تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر فَآتَاهُمُ اللَّهُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
بينت. ولو فُعل مثل ذلك مع"أن" كان جائزًا،
غير أن أفصحَ الكلام ما وصفت عند العرب.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(148) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم
بما وصفهم، من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم، وعلى
جهاد عدوهم، والاستعانة بالله في أمورهم، واقتفائهم مناهج
إمامهم على ما أبلوا في الله -"ثوابَ الدنيا"، يعني: جزاء في
الدنيا، وذلك: النصرُ على عدوهم وعدو الله، والظفرُ، والفتح
عليهم، والتمكين لهم في البلاد ="وحسن ثواب الآخرة"، يعني:
وخير جزاء الآخرة على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة،
وذلك: الجنةُُ ونعيمُها، كما:-
7994- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا"، فقرأ
حتى بلغ:"والله يحب المحسنين"، أي والله، لآتاهم الله الفتح
والظهورَ والتمكينَ والنصر على عدوهم في الدنيا ="وحسنَ ثواب
الآخرة"، يقول: حسن الثواب في الآخرة، هي الجنة.
7995- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما كان قولهم"، ثم ذكر
نحوه.
7996- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، في قوله:"فآتاهم الله ثواب الدنيا"، قال: النصر والغنيمة
="وحسن ثواب الآخرة"، قال: رضوانَ الله ورحمته.
(7/275)
7997- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق:"فآتاهم الله ثوابَ الدنيا"، الظهورَ على عدوهم =
(1) "وحسن ثواب الآخرة"، الجنةَ وما أعدَّ فيها = وقوله:"والله
يحب المحسنين"، يقول تعالى ذكره: فعل الله ذلك بهم بإحسانهم،
فإنه يحب المحسنين، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى
ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيُّهم. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "حسن الظهور على عدوهم"، وفي المخطوطة
كتب"وحسن الظهور" ثم ضرب على"وحسن". وفي ابن هشام: "بالظهور"
بالباء.
(2) الأثر: 7997- سيرة ابن هشام 3: 119، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 7993، مع اختلاف في اللفظ، ومع اختصاره.
(7/276)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا
الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ="إن تطيعوا الذين
كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم
من اليهود والنصارى - فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه -
فتقبلوا رأيهم في ذلك وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه
ناصحون ="يردوكم على أعقابكم"، يقول: يحملوكم على الرِّدة بعد
الإيمان، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام (1)
="فتنقلبوا خاسرين"، يقول: فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي
هداكم الله له ="خاسرين"، يعني: هالكين، قد خسرتم أنفسكم،
وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم. (2) .
__________
(1) انظر تفسير"ارتد على عقبه" فيما سلف قريبًا: 251، تعليق:
4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"خسر" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572 / 6: 570.
(7/276)
بَلِ اللَّهُ
مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
ينهى بذلك أهل الإيمان بالله أن يطيعوا أهل
الكفر في آرائهم، وينتصحوهم في أديانهم. كما:-
7998- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها
الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين"، أي: عن دينكم: فتذهب دنياكم وآخرتكم. (1)
7999- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا"، قال
ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا
تصدِّقوهم بشيء في دينكم.
8000- حدثنا محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على
أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"، يقول: إن تطيعوا أبا سفيان، يردَّكم
كفارًا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن الله مسدِّدكم، أيها
المؤمنون، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.
* * *
__________
(1) الأثر: 7998- سيرة ابن هشام 3: 119، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 7997. وفي سيرة ابن هشام: "أي: عن عدوكم، فتذهب دنياكم
وآخرتكم"، وهو فاسد المعنى، تصحيحه من هذا الموضع من الطبري.
(2) في المطبوعة: "يردوكم كفارًا" بالجمع، وهو غير مستقيم،
والصواب من المخطوطة.
(7/277)
وإنما قيل:"بل الله مولاكم"، لأن في
قوله:"إن تطيعوا الذين كفروا يردُّوكم على أعقابكم"، نهيًا لهم
عن طاعتهم، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تُطيعوا الذين
كفروا فيردُّوكم على أعقابكم، ثم ابتدأ الخبر فقال:"بل الله
مولاكم"، فأطيعوه، دون الذين كفروا، فهو خيرُ من نَصَر. ولذلك
رفع اسم"الله"، ولو كان منصوبًا على معنى: بل أطيعوا الله
مولاكم، دون الذين كفروا = كان وجهًا صحيحًا.
* * *
ويعني بقوله:"بل الله مولاكم"، وليّكم وناصركم على أعدائكم
الذين كفروا، (1) "وهو خير الناصرين"، لا من فررتم إليه من
اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم
فاعتصموا، وإياه فاستنصروا، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل،
ويرصدكم بالمكاره، كما:-
8001- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"بل الله
مولاكم"، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم ="وهو خير
الناصرين"، أي: فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا
على أعقابكم مرتدِّين عن دينكم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المولى" فيما سلف 6: 141.
(2) الأثر: 8001- سيرة ابن هشام 3: 119، 120، وهو تتمة الآثار
التي آخرها: 7998، مع اختلاف يسير في اللفظ.
(7/278)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
القول في تأويل قوله: {سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سيلقى الله، أيها المؤمنون
="في قلوب الذين كفروا" بربهم، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم، ممن حاربكم بأحد ="الرعب"، وهو الجزع والهلع ="بما
أشركوا بالله"، يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم
الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة = وهي"السلطان" = التي أخبر
عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم.
وهذا وعدٌ من الله جل ثناؤه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالنصر على أعدائهم، والفلج عليهم، ما استقاموا على عهده،
وتمسكوا بطاعته. ثم أخبرهم ما هو فاعلٌ بأعدائهم بعد مصيرهم
إليه، فقال جل ثناؤه:"ومأواهم النار"، يعني: ومرجعهم الذي
يرجعون إليه يوم القيامة، النارُ ="وبئس مثوى الظالمين"، يقول:
وبئس مقام الظالمين - الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب
لها عقابَ الله - النارُ، كما:-
8002- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"سنلقي في
قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به
سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين"، إني سألقي في قلوب
الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما
لم أجعل لهم به حجة، أي: فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور
عليكم، ما اعتصمتم واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم
(7/279)
منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم، خالفتم بها
أمري، وعصيتم فيها نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم. (1)
8003- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد
متوجِّهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق. ثم
إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم
يبق إلا الشريد تركتموهم! (2) ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز
وجل في قلوبهم الرعب، فانهزموا. فلقوا أعرابيًّا، فجعلوا له
جُعْلا وقالوا له: إن لقيت محمدًا فأخبره بما قد جمعنا لهم.
فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ
حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين
أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما قُذف في قلبه
من الرعب فقال:"سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا
بالله". (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 8002- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8001.
(2) "الشريد"، هكذا في المطبوعة والدر المنثور 2: 82، وأما
المخطوطة، فاللفظ فيها مضطرب لا يستبين. وانظر أيضًا رقم:
8237.
(3) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه
نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله: "ولقد
صدقكم الله وعده" وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه
وسلم" ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسرِّ".
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، أخبرنا أبو جعفر
محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في ص6: 495، 496 التعليق رقم: 5
/ ثم 7: 21، تعليق 1 / ثم 7: 154، تعليق: 1.
(7/280)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولقد صدقكم الله"، أيها
المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأحُد وعدَه الذي
وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
و"الوعد" الذي كان وعدَهم على لسانه بأحد، قوله للرماة:"اثبتوا
مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال
غالبين ما ثبتم مكانكم". وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره، كالذي:-
8004- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد،
أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال:"لا
تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما
ثبتم مكانكم،" وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوّات بن
جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين، قام فقال: يا
معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى
النار، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله
الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه
علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجِّلك
الله بسيفي إلى النار، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي
فقطع رجلَه، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم،
ابنَ عم! فتركه.
(7/281)
فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال
لعليّ أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنّ ابن عمي ناشدني
حين انكشفت عورته، فاستحييت منه.
= ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين
فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا
سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل،
(1) فرمته الرماة، فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا
الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم!. فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة
الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل،
تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (2) .
8005- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال،
حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: لما كان
يوم أحُد ولقينا المشركين، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجالا بإزاء الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات
بن جبير، وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم
فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعينونا". فلما
التقى القوم، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن
وبدت خلاخلهنّ، فجعلوا يقولون:"الغنيمة، الغنيمة"! قال عبد
الله: مهلا! أما علمتم ما عهدَ إليكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم، فأصيب من
المسلمين سبعون قتيلا.
__________
(1) في التعليق على الأثر السالف: 7943، ذكرت أن المخطوطة
هناك، كان فيها"لر" غير منقوطة، واستظهرت مرجحًا أنها"كر"،
ولكنه عاد هنا في المخطوطة، فكتبها"حمل" واضحة، فأخشى أن يكون
هذا هو الصواب الراجح.
(2) الأثر: 8004- الأثر السالف رقم: 7943، والتاريخ 3: 14، 15.
(7/282)
8006- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي،
عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه. (1)
8007- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولقد صدقكم الله وعده
إذ تحسُّونهم بإذنه"، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من
شوّال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأذَّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن
العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله
صلى الله عليه وسلم اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن
عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر، (2) وبعث حمزة بين
يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن
أبي جهل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير
وقال:"استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك". وأمر بخيل
أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال:"لا تبرحوا حتى أوذنكم". وأقبل
أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه،
كما قال:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا
فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون"،
وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم. (3)
8008- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني
__________
(1) الأثران: 8005، 8006 - تاريخ الطبري 3: 13، 14 وانظر مسند
أحمد 4: 293، 294.
(2) في المطبوعة: "بالجسر"، وهو خطأ، "والحسر" جمع حاسر، وهم
الرجالة الذين لا خيل لهم، يقال: سموا بذلك لأنهم يحسرون عن
أيديهم وأرجلهم. ويقال إنه يقال لهم"حسر"، لأنه لا بيض لهم ولا
دروع يلبسونها.
(3) الأثر: 8007- تاريخ الطبري 3: 14.
(7/283)
محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، ومحمد
بن يحيى بن حبان، (1) وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد
الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا -في قصة
ذكرها عن أحد- ذكر أن كلهم قد حدَّث ببعضها، وأن حديثهم اجتمع
فيما ساق من الحديث، فكان فيما ذكر في ذلك: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نزل الشعب من أحُد في عُدوة الوادي إلى الجبل،
فجعل ظهره وعسكره إلى أحُد، وقال:"لا يقاتلنَّ أحدٌ، حتى نأمره
بالقتال". (2) وقد سرَّحت قريش الظهر والكُراع، (3) في زروع
كانت بالصَّمغة من قناة للمسلمين، (4) فقال رجل من الأنصار حين
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني
قيلة ولما نُضارِب! (5) وتعبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
للقتال وهو في سبعمئة رجل، (6) وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف،
(7) ومعهم مائتا فرس قد جَنَبوها، (8) فجعلوا على ميمنة الخيل
خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمرَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني
عمرو بن عوف، وهو يومئذ مُعلم بثياب بيض، والرماةُ خمسون رجلا
وقال:"انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا
أو علينا فأثبت مكانك، لا نؤتيَنَّ من قبلك". (9) فلما التقى
الناس ودنا بعضهم من بعض. (10) واقتتلوا، حتى حميت الحرب،
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي
بن أبى طالب، في رجال من المسلمين. فأنزل الله عز وجل نصره
وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمةَ لا
شك فيها. (11)
8009- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن
يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده قال،
قال الزبير: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة
وصواحبها مشمِّرات هوارب، (12) ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير،
إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن محمد بن يحيى. . ."، والصواب
من سيرة ابن هشام 3: 64 وتاريخ الطبري 3: 9.
(2) في المطبوعة: "لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال"، وفي المخطوطة
مثله، إلا أنه كتب: "نأمره" والصواب من سيرة ابن هشام، ومن
تاريخ الطبري.
(3) الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع: اسم يجمع
الخيل والسلاح، ويعني هنا الخيل.
(4) "الصمغة": أرض في ناحية أحد. و"قناة" واد يأتي من الطائف،
حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد.
(5) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج، الأنصار. وقيلة: أم قديمة لهم
ينسبون إليها.
(6) في المطبوعة: "وصفنا رسول الله. . ."، وهو خطأ محض،
والصواب من سيرة ابن هشام، والتاريخ، والمخطوطة، وهي فيها غير
منقوطة.
(7) في المطبوعة: "وتصاف قريش. . ."، وهو خطأ صرف، والصواب من
التاريخ، ومن المخطوطة وهي فيها غير منقوطة.
(8) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو
مجنوب وجنيب، وخيل جنائب: إذا قادهما إلى جنبه. ويقال: "خيل
مجنبة" بتشديد النون مثلها.
(9) نضح عنه: ذب عنه، ورد عنه ونافح.
(10) هذا اختصار مخل جدًا، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق،
والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري
هنا. وذلك أنه من أول قوله: "وأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الرماة. . ." مقدم على قوله: "وتعبأت قريش"، وذلك في
السيرة 3: 69، 71. أما قوله: "فلما التقى الناس" فإنه يأتي في
السيرة في ص 72، وسياق الجملة: "فلما التقى الناس، ودنا بعضهم
من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن
الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم"، وساق ما كان من أمرهن،
ثم قال: "قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل
أبو دجانة حتى أمعن في الناس"، أما قوله بعد ذلك: "وحمزة بن
عبد المطلب. . ."، فهو عطف علي"وقاتل أبو دجانة"، استخرجه
الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق 3: 77، لا من نصه. وقد تركت ما
في التفسير على حاله، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما
قوله: "ثم أنزل الله نصره. . ." إلى آخر الأثر فهو في السيرة
3: 82.
(11) الأثر: 8008- هذا أثر ملفق من نص ابن إسحاق، وهو فيما
رواه ابن هشام في سيرته من مواضع متفرقة كما سترى 3: 69، 70 /
ثم ص: 72 / ثم ص: 77 / ثم ص 82، وانظر التعليق السالف. ثم انظر
تاريخ الطبري 3: 13 / ثم ص16. وقوله: "حسوهم" أي قتلوهم
واستأصلوهم، كما سيأتي في تفسير الآية بعد.
(12) في المخطوطة: "مسموات هوادن" وضبط الكلمة الأولى بالقلم
بفتح الميم وضم السين وميم مشددة مفتوحة!! وهذا أعجب ما رأيت
من السهو والغفلة! والكلمتان خطأ محض، وفي المطبوعة: "هوازم"،
والصواب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. و"الخدم" جمع خدمة:
وهي الخلخال، ويجمع أيضًا"خدام" بكسر الخاء."شمر تشميرًا فهو
مشمر": جد في السير أو العمل وأسرع ومضى مضيًا، وأصله من فعل
العادي إذا جد في عدوه وشمر عن ساقه وجمع ثوبه في يده، ليكون
أسرع له.
(7/284)
يريدون النهب، وخلَّوا ظهورنا للخيل،
فأتينا من أدبارنا. وصرخ صارخٌ:"ألا إنّ محمدًا قد قُتل"!
فانكفأنا، وأنكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، (1)
حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم. (2)
8010- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في
قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، أي: لقد وفَيتُ لكم بما وعدتكم
من النصر على عدوكم. (3)
8011- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، وذلك يوم أحد، قال
لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرِفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا،
(4) حتى تفرُغوا"! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم،
وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عَهْده الذي عَهِده إليهم،
وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "بعد أن رأينا أصحابناب" وضرب على"بنا"
من"أصحابنا"، فاجتهد الناشر قراءة هذا الكلام الفاسد فجعل
مكان"أصبنا""هزمنا" ولكني رددته إلى نص ابن إسحاق من رواية ابن
هشام في السيرة، والطبري في التاريخ."انكفأ": مال ورجع وانقلب،
وهو صورة حركة الراجع، من انكفاء الإناء إذا أملته ناحية،
و"انكفأوا علينا"، أي مالوا راجعين عليهم.
(2) الأثر: 8009- سيرة ابن هشام 3: 82، وهو تابع آخر الأثر
السالف رقم: 8008، وفي تاريخ الطبري 3: 16، 17.
(3) الأثر: 8010- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8002.
(4) في المخطوطة: "فلا عرض ما أصبتم"، وفي المطبوعة: "فلا
تأخذوا ما أصبتم"، تصرف في طلب المعنى، وهو خطأ، وستأتي على
الصواب في الأثر رقم: 8025، في المطبوعة والمخطوطة معًا، كما
كتبتها هنا. وقوله: "فلا أعرفن ما أصبتم. . ."، يعني: لا
يبلغني أنكم أصبتم من غنائمهم شيئًا. وقولهم: "لا أعرفن كذا"
و"ولأعرفن كذا" كلمة تقال عند الوعيد والتهديد والزجر الشديد.
وانظر مجيئها في الأثرين رقم: 8158، 8160 والتعليق عليهما.
وانظر الدر المنثور 2: 85.
(5) انظر الأثر الآتي رقم: 8025.
(7/286)
القول في تأويل قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وَفَى الله لكم،
أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما
وعدكم من النصر على عدوكم بأحُد، حين"تحُسُّونهم"، يعني: حين
تقتلونهم.
* * *
يقال منه:"حسَّه يَحُسُّه حسًا"، إذا قتله، (1) كما:-
8012- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا
يعقوب بن عيسى قال، حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز
بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عبد العزيز، عن
الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن عبد
الرحمن بن عوف في قوله:"إذ تحُسُّونهم بإذنه"، قال: الحسُّ:
القتل. (2)
8013- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي
الزناد، عن أبيه قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول
الله عز وجل:"إذ تحسُّونهم"، قال: القتل.
8014- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"الحس" فيما سلف 6: 443.
(2) الأثر: 8012-"محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطى"، مضى
القول فيه برقم: 2867، 2868، 2888، وفي 2868"محمد بن عبيد الله
بن سعيد". و"يعقوب بن عيسى" هو: "يعقوب بن محمد بن عيسى
الزهري"، سلف في رقم: 2867. و"عبد العزيز بن عمران بن عبد
العزيز. . . الزهري"، هو الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت، قيل:
"ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر"، وقال يحيى: "رأيته ببغداد، كان
يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. ليس حديثه بشيء". مترجم في
التهذيب. و"محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف"
قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "هم ثلاثة إخوة:
محمد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وعمران بن عبد
العزيز، وهم ضعفاء الحديث، ليس لهم حديث مستقيم، وليس لمحمد عن
أبي الزناد، والزهري، وهشام بن عروة، حديث صحيح". مترجم في
الكبير 1 / 1 / 167، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 7.
(7/287)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذ
تحسونهم بإذنه"، قال: تقتلونهم.
* * *
8015- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم"، أي: قتلا بإذنه.
8016- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تحسونهم"، يقول: إذ تقتلونهم.
8017- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ
تحسونهم بإذنه"، والحس القتل.
8018- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم
بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
8019- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ
تحسونهم" بالسيوف: أي القتل. (1)
8020- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
مبارك، عن الحسن:"إذ تحسونهم بإذنه"، يعني: القتل.
8021- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله:"إذ
تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
* * *
وأما قوله:"بإذنه"، فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك، وتسليطي
إياكم عليهم، (2) كما:-
__________
(1) الأثر: 8019- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8010، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أي: بالقتل"،
والباء زيادة لا خير فيها، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286، 371 /
5: 352، 355، 395.
(7/288)
8022- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن
ابن إسحاق: إذ تحسونهم بإذني، وتسليطي أيديكم عليهم، وكفِّي
أيديهم عنكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"حتى إذا فشلتم"، حتى إذا
جبنتم وضعفتم (2) ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: واختلفتم في أمر
الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره وما عهد إليكم.
وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرَهم صلى الله عليه وسلم
بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشِّعب بأحُد بإزاء خالد بن
الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين، الذين ذكرنا قبلُ
أمرَهم.
= وأما قوله:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، فإنه يعني بذلك: من
بعد الذي أراكم الله، أيها المؤمنون بمحمد، من النصر والظفر
بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم
وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المومنين
من ورائهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
__________
(1) الأثر: 8022- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8019.
(2) انظر تفسير"فشل" فيما سلف 7: 168.
(7/289)
وقد مضى ذكر بعض من قال، وسنذكر قول بعض من
لم يذكر قوله فيما مضى.
*ذكر من قال ذلك:
8023- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر"، أي اختلفتم في الأمر
="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذاكم يوم أحد، عهد إليهم
نبي الله صلى الله عليه وسلم وأمرَهم بأمر فنسوا العهد،
وجاوزوا، (1) وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم،
فقذف عليهم عدوَّهم، (2) بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون.
8024- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث ناسًا من الناس -يعني: يوم أحُد- فكانوا من ورائهم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كونوا هاهنا، فردّوا وجه
من فرَّ منا، (3) وكونوا حرسًا لنا من قِبل ظهورنا". وإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين
كانوا جُعلوا من ورائهم، بعضهم لبعض، (4) لما رأوا النساء
مُصْعِدات في الجبل ورأوا الغنائم،
__________
(1) في المطبوعة: "وجاوزوا"، وهي ضعيفة المعنى هنا. ولم تذكر
كتب اللغة"حاوز" لكنهم قالوا: "انحاز القوم وتحوزوا وتحيزوا:
تركوا مركزهم ومعركة قتالهم وتنحوا عنه، ومالوا إلى موضع آخر".
وانظر ما سلف في التعليق على رقم: 7524، من قوله: "تحاوز
الناس".
(2) في المطبوعة: "فانصرف عليهم"، ولا معنى لها، ولكنه أخذها
من الأثر التالي 8025، من رسم المخطوطة هناك. وفي الدر المنثور
2: 85"فانصر عليهم"، ولا معنى لها أيضًا. وهي في المخطوطة
هنا"فصرف"، فرجحت أن يكون هذا تصحيف"فقذف"، فأثبتها، وهي سياق
المعنى حين انحطت عليهم خيل المشركين من ورائهم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "من قدمنا"، والصواب من تاريخ
الطبري. وفي الدر المنثور 2: 84"من ند منا"، يقال"ند البعير"،
إذا نفر وشرد وذهب على وجهه، ولا بأس بمعناها هنا.
(4) في المطبوعة: "اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم فقال
بعضهم لبعض"، زاد الناشر الأول"اختلف"، أما المخطوطة، والدر
المنثور 2: 84، فليس فيها"اختلف"، والكلام بعد كما هو، وهو
مضطرب، ورددته إلى الصواب من تاريخ الطبري، حذفت"فقال" من وسط
الكلام، ووضعت"قال" في أوله.
(7/290)
قالوا:"انطلقوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها"! وقالت طائفة
أخرى:"بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا"!
فذلك قوله:"منكم من يريد الدنيا"، للذين أرادوا الغنيمة
="ومنكم من يريد الآخرة"، للذين قالوا:"نطيع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ونثبت مكاننا". فأتوا محمدًا صلى الله عليه
وسلم، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول:"وعصيتم من بعد ما
أراكم ما تحبون"، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة.
8025- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"حتى
إذا فشلتم"، يقول: جبنتم عن عدوكم ="وتنازعتم في الأمر"، يقول:
اختلفتم ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذلك يوم أحد قال
لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا حتى
تفرغوا"، (1) فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا،
ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى
غير ما أمرهم به، فانقذف عليهم عدوهم، (2) من بعد ما أراهم
فيهم ما يحبون. (3)
8026- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج:"حتى إذا فشلتم"، قال ابن جريج، قال ابن عباس: الفشَل:
الجبن.
8027- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما
أراكم ما تحبون"، من الفتح.
