و"رضًى" و"جُنُب"، وما
أشبه ذلك. وقالوا: [في قوله] : (2) (أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) [سورة الجاثية: 21] ، فـ"السواء"
للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب
الأول
__________
(1) انظر تفسير"سواء" فيما سلف قريبًا ص: 483، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) الزيادة التي بين القوسين، زدتها ليستقيم الكلام ويستبين،
وأخشى أن يكون في هذه الجملة سقط لم أستطع أن أتبينه، وراجع
قول أبي جعفر في هذه الآية من تفسيره، 25، 89، 90 (بولاق) .
(6/486)
فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى"مستوى".
والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة:"سواء" مصدرٌ وضع موضع الفعل، (1) يعني
موضع"متساوية": و"متساو"، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على
المصدر. وقد يقال في"سواء"، بمعنى عدل:"سِوًى وسُوًى"، كما قال
جل ثناؤه: (مَكَانًا سُوًى) و (سِوًى) [سورة طه: 58] ، يراد
به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله
عنه أنه كان يقرأ ذلك (" إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُم ") . (2)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله:"إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"،
بأن"السواء" هو العدلٍ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7197 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، عدل
بيننا وبينكم ="ألا نعبد إلا الله"، الآية.
7198 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئًا"، بمثله. (3)
* * *
__________
(1) "الفعل" يعني به الصفة المشتقة مثل فاعل ومفعول، كما هو
ظاهر هنا، وراجع فهرس المصطلحات.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220.
(3) الأثر: 7198- في المخطوطة: "و.. ولا نشرك به شيئًا" الآية،
وليس فيها"بمثله"، زادها الناشر أو ناسخ قبله، لما رأى الأثر
غير تام، وهو صنيع حسن، وإن كنت لا أرتضيه، وظني أنه قد سقط من
الناسخ الأول بقية التفسير.
(6/487)
وقال آخرون: هو قولُ"لا إله إلا الله".
ذكر من قال ذلك:
7199 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية:"كلمة السواء"،
لا إله إلا الله.
* * *
وأما قوله:"ألا نعبُدَ إلا الله"، فإنّ"أنْ" في موضع خفض على
معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله. (1)
* * *
وقد بينا - معنى"العبادة" في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على
الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله:"ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا"، فإنّ"اتخاذ بعضهم
بعضًا"، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من
معاصي الله، (3) وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال
جل ثناؤه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) [سورة
التوبة: 31] ، كما:-
7200 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"،
يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك
الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن
لم يصلُّوا لهم.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220، فانظر تمامها
هناك.
(2) انظر ما سف 1: 160، 161، 362 / 3: 120، 317.
(3) في المطبوعة: "هو ما كان بطاعة الأتباع ... " بزيادة"هو"،
وليست في المخطوطة.
(6/488)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (65)
وقال آخرون:"اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا"،
سجودُ بعضهم لبعض.
ذكر من قال ذلك:
7201 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر،
عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا
أربابًا من دون الله"، قال: سجود بعضهم لبعض.
* * *
وأما قوله:"فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فإنه
يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها
وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا =
بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه
الإلهُ الذي لا شريك له ="مسلمون"، يعني: خاضعون لله به،
متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
* * *
وقد بينا معنى"الإسلام" فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ
فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ
إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل
التوراة والإنجيل ="لم تحاجون"، لم تجادلون ="في إبراهيم"
وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه
كان
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511 / 3: 73، 74، 92، 110 / ثم 6:
275، 280.
(6/489)
منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته.
فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك، ودلّ على مُناقضتهم
ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم،
ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه
إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أنّ
دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد
حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه
اختصامكم فيه، (1) وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد
علمتم؟
* * *
وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم،
وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
ذكر من قال ذلك:
7202 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني
محمد بن إسحاق = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن
إسحاق = قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى
نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا
عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت
النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنزل الله عز وجل
فيهم:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراةُ
والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون"، قالت النصارى: كان
نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ
التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية
والنصرانية. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "فكيف يكون منهم، أما وجه اختصامكم فيه.."،
وهو خطأ من عجلة الناسخ وصححه في المطبوعة، ولكنه كتب"فما وجه
اختصامكم فيه"، وهو ليس بشيء، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر: 7202- سيرة ابن هشام 2: 201: 202 مختصرًا، والأثر
الذي قبله فيما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق، هو ما سلف رقم:
6782.
(6/490)
7203 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في
إبراهيم"، يقول:"لم تحاجون في إبراهيم" وتزعمون أنه كان
يهوديًّا أو نصرانيًّا، ="وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من
بعده"، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد
الإنجيل، ="أفلا تعقلون"؟
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه
منهم.
ذكر من قال ذلك:
7204 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل
المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم،
وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه
فقال:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة
والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون".
7205 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7206 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أهل الكتاب لم
تحاجون في إبراهيم"، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل
منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، (1) وألحق به المؤمنين، مَنْ
كان من أهل الحنيفية.
7207 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "حين ادعى"، وهو سبق قلم من
الناسخ.
(6/491)
هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
وأما قوله:"أفلا تعقلون" فإنه يعني:"أفلا
تعقلون"، تفقَهون خطأ قيلكم: إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو
نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد
مَهلكه بحين؟
* * *
القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ
فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (66) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ها أنتم"، القومَ الذين
(1) [قالوا في إبراهيم ما قالوا ="حاججتم"] ، (2) خاصمتم
وجادلتم (3) ="فيما لكم به علم"، من أمر دينكم الذي وجدتموه في
كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه
وثبتت عندكم صحته (4) ="فلم تحاجون"، يقول: فلم تجادلون
وتخاصمون="فيما ليس لكم به علم"، يعني: في الذي لا علم لكم به
من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به
أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:-
7208 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم
فلم تحاجُّون فيما
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم هؤلاء، القوم
... "، ومثله في المخطوطة، وليس فيها"هؤلاء"، وصواب السياق
يقتضي أن يكون كما أثبت. وقوله: "القوم" مفعول به لقوله: "يعني
... ".
(2) هذه الزيادة التي بين القوسين، أو ما يقوم مقامها، لا بد
منها، ولا يستقيم الكلام إلا بها، وظاهر أن الناسخ قد تخطى
عبارة أو سطرا من فرط عجلته أو تعبه. واستظهرتها من نهج أبي
جعفر وسياق تفسيره.
(3) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121، 200 / 5: 429 / 6:
280، 473.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غير ذلك"، والصواب ما أثبت،
تصحيف ناسخ.
(6/492)
مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
ليس لكم به علم، أما"الذي لهم به علم"، فما
حرّم عليهم وما أمروا به. وأما"الذي ليس لهم به علم"، فشأن
إبراهيم.
7209 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم"، يقول: فيما
شهدتم ورأيتم وعاينتم ="فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم"،
فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا ="والله يعلم وأنتم لا
تعلمون".
7210 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقوله:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، يقول: والله يعلم ما غَاب
عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم
وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا
يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض ="وأنتم لا
تعلمون"، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه
بالإخبار والسَّماع.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) }
قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا
في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على
ملتهم = وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون = وقضاءٌ منه عز
وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل
دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان
غيرهم.
(6/493)
يقول الله عز وجل: = ما كان إبراهيم
يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين، (1) الذين يعبدون
الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق
وبارئهم ="ولكن كان حنيفًا"، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته،
مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها ="مسلمًا"، يعني:
خاشعًا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه
وألزمه من أحكامه. (2)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى"الحنيف" فيما مضى، ودللنا
على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن
إعادته. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7211 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد
الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا.
وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنزل الله عز وجل:"ما كان
إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا" الآية، فأكذبهم الله، وأدحض
حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا.
(4)
7212 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
__________
(1) في المطبوعة: "ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن
كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"، ساق الآية كقراءتها،
وذلك لأن ناسخ المخطوطة كان كتب"وكان من المشركين" ثم كتب بين
الواو و"كان"، "لا" ضعيفة غير بينة، فلم يحسن الناشر قراءتها،
فساق الآية، ولم يصب فيما فعل ورددت عبارة الطبري إلى صوابها.
(2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف قريبًا: 489 تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3) انظر ما سلف 3: 104 - 108.
(4) الأثر: 7211-"إسحاق بن شاهين الواسطي"، روى عنه أبو جعفر
في مواضع من تاريخه، ولم أجد له ترجمة. و"خالد بن عبد الله بن
عبد الرحمن" أبو الهيثم المزني الواسطي. ثقة حافظ صحيح الحديث،
مترجم في التهذيب، و"داود" هو: "ابن أبي هند" و"عامر" هو
الشعبي.
(6/494)
7213 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال،
أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن
موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن
أبيه -: أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن
الدِّين، ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال:
إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له
اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.
قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله
شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ (1)
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! (2) قال: وما الحنيف؟ قال:
دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا
الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه
فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك
لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا
أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا
أستطيع، (3) فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما
قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. (4) فخرج من عنده،
وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم
يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: (5) اللهم إني أشهِدك أني على
دين إبراهيم. (6)
__________
(1) في المطبوعة: "وأنا لا أستطيع"، زاد"لا"، وليست في
المخطوطة، وهي خطأ فاحش، ومخالف لرواية الحديث في البخاري كما
سيأتي في تخريجه. وفي رواية البخاري: "وأنا أستطيعه، فهل تدلني
على غيره؟ "
(2) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب
بالياء كرواية البخاري.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "وأنا لا أستطيع" بزيادة"لا"،
وليست في المخطوطة، وانظر التعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب
بالياء كرواية البخاري.
(5) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يزل رافعًا يديه إلى
الله"، وأنا في شك من لفظ هذا الكلام، وأكبر ظني أنه تصحيف من
كاتب قديم، ونص رواية البخاري"فلما برز رفع يديه فقال"
فجعل"فلما"، وجعل"برز""يزل"، وجعل"رفع""رافعًا"، والسياق يقتضي
مثل رواية البخاري.
(6) الأثر: 7213-"يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله
الزهري"، سكن الإسكندرية. ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي، مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر، رواه البخاري (الفتح 7: 109، 110) من طريق فضيل بن
سليمان، عن موسى ابن عقبة، بمثل لفظ الطبري مع بعض الاختلاف.
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما
نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله عز وجل " ":
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِبنَ اتَّبَعُوهُ
وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ"
والحمد لله على (..!!) وصلى الله على محمد وآله وسلم"
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن
جرير الطبري".
وهذا شيء جديد قد ظهر في هذه النسخة، فإن ما مضى جميعه، كان
ختام التقسيم القديم، رواية أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر
محمد بن جرير الطبري، ثم بدأت رواية التفسير بإسناد آخر لم نكن
نعرفه عن رجل آخر غير أبي محمد الفرغاني، وهو المشهور برواية
التفسير، فأثبت الإسناد في صلب التفسير لذلك: فلا بد من
التعريف هنا بأبي بكر البغدادي. حتى نرى بعد كيف تمضي رواية
التفسير، أهي رواية أبي محمد الفرغاني إلى آخر الكتاب، غير قسم
منه رواه أبو بكر، أم انقضت رواية أبي محمد الفرغاني، ثم
ابتدأت رواية أبي بكر من عند هذا الموضع؟
وراوي هذا التفسير، من أول هذا الموضع هو: "محمد بن داود بن
سليمان سيار بن بيان، البغدادي، الفقيه، أبو بكر"، نزل مصر،
وحدث بها عن أبي جعفر الطبري، وعثمان بن نصر الطائي. روى عنه
أبو الفتح عبد الواحد بن محمد بن مسرور البلخي، كان ثقة. قال
الخطيب البغدادي في تاريخه 5: 265 بإسناده إلى أبي سعيد بن
يونس: "محمد بن داود بن سليمان، يكنى أبا بكر، بغدادي، قدم
مصر، وكان يتولى القضاء بتنيس، وكان يروي كتب محمد بن جرير
الطبري عنه. حدث عنه جماعة من البغداديين. وكان نظيفًا عاقلا.
وولي ديوان الأحباس بمصر. توفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى
الآخرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة".
ولم أجد له غير هذه الترجمة في تاريخ بغداد، لا في قضاة مصر
للكندي، ولا في غيره من الكتب التي تحت يدي الآن، ولعلي أجد في
موضع آخر من التفسير، شيئًا يكشف عن روايته التفسير، غير هذا
القدر الذي وصلت إليه، والله الموفق.
(6/495)
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان
قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري:
* * *
(6/496)
إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ أولى الناس بإبراهيم"،
إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ="للذين اتبعوه"،
يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له
الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء
مسلمين غير مشركين به ="وهذا النبي"، يعني: محمدًا صلى الله
عليه وسلم ="والذين آمنوا"، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما
جاءهم به من عند الله ="والله ولي المؤمنين"، يقول: والله
ناصرُ المؤمنين بمحمد، (1) المصدِّقين له في نبوّته وفيما
جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7214 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، يقول: الذين
اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته ="وهذا النبي"، وهو
نبي الله محمد ="والذين آمنوا" معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا
نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 1: 489، 564 / 5: 424 / 6:
142، 313.
(6/497)
7215 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7216 - حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي
يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن
أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين،
وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ:"إن أولى الناس
بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي
المؤمنين". (1)
__________
(1) الحديث: 7216- جابر بن الكردي بن جابر الواسطي البزار: ثقة
من شيوخ النسائي، مترجم في التهذيب.
الحسن بن أبي يحيى المقدسي: لم أصل إلى معرفة من هو؟
أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
سفيان: هو الثوري.
وأبوه: سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وهو ثقة معروف، أخرج له
أصحاب الكتب الستة.
أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح - بالتصغير. مضت ترجمته في: 5424.
مسروق: هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني. مضت ترجمته في: 4242.
وهذا إسناد صحيح متصل.
وسيأتي - عقبه - بإسناد منقطع: من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن
أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- منقطعًا،
بإسقاط"مسروق" بين أبي الضحى وابن مسعود.
وأبو الضحى لم يدرك ابن مسعود. مات ابن مسعود سنة 33. ومات أبو
الضحى سنة 100. وهكذا روى هذا الحديث في الدواوين بالوجهين:
متصلا ومنقطعًا. والوصل زيادة ثقة، فهي مقبولة.
فرواه الترمذي 4: 80-81، عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد
الزبيري، بهذا الإسناد، متصلا. كمثل رواية الطبري هذه من طريق
أبي أحمد.
وكذلك رواه البزار، من طريق أبي أحمد الزبيري، فيما نقل عنه
ابن كثير 2: 163.
ولم ينفرد أبو أحمد الزبيري بوصله بذكر"مسروق" في إسناده.
تابعه على ذلك راويان ثقتان.
