تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءه من قرأ ذلك:"وأن الله" بفتح"الألف"، لإجماع الحجة من القرأة على ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم. (1) .
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو -أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش- مُنصَرَفهم عن أحد. وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم. كالذي:-
8233- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني حسين بن عبد الله، (2) عن عكرمة قال: كان يوم أحد [يوم] السبت للنصف من شوال، (3) فلما كان الغد من يوم أحد، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب
__________
(1) انظر تفسير"القرح" فيما سلف 7: 237.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "حسان بن عبد الله"، وهو خطأ، والصواب من تاريخ الطبري. وهو"حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب". روي عن عكرمة، وروي عنه هشام ابن عروة، وابن جريج، وابن المبارك، وابن إسحاق. وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب.
(3) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام ومن تاريخ الطبري.

(7/399)


العدو، وأذَّن مؤذِّنه أن:"لا يخرجنَّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس". فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إنّ أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع، وقال لي:"يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولستُ بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلَّف على أخواتك"، فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبًا للعدوّ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. (1) .
8234- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين: فلما أذَّن [مؤذِّن] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، (2) قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكنتُ إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عقبة، (3) حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. (4)
__________
(1) الأثر: 8233- سيرة ابن هشام 3: 106، 107، وتاريخ الطبري 3: 29.
(2) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
(3) "العقبة": قدر ما يسره الماشي ما استطاع المشي، يريد: حملته شوطًا، وسار شوطًا.
(4) الأثر: 8234- سيرة ابن هشام 3: 107 - 108، وتاريخ الطبري 3: 29.

(7/400)


8235- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله تبارك وتعالى:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرحُ"، أي: الجراح، وهم الذين سارُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم أحد إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح ="للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم". (1)
8236- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" الآية، وذلك يوم أحد، بعد القتل والجراح، وبعد ما انصرف المشركون -أبو سفيان وأصحابه- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"ألا عِصابة تنتدبُ لأمر الله، (2) تطلب عدوّها؟ فإنه أنكى للعدو، وأبعد للسَّمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجَهد.
8237- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: انطلق أبو سفيان منصرفًا من أحد، حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئسما صنعتم! (3) إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (4)
8238- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) الأثر: 8235- سيرة ابن هشام 3: 128.
(2) في المطبوعة: "ألا عصابة تشد لأمر الله"، ولا معنى له، وفي المخطوطة: ألا عصابة تشدد لأمر الله"، وهو بلا ريب تصحيف ما أثبت."ندب القوم إلى الأمر فانتدبوا": دعاهم إليه وحثهم، فأسرعوا إليه واستجابوا. وفضلا عن ذلك، فهذا هو اللفظ الذي كثر وروده في أخبار حمراء الأسد.
(3) في المخطوطة: "بئس ما صنعنا صنعتم"، وهو سهو، والصواب ما في المطبوعة. وانظر ما سلف رقم: 8003.
(4) الأثر: 8237- مضى برقم: 8003، وانظر التعليق هناك.

(7/401)


حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب -يعني يوم أحد- بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرّفًا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب"! وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدَمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإنّ رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه، ويتَّبعوا ما كانوا متَّبعين، وقال: إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل، فجاء الشيطان فخوَّف أولياءه، فقال:"إن الناس قد جمعوا لكم"! فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال:"إني ذاهبٌ وإن لم يتبعني أحد"، لأحضِّضَ الناس. (1) فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله تعالى:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم".
8239- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي، أما والله إن أباك وجدك -تعني أبا بكر والزبير- لممن قال الله تعالى فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (2) .
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة"وتفسير ابن كثير 2: 298. أما الدر المنثور 2: 101، فقد أسقط"لأحضض الناس"، وأنا أرجح أن صوابه هو: "ليحضض الناس"، ولا أشك أن هذه الكلمة ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم.
(2) الحديث: 8239- هاشم بن القاسم: هو أبو النضر الإمام الحافظ، شيخ الإمام أحمد، وإسحاق، وابن المديني. وهو ثقة ثبت حجة. كان أهل بغداد يفخرون به. أبو سعيد: هو المؤدب، واسمه"محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي". وهو ثقة مأمون.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 298، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد. ووقع في مطبوعة المستدرك"هشام بن القاسم"، وهو خطأ مطبعي لا شك فيه.
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
والحديث في الصحيحين، كما سيأتي في الرواية الآتية: 8241. ولعلهما اعتبراه من المستدرك لقوله في هذه الرواية"أنها قالت لعبد الله بن الزبير". والذي في الرواية الآتية أنها قالت لعروة بن الزبير. وهما أخوان، والكلام لهما واحد. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى، كرواية مسلم، كما سيأتي.

(7/402)


8240- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرتُ أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم عامدون إلى المدينة! فقال: إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال، فإنهم عامدون إلى المدينة، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل، فقد رَعَبهم الله، (1) وليسوا بعامديها". فركبوا الأثقال، فرعبهم الله. ثم ندب ناسًا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثًا، فنزلت:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح".
8241- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: إنْ كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير. (2) .
__________
(1) في المطبوعة: "قد أرعبهم الله"، وفي المخطوطة"فقد رعبهم" كما أثبته وهو الصواب. يقال"رعبه يرعبه" (على وزن فتح) ، و"رعبه" (مشدد العين) ، وقد نص أهل اللغة أنه لا يقال: "أرعبه". وستأتي على الصواب في السطر التالي.
(2) الحديث: 8241- سعيد بن الربيع الرازي - شيخ الطبري: مضت له رواية عنه في: 3791، ولم نجد له ترجمة. والحديث تكرار للحديث السابق: 8239. ولكن في هذا أن خطاب عائشة لعروة بن الزبير، وهناك خطابها لأخيه عبد الله، وهما ابنا أختها أسماء بنت أبي بكر.
ورواه مسلم 2: 241، بأسانيد، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، ومن رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي - وهو: عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير - عن عروة، به، نحوه.
ورواه البخاري 7: 287، مطولا، من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى 3: 363، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي، عن عروة - كرواية مسلم. ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"! وسقطت هذه الرواية من تلخيص الذهبي، مخطوطًا ومطبوعًا.
وذكره ابن كثير 2: 297 - 298 رواية البخاري، ثم أشار إلى رواية الحاكم الأولى، وتعقبه في دعواه أن الشيخين لم يخرجاه، بقوله: "كذا قال". ثم أشار إلى أنه رواه ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي في مسنده. ثم أشار إلى رواية الحاكم الثانية.
وذكره السيوطي 2: 102، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل.

(7/403)


الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

8242- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان عبد الله من الذين استجابوا لله والرسول.
* * *
قال أبو جعفر: فوعد تعالى ذكره، مُحسنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، إذا اتقى الله فخافه، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره ="أجرًا عظيما"، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"،"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم".
* * *

(7/404)


و"الذين" في موضع خفض مردود على"المؤمنين"، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول.
* * *
و"الناس" الأوّل، هم قوم -فيما ذكر لنا- كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.
و"الناس" الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد.
* * *
ويعني بقوله:"قد جمعوا لكم"، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرّة إليكم لحربكم ="فاخشوهم"، يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم ="فزادهم إيمانًا"، يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا = ثقة بالله وتوكلا عليه، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين ="حسبنا الله ونعم الوكيل"، يعني بقوله:"حسبنا الله"، كفانا الله، يعني: يكفينا الله = (1) "ونعم الوكيل"، يقول: ونعم المولى لمن وليَه وكفَله.
* * *
وإنما وصف تعالى نفسه بذلك، لأن"الوكيل"، في كلام العرب، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله، ووثِقوا به، وأسندوا ذلك إليه، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244.

(7/405)


واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الناس قد جمعوا لكم".
فقال بعضهم: قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين.
ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك، ومن قائله:
8243- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: مرَّ به -يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم- معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد= وكانت خزاعة، مسلمُهم ومشركهم، عَيْبةَ نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، (1) صفقتهم معه، (2) لا يخفون عليه شيئًا كان بها، =ومعبد يومئذ مشرك= فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! (3) ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، (4) حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا! حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! (5) لنَكرَّن على بقيَّتهم، فلنفرغنَّ منهم". فلما رأى أبو سفيان معبدًا
__________
(1) العيبة: وعاء من أدم يكون في المتاع. ثم أخذوا منه على المثل قولهم: "عيبة الرجل"، أي موضع سره، وفي الحديث: "الأنصار كرشى وعيبتي" أي: خاصتي وموضع سرى. ويقال لأهل الرجل"هم عيبته"، من ذلك.
(2) الصفقة: البيعة، ثم استعملت في العهد والميثاق، وفي الحديث: "إن أكبر الكبائر أن تقاتل أهل صفقتك"، وذلك إذا أعطى الرجل عهده وميثاقه ثم يقاتله، وأصل ذلك كله من الصفق باليد. لأن المتعاهدين والمتبايعين، يضع أحدهما يده في يد الآخر. ومنه حديث ابن عمر: "أعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه". فالصفقة المرة من التصفيق باليد.
(3) عافاه الله وأعفاه: وهب له العافية من العلل والبلايا. وفي سيرة ابن هشام"عافاك فيهم"، وهما سواء. وقوله: "عافاك فيهم"، أي: صانك مما نزل بأصحابك.
(4) في المطبوعة: "من حمراء الأسد"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(5) في المطبوعة: "أصبنا في أحد أصحابه. . ."، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام والتاريخ. وحد كل شيء: طرف شباته، كحد السكين والسيف والسنان. ومنه يقال: "حد الرجل" وهو بأسه ونفاذه في نجدته. و"رجل ذو حد": أي بأس ماض. وقوله: "أصبنا حد أصحابه"، أي: كسرنا حدهم وثلمناه كما يثلم السيف، فصاروا أضعف مما كانوا.