__________
(1) انظر التعليق على الأثر: 8011، ص: 286، تعليق: 4.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فانصرف عليهم عدوهم"، ولا معنى
لها، وفي الدر المنثور 2: 85"فانصر عليهم"، ولا معنى لها،
وانظر التعليق السالف ص: 290 تعليق: 2.
(3) الأثر: 8025- مضى برقم: 8011 مختصرًا.
(7/291)
8028- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق:"حتى إذا فشلتم"، أي تخاذلتم (1) ="وتنازعتم في
الأمر"، أي: اختلفتم في أمري ="وعصيتم"، أي: تركتم أمر نبيكم
صلى الله عليه وسلم؛ وما عهد إليكم، يعني الرماة="من بعد ما
أراكم ما تحبون"، أي: الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم
وأموالهم. (2)
8029- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
المبارك، عن الحسن:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، يعني: من
الفتح.
* * *
قال أبو جعفر: وقيل معنى قوله:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في
الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون" = حتى إذا تنازعتم في
الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون = وأنه من المقدم
الذي معناه التأخير، (3) وإن"الواو" دخلت في ذلك، ومعناها
السقوط، كما يقال، (4) (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ) [سورة الصافات: 103-104] معناه:
ناديناه. وهذا مقول في: (حَتَّى إِذَا) وفي (فَلَمَّا أَنْ) .
[لم يأت في غير هذين] . (5) ومنه قول الله عز وجل: (حتى إذا
فتحت يأجوج ومأجوج ثُمَّ قَالَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ
الْحَقُّ) [سورة الأنبياء: 96-97] .
__________
(1) في المطبوعة: "تجادلتم"، وهو خطأ صرف، والصواب من سيرة ابن
هشام.
(2) الأثر: 8028- سيرة ابن هشام 3: 121.
(3) في المطبوعة: "أنه من المقدم. . ." بإسقاط الواو، وهو خطأ،
والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة"كما قلنا في فلما أسلما. . ." بزيادة"في" وفي
المخطوطة: "كما قلنا فلما أسلما"، بإسقاط"في"، وأثبت ما في
معاني القرآن للفراء 1: 238، فهذا نص كلامه.
(5) في المطبوعة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (لما) ومنه قول
الله. . ."، وفي المخطوطة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (فلما
أن) ، وفلما، ومنه قول الله عز وجل". والذي في المطبوعة تغيير
لا خير فيه، والذي في المخطوطة خطأ لا شك فيه، فآثرت إثبات ما
في معاني القرآن للفراء 1: 238، فإنه نص مقالته، وزدت منه ما
بين القوسين.
(7/292)
ومعناه: اقترب، (1) كما قال الشاعر: (2)
حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ ... وَرَأَيْتُمُ
أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا (3) وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ
لَنَا ... إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخَبُّ (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"منكم من يريد الدنيا،
الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الشِّعب من أحُد لخيل المشركين، ولحقوا بعسكر المسلمين
طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين ="ومنكم من يريد الآخرة"،
يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 238.
(2) هو الأسود بن يعفر النهشلي، وهو في أكثر الكتب غير منسوب.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 107، 238 / اللسان (قمل) والجزء:
20: 381 / تأويل مشكل القرآن: 197، 198 / المعاني الكبير: 533
/ مجالس ثعلب: 74 / أمالي الشجري 1: 357، 358 / الإنصاف لابن
الأنباري: 189 / الخزانة 4: 414 / وهو في جميعها غير منسوب،
وهو من شعر لم أجده تامًا، ذكر أبياتًا منه البكري في معجم ما
استعجم: 379، فيها البيت الأول وحده، وبيتان آخران منها في
اللسان (وقب) وتهذيب الألفاظ: 196. وهو من شعر يهجو فيه بني
نجيح، من بني عبد الله بن مجاشع بن دارم يقول في هجائهم:
أَبَنِي نَجِيحٍ، إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ، وإنَّ أَبَاكُمُ
وَقْبُ
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزَّادِ فَاتَّخَمَتْ ... عَنْهُ، وَشَمَّ
خِمَارَهَا الكَلْبُ
وقوله: "قملت بطونكم"، كثرت قبائلكم. والبطون بطون القبائل.
(4) يقال: "قلبت له ظهر المجن" - والمجن: الترس، لأنه يوارى
صاحبه - كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية، ثم
حال عن ذلك فعاداه. والخب (بفتح الخاء، وكسرها) الخداع الخبيث
المنكر: وفي الحديث: "المؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم".
(7/293)
أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
واتبعوا أمره، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم والدار الآخرة.
كما:-
8030- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"منكم من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة"، فالذين انطلقوا
يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا، والذين بقوا وقالوا:"لا نخالف
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أرادوا الآخرة.
8031- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
8032 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منكم من يريد الدنيا
ومنكم من يريد الآخرة"، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر
يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال:"كونوا مَسْلحة للناس"، (1)
بمنزلةٍ أمرَهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى
يأذن لهم. فلما لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبا
سفيان ومن معه من المشركين، هزمهم نبي الله صلى الله عليه
وسلم! فلما رأى المسلحةُ أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق
بعضهم وهم يتنادون:"الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم"! وثبت بعضهم
مكانهم، وقالوا: لا نَريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى
الله عليه وسلم!. ففي ذلك نزل:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريد الآخرة"، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها، (2) حتى
كان يوم أحد.
__________
(1) المسلحة: القوم ذوو السلاح يوكلون بثغر من الثغور يحفظونه
مخافة أن يأتي منه العدو. وسميت الثغور"مسالح" من ذلك، وهي
مواضع المخافة.
(2) "ما شعرت"، أي: ما علمت، يأتي كذلك في الأثر التالي.
(7/294)
8033- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: لما هزم الله
المشركين يوم أحد، قال الرماة:"أدركوا الناس ونبيَّ الله صلى
الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم"!
وقال بعضهم:"لا نَريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم".
فنزلت:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، قال: ابن
جريج، قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها، حتى كان يومئذ.
8034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
المبارك، عن الحسن:"منكم من يريد الدنيا"، هؤلاء الذين يجترون
الغنائم (1) ="ومنكم من يريد الآخرة"، الذين يتبعونهم
يقتلونهم.
8035- حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أحمد
بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي عن عبد خير قال: قال عبد
الله: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد:"منكم من يريد الدنيا ومنكم
من يريد الآخرة". (2)
8036- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،
عن عبد خير قال، قال ابن مسعود: ما كنت أظن في أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يومئذ أحدًا يريد الدنيا، حتى قال الله ما
قال.
8037- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
__________
(1) في المطبوعة: "يحيزون الغنائم"، وهو خطأ، والكلمة في
المخطوطة غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. واجتر
الشيء: جره، يعني يطلبونها إلى أنفسهم.
(2) الأثر 8035-"الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي"، مضى مرارًا،
وسلف ترجمته في رقم: 1625، وكان في المطبوعة: "العبقري"، وهو
خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. وأما "عبد خير"، فهو"عبد خير بن
يزيد الهمداني". أدرك الجاهلية، وروي عن أبي بكر، وابن مسعود
وعلي، وزيد بن أرقم، وعائشة. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
(7/295)
قال، قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا
في الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم.
8038- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان ابن مسعود يقول: ما
شعرتُ أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد
الدنيا وعرَضها، حتى كان يومئذ. (1)
8039- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق"منكم من
يريد الدنيا"، أي: الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وتركَ ما
أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة ="ومنكم من يريد
الآخرة"، أي: الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه
لعرض من الدنيا رغبة فيها، (2) رجاء ما عند الله من حسن ثوابه
في الآخرة. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم صرفكم، أيها المؤمنون،
عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم، من
هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم، فردَّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر
رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الآخرة،
__________
(1) الأثر: 8038- هو من بقية الأثر السالف: 8024، ورواه في
تاريخه 3: 14.
(2) في المطبوعة: "لم يخالفوا" بإسقاط الواو، وأثبتها من
المخطوطة وابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة: "لعرض من الدنيا
رغبة في رجاء ما عند الله"، وهو كلام يتلجلج، والصواب ما في
سيرة ابن هشام، وهو الذي أثبت.
(3) الأثر: 8039- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8028.
(7/296)
- عقوبةً لكم على ما فعلتم،"ليبتليكم"،
يقول: ليختبركم، (1) فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في
إيمانه منكم. كما:-
8040- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد:"ثم صرفكم عنهم
ليبتليكم".
8041- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
مبارك، عن الحسن في قوله:"ثم صرفكم عنهم"، قال: صرف القوم
عنهم، فقتل من المسلمين بعدَّة من أسروا يوم بدر، وقُتل عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشُجّ في وجهه،
وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول:"كيف يفلح قوم فعلوا هذا
بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَيْءٌ) [سورة آل عمران: 128] ، الآية. فقالوا: أليس
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل الله عز
وجل:"ولقد صدقكم الله وعده" إلى قوله:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم
ولقد عفا عنكم".
8042- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق:"ثم صرفكم
عنهم ليبتليكم"، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم.
(2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ابتلى" فيما سلف 2: 49 / 3: 7، 220 / 5: 339.
(2) الأثر: 8042- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8039. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة، سقط بعض الكلام،
فاضطرب لفظه، ويستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.
(7/297)
القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ عَفَا
عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا
الله = أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم
بلزومه = عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه، عما هو
أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرفِ وجوهكم
عنهم، (1) إذ لم يستأصل جمعكم، كما:-
8043- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
مبارك، عن الحسن، في قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: قال الحسن،
وصفَّق بيديه: وكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وقُتل عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه؟
قال: ثم يقول: قال الله عز وجل:"قد عفوت عنكم إذ عصيتموني، أن
لا أكون استأصلتكم". قال: ثم يقول الحسن: هؤلاء مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله غضابٌ لله، يقاتلون أعداء
الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غُمُّوا بهذا
الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يَتَجَرْثَمُ كل كبيرة، (2) ويركب
كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف
يعلم.
8044- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: لم يستأصلكم.
__________
(1) في المخطوطة: "وصرف وجوهكم عنه"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "يتجرأ على كل كبيرة"، تصرف في نص المخطوطة،
وتجرثم الشيء: أخذ معظمه، وجرثومة كل شيء: أصله ومجتمعه.
(7/298)
إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
8045- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا الله عن عظيم ذلك، لم
يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم، ولكن عُدْت بفضلي عليكم. (1)
* * *
وأما قوله:"والله ذو فضل على المؤمنين"، فإنه يعني: والله ذو
طَوْل على أهل الإيمان به وبرسوله، (2) بعفوه لهم عن كثير ما
يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقبهم على بعض ذلك،
فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم. كما:-
8046- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد عفا
عنكم والله ذو فضل على المؤمنين"، يقول: وكذلك منَّ الله على
المؤمنين، أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة،
فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم، لما أصابوا من
معصيته، رحمةً لهم وعائدة عليهم، لما فيهم من الإيمان. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى
أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد عفا عنكم، أيها
المؤمنون، إذ لم يستأصلكم، إهلاكًا منه جمعكم بذنوبكم وهربكم
="إذ تصعدون ولا تلوون على أحد".
* * *
__________
(1) الأثر: 8045- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8042.
(2) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6:
156.
(3) الأثر: 8046- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8045. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة فساد قبيح. يستفاد
تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.
(7/299)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري:
(إِذْ تُصْعِدُونَ) بضم"التاء" وكسر"العين". وبه القراءة
عندنا، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به، واستنكارهم ما
خالفه.
* * *
وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: (إِذْ تَصْعَدُونَ) ،
بفتح"التاء" و"العين".
8047- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال،
حدثنا حجاج، عن هرون، عن يونس بن عبيد، عن الحسن.
* * *
فأما الذين قرأوا: (تُصْعِدُون) بضم"التاء" وكسر"العين"، فإنهم
وجهوا معنى ذلك إلى أنّ القوم حين انهزموا عن عدوِّهم، أخذوا
في الوادي هاربين. وذكروا أنّ ذلك في قراءة أبي: (" إِذْ
تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي ") .
8048- حدثنا [بذلك] أحمد بن يوسف قال، حدثنا أبو عبيد قال،
حدثنا حجاج، عن هرون.
* * *
=قالوا: فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب:"إصعاد"،
لا صعود. (1) قالوا وإنما يكون"الصعود" على الجبال والسلاليم
والدَّرج، لأن معنى"الصعود"، الارتقاء والارتفاع على الشيء
عُلوًا. (2) قالوا: فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط، فإنما
هو"إصعاد"، كما يقال:"أصعَدْنا من مكة"، إذا بتدأت في السفر
منها والخروج ="وأصعدنا
__________
(1) في المطبوعة: "قالوا: الهرب في مستوى الأرض". وفي
المخطوطة: "بالهرب"، والصواب ما أثبت.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 105، ومعاني القرآن للفراء
1: 239.
(7/300)
من الكوفة إلى خراسان"، بمعنى: خرجنا منها
سفرًا إليها، وابتدأنا منها الخروج إليها.
قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل، بأن القوم أخذوا عند
انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي.
*ذكر من قال ذلك:
8049- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولا تلوون على أحد"، ذاكم يوم أحد، أصعدوا في الوادي
فرارًا، (1) ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في
أخراهم:"إلىَّ عباد الله، إلى عباد الله"!. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الحسن، فإني أراه ذهب في قراءته:"إذ
تَصْعَدون" بفتح"التاء" و"العين"، إلى أن القوم حين انهزموا عن
المشركين صعدوا الجبل. وقد قال ذلك عددٌ من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8050- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي قال: لما شدَّ المشركون على المسلمين بأحُد فهزموهم،
دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا
عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس:"إليّ
عباد الله، إليّ عباد الله"! فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم
ذكر دعاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم، فقال:"إذ تصعدون
ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (3)
__________
(1) في المخطوطة: "في الوادي نبي الله" وما بينهما بياض، وما
ثبت في المطبوعة، صواب موافق لما في الدر المنثور 2: 87، على
خطأ ظاهر في الدر.
(2) في المخطوطة: "قال عباد الله قال عباد الله"، والذي في
المطبوعة هو الصواب الموافق لما في الدر المنثور 2: 87، إلا أن
ناشر المطبوعة زاد"قال" قبل: "إلى عباد الله"، وهو فاسد
فخذفتها، فإن الذي في المخطوطة تصحيف"إلى. . . إلى". وانظر
الأثر التالي: 8050.
(3) الأثر: 8050- هو بعض الأثر السالف: 7943، مع زيادة فيه،
وفي تاريخ الطبري أيضًا 3: 20، مع زيادة هنا.
(7/301)
8051- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: انحازوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول
يدعوهم في أخراهم.
8052- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
8053- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"إذ تصعدون ولا تلووْن على أحد"،
قال صعدوا في أحُدٍ فرارًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب، قراءة من
قرأ:"إذ تُصعِدون"، بضم"التاء" وكسر"العين"، بمعنى: السبق
والهرب في مستوى الأرض، أو في المهابط، لإجماع الحجة على أن
ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك، الدليلُ الواضح
على أنّ أولى التأويلين بالآية، تأويل من قال:"اصْعدوا في
الوادي ومضوْا فيه"، دون قول من قال:"صعدوا على الجبل".
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ولا تلوون على أحد"، فإنه يعني: ولا
تعطفون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، هربًا من
عدوّكم مُصْعدين في الوادي. (1)
* * *
ويعني بقوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه ="في أخراكم"،
يعني: أنه يناديكم من خلفكم:"إليّ عباد الله، إليّ عباد
الله"!. (2) كما:-
__________
(1) انظر تفسير"لوى" فيما سلف: 6: 536، 537.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 105، ومعاني القرآن
للفراء: 1: 239.
(7/302)
8054- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"والرسول يدعوكم في
أخراكم"، إليّ عباد الله ارجعوا، إليّ عباد الله ارجعوا!.
8055- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، رأوا نبي الله صلى الله
عليه وسلم يدعوهم:"إليّ عباد الله"!
8056- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي مثله.
8057- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
أنَّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو
يدعوهم، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال:"إذ تصعدون ولا
تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (1)
8058- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، هذا يوم أحد حين انكشف
الناسُ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأثابكم غمًّا بغم"، يعني:
فجازاكم بفراركم عن نبيكم، وفشلكم عن عدوكم، ومعصيتكم ربكم
="غمًّا بغم"، يقول: غما على غم.
* * *
__________
(1) الأثر: 8057- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8046.
(7/303)
وسمى العقوبة التي عاقبهم بها = من تسليط
عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال"ثوابًا"، إذ كان عوضًا من
عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم، (1) فدلّ بذلك جل ثناؤه أنّ كل
عوض كان لمعوَّض من شيء من العمل، خيرًا كان أو شرًّا = أو
العوض الذي بذله رجل لرجل، أو يد سلفت له إليه، فإنه مستحق
اسم"ثواب"، كان ذلك العوض تكرمةً أو عقوبة، ونظير ذلك قول
الشاعر: (2)
أخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُه ... أدَاهِمَ سُودًا
أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (3)
فجعل"العطاء" القيود. (4) وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه
مكروه:"لأجازينَّك على فعلك، ولأثيبنك ثوابك". (5)
* * *
وأما قوله:"غمًّا بغم"، فإنه قيل:"غمًّا بغم"، معناه: غمًّا
على غم، كما قيل: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
[سورة طه: 71] ، بمعنى: ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز
ذلك، لأن معنى قول القائل:"أثابك الله غمًّا على غم"، جزاك
الله
__________
(1) في المطبوعة: "إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه"، وكان في
المخطوطة مكان"ذلك" بياض، والصواب ما أثبت، استظهارًا من كلام
أبي جعفر التالي.
(2) هو الفرزدق.
(3) ديوانه: 227، النقائض: 618، طبقات فحول الشعراء: 256،
وتاريخ الطبري 6: 139، معاني القرآن للفراء 1: 239، وغيرها. من
شعره في زياد بن أبي سفيان، وهو يلي الأبيات التي ذكرتها في
التفسير آنفًا 2: 195، تعليق: 1، والرواية التي ذكرها الطبري
هنا، متابعة للفراء، وهي لا تستقيم مع الشعر، وأجمع الرواة على
أنه: فلمَّا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
نَمَيْتُ إلَى حَرْفٍ أَضَرَّ بِنَيِّها ... سُرَى البِيدِ
وَاسْتِعْراضُهَا البَلَدَ القَفْرَا
والأداهم جمع أدهم: وهو القيد، سمي بذلك لسواده. والمحدرجة:
السياط. حدرج السوط: فتله فتلاً محكمًا حتى استوى.
وجعلها"سمرًا"، لأدمة جلدها الذي تصنع منه.
(4) في المطبوعة: "فجعل العطاء العقوبة"، والصواب من المخطوطة،
ولا أدري لم غيره الناشر الأول.
(5) انظر لما سلف، معاني القرآن للفراء 1: 239، وانظر
معنى"الثواب" فيما سلف قريبًا: 2: 458 / 7: 272، وقد نسيت أن
أذكر مرجعه هناك.
(7/304)
غمًّا بعد غم تقدَّمه، (1) فكان كذلك
معنى:"فأثابكم غمًّا بغم"، لأن معناه: فجزاكم الله غمًّا بعقب
غمّ تقدمه، (2) وهو نظير قول القائل:"نزلت ببني فلان، ونزلت
على بني فلان"،"وضربته بالسيف وعلى السيف". (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم، وما كان
غمُّهم الأول والثاني؟
فقال بعضهم:"أما الغم الأول، فكان ما تحدَّث به القوم أنّ
نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأما الغمّ الآخر، فإنه كان
ما نالهم من القتل والجراح".
*ذكر من قال ذلك:
8059- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فأثابكم غمًّا بغم"، كانوا تحدَّثوا يومئذ أن نبي الله
صلى الله عليه وسلم أصيب، وكان الغم الآخر قَتل أصحابهم
والجراحات التي أصابتهم. قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون
رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستة وستون رجلا
من الأنصار، وأربعة من المهاجرين = وقوله:"لكيلا تحزنوا على ما
فاتكم"، يقول: ما فاتكم من غنيمة القوم ="ولا ما أصابكم"، في
أنفسكم من القتل والجراحات.
8060- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال:
فرّة بعد فرّة: الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدًا قد قتل،
والثانية حين رجع الكفار، فضربوهم مدبرين، حتى قتلوا منهم
سبعين رجلا ثم انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا
يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم.
__________
(1) في المطبوعة: "يقدمه" في الموضعين، وهو خطأ لا شك فيه.
(2) في المطبوعة: "يقدمه" في الموضعين، وهو خطأ لا شك فيه.
(3) انظر ما سلف 1: 299، 313 / 2: 411، 412.
(7/305)
8061- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
* * *
وقال آخرون:"بل غمهم الأول كان قتْل من قتل منهم وجرح من جرح
منهم. والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل:"قُتل محمد"، صلى
الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
8062- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"غمًّا بغم"، قال: الغم الأول:
الجراحُ والقتل، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله صلى الله
عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح
والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول:"لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
* * *
8063- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال: الغم
الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من
الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول
الله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
وقال آخرون:"بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة،
والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشِّعب. وذلك أن أبا سفيان
-فيما زعم بعض أهل السير- لما أصاب من المسلمين ما أصاب، وهرب
المسلمون، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في شعب أحد، الذي كانوا ولَّوا إليه عند الهزيمة، فخافوا
أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. (1)
__________
(1) إذا أبيد القوم من أصلهم واستأصلهم عدوهم قيل: "اصطلموا"
بالبناء للمجهول.
(7/306)
*ذكر الخبر بذلك:
8064- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه،
وضع رجل سهمًا في قوسه، فأراد أن يرميَه، فقال:"أنا رسول الله!
"، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا،
وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. (1) فلما
اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم
الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم
الذين قتلوا.
=فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه، نسوا ذلك
الذي كانوا عليه، وهمَّهم أبو سفيان، (2) فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة
لا تُعبَد"! ثم ندَب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال
أبو سفيان يومئذ:"اعْلُ هُبَل! حنظلة بحنظلة، ويوم بيوم بدر"!
= وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جُنُبًا فغسَّلته
الملائكة، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر = وقال أبو
سفيان:"لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم"! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعمر:"قل الله مولانا ولا مولى لكم"! فقال أبو
سفيان: فيكم محمد؟ (3) قالوا: نعم! قال:"أما إنها قد كانت فيكم
مُثْلة، ما أمرتُ بها، ولا نهيتُ عنها، ولا سرَّتني، ولا
ساءتني"! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال:"فأثابكم غمًّا
بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، الغم الأول: ما
فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني:
__________
(1) انظر ما سلف: 256 تعليق: 1، فإني زدت"به" من التاريخ،
ولكنه عاد هنا في المخطوطة فأسقطها، فاتفقت المخطوطة في
الموضعين، فتركت هذه على حالها، وإن كنت لا أرتضيها.
(2) في التاريخ"وأهمهم"، وهمه الأمر وأهمه، سواء في المعنى.
(3) في التاريخ: "أفيكم محمد" بالألف، وهما سواء.
(7/307)
إشراف العدوّ عليهم ="لكيلا يحزنوا على ما
فاتكم"، من الغنيمة ="ولا ما أصابكم" من القتل حين تذكرون.