فرواه الحاكم في المستدرك 2: 292، من طريق محمد بن عبيد
الطنافسي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد
الله - مرفوعًا موصولا. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقل ابن كثير 2: 161-162 أنه رواه سعيد بن منصور: "حدثنا أبو
الأحوص، عن سعيد بن مسروق [هو والد سفيان] عن أبي الضحى، عن
مسروق، عن ابن مسعود ... " - فذكره.
وأبو الأحوص سلام بن سليم: ثقة متقن حافظ، مضى في: 2058. فقد
رواه مرفوعًا متصلا، عن سعيد الثوري - والد سفيان - كما رواه
سفيان عن أبيه.
فهذا يرجح رواية من رواه عن سفيان موصولا، على رواية من رواه
عنه منقطعًا. فإذا اختلفت الرواية على سفيان بين الوصل
والانقطاع، فلم تختلف على أبي الأحوص.
بل الظاهر عندي أن هذا ليس اختلافًا على سفيان. وأن سفيان هذا
هو الذي كان يصله مرة، ويقطعه مرة. ومثل هذا في الأسانيد كثير.
(6/498)
7217 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو
نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى،
عن عبد الله، أراه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر
نحوه. (1)
7218 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه:"إنّ
أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، وهم المؤمنون.
* * *
__________
(1) الحديث: 7217- هذه هي الرواية المنقطعة لهذا الحديث. رواه
الطبري من طريق أبي نعيم عن سفيان، منقطعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن محمود، وهو ابن غيلان، عن أبي
نعيم، بهذا الإسناد.
وتابع أبا نعيم على روايته هكذا منقطعًا رواة آخرون ثقات:
فرواه أحمد في المسند: 3800، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن
أبي الضحى، عن عبد الله - هو ابن مسعود- مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن أبي كريب، عن وكيع.
ولكن نقله ابن كثير 2: 163-164 عن تفسير وكيع، بهذا الإسناد،
وفيه"عن أبي إسحاق" بدل"عن أبي الضحى". وأنا أرجح أن هذا خطأ
من بعض ناسخي تفسير وكيع، ترجيحًا لرواية أحمد عن وكيع،
والترمذي من طريق وكيع - وفيهما: "عن أبي الضحى".
ورواه أحمد أيضًا: 4088، عن يحيى، وهو القطان، وعن عبد الرحمن،
وهو ابن مهدي - كلاهما عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن
عبد الله، مرفوعًا.
وقد رجح الترمذي الرواية المنقطعة، وهو ترجيح بغير مرجح.
والوصل زيادة تقبل من الثقة دون شك.
وفي رواية الطبري هذه قوله: "أراه عن النبي صلى الله عليه
وسلم"، مما يفهم منه الشك في رفعه أيضًا. وهذا الشك لعله من
ابن المثنى شيخ الطبري، أو من الطبري نفسه، لأن رواية الترمذي
من طريق أبي نعيم ليس فيها الشك في رفعه.
والحديث ذكره السيوطي 2: 42، دون بيان الروايات المتصلة من
المنقطعة - وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي
حاتم، ولم يذكر نسبته لمسند أحمد ولا للبزار.
(6/499)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
القول في تأويل قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ودّت"، تمنت = (1)
"طائفة"، يعني جماعة ="من أهل الكتاب"، وهم أهل التوراة من
اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى ="لو يضلُّونكم"، يقولون: لو
يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم
عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.
* * *
و"الإضلال" في هذا الموضع، الإهلاكُ، (2) من قول الله عز وجل:
(وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة السجدة: 10] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه
قول الأخطل في هجاء جرير:
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ
الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (3)
يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ
بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (4)
يعني مهلكوه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542.
(2) انظر تفسير"ضل" فيما سلف 1: 195 / 2: 495، 496.
(3) مضى تخريجه وشرحه في 2: 496.
(4) ديوانه: 83، واللسان (ضلل) (جلا) ، من قصيدته الغالية في
رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وقبل
البيت: فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ...
أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ
فَلاَ تَبْعَدَنْ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ، ... وَكُلُّ
امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ
فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر، لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو
حُجُرٍ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي، وَإنْ تَمُتْ ... فَمَا
فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل
فَآبَ مُضِلُّوهُ. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
ورواية الأصمعي وأبي عبيدة: "فآب مصلوه" بالصاد المهملة.
وفسرها الأصمعي فقال: "أراد: قدم أول قادم بخبر موته، ولم
يتبينوه ولم يحققوه ولم يصدقوه، ثم جاء المصلون، وهم الذين
جاءوا بعد الخبر الأول، وقد جاءوا على أثره، وأخبروا بما أخبر
به، بعين جلية: أي بخبر متواتر صادق يؤكد موته، ويصدق الخبر
الأول. وإنما أخذه من السابق والمصلي (من الخيل) " وقال أبو
عبيدة: "مصلوه: يعني أصحاب الصلاة، وهم الرهبان وأهل الدين
منهم".
والذي قاله الأصمعي غريب جدًا، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته،
واحتياله الذي لا يغني، ولو قال: "مصلوه"، هم مشيعوه الذين سوف
يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها، وهي اللحد
- لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب
أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة، على ضعفه، أجود مما
قاله الأصمعي، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري، ولها
تفسيران: أحدهما الذي قاله الطبري، وهو يقتضي أن يكون النعمان
مات مقتولا، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك، فإنه غير ممكن أن يكون
تفسيره"مهلكوه"، إلا على هذا المعنى، والآخر: "مضلوه" أي:
دافنوه الذي أضلوه في الأرض: أي دفنوه وغيبوه، وهو المشهور في
كلامهم، كقول المخبل: أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ
عَمِيدَهَا ... وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ
فمعنى قول النابغة: كذب الناس خبر موت النعمان أول ما جاء،
فلما جاء دافنوه بخبر ما عاينوه، صدقوا الخبر الأول. هذا أجود
ما يقال في معنى البيت. و"الجولان" جبل في نواحي دمشق، من عمل
حوران. وتبين من شعر النابغة أنه كانت به منازل النعمان وقصوره
ودوره.
(6/500)
="وما يضلون إلا أنفسهم"، وما يهلكون - بما
يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم، يعني
بـ"أنفسهم": أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما
أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله
بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله،
ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع
محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ
المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ
بهمُ محلٌّ من عقوبته،
(6/501)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
(70)
ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى
ذكره:"وما يشعرون" أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم
إضلالكم أيها المؤمنون.
* * *
ومعنى قوله:"وما يشعرون"، وما يدرون ولا يعلمون.
* * *
وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أهل الكتاب"، من اليهود
والنصارى ="لم تكفرون"، يقول: لم تجحدون ="بآيات الله"، يعني:
بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه
وأدلته="وأنتم تشهدون" أنه حق من عند ربكم.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم
بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في
كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله،
كما:-
7219 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"،
يقول: تشهدون
__________
(1) انظر تفسير"شعر" فيما سلف 1: 277، 278.
(6/502)
أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم
تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل:"النبي الأميّ الذي
يؤمن بالله وكلماته".
7220 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله
وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم
تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة
والإنجيل:"النبيّ الأميّ".
7221 - حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم
تشهدون"،"آيات الله" محمد، وأما"تشهدون"، فيشهدون أنه الحق،
يجدونه مكتوبًا عندهم.
7222 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم
تشهدون" أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7222- أسقطت المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا القاسم
قال"، فأثبتها، وهو إسناد دائر في التفسير من أوله، أقربه رقم:
7200، وسيأتي بعد قليل على الصواب، رقم: 7226.
(6/503)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل
="لم تلبسون"، يقول: لم تخلطون ="الحق بالباطل".
* * *
(6/503)
وكان خلطهم الحقّ بالباطل، إظهارهم
بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من
عند الله، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية.
كما:-
7223 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال
عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم
لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر
به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ،
فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم
تلبسون الحقّ بالباطل" إلى قوله:"والله واسع عليم". (1)
7224 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، يقول: لم
تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله
الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟
7225 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: الذي لا يقبل
من أحد غيرَه، الإسلامُ = ولم يقل:"ولا يجزي إلا به". (2)
7226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"،
الإسلامَ باليهودية والنصرانية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك بما:-
__________
(1) الأثر: 7223- سيرة ابن هشام 2: 202، وهو تابع الأثر السالف
رقم: 7202.
(2) في المطبوعة: "ولم يقبل ولا يجازى إلا به"، قرأها الناشر
كذلك لفساد خط الناسخ في كتابته، وصواب قراءتها ما أثبت، وفي
المخطوطة"لا يجزى الآية"، وهو تصحيف قبيح.
(6/504)
7227 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"لم تلبسون الحق
بالباطل"، قال:"الحقّ" التوراة التي أنزل الله على موسى،
و"الباطل"، الذي كتبوه بأيديهم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"اللبس" فيما مضى، بما أغنى عن
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (71) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب،
الحقّ؟ (2)
* * *
و"الحق" الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه
وسلم ومبعثه ونبوّته، كما:-
7227 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، كتموا شأنَ محمد، وهم
يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف
وَينهاهم عن المنكر.
7229 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"،
يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا
عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر.
7230 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) انظر ما سلف 1: 567، 568.
(2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية والتي قبلها فيما سلف 1:
566-572، والآثار التي رواها هنا قد رويت هناك في مواضعها.
(6/505)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
ابن جريج:"تكتمون الحق"، الإسلام، وأمرَ
محمد صلى الله عليه وسلم ="وأنتم تعلمون" أنّ محمدًا رسولُ
الله، وأنّ الدين الإسلامُ.
* * *
وأما قوله:"وأنتم تعلمون"، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ
الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من
الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم
ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في
كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (72) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به
هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ
آخره. (1)
فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله
عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في
الظاهر = (2) من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على
ذلك = وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "والكفر آخره" غير ما في المخطوطة، وهو صواب
متمكن.
(2) سياق قوله: "بتصديق النبي ... في الظاهر".
(6/506)
7231 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آمنوا بالذي
أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، فقال بعضهم
لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه
أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو
أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم.
7232 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد،
عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين
آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم
أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.
7233 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي
أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"،
كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، (1) فقالوا لبعضهم:
ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا:"نشهد أن محمدًا حقّ
صادقٌ"، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا:"إنا رجعنا إلى
علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم
لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم"،
لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما
بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
7234 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض:
أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله
على سرّهم، فأنزل الله عز وجل:
__________
(1) في المطبوعة: "قرى عرينة" وهي قراءة فاسدة للمخطوطة، إذ
كانت غير منقوطة وجاءت على الصواب في الدر المنثور 2: 42.
وانظر معجم ما استعجم: 929، فهو اسم مكان.
(6/507)
"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي
أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون".
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها
معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه.
ذكر من قال ذلك:
7235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"آمنوا
بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، يهودُ تقوله. صلَّت
مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا
الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.
7236 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.
7237 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقالت طائفة من أهل
الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، الآية،
وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى
الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا
صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم
ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا:"وقالت طائفة من أهل
الكتاب"، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة ="آمنوا"
صدّقوا ="بالذي أنزل على الذين آمنوا"، وذلك ما جاءهم به محمد
صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه ="وجه
النهار"، يعني: أوّل النهار.
* * *
(6/508)
وسمَّى أوّله"وجهًا" له، لأنه أحسنه،
وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه، كما يقال لأول
الثوب:"وجهه"، وكما قال ربيع بن زياد:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ
نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7238 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"وجه النهار"، أوّلَ النهار.
7239 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وجه النهار"، أول النهار ="واكفروا
آخره"، يقول: آخر النهار.
7240 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه
النهار واكفروا
__________
(1) مجاز القرآن 1: 97، حماسة أبي تمام 3: 26، والأغاني 16:
27، والخزانة 3: 538، واللسان (وجه) وغيرها، من أبياته التي
قالها حين قتل حميمه مالك بن زهير، وحمى لقتله، واستعد لطلب
ثأره، وبعد البيت، وهو من تمامه. يَجِدِ النَّسَاءَ حَوَاسِرًا
يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّج الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهُ تَسَتُّرًا ... فَالْيَوْمَ
حِينَ بَرَزْنَ للنظّارِ
يَخْمِشنَ حُرَّاتِ الوُجُوهِ عَلَى امْرِئٍ ... سَهْلِ
الخليقةِ طَيِّبِ الأخبارِ
قالوا في معنى البيت الشاهد: "يقول: من كان مسرورًا بمقتل
مالك، فلا يشتمن به، فإنا قد أدركنا ثأره به. وذلك أن العرب
كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر". ومعنى البيت عندي شبيه
بذلك، إلا أن قوله: "فليأت نسوتنا بوجه نهار"، أراد به أنه
مدرك ثأره من فوره، فمن شاء أن يعرف برهان ذلك، فليأت ليشهد
المأتم قد قام يبكيه في صبيحة مقتله. يذكر تعجيله في إدراك
الثأر، كأنه قد كان. وتأويل ذلك أنه قال هذه الأبيات لامرأته
قبل مخرجه إلى قتال الذين قتلوا مالكًا، فقال لامرأته ذلك،
يعلمها أنه مجد في طلب الثأر، وأنه لن يمرض في طلبه، بل هو
مدركه من فوره هذا.
(6/509)
آخره) ، قال قال: صلوا معهم الصبح، ولا
تصلّوا معهم آخرَ النهار، لعلكم تستزلُّونهم بذلك.
* * *
وأما قوله:"واكفروا آخره"، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا
ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار ="لعلهم
يرجعون": يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه:
كما:-
7241 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"لعلهم يرجعون"، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى
الذي أنتم عليه.
7242 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7243 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلهم يرجعون"، لعلهم
ينقلبون عن دينهم.
7244 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"لعلهم يرجعون"، لعلهم يشكّون.
7245 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لعلهم يرجعون"، قال: يرجعون عن
دينهم.
* * *
(6/510)
وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(73)
القول في تأويل قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا
إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع
دينكم فكان يهوديًّا.
* * *
وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من
اليهود:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار".
* * *
و"اللام" التي في قوله:"لمن تبع دينكم"، نظيرة"اللام" التي في
قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) ، بمعنى: ردفكم،
(بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: 72] .
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7246 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، هذا قول بعضهم لبعض.
7247 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" قال: لا
تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.
7248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في
قوله:
(6/511)
"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، قال: لا
تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ
يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُم
عِنْدَ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: قوله:"قل إنّ الهدى هدى الله"، اعتراضٌ به في وسط
الكلام، (2) خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه.
قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن
قِيل اليهود بعضها لبعض. (3) فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا
إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو
أنْ يحاجُّوكم عند ربكم = أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند
ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا
محمد:"إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، و"إن الهدى هدى
الله".
ذكر من قال ذلك:
7249 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"،
حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا
على دينهم.