(7/406)


قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقا، (1) قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنَق عليكم شيء لم أر مثله قط! (2) . قال: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتًا من شعر! قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتي ... إِذْ سَالَتِ الأرَضُ بِالجُرْدِ الأبَابيِل (3) تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ ... عِنْد اللِّقَاء وَلا خُرْقٍ مَعَازِيِل (4)
__________
(1) يتحرق: يتلهب من الغيظ كمثل حريق النار.
(2) في المطبوعة: "فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط"، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(3) هد البناء: ضعضعه وهدمه. ومنه"هده الأمر" إذا بلغ منه فضعضعه وكسره وأوهنه. يقول: كادت تنهار راحلته من الفزع. و"الجرد" جمع أجرد: وهو القصير الشعر من الخيل، وهو من علامات عتقها وكرمها. و"الأبابيل" الجماعات المتفرقة، واحدها"إبيل" (بكسر الهمزة وتشديد الباء المكسورة) ، وقيل غير ذلك، وقيل: هو جمع لا واحد له. وزعم معبد كثرة خيل المسلمين في مخرجهم إلى حمراء الأسد، والذي في السير أن المسلمين كانوا في أحد ألفًا، فيهم مئة دارع. وفرسان: أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر لأبي بردة بن نيار.
(4) ردت الخيل تردى (على وزن جرى يجري) : رجمت الأرض بحوافرها في سيرها أو عدوها. و"التنابل" جمع تنبال وتنبالة (بكسر التاء) ، وهو القصير، والقصر معيب، لأن المقاتل القصير لا يطول باعه إذا قاتل بسيف أو رمح. وفي المطبوعة"ولا ميل معازيل"، كما في سيرة ابن هشام، ولكن الذي أثبته هو رواية الطبري في التفسير، وفي التاريخ. و"الخرق" جمع. خرق: وهو الأحمق الذي لا رفق له في عمل. وأنا أرجح أنه أراد الصفة من قولهم: "خرق الظبي وغيره": إذا دهش وفزع، فلصق بالأرض ولم يقدر على النهوض، والصفة من ذلك"خرق" على وزن"فرح"، ولكنه جمعه على باب"أفعل".
وأما"الميل" فهو جمع أميل: وهو الذي يميل على السرج في جانب ولا يستوي عليه، لأنه لا يحسن الركوب ولا الفروسية. و"المعازيل" جمع معزال: وهو الذي لا سلاح معه. وأنا أرى أن"الأميل"، هو الذي يميل عن عدوه من الخوف و"المعزال"، الذي يعتزل المعركة من الفرق، فلا يكاد يقاتل، ولا ينجد من استغاث به.

(7/407)


فَظَلْتُ عَدْوًا، أَظُنُّ الأرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ (1) فَقُلْتُ: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ منْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحَاءُ بِالخِيِل (2) إنِّي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكَلِّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ (3) مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالقِيلِ (4)
قال: فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل
__________
(1) قوله: "فظلت عدوا"، أي: فظللت أعدو عدوًا. و"سما الرجل لعدوه": إذ أشرف له وقصد نحوه، عاليًا عليه.
(2) "تغطمطت القدر": اشتد غليانها، وبان صوتها كصوت اضطراب الأمواج. و"البطحاء": مسيل الوادي، فيه دقاق الحصى. و"الخيل"، ضبطه السهيلي في الروض الأنف (2: 144) بفتح الخاء وسكون الباء، وقال: "قوله: بالخيل، جعل الردف حرف لين، والأبيات كلها مردفة الروى بحرف مد ولين. وهذا هو السناد.. ونظيره قول ابن كلثوم: "ألا هبى بصحنك فاصبحينا" ثم قال: "تصفقها الرياح إذا جرينا". وهو وجه صحيح مقارب. وأما أبو ذر الخشني فقد ضبطه"الجيل" بكسر الجيم، وقال: "الجيل: الصنف من الناس". وهذا لا معنى له. وهو في مطبوعة سيرة ابن هشام"الجيل" بالجيم، وكذلك هو في تاريخ الطبري. فلو صح أنها بالجيم، فأنا أرى أنها جماعة الخيل، وذلك أنهم قالوا: "الجول" (بضم الجيم) و"الجول" بفتحها: هي جماعة الخيل أو الإبل، وقالوا أيضا: "الجول" بضم الجيم و"الجال" و"الجيل" ناحية البئر وجانبها. فكأنه قاس هذا على هذا. أو كأنه جمع جائل من قولهم: "جالت الخيل بفرسانها" إذا طافت وذهبت وجاءت، جمعه كجمع: هائم وهيم، على شذوذه. فأما إذا كانت الرواية"الخيل" بكسر الخاء، فهو جمع خائل أيضا كالذي سلف، والخائل هو الحافظ للشيء الراعي له، من خال المال يخوله: إذا ساسه وأحسن القيام عليه، فهو خائل وخال. يقال: "من خال هذا الفرس"، أي صاحبها القائم بأمرها.
(3) قال أبو ذر الخشني: "البسل: الحرام. وأراد بأهل البسل قريشًا، لأنهم أهل مكة، ومكة حرام". وقوله: "ضاحية" أي علانية من"ضحا" أي برز، والضاحية من كل شيء ما برز منه. فهو إما مصدر على وزن"عافية"، أو اسم فاعل قام مقامه. و"الإربة" البصر بالأمور. و"المعقول" مصدر كالمصادر التي جاءت على وزنه، وهو العقل.
(4) "الوخش": رذالة الناس وسقاطهم وصغارهم. و"القنابل" جمع قنبلة (بفتح القاف) وهي الطائفة من الناس والخيل.

(7/408)


أنتم مبلَّغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (1) "حسبنا الله ونعم الوكيل". (2)
8244 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله:"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا= النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال=: إنّ أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الآية. (3)
8245- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ندموا= يعني أبا سفيان وأصحابه= على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا:"ارجعوا فاستأصلوهم"، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابيًّا فجعلوا له جُعْلا فقالوا له: إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابيَّ في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
__________
(1) أسقطت المطبوعة: "وأصحابه"، وهي ثابتة في التاريخ وفي المخطوطة، وفعل الناشر ذلك ليوافق ما في سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 8243 - سيرة ابن هشام 3: 108- 110، وهو بقية الأثر السالف: 8233، وتاريخ الطبري 3: 28- 29.
(3) الأثر: 8244 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8235.

(7/409)


8246 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عِيرًا واردةَ المدينة ببضاعة لهم، (1) وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حِبال، (2) فقال: إنّ لكم عليَّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدًا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي، وأخبرتموه أنّي قد جمعت له جموعًا كثيرة. فاستقبلت العيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: (3) يا محمد إنا نخبرك أنّ أبا سفيان قد جمع لك جموعًا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا، وقالوا: (4) "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تبارك وتعالى:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" الآية.
8247 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناسُ يأتون عليهم فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس! فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تعالى فيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
* * *
وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له، في غزوة بدر الصغرى، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عامَ قابلٍ من وقعة أحد للقاء عدوِّه أبي سفيان وأصحابه، للموعد الذي كان واعده الالتقاءَ بها.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) "العير" (بكسر العين) : القافلة من الإبل أو الحمير أو البغال، تحمل عليها الميرة.
(2) "الحبال" جمع حبل: وهو العهد.
(3) في المطبوعة: "قالوا له"، بحذف الفاء، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ولم يزده ذلك" بالواو، والصواب من المخطوطة.

(7/410)


8248 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم"، قال: هذا أبو سفيان قال لمحمد:"موعدكم بدرٌ حيث قتلتم أصحابنا"، فقال محمد صلى الله عليه وسلم:"عسى"! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا، فذلك قوله تبارك وتعالى:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء"، وهي غزوة بدر الصغرى.
8249 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= وزاد فيه: وهي بدر الصغرى= قال ابن جريج: لما عبَّى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان، (1) فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون:"قد جمعوا لكم"! يكيدونهم بذلك، يريدون أن يَرْعَبوهم، فيقول المؤمنون:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، حتى قدموا بدرًا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. (2) قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام، وقال في ذلك: (3)
نَفَرَتْ قَلُوصيِ عَنْ خُيولِ مُحَمَّدِ ... وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كَالعُنْجُدِ وَاتَّخَذَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
* * *
قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو:
__________
(1) في المطبوعة: "لما عمد النبي. . ."، وفي المخطوطة"لما عبد"، ورجحت أن صحة قراءتها ما أثبت."عبى الجيش تعبئة": هيأه وأصلح أمره وجمعه، مثل"عبأه". ورجحت ذلك، لأن معناه وارد في الآثار الأخرى.
(2) قوله: "أسواقهم عافية"، أي وافرة، من قولهم: "أرض عافية": لم يرع أحد نبتها، فوفر نبتها وكثر. يعني أن الأسواق لم يحضرها أحد يزاحمهم في تجارتها. وانظر الأثر الآتي رقم: 8252.
(3) هو معبد بن أبي معبد الخزاعي، كما روى ابن هشام في سيرته 3: 220، 221، والطبري في تاريخه 3: 41.