فشغلهم أبو سفيان. (1)
8065- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر
بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ،
وغيرهم من علمائنا، فيما ذكَروا من حديث أحُد، قالوا: كان
المسلمون في ذلك اليوم -لما أصابهم فيه من شدة البلاء-
أثلاثًا، ثلثٌ قتيل، وثلثٌ جريح، وثلثٌ منهزم، وقد بلغته الحرب
حتى ما يدري ما يصنع = (2) وحتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشِقِّه، وأصيبتْ
رَباعيته، وشجَّ في وجهه، وكُلِمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة
بن أبي وقاص. (3) = (4) وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميئة
الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى
قريش فقال:"قتلت محمدًا". (5)
8066- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فكان
أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول
الناس:"قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم" = كما حدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن
__________
(1) الأثر 8064- تاريخ الطبري 3: 20، 21، وبعضه في الأثرين
السالفين: 7943، 8050، وكلها سياق واحد في التاريخ.
(2) هذه الفقرة من الأثر، لم أجدها في سيرة ابن هشام.
(3) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 84، وانظر
التخريج في آخره. ودثه بالعصا وبالحجر رماه رميًا متتابعًا، أو
ضربه بالعصا ضربًا متقاربًا من وراء الثياب حتى يأخذه الألم.
والشق: الجنب. والكلم: الجرح.
(4) الفقرة التالية من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 77، قبل
السالفة.
(5) الأثر: 8065- هذا أثر ملفق من سيرة ابن إسحاق، كما رأيت في
التعليقين السالفين، وهو فيها من 3: 84 / 3: 77 / والقسم الأول
لم أعثر عليه فيها.
(7/308)
إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري = كعبُ
بن مالك أخو بني سلِمة قال: عرفتُ عينيه تَزْهَران تحت المغفر،
فناديت بأعلى صوتي:"يا معشر المسلمين: أبشروا، هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم"! فأشار إليَّ رسو ل الله أن أنصت. فلما
عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو
الشعب، معه عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن
الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، والحارث بن
الصِّمة، (1) في رهط من المسلمين. (2) .
=قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك
النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"! فقاتل
عمرُ بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين، حتى أهبطوهم عن الجبل.
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُدِّن، فظاهرَ بين
درعين، (3) فلما ذهب لينهض، فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيد
الله، فنهض حتى استوى عليها. (4) .
= ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل ثم صرخ
بأعلى
__________
(1) في المطبوعة: "والحارث بن الصامت"، والصواب من المخطوطة
والمراجع، ولا أدري فيم غيره الناشر الأول!!
(2) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 88، 89.
(3) بدن الرجل تبدينا: ألبسه البدن، أي الدرع. وقد مضى شراح
السيرة، فزعموا أن"بدن" (بالبناء للمعلوم) هنا، معناها: أسن.
قال أبو ذر الخشني في تفسير غريب سيرة ابن هشام: 228"بدن
الرجل، إذا أسن. وبدن، إذا عظم بدنه من كثرة اللحم". وكلا
التفسيرين خطأ هنا، وإن كان صحيحًا في اللغة، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يكن يوم قاتل في أحد مسنًا ولا بلغ في
السن ما يضعفه. وأيضًا فإنه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم،
لم يوصف قط بالبدانة والسمن. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في
حديث الصلاة: "إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود"،
فإنه لم يعن البدانة، وإنما أراد أن الحركة قد ثقلت عليه، كما
تثقل على الرجل البادن. ولو قرئت في"بدن" بالبناء للمعلوم لكان
عربية صحيحة.
وأما قوله: "ظاهر بين درعين"، أي ليس إحداهما على الأخرى،
وكذلك"ظاهر بين ثوبين، أو نعلين"، لبس أحدهما على الآخر.
(4) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 91، وتاريخ
الطبري 3: 21.
(7/309)
صوته:"أنعمْتَ فعالِ! إن الحرب سجال، يوم
بيوم بدر، اعْلُ هُبَل"، أي: أظهر دينك، (1) فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعمر:"قم فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل! لا
سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"! فلما أجاب عمر رضي
الله عنه أبا سفيان، قال له أبو سفيان:"هلم إليَّ يا عمر"!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ائته فانظر ما شأنُه"؟
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟
فقال عمر: اللهمّ لا وإنه ليسمع كلامك الآن!. فقال: أنت أصدقُ
عندي من ابن قميئة وأبرُّ! = (2) لقول ابن قميئة لهم: إنّي
قتلت محمدًا = ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاكم.
مُثْلة، والله ما رضيتُ ولا سخطتُ، ولا نهيت ولا أمرتُ. (3)
8067- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن
إسحاق:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما
أصابكم"، أي: كربًا بعد كرب، قتلُ من قتل من إخوانكم، وعلوّ
عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال:"قُتل نبيكم"،
فكان ذلك مما تتابع عليكم غمًّا بغم ="لكيلا تحزنوا على ما
فاتكم"، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ="ولا ما
أصابكم" من قتل إخوانكم، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم ="والله
خبير بما تعملون"، وكان الذي فرَّج به عنهم ما كانوا فيه من
الكرب والغمّ الذي أصابهم، (4) أن الله عز وجل ردّ عنهم كِذبة
الشيطان بقتل نبيهم. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيًّا بين أظهرهم، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور
عليهم، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم، (5) حين صرف الله
القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. (6)
8068- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال ابن جريج، قال مجاهد: أصاب
الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قُتلوا. فلما
تولَّجُوا في الشعب وهم مصابون، (7) وقف أبو سفيان وأصحابه
بباب الشعب، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم
__________
(1) قوله: "أنعمت"، أي جئت بالسهم الذي فيه"نعم"، و"عال"، أي:
تجاف عنها -عن الأصنام- ولا تذكرها بسوء. يقال: "عال عني، وأعل
عني"، أي تنح. وذلك أن الرجل من قريش من أهل الجاهلية، كان إذا
أراد ابتداء أمر، عمد إلى سهمين فكتب على أحدهما"نعم" وعلى
الآخر"لا"، ثم يتقدم إلى الصنم ويجيل سهامه، فإن خرج سهم"نعم"
أقدم، وإن خرج سهم"لا" امتنع. وكان أبو سفيان لما أراد الخروج
إلى أحد، استفتى هبل، فخرج له سهم الإنعام. فذلك تفسير كلمته.
ومن لطيف أخبار الاستقسام بالأزلام. ما فعل امرؤ القيس، حين
قتل أبوه، فاستقسم عند ذي الخلصة، فأجال سهامه فخرج له السهم
الناهي"لا" ثلاث مرات، فجمع قداحه وكسرها وضرب بها وجه الصنم
وقال له: "مصصت ببظر أمك! لو أبوك قتل ما عقتني!! "، ثم خرج
فقاتل، فظفر. فيقال إنه لم يستقسم بعد ذلك بقدح عند ذي الخلصة
حتى جاء الإسلام، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي، وأبطل الله
أمر الجاهلية كله.
وقد قيل لأبي سفيان يوم الفتح: "أين قولك، أنعمت فعال"؟ فقال:
"قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية".
هذا وقد كان في المطبوعة: "أنعمت فقال إن الحرب سجال"، وهو خطأ
صرف. والحرب سجال: أي مرة لهذا، ومرة لهذا. وقوله: "اعل هبل"
قد شرحه ابن إسحاق، فيظن بعض من يضبط السيرة أنه"أعل" (بهمز
الألف وسكون العين وكسر اللام) وهو خطأ، والصواب أنه أمر
من"علا"، يريد: زد علوًا.
(2) في المطبوعة: "وأشار لقول ابن قميئة"، لم يحسن قراءة
المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام. وقوله: "وأبر"،
من"البر"، وهو الصدق والخير كله.
(3) الأثر 8066- هذا الأثر مجموع من مواضع في السيرة كما أشرت
إليه، وهي في: سيرة ابن هشام 3: 88، 89 / 3: 91، وتاريخ الطبري
3: 21 / والسيرة 3: 99.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان الذي خرج عنهم" بإسقاط"به"
والسياق يقتضى إثباتها، فأثبتها من سيرة ابن هشام.
(5) في المطبوعة: "فهان الظهور عليهم"، وفي المخطوطة: "فهذا
الظهور عليهم" كتب"فهذا" في آخر"السطر" و"الظهور" في أول السطر
التالي، فلم يحسن الناشر قراءتها، والصواب من سيرة ابن هشام.
(6) الأثر: 8067- سيرة ابن هشام 3: 121، 122، وهو تتمة الآثار
التي آخرها: 8057.
(7) في المطبوعة: "فلما تولجوا في الشعب يتصافون"، وهو لا معنى
له، والصواب من المخطوطة إلا أن كاتبها كان قد سقط من كتابته
من أول"وهم مصابون" إلى"باب الشعب"، فكتبها في الهامش.
فاستعجمت على الناشر الأول قراءتها.
(7/310)
فيقتلونهم أيضًا، فأصابهم حزن في ذلك أيضًا
أنساهم حُزنهم في أصحابهم، فذلك قوله:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم" = قال ابن جريج، قوله:"على ما فاتكم"،
يقول: على ما فاتكم من غنائم القوم ="ولا ما أصابكم"، في
أنفسكم.
8069- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن
جريج. قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد بن عمير قال: جاء
أبو سفيان بن حرب ومن معه، حتى وقف بالشعب، ثم نادى: أفي القوم
ابن أبي كبشة؟ (1) فسكتوا، فقال أبو سفيان: قُتل ورب الكعبة!
ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا، فقال: قُتل ورب
الكعبة! ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فسكتوا، فقال: قُتل
ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان: اعل هُبل، يوم بيوم بدر، وحنظلة
بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مَثْلا (2) لم يكن عن رأي
سَراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه! فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لعمر بن الخطاب: قم فناد فقل: الله أعلى وأجل! نعم
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا!
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون،
قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
__________
(1) "ابن أبي كبشة"، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك
كان المشركون يذكرون رسول الله. فقيل إن"أبا كبشة"، رجل من
خزاعة، خالف قريشًا في عبادة الأوثان وعبد الشعري العبور،
فذكروه بذلك لمخالفته إياهم إلى عبادة الله تعالى، كما خالفهم
أبو كبشة إلى عبادة الشعري. ويقال: إنها كنية وهب بن عبد مناف،
جد رسول الله من قبل أمه، فنسب إليه، لأنه نزع إليه في الشبه.
ويقال: هي كنية زوج حليمة السعدية التي أرضعته صلى الله عليه
وسلم.
(2) في المخطوطة: "وأنتم واحد ورقى القوم سلا"، وهو كلام"فاسد"
صوابه في المطبوعة. والمثل (بفتح الميم وسكون الثاء) مصدر"مثل
بالقتيل" إذا جدع أنفه، أو أذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه
وجسده، طلب التشويه لجثته. والاسم"المثلة" (بضم الميم وسكون
الثاء) .
(7/312)
8070- حدثني به محمد بن سعد قال: حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إذ
تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"، فرجعوا
فقالوا: والله لنأتينهم، ثم لنقتلنهم! قد جرحوا منا! (1) فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا؛ فإنما أصابكم الذي أصابكم
من أجل أنكم عصيتموني! فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم قد
ائتشبوا وقد اخترطوا سيوفهم، (2) فكان غمَّ الهزيمة وغمهم حين
أتوهم ="لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من القتل ="ولا ما
أصابكم"، من الجراحة ="فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا" الآية،
وهو يوم أحد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من
قال:"معنى قوله:"فأثابكم غمًّا بغم،" أيها المؤمنون، بحرمان
الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم، والنصر عليهم، وما
أصابكم من القتل والجراح يومئذ -بعد الذي كان قد أراكم في كل
ذلك ما تحبون- بمعصيتكم ربَّكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله
عليه وسلم، غمَّ ظنَّكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل،
وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم. (3) .
والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه،
قوله:"لكيلا تحزنوا
__________
(1) في المطبوعة: "قد خرجوا منا"، وأسقطها السيوطى في الدر
المنثور 2: 87، فاستظهر ناشر الطبعة السالفة إسقاطها كما فعل
السيوطي، وهي في المخطوطة: "قد حرحوا منا"، غير منقوطة، كما
أثبتها وصواب قراءتها ما أثبت. ومعنى: "جرحوا منا"، أي أصابوا
بعضنا بالجراحات والقتل، وبلغوا في ذلك مبلغًا. ولم تثبت كتب
اللغة ذلك، ولكنه عربي معرق عتيق، وما كل اللغة تثبته كتب
اللغة، وخاصة مجاز العبارات.
(2) في المطبوعة: "قد أنسوا وقد اخترطوا سيوفهم"، وفي الدر
المنثور 2: 87" قد ايسوا" وفي المخطوطة: "قد انسوا" غير
منقوطة، والذي في المطبوعة والدر لا معنى له، وقد رجحت
قراءتها. تأشب القوم وائتشبوا: انضم بعضهم لبعض واجتمعوا
والتفوا، وفي الحديث"فتأشب أصحابه إليه"، أي اجتمعوا إليه
وطافوا به. وأصله من"أشب الشجر"، إذا التف وكثر حتى ضاقت فرجه،
وحتى لا مجاز فيه لمجتاز.
(3) قوله: "بعد فلولكم منهم" يعني: بعد هزيمتكم وفراركم منهم،
ولم تصرح كتب اللغة بفعل ثلاثي لازم مصدره"فلول"، بل قالوا:
"فله يفله، فانفل"، ولكن يرجح صواب ما في نص الطبري أنه جاء في
أمثالهم: "من فل ذل"، أي من فر عن عدوه ذل. وأما ابن كثير فقد
نقل في تفسيره 2: 270 نص الطبري هذا، وفيه"ونبوكم منهم"، وليست
بشيء، وكأن الصواب ما في التفسير، فهو جيد في العربية.
(7/313)
على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، والفائت، لا
شك أنه هو ما كانوا رجَوْا الوصول إليه من غيرهم، إما من ظهور
عليهم بغلَبهم، وإما من غنيمة يحتازونها = وأنّ قوله:"ولا ما
أصابكم"، هو ما أصابهم: إما في أبدانهم، وإما في إخوانهم.
فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن"الغم" الثاني هو معنًى غير هذين.
لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أنه أثابهم غمًّا بغم لئلا يحزنهم ما
نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل
ذلك في أنفسهم، وهو الغم الأول، على ما قد بيناه قبل.
* * *
وأما قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، فإن
تأويله على ما قد بيَّنت، من أنه:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"،
فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم
والظهور، وحيازة غنائمهم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم. من جرح
من جرح وقتل من قتل من إخوانكم.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبلُ على السبيل التي
اختلفوا فيه، كما:-
8071- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، قال: على ما
فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ="ولا تحزنوا على ما
أصابكم"، من الهزيمة.
* * *
وأما قوله:"والله خبير بما تعملون"، فإنه يعني جل ثناؤه: والله
بالذي تعملون، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هربًا من
عدوكم، وانهزامكم
(7/314)
منهم، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم،
وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم وما أصابكم في أنفسكم = ذو خبرة
وعلم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم به: المحسنَ منكم
بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، أو يعفو عنه.
* * *
(7/315)
ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله، أيها
المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله
="أمنة"، وهي الأمان، (1) على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون
أهل النفاق والشك.
* * *
ثم بين جل ثناؤه، عن"الأمنة" التي أنزلها عليهم، ما هي؟ فقال
="نعاسًا"، بنصب"النعاس" على الإبدال من"الأمنة".
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"يغشى".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين
بالتذكير بالياء: (يَغْشَى) .
* * *
وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث: (تَغْشَى) بالتاء.
* * *
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير، إلى أن النعاس هو الذي يغشى
الطائفة من
__________
(1) انظر تفسير"الأمن" فيما سلف 3: 29 / 4: 87.
(7/315)
المؤمنين دون الأمَنة، فذكَّره
بتذكير"النعاس".
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث، إلى أنّ الأمَنة هي التي
تغشاهم فأنثوه لتأنيث"الأمنة".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان
معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، غير مختلفتين في معنى ولا
غيره. لأن"الأمنة" في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس هو
الأمنة. فسواء ذلك، (1) وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ
في قراءته. وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله:
(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ
تَغْلِي فِي الْبُطُونِ) [سورة الدخان: 43-45] و (أَلَمْ يَكُ
نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى) [سورة القيامة: 37] ،
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ) [سورة
مريم: 25] . (2) .
* * *
فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان
اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما، فأمِنت
إحداهما بنفسها حتى نعست، وأهمَّت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله
غير الحق ظن الجاهلية؟
قيل: كان سبب ذلك فيما ذكر لنا، كما:-
8072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي
كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم
بدرًا من قابلٍ، فقال نعم! نعم! فتخوف المسلمون أن ينزلوا
المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال:
__________
(1) في المطبوعة: "وسواء ذلك" بالواو، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 240.
(7/316)
"انظر، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم
وجنبوا خيولهم، (1) فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على
خيولهم وجنبوا أثقالهم، (2) فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا
الله واصبروا" ووطَّنهم على القتال. فلما أبصرهم الرسولُ قعدوا
على الأثقال سراعًا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم. فلما رأى
المؤمنون ذلك صدَّقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا،
وبقى أناس من المنافقين يظنون أنّ القوم يأتونهم. فقال الله جل
وعز، يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا
الأثقال فإنهم منطلقون فناموا:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة
نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ويظنون بالله
غير الحقّ ظن الجاهلية".
8073- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: أمَّنهم يومئذ بنعاس غشَّاهم. وإنما
ينعُسُ من يأمن ="يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم
يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية".
8074- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس
بن مالك، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد
أمنة، حتى سقط من يدي مرارًا = قال أبو جعفر: يعني سوطه، أو
سيفه.
8075- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت
رأسي يوم أحُد، فجعلت ما أرى أحدًا من القوم إلا تحت حجفته
يميد من النعاس. (3) .
__________
(1) الأثقال جمع ثقل (بفتحتين) : وهو متاع المسافر، وعنى به
الإبل التي تحمل المتاع. وجنب الفرس والأسير وغيره: قاده إلى
جنبه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 87: "وجنبوا على
أثقالهم"، والصواب الذي لا شك فيه حذف"على".
(3) "الحجفة": ضرب من الترسة، تتخذ من جلود الإبل مقورة، يطارق
بعضها على بعض، ليس فيه خشب، وهي الحجفة والدرقة."ماد يميد":
مال وتحرك واضطرب.
(7/317)
8076- حدثنا ابن بشار وابن المثني قالا
حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، عن أبي
طلحة قال: كنت فيمن صبَّ عليه النعاس يوم أحد.
8077- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال، حدثنا أنس بن مالك: عن أبي طلحة: أنه كان يومئذ ممن غشِيه
النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه، من النعاس.
8078- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، عن أنس: أن أبا طلحة حدثهم: أنه
كان يومئذ ممن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه،
ويسقط وآخذه، ويسقط = والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم
همَّة إلا أنفسهم،"يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، الآية
كلها.
8079- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا ضرار بن صُرد
قال، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد العزيز، عن
الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: سألت
عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل:"ثم أنزل عليكم من بعد
الغم أمَنةً نعاسًا". قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
8080- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، الآية، وذاكم
يوم أحد، كانوا يومئذ فريقين، فأما المؤمنون فغشّاهم الله
النعاس أمنةً منه ورحمة.
8081- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع بن أنس، نحوه.
8082- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقي عليهم
النعاس، فكان ذلك أمنةً لهم.
(7/318)
8083- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال، قال عبد
الله: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان.
8084- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ثم أنزل
عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، قال: أنزل النعاس أمنة منه
على أهل اليقين به، فهم نيامٌ لا يخافون. (1)
8085- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقى الله عليهم
النعاس، فكان"أمنة لهم". وذكر أن أبا طلحة قال: ألقي عليًّ
النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي.
8086- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن إدريس قال، حدثنا
حماد بن سلمة قال، أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة =
وهشام بن عروة، عن عروة، عن الزبير، أنهما قالا لقد رفعنا
رءوسنا يوم أحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يميل
بجنب حجفته. قال: وتلا هذه الآية:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم
أمنةً نعاسًا".
* * *
__________
(1) الأثر: 8084- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو من تتمة الأثار
التي آخرها: 8067.
(7/319)
القول في تأويل قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وطائفة منكم"، أيها
المؤمنون ="قد أهمتهم أنفسهم"، يقول: هم المنافقون لا هم لهم
غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم، وخوف المنية عليها
في شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة،
ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكًا في أمر الله، وتكذيبًا
لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمحْسَبة منهم أن الله خاذل نبيه
ومُعْلٍ عليه أهل الكفر به، (1) يقولون: هل لنا من الأمر من
شيء. كالذي:-
8087- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: والطائفة الأخرى: المنافقون، ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم،
أجبن قوم وأرعبُه وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنونًا
كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله: (يَقُولُونَ لَوْ
كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ
لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) .
8088- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: والطائفة الأخرى المنافقون،
ليس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية،
(يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَا هُنَا) قال الله عز وجل: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الآية.
8089- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وطائفة
__________
(1) حسب الشيء يحسبه (بكسر السين) حسبانًا (بكسر الحاء) ومحسبة
ومحسبة (بكسر السين وفتحها) ، ظنه طنًا.
(7/320)
قد أهمتهم أنفسهم"، قال: أهل النفاق قد
أهمتهم أنفسهم تخوُّف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبةٌ. (1)
8090- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" إلى آخر الآية، قال: هؤلاء
المنافقون.
* * *
وأما قوله:"ظنّ الجاهلية"، فإنه يعني أهل الشرك. كالذي:-
8091- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"ظنّ الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك.
8092- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ظن الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وفي رفع قوله:"وطائفة"، وجهان.
أحدهما، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله:"قد أهمتهم".
والآخر: بقوله:"يظنون بالله غير الحق"، ولو كانت منصوبة كان
جائزًا، وكانت"الواو"، في قوله:"وطائفة"، ظرفًا للفعل، بمعنى:
وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ) [سورة الذاريات: 47] . (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 8089- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8084.
(2) قد استقصى هذا الباب من العربية، الفراء في معاني القرآن
1: 240 - 242.
(7/321)
القول في تأويل قوله: {يَقُولُونَ هَلْ
لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَا هُنَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك الطائفة المنافقةَ التي قد أهمَّتهم
أنفسهم، يقولون: ليس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله
لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا
فقتلونا. كما:-
8093- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قيل لعبد الله بن أبيّ: قُتل بنو الخزرج اليوم! قال:
وهل لنا من الأمر من شيء؟ قيل إنّ الأمر كله لله!. (1)
* * *
وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين:"إن الأمر كله لله"،
يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ.
ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال:"يُخفون في
أنفسهم ما لا يبدون لك" يقول: يخفي، يا محمد، هؤلاء المنافقون
الذين وصفتُ لك صفتهم، في أنفسهم من الكفر والشك في الله، ما
لا يبدون لك. ثم أظهر نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا
يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع
المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرًا عن قيلهم الكفرَ وإعلانهم
النفاقَ بينهم:"يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا
ههنا"، يعني بذلك، أنّ هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج
إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا
__________
(1) في المطبوعة: "قل إن الأمر كله لله" كنص الآية، وأثبت ما
في المخطوطة.
(7/322)
إليهم، ولا قُتل منا أحد في الموضع الذي
قتلوا فيه بأحد.
* * *
وذكر أن ممن قال هذا القول، معتّب بن قشير، أخو بني عمرو بن
عوف.
*ذكر الخبر بذلك:
8094- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، قال، قال ابن إسحاق:
حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد
الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله إنّي لأسمع قول معتِّب
بن قشير، أخي بني عمرو بن عوف، والنعاسُ يغشاني، ما أسمعه إلا
كالحلم حين قال: لوْ كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا!
(1)
8095- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي، عن ابن إسحاق
قال، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن
عبد الله بن الزبير، عن أبيه، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ
كُلَّهُ) ، بنصب"الكل" على وجه النعت لـ"الأمر" والصفة له.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل البصرة: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ) برفع"الكل"، على توجيه"الكل" إلى أنه اسم، وقوله"لله"
خبره، كقول القائل:"إن الأمر بعضه لعبد الله. (2) .