__________
(1) في المطبوعة: "لا من خالفه فلا تؤمنوا به" بزيادة"لا" وفي
المخطوطة: "من خالفه فلا تؤمنوا به"، والصواب زيادة الواو كما
أثبت، والصواب أيضًا"تؤمنوا له"، وذاك تصحيف من الناسخ.
(2) في المطبوعة: "اعترض به في وسط الكلام، خبر من الله. . ."
والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "خبر عن قيل اليهود" برفع الخبر،
والصواب من المخطوطة.
(6/512)
7250- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد:"إن الهدى هدى الله"، إنّ
البيان بيانُ الله ="أن يؤتى أحدٌ"، قالوا: ومعناه: لا يؤتى
أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: (يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: لا تضلون،
وكقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة الشعراء: 200-201] ، يعني: أن لا
يؤمنوا ="مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد،
وأمتك من الإسلام والهدى ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا:
ومعنى"أو":"إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم
عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم. (1)
ذكر من قال ذلك:
7251 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه
وسلم:"قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم"،
يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ="أو يحاجوكم عند ربكم"، تقول
اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا
المن والسلوى = فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا:"إن الفضْل بيد
الله يؤتيه من يشاء"، الآية.
* * *
فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [أمرٌ] من الله نبيَّه
محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، (2) وهو متلاصق
بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و"الهدى"
__________
(1) انظر تفصيل هذه المقالة في معاني القرآن للفراء 1:
222-223.
(2) في المطبوعة: "جميع هذا الكلام من الله لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم"، وفي المخطوطة"جميع هذا الكلام من الله نبيه
محمدًا صلى الله عليه وسلم"، ولما رأى الناشر عبارة لا تستقيم،
اجتهد في إصلاحها، والصواب القريب زيادة ما زدته بين القوسين،
سقط من الناسخ"أمر" لقرب رسمها مما بعدها وهو: "من". وقد
استظهرته مما سيأتي في أول الفقرة التالية.
(6/513)
الثاني ردّ على"الهدى" الأول، و"أن" في
موضع رفع على أنه خبر عن"الهدى".
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. (1)
وقالوا: تأويله:"قل" يا محمد"إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد"
من الناس"مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا
معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين
على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي
أوتيه من أشاء.
ذكر من قال ذلك:
7252 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم"،
يقول: لما أنزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل
نبيكم، حسدتموهم على ذلك ="قلْ إنّ الفضلَ بيد الله"، الآية.
7253 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك:"قل" يا محمد:"إن الهدى هدى الله أن
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله.
قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى
الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا:
وقوله:"أو يحاجوكم"، مردود على قوله:"ولا تؤمنوا إلا لمن تَبع
دينكم".
وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة -: ولا تؤمنوا إلا
لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من
اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في
كتابكم. فيكون حينئذ قوله:"أو يحاجوكم" مردودًا
__________
(1) في المطبوعة: "أمر من الله لنبيه" زاد لامًا لا ضرورة لها.
وانظر التعليق السالف.
(6/514)
على جواب نهي متروك، على قول هؤلاء.
ذكر من قال ذلك:
7254 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"،
يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم
="أو يحاجوكم عند ربكم"، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما
بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم = قال: ليخاصموكم = به
عند ربكم ="قل إن الهدى هدى الله".
* * *
[قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله:"قل
إن الهدى هُدى الله"] = معترضًا به، (1) وسائر الكلام متَّسِقٌ
على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع
دينكم، (2) ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = بمعنى: لا
يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = (3) "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى:
أو أن يحاجوكم عند ربكم. . . . . . . . (4) أحد بإيمانكم،
__________
(1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها كما سترى في التعليق
ص 516، تعليق: 3. وكان في المطبوعة"قل إن الهدى هدى الله،
معترض به"، وهو لا يستقيم، وفي المخطوطة مثله إلا أنه
كتب"معترضًا به" بالنصب. والظاهر أن الناسخ لما بلغ"قل إن
الهدى هدى الله" في الأثر السالف تخطى بصره إلى نظيرتها في
كلام الطبري، فكتب بعده: "معترضًا به" وأسقط ما بينهما كما
سيتبين لك فيما بعد.
(2) في المطبوعة: "اتبع دينكم"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بمثل ما أوتيتم" زاد"باء"، والصواب من
المخطوطة.
(4) موضع هذه النقط سقط، لا أشك فيه، وكان في المطبوعة: "أو أن
يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو غير مستقيم، وكان في
المخطوطة: "أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو كلام
مختل، حمل ناشر المطبوعة الأولى على تغييره، كما رأيت. وظاهر
أنه سقط من هذا الموضع، سياق أبي جعفر لهذا التأويل الذي
اختاره، ورد فيه قوله تعالى: "قل إن الهدى هدى الله"، إلى
موضعها بعد قوله: "أو يحاجوكم به عند ربكم"، كما هو بين من
كلامه. وأنا أظن أن قوله: "أحد بايما لم" وهكذا كتبت في
المخطوطة غير منقوطة، صوابها"حسدا لما آتاكم"، كما يستظهر من
الآثار السالفة.
هذا، وإن شئت أن تجعل الكلام جاريًا كله مجرى واحدًا على هذا:
"أو أن يحاجوكم عند ربكم، حسدًا لما آتاكم، لأنكم أكرم على
الله منهم. . ."، كان وجهًا، غير أني لست أرتضيه، بل أرجح أن
هاهنا سقطًا لا شك فيه.
(6/515)
لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم.
فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز
وجل:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين
آمنوا وجه النهار" سوى قوله:"قلُ إن الهدى هدى الله". ثم يكون
الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم:"قل"، يا محمد، للقائلين ما
قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود =
(1) "إن الهدى هدى الله"، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ
بيانُه، (2) "وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء" لا ما تمنيتموه
أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، (3) لأنه
أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب،
وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من
القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِمٌ (73) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، لهؤلاء اليهود
الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم ="إنّ الفضل بيد الله"، إنّ
التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، (4) بيد الله وإليه، دونكم
ودون سائر خلقه ="يؤتيه من يشاء" من
__________
(1) التباع جمع تابع، مثل: "جاهل وجهال".
(2) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551
/ 3: 101، 140، 141، 223 / 4: 283.
(3) من ذكر الطبري اختياره، تبين بلا ريب أن في صدر الكلام
سقطًا، كما أسلف في ص: 515، تعليق: 1، ولعل الزيادة التي
أسلفتها، قد نزلت منزلها من الصواب إن شاء الله.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 334 / 5: 571.
(6/516)
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(74)
خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده، (1)
تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم:"لا يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم". فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:
قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء
كلها، وإليه الفضل، وبيده، يُعطيه من يشاء ="والله واسع عليم"،
يعني: والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه = (2)
"عليم"، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل. (3)
7255 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله:"قل إنّ الفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء"، قال: الإسلام.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يختص برحمته من يشاء"،"يفتعل" من
قول القائل:"خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به". (4)
* * *
وأما"رحمته"، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة،
كما:-
7256 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يختص برحمته من يشاء"، قال: النبوّة،
يخصُّ بها من يشاء.
__________
(1) انظر تفسير: "آتى" فيما سلف 1: 574 / 2: 317 وفهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575.
(3) انظر تفسير"عليم" فيما سلف 1: 438، 496 / 2، 537 / 3: 399،
وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"يختص" فيما سلف أيضا 2: 471.
(6/517)
7257 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7258 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يختص برحمته من يشاء"، قال:
يختص بالنبوة من يشاء.
7259 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك
قراءةً، عن ابن جريج:"يختص برحمته من يشاء"، قال: القرآن
والإسلام.
7260 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج مثله.
* * *
="والله ذو الفضل العظيم"، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من
أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال:"فضله عظيم"،
لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [فضلٌ] من إفضال
خلقه، (1) ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "غير مشبه ... ممن أفضله عليه أفضال خلقه"،
وأما المخطوطة ففيها: " غير مشبهه ... ممن أفضله عليه من أفضال
خلقه"، فرأيت أنه قد سقط من ناسخ المخطوطة ما زدته بين القوسين
ليستقيم الكلام.
(6/518)
وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
القول في تأويل قوله: {وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب -
وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا
يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ.
(1)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله
عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي
أمانته والخائنُها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه
في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، (2)
وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
* * *
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على
عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن
تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه
بالتقاضي والمطالبة.
* * *
__________
(1) لعل في المخطوطة سقطًا، صوابه: "المستحل أموال الأميين من
العرب" أو "المستحل أموال المؤمنين"، كما يتبين من بقية تفسير
الآية.
(2) في المخطوطة: "أن نهوهم على أموالهم" غير منقوطة، والذي
قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب.
(6/519)
و"الباء" في قوله:"بدينار" و"على" يتعاقبان
في هذا الموضع، كما يقال:"مررت به، ومررت عليه". (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا".
فقال بعضهم:"إلا ما دمت له متقاضيًا".
ذكر من قال ذلك:
7261 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، إلا ما طلبته واتبعته.
7262 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال:
تقتضيه إياه.
7263 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"،
قال: مواظبًا.
7264 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". (2)
ذكر من قال ذلك:
7265 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، يقول:
يعترف
__________
(1) انظر ذلك فيما سلف 1: 313.
(2) في المطبوعة: "إلا ما دمت عليه قائمًا" بزيادة"عليه"، وهي
فساد، والصواب من المخطوطة.
(6/520)
بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ
ثم جئت تطلبهُ كافرك = (1) الذي يؤدِّي، والذي يجحد. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال:"معنى
ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من
قولهم:"قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي"، أي عمل في
تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل
إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما
عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس
الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما
هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه
لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة
والمخاصمة. (3) فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج
حقه ممن هو عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من
اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما
ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا = من
أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب
__________
(1) كافره حقه: جحده حقه.
(2) قوله: "الذي يؤدي، والذي يجحد" بيان عن ذكر الفريقين
اللذين ذكرا في الآية، أي: هذا الذي يؤدي، وهذا الذي يجحد.
(3) سياق العبارة: "قد يكون ... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء
... "، وما بينهما فصل.
(6/521)
ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم
مشركون. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
7266 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية،
قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
7267 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ليس علينا في الأميين سبيل"،
قال: ليس علينا في المشركين سبيل = يعنون من ليس من أهل
الكتاب.
7268 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: يقال
له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال
العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
7269 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن
سعيد بن جبير: لما نزلت"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار
يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت
عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ"، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في
الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى
البر والفاجر. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الأمي" فيما سلف 2: 257- 259 / ثم 5: 442 في
كلام الطبري نفسه / ثم 6: 281 / ثم الآثار رقم: 5827، 6774،
6775.
(2) الأثر: 7269-"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، و"جعفر"
هو: "جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، مضيا في رقم: 617.
قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا: "هو حديث
مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي، وإسناده إليه
إسناد جيد". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169، 170 من تفسير
ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور 2: 44، ونسبه أيضًا لعبد
بن حميد، وابن المنذر.
(6/522)
7270- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن
جبير قال: لما قالت اليهود:"ليس علينا في الأميين سبيل"، يعنون
أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه
= إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها
مؤدّاةٌ = ولم يزد على ذلك.
7271 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا
في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا
جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: (ليس
علينا في الأميين سبيل) ، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
7272 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال:
بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا
تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا
قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال:
وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، (1) فقال الله عز
وجل:"ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون".
7273 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن
أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب
فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب:"ليس
علينا في الأميين سبيل!! (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وادعوا ... "، أسقط"قال"، وأثبتها من
المخطوطة.
(2) الأثر: 7273-"أبو إسحاق الهمداني" كما بين في الأثر
التالي. و"صعصعة بن يزيد"، ويقال"صعصعة بن زيد"، وذكر البخاري
الاختلاف في اسمه، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير 2 / 2
/ 321، 322، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446. وانظر التعليق على
الأثر التالي.
(6/523)
7274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن
صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو = أو:
[العذق] ، الشك من الحسن = من أموال أهل الذمة الدجاجةَ
والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا
بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب:"ليس علينا في الأميين
سبيل"! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب
أنفسهم. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7274- هذا طريق آخر للأثر السالف، وبلفظ غيره.
ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتاب الأموال (ص 149، رقم:
415) من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة،
بلفظ آخر. ورواه البيهقي في السنن 9: 198 من طريق"شعبة، عن أبي
إسحاق، عن صعصعة، قال قلت لابن عباس"، بلفظ آخر غير كل ما سلف.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169 من تفسير عبد الرزاق وفيه"عن
أبي صعصعة بن يزيد" وهو خطأ صوابه"صعصعة". وقال: "وكذا رواه
الثوري عن أبي إسحاق بنحوه". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2:
4، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وساقه
الزمخشري في تفسير الآية، بنص أبي جعفر، والقرطبي 4: 118، 119،
وأبو حيان في تفسيره من تفسير عبد الرزاق أيضًا 2: 501، وفي
جميعها"إنا نصيب في الغزو" إلا القرطبي فإن فيه: "إنما نصيب في
العمد"، وأما البيهقي ففيه: "إنا نأتي القرية بالسواد فنستفتح
الباب ... "، وفي الأموال: "إنا نسير في أرض أهل الذمة فنصيب
منهم".
وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري: "إنا نصيب في
العرف، أو العذق، الشك من الحسن"، ولم أجد ذلك في مكان، وهو لا
معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد
الرزاق بهذا الإسناد نفسه، على عبارة واحدة هي"إنا نصيب في
الغزو"، فأثبتها كذلك، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته
بين قوسين، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها"أو: الغزوة
-الشك من الحسن"، أو تكون: "أو: القرية- الشك من الحسن".
(6/524)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم:"ليس
علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه"،
يقولون = بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في
خيانتهم إياه، وترك قضائهم = (1) الكذبَ على الله عامدين
الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز
وجل:"وهم يعلمون"، كما:-
7275 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم = يعني الذي يقول منهم -
إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ -: ليس علينا حرج في أموال
العرب، قد أحلها الله لنا!
7276 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني: ادّعاءهم
أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم:"ليس علينا في الأميين سبيل".
* * *
القول في تأويل قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) }
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى
أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. (2)
فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول
__________
(1) قوله: "الكذب" مفعول"يقولون"، وما بينهما فصل.
(2) في المطبوعة: "هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته
إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده"، والذي أثبت
هو نص المخطوطة، وهو الصواب المحض. والسياق: "وهذا إخبار من
الله ... عما لمن أدى أمانته ... عنده". وقوله: "واتقاء الله
ومراقبته" على النصب فيهما، مفعول لأجله.