(7/411)


قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمَّدِ ... وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبٍ كَالعُنْجُدِ (1) تَهْوِي عَلَى دِينِ أَبيهَا الأتْلَدِ ... قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي (2)
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ (3)
* * *
8250 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: كانت بدر متجرًا في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه، ولقيهم ناسٌ من المشركين فقالوا لهم:"إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"! فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة، وقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحدًا، فأنزل الله عز وجل فيهم:"إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فقال:"حسبنا الله ونعم الوكيل".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال:"إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش، مُنْصَرَفهم عن أحد إلى حمراء الأسد".
__________
(1) سيرة ابن هشام 2: 220، 221، وتاريخ الطبري 3: 41، ومعجم ما استعجم: 856، 857. وقوله: "رفقتي محمد" بالتثنية، يعنى المهاجرين والأنصار. و"العجوة" ضرب من أجود التمر بالمدينة، ونخلته هي"اللينة" المذكورة في قوله تعالى: "ما قطعتم من لينة"، في سورة الحشر. و"يثرب" مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و"العنجد": الزبيب الأسود.
(2) تهوي: تسرع، هوت الناقة تهوى: أسرعت إسراعًا. والدين: الدأب والعادة. و"الأتلد" الأقدم، من التليد، وهو القديم. و"قديد": موضع ماء بين مكة والمدينة.
(3) و"ضجنان" (بفتح أوله وسكون الجيم) : وهو جبل على طريق المدينة من مكة، بينه وبين قديد ليلة، كما بينه هذا الشعر. قاله أبو عبيد البكرى في معجم ما استعجم.

(7/412)


لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، لما قيل لهم:"إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح"، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد.
وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، (1) فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمُه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها، بعد سنة من غزوة أحد، في شعبان سنة أربع من الهجرة. وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه، ولكن قد كان قتل في وقعة الرَّجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرَّجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا الصغرى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأما قول الذين خرجوا معه"، وهي زيادة فاسدة، وليست في المخطوطة.

(7/413)


فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

القول في تأويل قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فانقلبوا بنعمة من الله"، فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، (1) من وجههم الذي توجَّهوا فيه -وهو سيرهم في أثر عدوهم- إلى حمراء الأسد="بنعمة من الله"، يعني: بعافية من ربهم، لم يلقوا بها عدوًّا. (2) "وفضل"، يعني: أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي تَجَروا بها، (3) الأجر الذي اكتسبوه (4) =:"لم يمسسهم سوء" يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى (5) ="واتبعوا رضوان الله"، يعني بذلك: أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ، وطاعتهم="والله ذو فضل عظيم"، يعني: والله ذو إحسان وطَوْل عليهم -بصرف عدوهم الذي كانوا قد همُّوا بالكرة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم وعلى غيرهم- بنعمه (6) ="عظيم" عند من أنعم به عليه من خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
8251 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف 3: 163.
(2) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف 4: 272.
(3) في المطبوعة: "اتجروا بها"، وأثبت ما في المخطوطة."تجر يتجر تجرًا وتجارة": باع واشترى، ومثله: "اتجر" على وزن (افتعل) . والثلاثي على وزن (نصر وينصر) .
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ص299 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"المس" فيما سلف 5: 118 / 7: 155، 238.
(6) السياق: "والله ذو إحسان وطول. . . بنعمه".

(7/414)


عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل"، قال: والفضل ما أصابوا من التجارة والأجر.
8252 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال، وافقوا السوق فابتاعوا، وذلك قوله:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل". قال: الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر= قال ابن جريج: ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل، أصابوا عَفْوه وغِرَّته (1) لا ينازعهم فيه أحد= قال: وقوله:"لم يمسسهم سوء"، قال: قتل="واتبعوا رضوان الله"، قال: طاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
8253 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله ذو فضل عظيم"، لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. (2)
8254 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم، ولم يؤذهم أحد،"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم".
8255 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى- ببدر دراهم، (3) ابتاعوا بها من موسم بدر فأصابوا تجارة، فذلك قول الله:"فانقلبوا بنعمة من لله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله". أما"النعمة" فهي العافية، وأما"الفضل" فالتجارة، و"السوء" القتل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وعزته"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة غير منقوطة. و"الغرة" (بكسر الغين) الغفلة، يريد خلو السوق ممن يزاحمهم فيها، كأنهم أتوها والناس في غفلة عنها. وهو مجاز، ومثله عيش غرير: أي ناعم، لا يفزع أهله.
(2) الأثر: 8253 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8244.
(3) في المطبوعة والدر المنثور"ببدر دراهم"، وفي المخطوطة "بردراهم" غير منقوطة، وأخشى أن تكون كلمة مصحفة لم أهتد إليها، وإن قرأتها"نثر دراهم"، فلعلها! وشيء نثر (بفتحتين) متناثر. ولا أدري أيصح ذلك أو لا يصح.

(7/415)


إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: إنما الذي قال لكم، أيها المؤمنون:"إن الناس قد جمعوا لكم"، فخوفوكم بجموع عدوّكم ومسيرهم إليكم، من فعل الشيطان ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم، يخوفكم بأوليائه من المشركين -أبي سفيان وأصحابه من قريش- لترهبوهم، وتجبنوا عنهم، كما:-
8256 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، يخوف والله المؤمنَ بالكافر، ويُرهب المؤمن بالكافر.
8257 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، قال: يخوّف المؤمنين بالكفار.
8258 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يقول: الشيطان يخوّف المؤمنين بأوليائه.
8259 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، أي: أولئك الرهط، يعني النفر من عبد القيس، الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا، وما ألقى الشيطان على أفواههم="يخوّف أولياءه"، أي: يرهبكم بأوليائه. (1)
8260 - حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن معبد، عن عتاب بن بشير مولى قريش، عن سالم الأفطس في قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، قال: يخوفكم بأوليائه.
* * *
__________
(1) الأثر: 8259 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8253.

(7/416)


وقال آخرون: معنى ذلك، إنما ذلكم الشيطان يعظِّم أمر المشركين، أيها المنافقون، في أنفسكم فتخافونه.
* ذكر من قال ذلك:
8261 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر أمر المشركين وعِظمهم في أعين المنافقين فقال:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"يخوف أولياءه"؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ [وكيف] قيل= إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه="يخوف أولياءه"؟ (1) قيل: ذلك نظير قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) [سورة الكهف: 2] بمعنى: لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا يُنذر، وإنما ينذر به. (2)
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوف الناسَ أولياءه، كقول القائل:"هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب"، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه.
* * *
قال أبو جعفر: وليس الذي شبه [من] ذلك بمشتبه، (3) لأن"الدراهم" في قول القائل:"هو يعطي الدراهم"، معلوم أن المعطَى هي"الدراهم"، وليس كذلك"الأولياء" -في قوله:"يخوف أولياءه"- مخوَّفين، (4) بل التخويف من الأولياء لغيرهم، فلذلك افترقا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ قيل إن كان معناه يخوفكم بأوليائه" وهو كلام لا يستقيم، ورجحت أن الناسخ أسقط ما زدته بين القوسين.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 248.
(3) في المطبوعة: "الذي شبه ذلك بمشبه"، والذي في المخطوطة مثله إلا أنه كتب"بمشتبه" ورجحت أن الناسخ أسقط"من" فوضعها بين القوسين، مع إثبات نص المخطوطة، وهو الصواب.
(4) السياق: "وليس كذلك الأولياء. . . مخوفين".

(7/417)


القول في تأويل قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) }
قال أبو جعفر: يقول: فلا تخافوا، أيها المؤمنون، المشركين، ولا يعظُمَن عليكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم، مع طاعتكم إياي، ما أطعتموني واتبعتم أمري، وإني متكفِّل لكم بالنصر والظفر، (1) ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري، فتهلكوا="إن كنتم مؤمنين"، يقول: ولكن خافونِ دون المشركين ودون جميع خلقي، أنْ تخالفوا أمري، إن كنتم مصدِّقي رسولي وما جاءكم به من عندي.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يحزنك، يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدِّين على أعقابهم من أهل النفاق، (2) فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئًا، وكما أنّ مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته، (3) كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارَّته. كما:-
8262 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، يعني: أنهم المنافقون. (4)
__________
(1) في المخطوطة: "وإني متكلف لكم بالنصر"، وهو خطأ فاحش، تعالى ربنا عن أن يتكلف شيئًا، وهو القادر الذي لا يؤوده شيء. وقد أصاب ناشر الطبعة السالفة فيما فعل.
(2) انظر تفسير"سارع" فيما سلف 7: 130، 207.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كما أن مسارعتهم" بغير واو، والصواب إثبات الواو.
(4) في المطبوعة: "هم المنافقون"، وأثبت ما في المخطوطة، ولو قرئت المخطوطة: "فهم المنافقون"، لكان أجود.