* * *
وقد يجوز أن يكون"الكل" في قراءة من قرأه بالنصب، منصوبًا على
البدل.
* * *
__________
(1) لم أجد نص الخبر في سيرة ابن هشام، في خبر أحد، ولكني وجدت
معناه والإشارة إليه قبل أحد في ذكر من اجتمع إلى يهود من
منافقي الأنصار 2: 169.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 243.
(7/323)
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة
عندنا، النصبُ في"الكل" لإجماع أكثر القرأة عليه، من غير أن
تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية. ولو كانت القراءة
بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة، لكانت سواءً عندي القراءةُ
بأيِّ ذلك قرئ، لاتفاق معاني ذلك بأيَ وجهيه قرئ.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُور (154) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، للذين وصفت لك
صفتهم من المنافقين: لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين
مشهدهم، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين، فيظهرَ
للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم، وتكتمونه من شككم في دينكم
(1) ="لبرز الذين كُتب عليهم القتل"، يقول: لظهر للموضع الذي
كتب عليه مصرعه فيه، من قد كتب عليه القتل منهم، (2) ولخرج من
بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كُتب عليه أن يصرع فيه. (3)
.
* * *
وأما قوله:"وليبتلي الله ما في صدوركم"، فإنه يعني به: وليبتلي
الله ما في صدوركم، أيها المنافقون، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى
مضاجعكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من شرككم في دينكم"، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"برز" فيما سلف 5: 354.
(3) في المطبوعة: "ويخرج من بيته"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(7/324)
ويعني بقوله:"وليبتلي الله ما في صدوركم"،
وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك، فيميِّزكم = بما يظهره
للمؤمنين من نفاقكم = من المؤمنين. (1)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أنّ معاني نظائر قوله:"ليبتلي الله"
و"وليعلم الله" وما أشبه ذلك، وإن كان في ظاهر الكلام مضافًا
إلى الله الوصف به، فمرادٌ به أولياؤه وأهل طاعته = (2) وأنّ
معنى ذلك: وليختبر أولياءُ الله، وأهل طاعته الذي في صدوركم من
الشك والمرض، فيعرفوكم، [فيميّزوكم] من أهل الإخلاص واليقين
="وليمحص ما في قلوبكم"، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من
الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة
أو الولاية. (3)
* * *
"والله عليم بذات الصدور"، يقول: والله ذو علم بالذي في صدور
خلقه من خير وشر، وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم،
سرائرها علانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعهم
جزاءهم على قدر استحقاقهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول:
8096- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ذكر
الله تلاومَهم -يعني: تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما
أصابهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل:"لو كنتم في
بيوتكم"، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه
منكم ما أظهر من سرائركم، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن
غيره يصرعون فيه، حتى يبتلي به ما في صدوركم ="وليمحص ما في
قلوبكم والله عليم بذات الصدور"، أي لا يخفى عليه ما في
صدورهم، (4)
__________
(1) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 7: 297 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 246، تعليق 2، / ثم انظر 3: 160 -
162.
(3) انظر تفسير"محص" فيما سلف ص: 244.
(4) في المطبوعة"لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم"، وفي
المخطوطة"لا يخفى عليه شيء ما في صدورهم"، وضرب بالقلم
على"شيء"، ولكن الناشر آثر إثباتها، وجعل"ما""مما"، والصواب
المطابق لنص السيرة هو ما أثبت.
(7/325)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
مما اسْتَخْفَوْا به منكم. (1)
8097- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن
مسلم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: سئل عن
قوله:"قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى
مضاجعهم"، قال: كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله،
وليس كل من يقاتل يُقتل، ولكن يُقتل من كَتب الله عليه القتل.
(2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين ولَّوا عن
المشركين، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
وانهزموا عنهم.
* * *
وقوله:"تولَّوا"،"تفعَّلوا"، من قولهم:"ولَّى فلان ظهره". (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 8096- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8089.
(2) الأثر: 8097-"الحارث بن مسلم الرازي المقرئ"، روى عن
الثوري، والربيع بن صبيح وغيرهما. قال أبو حاتم: "الحارث بن
مسلم، عابد، شيخ ثقة صدوق. رأيته وصليت خلفه". مترجم في ابن
أبي حاتم 1 / 2 / 88.
و"بحر السقاء"، هو"بحر بن كنيز الباهلي السقاء أبو الفضل" روي
عن الحسن، والزهري وقتادة. وهو جد"عمرو بن علي الفلاس". وروى
عنه الثوري وكناه ولم يسمه، قال يحيى بن سعيد القطان: "كان
سفيان الثوري يحدثني، فإذا حدثني عن رجل يعلم أني لا أرضاه
كناه لي، فحدثني يوما قال حدثني أبو الفضل، يعني بحرًا
السقاء". وقال يحيى بن معين: "بحر السقاء، لا يكتب حديثه". وهو
متروك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 418.
(3) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162، 299 / 3: 115، 131 / 4:
237 / 6: 283، 291، 477، 483.
(7/326)
وقوله:"يوم التقى الجمعان"، يعني: يوم
التقى جمعُ المشركين والمسلمين بأحد ="إنما استزلهم الشيطان"،
أي: إنما دعاهم إلى الزّلة الشيطانُ.
* * *
وقوله"استزل""استفعل" من"الزلة". و"الزلة"، هي الخطيئة. (1)
* * *
="ببعض ما كسبوا"، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب (2) . ="ولقد
عفا الله عنهم"، يقول: ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح
لهم عنه (3) ="إن الله غفور"، يعني به: مغطّ على ذنوب من آمن
به واتبع رسوله، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها ="حليم"، يعني
أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. (4)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عُنوا بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها كلُّ من ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين
بأحد.
*ذكر من قال ذلك:
8098- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال،
حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خطب عمر يوم الجمعة فقرأ"آل
عمران"، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى
قوله:"إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال: لما كان
يوم أحد هزمناهم، ففررتُ حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو
كأنني أرْوَى، (5) والناس يقولون:"قُتل محمد"! فقلت: لا أجد
أحدًا يقول:"قتل محمد"، إلا قتلته!. حتى اجتمعنا على الجبل،
فنزلت:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية كلها.
(6)
__________
(1) انظر تفسير: "زل" فيما سلف 1: 524، 525 / 4: 259، 260.
(2) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 101، 128 / 4:
449 / 6: 131، 295.
(3) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"غفور حليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) "أنزو": أثبت، والنزو الوثب. والأروى: أنثى الوعول، وهي
قوية على التصعيد في الجبال.
(6) الأثر: 8098-"أبو هشام الرفاعي" هو"محمد بن يزيد بن محمد
بن كثير"، مضى في رقم: 3286، 4557، 4888، وغيرها. و"أبو بكر بن
عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط"، قيل اسمه"محمد"، وقيل:
"عبد الله" وقيل وقيل، ولكن الحافظ قال: "والصحيح أن اسمه
كنيته، كان حافظًا متقنًا، ولكنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم
إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، كما قال
ابن حبان". مترجم في التهذيب.
و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وأبي
بردة بن أبي موسى، ومحمد بن كب القرظي، وغيرهم. روى عنه ابن
عون وشعبة وشريك والسفيانان وغيرهم. قال أحمد: "لا بأس
بحديثه"، وقال النسائي وابن معين: "ثقة". وكان من العباد، ولم
يكن كثير الحديث. مترجم في التهذيب.
وأبوه: "كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وعن
خاله الفلتان بن عاصم، وعمر، وعلي، وسعد، وأبي ذر، وأبي موسى،
وأبي هريرة وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة، ورأيتهم يستحسنون
حديثه ويحتجون به". مترجم في التهذيب.
(7/327)
8099- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى
الجمعان"، الآية، وذلك يوم أحد، ناس من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبيّ الله يومئذ، وكان ذلك
من أمر الشيطان وتخويفه، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون: أنه قد
تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم.
8100- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الذين تولوا منكم
يوم التقى الجمعان"، الآية، فذكر نحو قول قتادة.
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك خاصٌّ ممن ولَّى الدبر يومئذ، قالوا:
وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم.
*ذكر من قال ذلك:
8101- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط،
عن السدي قال: لما انهزموا يومئذ، تفرّق عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم
(7/328)
أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم
فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، فذكر الله عز وجل الذين
انهزموا فدخلوا المدينة فقال:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى
الجمعان"، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين.
*ذكر من قال ذلك:
8102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال عكرمة قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى
الجمعان"، قال: نزلت في رافع بن المعلَّى وغيره من الأنصار،
وأبي حُذيفة بن عتبة ورجل آخر = قال ابن جريج: وقوله:"إنما
استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم
يعاقبهم.
8103- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فرّ
عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان -رجلان من
الأنصار- حتى بلغوا الجلْعَب = (1) جبل بناحية المدينة مما يلي
الأعوص - فأقاموا به ثلاثًا، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضةً!! (2)
8104- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:"إن
الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض
ما كسبوا" الآية،
__________
(1) "الجلعب" ضبطه البكري بفتح الجيم وسكون اللام وفتح العين،
وضبطه ياقوت بفتح الجيم واللام وسكون العين، وقال: وقد تناء
بعضهم في الشعر كعادتهم في أمثاله فقال (من أبيات صححتها، ففي
مطبوعة معجم البلدان خطأ كثير) : فَمَا فَتِئَتْ ضُبْعُ
الجَلَعْبَيْنِ تَعْتَرى ... مَصَارِعَ قَتْلَى فِي التُّرَابِ
سِبَالُهَا
(2) قوله: "لقد ذهبتم فيها عريضة"، أي واسعة. والضمير في قوله:
"فيها" إلى"الأرض"، يقول: لقد اتسعت منادح الأرض في وجوهكم حين
فررتم، فأبعدتم المذهب، يتعجب من فعلهم. هذا، ولم أجد الأثر في
سيرة ابن هشام.
(7/329)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ
كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
والذين استزلهم الشيطان: عثمان بن عفان،
وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، الأنصاريان، ثم الزّرَقَّيان
(1) .
* * *
وأما قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، فإن معناه: ولقد تجاوز الله
عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم بتوليهم عن
عدوّهم. كما:-
8105- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، يقول:"ولقد عفا الله
عنهم"، إذ لم يعاقبهم.
8106- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله في تولِّيهم يوم أحد:"ولقد عفا الله عنهم"، فلا أدري أذلك
العفو عن تلك العصابة، أم عفوٌ عن المسلمين كلهم؟.
* * *
وقد بينا تأويل قوله:"إن الله غفور حليم"، فيما مضى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدَّقوا الله
ورسوله وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله، لا تكونوا كمن
كفر بالله وبرسوله، فجحد نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال
لإخوانه من أهل الكفر ="إذا ضربوا في الأرض"
__________
(1) الأثر: 8104- لم أجد هذا الأثر أيضًا في سيرة ابن هشام.
(2) انظر ما سلف 5: 117، 521.
(7/330)
فخرجوا من بلادهم سفرًا في تجارة ="أو
كانوا غُزًّى"، يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاةً فهلكوا
فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم ="لو كانوا عندنا ما ماتوا
وما قتلوا"، يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار أنهم يقولون لمن
غزا منهم فقتل، أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله، أو تجارة:
لو لم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا في بلادهم ما
ماتوا وما قتلوا ="ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، يعني: أنهم
يقولون ذلك، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنًا في قلوبهم وغمًّا،
ويجهلون أن ذلك إلى الله جل ثناؤه وبيده.
* * *
وقد قيل: إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبَّهوا
بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله، هم عبد الله بن أبي
ابن سلول وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
8107- حدثني محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا
لإخوانهم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي.
8108- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا
في الأرض أو كانوا غُزًّى"، قول المنافق عبد الله بن أبي ابن
سلول.
8109- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون في ذلك: هم جميع المنافقين.
*ذكر من قال ذلك:
8110- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها
(7/331)
الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا
لإخوانهم" الآية، أي: لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم
عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة
رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا وما
قُتلوا. (1)
* * *
وأما قوله:"إذا ضربوا في الأرض"، فإنه اختلف في تأويله. (2)
فقال بعضهم: هو السفر في التجارة، والسير في الأرض لطلب
المعيشة.
*ذكر من قال ذلك:
8111- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا ضربوا في الأرض"، وهي التجارة.
* * *
وقال آخرون: بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
8112- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذا
ضربوا في الأرض"، الضربُ في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله.
(3)
* * *
وأصل"الضرب في الأرض"، الإبعاد فيها سيرًا. (4)
* * *
وأما قوله:"أو كانوا غُزًّى"، فإنه يعني: أو كانوا غزاة في
سبيل الله.
* * *
و"الغزَّى" جمع"غاز"، جمع على"فعَّل" كما يجمع"شاهد""شهَّد"،
و"قائل""قول"،. وقد ينشد بيت رؤبة:
__________
(1) الأثر: 8110- سيرة ابن هشام 3: 122، 123، وهو تتمة الآثار
التي آخرها: 8096.
(2) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593، ومجاز القرآن
لأبي عبيدة 1: 106.
(3) الأثر: 8112- سيرة ابن هشام 3: 122، 123، وهو بعض الأثر
السالف: 8110، وتتمته.
(4) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593، ومجاز القرآن
لأبي عبيدة 1: 106.
(7/332)
فاليوم قَدْ نَهْنَهِني تَنَهْنُهِي ...
وَأوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالمُسَفَّهِ وَقُوَّلٌ: إلا دَهٍ فَلا
دَهِ (1)
وينشد أيضًا:
وقَوْلُهُمْ: إلا دَهٍ فَلا دَهِ *
* * *
وإنما قيل:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا
في الأرض أو كانوا غزى"، فأصحبَ ماضي الفعل، الحرفَ الذي لا
يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل، فقيل:"وقالوا لإخوانهم"، ثم
قيل:"إذا ضربوا"، وإنما يقال في الكلام:"أكرمتك إذْ زرتني"،
ولا يقال:"أكرمتك إذا زرتني". لأن"القول" الذي في قوله:"وقالوا
لإخوانهم"، وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى
__________
(1) ديوانه: 166، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 106، ومشكل
القرآن: 438، وجمهرة الأمثال: 23، وأمثال الميداني 1: 38،
والخزانة 3: 90، واللسان (قول) (دها) ، وغيرها كثير، وسيأتي في
التفسير 24: 66 (بولاق) . وهو من قصيدته التي يذكر فيها نفسه
وشبابه، وقد سلفت منها عدة أبيات في مواضع متفرقة.
"نهنهت فلانًا عن الشيء فتنهنه"، أي: زجرته فانزجر، وكففته
فانكف. و"الأول": الرجوع. يقول: قد كفني عن الصبا طولى عتابي
لنفسي وملامتي إياها، ورجوع عقل لا يوصف بالسفه، بعد جنون
الشباب، ثم قول الناس: "إلا ده، فلا ده".
وقد اختلف في تفسير"إلا ده فلا ده"، اختلاف كثير، قال أبو
عبيدة: "يقول إن لم يكن هذا فلا ذا. ومثل هذا قولهم: إن لم
تتركه هذا اليوم فلا تتركه أبدًا، وإن لم يكن ذاك الآن، لم يكن
أبدًا". وقال ابن قتيبة: "يريدون: إن لم يكن هذا الأمر لم يكن
غيره. . . ويروى أهل العربية أن الدال فيه مبدلة من ذال، كأنهم
أرادوا: إن لم تكن هذه، لم تكن أخرى".
وقال أبو هلال: "قال بعضهم: يضرب مثلا للرجل يطلب شيئًا، فإذا
منعه طلب غيره. وقال الأصمعي: لا أدري ما أصله! وقال غيره:
أصله أن بعض الكهان تنافر إليه رجلان فامتحناه، فقالا له: في
أي شيء جئناك؟ قال: في كذا، قالا: لا! فأعاد النظر وقال: إلا
ده فلا ده - أي: إن لم يكن كذا فليس غيره، ثم أخبرهما. . .
وكانت العرب تقول، إذا رأى الرجل ثأره: إلا ده فلا ده - أي: إن
لم يثأر الآن، لم يثأر أبدًا".
ومهما يكن من أصله، فإن رؤبة يريد: زجرني عن ذلك كف نفسي عن
الغي، وأوبة حلم أطاره جنون الشباب، وقول ناصحين يقول: إن لم
ترعو الآن عن غيك، فلن ترعوى ما عشت!
(7/333)
المستقبل. وذلك أن العرب تذهب بـ"الذين"
مذهب الجزاء، وتعاملها في ذلك معاملة"من" و"ما"، لتقارب معاني
ذلك في كثير من الأشياء، وإن جميعهنّ أشياء (1) مجهولات غير
موقتات توقيت"عمرو" و"زيد". (2) .
فلما كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا في الكلام فصيحًا أن يقال
للرجل:"أكرمْ من أكرمك""وأكرم كل رجل أكرمك"، فيكون الكلام
خارجًا بلفظ الماضي مع"من"، و"كلٍّ"، مجهولَيْنِ ومعناه
الاستقبال، (3) إذ كان الموصوف بالفعل غير مؤقت، وكان"الذين"
في قوله:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في
الأرض"، غير موقَّتين، (4) = أجريت مجرى"من" و"ما" في ترجمتها
التي تذهب مذهب الجزاء، (5) وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من
الأفعال وهي بمعنى الاستقبال، كما قال الشاعر في"ما": (6)
وإنّي لآتِيكُمْ تَشَكُّرَ مَا مَضَى ... مِنَ الأمْرِ
واسْتِيجَابَ مَا كَانَ فِي غَدِ (7)
فقال:"ما كان في غد"، وهو يريد: ما يكون في غد. ولو كان أراد
الماضي لقال:"ما كان في أمس"، ولم يجز له أن يقول:"ما كان في
غد".
ولو كان"الذي" موقَّتًا، لم يجز أن يقال ذلك. خطأ أن
يقال:"لتُكرِمن
__________
(1) في المطبوعة: "وأن جمعهن أشياء. . ."، وهو خطأ صوابه من
المطبوعة.
(2) الموقت، والتوقيت: هو المعرفة المحددة، والتعريف المحدد،
وهو الذي يعني سماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد، مثل"زيد"، فإنه
يعين مسماه تعيينًا مطلقًا، أو محددًا. وانظر ما سلف 1: 181،
تعليق: 1 / 2: 339. والمجهول: غير المعروف، وهو النكرة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة"مع من وكل مجهول"، والصواب ما أثبت،
ويعني بقوله"مجهولين": نكرتين.
(4) "موقتين" جمع"موقت" بالياء والنون، وهي المعرفة كما سلف.
والسياق"وكان الذين.. .. .. غير موقتين"، لأن"الذين" جمع،
فوصفها بالجمع.
(5) في المخطوطة"التي تذهب الجزاء"، وفي معاني القرآن للفراء
1: 243: "لأن"الذين" يذهب بها إلى معنى الجزاء، من: من، وما".
فالتصرف الذي ذهب إليه الناشر الأول صواب جيد جدًا."والترجمة"
هنا: التفسير والبيان.
(6) هو الطرماح بن حكيم.
(7) مضى تخريج البيت وشرحه فيما سلف 2: 351، تعليق: 5.
(7/334)
هذا الذي أكرمك إذا زرته"، (1) لأن"الذي"
ههنا موقّت، فقد خرج من معنى الجزاء، ولو لم يكن في
الكلام"هذا"، لكان جائزًا فصيحًا، لأن"الذي" يصير حينئذ مجهولا
غير موقت. ومن ذلك قول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة الحج: 25]
فردّ"يصدون" على"كفروا"، لأن"الذين" غير موقتة. فقوله:"كفروا"،
وإن كان في لفظ ماض، فمعناه الاستقبال، وكذلك قوله: (إِلا مَنْ
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سورة مريم: 60] وقوله:
(إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة: 34] ، معناه: إلا الذين يتوبون من
قبل أن تقدروا عليهم = وإلا من يتوب ويؤمن. ونظائر ذلك في
القرآن والكلام كثير، والعلة في كل ذلك واحدة. (2) .
* * *
وأما قوله:"ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، فإنه يعني بذلك:
حزنًا في قلوبهم، (3) كما:-
8113- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في قلوبهم"، قال: يحزنهم
قولهم، لا ينفعهم شيئًا.
8114- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
8115- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ليجعل
الله ذلك حسرة في قلوبهم"، لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"خطأ أن يقال لك من هذا الذي. . ." أخطأ قراءة
المخطوطة فجعل"لتكرمن""لك من" وهو فاسد، والصواب ما أثبت، وهو
الذي يدل عليه السياق.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 243، 244.
(3) انظر تفسير"الحسرة" فيما سلف 3: 295 - 299.
(4) الأثر: 8115- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8110، 8112.
(7/335)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله يحيي ويميت) والله
المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء، (1) والمميت من يشاء
كلما شاء، دون غيره من سائر خلقه.
وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه
والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم
وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله = وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة
والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله
الذي كتب له = ونهيٌ منه لهم، إذ كان كذلك، أن يجزعوا لموت من
مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين.
* * *
ثم قال جل ثناؤه:"والله بما تعملون بصيرٌ"، يقول: إن الله يرى
ما تعملون من خير وشر، فاتقوه أيها المؤمنون، إنه محصٍ ذلك
كله، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق.
8116- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله
يحيي ويميت"، أي: يعجل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من آجالهم
بقدرته. (2)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون سقط من الناسخ بعض تفسير الآية، وكأنه كان:
"والله المؤخر أجل من يشاء من حيث شاء، وهو المعجل. . ."،
وانظر الأثر الآتي رقم: 8116.
(2) الأثر: 8116- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8115.
(7/336)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) }
قال أبو جعفر: يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين، يقول لهم: (1)
لا تكونوا، أيها المؤمنون، في شك من أن الأمور كلها بيد الله،
وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شك المنافقون في ذلك، ولكن
جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله، على يقين منكم بأنه
لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته.
ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ، وأخبرهم أن
موتًا في سبيل الله وقتلا في الله، (2) خير لهم مما يجمعون في
الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن
الجهاد في سبيل الله، ويتأخرون عن لقاء العدو، كما:-
8117- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن
قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما
يجمعون"، أي: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله أو
قتل، خير = لو علموا فأيقنوا = مما يجمعون في الدنيا التي لها
يتأخرون عن الجهاد، تخوفًا من الموت والقتل لما جمعوا من زَهرة
الدنيا، وزهادةً في الآخرة. (3) .
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قال الله عز وجل:"لمغفرة من الله ورحمة
خير مما يجمعون"، وابتدأ الكلام:"ولئن متم أو قتلتم" بحذف
جواب"لئن"، (4) لأن في قوله:
__________
(1) في المطبوعة: "فخاطب"، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وقتلا" وأثبت ما في المخطوطة، وهو أجود.
(3) الأثر: 8117- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8116. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "لما جمعوا من زهيد
الدنيا" وهو تحريف، والصواب من سيرة ابن هشام. وزهرة الدنيا:
حسنها وبهجتها وغضارتها، وكثرة خيرها، ورغيد عيشها. وفي سيرة
ابن هشام: "زهادة في الآخرة"، بغير واو.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"بحذف جزاء لئن"، وهو خطأ بين وتصحيف
من الناسخ، سقطت منه باء"جواب" فكتب"جزاء".
(7/337)
"لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"
معنى جواب للجزاء، (1) وذلك أنه وَعدٌ خرج مخرج الخبر.
* * *
فتأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، ليغفرن الله
لكم وليرحمنّكم = فدلّ على ذلك بقوله:"لمغفرة من الله ورحمة
خير مما يجمعون"، وجمع مع الدلالة به عليه، الخبَرَ عن فضل ذلك
على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة، أنه إن قيل: كيف
يكون:"لمغفرة من الله ورحمة" جوابًا لقوله:"ولئن قتلتم في سبيل
الله أو متم"؟ فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال: ولئن متم
أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في سبيلي،
(2) فقال:"لمغفرة من الله ورحمة،" يقول: لذلك خير مما تجمعون،
يعني: لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون.