(6/525)
هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه
ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن
من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته
إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد صلى الله
عليه وسلم وما جاءهم به. (1)
* * *
و"الهاء" في قوله:"من أوفى بعهده"، عائدة على اسم"الله" في
قوله:"ويقولون على الله الكذب".
* * *
يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد
صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء
الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه
="واتقى"، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر
معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ
عقابه ="فإنّ الله يحبّ المتقين"، يعني: فإن الله يحب الذين
يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه
وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
* * *
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
7277 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"بلى من أوفى بعهده واتقى"
يقول: اتقى الشرك ="فإنّ الله يحب المتقين"، يقول: الذين يتقون
الشرك.
* * *
__________
(1) انظر بيان معنى"أوفى" فيما سلف 1: 557-559 / 3: 348. وانظر
تفسير"العهد" فيما سلف 1: 410-414، ثم 557-559 / 3: 20-24،
348، 349.
(6/526)
إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(77)
وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك
والصوابَ من القول فيه، بالأدلة الدّالة عليه، فيما مضى من
كتابنا، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون -
بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في
الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه
والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي
يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا
عليها (2) ="ثمنًا"، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا
وحُطامها (3) ="أولئك لا خلاق لهم في الآخرة"، يقول: فإن الذين
يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم
الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم. (4)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى"الخلاق"، ودللنا
على
__________
(1) انظر تفسير"اتقى" و"التقوى" فيما سلف 1: 232، 233، 364 /
2: 181، 457 / 4: 162، 244، 425، 426 / ثم 6: 261.
(2) سياق الجملة: "إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله ...
وبأيمانهم الكاذبة ... ثمنًا ...
(3) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف 1: 311-315، 565 / 2: 316، 317
ثم 341، 342، ثم 452 / 3: 328.
وانظر تفسير"ثمنًا قليلا" فيما سلف 2: 565 / 3: 328.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "دون غيرها"، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(6/527)
أولى أقوالهم في ذلك بالصواب، بما فيه
الكفاية. (1)
* * *
وأما قوله:"ولا يكلمهم الله"، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما
يسرُّهم ="ولا ينظر إليهم"، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا
من الله لهم، كقول القائل لآخر:"انظُر إليّ نَظر الله إليك"،
بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة = وكما يقال
للرجل:"لا سمع الله لك دعاءَك"، يراد: لا استجاب الله لك،
والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر: (2)
دَعَوْتُ اللهَ حَتى خِفْتُ أَنْ لا ... يَكْونَ اللهُ
يَسْمَعُ مَا أَقُولُ (3)
* * *
وقوله"ولا يُزكيهم"، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم
="ولهم عذاب أليم"، يعني: ولهم عذابٌ موجع. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية،
ومن عني بها.
فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود.
ذكر من قال ذلك:
7278 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد
الله
__________
(1) انظر ما سلف 2: 452-454 / 4: 201-203.
(2) هو شمير بن الحارث الضبي، ويقال"سمير" بالمهملة، مصغرًا-
وهو جاهلي.
(3) نوادر أبي زيد: 124، والخزانة 2: 363، واللسان (سمع) ،
وبعده: لِيَحْمِلَني عَلَى فَرَسٍ، فَإِنِّي ... ضَعِيفُ
المَشْيِ، لِلأَدْنَى حَمُولُ
و"يسمع ما أقول"، يستجيب، كقولنا: "سمع الله لمن حمده".
(4) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف 1: 573، 574 / 3: 88 / 5: 29
= و"أليم" 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330، وغيرها،
فاطلبه في فهارس اللغة.
(6/528)
وأيمانهم ثمنًا قليلا"، في أبي رافع،
وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحُييّ بن أخطب.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.
ذكر من قال ذلك:
7279 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية،
عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها
مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان = فقال الأشعث بن
قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ
فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال
لليهودي:"احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي!
فأنزل الله عز وجل:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا
قليلا" الآية. (1)
__________
(1) الحديث: 7279- أبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي.
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان: أوله من حديث عبد الله بن
مسعود، وآخره في سبب نزول الآية من حديث الأشعث بن قيس.
والأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، صحابي معروف.
والحديث رواه أحمد: 3597، 4049، عن أبي معاوية، عن الأعمش،
بهذا الإسناد.
ثم رواه بالإسناد نفسه، في مسند"الأشعث بن قيس"، ج 5 ص 211
(حلبي) .
وكذلك رواه البخاري 5: 53، 206 (فتح الباري) ، من طريق أبي
معاوية.
ورواه مسلم 1: 49-50، من طريق أبي معاوية ووكيع - كلاهما عن
الأعمش.
ورواه أحمد مختصرًا، عن ابن مسعود وحده، من أوجه أخر: 3576،
3946، 4212.
ورواه أيضًا، مختصرًا ومطولا، في مسند الأشعث بن قيس، من ثلاثة
أوجه أخر، ج 5 ص 211-212 (حلبي) .
وكذلك رواه البخاري من أوجه، مختصرًا ومطولا، في مواضع غير
الموضعين السابقين 5: 25، 207، 211، و 11: 473، 485-490 (وهنا
شرحه الحافظ شرحًا وافيًا) ، و 13: 156، 364.
ورواه مسلم من وجهين أيضًا 1: 50.
وذكره ابن كثير 2: 172: 173، من رواية المسند عن أبي معاوية،
ثم ذكره من روايته الأخيرة في مسند الأشعث بن قيس.
وذكره السيوطي 2: 44، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور،
وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن
المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي أيضًا: 7282، من رواية منصور، عن شقيق، وهو أبو وائل،
به، نحوه.
(6/529)
7280 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا
يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم، عن عدي بن عدي، عن
رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة قال:
كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ، فارتفعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي:"بيِّنَتَك، وإلا فيمينه".
قال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه، لقي
الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن
تركها، وهو يعلم أنها حقّ؟ قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد
تركتها = قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا
الحديث من عدي، فقال أيوب: إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن
عميرة: فنزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
ثمنًا قليلا" إلى آخر الآية = قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من
عدي. (1)
__________
(1) الحديث: 7280- عدي بن عدي بن عميرة الكندي: تابعي ثقة
معروف، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 44: "سيد أهل الجزيرة".
وهو يروي عن أبيه، ولكنه روى عنه هنا بواسطة عمه العرس بن
عميرة ورجاء بن حيوة.
رجاء بن حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة:
تابعي ثقة كثير العلم والحديث. وهو من رهط امرئ القيس بن عابس
الكندي صاحب هذه الحادثة. جدهما الأعلى: "امرؤ القيس ابن عمرو
بن معاوية الأكرمين الكندي".
العرس - بضم العين المهملة وسكون الراء وآخره سين مهملة: هو
ابن عميرة الكندي، وهو صحابي، جزم البخاري بصحبته، وروى له
حديثًا في الكبير 4 / 1 / 87. وهو أخو عدي بن عميرة، وعم عدي
ابن عدي.
عدي بن عميرة بن فروة الكندي: صحابي معروف، يكنى"أبا زرارة"،
له أحاديث في صحيح مسلم، كما قال الحافظ في الإصابة.
و"عميرة": بفتح العين وكسر الميم، كما نص عليه في المشتبه
للذهبي وغيره. وضبط في طبقات ابن سعد 6: 36 بضمة فوق العين.
وهو خطأ صرف، فإن اسم"عميرة" بالضم - من أسماء النساء. وضبط في
الطبقات على الصواب في ترجمة أخرى لعدي 7 / 2 / 176.
ووقع في المخطوطة هنا"عدي بن عمير" و"العرس بن عمير" - بدون
هاء في آخره فيهما. وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 191-192 (حلبي) ، عن يحيى بن
سعيد، عن جرير ابن حازم، بهذا الإسناد، نحوه.
ثم رواه، ص: 192، عن يزيد، وهو ابن هارون، "حدثنا جرير بن
حازم"، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظ الحديث كله. ووقع في نسخة
المسند المطبوعة في هذا الموضع سقط قول أحمد: "حدثنا يزيد"،
وهو خطأ واضح. وثبت على الصواب في مخطوطة المسند المرموز لها
بحرف"م".
وذكره ابن كثير 2: 172، من رواية المسند الأولى، ثم قال:
"ورواه النسائي، من حديث عدي بن عدي، به"، وهو يريد بذلك السنن
الكبرى، فإنه ليس في السنن الصغرى.
ولذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 178، وقال: "رواه أحمد،
والطبراني في الكبير، ورجالهما ثقات".
وهو في الدر المنثور 2: 44، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن
المنذر، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر.
(6/530)
7281 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال آخرون: إن الأشعث بن
قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض
كانت في يده لذلك الرجل، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم:"أقم بينتك. قال الرجل: ليس يشهد لي
أحدٌ على الأشعث! قال: فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف، فأنزل
الله عز وجل هذه الآية، فنكلَ الأشعَث وقال: إني أشهد الله
وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه، وزاده من أرض نفسه
زيادةً كثيرةً، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك
الرجل بعده. (1)
__________
(1) الحديث: 7281- هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدثه
به. فهو ضعيف الإسناد.
وقول ابن جريج"قال آخرون" - هو ثابت في المخطوطة والمطبوعة.
ولم يذكره السيوطي، فلعله اختصره.
ومعناه أن ابن جريج كان يتحدث في شأن نزول الآية، والظاهر أنه
تحدث بخبر قبل هذا، ثم قال: "وقال آخرون" - فذكر هذا الحديث.
ولعله ذكر الآية الماضية: 7279-، أو الآتية: 7282، أو نحو ذلك،
ثم أتى بروايته هذه المرسلة.
وهي ضعيفة الإسناد كما قلنا لإرسالها. ثم هي ضعيفة لما فيها من
منافاة لتينك الروايتين الصحيحتين:
أن الخصومة كانت بين الأشعث ورجل يهودي، وأن اليهودي كان
المدعى عليه الذي عليه اليمين، وأن الأشعث قال: "إذن يحلف".
فهي ضعيفة الإسناد، ضعيفة السياق.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي 2: 44، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "فقام الأشعث ليحلف" - هذا هو الثابت في المطبوعة، وهو
الصواب إن شاء الله. وفي المخطوطة: "فحلف"، وهو خطأ، يدل على
غلطه قوله بعد"فنكل". والنكول إنما يكون عند عرض اليمين أو
الهم بالحلف. أما بعد الحلف فلا يكون نكول، بل رجوع إلى الحق،
أو إقرار به، ولا يسمى نكولا. وفي الدر المنثور: "فقال الأشعث:
نحلف" - والظاهر أنه تصحيف.
(6/531)
7282 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: من حلف على يمين يستحقّ بها
مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله
تصديق ذلك:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا"
الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال: ما حدثكم أبو
عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صَدَق، لفيَّ أنزلت! كانت
بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه. فقلت:
إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف
على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه
غضبان"، ثم أنزل الله عز وجل تصديقَ ذلك:"إنّ الذين يشترُون
بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا"، الآية. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7282- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. ومنصور: هو
ابن المعتمر. وشقيق: هو أبو وائل.
وهذا الحديث هو الحديث السابق: 7279، بنحوه. ذاك من رواية
الأعمش عن أبي وائل، وهذا من رواية منصور عن أبي وائل. وقد
بينا تخريجه هناك.
ونذكر هنا أن من روايات البخاري إياه، روايته في 5: 207 (فتح)
، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 1: 50، عن إسحاق بن إبراهيم -وهو ابن راهويه-
عن جرير، به، ولم يذكر لفظه.
ورواه أحمد في المسند 5: 211 (حلبي) ، عن زياد البكائي عن
منصور.
ورواه البخاري 11: 473، من طريق شعبة، عن سليمان - وهو الأعمش
- ومنصور، كلاهما عن أبي وائل.
ورواه أيضًا 13: 156، من طريق سفيان، وهو الثوري عن منصور.
(6/532)
وقال آخرون بما:-
7283 - حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال،
أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل
النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل
النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عز
وجل:"إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا".
7284 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه.
7285 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا) الآية،
إلى:"ولهم عذاب أليم"، أنزلهم الله بمنزلة السَّحَرة.
7286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها
مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون
ذلك. ثم قرأ هذه الآية:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم
ثمنًا قليلا" الآية. (1)
7287 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن
علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من
حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ
هذه الآية كلها:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا
قليلا". (2)
__________
(1) الحديث: 7286- هذا إسناد مرسل، قتادة -وهو ابن دعامة-: لم
يدرك عمران ابن حصين، مات عمران سنة 52، وولد قتادة سنة 61.
وسيأتي الحديث عقب هذا بإسناد آخر متصل.
(2) الحديث: 7287- موسى بن عبد الرحمن المسروقي، وحسين بن علي
الجعفي: ترجمنا لهما فيما مضى: 174.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، مضى في: 4897.
هشام: هو ابن حسان.
محمد: هو ابن سيرين. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "قال
محمد بن عمران بن حصين"! وهو خطأ صرف، حرفت كلمة"عن" إلى"بن".
والصواب ما أثبتنا: "محمد، عن عمران بن حصين". وهكذا مخرج
الحديث، كما سيأتي.
وهذا الحديث ظاهره هنا أنه موقوف. ولكنه في الحقيقة مرفوع، حتى
لو كان موقوفًا لفظًا، فإنه - على اليقين- مرفوع حكمًا، لأن
الوعيد الذي فيه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس، ولا مما يدرك
بالاستنباط من القرآن. ثم قد ثبت رفعه صريحًا، من هذا الوجه:
فرواه أحمد في المسند 4: 436، 441، عن يزيد، وهو ابن هارون:
"أخبرنا هشام، عن محمد، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، قال: "من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدًا
فليتبوأ بوجهه مقعده من النار". ولم يذكر فيه الاستشهاد
بالآية.
وكذلك رواه أبو داود: 3242، عن محمد بن الصباح البزاز، عن يزيد
بن هارون به، نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 4: 294، من طريق يزيد بن هارون،
به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
ووافقه الذهبي.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3: 47، من رواية أبي داود
والحاكم.
وذكره السيوطي 2: 46، بنحو رواية الطبري هنا: موقوفًا لفظًا مع
الاستشهاد بالآية - ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي
داود، وابن جرير، والحاكم، مع اختلاف السياق بين الروايتين،
كما هو ظاهر. وذلك منه دلالة على أنه لا فرق بين رفعه ووقفه
لفظًا، إذ كان مرفوعًا حكمًا ولا بد.
"اليمين المصبورة" و"يمين الصبر" - قال القاضي عياض في المشارق
2: 38"من الحبس والقهر"، بمعنى"إلزامها والإجبار عليها".
وقال الخطابي في معالم السنن، رقم: 3115 من تهذيب السنن:
"اليمين المصبورة، هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من
أجلها، أي يحبس. وهي يمين الصبر، وأصل الصبر: الحبس. ومن هذا
قولهم: قتل فلان صبرًا، أي حبسًا على القتل وقهرًا عليه".