(7/418)


وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

8263 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، أي: المنافقون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر، نصيبًا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم فسارعوا فيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الآخرة، لهم عذاب عظيم في الآخرة، وذلك عذابُ النار. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
8264 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يريد الله أن لا يجعل لهم حظًّا في الآخرة"، أن يُحبط أعمالهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه المنافقين الذين تقدَّم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم: أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الأثر: 8263 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8259.
(2) الأثر: 8264 - ليس في سيرة ابن هشام.

(7/419)


إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم فارتدوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه، (1) ورضوا بالكفر بالله وبرسوله، عوضًا من الإيمان، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم عن إيمانهم شيئًا، بل إنما يضرون بذلك أنفسهم، بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قِبل لها به.
* * *
وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) إلى هذه الآية، عبادَه المؤمنين على إخلاص اليقين، ولانقطاع إليه في أمورهم، والرضى به ناصرًا وحدَه دون غيره من سائر خلقه= ورغَّب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجَّع بها قلوبهم، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميعُ من خالفه وحادَّه، وأن من خذله فلن ينصره ناصرٌ ينفعُه نصرُه، ولو كثرت أعوانه ونصراؤه، (2) كما:-
8265 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان"، أي: المنافقين="لن يضروا الله شيئًا ولهم عذاب أليم"، أي: موجع. (3)
8266 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هم المنافقون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 1: 312 - 315 / 2: 341، 342 / 3: 228.
(2) في المطبوعة: "أو نصراؤه"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 8265 - سيرة ابن هشام: 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8263. وليس في سيرة ابن هشام تفسير"أليم".

(7/420)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله (1) ، أن إملاءنا لهم خيرٌ لأنفسهم.
* * *
ويعني بـ"الإملاء"، الإطالة في العمر، والإنساء في الأجل، ومنه قوله جل ثناؤه: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم: 46] أي: حينًا طويلا ومنه قيل:"عشتَ طويلا وتملَّيت حبيبًا" (2) . "والملا" نفسه الدهر،"والملوان"، الليل والنهار، ومنه قول تميم بن مقبل: (3)
أَلا يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوَانِ (4)
__________
(1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف قريبا ص: 384.
(2) في المطبوعة: "وتمليت حينًا"، وهو خطأ، وفي المخطوطة: "وتمليت حنينًا"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت. وهو قول يقال في الدعاء، ومثله في الدعاء لمن لبس ثوبًا جديدًا: "أبليت جديدًا، وتمليت حبيبًا"، أي: عشت معه ملاوة من دهرك وتمتعت به.
(3) وينسب البيت لابن أحمر، وإلى أعرابي من بني عقيل.
(4) سيبويه 2: 322، ومجاز القرآن 1: 109، والأمالي 1: 233، والسمط: 533، والخزانة 3: 275، واللسان (ملل) ، وغيرها، وسيأتي في التفسير 13: 106 (بولاق) . وقد بين صاحب الخزانة نسبة هذه الأبيات وذكر الشعر المختلف فيه، وقال إن أبيات ابن مقبل بعد هذا البيت: نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالِ النَّاسِ يَخْتَلِفَانِ
ألا يا دَيارَ الحَيِّ لا هَجْرَ بَيْننَا ... وَلكنَّ رَوْعَاتٍ مِنَ الحَدَثَانِ
لِدَهْمَاءَ إِذْ لِلنَّاس والعَيْشِ غِرَّةٌ ... وَإِذْ خُلُقَانَا بِالصِّبَا عَسِرَانِ
قال أبو عبيد البكري: "أمل عليها": دأب ولازم، وقال أبو عبيدة: أي رجع عليها حتى أبلاها، أي: طال عليها. وعندي أن أصله من"الملل"، يقول: حتى بلغ أقصى الملل والسآمة.

(7/421)


يعني: بـ"الملوان"، الليل والنهار.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم".
فقرأ ذلك جماعة منهم: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، وبفتح"الألف" من قوله:"أَنَّمَا"، على المعنى الذي وصفتُ من تأويله.
* * *
وقرأه آخرون: (وَلا تَحْسَبَنَّ) بالتاء و"أَنَّمَا" أيضا بفتح"الألف" من"أنما"، بمعنى: ولا تحسبنّ، يا محمد، الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.
* * *
فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتحت"الألف" من قوله:"أنما" في قراءة من قرأ بالتاء، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت"تحسبن"، في"الذين كفروا"، وإذا أعملتها في ذلك، لم يجز لها أن تقع على"أنما" لأن"أنما" إنما يعمل فيها عاملٌ يعمل في شيئين نصبًا؟
قيل: أما الصواب في العربية ووجهُ الكلام المعروف من كلام العرب، كسر"إن" إذا قرئت"تحسبن" بالتاء، لأن"تحسبن" إذا قرئت بالتاء فإنها قد نصبت"الذين كفروا"، فلا يجوز أن تعمل، وقد نصبت اسمًا، في"أن". ولكني أظن أنّ من قرأ ذلك بالتاء في"تحسبن" وفتح الألف من"أنما"، إنما أراد تكرير تحسبن على"أنما"، كأنه قصد إلى أنّ معنى الكلام: ولا تحسبن، يا محمد أنت، الذين كفروا، لا تحسبن أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم، كما قال جل ثناؤه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) [سورة محمد: 18] بتأويل: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. (1) وذلك وإن كان وجهًا
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 248، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 108، 109.

(7/422)


جائزًا في العربية، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالياء من"يحسبن"، وبفتح الألف من"أنما"، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم، ثم يعمل في"أنما" نصبًا لأن"يحسبن" حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه، وهي تطلب منصوبين.
وإنما اخترنا ذلك لإجماع القرأة على فتح"الألف" من"أنما" الأولى، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة فى"يحسبن" بالياء لما وصفنا.
وأما ألف"إنما" الثانية، فالكسر على الابتداء، بإجماع من القرأة عليه:
* * *
وتأويل قوله:"إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا"، إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثمًا، يقول: يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر="ولهم عذاب مهين"، يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر.
8267 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال، قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. وقرأ:"ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا"، وقرأ: (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ) [سورة آل عمران: 198] . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 2: 347، 348.
(2) الحديث: 8267 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. وسفيان: هو الثوري.
خيثمة: هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي. وهو تابعي ثقة، أخرج له الجماعة كلهم.
الأسود: هو ابن يزيد النخعي.
وهذا الحديث، وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه - عندنا - مرفوع حكمًا، لأنه مما لا يدرك بالرأي.
وسيأتي مرة أخرى: 8374، من طريق عبد الرزاق، عن الثوري، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 298، من رواية جرير، عن الأعمش، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2: 328، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، به، نحوه. ثم قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، به".
وذكره السيوطي 2: 104، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي بكر المروزى في الجنائز، وابن المنذر، والطبراني.
وسيأتي نحو معناه، من حديث أبي الدرداء: 8375.

(7/423)


مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين"، ما كان الله ليدع المؤمنين (1) ="على ما أنتم عليه" من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا="حتى يميز الخبيث من الطيب"، يعنى بذلك:"حتى يميز الخبيث" وهو المنافق المستسرُّ للكفر (2) ="من الطيب"، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان، (3) بالمحن والاختبار، كما ميَّز بينهم يوم أحد عند لقاء العدوّ عند خروجهم إليهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الخبيث" الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم فيه، مثل قولنا.
* ذكر من قال ذلك:
8268 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على
__________
(1) انظر تفسير"يذر" فيما سلف 6: 22.
(2) انظر تفسير"الخبيث" فيما سلف 5: 559.
(3) انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555، 556 / 6: 361.

(7/424)


ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: ميز بينهم يوم أحد، المنافقَ من المؤمن.
8269 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: ابن جريج، يقول: ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب= قال ابن جريج، قال مجاهد: يوم أحد، ميز بعضهم عن بعض، المنافق عن المؤمن.
8270 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، أي: المنافقين. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد.
* ذكر من قال ذلك:
8271 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه"، يعني الكفار. يقول: لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، يميز بينهم في الجهاد والهجرة.
8272 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: حتى يميز الفاجر من المؤمن.
8273 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من
__________
(1) الأثر: 8270 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو جزء من الأثر السالف رقم: 8265، وتتمة الآثار التي قبله من تفسير ابن إسحاق. وكان في المطبوعة هنا"المنافق"، والصواب من المخطوطة، والأثر السالف، وسيرة ابن هشام.