* * *
ودخلت اللام في قوله:"لمغفرة من الله"، لدخولها في قوله:
و"لئن"، كما قيل: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الأدْبَارَ) [سورة الحشر: 12]
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "معنى جواز للجزاء"، وهو تصحيف لا
معنى له، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن [القول] فيه أن يقال فيه:
كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم [فذكر لهم] رحمة من الله ومغفرة،
إذا كان ذلك في [السبيل] "، وقد وضعت الكلمات التي استبدلت بها
غيرها بين أقواس. وهذه الجملة التي في المطبوعة والمخطوطة لا
يكاد يكون لها معنى. فالكلمة الأولى"القول" لا شك في خطئها،
وصوابها ما أثبت. أما "فذكر لهم"، فإني أظن أن الناسخ قد أخطأ
قراءة المخطوطة القديمة التي نقل عنها فقرأ"فذلك لكم""فذكر
لهم" وأما "السبيل"، ففي المخطوطة ضرب خفيف على ألف"السبيل"،
فرجحت قراءتها كما أثبت. وهو حق المعنى، فاستقامت هذه الجملة
مع ما بعدها، والحمد لله.
(7/338)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ
قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولئن متم أو قتلتم، أيها
المؤمنون، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم، فيجازيكم بأعمالكم،
فآثروا ما يقرّبكم من الله ويوجب لكم رضاه، ويقربكم من الجنة،
من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته، على الركون إلى الدنيا
وما تجمعون فيها من حُطامها الذي هو غير باقٍ لكم، بل هو زائلٌ
عنكم، وعلى ترك طاعة الله والجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم،
ويوجب لكم سخطه، ويقرِّبكم من النار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق:
8118- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن متم
أو قتلتم"، أيُّ ذلك كان ="لإلى الله تحشرون"، أي: أن إلى الله
المرجع، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا تغتروا بها، وليكن
الجهاد وما رغبكم الله فيه منه، آثر عندكم منها. (1)
* * *
وأدخلت"اللام" في قوله:"لإلى الله تحشرون"، لدخولها في
قوله:"ولئن". ولو كانت"اللام" مؤخرة إلى قوله:"تحشرون"،
لأحدثت"النون" الثقيلة فيه، كما تقول في الكلام:"لئن أحسنتَ
إليّ لأحسننَّ إليك" بنون مثقّلة. فكان كذلك قوله: ولئن متم أو
قتلتم لتحشرن إلى الله، ولكن لما حِيل بين"اللام" وبين"تحشرون"
بالصفة، (2) أدخلت في الصفة، وسلمت"تحشرون"،
__________
(1) الأثر: 8118- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8117.
(2) في المطبوعة: "لما حيز بين اللام. . ."، وفي المخطوطة:
"ولما حين. . ."، وصواب قراءتها ما أثبت. و"الصفة" حرف الجر،
انظر ما سلف 1: 299، تعليق: 1، وسائر فهارس المصطلحات في
الأجزاء السالفة.
(7/339)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
فلم تدخلها"النون" الثقيلة، كما تقول في
الكلام:"لئن أحسنتَ إليّ لإليك أحسن"، بغير"نون" مثقلة.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فبما رحمة من الله"،
فبرحمة من الله، و"ما" صلة. (1) وقد بينت وجه دخولها في الكلام
في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا
مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [سورة البقرة: 26] . (2)
والعرب تجعل"ما" صلة في المعرفة والنكرة، كما قال: (فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) [سورة النساء: 155\ سورة المائدة:
13] ، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا في المعرفة. وقال في
النكرة: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) [سورة
المؤمنون: 40] ، والمعنى: عن قليل. وربما جعلت اسما وهي في
مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحيانًا على وجه الصلة، ويخفض على
إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: (3)
فَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ... حُبُّ
النَّبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (4)
إذا جعلت غير صلة رفعتَ بإضمار"هو"، وإن خفضت أتبعت"من"، (5)
فأعربته. فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات.
__________
(1) "الصلة"، الزيادة، انظر ما سلف 1: 190 / 405، تعليق: 4 /
406 / 548، ثم فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء.
(2) انظر ما سلف 1: 404، 405.
(3) هو حسان بن ثابت، أو كعب بن مالك، أو غيرهما، انظر ما سلف
1: 404 تعليق: 5.
(4) سلف تخريج البيت في 1: 404، تعليق: 5.
(5) وذلك أن"من" و"ما" حكمهما في هذا واحد، كما سلف في 1: 404.
(7/340)
فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من
الكلام الإتباع، كما قيل:"فبما نقضهم ميثاقهم"، والرفع جائز في
العربية. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، قال جماعة
من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8119- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في
قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، يقول: فبرحمة من الله لنت
لهم.
* * *
وأما قوله:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فإنه
يعني بـ"الفظ" الجافي، وبـ"الغليظ القلب"، القاسي القلب، غير
ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما
وصفه الله به: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة
التوبة: 128] .
* * *
فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك
من أصحابك ="لنت لهم"، لتبَّاعك وأصحابك، فسُهلت لهم خلائقك،
وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن
ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت
عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة،
ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم. كما:-
8120- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، إي والله،
لطهَّره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيما
بالمؤمنين رءوفًا = وذكر لنا أن نعت محمد صلى
__________
(1) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 244، 245.
(7/341)
الله عليه وسلم في التوراة:"ليس بفظ ولا
غليظ ولا صخوب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو
ويصفح".
8121- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، بنحوه.
8122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في
قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب
لانفضوا من حولك"، قال: ذكر لينه لهم وصبره عليهم = لضعفهم،
وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه = في كل ما خالفوا فيه مما
افترض عليهم من طاعة نبيِّهم. (1)
* * *
وأما قوله:"لانفضوا من حولك"، فإنه يعني: لتفرقوا عنك. كما:-
8123- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريح قال، قال ابن عباس: قوله:"لا نفضوا من حولك"، قال:
انصرفوا عنك.
8124- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"لانفضوا
من حولك"، أي: لتركوك. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 8122- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو من تتمة الآثار
التي آخرها: 8118، وهو في السيرة تال للأثر الآتي رقم: 24: 8.
(2) الأثر: 8124- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8122، ولكنه سابق له في سيرة ابن هشام.
(7/342)
القول في تأويل قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاعف عنهم"، فتجاوز، يا
محمد، عن تُبَّاعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من
عندي، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك ="واستغفر لهم"، وادع
ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جُرْم، واستحقوا عليه عقوبة منه.
كما:-
8125- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاعف
عنهم"، أي: فتجاوز عنهم ="واستغفر لهم"، ذنوبَ من قارف من أهل
الإيمان منهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره
نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره
أن يشاورهم فيه؟
فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وشاورهم
في الأمر"، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو،
تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه
يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه =
بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه = عنهم.
*ذكر من قال ذلك:
8126- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب
المتوكلين"،
__________
(1) الأثر: 8125- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8124، ولكنه تال للأثر رقم: 8122 في سياق السيرة. وفي
سيرة ابن هشام: "ذنوبهم من قارف"، ولكن طابع السيرة
جعل"ذنوبهم" من الآية، فحصرها بين أقواس مع لفظ الآية!! وهو
عجب!
(7/343)
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم
أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب
لأنفس القوم = وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك
وجه الله، عزم لهم على أرشدِه.
8127- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"وشاورهم في الأمر"، قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه
وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء،
لأنه أطيب لأنفسهم.
8128- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وشاورهم
في الأمر"، أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت
عنهم غنيًّا، تؤلفهم بذلك على دينهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوبَ
الأمور في التدبير، (2) لما علم في المشورة تعالى ذكره من
الفضْل.
*ذكر من قال ذلك:
8129- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن
الضحاك بن مزاحم قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: ما أمر الله عز
وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، إلا لما علم فيها من
الفضل.
8130- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن
سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا
لأرشد أمورهم. (3)
* * *
وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه
بمشاورتهم فيه، مع
__________
(1) الأثر: 8128- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8125.
(2) في المطبوعة: "بل أمره بذلك في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب
الأمور. . ."، لم يستطع الناشر أن يحسن قراءة المخطوطة، وصواب
قراءتها ما أثبت.
(3) الأثر: 8130-"إياس بن دغفل الحارثي، أبو دغفل"، روي عن
الحسن، وأبي نضرة وعطاء وغيرهم، وروى عنه معتمر بن سليمان،
وأبو داود الطيالسي، وأبو عامر العقدي. وهو ثقة. مترجم في
التهذيب.
(7/344)
إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن
آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم،
ويستنُّوا بسنَّته في ذلك، ويحتذوا المثالَ الذي رأوه يفعله في
حياته من مشاورتَه في أموره = مع المنزلة التي هو بها من الله
= أصحابَهُ وتبَّاعَهُ في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم
ودنياهم، (1) فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم.
لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك،
لم يُخْلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي
والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل
الإيمان: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [سورة الشورى: 38]
.
*ذكر من قال ذلك:
8131- حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال، قال سفيان بن
عيينة في قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: هي للمؤمنين، أن
يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله
عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه
من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته
بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان =
وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها،
(2) ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا
فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم
يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه
مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك.
وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على
تصادُقٍ وتأخٍّ للحق، (3) وإرادةِ
__________
(1) قوله: "أصحابه وتباعه" منصوب مفعول لقوله: "من مشاورته في
أموره. . ."
(2) في المطبوعة: "ما في الأمور"، والصواب ما في المخطوطة،
ولكن الناشر الأول لم يحسن قراءتها. يريد: الوجه الذي تؤتى منه
الأمور وتطلب.
(3) "توخى الأمر": تحراه وقصده ويممه، ثم تقلب واوه ألفًا
فيقال"تأخيت الأمر"، والشافعي رضي الله عنه يكثر من استعمالها
في كتبه كذلك. ثم انظر تعليق أخي السيد أحمد، على رسالة
الشافعي ص: 504، تعليق: 2.
(7/345)
جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا
حَيْد عن هدى، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم.
* * *
وأما قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، فإنه يعني: فإذا صحِّ
عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك
ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء
أصحابك وما أشاروا به عليك، أو خالفها ="وتوكل"، فيما تأتي من
أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض
بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ="فإن الله يحب
المتوكلين"، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق
ذلك منهم هوى أو خالفه. كما:-
8132- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فإذا
عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين" ="فإذا عزمت"،
أي: على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك
ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرتَ به، على خلاف من خالفك
وموافقة من وافقك = و"توكل على الله"، (1) أي: ارضَ به من
العباد ="إن الله يحب المتوكلين". (2)
8133- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، أمر الله نبيه صلى الله عليه
وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيمَ على أمر الله،
ويتوكل على الله.
8134- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، الآية، أمره الله إذا عزم
على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه.
* * *
__________
(1) هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة وسيرة ابن هشام: "وتوكل"
بالواو، وهو جائز، لأنه في سياق التفسير، وأما الآية
فهي"فتوكل" بالفاء، فلذلك جعلت الواو خارج القوس.
(2) الأثر: 8132- سيرة ابن هشام 3: 123، 124، وهو من تمام
الآثار التي آخرها: 8128.
(7/346)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
القول في تأويل قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن ينصركم الله"، أيها
المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه
والكافرين به ="فلا غالب لكم" من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع
نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه، فلا
تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره
واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر، دونهم
="وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يعني: إن يخذلكم
ربكم بخلافكم أمره وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى
أنفسكم ="فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يقول: فأيسوا من نصرة
الناس، (1) فإنكم لا تجدون [ناصرًا] من بعد خذلان الله إياكم
إن خذلكم، (2) يقول: فلا تتركوا أمري وطاعتي وطاعة رسولي
فتهلكوا بخذلاني إياكم ="وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، يعني:
ولكن على ربكم، أيها المؤمنون، فتوكلوا دون سائر خلقه، وبه
فارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فاستسلموا، وجاهدوا فيه
أعداءه، يكفكم بعونه، ويمددكم بنصره. كما:-
8135- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن
ينصركم
__________
(1) أيست من الشيء آيس يأسًا، لغة في"يئست منه أيأس يأسًا"،
وقد سلف مثل ذلك في موضع آخر لم أجده الآن.
(2) في المطبوعة: "فإنكم لا تجدون امرءًا من بعد خذلان الله"،
وفي المخطوطة: "لا تجدون أمرًا"، ولم أجد لهما معنى أرتضيه،
فوضعت"ناصرًا" مكان"أمرًا" بين القوسين، استظهارًا من معنى
الآية، وإن كنت أخشى أن يكون قد سقط من الناسخ شيء، أو كتبت
شيئًا مصحفًا لم أهتد لأصله. وانظر سهو الناسخ في التعليق
التالي.
(7/347)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (161)
الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، أي: إن ينصرك
الله فلا غالب لك من الناس = لن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك
فلن ينصرك الناس ="فمن الذي ينصركم من بعده"، أي: لا تترك أمري
للناس، وارفض [أمر] الناس لأمري، وعلى الله، [لا على الناس] ،
فليتوكل المؤمنون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ) ، بمعنى: أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم
من أموال أعدائهم. واحتجَّ بعض قارئي هذه القراءة: أنّ هذه
الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطيفة فُقدت
من مغانم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله
عليه وسلم:"لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها! "، ورووا
في ذلك روايات، فمنها ما:-
8136- حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا
عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مقسم قال،
حدثني ابن عباس: أن هذه الآية:"وما كان لنبيّ أن يغل"، نزلت في
قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، قال: فقال بعض الناس: أخذها! قال:
فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغل ومن
يغلُل يأت بما غل يوم القيامة". (2)
8137- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 8135- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8132، بيد أنه في سيرة ابن هشام مختصر. لم يرو ابن هشام
صدر هذا الخبر، بل بدأ من قوله: "أي: لا تترك"، وقد أخطأ
الناسخ فيما أرجح فسقط منه ما أثبت من سيرة ابن هشام بين
الأقواس.
(2) الأثر: 8136-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي
الأموي"، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال
النسائي: "لا بأس به"، وهو ثقة جليل صدوق. و"عبد الواحد بن
زياد العبدي" أحد الأعلام سلفت ترجمته في: 2616. و"خصيف بن عبد
الرحمن الجزري"، رأى أنسًا، وروي عن عطاء، وعكرمة، وسعيد بن
جبير، ومجاهد، ومقسم وغيرهم. قال أحمد"ضعيف الحديث"، وقال:
"شديد الاضطراب في المسند". وقال ابن عدي: "إذا حدث عن خصيف
ثقة، فلا بأس بحديثه". وقال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا
واحتج به آخرون، وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان
يخطئ كثيرًا فيما يروى، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه،
وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات،
وترك ما لم يتابع عليه". مترجم في التهذيب.
والحديث رواه الترمذي في باب تفسير القرآن، من طريق قتيبة، عن
عبد الواحد بن زياد، بمثله وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وقد روى
عبد السلام بن حرب عن خصيف نحو هذا، وروى بعضهم هذا الحديث عن
خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس" - يعني مرسلا. ونسبه ابن
كثير في تفسيره 2: 279، إلى أبي داود أيضًا، ونسبه السيوطى في
الدر المنثور 2: 91 إلى أبي داود، وعبد بن حميد، وابن أبي
حاتم، والترمذي، وابن جرير.
(7/348)
خصيف قال، سألت سعيد بن جبير: كيف تقرأ هذه
الآية:"وما كان لنبي أن يغُل" أو:"يُغَل"؟ قال: لا بل"يَغُل"،
فقد كان النبي والله يُغَل ويقتل.
8138- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا
عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس:"وما كان لنبي أن
يغل"، قال: كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال
أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فلعل النبي أخذها"!
فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغُل" = [قال سعيد: بلى
والله، إنّ النبي ليُغَلّ ويُقتل] . (1)
8139- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خلاد، عن زهير، عن خصيف، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر،
فقالوا:"أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم! ". فأنزل الله عز
وجل:"وما كان لنبيّ أن يغُلّ".
__________
(1) الأثر: 8138-"عتاب بن بشير الجزري". روي عن خصيف وغيره.
قال أحمد: "أرجو أن لا يكون به بأس، روى بأخرة أحاديث منكرة،
وما أرى إلا أنها من قبل خصيف". مترجم في التهذيب. وكان في
المطبوعة: "بل والله"، والصواب ما أثبت من المخطوطة، وأما قوله
في آخر الأثر: "قال سعيد:. . ."، فإني تركته مكانه هنا، ولكني
أرجح أنه من تمام الأثر التالي رقم: 8140، فوضعته بين القوسين.
هذا، إذا لم يكن قد سقط من الناسخ أثر آخر من رواية سعيد بن
جبير.
(7/349)
8140- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن
إسماعيل قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير
وعكرمة في قوله:"وما كان لنبي أن يغل"، قالا يغُل = قال قال
عكرمة أو غيره، عن ابن عباس، قال = كانت قطيفة فقدت يوم بدر،
فقالوا: أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم"! قال: فأنزل الله
هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغل".
8141- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا قزعة
بن سويد الباهلي، عن حميد الأعرج، عن سعيد بن جبير قال: نزلت
هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغل"، في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر
من الغنيمة. (1)
8142- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن
سليمان الأعمش قال: كان ابن مسعود يقرأ: (وَمَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) ، فقال ابن عباس: بلى، ويُقْتَل =
قال: فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم غَلَّها، يوم بدر. فأنزل الله:"وما
كان لنبيّ أن يَغُل".
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك، بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما
نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ووجَّههم في وجه، ثم غنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم
للطلائع، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه
وسلم، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأنّ الواجب عليه في
الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرِّفه الواجبَ
عليه من الحكم فيما
__________
(1) الأثر: 8141-"قزعة بن سويد بن حجير الباهلي"، روى عن أبيه،
وحميد بن قيس الأعرج، وابن أبي مليكة، وابن أبي نجيح وغيرهم.
قال أحمد: "مضطرب الحديث، وهو شبه المتروك". وقال أبو حاتم:
"ليس بذاك القوى"، وقال ابن حبان: "كان كثير الخطأ فاحش الوهم،
فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره". وقال البزار:
"لم يكن بالقوي، حدث عنه أهل العلم". مترجم في التهذيب.
(7/350)
أفاء الله عليه من الغنائم، وأنه ليس له أن
يخصّ بشيء منها أحدًا ممن شهد الوقعة - أو ممن كان رِدْءًا لهم
في غزوهم - دون أحد. (1)
*ذكر من قال ذلك:
8143- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وما كان لنبي أن يغل
ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة"، يقول: ما كان للنبي أن
يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم، ولكن
يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله.
يقول: ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم استنُّوا به. (2)
8144- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن
الضحاك: أنه كان يقرأ:"ما كان لنبي أن يغلَّ"، قال: أن يعطي
بعضًا، ويترك بعضًا، إذا أصاب مغنمًا.
8145- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن
الضحاك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع، فغنم
النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز
وجل:"وما كان لنبيّ أن يغل".
8146- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن
سليمان، عن الضحاك:"ما كان لنبي أن يغل"، يقول: ما كان لنبيّ
أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك
بأمر الله عز وجل، ويحكم فيه بما أنزل الله.
8147- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
__________
(1) الردء (بكسر فسكون) : الناصر والمعين.
(2) الأثر: 8143- هذا إسناد دائر في التفسير، وانظر الكلام فيه
برقم: 305.
(7/351)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"ما كان لنبي أن
يغل"، قال: ما كان له إذا أصاب مغنمًا أن يقسم لبعض أصحابه
ويدع بعضًا، ولكن يقسم بينهم بالسوية.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما أنزل ذلك
تعريفًا للناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يكتم من وحي
الله شيئًا.
*ذكر من قال ذلك:
8148- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان
لنبيّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس
ما كسبت وهم لا يظلمون"، أي: ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما
بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة، ومن يعمل ذلك
يأت به يوم القيامة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبي أن
يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم.
* * *
يقال منه:"غلّ الرجل فهو يغُلُّ"، إذا خان،"غُلولا". ويقال
أيضًا منه:"أغلَّ الرجل فهو يُغِلُّ إغلالا"، كما قال
شريح:"ليس على المستعير غير المغِلِّ ضمَان"، يعني: غير
الخائن. ويقال منه:"أغلّ الجازر"، إذا سرق من اللحم شيئا مع
الجلد. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8149- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا
__________
(1) الأثر: 8148- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8135، وفي بعض لفظه اختلاف يسير.
(2) يعني عند سلخ الذبيحة، يسلخها فيترك شيئًا من اللحم
ملتزقًا بإهابها.
(7/352)
أسباط، عن السدي:"ما كان لنبي أن يغل"،
يقول: ما كان ينبغي له أن يخون، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا
تخونوا.
8150- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ما كان لنبي أن
يغل"، قال: أن يخون.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)
بضم"الياء" وفتح"الغين"، وهي قراءة عُظم قرأة أهل المدينة
والكوفة.
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبي أن يَغُلّه أصحابه، ثم
أسقط"الأصحاب"، فبقي الفعل غير مسمًّى فاعله. وتأويله: وما كان
لنبيّ أن يُخان.
*ذكر من قال ذلك:
8151- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عوف، عن الحسن أنه كان يقرأ:"وما كان لنبيّ أن يُغَل" قال عوف،
قال الحسن: أن يخان.
8152- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"وما كان لنبي أن يغل"، يقول: وما كان لنبي أن يغله
أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد غَلَّ طوائف من أصحابه.
8153- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله:"وما كان لنبي أن يُغَل"، قال: أن
يغله أصحابه.
8154- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، قوله:"وما كان لنبي أن يُغَلَّ"، قال
(7/353)
الربيع بن أنس، يقول: ما كان لنبي أن يغله
أصحابه الذين معه - قال: ذكر لنا، والله أعلم: أن هذه الآية
أنزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد غَلّ
طوائف من أصحابه.
* * *
وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبي أن يتهم بالغلول
فيخوَّن ويسرَّق. وكأن متأولي ذلك كذلك، وجَّهوا قوله:"وما كان
لنبي أن يغل" إلى أنه مراد به:"يغَلَّل"، ثم خففت"العين"
من"يفعَّل"، فصارت"يفعل" كما قرأ من قرأ قوله: (فإنهم لا
يكذبونك) [سورة الأنعام: 33] بتأوُّل: يُكَذِّبُونَك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من
قرأ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) بمعنى: ما الغلول
من صفات الأنبياء، ولا يكون نبيًّا من غلَّ.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله:"وما كان
لنبي أن يغل" أهلَ الغلول فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة"، الآية والتي بعدها. فكان في وعيده عقيب ذلك أهلَ
الغلول، الدليلُ الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول،
وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله:"وما كان
لنبيّ أن يغلّ". لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالغلول، لعقَّب ذلك بالوعيد على التُّهَمة وسوء الظن برسول
الله صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيد على الغلول. وفي تعقيبه
ذلك بالوعيد على الغلول، بيانٌ بيِّنٌ، أنه إنما عرّف المؤمنين
وغيرهم من عباده أن الغلول منتفٍ من صفة الأنبياء وأخلاقهم،
لأنّ ذلك جرم عظيم، والأنبياء لا تأتي مثله.