(6/533)
7288 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن
المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: إن
اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا"إنّ الذين يشترون بعهد الله
وأيمانهم ثمنًا قليلا".
7289 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر،
إذا فجر فيها صاحبها. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7289- هذا إسناد مرسل. فإن قتادة لم يدرك ابن
مسعود. ولد بعد موته بنحو 29 سنة.
والحديث لم أجده إلا عند السيوطي 2: 46 ونسبه لابن جرير فقط.
(6/534)
وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78)
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب = وهم
اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم
على عهده، من بني إسرائيل.
* * *
و"الهاء والميم" في قوله:"منهم"، عائدة على"أهل الكتاب" الذين
ذكرهم في قوله:"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه
إليك".
وقوله ="لفريقًا"، يعني: جماعة (1) ="يلوون"، يعني: يحرِّفون
="ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، يعني: لتظنوا أن الذي
يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. (2) يقول الله عز وجل:
وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله،
(3) ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل
فألحقوه في كتاب الله ="من عند الله"، يقول: مما أنزله الله
على أنبيائه ="وما هو من عند الله"، يقول: وما ذلك الذي لووا
به ألسنتهم فأحدثوه، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه
مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله.
= يقول عز وجل:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني
بذلك: أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله، والشهادة عليه
بالباطل، والإلحاقَ بكتاب
__________
(1) انظر تفسير"فريق" فيما سلف 2: 244، 245، ثم 402 / 3: 549.
(2) في المطبوعة"لكلامهم" باللام، ولم يحسن قراءة المخطوطة.
(3) قوله: "وما ذلك. . . من كتاب الله": ليس ذلك. . . من كتاب
الله، هذا هو السياق.
(6/535)
الله ما ليس منه، طلبًا للرياسة والخسيس من
حُطام الدنيا.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى"يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال أهل
التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7290 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم
بالكتاب"، قال: يحرفونه.
7291- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7292 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، حتى بلغ:"وهم
يعلمون"، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا
فيه، وزعموا أنه من عند الله.
7293 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7294 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإن منهم لفريقًا
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، وهم اليهود، كانوا
يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل اللهُ.
7295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب"، قال:
فريقٌ من أهل الكتاب ="يلوون ألسنتهم"، وذلك تحريفهم إياه عن
موضعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الليّ"، الفَتْل والقلب. من قول
القائل:"لوَى
(6/536)
فلانٌ يدَ فلان"، إذا فَتلها وقَلبها، ومنه
قول الشاعر: (1)
لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ (2)
يقال منه:"لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا" ="وما لوى ظهر فلان
أحد"، إذا لم يصرعه أحدٌ، ولم يَفتل ظهره إنسان ="وإنه لألوَى
بعيدُ المستمر"، إذا كان شديد الخصومة، صابرًا عليها، لا يُغلب
فيها، قال الشاعر: (3)
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ ...
لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا (4)
* * *
__________
(1) هو فرعان بن الأعرف السعدي التميمي، ويقال: فرعان بن أصبح
بن الأعرف.
(2) كتاب العققة لأبي عبيدة (نوادر المخطوطات: 7) ص: 360،
الحماسة 3: 10، معجم الشعراء: 317، العيني بهامش الخزانة 2:
398، واللسان (لوى) وسيأتي بتمامه في التفسير 15: 160 (بولاق)
، وغيرها، أبيات يقولها فرعان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان
عق أباه وضربه، لأنه تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب لأمه، ثم
استاق مال أبيه واعتزل مع أمه، فقال فيه: جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني
وَبَيْنَ مُنَازِلٍ ... جَزَاءً، كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ
طالِبُهْ
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أنْ يَكُونَ منازلٌ ... عَدُوّي،
وَأَدْنَى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ
حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي، وفَدَّيْتُ صَاحِبي ... صَغِيرًا،
إلَى أَنْ أَمْكَنَ الطَّرَّ شَارِبُهْ
وَأَطْعَمْتُه، حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا ... يَكادُ
يُسَاوِي غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
تَخَوّنَ مالِي ظَالِمًا، وَلَوَى يَدِي! ... لَوَى يَدَه
اللهُ الَّذِي هُو غَالِبُهْ
من أبيات كثيرة، فيقال: إن منازلا، أصبح وقد لوى الله يده. ثم
ابتلاه الله بابن آخر عقه كما عق أباه، واستاق ماله، فقال فيه:
تَظَلَّمَنِي مَالِي خَليجٌ وعَقَّنِي ... عَلَى حِينَ كَانَتْ
كالحَنيِّ عظامي
في أبيات. وقد أتم البيت أبو جعفر في التفسير بعد، وصدره هناك:
"تظلمني مالي كذا، ولوى يدي". وهي إحدى الروايات فيه.
(3) هو مجنون بني عامر.
(4) ليس في ديوانه، وهو في الأغاني 2: 38، مع أبيات، واللسان
(شدا) ، (شذا) ، (لوى) ، وغيرها، وقبله: يَقُولُ أُنَاسٌ:
عَلَّ مَجْنُونَ عَامِرٍ ... يَرُومُ سُلُوًّا! قُلْتُ: إِنِّي
لِمَا بِيَا
وَقَدْ لاَمَنِي في حُبِّ لَيْلَى أَقَارِبِي ... أَخِي،
وَابْنُ عَمِّي، وَابنُ خَالِي، وَخَالِيَا
يَقُولُونَ: لَيْلَى أَهْلُ بَيْتِ عَدَاوة!! ... بِنَفْسِي
لَيْلَى من عَدُوٍّ ومَالِيَا
ورواية اللسان وغيره: "أعناق المطى"، ورواية صاحب
الأغاني"أعناق الخصوم" كما رواها أبو جعفر، ولكن من سوء صنيع
ناشري الأغاني أنهم خالفوا أصول الأغاني جميعًا، لرواية أخرى،
مع صحة الرواية التي طرحوها، وهي رواية أبي جعفر وأبي الفرج،
وقوله: "شدًا من خصومة"، ويروى"شذًا من خصومة". والشذا: حد كل
شيء. ومن معانيه أيضًا طرف من الشيء، أو بقية منه. و"الملاوي"
جمع"ملوى" مصدر ميمي من"لوى". يقول: لو خاصموني في ليلى خصومة
حديدة، لفتلت أعناقهم حتى أذهب بأرواحهم. وأما رواية"المطى"
مكان"الخصوم"، وهي رواية ابن الأعرابي، فكأنه يقول: لو علمت في
ليلى بعض ما يقولون من الخصومة والعداوة لأهلي وعشيرتي، لأعرضت
عنها إعراض من يأنف لعشيرته ويحمى لها غضبًا وحفيظة،
ولفارقتها.
(6/537)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ (79)
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر.
* * *
و"البشر" جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل:"القوم"
و"الخلق". وقد يكون اسمًا لواحد ="أن يؤتيه الله الكتاب" يقول:
أن ينزل الله عليه كتابه ="والحكم" يعني: ويعلمه فصْل الحكمة
="والنبوة"، يقول: ويعطيه النبوّة ="ثم يقول للناس كونوا
عبادًا لي من دون الله"، يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه
دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة.
ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله،
ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة
بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، بكونهم معلِّمي
الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"آتي" و"الحكم"، و"النبوة" فيما سلف من فهارس
اللغة مادة (أتى) (حكم) (نبأ) .
(6/538)
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهل
الكتاب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك؟
كما:-
7296 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق،
عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: قال أبو رافع القرظي = (1) حين اجتمعت الأحبار من اليهود
والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ودعاهم إلى الإسلام =: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد
النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له
الرِّبِّيس: (2) أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو
كما قال = فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن
نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني، ولا
بذلك أمرني = أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:
(3) "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة"،
الآية إلى قوله:"بعد إذ أنتم مسلمون".
7297- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد
بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع
القرظي، فذكر نحوه. (4)
7298 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم
يقول للناس كونوا
__________
(1) أبو رافع القرظي، هو سلام بن أبي الحقيق اليهودي.
(2) في المطبوعة: "الرئيس"، وفي المخطوطة: "الريس" غير منقوطة،
وهو في سيرة ابن هشام المطبوعة الأوربية والمصرية: "الربيس"
مثل"سكيت" (بكسر الراء وتشديد الباء المكسورة) . وربيس
السامرة: هو كبيرهم. وفي التعليقات على سيرة ابن هشام. الطبعة
الأوروبية"الريس، والرئيس" معًا، وكأن الصواب هو ما جاء في نص
ابن هشام الأول.
(3) في سيرة ابن هشام: "من قولهما"، وهي أجود، ولعل هذه من قلم
الناسخ.
(4) الأثران: 7296، 7297- سيرة ابن هشام 2: 202، 203، وهما من
تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7223، وفي الطبري اختلاف في قليل
من اللفظ.
(6/539)
عبادًا لي من دون الله"، يقول: ما كان
ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوةَ، يأمر عبادَه
أن يتخذوه ربًّا من دون الله.
7299 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7300 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم،
بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه، فقال الله عز وجل:"ما كان لبشر
أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا
عبادًا لي من دون الله"، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في
كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"ولكن" يقول لهم:"كونوا
ربانيين"، فترك"القول"، استغناء بدلالة الكلام عليه.
* * *
وأما قوله:"كونوا ربانيين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في
تأويله.
فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء.
ذكر من قال ذلك:
7301 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء
علماء.
7302 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء.
(6/540)
7303 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن
عمرو، عن منصور، عن أبي رزين مثله.
7304 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي
رزين:"ولكن كونوا ربانيين"، حكماء علماء.
7305 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن
الحسن في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
7306 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كونوا ربانيين"،
قال: فقهاء.
7307 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7308 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال أخبرني القاسم، عن مجاهد قوله:"ولكن كونوا
ربانيين"، قال: فقهاء.
7309 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
7310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله:"كونوا
ربانيين"، قال: علماء حكماء = قال معمر: قال قتادة.
7311 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"كونوا ربانيين"،
أما"الربانيون"، فالحكماء الفقهاء.
7312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا سفيان، عن
(6/541)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الربانيون"،
الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار.
7313 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكن كونوا ربانيين"،
يقول: كونوا حكماء فقهاء.
7314 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة
الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله: (الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: 63] ، قال: الفقهاء العلماء.
7315 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن
الضحاك، عن ابن عباس مثله.
7316 - حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا الحسين بن الحسن
الأشقر قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا حكماء
فقهاء.
7317 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"كونوا
ربانيين"، يقول: كونوا فقهاء علماء.
* * *
وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء.
ذكر من قال ذلك:
7318 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض،
عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قوله:"كونوا ربانيين"،
قال: حكماء أتقياء.
* * *
(6/542)
وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم.
ذكر من قال ذلك:
7319 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال،
سمعت ابن زيد يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: الربانيون:
الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم.
وقرأ: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ)
[سورة المائدة: 63] ، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار
العلماء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم
جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ
الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها، ومنه
قول علقمة بن عبدة:
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي ... وَقَبْلَكَ
رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ (1)
يعني بقوله:"ربتني": ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه
ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه".
(2) فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل:"هو ربّان"، كما
يقال:"هو نعسان" من قولهم:"نعَس يَنعُس". وأكثر ما يجيء من
الأسماء على"فَعْلان" ما كان من الأفعال ماضيه على"فَعِل" مثل
قولهم:"هو سكران، وعطشان، وريان" من"سَكِر يسكَر، وعطِش يعطَش،
ورَوي يرْوَى". وقد يجيء مما كان ماضيه على"فَعَل يَفعُل"، نحو
ما قلنا من"نَعَس يَنعُس" و"ربَّ يَرُبّ".
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وكان"الربَّان" ما
ذكرنا،
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه في 1: 142.
(2) انظر تفسير"رب" فيما سلف 1: 141، 142.
(6/543)
و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة
التي وصفتُ = وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ
أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه
مصلحتهم = وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي
أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين
أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم،
وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقون
أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل:"ولكن كونوا ربانيين".
(1)
ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور
الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"،
لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم
والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما
يصلحهم في دُنياهم ودينهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين: (بِمَا كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) بفتح"التاء" وتخفيف"اللام"، يعني: بعلمكم الكتابَ
ودراستكم إياه وقراءتكم.
__________
(1) في المطبوعة: "كانوا جميعًا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله
... "، وهي عبارة سقيمة غير المخطوطة كما شاء. وفي المخطوطة:
"كانوا جميعًا مستحقون أن ممن دخل في قوله ... "، وظاهر أن
الناسخ جعل"يستحقون"، "مستحقون"، وهو خطأ في الإعراب، وسقط من
عجلته قوله: "يكونوا"، فزدتها بين القوسين، فاستقام الكلام.
(2) هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود
ما قرأت في معنى"الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني
العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة
ترفعه درجات عند ربه.
(6/544)
واعتلُّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن
الصواب = كذلك، لو كان التشديد في"اللام" وضم"التاء" = لكان
الصواب في:"تدرسون"، بضم"التاء" وتشديد"الراء". (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ) بضم"التاء" من"تعلمون"، وتشديد"اللام"، بمعنى:
بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه.
واعتلوا لاختيارهم ذلك، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم، فقد وصفهم
بالعلم، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا:
ولا موصوف بأنه"يعلم"، إلا وهو موصوف بأنه"عالم". قالوا: فأما
الموصوف بأنه"عالم"، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا:
فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم
بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ، كما:-
7320 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم،
عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قرأ:"بما كنتم
تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون"، مخففةً بنصب"التاء" =
وقال ابن عيينة: ما علَّموه حتى علِموه!
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأه
بضم"التاء" وتشديد"اللام". لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم
أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم
وتربية.
يقول جل ثناؤه:"ولكن كونوا ربانيين"، على ما بينا قبل من
معنى"الرباني"،
__________
(1) في المطبوعة: "بأن الصواب لو كان التشديد في اللام ... "،
حذف من المخطوطة"كذلك"بعد" بأن الصواب"، وظاهر أن موضع الخطأ
هو سقوط"الواو" قبل قوله: "لو كان التشديد". فأثبتها، واستقام
الكلام.
(6/545)
ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل
إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتابَ ربِّهم.
* * *
= و"دراستهم" إياه: تلاوته. (1)
* * *
وقد قيل:"دراستهم"، الفقه.
* * *
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا: من تلاوة الكتاب، لأنه عطف
على قوله:"تعلمون الكتاب"،"والكتاب" هو القرآن، فلأنْ تكون
الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن، أولى من أن تكون معنيًّا
بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ.
ذكر من قال ذلك: (2)
7321 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال يحيى بن آدم
قال، أبو زكريا: كان عاصم يقرأها: (بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) ، قال: القرآن = (وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ) ، قال: الفقه.