(7/425)


الطيب" قالوا:"إن كان محمدٌ صادقًا، فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر"!! فأنزل الله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، حتى يخرج المؤمن من الكافر.
* * *
قال أبو جعفر: والتأويل الأول أولى بتأويل الآية، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين، وهذه في سياقتها. فكونها بأن تكون فيهم، أشبه منها بأن تكون في غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بما:-
8274 - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، وما كان الله ليطلع محمدًا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا.
* * *
وقال آخرون بما:-
8275 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، أي: فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل

(7/426)


عليكم فيه="ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء"، يعلمه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء= كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد= وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم، بوحيه ذلك إليه ورسالته، كما:-
8276 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"، قال: يخلصهم لنفسه.
* * *
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لأنّ ابتداءها خبرٌ من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده (2) -يعني بغير محن- حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالةٌ واضحةٌ على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم، إلا بالذي ذكر أنه مميِّزٌ به نعتَهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه.
* * *
__________
(1) الأثر: 8275 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8270، وكان في المطبوعة: "بعلمه" بالباء في أوله، والصواب من سيرة ابن هشام، ونصه: "أي: يعلمه ذلك"، أما المخطوطة، فالكلمة فيها غير منقوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"وابتداؤها خبر من الله"، وهو سياق لا يستقيم، والظاهر أن ناسخ المخطوطة لما نسخ، أشكل على بصره، "الآية" ثم"لأن" بعقبها. فأسقط"لأن"، وكتب"وابتداؤها"، ورسم الكلمة في المخطوطة"وابتداها"، فلذلك رجحت ما أثبته، وإن كان ضبط السياق وحده كافيًا في الترجيح.

(7/427)


القول في تأويل قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (1) "وإن تؤمنوا"، وإن تصدِّقوا من اجتبيته من رُسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم="وتتقوا" ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه="فلكم أجر عظيم"، يقول: فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم، ثوابٌ عظيم، كما:-
8277 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا"، أي: ترجعوا وتتوبوا="فلكم أجر عظيم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُون ") بالتاء من"تحسبن".
* * *
وقرأته جماعة أخر: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه بقوله"، وإقحام"بذلك" مفسدة وهجنة في الكلام، فأسقطتها، وهي سبق قلم من الناسخ.
(2) الأثر: 8277 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8275.
(3) في المطبوعة والمخطوطة في ذكر هاتين القراءتين، كتب القراءة الأولى"ولا يحسبن" بالياء، والقراءة الثانية"ولا تحسبن" بالتاء. وهو خطأ بين جدًا، لأنه عقب على هذه القراءة الأخيرة بقوله: "ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك"، واختلافهم كما ترى في قراءة"الياء" لا"التاء"، فمن أجل ذلك صححت مكان القراءتين، كما أثبتها، وهو الصواب المحض إن شاء الله.

(7/428)


ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي الكوفة: (1) معنى ذلك: لا يحسبن الباخلون البخلَ هو خيرًا لهم= فاكتفى بذكر"يبخلون" من"البخل"، كما تقول:"قدم فلان فسررت به"، وأنت تريد: فسررت بقدومه. و"هو"، عمادٌ. (2)
* * *
وقال بعض نحويي أهل البصرة: إنما أراد بقوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم" (3) ="لا يحسبن البخل هو خيرًا لهم"، (4) فألقى الاسم الذي أوقع عليه"الحسبان" به، هو البخل، لأنه قد ذكر"الحسبان" وذكر ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما. (5)
__________
(1) هو الفراء.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 104، 248، 249، وهو نص كلامه، و"العماد" عند الكوفيين، هو ضمير الفصل عند البصريين، ويسمى أيضا"دعامة" و"صفة"، انظر ما سلف 2: 312، تعليق 2 / ثم ص313 / ثم ص: 374.
(3) في المطبوعة: "ولا تحسبن" بالتاء، والصواب بالياء كما أثبتها. وانظر التعليق السالف. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(4) وكان في المطبوعة أيضا: "ولا تحسبن البخل"، بالتاء، والصواب بالياء، وانظر التعليق السالف.
(5) هكذا جاءت هذه الجملة من أولها، وهي مضطربة أشد الاضطراب، وكان في المطبوعة: "به وهو البخل" بزياد واو، ولكني أثبت ما في المخطوطة كما هو على اضطراب الكلام. وقد جهدت أن أجد إشارة في كتب التفسير وإعراب القرآن، إلى هذا الذي قاله البصري فيما رواه أبو جعفر، فلم أجد شيئًا، وأرجح أن الناسخ قد أسقط من الكلام سطرًا أو بعضه، وأرجح أن سياق الجملة من أولها، كان هكذا:
"وقال بعض نحوِّيى أهل البصرة: إِنّما أراد بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الذين يبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْله هو خيرًا لهم بل هو شَرٌّ لهم) =: ولا يحسبَنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهم الله من فضله، لا يَحْسَبُنَّ البُخْلَ هو خيرًا لهم= فألقى"الحسبان" الثاني، وألقى الاسمَ الذي أوقعَ عليه"الحسبان". وما وقع"الحسبان" به هو البخل= لأنه قد ذكر"الحسبان"، وذكر"ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما".
ويكون القائل هذا من أهل البصرة، قد عنى أن هذه الآية شبيهة بأختها الآتية في سورة آل عمران: 188 (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمفَازَةِ مِنَ العَذَابِ)
إذ كرر"لا تحسبن" تأكيدًا لما طال الكلام، وهو صحيح كلام العرب وصريحه. فكذلك هو في هذه الآية، على ما أرجح أن البصري قال، كرر"الحسبان"، ولكنه حذف"الحسبان" الذي كرره، وأبقى الأول الذي ألجأ إلى التكرار والتوكيد.
ويعني بقوله: "أضمرهما"، "الحسبان" الثاني في تأويله، و"البخل"، ولم أجد وجهًا يستقيم به الكلام غير هذا الوجه، فإن أصبت فبحمد الله وتوفيقه، وإن أخطأت، فأسأل الله المغفرة بفضله.

(7/429)


قال: وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا، قال: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ولم يقل:"ومن أنفق من بعد الفتح"، لأنه لما قال: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) [سورة الحديد: 10] ، كان فيه دليل على أنه قد عناهم.
* * *
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة: إنّ"مَنْ" في قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) في معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتح؟ فالأول مكتفٍ. وقال: في قوله:"لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" محذوف، غير أنه لم يُحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف، لأن"هو" عائد البخل، و"خيرا لهم" عائد الأسماء، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين، واكتفى بقوله:"يبخلون" من"البخل".
* * *
قال: وهذا إذا قرئ بـ"التاء"، فـ"البخل" قبل"الذين"، وإذا قرئ بـ"الياء"، فـ"البخل" بعد"الذين"، وقد اكتفى بـ"الذين يبخلون"، من البخل، كما قال الشاعر: (1)
__________
(1) لم يعرف قائله.

(7/430)


إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلى خِلافِ (1)
كأنه قال: جرى إلى السفه، فاكتفى عن"السفه" بـ"السفيه"، كذلك اكتفى بـ"الذين يبخلون"، من"البخل".
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ") بالتاء، بتأويل: ولا تحسبن، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم= ثم ترك ذكر"البخل"، إذ كان في قوله:"هو خيرًا لهم" دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله:"الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله".
وإنما قلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون" بالياء: لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله:"الذين يبخلون" اسمًا له قد أدّى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا لها، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـ"التاء" في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بـ"الياء" غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك: ولا تحسبن، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات، هو خيرًا
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 104، 249، أمالي الشجري 1: 68، 113، 305 / 2: 132، 209، والإنصاف: 63، والخزانة 2: 383، وسائر كتب النحاة.

(7/431)


لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة، كما:-
8278 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم"، هم الذين آتاهم الله من فضله، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدُّوا زكاتها.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
ذكر من قال ذلك:
8279 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" إلى"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، يعني بذلك أهل الكتاب، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس.
8280 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله"، قال: هم يهود، إلى قوله: (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [سورة آل عمران: 184] . (1)
* * *
وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية، التأويل الأوَل، وهو أنه معني بـ"البخل" في هذا الموضع، منع الزكاة، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوَّل قوله: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: البخيل الذي منع حق الله منه، أنه يصير ثعبانًا في عنقه= ولقول الله عقيب هذه الآية: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من
__________
(1) تركت الآية في هذه الآثار على قراءة أبي جعفر"ولا تحسبن" بالتاء، وقراءة مصحفنا اليوم"ولا يحسبن" بالياء.