* * *
(7/354)
فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك: فأولى منه
(1) "وما كان لنبي أن يخونه أصحابه"، إن كان ذلك كما ذكرت، (2)
ولم يعقّب الله قوله:"وما كان لنبي أن يغل" إلا بالوعيد على
الغلول، ولكنه إنما وجب الحكمُ بالصحة لقراءة من قرأ:"يغل"
بضم"الياء" وفتح"الغين"، لأن معنى ذلك: وما كان للنبي أن يغله
أصحابه، فيخونوه في الغنائم؟
قيل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم
فيخونوه، حتى خُصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فإن قالوا:"نعم"، خرجوا من قول أهل الإسلام. لأن الله لم يبح
خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط.
وإن قال قائل: لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره.
قيل: فما وجه خصوصهم إذًا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه
وسلم، وغُلوله وغُلول بعض اليهود بمنزلةٍ فيما حرم الله على
الغالِّ من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة
إليهما؟
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا، من أن الله
عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه،
ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلول، وآمرًا لهم بالاستنان بمنهاج
نبيهم، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية
عطية، (3) ثم عقَّب تعالى ذكره نهيَهم عن الغلول بالوعيد عليه
فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآيتين معًا.
* * *
__________
(1) قوله: "فأولى منه"، أي فأولى من المذهب الذي ذهبت إليه في
قراءة الآية وتفسيرها = يقوله هذا القائل، ردًا على أبي جعفر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ذلك كما ذكرت" سقط من
الناسخ"كان" فأثبتها، لأن هذا هو حق المعنى الذي أراده أبو
جعفر في سياق قول من رد عليه قوله.
(3) يعني الأثر: 8143، "وعطية" المذكور، هو"عطية بن سعد بن
جنادة العوفي"، الذي روى عن ابن عباس، وهو المذكور في الإسناد
السالف"عن أبيه". وقد أشكل ذلك على بعض من علق على التفسير،
فقال: لم يمض لعطية هذا ذكر!! ولكنه مذكور كما ترى.
(7/355)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ومن يخُن من غنائم
المسلمين شيئًا وفيئهم وغير ذلك، يأت به يوم القيامة في
المحشر. كما:-
8155- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد
أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل
منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، (1) يقول: يا
رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل
عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، (2)
يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد
أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته
صامتٌ، (3) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك
شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على
رقبته بقرة لها خوار (4) ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول:
لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك! ألا عسى رجل منكم يجيء يوم
القيامة على رقبته رِقاع تخفِق
__________
(1) "الثغاء": صوت الشاء والمعز والظباء وما شاكلها."ثغت الشاة
تثغو": صاحت. يقال: "ماله ثاغية ولا راغية"، الثاغية: الشاء:
والراغية: الإبل.
(2) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل، كالذي يكون منه إذا طلب
العلف، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه، فاستأنس إليه.
(3) الصامت هو الذهب والفضة، أو ما لا روح فيه من أصناف المال.
يقال: "ما له صامت ولا ناطق". فالناطق: الحيوان، كالإبل والغنم
وغيرها.
(4) "الخوار": صوت الثور، وما اشتد من صوت البقرة والعجل."خار
الثور يخور".
(7/356)
يقول: (1) يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا
أملك لك شيئًا قد أبلغتك! (2)
8156- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي حيّان، عن
أبى زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل هذا
= زاد فيه
__________
(1) "الرقاع" جمع رقعة: وهو الخرقة، و"تخفق" تضطرب وتلمع إذا
حركتها الرياح، أو إسراع حاملها. يريد الثياب التي يغلها الغال
مما يختطفه من الغنائم. وقد فسره كثير من الشراح بأنه أراد
الرقاع المكتوبة التي تكون فيها الحقوق والديون، وخفوقها
حركتها، وأرجح القولين ما قدمت منهما.
(2) الحديث: 8155- أبو حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء
التحتية- يحيى بن سعيد ابن حيان التيمي: مضت ترجمته: 5382.
ووقع في المطبوعة في الإسنادين التاليين لهذا"أبو حبان" بالباء
الموحدة، وهو خطأ.
ووقع هنا في المخطوطة: "عن يحيى بن سعيد، عن أبي حيان". وهو
خطأ. فإن"أبا حيان": اسمه"يحيى بن سعيد" - كما ذكرنا. ومحمد بن
فضيل بن غزوان سمع منه، ويروى عنه مباشرة، كما هو ثابت في
ترجمتهما.
نعم: إن"يحيى بن سعيد القطان" روى هذا الحديث عن"أبي حيان يحيى
بن سعيد التيمي"، كما سيأتي في التخريج - ولكن ليس في هذا
الإسناد.
أبو زرعة - بضم الزاي وسكون الراء: هو ابن عمرو بن جرير بن عبد
الله البجلي. وهو تابعي ثقة، من علماء التابعين. مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 243 - 244، فيمن اسمه"هرم"،
وابن أبي حاتم 2 / 2 / 265 - 266، فيمن اسمه"عبد الرحمن"،
لاختلافهم في اسمه. والظاهر أن اسمه كنيته. ووقع في المطبوعة،
في الرواية الآتية: 8157-"عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير"، وهو
تحريف، صوابه"بن" بدل"عن".
والحديث سيأتي عقب هذا بإسنادين: من طريق عبد الرحمن، عن أبي
حيان، ومن طريق ابن علية، عن أبي حيان.
ورواه أحمد في المسند: 9499 (ج2: ص: 426 حلبي) . عن إسماعيل
-وهو ابن علية- عن أبي حيان.
ورواه مسلم 2: 83، عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو
ابن علية، به.
ورواه البخاري 6: 129 (فتح) ، عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد
القطان، عن أبي حيان وهو يحيى بن سعيد التيمي.
ورواه مسلم أيضا بأسانيد. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى
9: 101 بأسانيد.
وروى البخاري قطعة منه، ضمن حديث، من وجه آخر 3: 213 (فتح) .
وذكره ابن كثير 2: 281، من رواية المسند، ثم قال: "أخرجاه من
حديث أبي حيان، به" يريد الشيخين. وذكره السيوطى 2: 92، وزاد
نسبته لابن أبي شيبة، والبيهقي في الشعب.
(7/357)
"لا ألفين أحدكم على رقبته نفسٌ لها صياح".
(1)
8157- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيّان،
عن أبي زرعة، بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فينا يومًا، فذكر الغُلول، فعظَّمه
وعظَّم أمره فقال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته
بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني = (2) ثم ذكر نحو حديث
أبي كريب، عن عبد الرحمن. (3)
8158- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بشر، عن يعقوب القمي
قال، حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"لا أعرفَنّ أحدَكم يأتي يوم القيامة
يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد! يا محمد! (4) فأقول: لا
أملك لك من الله شيئًا قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم
القيامة يحمل جملا له رُغاء يقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا
أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنَّ أحدكم يأتي يوم
القيامة يحمل فرسًا له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول:
لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي
يوم القيامة يحمل قِشْعًا من أَدَمٍ، (5)
__________
(1) الحديث: 8156- هو تكرار للحديث السابق. ولكن"عبد الرحمن" -
في هذا الإسناد: لم أستطع أن أجزم فيه بشيء. وأخشى أن يكون
محرفًا عن"عبد الرحيم"، فيكون: "عبد الرحيم بن سليمان الأشل"،
فهو الذي يروى عن أبي حيان، ويروى عنه"أبو كريب". وهو راوي هذا
الحديث - رواه مسلم 2: 83، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد
الرحمن بن سليمان.
قوله: "نفس لها صياح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكأنه
أراد بالنفس، ما يغله من الرقيق، من امرأة أو صبي".
(2) "الرغاء": صوت ذوات الخف كالإبل، وقد يستعار لغيره: "رغا
البعير يرغو".
(3) الحديث: 8157- هو تكرار للحديثين قبله. وقوله في آخره"ثم
ذكر نحو حديث أبي كريب عن عبد الرحمن" أخشى أن يكون محرفًا،
وأن صوابه"عن عبد الرحيم"، كما بينا من قبل.
(4) قوله: "لا أعرفن" قد سلف أن بينت في التعليق على الأثر:
8011، ص: 286 تعليق: 4، والأثر: 8025، أنها كلمة تقال عند
التهديد والوعيد والزجر الشديد، وستأتي أيضًا في رقم: 8160
بعد.
(5) "القشع": هو النطع الخلق من الجلد، وهو الفرو الخلق أيضًا.
وقال ابن الأثير: أراد القربة البالية. و"الأدم" جمع أديم: وهو
الجلد. وفي المطبوعة والمخطوطة وابن كثير"قسما"، خطأ محض.
(7/358)
ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك
لك من الله شيئًا، قد بلغتك. (1)
8159- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط بن محمد قال، حدثنا أبو
إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن ذكوان، عن عروة بن الزبير، عن
أبي حميد قال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا فجاء
بسوادٍ كثير، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه
منه. فلما أتوه جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم. قال فقالوا: من
أين لك هذا؟ قال: أهدي إليّ! فأتوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبروه بذلك، فخرج فخطب فقال:"أيها الناس، ما بالي أبعث
قومًا إلى الصدقة، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير، (2) فإذا بعثت
من يقبضه قال:"هذا لي، وهذا لكم"! فإن كان صادقًا أفلا أهدي له
وهو في بيت أبيه أو في بيت أمه؟ " ثم قال:"أيها الناس، من
بعثناه على عمل فغَلَّ شيئًا، جاء به يوم القيامة على عنقه
يحمله، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير
له رغاء، أو بقرة تخور، أو شاة تثغو". (3)
8160- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة
بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي
قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال
له"ابن الأتْبِيَّة" على صدقات
__________
(1) الحديث: 8158- حفص بن بشر، ويعقوب بن عبد الله القمي، مضيا
في: 4842. حفص بن حميد القمي أبو عبيد: مترجم في التهذيب، وعند
ابن أبي حاتم 1 / 2 / 171. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره. وقال
ابن معين: "صالح". وجهله ابن المديني، ولئن جهله لقد عرفه
غيره. وهذا إسناد صحيح. والحديث ذكره ابن كثير 2: 280، عن هذا
الموضع من الطبري. وقال: "لم يروه أحد من أهل الكتب الستة".
ولم أجده في موضع آخر مما بين يدي من المراجع، حتى السيوطي لم
يذكره في الدر المنثور.
(2) "السواد" العدد الكثير من المال، سمى بذلك لأن الإبل
والغنم وغيرها إذا جاءت كثيرة مجتمعة، ترى كأنها سواد في خافق
الأرض. يقال: "لفلان سواد كثير"، أي مال كثير من إبل وغنم
وغيرها. ويقال للشخص الذي يرى من بعيد"سواد"، وفي الحديث: "إذا
رأى أحدكم سوادًا بليل، فلا يكن أجبن السوادين، فإنه يخافك كما
تخافه"، يعني بالسواد الشخص.
(3) انظر التعليق على رقم: 8161.
(7/359)
بني سليم، فلما جاء قال:"هذا لكم، وهذا
هدية أهديت لي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا يجلس
أحدكم في بيته فتأتيه هديته! ثم حمد الله وأثنى عليه ثم
قال:"أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني
الله، فيقول أحدهم: هذا الذي لكم، وهذا هدية أهديت إليّ! أفلا
يجلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فتأتيه هديته؟ والذي نفسي
بيده، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئًا إلا جاء به يوم القيامة
يحمله على عنقه، فلا أعرفنَّ ما جاء رجل يحمل بعيرًا له رغاء،
(1) أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر! (2) ثم رفع يده فقال:"ألا
هل بلغت"؟
8161- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم، عن هشام بن عروة،
عن أبيه، عن أبي حميد، حدثه بمثل هذا الحديث = قال: أفلا جلست
في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك؟ ثم رفع يده حتى إني لأنظر
إلى بياض إبطيه، ثم قال:"اللهم هل بلغت؟ "= قال أبو حميد:
بَصَرُ عيني وسَمْعُ أذني. (3)
8162- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقال، حدثني عمي عبد
الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن موسى بن جبير
حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن
عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر يومًا الصدقة فقال:
ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر
__________
(1) قوله: "فلا أعرفن"، انظر التعليق السالف ص: 358 تعليق: 4.
(2) يعرت العنز تيعر (مثل فتح يفتح) يعارًا (بضم الياء) : صوتت
صوتًا شديدًا. وكان في المطبوعة: "تثغو"، وهو وإن كان صوابًا
في المعنى، فهو خطأ في الرواية، صوابه من المخطوطة، ومن رواية
الحديث كما ترى في التخريج.
(3) الأحاديث: 8159 - 8161، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وعبد
الرحيم - في ثالثها هو ابن سليمان الأشل. والحديث رواه أحمد في
المسند 5: 423 - 424 (حلبي) ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن
الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي، بنحوه. وكذلك
رواه البخاري 13: 144 - 146، ومسلم 2: 83 - 84، من طريق سفيان
بن عيينة. ورواه البخاري أيضًا في مواضع أخر.
ورواه مسلم -عقب تلك الرواية- من أوجه أخر، منها من طريق عبد
الرحيم بن سليمان. وذكره ابن كثير: 2: 280 - 281، من رواية
المسند، ثم قال: "أخرجاه (يعني الشيخين) ، من حديث سفيان بن
عيينة. . . ومن غير وجه عن الزهري، ومن طرق عن هشام بن عروة -
كلاهما عن عروة، به".
قوله: "بصر عيني، وسمع أذني" اختلفوا في ضبطه، فروى على أنه
فعل"بصر" (بفتح الباء وضم الصاد""وسمع" فعل. وروى"بصر، وسمع"
اسمان. يراد به: "أعلم هذا الكلام يقينًا، أبصرت عيني النبي
صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، وسمعته أذني فلا شك في علمي
به"، كما قال النووي في شرح مسلم 12: 220، 221.
(7/360)
غلول الصدقة:"من غل منها بعيرًا أو شاة،
فإنه يحمله يوم القيامة"؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى. (1)
8163- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا
يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدِّقًا، فقال: إياك، يا
سعد، أنْ تجيء يوم القيامة ببعير تحمله رغاء! قال: لا آخذه ولا
أجئ به! فأعفاه. (2)
__________
(1) الحديث: 8162- موسى بن جبير الأنصاري المدني: مضت ترجمته
وتوثيقه في: 2941. عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري
المدني: تابعي ثقة. ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 96. ونقل
الحافظ في التهذيب أن البخاري صرح بأنه"سمع عبد الله بن أنيس".
عبد الله بن أنيس -بالتصغير- الجهني المدني، حليف الأنصار:
صحابي معروف، مترجم في التهذيب، والإصابة.
وهذا الحديث من مسند عمر، ومن مسند عبد الله بن أنيس، لتصريح
كل منهما بأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن
الإمام أحمد لم يذكره في مسند عمر، وذكره في مسند عبد الله بن
أنيس فقط.
فرواه أحمد: 16131 (ج 3 ص 498 حلبي) ، عن هارون بن معروف، عن
عمرو بن الحارث - بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابنه عبد الله بن
أحمد، عن هارون بن معروف.
ورواه ابن ماجه: 1810، من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن
الحارث، به. وقال البوصيري في زوائده: "في إسناده مقال، لأن
موسى بن جبير ذكره ابن حبان في الثقات وقال: إنه يخطئ. وقال
الذهبي في الكاشف: ثقة، ولم أر لغيرهما فيه كلامًا وعبد الله
بن عبد الرحمن: ذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجاله ثقات".
ونقله ابن كثير 2: 283، عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ثم
نسبه أيضًا لابن ماجه، ولم يزد! ففاته أن ينسبه للمسند، وهو
أهم.
وذكره السيوطي في الجامع الصغير: 8882، ونسبه لأحمد، والضياء
المقدسي، عن عبد الله بن أنيس فقط. وهو عنه وعن عمر، كما بينا.
(2) الحديث: 8163- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضيا في: 2255
يحيى بن سعيد الأنصاري النجاري: مضى مرارًا، آخرها: 4809. وهذا
إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح. وسيأتي تخريج الحديث في الذي
بعده.
(7/361)
8164- حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو
حميد قال، حدثنا الربيع بن روح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثني
عبيد الله بن عمر بن حفص، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله
بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل سعد بن
عبادة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: إياك، يا سعد، أن تجيء يوم القيامة
تحمل على عنقك بعيرًا له رغاء! فقال سعد: فإن فعلتُ يا رسول
الله، إن ذلك لكائن! قال: نعم! قال سعد: قد علمت يا رسول الله
أني أُسأَل فأعْطِى! فأعفنى. فأعفاه. (1)
8165- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حبان قال، حدثنا عبد
الرحمن بن الحارث قال، حدثني جدي عبيد بن أبي عبيد - وكان أول
مولود
__________
(1) الحديث: 8164- أحمد بن المغيرة، شيخ الطبري: مضى في: 3473
أني لم أعرفه. وقد زادنا أبو جعفر هنا تعريفًا به،
فنسبه"الحمصي"، وأن كنيته"أبو حميد". ولا يزال مع هذا غير
معروف لنا. الربيع بن روح الحمصي، أبو روح الحضرمي. ثقة، روى
عنه أيضًا أبو حاتم، وقال: "وكان ثقة خيارًا". مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 255، وابن أبي حاتم 1 / 2 /
461. ابن عياش: هو إسماعيل بن عياش الحمصي، مضى توثيقه في:
5445.
وهذا إسناد صحيح أيضًا، لكن إسماعيل بن عياش لم يخرج له شيء في
الصحيحين. والحديث في معنى الذي قبله، أطول في اللفظ قليلا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 86، من حديث ابن عمر، بنحو
اللفظ السابق. وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح".
وذكره ابن كثير 2: 283، عن الرواية الماضية من الطبري. ثم قال:
"ثم رواه من طريق عبيد الله، عن نافع، به. نحوه". ولم يروه
أحمد في المسند في مسند عبد الله بن عمر، ولكن رواه في
مسند"سعد بن عبادة"، من حديثه 5: 285 (حلبي) ، بنحوه -بإسناد
صحيح إلى سعيد بن المسيب، عن سعد بن عبادة. وهو إسناد منقطع
بين ابن المسيب وابن عبادة. فإن سعد بن عبادة توفي سنة 15،
وقيل: سنة 11. وسعيد بن المسيب ولد سنة 15، فلم يدركه يقينًا.
وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 85، من حديث سعد بن
عبادة. وقال: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير،
ورجاله ثقات، إلا أن سعيد بن المسيب لم ير سعد بن عبادة".
(7/362)
بالمدينة - قال: استعملت على صدقة دَوْس،
فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه، فسلَّم، فخرجت إليه
فسلمت عليه فقال: كيف أنت والبعير؟ كيف أنت والبقر؟ كيف أنت
والغنم؟ ثم قال: سمعت حبِيِّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
قال:"من أخذ بعيرًا بغير حقه جاء به يوم القيامة له رغاء، ومن
أخذ بقرة بغير حقها جاء بها يوم القيامة لها خوار، ومن أخذ شاة
بغير حقها جاء بها يوم القيامة على عنقه لها يعار"، (1) فإياك
والبقر فإنها أحدُّ قرونًا وأشدُّ أظلافًا. (2)
8166- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني
محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن جده عبيد بن أبي عبيد قال:
استعملت على صدقة دوس، فلما قضيت العمل قدمت، فجاءني أبو هريرة
فسلم علي فقال: أخبرني كيف أنت والإبل = ثم ذكر نحو حديثه عن
زيد، إلا أنه قال: جاء به يوم القيامة على عنقه له رُغاء. (3)
8167- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما
غل يوم
__________
(1) في المطبوعة: "لها ثغاء"، وأثبت ما في المخطوطة. قد
سلف"اليعار" ص: 360، تعليق: 2.
(2) الحديث: 8165- أبو كريب: هو محمد بن العلاء، الحافظ الثقة.
زيد بن حبان: هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم بأنه محرف. فليس
في الرواة -فيما نعلم- إلا زيد بن حبان الرقى، وهو قديم، مات
سنة 158. فلم يدركه أبو كريب المتوفي سنة 248. والراجح عندي
أنه محرف عن"زيد بن الحباب العكلي"، الذي يروي عنه كريب
كثيرًا. وهو ثقة، مضت ترجمته: 2185.
عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد بن أبي عبيد: ثقة. قال أبو زرعة:
"لا بأس به". وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 224،
باسم"عبد الرحمن بن الحارث بن أبي عبيد". فقصر في نسبه، إذ حذف
اسم جده الأدنى. وقد ثبت نسبه على الصواب في ترجمة جده في
التهذيب. ولم أجد لعبد الرحمن هذا ترجمة غيرها. عبيد بن أبي
عبيد الغفاري، مولى بني رهم: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب،
وابن أبي حاتم 2 / 2 / 411، وثقات ابن حبان، ص: 269 (مخطوط
مصور) . وقد خلط ابن أبي حاتم في اسم حفيده"عبد الرحمن بن
الحارث" فذكره في ترجمة جده، في الرواة عنه، باسم"عبد الرحمن
بن عبيد بن الحارث". والحديث سيأتي عقبه بإسناد آخر.
(3) الحديث: 8166- خالد بن مخلد: هو القطواني البجلي. مضت
ترجمته في: 2206.
وقوله"حدثني محمد" - هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم أنه خطأ،
زيادة من الناسخين. فإن"خالد بن مخلد" يروي عن"عبد الرحمن بن
الحارث بن عبيد" مباشرة، كما ثبت في ترجمة"عبد الرحمن" عند ابن
أبي حاتم. وفيه: "سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن الحارث الذي
يحدث عنه خالد بن مخلد القطواني".
ولو كان هذا الراوي"محمد" ثابتا في الإسناد، لبين نسبه أو نحو
ذلك، فإن اسم"محمد" أكثر الأسماء دورانًا، فلا يذكر هكذا
مجهلا، دون قرينة ترشد عن شخصه. والحديث مكرر ما قبله.
وقد مضى معناه من حديث أبي هريرة، من رواية أبي زرعة بن عمرو
بن جرير، عنه: 8155 - 8157. وأما من هذا الوجه، من رواية عبيد
بن أبي عبيد، عنه -: فإني لم أجده في موضع آخر.
(7/363)
القيامة"، قال قتادة: كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا غنم مغنمًا بعث مناديًا:"ألا لا يغلَّن رجلٍ
مخْيَطًا فما دونه، (1) ألا لا يغلّنّ رجل بعيرًا فيأتي به على
ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلنّ رجل فرسًا، فيأتي به
على ظهره يوم القيامة له حَمْحمة".
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه (2) : "ثم توفى كل نفس"، ثم
تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها، وافيًا غير منقوص ما استحقه
واستوجبه من ذلك (3) ="وهم لا يظلمون"، يقول: لا يفعل بهم إلا
الذي ينبغي أن يفعل بهم، من غير أن يعتدي عليهم فينقصوا عما
استحقوه. كما:-
__________
(1) "المخيط" (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء) : ما يخاط
به، كالإبرة ونحوها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك جل ثناؤه"، والصواب يقتضي
ما أثبت.
(3) انظر تفسير"وفي" فيما سلف 6: 465 - وتفسير"كسب" فيما سلف
ص: 327، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(7/364)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
8168- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق:"ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"، ثم يُجزى
بكسبه غير مظلوم ولا متعدًّى عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ
اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول،
كمن باء بسخَط من الله بغلوله ما غلّ؟
*ذكر من قال ذلك:
8169- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك في قوله:"أفمن اتبع رضوان
الله"، قال: من لم يغلّ ="كمن باء بسخط من الله"، كمن غل.
8170- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني سفيان بن
عيينة، عن مطرف بن طريف، عن الضحاك قوله:"أفمن اتبع رضوان
الله"، قال: من أدَّى الخمُس ="كمن باء بسخط من الله"، فاستوجب
سخطًا من الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
8171- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أفمن
__________
(1) الأثر: 8168- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8148، وفي المطبوعة: "معتدى عليه"، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو موافق لما في السيرة.