* * *
فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا، أيها الناس، سادة الناس،
وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم
كتاب الله وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من
معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ودراستهم إياه وتلاوته"، بزيادة
الواو قبل"تلاوته" والسياق بين في أنه يفسر معنى"الدراسة"،
وأنهما تأويلان، كما سيأتي، فحذفت الواو، وفصلت بين الكلامين.
(2) أنا أرتاب في سياق هذا الموضع من التفسير، وأخشى أن يكون
سقط من النساخ شيء.
(6/546)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80)
القول في تأويل قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا يأمركم".
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة: (وَلا يَأْمُرُكُمْ) ، على
وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لا يأمركم، أيها الناس، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان
يقرؤها، وهي: (" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ ") ، فاستدلوا بدخول"لن"،
على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما
صير مكان"لن" في قراءتنا"لا"، وجبت قراءَته بالرفع. (1)
* * *
وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: (وَلا يَأْمُرَكُمْ) ،
بنصب"الراء"، عطفًا على قوله:"ثم يقولَ للناس". وكان تأويله
عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقولَ للناس، ولا
أن يأمرَكم = بمعنى: ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة
والنبيين أربابًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك:"ولا يأمرَكم"،
بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأويل: (2) ما كان لبشر أن
يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم يقولَ للناس كونوا
عبادًا لي من دون الله = ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة
والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا
لرسول
__________
(1) هذا وجه ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 224، 225.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بتأول"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(6/547)
الله صلى الله عليه وسلم: (1) "أتريد أن
نعبدك"؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه
وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة
والنبيين أربابًا. ولكن الذي له: أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا
ربانيين.
* * *
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا، (2) أنه في قراءة عبد
الله:"ولن يأمركم" استشهادًا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر
غيرُ صحيح سَنَده، وإنما هو خبر رواه حجاج، عن هارون الأعور
(3) أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا
سنده، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة
من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله
عليه وسلم، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض
الصحابة، (4) بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في سب القوم.."، وهو باطل المعنى، ولم يحسن
قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، يعني بقوله: "في سب القوم
... "، من جراء القوم وبسبب قولهم ما قالوا.
(2) يعني الفراء كما أسلفنا في التعليق رقم: 1، ص: 547.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . عن هارون لا يجوز أن ذلك
... "، وهو كلام بلا معنى، جعل الناشرين الأولين للتفسير
يكتبون في وجوه تأويلها وتصويبها خلطًا لا معنى له أيضًا،
والصواب ما أثبت. وهذا من التصحيف الغريب في نسخ النساخ.
وحجاج، هو: "حجاج بن محمد المصيصي الأعور" سكن بغداد، ثم تحول
إلى المصيصة قال أحمد: "ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف" ورفع
أمره جدًا. كان ثقة صدوقًا، ثم تحول من المصيصة فعاد إلى بغداد
في حاجة له، فمات بها سنة 206، وعند مرجعه هذا إلى بغداد كان
قد تغير وخلط، فرآه يحيى بن معين، فقال لابنه: "لا تدخل عليه
أحدًا"، ولكن روى الحافظ في ترجمة سنيد ابن داود ما يدل على أن
حجاجًا قد حدث في حال اختلاطه، حتى ذكره أبو العرب القيرواني
في الضعفاء، لسبب الاختلاط. وأخشى أن يكون الطبري، إنما أشار
إلى هذا، وإلى رواية سنيد عنه في حال اختلاطه، فقال إن إسناده
غير صحيح، لأنه من رواية سنيد عنه.
وأما "هارون الأعور" فهو: "هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور
العتكي" علامة صدوق نبيل، له قراءة معروفة. وهو من الثقات.
وكلاهما مترجم في التهذيب، وفي الطبقات القراء لابن الجزري.
(4) في المطبوعة: "لتأويل نحو قراءة ... "، وهي عبارة مريضة،
وسبب ذلك أنه لم يحسن قراءة"على" لسوء حظ الناسخ، فكتبها"نحو"،
فمرضت العبارة.
(6/548)
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وما كان
للنبي أن يأمركم، أيها الناس، (1) "أن يتخذوا الملائكة
والنبيين أربابًا" = يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله =، كما
ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله.
* * *
ثم قال جل ثناؤه = نافيًا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم أن
يأمرَ عباده بذلك =:"أيأمُركم بالكفر"، أيها الناس، نبيُّكم،
بجحود وحدانية الله ="بعد إذ أنتم مسلمون"، يعني: بعد إذ أنتم
له منقادون بالطاعة، متذللون له بالعبودة = (2) أي أن ذلك غير
كائن منه أبدًا. وقد:-
7322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال:"ولا يأمركم" النبيُّ صلى الله عليه وسلم ="أن
تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا".
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا ...
"، وهي عبارة مستقيمة المعنى، أما المخطوطة فقد كانت فيها
عجيبة من عجائب التصحيف - وقد كثر تصحيف الناسخ في هذا الموضع
كما ترى وذلك أنه كتب: "وما كان للنبي أن يأمر كما نهى الناس"،
وصل ألف"أيها" بالميم في"يأمركم"، ثم قرأ"يها" من"أيها"،
"نهى"، وكتبها كذلك. وكأن الناسخ كان قد تعب وكل، فكل مع كلالة
ذهنه. وجاء الناشر، فلم يجد لذلك معنى فحذفه. كل هو أيضًا من
كثرة تصحيف الناسخ!!
(2) في المطبوعة: "بالعبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يدع
الناشر كلمة"العبودة" إلا جعلها"العبودية" في كل ما سلف. انظر
آخر تعليق على ذلك ص: 404، تعليق: 2.
(6/549)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ
أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين
="وميثاقهم"، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم
ونهاهم.
* * *
وقد بينا أصل"الميثاق" باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه
الكفاية. (1)
* * *
=:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، (2) فاختلفت القرأة في قراءة
ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق (لَمَا آتَيْتُكُمْ)
بفتح"اللام" من"لما"، إلا أنهم اختلفوا في قراءة:"آتيتكم".
فقرأه بعضهم:"آتيتكم" على التوحيد.
وقرأه آخرون: (آتينَاكم) على الجمع.
* * *
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" التي مع"ما" في أول الكلام"لام
الابتداء"، نحو قول القائل:"لزيدٌ أفضل منك"، لأن"ما" اسم،
والذي بعدها صلة لها، (3) "واللام" التي في:"لتؤمنن به
ولتنصرنه"، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به = يؤكد في
أول الكلام وفي آخره، كما يقال:"أما والله أن لو جئتني
__________
(1) انظر ما سلف 1: 414 / 2: 156، 157، 288.
(2) في المطبوعة: "اختلفت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "لأن لما اسم ... "، وهو جيدًا أيضًا وتركت
ما في المطبوعة على حاله.
(6/550)
لكان كذا وكذا"، وقد يستغنى عنها. فوكَّد
في:"لتؤمنن به"، باللام في آخر الكلام. (1) وقد يستغنى عنها،
ويجعل خبر"ما آتيتكم من كتاب وحكمة""لتؤمنن به". مثل:"لعبد
الله والله لتأتينَّه". (2) قال: وإن شئت جعلت خبر"ما""من
كتاب"، يريد: لما آتيتكم، كتابٌ وحكمة = وتكون"من" زائدة.
* * *
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال:"اللام" التي تدخل في
أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال:"لَمَن قام
لآتينّه"،"ولَمَن قام ما أحسن"، (3) فإذا وقع في جوابها"ما"
و"لا"، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها"ما"
و"لا"، فتكون كالأولى، (4) وهي جواب للأولى. قال: وأما
قوله:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، بمعنى إسقاط"من"، غلطٌ.
لأن"منْ" التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع
في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة
من قرأ ذلك بفتح"اللام" - بالصواب: أن يكون قوله:"لما"
بمعنى"لمهما"، وأن تكون"ما" حرف جزاء أدخلت عليها"اللام"،
وصيِّر الفعل معها على"فَعَل"، (6) ثم
__________
(1) في المطبوعة: "فيؤكد في لتومنن به"، والصواب ما في
المخطوطة. و"وكد" و"أكد" واحد.
(2) في المطبوعة: "لا يأتينه"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب
بما ولا لا"، فلا يقال: لمن قام لا تتبعه، ولا: لمن قام ما
أحسن"، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام
اضطرابًا شديدًا، واختلفت معانيه.
(4) يعني"ما" و"لا" التي يتلقى بها القسم.
(5) انظر ذلك فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470.
(6) قوله: "على فعل"، يعني على الفعل الماضي، لا المضارع.
(6/551)
أجيبت بما تجاب به الأيمان، فصارت"اللام"
الأولى يمينًا، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِمَا آتَيْتكُمْ) "بكسر"اللام" من"لما"،
وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
* * *
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين
للذي آتيتكم = فـ"ما" على هذه القراءة. بمعنى"الذي" عندهم.
وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي
آتاهم من كتاب وحكمة = ثم"جاءكم رسول"، يعني: ثم إنْ جاءكم
رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة ="لتؤمنن به"، أي: ليكونن
إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر"اللام" من"لما": وإذْ
أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل
قوله:"لتؤمنن به" من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في
الكلام:"أخذتُ ميثاقك لتفعلن". لأن أخذ الميثاق بمنزلة
الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف
الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق
لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من
قرأ:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بفتح"اللام".
لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له
ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو
ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله
عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله.
فإذْ كان ذلك
(6/552)
كذلك، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه
الكتابَ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب = كان بينًا أن
قراءة من قرأ ذلك:"لمِا آتيتكم"، بكسر"اللام"، بمعنى: من أجل
الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد،
وانتزاع عميق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من
رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون
أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله:"لتؤمنن به
ولتنصرنه". قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من
الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما
الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى
المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا
تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها
وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه
بنصرته؟
ذكر من قال ذلك:
7323 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين
لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في
قراءة ابن مسعود:"وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب".
(1)
__________
(1) بمثل هذا الأثر، يستدل من يستدل من جهله المستشرقين
وأشياعهم، على الخطأ والتحريف في كتاب الله المحفوظ. وهم لم
يكونوا أول من قال به، بل سبقهم إليه أسلافهم من غلاة الرافضة
وأشباههم من الملحدة. ولم يقصر علماء أهل الإسلام في بيان ما
قالوه، وفي تعقب آرائهم وبيان فسادها، ووهن حجتها. ومن أعظم ما
قرأت في ذلك، كتاب"الانتصار لنقل القرآن"، للقاضي الباقلاني،
وهو كتاب مخطوط لا يزال، وهي في ملك أخي السيد أحمد صقر، وهو
أمين على نشره. وقد عقد القاضي بابًا، بل أبوابًا، في تعلق
القائلين بذلك، بالشواذ من القراءات، والزيادات المروية عن
السلف رواية الآحاد، وكشف عن فساد تعلقهم بذلك فيما راموه من
الطعن في نقل المصحف. وقد أطال في ذلك واستوعب، وذكرها مفصلة،
وذكر الروايات التي رويت في ذلك. ومما قال في باب منه: "وأما
نحن، وإن كنا نوثق جميع من ذكرنا من السلف وأتباعهم، فإنا لا
نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم، بل نعتقد أن فيه كذبًا كثيرًا
قد قامت الدلالة على أنه موضوع عليهم، وأن فيه ما يمكن أن يكون
حقًا عنهم، وما يمكن أن يكون باطلا، ولا يثبت عليهم من طريق
العلم البتات، بأخبار الآحاد. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه
القراءات والكلمات المروية عن جماعة منهم، المخالفة لما في
مصحفنا، مما لا نعلم صحتها وثبوتها، وكنا مع ذلك نعلم اجتماعهم
على تسليم مصحف عثمان، وقراءتهم وإقراءهم ما فيه، والعمل به
دون غيره = لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الروايات عنهم، لأجل ما
ذكرنا".
قلت: والقول الذي ذكره مجاهد، أنه: "خطأ من الكاتب"، إنما عنى
به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة
الأخيرة، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة
الأخيرة، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة،
فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله: "خطأ من الكاتب"،
أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف؟ والقرآن متلقى بالرواية
والوراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بما هو مكتوب في
الصحف!! هذا بيان قد تعجلته، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن
فيه.
(6/553)
7324 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7325 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين"، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك
كان يقرؤها الربيع:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"،
إنما هي أهل الكتاب. (1) قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب.
قال الربيع: ألا ترى أنه يقول:"ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم
ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "إنما هي أهل الكتاب"، ولها وجه
ضعيف، والصواب ما أثبت.
(6/554)
7326 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا
حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
7327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله
ميثاق النبيين"، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
7328 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما
معكم" الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن
وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
7329 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، (1) عن أبي روق، عن أبي أيوب،
عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن
بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن
به ولينصرَنّه = ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال:"وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية.
7330 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب"، الآية:
هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن
يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله
ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن
يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
__________
(1) في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، والصواب ما أثبت من المخطوطة:
"سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري
الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة،
وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى
الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم
بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية
ساقط".
(6/555)
7331 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله
ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية. قال: لم يبعث
الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ
بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن
يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء.
7332 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد
المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت
الحسن عن قوله:"وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من
كتاب وحكمة"، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين:
ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم = فاجتزأ
بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على
المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ
الأنبياء. (1)
ذكر من قال ذلك:
7333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن
محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى
أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد صلى الله عليه
وسلم - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال:"وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة" إلى آخر الآية.
(2)
7334 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت
قال، حدثني سعيد
__________
(1) في المطبوعة: "هم تباع الأنبياء"، زاد"هم" بلا ضرورة.
والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثران: 7333، 7334- سيرة ابن هشام 2: 203، وهما تتمة
الآثار التي آخرها رقم: 7296، 7297.
(6/556)
بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال:
معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق
بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ
بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما
جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها.
ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة
بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها =
وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته = مقرّةٌ
بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق
مقرٌّ به جميعهم.
* * *
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون
الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين،
فسواءٌ قال قائل:"لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال:"لم يأمرها
ببلاغ ما أرسلت"، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه،
لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها،
والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في
الآخر.
* * *
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ
الكتاب من قوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، فإن ذلك غير شاهد على
صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ
بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
* * *
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه".
فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن
يصدّق
(6/557)
بعضهم بعضًا وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية
بذلك عمن قاله. (1)
* * *
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه
وسلم إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد
ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. (2)
* * *
وقال آخرون = ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في
هذه الآية هم الأنبياء = قوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"،
معنيٌّ به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
7335 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال أخذَ الله
ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال:"ثم جاءكم رسولٌ
مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، قال: فهذه الآية لأهل
الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
7336 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي
جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم:
أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى
عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم،
وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم
-: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه
الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ
ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها
__________
(1) انظر ما سلف من رقم: 7326-7332.