(7/432)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقيرٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيطوَّقون"، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاةَ، طوقًا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة، كالذي:-
8281 - حدثني الحسن بن قزعة قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالك العبدي قال: ما من عبد يأتيه ذُو رَحمٍ له، يسأله من فضلٍ عنده فيبخل عليه، إلا أخرِج له الذي بَخِل به عليه شجاعًا أقْرَع. (1) قال: وقرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة" إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) "الشجاع": الحية الذكر، وهو ضرب من الحيات خبيث مارد. و"أقرع" صفة من صفات الحيات الخبيثة، يزعمون أنه إذا طال عمر الحية، وكثر سمه، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه.
(2) الحديث: 8281 - الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 34.
و"قزعة": بفتح القاف والزاي، وقيل: بسكون الزاي. انظر المشتبه، ص425. واقتصر الحافظ في تحريره على الفتح.
مسلمة - بفتح الميم - بن علقمة المازني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وضعفه أحمد. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 388، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 367 - 368. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. فهو ثقة عنده.
داود: هو ابن أبي هند.
أبو قزعة: هو سويد بن حجير - بالتصغير فيهما - بن بيان، الباهلي البصري. وهو تابعي ثقة، وثقه أحمد، وابن المديني، وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 148، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 235- 236.
وسها الحافظ في الإصابة 1: 331، في ترجمة أبيه، فذكر أنه"ذهلي"، والمصادر كلها على أنه"باهلي".
وسيأتي في: 8283"عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ صرف، كما سنبينه هناك، إن شاء الله.
أبو مالك العبدي: لا ندري من هو؟ ولا ندري: أهو صحابي أم تابعي؟ فما علمت أحدًا ترجمه، إلا الحافظ في الإصابة 7: 169، بنى ترجمته على هذا الحديث عند الطبري وحده:
فأشار إلى هذه الرواية، وإلى الرواية التالية"عن أبي قزعة، عن رجل"، وذكر أن الثعلبى رواها: "عن رجل من قيس". وإلى الرواية الثالثة: "عن أبي قزعة، مرسلا". ثم قال: "وأبو قزعة: تابعي بصري مشهور، لكنه كان يرسل عن الصحابة. فهو على الاحتمال".
يعني الحافظ: أنه من المحتمل أن يكون"أبو مالك العبدي" هذا صحابيًا، لأن أبا قزعة يروي عن الصحابة ويرسل الرواية عنهم! وما بمثل هذا تثبت الصحبة، ولا بمثله يثبت وجود الشخص والصفة معًا!! خصوصًا وأنه في الرواية التالية"عن رجل" - لم يزعم أنه من الصحابة، ولم يقل ما يشير لذلك.
فلا يزال - بعد هذا - الحديث ضعيفًا، لأنه لم يعرف أن راويه عن رسول الله صحابي.
وقد أشار ابن كثير 2: 307 إلى هذه الروايات الثلاث عند الطبري، ولم ينسبها لغيره.
ولا نعلم أحدًا رواها غير الطبري، إلا إشارة الحافظ في الإصابة لرواية الثعلبي.

(7/433)


8282 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبى قزعة، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شُجاع يتلمَّظ حتى يطوِّقه". (1)
8283 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمِه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه، فيبخل به عليه، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوِّقه". ثم قرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" حتى انتهى إلى قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة". (2)
__________
(1) الحديث: 8282 - عبد الأعلى: هو ابن عبد الأعلى، القرشي السامي، من بني"سامة ابن لؤي". وهو ثقة، أخرج له الجماعة كلهم. والحديث مكرر ما قبله.
"تلمظت الحية"، إذا أخرجت لسانها كتلمظ الآكل، وهو تحريك للسان في الفم، والتمطق بالشفتين.
(2) الحديث: 8283 - هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ من وجهين:
* فأولا: "حجر"، صوابه"حجير" بالتصغير، وقد وقع هذا الخطأ في الإصابة أيضا، في ترجمة"أبي مالك العبدي": "عن أبي قزعة سويد بن حجر". وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا شك في ذلك لأن الحافظ ترجم لأبي قزعة في التهذيب وغيره على الصواب"سويد بن حجير".
* وثانيا: سقط هنا بين الكنية والاسم كلمة"بن". لأن"حجير بن بيان" - هو والد أبي قزعة، وليس اسمه.
* وأبوه"حجير بن بيان": مذكور في الصحابة. مترجم في الاستيعاب، رقم: 543، وأسد الغابة 1: 387؛ والإصابة 1: 330 - 331، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 290. وهو عندهم جميعًا بالتصغير نصا.
* وسها الحافظ ابن كثير، ولم يراجع المصادر! فاغتر بهذه الرواية المغلوطة من وجهين - فذكر في هذه الروايات: "عن أبي قزعة، واسمه حجر بن بيان"!! فزاد على الخطأ الذي في أصول الطبري بحذف"بن" - فصرح بأن هذا اسم أبي قزعة! وما كان ذلك في رواية ولا قول قط.
* والسيوطي تبع الحافظ ابن كثير، ثم زاد خطأ على خطأ، فذكر الحديث 2: 105، ونسبه لابن أبي شيبة في مسنده، وابن جرير"عن حجر بن بيان"!!

(7/434)


8284 - حدثني زياد بن عبيد الله المرّي قال، حدثنا مروان بن معاوية= وحدثني عبد الله بن عبد الله الكلابي قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، واللفظ ليعقوب= جميعًا، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه. عن جده قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده، فيمنعه إياه، إلا دُعِيَ له يوم القيامة شجاعٌ يتلمَّظ فضله الذي منع. (1)
__________
(1) الحديث: 8284 - هذا الحديث رواه الطبري عن ثلاثة شيوخ: زياد بن عبيد الله المرى، وعبد الله بن عبد الله الكلابي - وهذان لم أعرفهما، ولم أجد لواحد منهما ترجمة ولا ذكرًا في غير هذا الموضع. ثم إن في المطبوعة بدل"عبد الله بن عبد الله الكلابي": "محمد بن عبد الله"! وهو أشد جهالة من ذاك.
وفي لسان الميزان 2: 495، ترجمة: "زياد بن عبد الله بن خزاعى، عن مروان بن معاوية. قال ابن حبان في الثقات: حدثنا عنه شيوخنا، ربما أغرب".
فمن المحتمل أن يكون هذا الشيخ هو شيخ الطبري"زياد بن عبيد الله الكلابي"، وأن يكون"عبيد الله" محرفًا في طبعة اللسان إلى"عبد الله".
والشيخ الثالث: يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، مضى مرارًا، آخرها: 3726.
وأسانيده صحاح، على الرغم من جهالة شيخي الطبري الأولين، اكتفاء برواية الحافظ الدورقي. ولأن الحديث ثابت عن شيوخ آخرين عن بهز بن حكيم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
وقد بينا فيما مضى رقم: 873 صحة إسناد بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الرزاق عن معمر، وعن يزيد - وهو ابن هارون، وعن يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن بهز بن حكيم، بهذا الإسناد.
ورواه النسائي 1: 358، عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن بهز.
ومن عجب أنه -وهو في المسند وسنن النسائي- لا ينسبه الحافظ ابن كثير 2: 307، إلا لابن جرير وابن مردويه!
وذكره السيوطي 2: 105، وزاد نسبته لأبي داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي في الشعب.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 33، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي.

(7/435)


8285 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: ثعبان ينقر رأس أحدهم، يقول: أنا مالك الذي بخلت به! (1) .
8286 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت أبا وائل يحدّث: أنه سمع عبد الله قال في هذه الآية:"سيطوقون ما بخلوا له يوم القيامة"، قال: شجاع يلتوي برأس أحدهم.
8287 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة قال، حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بمثله - إلا أنهما قالا قال: شجاع أسود.
8288 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري،
__________
(1) الحديث: 8285 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. وسفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي.
وهذا الحديث لفظه هنا موقوف على ابن مسعود. وهو في معناه مرفوع. وهو أيضًا مختصر اللفظ.
وقد رواه الطبري هكذا، مختصرًا موقوفًا، بأسانيد: 8285 - 8288، 8292. ثم رواه أثناء ذلك: 8289، مرفوعًا بلفظ أطول.
ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك 2: 298- 299، من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، ومن طريق الثوري، عن أبي إسحاق - موقوفًا، بنحوه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وقد تساهل الحافظ ابن كثير 2: 306 فأشار إلى رواية الحاكم هذه، عقب رواية الحديث المرفوع من مسند أحمد - بصيغة توهم أن رواية الحاكم مثل رواية المسند مرفوعة.
ثم زاد القارئ لبسًا، إذ قال عقب ذلك: "ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود - موقوفًا"! فهذا السياق عقب ذكر رواية الحاكم، يوقع في وهم الناظر أنها مرفوعة!! وليست كذلك.

(7/436)


عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: يجيء ماله يوم القيامة ثعبانًا، فينقر رأسه فيقول: أنا مالك الذي بخلت به! فينطوي على عنقه.
8289 - حدثت عن سفيان بن عيينة قال، حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثَل له شجاع أقرع يطوقه. (1) ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" الآية. (2)
__________
(1) "مثل له": انتصب له ماثلا، قائمًا.
(2) الحديث: 8289 - هكذا أبهم الطبري شيخه في هذا الإسناد. ولكن الحديث ثابت برواية الثقات عن ابن عيينة، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
جامع بن أبي راشد الكاهلي الصيرفي: ثقة، وثقه أحمد وغيره، وأخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 240، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 530.
ووقع هنا في نسخ الطبري: "جامع بن شداد". وهو خطأ، فليس لجامع بن شداد في هذا الحديث رواية، فيما أعلم - كما يتبين من التخريج.
ثم إن جامع بن شداد قديم الوفاة، لم يدركه ابن عيينة ولا روى عنه. لأنه ولد سنة 107، وابن شداد مات سنة 107 وقيل سنة 108. وأما ما وقع في ترجمته في التهذيب 2: 56، في الأقوال في سني وفاته، بين: 128، 118، 127، فإنه غلط، بعضه من الحافظ المزي في التهذيب الكبير، وبعضه من نسخ تهذيب التهذيب. وقد ثبتت هذه الأرقام على الصواب بالكتابة بالحروف في الكبير للبخاري 1 / 2 / 239- 240، والصغير، ص: 132؛ وابن سعد 6: 222، 226.
عبد الملك بن أعين الكوفي: تابعي ثقة. وقد تكلم فيه بأنه شيعي، ولكن لم يدفعه أحد عن الصدق. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 343. وذكره البخاري في الضعفاء، ص: 222، فقال: "عبد الملك بن أعين، وكان شيعيًا. روى عنه ابن عيينة وإسماعيل ابن سميع. يحتمل في الحديث". فلم يجرحه في صدقه وروايته، ولذلك أدخله في صحيحه.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3577، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن جامع، وهو ابن أبي راشد، عن أبي وائل، به، نحوه، مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 85، وابن ماجه: 1784، كلاهما عن ابن أبي عمر. والنسائي1: 333 - 334، عن مجاهد بن موسى - كلاهما عن سفيان بن عيينة، به. ولكن زاد الترمذي وابن ماجه في روايتهما: أنه عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين - كرواية الطبري هنا. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره ابن كثير 2: 306، من رواية المسند، ثم ذكر أنه رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وذكره السيوطي 2: 105، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر.