(7/365)
اتبع رضوان الله"، على ما أحب الناس وسخطوا
="كمن باء بسخط من الله"، لرضى الناس وسخطهم؟ يقول: أفمن كان
على طاعتي فثوابه الجنة ورضوانٌ من ربه، كمن باء بسخط من الله،
فاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنم وبئس المصير؟ أسَواءٌ المثلان؟
أي: فاعرفوا (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية عندي، قولُ الضحاك
بن مزاحم. لأن ذلك عَقيب وعيد الله على الغلول، ونهيه عباده
عنه. ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده: أسواءٌ المطيع لله
فيما أمره ونهاه، والعاصي له في ذلك؟ أي: إنهما لا يستويان،
ولا تستوي حالتاهما عنده. لأن لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه،
الجنةُ، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه النار.
* * *
فمعنى قوله:"أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله" إذًا:
أفمن ترك الغلول وما نهاه الله عنه عن معاصيه، وعمل بطاعة الله
في تركه ذلك، وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه، متبعًا في
كل ذلك رضا الله، ومجتنبًا سخطه ="كمن باء بسخط من الله"،
يعني: كمن انصرف متحمِّلا سخط الله وغضبه، فاستحق بذلك سكنى
جهنم" يقول: ليسا سواءً. (2)
* * *
وأما قوله:"وبئس المصير"، فإنه يعني: وبئس المصير = الذي يصير
إليه ويئوب إليه من باء بسخط من الله = جهنم. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 8171- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8168، وفي بعض لفظه اختلاف يسير.
(2) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345 / ثم 7: 116.
(3) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128، 317. وسياق
الجملة: "وبئس المصير. . . جهنم" وما بينهما تفسير"المصير".
(7/366)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(163) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من اتبع رضوان الله
ومن باء بسخَط من الله، مختلفو المنازل عند الله. فلمن اتبع
رضوان الله، الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخط من الله،
المهانةُ والعقاب الأليم، كما:-
8172- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"هم درجات
عند الله والله بصير بما يعملون، أي: لكلٍّ درجات مما عملوا في
الجنة والنار، إنّ الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته.
(1) .
8173- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"هم درجات عند الله"، يقول:
بأعمالهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لهم درجات عند الله، يعني: لمن اتبع
رضوان الله منازلُ عند الله كريمة.
*ذكر من قال ذلك:
8174- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"هم درجات عند الله"، قال: هي
كقوله: (" لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ") .
8175- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"هم درجات عند الله"، يقول: لهم درجاتٌ عند الله.
* * *
__________
(1) الأثر: 8172- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8171.
(7/367)
وقيل: قوله"هم درجات" كقول القائل:"هم
طبقات"، (1) كما قال ابن هَرْمة:
أرَجْمًا لِلْمَنُونِ يَكُونُ قَوْمي ... لِرَيْبِ الدَّهْرِ
أَمْ دَرَجُ السّيولِ (2)
* * *
وأما قوله:"والله بصير بما يعملون"، فإنه يعني: والله ذو علم
بما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء،
يحصى على الفريقين جميعًا أعمالهم، حتى توفى كل نفس منهم جزاء
ما كسبت من خير وشر، كما:-
8176- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله
بصير بما يعملون"، يقول: إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من
أهل معصيته. (3) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير درجة فيما سلف 4: 533 - 536.
(2) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2:547، 548، والاستشهاد بهذا
البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت
هناك.
(3) الأثر: 8176- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8172، وجزء منه.
(7/368)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: لقد تطوّل الله على المؤمنين ="إذ
بعث فيهم رسولا"، حين أرسل فيهم رسولا ="من أنفسهم"، نبيًّا من
أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما
يقول ="يتلو عليهم آياته"، يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله
(1) ="ويزكيهم"، يعني: يطهّرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه
وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم (2) ="ويعلمهم الكتاب والحكمة"،
يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله
ومعانيه ="والحكمة"، ويعني بالحكمة، السُّنةَ التي سنها الله
جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وبيانَه لهم (3) ="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، يعني: وإن
كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته
="لفي ضلال مبين"، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى
عمياء، لا يعرفون حقًّا، ولا يبطلون باطلا.
* * *
وقد بينا أصل"الضلالة" فيما مضى، وأنه الأخذ على غير هدى، بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"يتلو" فيما سلف 2: 411، 569 / 6: 466، تعليق:
3، وفهارس اللغة"تلا".
(2) انظر تفسير"يزكي" فيما سلف 1: 573، 574 / 3: 88 / 5: 29 /
6: 528.
(3) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88 / 5: 15، 371، 576
- 579.
(4) انظر تفسير"الضلالة" فيما سلف 1: 195 / 2: 495، 496.
(7/369)
= و"المبين"، الذي يبَين لمن تأمله بعقله
وتدبره بفهمه، أنه على غير استقامة ولا هدى (1) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8177- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من
أنفسهم"، منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة،
جعله الله رحمة لهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى
صراط مستقيم = قوله:"ويعلمهم الكتاب والحكمة"، الحكمة، السنة
="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، ليس والله كما تقول أهل
حروراء:"محنة غالبة، من أخطأها أهَريق دمه"، (2) ولكن الله بعث
نييه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلَّمهم، وإلى قوم
لا أدب لهم فأدَّبهم.
8178- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،"لقد
منّ الله على المؤمنين"، إلى قوله:"لفي ضلال مبين"، أي: لقد
منّ الله عليكم، يا أهل الإيمان، إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم
يتلو عليكم آياته ويزكيكم فيما أحدثتم وفيما عملتم، (3)
ويعلمكم الخير والشر، لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشر فتتقوه،
ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه، لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا
ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك
ثوابه من جنته ="وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين"، أي: في عمياء
من الجاهلية،
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 3: 300 / 4: 258.
(2) أهل حروراء: هم الخوارج، وهذا مذهبهم.
(3) في المطبوعة: "فيما أخذتم وفيما عملتم" لم يحسن قراءة
المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام.
(7/370)
أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
لا تعرفون حسنة ولا تستغفرون من سيئة، (1)
صُمٌّ عن الحق، عُمْيٌ عن الهدى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أوَ حين أصابتكم، أيها
المؤمنون، ="مصيبة"، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد،
والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم
يومئذ سبعين نفرًا ="قد أصبتم مثليها"، يقول: قد أصبتم، أنتم
أيها المؤمنون، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم
منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر،
وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا"،
يعني: قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد ="أنى هذا"، من أيِّ وجه
هذا؟ (3) ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم
مشركون، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من
السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك؟ ="قل" يا محمد للمؤمنين
بك من أصحابك ="هو من عند أنفسكم"، يقول: قل لهم: أصابكم هذا
الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من
عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم ="إن الله على كل شيء قدير"،
يقول: إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة، وتفضل
__________
(1) في المطبوعة: "تستغيثون من سيئة"، ولا معنى لها، وفي
المخطوطة "يستغيثون" غير منقوطة، والأرجح أنه خطأ، صوابه ما في
سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 8178- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8172، 8176. والجملة الأخيرة في ابن هشام: "صم عن
الخير، بكم عن الحق، عمى عن الهدى".
(3) انظر تفسير"أني" فيما سلف 4: 398 - 416 / 5: 12، 447 / 6:
358، 420.
(7/371)
وانتقام ="قدير"، يعني: ذو قدرة. (1) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"قل هو من عند أنفسكم"،
بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك
من التأويل.
فقال بعضهم: تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بخلافكم على
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ أَشار عليكم بترك الخروج
إلى عدوكم والإصحار لهم حتى يدخلوا عليكم مدينتكم، ويصيروا بين
آطامكم، (2) فأبيتم ذلك عليه، وقلتم:"اخرج بنا إليهم حتى نصْحر
لهم فنقاتلهم خارج المدينة".
*ذكر من قال ذلك:
8179- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا"
أصيبوا يوم أحد، قُتل منهم سبعون يومئذ، وأصابوا مثليها يوم
بدر، قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا قل
هو من عند أنفسكم"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قال لأصحابه يوم أحد، حين قدم أبو سفيان والمشركون، فقال نبي
الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أنا في جُنَّة حصينة"، يعني
بذلك المدينة،"فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم" (3) فقال
له ناس من أصحابه من الأنصار: يا نبي الله، إنا نكره أن نقتل
في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية،
فبالإسلام أحق أن نمتنع منه! (4) فابرز بنا إلى القوم. فانطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر تفسير"قدير" في فهارس اللغة فيما سلف من الأجزاء.
(2) "أصحر القوم": برزوا إلى الصحراء. و"أصحروا لأعدائهم":
برزوا إلى فضاء لا يواريهم، لكي يقاتلوهم في الصحراء.
و"الآطام" جمع أطم (بضم الهمزة والطاء) : وهو حصن مبني
بالحجارة، كان أهل المدينة يتخذونها ويسكنونها يحتمون بها.
(3) "الجنة" (بضم الجيم وتشديد النون) : هو ما وراك من السلاح
واستترت به، كالدروع والبيضة، وكل وقاية من شيء فهو جنة.
(4) في المطبوعة: "وقد كنا نمتنع في الغزو. . . أن نمتنع فيه"،
وفي المخطوطة: "قد كنا نمتنع من الغزو. . . أن نمتنع فيه"،
والصواب فيها ما أثبت، كما في الدر المنثور 2: 94.
(7/372)
فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرَّض
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرَّضتم بغيره! اذهب يا
حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم:"أمرُنا لأمرك تبعٌ".
فأتى حمزة فقال له: يا نبي الله، إن القوم قد تلاوموا
وقالوا:"أمرنا لأمرك تبع". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز، (1) وإنه
ستكون فيكم مصيبه. قالوا: يا نبي الله، خاصة أو عامةً؟ قال:
سترونها = ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى في
المنام أن بقرًا تُنحر، فتأولها قتلا في أصحابه = ورأى أن سيفه
ذا الفقار انقصم، فكان قتل عمه حمزة، قتل يومئذ، وكان يقال له:
أسد الله = ورأى أن كبشًا عُتِر، (2) . فتأوّله كبش الكتيبة،
عثمان بن أبي طلحة، أصيب يومئذ، وكان معه لواء المشركين.
8180- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
بنحوه = غير أنه قال:"قد أصبتم مثليها"، يقول: مثليْ ما أصيب
منكم ="قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، يقول: بما عصيتم.
8181- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة،
وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قَتلوا وأسروا، فقال الله
عز وجل:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها".
8182- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) "اللأمة": الدرع الحصينة، وسائر أداة الحرب.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن كبشًا أغبر"، ولا معنى له، ولا
هو يستقيم. واستظهرت صوابها كما ترى، وأن الناسخ صحفها. يقال:
"عتر الشاة والظبية يعترها عترًا، وهي عتيرة"، ذبحها.
ومنه"العتيرة"، وهي أول نتاج أنعامهم، كانوا يذبحونه لآلهتهم
في الجاهلية. هذا على أنى لم أجد هذا الخبر بلفظه في مكان آخر،
ولكن المروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه مردف
كبشًا، فقال: أما الكبش، فإني أقتل كبش القوم، أي حاميهم وحامل
لوائهم.
(7/373)
ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة قال:
قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل
المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين، فذلك قوله:"قد أصبتم
مثليها قلتم أنى هذا" إذ نحن مسلمون، نقاتل غضبًا لله وهؤلاء
مشركون ="قل هو من عند أنفسكم"، عقوبة لكم بمعصيتكم النبيَّ
صلى الله عليه وسلم حين قال ما قال.
8183- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
مبارك، عن الحسن:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم
أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، قالوا: فإنما أصابنا هذا لأنا
قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى، وعصينا النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحد، فمن قتل منا كان شهيدًا، ومن بقي منا كان
مطهَّرًا، رضينا ربَّنا!. (1)
8184- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
مبارك، عن الحسن وابن جريج قالا معصيتهم أنه قال لهم:"لا
تتبعوهم"، يوم أحد، فاتبعوهم.
8185- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،
ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين -يعني بأحد- وقتل منهم سبعون
إنسانًا ="أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها"، كانوا يوم
بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين ="قلتم أنى هذا"، أن: من
أين هذا ="قل هو من عند أنفسكم"، أنكم عصيتم.
8186- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة
قد أصبتم مثليها" يقول: إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثليْ
ما أصابوا منكم يوم أحد.
__________
(1) في المطبوعة: "رضينا بالله ربا"، غير ما في المخطوطة، كأنه
لم يفهمه!!
(7/374)
8187- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق: ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم فقال:"أو لما أصابتكم
مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، أي:
إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم، فبذنوبكم قد أصبتم مثليها
قبلُ من عدوكم، (1) في اليوم الذي كان قبله ببدر، قتلى وأسرى،
ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيّكم صلى الله عليه
وسلم. أنتم أحللتم ذلك بأنفسكم. (2) ="إن الله على كل شيء
قدير"، أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو،
قدير. (3) .
8188- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد
قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم
مثليها"، الآية، يعني بذلك: أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر
مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد.
* * *
وقال بعضهم: بل تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بإساركم
المشركين يوم بدر، (4) وأخذكم منهم الفداء، وترككم قتلهم.
*ذكر من قال ذلك:
8189- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار،
عن ابن سيرين، عن عبيدة قال، أسر المسلمون من المشركين سبعين
وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن
تأخذوا منهم الفداء فتتقوَّوْا به على
__________
(1) في المطبوعة: "قتلا من عدوكم" وقبلها رقم (3) لشك المصحح
في صحتها. وفي المخطوطة مثل ذلك غير منقوط، والصواب من سيرة
ابن هشام.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "إنكم أحللتم. . ."، ورجحت رواية
ابن هشام، فهي أجود في السياق.
(3) الأثر: 8187- سيرة ابن هشام 3: 125، هو تتمة الآثار التي
آخرها: 8178.
(4) في المطبوعة: "بإسارتكم" وهو خطأ، أوقعه فيه ناسخ
المخطوطة، لأن كتب (تكم) ، ولكنه أدخل الراء على التاء،
فاختلطت كتابته. والصواب ما أثبت.
(7/375)
عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو
تقتلوهم. فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم ويُقتل منا سبعون. قال:
فأخذوا الفدية منهم، وقتلوا منهم سبعين = قال عبيدة: وطلبوا
الخيرتين كلتيهما.
8190- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم
فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم. قالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع
به، ويستشهد منا بعدتهم.
8191- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني إسماعيل، عن
ابن عون، عن محمد، عن عبيدة السلماني = وحدثني حجاج، عن جرير،
عن محمد، عن عبيدة السلماني = عن علي قال: جاء جبريل إلى
النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد، إن الله قد كره
ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أمرين:
أن يقدَّموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن
يُقتل منهم عدتهم. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الناس فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا!!
لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا
عِدَّتهم، فليس في ذلك ما نكره! قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون
رجلا عدة أسارى أهل بدر.
* * *
(7/376)
وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166)
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم"يوم التقى
الجمعان"، وهو يوم أحد، حين التقى جمع المسلمين والمشركين.
ويعني بـ"الذي أصابهم"، ما نال من القتل مَنْ قُتِل منهم، ومن
الجراح من جرح منهم ="فبإذن الله،" يقول: فهو بإذن الله كان =
يعني: بقضائه وقدَره فيكم. (1) .
* * *
وأجاب"ما" بالفاء، لأن"ما" حرف جزاء، وقد بينت نظير ذلك فيما
مضى قبل (2) .
* * *
="وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا"، بمعنى: وليعلم الله
المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى
الجمعان بأحد، ليميِّز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين
منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين.
وقد بينا تأويل قوله:"وليعلم المؤمنين" فيما مضى، وما وجه ذلك،
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
8192- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما
أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين"، أي: ما
أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوّكم، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما
فعلتم، بعد أن جاءكم
__________
(1) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286 / 5:
355، 395 / 7: 289.
(2) انظر ما سلف 5: 585.
(3) انظر ما سلف 3: 160 / 7: 246، 325.
(7/377)
وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ
أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ (167)
نصري، وصدقتكم وعدي، (1) ليميز بين
المنافقين والمؤمنين، وليعلم الذين نافقوا منكم، أي: ليظهروا
ما فيهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن
سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم
إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا
المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم
أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى
أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما
كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم:"لو نعلم قتالا
لاتبعناكم"، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به، كما:-
8193- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان،
وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد
بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدَّث قال: خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من
أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين
__________
(1) في المطبوعة: "وصدقتم وعدي"، والصواب من المخطوطة وسيرة
ابن هشام.
(2) الأثر: 8192- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8187.
(7/378)
أحد والمدينة، انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ
ابن سلول بثلث الناس وقال: (1) أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما
ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من
الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبد الله بن
عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن
تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا: لو نعلم
أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما
استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله
أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم. (2)
8194- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وقيل لهم
تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، يعني: عبد الله بن
أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد = وقوله:"لو نعلم
قتالا لاتبعناكم"، يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم،
ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا
يخفون في أنفسهم = يقول الله عز وجل:"هم للكفر يومئذ أقرب منهم
للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"، يظهرون لك
الإيمان، وليس في قلوبهم، (3) ="والله أعلم بما يكتمون"، أي:
يخفون. (4)
8195- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني يوم أحد- في ألف رجل،
وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا، رجع عبد الله بن أبي
ابن سلول في ثلثمئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما
غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا
__________
(1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة، وسيرة ابن
هشام.
(2) الأثر: 8193- سيرة ابن هشام 3: 68، وهو تابع الأثر الماضي
رقم: 7715، وبين رواية الطبري، ورواية ابن هشام خلاف في بعض
اللفظ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم
للإيمان، وليس في قلوبهم"، وقد اختل الكلام، وأظنه سقط من سهو
الناسخ، فأتممته من السيرة، وأتممت الآية وتفسيرها بعدها.
(4) الأثر: 8194- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8192.
(7/379)
لترجعن معنا! = (1) قال: فذكر الله أصحاب
عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وقول عبد الله بن جابر بن عبد الله
الأنصاري حين دعاهم فقالوا:"ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا
لترجعُنّ معنا"، فقال: (الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ
وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا
عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) . (2) .
8196- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال عكرمة:"قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم"،
قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول = قال ابن جريج،
وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد"لو نعلم قتالا"، قال: لو
نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال، لاتبعناكم.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله"أو ادفعوا".
فقال بعضهم: معناه: أو كثِّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم.
*ذكر من قال ذلك:
8197- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"أو ادفعوا"، يقول: أو كثِّروا.
8198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج:"أو ادفعوا"، قال: بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتلوا.
*ذكر من قال ذلك:
8198م- حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا
حدثنا
__________
(1) في هذا الأثر اختصار مخل، وقد مضى تمامه برقم 7723،
وجواب"فلما غلبوه"، في بقية الأثر وهو: "هموا بالرجوع"، يعني
بني سلمة رهط أبي جابر السلمي. وانظر التخريج بعد.
(2) الأثر: 8195- مضى بعضه برقم: 7723، والتاريخ 3: 12.
(7/380)
الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168)
الوليد بن مسلم قال، حدثنا عتبة بن ضمرة
قال: سمعت أبا عون الأنصاري في قوله:"قاتلوا في سبيل الله أو
ادفعوا"، قال: رابطوا. (1)
* * *
وأما قوله:"والله أعلم بما يكتمون"، فإنه يعني به: والله أعلم
من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين:"لو نعلم قتالا
لاتبعناكم"، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه
من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا
دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك، (2)
مطلع عليه، ومحصيه عليهم، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا
فيفضحهم به، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه {الَّذِينَ قَالُوا
لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ
فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وليعلم الله الذين
نافقوا" ="الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا".
* * *
فموضع"الذين" نصب على الإبدال من"الذين نافقوا". وقد يجوز أن
__________
(1) الأثر: 8198م-"إسماعيل بن حفص الأيلي"، سلفت ترجمته برقم:
7581، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الآملي" مكان"الأيلي"، وهو
خطأ، وفي المخطوطة"الأيلي" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
و"الوليد بن مسلم القرشي"، سلفت ترجمته برقم: 6410. و"عتبة بن
ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي"، روى عن أبيه، وعمه
المهاجر، ومحمد بن زياد الألهاني، وأبي عون الشامي. ذكره ابن
حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، و"أبو عون الأنصاري الشامي
الأعور" روى عن أبي إدريس الخولاني، ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "بما يخفونه من ذلك"، غير ما في المخطوطة
لغير شيء!! ، إلا أن يريدوا أن يدرجوا به على ما ألفوا من
الكلام!!
(7/381)
يكون رفعًا على الترجمة عما في
قوله:"يكتمون" من ذكر"الذين نافقوا".
* * *
فمعنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا
مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من
عشائرهم وقومهم ="وقعدوا"، يعني: وقعد هؤلاء المنافقون
القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن
الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله ="لو أطاعونا"، يعني:
لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا ="ما قتلوا" يعني:
ما قتلوا هنالك = قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين
="فادرأوا"، يعني: فادفعوا.
* * *
من قول القائل:"درأت عن فلان القتل"، بمعنى دفعت عنه،"أدرؤه
دَرْءًا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2)
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أهذَا دِينُهُ
أَبَدًا وَدِيني (3)
* * *
يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا = إن كنتم، أيها المنافقون،
صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل
الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من
قريشْ، ما قُتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم،
وتخلّفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله
معه = [عن أنفسكم] الموت، (4) فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد
تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون. كما:-
__________
(1) انظر تفسير"الدرء" فيما سلف 2: 222 - 228.
(2) هو المثقب العبدي.
(3) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2:547، 548، والاستشهاد بهذا
البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت
هناك.
(4) السياق: "قل لهم: فادفعوا. . . عن أنفسكم الموت"، والزيادة
التي بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق، وعن نص
الآية، فلذلك أثبتها.
(7/382)
8199- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق:"الذين قالوا لإخوانهم"، الذين أصيبوا معكم من
عشائرهم وقومهم ="لو أطاعونا ما قتلوا" الآية، أي: أنه لا بد
من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا. وذلك أنهم
إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله، حرصًا على البقاء في
الدنيا، وفرارًا من الموت. (1)
* * *
*ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول، هم الذين قال
الله فيهم:"وليعلم الذين نافقوا".
8200- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا"
الآية، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ.
8201- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
8202- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال: هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين
خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد:"لو أطاعونا ما
قتلوا"، الآية = قال ابن جريج، عن مجاهد قال، قال جابر بن عبد
الله: هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
8203- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا" الآية، قال: نزلت في عدوّ
الله عبد الله بن أبيّ. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 8199- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8194.
(2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت
عنه نسختنا، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوهُ إِن شاء الله: القول
في تأويل قوله جل ثناؤه ولا تحسبَنَّ الذينَ قتلوا في سبيلِ
الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون. والحمد لله على
إحسانه ونعمته، وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين، وسلَّمَ
كثيرًا".
ثم يتلوه أول الجزء، وفيها ما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر يا كريم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود قال، أخبرنا أبو جعفر محمد بن
جرير".
وانظر التعليق على هذا الإسناد فيما سلف 6: 496، 497 / 7: 23،
154، 280، 281.
(7/383)
وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ولا تحسبن"، ولا تظنن. كما:-
8204- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا
تحسبن"، ولا تظنن. (1)
* * *
وقوله:"الذين قتلوا في سبيل الله"، يعني: الذين قتلوا بأحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ="أمواتًا"، يقول: ولا
تحسبنهم، يا محمد، أمواتًا، لا يحسُّون شيئًا، ولا يلتذُّون
ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون
مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبَوْتهم به من جزيل
ثوابي وعطائي، كما:-
8205- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق =
وحدثني
__________
(1) الأثر: 8204- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8199.