(2) انظر ما سلف من رقم: 7323-7325.
(6/558)
إليه، (1) والإقرار به. لأن ابتداء الآية
خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي
أخذ به ميثاقهم فقال: هو كذا وهو كذا.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من
ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو
عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من
تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ
أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من
كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به =
يقول: لتصدقنه = ولتنصرنه.
* * *
وقد قال السديّ في ذلك بما:-
7337 - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قوله:"لما آتيتكم"، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ
النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر في الكتاب
عندكم.
* * *
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل
الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود،
من كتاب وحكمة. (2)
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، (3) لو كان
التنزيل:"بما آتيتكم"، ولكن التنزيل باللام"لما آتيتكم". وغير
جائز في لغة أحد من العرب أن يقال:"أخذ الله ميثاق النبيين لما
آتيتكم"، بمعنى: بما آتيتكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "دعاء أممهم"، وفي المخطوطة"أممها" كما
أثبته، والمخالفة بين الضمائر في هذا الموضع سياق صحيح،
فرددتها إلى أصل المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لما آتيتكم" باللام، والسياق دال
على خلافه، وعلى صواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "كان تأويلا لا وجه غيره"، وهو تصويب لما جاء
في المخطوطة: "كان تأويلا لا وجه له"، وهي عبارة لا تستقيم.
ورأيت أن الناسخ عجل فكتب"لا وجه له" مكان"له وجه"، فرددتها
إلى هذا، وخالفت المطبوعة.
(6/559)
القول في تأويل قوله: {قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا
أَقْرَرْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين
بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي
واثقتموني عليه: (1) من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق
لما معكم ="لتؤمنن به ولتنصرنه" ="وأخذتم على ذلك إصري"؟ يقول:
وأخذتم = على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم
بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم ="إصري". يعني عهدي
ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
* * *
و"الأخذ": هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم:"أخذ
الوالي عليه البيعة"، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإصر" باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول
في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وحذفت"الفاء" من قوله:"قال أأقررتم"، لأنه ابتداء كلام، على
نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أقررتم ... " بحذف ألف الاستفهام،
وهو فساد.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 6: 135-138.
(3) انظر ما سلف 2: 183.
(6/560)
وأما قوله:"قالوا أقررنا"، فإنه يعني به:
قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية:
أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين
لما معنا من كتبك، وبنصرتهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها
النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي
تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم
وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا
معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:-
7338 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، (1) عن أبي روق، عن أبي
أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله:"قال فاشهدوا"، يقول:
فاشهدوا على أممكم بذلك ="وأنا معكم من الشاهدين"، عليكم
وعليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا"سيف بن عمرو"، مخالفًا لما في
المخطوطة وهو الصواب. وقد سلف تصويب ذلك في الأثر رقم: 7329.
وسيأتي خطأ فيما يلي، في مواضع كثيرة، سوف أصححه دون إشارة
إليه.
(6/561)
فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرَض عن الإيمان برسلي
الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن
نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهدَه وميثاقه
="بعد ذلك"، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه
="فأولئك هم الفاسقون"، يعني بذلك: أن المتولين عن الإيمان
بالرسل الذين وصف أمرَهم، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين
أخذَا عليهم بذلك ="هم الفاسقون"، يعني بذلك: الخارجون من دين
الله وطاعة ربهم، (1)
كما:-
7339 - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي
بن أبي طالب: فمن تولى عنك، يا محمد، بعد هذا العهد من جميع
الأمم ="فأولئك هم الفاسقون"، هم العاصون في الكفر.
7340 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه = قال أبو جعفر: يعني الرازي = (2) "فمن تولى
بعد ذلك" يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم ="فأولئك
هم الفاسقون".
__________
(1) انظر تفسير"تولى" و"الفاسقون" فيما سلف من فهارس اللغة
(ولى) و (فسق) .
(2) قوله: "قال أبو جعفر" فيما بين الخطين، هو أبو جعفر الطبري
صاحب هذا التفسير. وقوله"يعني الرازي"، يعني"أبا جعفر الرازي"
الذي قال في الإسناد"حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه". وبيان
الطبري في هذا الموضع عن"أبي جعفر الرازي" بعد أن مضى مئات من
المرات في هذا الإسناد وغيره من الأسانيد، دليل على أن أبا
جعفر الطبري، قد كتب تفسيره هذا على فترات متباعدة = أو لعل
أحدًا سأله وهو يملي تفسيره، فبين له، وأثبته الذين سمعوه منه
كما قاله في مجلسه ذاك. وقد مضى"ذكر أبي جعفر الرازي" في
التعليق على الأثر رقم: 164.
(6/562)
أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
7341 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، [عن أبيه] ، عن الربيع مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهاتان الآيتان، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من
الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ
ميثاقه به، عن أنبيائه ورسله، (2) فإنه مقصودٌ به إخبارُ من
كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني
إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم، عَمَّا لله عليهم من
العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم = (3) ومعنيٌّ
[به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من
المواثيق والعهود، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت
إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه =
وتعريفهم ما في كتب الله، التي أنزلها إلى أنبيائه التي
ابتعثها إليهم، من صفته وعلامته.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: ("
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ ") ، (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) على وجه الخطاب.
* * *
__________
(1) الأثر: 7341- هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 7234،
أسقط منه الناسخ"عن أبيه"، فوضعتها بين القوسين في مكانها.
(2) السياق: وإن كان مخرج الخبر ... عن أنبيائه ورسله، فإن
مقصود به ...
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى تذكيرهم ... "، والصواب
الراجح زيادة ما زدت بين القوسين. وسياق هذه الجملة وما بعدها:
فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله ... ومعنى
به تذكيرهم ... وتعريفهم ما في كتب الله ... من صفته وعلامته".
فصلتها لتسهل قراءتها وتتبعها.
(6/563)
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز (أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ) (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) بالياء كلتيهما،
على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ
يَبْغُونَ) ، على وجه الخبر عن الغائب، (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) ، بالتاء على وجه المخاطبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ:"أفغير دين
الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية
التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف
الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد
ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا
على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا
بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله:"تبغون" و"إليه
ترجعون" في هذه الآية، من ذلك. (1)
* * *
وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب ="أفغيرَ دين الله تبغون"،
يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، (2) ="وله أسلم من في
السماوات والأرض"، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع
له بالعبودة، (3) وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص
التوحيد والألوهية (4) ="طوْعًا وكرهًا"، يقول أسلم لله طائعًا
من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء
والمرسلين،
__________
(1) انظر ما سلف: 464 والتعليق رقم: 2، والمراجع هناك. وانظر
فهرس مباحث العربية.
(2) انظر تفسير"الدين" فيما سلف 1: 115، 221 / 3: 571 / ثم 6:
273، 274 = ثم معنى"يبغي" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / ثم 6:
196، تعليق: 3.
(3) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، كما سلف
مرارًا. انظر قريبًا: ص: 549 تعلق 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"أسلم" فيما سلف ص: 489، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(6/564)
فإنهم أسلموا لله طائعين ="وكرهًا"، من كان
منهم كارهًا. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته.
فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك
معه في العبادة غيرَه.
ذكر من قال ذلك:
7342 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور،
عن مجاهد:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: هو كقوله:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزمر: 38] .
7343 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
7344 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:" وله أسلم
من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون "، قال: كل
آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ
في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، (2)
فهو الذي أسلم طوعًا.
* * *
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق
فأقرَّ به.
ذكر من قال ذلك:
7345 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،
عن مجاهد، عن ابن عباس:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا
وكرهًا"، قال: حين أخذَ الميثاق.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكره" فيما سلف 4: 297، 298.
(2) في المطبوعة: "العبودية"، وانظر التعليق السالف رقم ص:
564، رقم: 3.
(6/565)
وقال آخرون؛ عنى بإسلام الكاره منهم،
سُجودَ ظله.
ذكر من قال ذلك:
7346 - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في
السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: الطائع المؤمن = و"كرهًا"،
ظلّ الكافر.
7347 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"طوعًا وكرهًا"، قال:
سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره.
7348 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كَرْهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا،
وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
7349 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه
طائعًا، وظله كارهًا. (1)
* * *
وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره
وإن أنكر ألوهته بلسانه.
ذكر من قال ذلك:
7350 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر،
عن عامر:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: استقاد كلهم
له. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "سجود وجهه وظله طائعًا"، وهو لا
يستقيم، واستظهرت من أخبار مجاهد السالفة، أن هذا هو حق
المعنى، وأنه أولى بالصواب.
(2) الأثر: 7350-"جابر" هو: "جابر بن يزيد الجعفي". روى عن أبي
الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري
وإسرائيل وجماعة. و"عامر"، هو الشعبي. وكان في المخطوطة
والمطبوعة: "جابر بن عامر"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم.
(6/566)
وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من
الناس كرْهًا، حَذَر السيف على نفسه.
ذكر من قال ذلك:
7351 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وله أسلم من في
السموات والأرض طوعًا وكرهًا" الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ
على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين.
7352 - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء،
عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات
والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون"، قال: الملائكة طوعًا،
والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم
كرهًا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ
الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا.
ذكر من قال ذلك:
7353 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"أفغير دين الله تبغون"، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا
فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه
ذلك، ولا يقبل منه.
7354 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض
طوعًا وكرهًا"، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر
فأسلم حين رأى بأسَ الله، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [سورة غافر: 85] .
* * *
(6/567)
وقال آخرون: معنى ذلك: أيْ: عبادةُ الخلق
لله عز وجل. (1)
ذكر من قال ذلك:
7355 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أفغير دين الله تبغون وله
أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: عبادتهم لي
أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [سورة الرعد: 15]
.
* * *
وأما قوله:"وإليه تُرجعون"، فإنه يعني:"وإليه"، يا معشر من
يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس
="ترجعون"، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم،
المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته.
* * *
وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم
فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في عبادة الخلق"، وفي المخطوطة"أن عبادة
الخلق"، وصوابه قراءتها ما أثبت.
(6/568)
قُلْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
القول في تأويل قوله: {قُلْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (84) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أفغير دين الله تبغون"، يا
معشر اليهود،"وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا
وإليه ترجعون" = فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل
لهم:"آمنا بالله"، فترك ذكر قوله:"فإن قالوا: نعم"، أو ذكر
قوله: (1) "فإن ابتغوا غير دين الله"، لدلالة ما ظهر من الكلام
عليه.
وقوله:"قل آمنا بالله"، يعني به: قل لهم، يا محمد،: صدقنا
بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه
="وما أنزل علينا"، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنزل علينا
من وَحيه وتنزيله، فأقررنا به ="وما أنزل على إبراهيم"، يقول:
وصدقنا أيضًا بما أنزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه
إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب = وبما أنزل على"الأسباط"،
وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (2) ="وما أوتي موسى وعيسى"، يقول:
وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب
والوَحْي، وبما أنزل على النبيين من عنده.
والذي آتى الله موسى وعيسى = مما أمرَ الله عز وجل محمدًا
بتصديقهما فيه، والإيمان به = التوراة التي آتاها موسى،
والإنجيل الذي أتاه عيسى.
="لا نفرق بين أحد منهم"، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم،
__________
(1) في المطبوعة: "وذكر قوله"، جعل الواو مكان "أو"، والصواب
ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 120، 121 / 3: 111-113.
(6/569)
وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت
اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا، ولكنا نؤمن
بجميعهم، ونصدّقهم ="ونحن له مسلمون". يعني: ونحن ندين لله
بالإسلام لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل
ملة غيره.
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون". ونحن له منقادون بالطاعة،
متذللون بالعبودة، (1) مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا
إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى،
وكرهنا إعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين
الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه (3) ="وهو في الآخرة من
الخاسرين"، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز
وجل. (4)
* * *
وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نزلت هذه
الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة
الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.
__________
(1) في المطبوعة: "بالعبودية" كما فعل في سابقتها، وأثبت ما في
المخطوطة، وانظر ما سلف قريبًا ص: 565، تعليق: 2.
(2) يعني ما سلف 3: 109-111، وهي نظيرة هذه الآية، وانظر فهارس
اللغة"سلم".
(3) انظر معنى"يبتغي" فيما سلف ص: 564، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير"الخاسرين" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572.
(6/570)
ذكر الخبر بذلك:
7356 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا"،
فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنزل الله عز وجل: (وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 97] ، فحجَّ المسلمون، وقعدَ
الكفار.
7357 - حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن
ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن
يقبل منه"، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل
لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: (لِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) .
(1)
7358 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن
عكرمة قال: لما نزلت:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا" إلى آخر
الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى
الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ) من
أهل الملل (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) .
* * *
وقال آخرون: في هذه الآية بما:-
7359 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني
__________
(1) الأثر: 7357-"القعنبي"، هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب
القعنبي الحارثي"، روى عنه الأئمة. قال ابن سعد: "كان عابدًا
فاضلا، قرأ عن مالك كتبه". وقال العجلي: "قرأ عليه مالك نصف
الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي"، وسئل ابن المديني عنه
فقال: "لا أقدم من رواة الموطأ أحدًا على القعنبي".
(6/571)
كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ
فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
إلى قوله: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة: 62] ، فأنزل
الله عز وجل بعد هذا:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل
منه".
* * *
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ
حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (89) }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت.
فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا
فارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم
فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل
لي من توبة؟ قال: فنزلت:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد
إيمانهم" إلى قوله:"وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم
(6/572)
الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك
وأصلحوا فإن الله غفور رحيم"، فأرسل إليه قومه فأسلم.
7361 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس = إلا أنه قال:
فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع.
7362 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن
مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد
رجل من الأنصار، فذكر نحوه. (1)
7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال:
جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم
كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن:"كيف
يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم" إلى"إلا الذين تابوا من
بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ"، قال: فحملها إليه رجل
من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ
لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك، وإنّ
الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن
إسلامه.
7364 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن السدي:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ
الرسول حق"، قال: أنزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد
إيمانه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى:"أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون"،
__________
(1) الأثر: 7362-"حكيم بن جميع الكوفي"، مترجم في الكبير 2 / 1
/ 18، والجرح 1 / 2 / 202.
(6/573)
ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، فقال:"إلا
الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ".
7365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كيف يهدي الله
قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم
البينات"، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه.
7366 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7367 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد
إيمانه = قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد
قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه:"أرسلوا، هل لي
من توبة؟ " قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع = قال ابن جريج، قال
عكرمة، نزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت،
ووَحْوَح بن الأسلت = في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام
ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت:"إلا
الذي تابوا من بعد ذلك"، الآيات.