(7/437)


8290 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"سيطوقون ما بخلوا به"، فإنه يُجعل ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوِّقه، فيأخذ بعنقه، فيتبعه حتى يقذفه في النار.
8291 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي وائل قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيُجْعل حية فيطوَّقها، فيقول: ما لي ولك! فيقول: أنا مالك!
8292 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: يطوقون شجاعًا أقرع ينهش رأسه. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، فيجعل في أعناقهم طوقًا من نار.
ذكر من قال ذلك:
8293 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من النار.
__________
(1) الحديث: 8292 - أبو غسان: هو مالك بن إسماعيل بن درهم النهدي الحافظ. مضت ترجمته في: 2989.
إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
حكيم بن جبير الأسدي: ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: 3675. وهو مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 2 / 1 / 16، والصغير، ص: 150، 152؛ والضعفاء له ص: 10، وللنسائي ص: 9، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 201- 202. وهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود. وضعف إسناده لا يضر، فقد مضى موقوفًا بأسانيد صحاح: 8285 - 8288، ومرفوعًا: 8289.

(7/438)


8294 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:"سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من نار.
8295 - حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"سيطوقون"، قال: طوقًا من نار.
8296 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من نار. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتموا نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود، ما كتموا من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
8297 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، ألم تسمع أنه قال: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [سورة النساء: 37\ سورة الحديد: 24] ، (2) يعني أهل الكتاب: يقول: يكتمون، ويأمرون الناس بالكتمان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلَّفون يوم القيامة أن يأتوا بما بَخِلوا به في الدنيا من أموالهم.
* ذكر من قال ذلك:
8298 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: سيكلَّفون أن يأتوا بما بخلوا به، إلى قوله:"والكتاب المنير".
__________
(1) في المطبوعة: "طوق"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) وإنما عنى آية سورة النساء، لأن تمامها"ويكتمون ما آتاهم الله من فضله".

(7/439)


8299 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد"سيطوقون"، سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله:"سيطوقون ما بخلوا به"، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدَ أعلم بما عَنى الله تبارك وتعالى بتنزيله، منه عليه السلام.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه الحي الذي لا يموت، والباقي بعد فَناء جميع خلقه.
* * *
فإن قال قائل: فما معنى قوله:"له ميراث السموات والأرض"، و"الميراث" المعروف، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده؟
قيل: إن معنى ذلك ما وصفنا، من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتِب عليهم الفناء. وذلك أنّ ملك المالك إنما يصير ميراثًا بعد وفاته، فإنما قال جل ثناؤه:"ولله ميراث السموات والأرض"، إعلامًا بذلك منه عبادَه أن أملاك جميع

(7/440)


خلقه منتقلة عنهم بموتهم، وأنه لا أحد إلا وهو فانٍ سواه، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم، لم يبق أحدٌ يكون له ما كانوا يملكونه غيره.
وإنما معنى الآية:"لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، بعد ما يهلكون وتزولُ عنهم أملاكهم، في الحين الذي لا يملكون شيئًا، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلقه، ذو خبرة وعلم، محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه، المحسنَ بالإحسان، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره.
* * *

(7/441)


لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

القول في تأويل قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الآثار بذلك:
8300 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه

(7/441)


لفنحاص: ويحك يا فِنحاص، اتق الله وأسلِم، فوالله إنك لتعلم أنّ محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيُّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا الربا! (1) فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عُنقك يا عدو الله! فأكذِبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ "فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيمًا، زعم أنّ الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربتُ وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص، ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر:"لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" = وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: (لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) [سورة آل عمران: 186] . (2)
8301 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
__________
(1) كان في المخطوطة سقط بين، فيها: "وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر"، واستدركت المطبوعة هذا السقط من الدر المنثور فيما أرجح (2: 105) ، فتركته كما هو، لموافقته لما جاء في تفسير ابن كثير 2: 308، وإن خالف رواية ابن هشام في سيرته، في بعض ألفاظ.
(2) الأثران: 8300، 8301 - سيرة ابن هشام 2: 207، 208، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7695، مما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق.

(7/442)


بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: دخل أبو بكر = فذكر نحوه، غير أنه قال:"وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغنيٍّ، ولو كان غنيًّا"، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. (1)
8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قالها فنحاص اليهوديّ من بني مَرثد، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له: يا فنحاص، اتق الله وآمن وصدِّق، وأقرض الله قرضًا حسنًا! فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا فقير يستقرِضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقًّا، فإن الله إذًا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا، فقال أبو بكر: فلولا هُدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مَرثد لقتلته.
8303 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صك أبو بكر رجلا منهم = الذين قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود.
8304 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟ = قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال:"إنّ الله ثالث ثلاثة" و"يدُ الله مغلولة".
8305 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني يحيى بن واضح قال، حدثت عن عطاء، عن الحسن قال، لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: 245\ سورة الحديد: 11] قالت اليهود: إنّ ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء".
__________
(1) انظر خبر فنحاص أيضًا في الأثر الآتي رقم: 8316.

(7/443)


8306 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن البصري قال: لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال: عجبت اليهود فقالت: إن الله فقير يستقرض! فنزلت:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء".
8307 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، ذكر لنا أنها نزلت في حُيَيّ بن أخطب، لما أنزل الله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) قال: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغنيَّ!
8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرضُ الله قرضًا حسنًا"، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال: فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء".
8309 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قال: هؤلاء يهود. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود:"إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه"، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم، وقتلهم أنبياءهم بغير حق.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"سنكتب ما قالوا وقتلهم".
فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) بالنون،
__________
(1) في المطبوعة: "هؤلاء اليهود"، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/444)


"وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بغير حقٍّ" بنصب"القتل".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (" سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ") بالياء من"سيكتب" وبضمها، ورفع"القتل"، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله:"ونقول ذوقوا"، يذكر أنها في قراءة عبد الله:"ويُقَالُ". (1)
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ:"سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ:"ويقال"، لأن قوله:"ونقول" عطف على قوله:"سنكتب". فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"سَنَكْتُب" بالنون"وقَتْلَهُمْ" بالنصب، لقوله:"وَنَقُول"، ولو كانت القراءة في"سيكتب"
__________
(1) هذا كلام الفراء بلا شك، في معاني القرآن 1: 249، ولكن وقع في نسخ الفراء خرم لم يتنبه إليه مصححو المطبوعة، تمامه مما ذكره الطبري ورواه عنه كعادته. والنص الذي في المطبوعة من معاني القرآن: "وقرئ: سيكتب ما قالوا، قرأها حمزة اعتبارًا، لأنها في مصحف عبد الله"، وانقطع الكلام، فظاهر أن فيه سقطًا، وظاهر أن تمامه ما رواه الطبري من قراءة عبد الله التي اعتبر بها حمزة في قراءة"سيكتب".
(2) المعروف في كلامهم"ألجأه إلى كذا"، واستعمل الطبري"ألجأه عليه" بمعنى حمله عليه، على إرادة التضمين، وهو كلام فصيح لا يعاب، وهو من النوادر التي لم أجدها في كتاب، وإن كنت أذكر أني قرأتها في بعض كتب الشافعي رحمه الله، وغاب اليوم عني مكانها.

(7/445)


بالياء وضمها، لقيل:"ويقال"، على ما قد بيّنا.
* * *
فإن قال قائل: كيف قيل:"وقتلهم الأنبياء بغير حق"، وقد ذكرت في الآثار التي رويتَ، أن الذين عنوا بقوله: (1) "لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ" بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من أولئك أحدٌ قتل نبيًا من الأنبياء، لأنهم لم يدركوا نبيًا من أنبياء الله فيقتلوه؟
قيل: إنّ معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء، وكانوا منهم وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جلّ ثناؤه فعلَ ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته، إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحْلة واحدة، وبالرِّضى من جميعهم فَعل ما فعل فاعلُ ذلك منهم، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ونقول" للقائلين بأن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة="ذوقوا عذاب الحريق"، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وقد ذكرت الآثار التي رويت"، أسقطت"في"، وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 23، 24، 38، 39، 164، 165 وفهارس المباحث في الجزء الثاني ص 611، "إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء. . .".
(3) تفسير"الحريق" كما فسره أبو جعفر، مما لا تكاد تظفر به في كتب اللغة، بل قالوا: الحريق: اضطرام النار وتلهبها. والحريق أيضًا اللهب". وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 110، ونصه: "النار اسم جامع، تكون نارًا وهي حريق وغير حريق، فإذا التهبت، فهي حريق".