(7/384)
يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب
قال، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن إسحاق = عن إسماعيل بن
أمية، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم
في أجواف طير خضر تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى
قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم
وحُسن مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا!
لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب! (1) فقال الله عز
وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله
عليه وسلم هؤلاء الآيات. (2)
8206- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد = وحدثنا
ابن حميد قال، حدثنا سلمة = قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق،
عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد
الله بن مسعود عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله" الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما
أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خضر ترد
أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل
العرش، فيطَّلع الله إليهم اطِّلاعةً فيقول: يا عبادي، ما
تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل
منها حيث شئنا! (3) ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول: يا عبادي، ما
تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: رّبنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة
نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن تُردّ أرواحنا في
أجسادنا، (4) ثم تردَّنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك
مرة أخرى". (5) .
8207- حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال، حدثنا وهب بن جرير
قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال:
سألنا
__________
(1) نكل عن عدوه: جبن فنكص على عقبيه، وانصرف عنه هيبة له
وخوفًا.
(2) الحديث: 8205- أبو الزبير: هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي،
وهو تابعي ثقة، مضى مرارًا. وقيل إنه لم يسمع من ابن عباس، ففي
المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 71، عن ابن عيينة: "يقولون: ابن
المكي لم يسمع من ابن عباس". وفيه أيضًا: "سمعت أبي يقول: رأى
ابن عباس رؤية".
والحديث رواه أحمد في المسند: 2388، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم
بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ثم رواه عقبة:
2389، "نحوه"، عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن
ابن إسحاق، به. وزاد في الإسناد"عن سعيد بن جبير"، بين أبي
الزبير وابن عباس.
وكذلك رواه أبو داود في السنن: 2520، عن عثمان بن أبي شيبة،
به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 297 - 298، من طريق
عثمان بن أبي شيبة. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم
يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2: 290 - 291، من رواية المسند الأولى، وأشار
إلى رواية الطبري هذه، ثم إلى زيادة سعيد بن جبير في الإسناد،
عند أبي داود والحاكم، ثم قال: "وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان
الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس".
وذكره السيوطي 2: 95، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، وابن
المنذر، والبيهقي في الدلائل. وقوله: "وحسن مقيلهم" - في
المسند: "منقلبهم". ومعناها صحيح أيضًا. ولكن وجدت بعد ذلك في
مخطوطة الرياض من المسند (المصور عندي) نسخة أخرى
بهامشها"مقيلهم". وهي أصح وأجود. وهي الموافقة لما في ابن كثير
نقلا عن المسند، والموافقة لروايتي أبي داود والحاكم. ويؤيد
صحتها أنها الموافقة لألفاظ الكتاب العزيز. قال الله تعالى:
(أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا) [سورة الفرقان:
24] .
وانظر ما يأتي من حديث ابن مسعود: 8206 - 8208، 8218، 8219.
وما يأتي من حديث ابن عباس: 8209 - 8213.
(3) قوله: "لا فوق ما أعطيتنا"، أي لا شيء فوق ذلك. و"الجنة"
قال أبو ذر الخشني: "يروى هنا بالخفض والرفع، بخفض الجنة، على
البدل من"ما" في قوله: ما أعطيتنا - ورفعها على خبر مبتدأ
مضمر، تقديرها هو الجنة". وجائز أن تكون على النصب أيضًا، على
تقدير"أعطيتنا الجنة".
(4) في المطبوعة: إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا. . ."، وفي
المخطوطة: "إلا أنا نختار ترد أرواحنا"، وهو تصحيف ما في سيرة
ابن هشام"نحب أن ترد"، فأثبت ما في السيرة، وفي رواية مسلم"إلا
أنا نريد أن ترد"، وهما سواء.
(5) الحديث: 8206- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بالتصغير-
الهمداني. مضى الكلام عليه مرارًا، آخرها: 7217. والحديث سيأتي
عقب هذا، من رواية الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق. ويأتي
بعده: 8208، من رواية سليمان -وهو الأعمش- عن عبد الله بن مرة،
عن مسروق. فللأعمش فيه شيخان. سمعه منهما عن مسروق. وسيأتي
تخريجه في الأخير.
(7/385)
عبد الله عن هذه الآية = ثم ذكر نحوه وزاد
فيه: إني قد قضيت أن لا ترجعوا. (1) .
8208- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن
سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن
أرواح الشهداء، ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحدٌ! قال: أرواح
الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرحُ
في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطَّلع إليها
ربُّها، فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا
فنقتل مرة أخرى. (2)
8209- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة
بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن
لبيد، عن
__________
(1) الحديث: 8207- الحسن بن أبي يحيى المقدسي، شيخ الطبري: لم
أصل إلى الآن إلى معرفته. وقد مضى كذلك من قبل في: 7216. ووقع
اسمه في المطبوعة هنا: "الحسن بن يحيى العبدي". والتصويب من
المخطوطة. ومن السهل جدًا على الناسخ أو الطابع سقوط
كلمة"أبي"، وتحريف كلمة"المقدسي" إلى"العبدي" إذا كانت غير
واضحة الرسم. وهذا الحديث تكرار للذي قبله من هذا الوجه، كما
قلنا.
(2) الحديث: 8208- سليمان: هو ابن مهران الأعمش. والحديث مكرر
ما قبله باختصار، من وجه آخر، من رواية الأعمش عن عبد الله بن
مرة، عن مسروق.
وعبد الله بن مرة الهمداني الخارفي: تابعي ثقة، أخرج له
الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 203، وابن أبي حاتم 2
/ 2 / 165. والحديث رواه مسلم 2: 98، بأسانيد، من طريق الأعمش،
عن عبد الله بن مرة، به نحوه - أطول مما هنا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 84 - 85، من رواية الأعمش، عن عبد الله
بن مرة. ونقله ابن كثير 2: 289، عن صحيح مسلم. وذكره السيوطي
2: 96، وزاد نسبته لعبد الرزاق في المصنف، والفريابي، وسعيد بن
منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم،
والطبراني، والبيهقي في الدلائل. ولم يروه أحمد في المسند،
فيما تحقق لدي، إلا أن يكون أثناء مسند صحابي آخر فيما بعد
المسانيد التي حققتها. فالله أعلم. وسيأتي مرة رابعة: 8218، من
رواية عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله - وهو ابن مسعود
ويأتي مرة خامسة: 8219، من رواية أبي عبيد بن عبد الله بن
مسعود، عن أبيه.
(7/387)
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: الشهداء على بارق = على نهر بباب الجنة = في قبة خضراء =
وقال عبدة:"في روضة خضراء = يخرج عليهم رزقهم من الجنةُ بكرة
وعشيًّا". (1)
8210- حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق
قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم بمثله = إلا أنه قال: في قبة خضراء =
وقال: يخرج عليهم فيها.
8211- حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق
قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
8212- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق،
وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء
على بارق = نهر بباب الجنة = في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم
من الجنة بكرة وعشيًّا.
8213- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني أيضًا = يعني
إسماعيل بن عياش = عن ابن إسحاق، عن الحارث بن الفضيل، عن
محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
بنحوه. (2)
8214- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق،
وحدثني بعض أصحابي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب
قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم:"ألا أبشرك يا جابر؟
__________
(1) الحديث: 8209- سبق هذا الحديث، بهذا إسناد: 2323. وفصلنا
القول فيه هناك. وسيأتي عقبه - هنا - بأربعة أسانيد.
(2) الأحاديث: 8210 - 8213، هي أربعة أسانيد، تكرارًا للحديث
قلبها.
(7/388)
قال قلت: بلى، يا رسول الله! قال: إن أباك
حيث أصيب بأحد، أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبد الله بن
عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب، أحب أن تردَّني إلى الدنيا،
فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى". (1) .
8215- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل
__________
(1) الحديث: 8214- هكذا روى ابن إسحاق هذا الحديث مجهلا شيخه
الذي حدثه، فأضعف الإسناد بذلك. وهو في سيرة ابن هشام 3: 127.
وقد ورد معناه عن جابر، بإسناد آخر صحيح:
فروى أحمد في المسند: 14938 (ج3 ص 361 حلبي) ، عن علي بن
المديني، عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن محمد بن علي بن
رُبَيِّعة -بالتصغير- السُّلَمي، عن عبد الله بن محمد بن
عُقيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
جابر، أمَا علمتَ أن الله عز وجل أحيا أباك، فقال له: تَمَنَّ
عليَّ. فقال: أُرَدُّ إلى الدنيا، فأُقتَل مرة أخرى. فقال: إني
قَضَيْتُ الحكمَ، أنهم إليها لا يُرْجَعون". وهذا إسناد صحيح.
محمد بن علي بن ربيعة السلمي: ثقة، وثقه ابن معين، وغيره،
وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 26 - 27. وترجمه البخاري في
الكبير 1 / 1 / 183 - 184 باسم"محمد بن علي السلمي". وكذلك ابن
سعد في الطبقات 6: 257 - فلم يذكروا فيه جرحًا.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 289 من رواية المسند. ثم قال: "تفرد
به أحمد من هذا الوجه". يشير بهذا إلى أن الترمذي روى معناه
مطولا 4: 84، من وجه آخر، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا
الوجه". ثم قال: "وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر -
شيئًا من هذا". وهو إشارة إلى حديث المسند.
وقد ذكر السيوطي الرواية المطولة 2: 95، ونسبها أيضًا لابن
ماجه، وابن أبي عاصم في السنة، وابن خزيمة والطبراني، والحاكم
وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وانظر المستدرك 3:
203 - 204 ووالد جابر: هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري،
الخزرجي، السلمي، صحابي جليل مشهور، من أهل العقبة، وممن شهد
بدرًا، وكان من النقباء. استشهد يوم أحد، رضي الله عنه.
(7/389)
إخواننا الذين قتلوا يوم أحد! فأنزل الله
تبارك وتعالى في ذلك القرآن:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون" = كنا نحدَّث أن أرواح
الشهداء تَعارَف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة، وأنّ مساكنهم
السِّدرة. (1) .
8216- حدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
بنحوه = إلا أنه قال: تعارف في طير خضر وبيض = وزاد فيه أيضًا:
وذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتًا بل أحياء"، قال: هم قتلى بدر وأحد.
8217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب، ألا رسول
لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا؟ فقال
الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن
يأتي بهذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله"،
الآيتين.
8218- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا
عبد الله عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: أرواح الشهداء عند
الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث
شاءت. قال: فاطلع إليهم ربك اطِّلاعة فقال: هل تشتهون من شيء
فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح في الجنة في أيِّها شئنا!
ثم اطَّلع عليهم الثالثة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟
قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى!
فسكت عنهم. (2)
__________
(1) الأثر: 8215- مضى مطولا برقم: 2319.
(2) الحديث: 8218- هذا هو الإسناد الرابع لحديث عبد الله بن
مسعود، الذي مضى بثلاثة أسانيد: 8206 - 8208.
رواه هنا من طريق عبد الرزاق. وهو في مصنف عبد الرزاق 3: 115
(مخطوط مصور) . بهذا الإسناد وهذا اللفظ. ولكن ليس في نسخة
المصنف كلمة"خضر" في وصف الطير. وقوله: "ثم اطلع عليهم
الثالثة" - هكذا ثبت أيضا في المصنف، بحذف الاطلاعة الثانية.
فليس ما هنا سقطًا من الناسخين، بل هو اختصار في الرواية.
(7/390)
8219- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي
عبيدة، عن عبد الله: أنهم قالوا في الثالثة = حين قال لهم: هل
تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ = قالوا: تقرئ نبينا عنا السلام،
وتخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا. (1)
8220- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال
الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يرغِّب
المؤمنين في ثواب الجنة ويهوِّن عليهم القتل:"ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، أي: قد
أحييتهم، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها، مسرورين بما
آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه. (2)
__________
(1) الحديث: 8219- هذا هو الإسناد الخامس لحديث عبد الله بن
مسعود. وهو من رواية ابنه أبي عبيدة عنه. وأبو عبيدة بن عبد
الله بن مسعود: تابعي ثقة. الراجح أن اسمه كنيته. وقيل إن
اسمه"عامر". وبه ترجم في التهذيب، وترجمه ابن سعد 6: 149
بالكنية. وكذلك ترجمه البخاري في الكنى، رقم: 447، وابن أبي
حاتم 4 / 2 / 403.
وروايته عن أبيه منقطعة، مات أبوه وهو صغير. وجزم أبو حاتم
وغيره بأنه لم يسمع منه، انظر المراسيل، ص: 91 - 92. وروى
الترمذي (1: 26 بشرحنا) ، بإسناد صحيح، عن عمرو بن مرة، قال،
"سألت أبا عبيدة بن عبد الله: هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال:
"لا".
والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي، عن ابن أبي عمر، عن
سفيان، وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، بل جعله
تابعًا لرواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة، كمثل صنيع الطبري
هنا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وقوله: "ورضي عنا": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. أي: ورضى
الله عنا. كما هو ظاهر من السياق، وكما نص عليه شارح الترمذي.
(2) الأثر: 8220- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تمام الآثار التي
آخرها: 8204.
(7/391)
8221- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ
قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: كان المسلمون
يسألون ربهم أن يريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، يرزقون
فيه الشهادة، ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق، فلقوا
المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم
الله فقال:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا"
الآية.
8222- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الشهداء فقال:"ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم" إلى قوله:"ولا
هم يحزنون"، زَعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، (1) في
قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بُكرة وعشية في الجنة،
تبيت في القناديل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا
تشتهون؟ فيقولون: ربنا، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم
أيضًا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فيقولون: نحن فيما اشتهت
أنفسنا! فيسألون الثالثة، فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن
تردَّ أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب. (2)
8223- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عباد قال، حدثنا إبراهيم بن
معمر، عن الحسن قال:، ما زال ابن آدم يتحمَّد (3) حتى صار
حيًّا ما يموت. ثم تلا هذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
8224- حدثنا محمد بن مرزوق قال، حدثنا عمر بن يونس، عن عكرمة
قال،
__________
(1) قوله: "زعم"، لا يراد به القول الباطل، بل يراد به القول
الحق، والزعم: هو القول، يكون تاره حقًا، وتارة باطلا، وفي شعر
أمية بن أبي الصلت: وَإنِّي أَذِينٌ لَكُمْ أَنَهُ ...
سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ ما زَعَمْ
أي: ما قال وما وعد.
(2) في المطبوعة: "لما يرون من فضل للثواب"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) "تحمد الرجل يتحمد"، إذا طلب بفعله الحمد، و"فلان يتحمد
إلى الناس بفعله"، أي يلتمس بذلك حمدهم.
(7/392)
حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال، حدثني أنس بن
مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله
صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو
سبعين. قال: وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج
أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارًا
مشرفًا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلِّغ
رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال
-أُراه أبو ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فخرج حتى أتى حيًّا منهم، فاحتبى أمام البيوت
ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبده
ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت
برمح، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، (1) فقال: الله
أكبر، فزتُ ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه، فقتلهم
أجمعين عامر بن الطفيل (2) = قال: قال إسحاق: حدثني أنس بن
مالك: إنّ الله تعالى أنزل فيهم قرآنًا، رُفع بعد ما قرأناه
زمانًا. (3) وأنزل الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون". (4) .
8225- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر،
__________
(1) البيت: يعني الخيمة. وكسر البيت (بكسر الكاف وسكون السين)
: أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من عن
يمين ويسار.
(2) في المخطوطة: "فقتلوهم أجمعين"، والصواب من التاريخ وسائر
المراجع.
(3) نص ما في التاريخ: "أَنزَل فيهم قرآنًا: {" بَلِّغُوا
عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ
عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ "} ، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه
زمانا ".
(4) الحديث: 8224- محمد بن مرزوق - شيخ الطبري - هو محمد بن
محمد بن مرزوق، نسب إلى جده. وقد مضت له عنه رواية، برقم: 28.
مترجم في التهذيب. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 3: 199 -
200، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 89 - 90 باسم"محمد بن
مرزوق".
عمر بن يونس اليمامي: مضى في: 4435. ووقع في الأصول هنا
باسم"عمرو بن يونس"، وكذلك في تاريخ الطبري في هذا الحديث،
وكذلك في تفسير ابن كثير، في نقله الحديث عن هذا الموضع. ولعل
الخطأ في هذا يكون من الطبري نفسه، إذ يبعد أن يخطئ الناسخون
في هذه المصادر الثلاثة خطأ واحدًا. وليس في الرواة - فيما
أعلم - من يسمى"عمرو بن يونس". ووقع في الإسناد هنا - في
التفسير - خطأ آخر. في المخطوطة والمطبوعة، إذ سقط من الإسناد
[عن عكرمة] بين عمر بن يونس وإسحاق بن أبي طلحة. وهو ثابت في
التاريخ وتفسير ابن كثير. وعكرمة هذا: هو عكرمة بن عمار
اليمامي، مضت ترجمته في: 2185. وعمر بن يونس معروف بالرواية
عنه. ولم يدرك أن يروى عن"عكرمة مولى ابن عباس". إسحاق بن أبي
طلحة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري البخاري. نسب
إلى جده. وهو تابعي ثقة حجة، أخرج له الجماعة. مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 393 - 394، وابن أبي حاتم 1
/ 1 / 226. وأبوه"أبو طلحة": هو"زيد بن سهل"، وهو أخو أنس بن
مالك لأمه.
وهذا الحديث رواه الطبري أيضًا في التاريخ 3: 36، بهذا
الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير 2: 288، عن هذا الموضع من التفسير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 7: 298، حيث قال: "في رواية الطبري
من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة. . ." ولكن وقع
فيه"عكرمة عن عمار" - وهو خطأ مطبعي واضح.
ووقع في أصل الطبري هنا -المخطوط والمطبوع-: "فقال أراه أبو
ملحان". وكذلك في نقل ابن كثير عن هذا الموضع. وهو خطأ قديم من
الناسخين، صوابه: "ابن ملحان". وثبت على الصواب في التاريخ،
ومنه صححناه.
وهو"حرام بن ملحان الأنصاري"، وهو خال أنس بن مالك، أخو أمه"أم
سليم بنت ملحان". ولا نعلم أن كنيته"أبو ملحان" - حتى نظن أنه
ذكر هنا بكنيته. وهو مترجم في ابن سعد 3 / 2 / 71 - 72،
والإصابة.
وهذا الحديث - في قصة بئر معونة - ثابت عن أنس بن مالك من
أوجه، مختصرًا ومطولا.
وقد رواه أحمد في المسند: 13228، عن عبد الصمد، و: 14119، عن
عفان - كلاهما عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن
أنس (المسند ج3 ص 210، 288 - 289 حلبي) . ورواه أيضا: 12429
(3: 137 حلبي) ، من رواية ثابت، عن أنس.
ورواه البخاري 7: 297 - 299، عن موسى بن إسماعيل، عن همام، عن
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" ورواه قبله وبعده من أوجه أخر.
ورواه ابن سعد في الطبقات 3 / 2 / 71 - 72، عن عفان، كرواية
المسند: 14119. وقد مضى بعض معناه مختصرًا، في تفسير الطبري:
1769، من رواية قتادة، عن أنس. وتفصيل القصة في تاريخ ابن كثير
4: 71 - 74. وانظر أيضًا جوامع السيرة لابن حزم، ص: 178- 180،
وما أشير إليه من المراجع في التعليق عليه هناك. وروى أحمد في
المسند، بعض هذا المعنى، من حديث ابن مسعود: 3952.
(7/393)
فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
عن الضحاك قال: لما أصيب الذين أصيبوا يوم
أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوا ربَّهم، فأكرمهم،
فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب، قالوا: يا ليت بيننا
وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا! فقال
الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنزل الله
تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم:"ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون" إلى
قوله:"ولا هم يحزنون". فهذا النبأ الذي بلَّغ الله رسوله
والمؤمنين ما قال الشهداء.
* * *
وفي نصب قوله:"فرحين" وجهان.
أحدهما: أن يكون منصوبًا على الخروج من قوله:"عند ربهم". (1)
والآخر من قوله:"يرزقون". ولو كان رفعًا بالردّ على قوله:"بل
أحياء فرحون"، كان جائزًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم
من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من
جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا
بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك
مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك
__________
(1) "الخروج"، نصبها على الخروج، يعني على خروجها منه على
الحال. انظر ما سلف 5: 253 / ثم 6: 586 / 7: 25، تعليق: 3. ثم
انظر معاني القرآن للفراء 1: 247.
(7/395)
="لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، يعني بذلك:
(1) لا خوف عليهم، لأنهم قد أمنوا عقاب الله، وأيقنوا برضاه
عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا،
ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد
عيشها، للخفض الذي صارُوا إليه والدعة والزُّلْفة. (2) .
* * *
ونصب"أن لا" بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون. (3) .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، يقول:
لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم، لما قدموا عليه من
الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم.
8227- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، قال،
يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقونا فيصيبون من كرامة
الله تعالى ما أصبنا.
8228- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: هم قتلى
بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم
الجنة، (4) جُعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 1: 551 / 2: 150،
512، 513 / 5: 519.
(2) "الخفض": لين العيش وسعته وخصبه، يقال: "عيش خفض، وخافض،
وخفيض، ومخفوض": خصيب في دعة ولين. و"الزلفة": القربة والدرجة
والمنزلة، عند الله رب العالمين.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 247.
(4) انظر تفسير"زعم" فيما سلف قريبًا ص 392 تعليق: 1.
(7/396)
الجنة، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش.
فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة، قالوا: ليت إخواننا
الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه! فإذا شهدوا قتالا تعجَّلوا إلى
ما نحن فيه! فقال الله تعالى: إنيّ منزل على نبيكم ومخبر
إخوانكم بالذي أنتم فيه. ففرحوا به واستبشروا، وقالوا: يخبر
الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالا أتوكم!
قال: فذلك قوله:"فرحين بما آتاهم الله من فضله" إلى قوله:"أجر
المؤمنين".
8229- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن
إسحاق:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، أي: ويسرون
بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم،
ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وأذهب الله
عنهم الخوف والحزن. (1) .
8230- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، قال: هم
إخوانهم من الشهداء ممَّن يُستشهد من بعدهم ="لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون" حتى بلغ:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين".
8231- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
أما"يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، فإن الشهيد يؤتى
بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال:"يقدم عليك
فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا"، فيستبشر
حين يقدم عليه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
* * *
__________
(1) الأثر: 8229- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8220 ونص ابن هشام: "قد أذهب الله. . ."، وهو أجود.
(7/397)
يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
القول في تأويل قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"يستبشرون"، يفرحون ="بنعمة من
الله"، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند
ورودهم عليه ="وفضل" يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل
الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم وجهاد أعدائه ="وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، كما:-
8232- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق:"يستبشرون
بنعمة من الله وفضل" الآية، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم
الثواب. (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وأن الله لا يضيع أجر
المؤمنين".
فقرأ ذلك بعضهم بفتح"الألف" من"أنّ" بمعنى: يستبشرون بنعمة من
الله وفضل، وبأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين.
* * *
= وبكسر"الألف"، على الاستئناف. واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها
في قراءة عبد الله: (" وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ ") . قالوا: فذلك دليل على أن قوله:"وإن الله"
مستأنف غير متصل بالأول. (2) .
* * *
ومعنى قوله:"لا يضيع أجر المؤمنين"، لا يبطل جزاء أعمال من
صدّق رسوله واتبعه، وعمل بما جاءه من عند الله.
* * *
__________
(1) الأثر: 8232- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي
آخرها: 8229.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 247.
(7/398)
|