* * *
وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نزلت.
ذكر من قال ذلك:
7368 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كيف يهدي الله قومًا
كفرُوا بعد إيمانهم"، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا صلى الله
عليه وسلم ثم كفروا به.
(6/574)
7369 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو
بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"كيف
يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية كلها، قال: اليهود
والنصارى.
7370 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: كان الحسن يقول في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد
إيمانهم" الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ
محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه
حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه،
وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم.
7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد
إيمانهم"، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا صلى الله
عليه وسلم في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ
أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ
الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن.
(1) وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم
الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة
من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله
عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون
داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل
أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم
على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن
__________
(1) هذا حكم جيد فاصل في هذه الآية، وفي غيرها مما اختلف في
معانيه المختلفون.
(6/575)
إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين
الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء
الله.
* * *
فتأويل الآية إذًا:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"،
يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا
نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ="بعد إيمانهم"، أي: بعد
تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه ="وَشهدوا أن
الرسول حقّ"، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا ="وجاءهم البينات"، يعني:
وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ ="والله لا يهدي
القوم الظالمين"، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة
الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر
على الإيمان.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى"الظلم"، وأنه وضعُ الشيء في
غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
="أولئك جزاؤهم"، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد
أن شهدوا أن الرسول حَقّ -"جزاؤهم"، ثوابهم من عملهم الذي
عملوه (2) ="أنّ عليهم لعنة الله"، يعني: أن يحلّ بهم من الله
الإقصاء والبعد، (3) ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم
من العقاب (4) ="أجمعين"، يعني: من جميعهم، لا من
__________
(1) انظر ما سلف 1: 523، 524 / ثم باقي المواضع في فهرس
اللغة"ظلم"، وانظر أيضًا فهارس اللغة في سائر ألفاظ الآية.
(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314، وغيره في
فهارس اللغة"جزى".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "أن حل بهم"، فعل ماض، والسياق
يقتضي المضارع.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن الملائكة والناس إلا مما
يسوءهم ... "، وهو كلام غير مستقيم، وهو تصحيف لما كتبت، كان
في الأصل"الدعاما يسوءهم" بغير همزة"الدعاء"، وبغير نقط"بما"،
فاشتبهت الحروف على الناسخ، فحرفها إلى ما ترى.
(6/576)
بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة
والناس، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم،
لأن عملهم كان بالله كفرًا.
* * *
وقد بينا صفة"لعنة الناس" الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى
عن إعادته. (1)
* * *
="خالدين فيها" يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله (2)
="لا يخفَّف عنهم العذاب"، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال
من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه (3) ="ولا هم ينظرون"، يعني: ولا
هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. (4) وذلك كله عَينُ الخلود في
العقوبة في الآخرة. (5)
ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد
إيمانهم فقال تعالى ذكره:"إلا الذين تَابوا من بعد ذلك
وأصلحوا"، يعني: إلا الذين تابوا
__________
(1) انظر ما سلف 2: 328، 329 / ثم 3: 254-258، 261-263، وفيها
نظير ما في هذه الآية.
(2) انظر تفسير"خالدين" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 287 / 4:
317، وفهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"يخفف" فيما سلف 2: 316، 317، والتنفيس:
والترفيه والتفريج هنا.
(4) انظر تفسير"ينظرون" في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 264،
265، وقبله 2: 467، 468.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "وذلك كله أعني الخلود في العقوبة
في الآخرة"، وهي جملة فاسدة البناء والمعنى، أخطأ الناسخ فهم
مراد أبي جعفر، فكتب ما كتب، والصواب هو ما أثبت. فإن أبا جعفر
قد لجأ إلى الاختصار في مواضع كثيرة من تفسيره، منها هذا
الموضع، فلم يبين إعراب قوله تعالى: "لا يخفف عنهم العذاب ولا
هم ينظرون"، وأهل الإعراب يعربونها حالا متداخلة - أي حالا من
حال - لأن"خالدين" حال من الضمير في"عليهم". وأما أبو جعفر،
فهو يعدها جملة مستأنفة، وهي بذلك بيان عن الخلود في النار.
والدليل على صحة ذلك، وعلى صحة ما أثبت من الصواب في نص أبي
جعفر هنا، أنه قال في تفسير نظيرة هذه الآية من"سورة البقرة:
162" في الجزء 3: 264 ما نصه.
"وأما قوله: " لا يخفف عنهم العذاب"، فإنه خبر من الله تعالى
ذكره عن دوام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف". فهذا نص
قاطع في أن إعراب الطبري لهذا الموضع من الآية هو ما ذهبت
إليه، وفي أنه يرى أن معنى هذه الجملة من الآية، هو
معنى"الخلود" بعينه. والحمد لله أولا وآخرًا.
(6/577)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا
الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله
عليه وسلم من عند ربهم ="وأصلحوا"، يعني: وعملوا الصالحات من
الأعمال ="فإنّ الله غفور رحيم"، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك
بعد كفره ="غفور"، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من
الرّدّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غيرُ
مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه ="رحيم"، متعطِّف عليه
بالرحمة.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله:"إنّ الذين كفروا" ببعض
أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم (1) ="بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا" بكفرهم بمحمد ="لن تقبل توبتهم"،
عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك:
7372 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن الذين كفروا بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"،
قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
7373 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) في المطبوعة: "أي: ببعض أنبيائه"، زاد ما ليس في المخطوطة.
(6/578)
قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم
ازدادوا كفرًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل
وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم
والفُرْقان.
7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال:
ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم
الموت = قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
7375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم
ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، وقال: هم
اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله
محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد،
بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: ذنوبًا ="لن
تقبل توبتهم" من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك:
7376 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود،
عن رفيع:"إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"،
ازدادوا ذنوبًا وهم كفار ="لن تقبل توبتهم" من تلك الذنوب، ما
كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
7377 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال:
سألت أبا العالية، قال، قلت:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم
ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم"؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى
واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم
يتوبون منها في كفرهم.
7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي
عدي،
(6/579)
عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين
آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه. (1)
7379 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية:"إن الذين كفروا بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"،
قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم،
فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، (2) ألا ترى أنه
يقول:"وأولئك هم الضالون"؟
7380 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله:"لن تقبل توبتهم"،
قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.
7381 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله:"إن الذين كفروا بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون
الذنوبَ فيقولون:"نتوب"، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن
تُقبل التوبة في الضّلالة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم
بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم
عليه، (3) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون ="لن تقبل توبتهم"، لن
تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 7378- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"،
وهو خطأ والصواب ما أثبت من المخطوطة. وقد مضت الرواية عنه
كثيرًا، ينسبه أحيانًا"السكري"، وأخرى"القناد" نسبة
إلى"القند"، وهو السكر. وقد مضت ترجمته برقم: 30، وسيأتي خطأ
مثله في رقم: 7580.
(2) أخشى أن يكون الصواب، "ولم يتوبوا من الكفر"، وانظر
التالي.
(3) في المطبوعة"بما هم عليه"، وهو كلام غث. وفي المخطوطة:
"ممامهم عليه" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال: و"تم على
الشيء تمامًا" ثبت عليه وأقام، وأمضى أمره فيه.
(6/580)
7382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ثم ازدادوا
كفرًا"، قال: تمُّوا على كفرهم = (1) قال ابن جريج:"لن تقبل
توبتهم"، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، ماتوا كفارًا، فكان
ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى"لن تقبل توبتهم"، لن
تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك:
7383 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل
توبتهم وأولئك هم الضالون"، أمّا"ازدادوا كفرًا"، فماتوا وهم
كفار. وأما"لن تقبل توبتهم" فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية،
قولُ من قال:"عنى بها اليهودَ" = وأن يكون تأويله: إن الذين
كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد
إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب
في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي
أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه
وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله.
(2)
* * *
وإنما قلنا:"ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب"، لأن
الآيات
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "نموا على كفرهم" بالنون، وهو
تصحيف. وانظر التعليق السالف.
(2) في المطبوعة"بتصديق ما جاء به من عند الله" وفي
المخطوطة"بتصديقه ما جاء به من عند الله"، وعلى الميم من"ما"
فتحة مائلة، وهي في الحقيقة"باء"، فصواب قراءة المخطوطة ما
أثبت.
(6/581)
قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي
في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد.
وإنما قلنا:"معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من
المعاصي"، لأنه جل ثناؤه قال:"لن تقبل توبتهم"، فكان معلومًا
أن معنى قوله:"لن تقبل توبتهم"، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل
توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من
كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) [سورة
الشورى: 25] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل:"أقبل" و"لا أقبل" في
شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان من حُكم الله في عباده أنه
قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ
تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله:"إلا الذين تابوا
من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" (1) = علم أنّ المعنى
الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه.
(2) وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو
الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما
أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على
شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله -
كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
* * *
فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: (3)
"فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى"؟ (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا الذين تابوا وأصلحوا ... "،
سها الناسخ فأسقط"من بعد ذلك" من الآية، وهي الآية السابقة.
وسياق الكلام: وإذْ كان ذلك كذلك، وكان من حكم ... علم أن
المعنى ... ".
(2) في المطبوعة: "تقبل.. تقبل.." بالتاء، وما في المخطوطة هو
السياق. ومثل ذلك فيما سيلي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وما ينكر" بالياء، وهي بالتاء
أجود، كما يدل عليه الجواب بعد.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "توبتهم من كفرهم" بالجمع، والسياق
ما أثبت، وهو الصواب. وفي المطبوعة: "أو توبته الأولى" والصواب
بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما
سلف في الأثر: 7382، والترجمة التي قبله، وما قبله من الآثار،
وما يليه في الأثر رقم: 7382.
(6/582)
قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير
كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد
الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في
أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل
خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة
عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ
توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم
الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منزلةَ بين الموت والحياة،
يجوزُ أن يقال:"لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر". فإذْ صحّ
أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل
قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
* * *
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك:"التوبة التي كانت قبل الكفر"،
فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان
منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان = بل إنما وصفهم بكفر بعد
إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه،
فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما
كان موجودًا في ظاهر التلاوة = إذا لم تكن حجة تدل على باطن
خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هم الضالون"، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين
كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل
الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين،
حَيرةً منهم، وعَمىً عنه. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ... وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعموا عنه"،
ولم يقل ذلك أبو جعفر! وفي المخطوطة: "وهذي الذي حره منهم وعمى
عنه" غير منقوطة، فلم يستطع الناشر أن يقرأها على وجه صحيح،
ففعل بعبارة الطبري ما فعل، وبئس ما فعل! وصواب قراءتها ما
أثبت. وقوله: "نصف السبيل"، كان أحب إلى أن أقرأها"قصد
السبيل"، ولكني رجحت أن أبا جعفر يترجم عن معنى قوله
تعالى"سواء السبيل"، وهو وسطه، وقد بين شرح ذلك في تفسيره فيما
مضى 2: 497، وقال: " ... الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم
وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته"، ورأيتهم
يقولون: "منصف الطريق" (بفتح الميم، وسكون النون، وفتح الصاد)
: وسط الطريق و"نصف الطريق". وجائز أن تكون كانت"منصف الطريق"
في كلام الطبري ومهما يكن من شيء، فهي صحيحة المعنى، جيدة
المجاز في العربية.
(6/583)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
وقد بينا فيما مضى معنى"الضلال" بما فيه
الكفاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه"إنّ الذين كفروا"، أي: جحدوا
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من
عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم
="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود
ما جاء به ="فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذَهبًا ولو افتدى
به"، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا
رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه،
(2) ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى
مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره
عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها
من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف
يقبل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 189-196 / 2: 496، 497 / 6: 66.
(2) "الجزاء" هنا: البدل والكفارة. و"الجعل" (بضم الجيم وسكون
العين) : الأجر على الشيء. يقول: لا يقبل منه أجر يدفعه على
شريطة العفو عنه.
(6/584)
الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ
منْ نفسه أو غيره؟ (1)
* * *
وقد بينا أن معنى"الفدية" العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه =
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
= ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال:"أولئك"، يعني هؤلاء الذين
كفروا وماتوا وهم كفار ="لهم عذاب أليم"، يقول: لهم عند الله
في الآخرة عذابٌ موجع ="وما لهم من ناصرين"، يعني: وما لهم من
قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما
كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ (3) وقد:-
7384 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك
ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال:
لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله:"إنّ الذين كفروا
وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو
افتدى به". (4)
7385 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ
فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا"، قال: هو كل كافر.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وهو خلاف"، وهو تصحيف، وفي المطبوعة: "عن
نفسه"، كأن الناشر استنكر عربية أبي جعفر، فحولها إلى عربيته.
(2) انظر ما سلف 3: 438-439.
(3) اختلاف الضمائر في هذه العبارة جائز حسن، وإن أشكل على بعض
من يقرأه.
(4) الأثر: 7384- أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 11: 348-350)
من طريقين طريق هشام الدستوائي عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة، كرواية الطبري هنا. ورواه مسلم (17: 148، 149)
من طريق هشام عن قتادة، وأشار إلى طريق سعيد، وذكر اختلافه.
وللحديث طرق أخرى بغير هذا اللفظ أخرجها البخاري (الفتح 6: 262
/ 11: 367) ومسلم 17: 148، 149.
(6/585)
ونصب قوله"ذهبًا" على الخروج من المقدار
الذي قبله والتفسير منهُ، وهو قوله:"ملءُ الأرض"، كقول
القائل:"عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا = وقدْرُ رطل عَسلا"، ف"العسل"
مبينٌ به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير
للمقدار والخروج منه. (1)
* * *
وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب"الذهب" لاشتغال"الملء"
بـ"الأرض"، ومجيء"الذهب" بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال.
وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب
المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا:
ونظير قوله:"ملء الأرض ذهبًا" في نصب"الذهب" في الكلام:"لي
مثلك رجُلا" بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب"الرجل"،
لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال
الفعل بالفاعل.
* * *
وأدخلت الواو في قوله:"ولو افتدى به"، لمحذوف من الكلام بعدَه،
دلّ عليه دخول"الواو"، وكالواو في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] ، وتأويل الكلام: وليكون من
الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في
قوله:"ولو افتدى به"، ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان الكلام
صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ
الأرض ذهبًا لو افتدى به. (2)
* * *
__________
(1) "التفسير": هو التمييز، ويقال له أيضًا"التبيين"، والمميز
هو: "المفسر والمبين"، وقد سلف ذلك فيما مضى 2: 338، تعليق: 1
/ 3: 90، تعليق 2 / وانظر ما فصله الفراء في معاني القرآن 1:
225، 226.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 226.
(6/586)
|