(7/446)


و"النار" اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، وإنما"الحريق" صفة لها يراد أنها محرقة، كما قيل:"عذابٌ أليم" يعني: مؤلم، و"وجيع" يعني: موجع.
* * *
وأما قوله:"ذلك بما قدمت أيديكم"، أي: قولنا لهم يوم القيامة،"ذوقوا عذاب الحريق"، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، (1) وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة (2) = من اليهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، وقتلوا الأنبياء بغير حق = بما جازاهم به من عذاب الحريق، بما اكتسبوا من الآثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"بما قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 367، 368.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها لاستقامة الكلام، ويعني بقوله: "الذي قال لهم ذلك"، أي قال لهم: "ذوقوا عذاب الحريق". وسياق العبارة: "فجازى الذين قال لهم ذلك يوم القيامة. . . بما جازاهم به من عذاب الحريق".

(7/447)


الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لقد سمع الله قول الذين قالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول".
* * *
وقوله:"الذين قالوا إن الله"، في موضع خفض ردًّا على قوله:"الذين قالوا إن الله فقيرٌ".
* * *
ويعني بقوله:"قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول"، أوصانا، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه (1) ="أن لا نؤمن لرسول"، يقول: أن لا نصدِّق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك="حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة.
* * *
وهو مصدر مثل"العدوان" و"الخسران" من قولك:"قرَّبتُ قربانًا".
وإنما قال:"تأكله النار"، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان، كان دليلا على قبول الله منه ما قرِّب له، ودلالة على صدق المقرِّب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال، كما:-
8310 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حتى يأتينا بقربان تأكله النار"،
__________
(1) انظر تفسير"عهد إليه" فيما سلف 3: 38، وتفسير"العهد" في فهارس اللغة.

(7/448)


كان الرجل يتصدق، فإذا تُقُبِّل منه، أنزلت عليه نارٌ من السماء فأكلته.
8311 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بقربان تأكله النار"، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتُقُبِّلت منه، بعث الله نارًا من السماء فنزلت على القربان فأكلته.
* * *
= فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [قل، يا محمد، للقائلين: إنّ الله عهد إلينا] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار: [قد جاءكم] رسل من قبلي بالبينات"، (1) يعني: بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم="وبالذي قلتم"، يعني: وبالذي ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته، من أكل النار قُربانه إذا قرَّب لله دلالة على صدقه، (2) ="فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين"، يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم="إن كنتم صادقين" في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقُربان تأكله النار حجة له على نبوته؟
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية: أنّ الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يَعْدوا أن يكونوا
__________
(1) في المخطوطة: "فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار رسل من قبلي بالبينات. . ."، وقد وضع ناسخ المخطوطة أمام السطرين في الهامش (ط ط كذا) ، يعني أنه خطأ كان في النسخة التي نقل عنها، فنقله هكذا كما وجده، فجاء ناشر المطبوعة -أو ناسخ قبله- فأراد أن يصححها، فزاد صدر الآية: "قل قد جاءكم" بعد قوله: "بقربان تأكله النار"، ولكن يبقى السياق غير حسن، فزدت ما بين القوسين، استظهارًا من نهج أبي جعفر في بيانه عن معاني آي كتاب الله، والله الموفق للصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ قرب لله"، والسياق يقتضي"إذا".

(7/449)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

في كذبهم على الله وافترائهم على ربهم وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمونه صادقًا محقًّا، وجحودهم نبوَّته وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه، مفروضة طاعته (1) إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها، والأدلة التي أبان صدقهم بها، افتراء على الله، واستخفافًا بحقوقه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) }
قال أبو جعفر: وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك، يا محمد، كذب هؤلاء الذين قالوا:"إن الله فقير"، وقالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، وافتراؤهم على ربهم اغترارًا بإمهال الله إياهم، ولا يَعظمن عليك تكذيبهم إياك، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله، فقد كذَّبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذرَ، والأدلة الباهرة العقلَ، والآيات المعجزة الخلقَ، وذلك هو البينات. (2)
* * *
وأما"الزبر" فإنه جمع"زبور"، وهو الكتاب، وكل كتاب فهو:"زبور"، ومنه قول امرئ القيس:
__________
(1) في المطبوعة: "لن يفروا أن يكونوا في كذبهم على الله"، وفي المخطوطة: "لن يقروا" ولا معنى لهما، وصوابهما ما أثبت. وسياق العبارة: "لن يعدوا أن يكونوا في كذبهم. . . إلا كمن مضى من أسلافهم".
(2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 2: 318، 355 / 3: 249 / 4: 259 / 5: 379، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.

(7/450)


لِمنْ طَللٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي? ... كخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِي (1)
* * *
ويعني: بـ"الكتاب"، التوراة والإنجيل. وذلك أن اليهود كذَّبت عيسى وما جاء به، وحرَّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته، وغيرت ما أمرهم به في أمره.
* * *
وأما قوله:"المنير"، فإنه يعني: الذي يُنير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه.
* * *
وإنما هو من"النور" والإضاءة، يقال:"قد أنار لك هذا الأمر"، بمعنى: أضاء لك وتبين،"فهو ينير إنارة، والشيء منيرٌ"، (2) وقد:-
8312 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك"، قال: يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
8313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك"، قال: يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق:"وَالزُّبُرِ" بغير"باء"، وهو في مصاحف أهل الشام:"وبالزُّبُرِ" بالباء، مثل الذي في"سورة فاطر". [25] .
* * *
__________
(1) ديوانه: 186، وهو مطلع قصيدته. قال الشنتمرى في شرح البيت: "يقول: نظرت إلى هذا الطلل فشجاني، أي: أحزنني. وقوله: "كخط زبور"، أي قد درس وخفيت آثاره، فلا يرى منه إلا مثل الكتاب في الخفاء والدقة. والزبور: الكتاب. وقوله: "في عسيب يمان"، كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم. ويروى: "عسيب يماني"، على الإضافة، أراد: في عسيب رجل يمان.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "والشيء المنير"، وعبارة بيان اللغة تقتضي ما أثبت.

(7/451)


كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

القول في تأويل قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود، المكذبين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم على ربهم= ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره، ومرجع جميعهم، إليه. لأنه قد حَتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك تكذيبُ من كذبك، يا محمد، من هؤلاء اليهود وغيرهم، وافتراء من افترى عليَّ، فقد كُذِّب قبلك رسلٌ جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه، بمثل الذي جئتَ من أرسلت إليه، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليّ وغيرهم ومرجعهم إليّ، فأوفّي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه:"وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة"، يعني: أجور أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر="فمن زحزح عن النار"، يقول: فمن نُحِّي عن النار وأبعد منها (1) ="فقد فاز"، يقول: فقد نجا وظفر بحاجته.
* * *
يقال منه:"فاز فلان بطلبته، يفوز فوزًا ومفازًا ومفازة"، إذا ظفر بها.
* * *
وإنما معنى ذلك: فمن نُحِّي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة="وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، يقول: وما لذّات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها="إلا متاع الغرور"، يقول: إلا متعة
__________
(1) انظر تفسير"زحزح" فيما سلف 2: 375.

(7/452)


يمتعكموها الغرور والخداع المضمحلّ الذي لا حقيقة له عند الامتحان، ولا صحة له عند الاختبار. فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. يقول تعالى ذكره: ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرور تمتَّعون، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون. (1)
* * *
وقد روي في تأويل ذلك ما:-
8314 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله:"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، قال: كزاد الراعي، تزوِّده الكفّ من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن.
* * *
فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا، إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ، لا يُبلِّغ مَنْ تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل، وإن كان وجهًا من وجوه التأويل، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن"الغرور" إنما هو الخداع في كلام العرب. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور. وأما الذي هو في غرور، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور.
* * *
و"الغرور" مصدر من قول القائل:"غرني فلان فهو يغرُّني غرورًا" بضم"الغين". وأما إذا فتحت"الغين" من"الغرور"، فهو صفة للشيطان الغَرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته.
* * *
وقد:
8315 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا
__________
(1) انظر تفسير: "المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 55.

(7/453)


لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرءوا إن شئتم"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (186) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله: تعالى ذكره: (2) "لتبلون في أموالكم"، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (3) ="وأنفسكم، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من
__________
(1) الحديث: 8315 - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. وعبد الرحيم: هو ابن سليمان المروزي الأشل.
والحديث رواه أحمد في المسند: 9649 (ج2 ص438 حلبي) ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن عمرو - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الترمذي 4: 85، عن عبد بن حميد وغيره، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 299، من طريق شجاع بن الوليد، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2: 311، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو.
ثم قال ابن كثير: "هذا حديث ثابت في الصحيحين، من غير هذا الوجه، بدون هذه الزيادة [يعني ذكر الآية في الحديث] . وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم بن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو".
وذكره السيوطي 2: 107، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4: 277، من رواية الترمذي - ضمن ألفاظ للحديث بمعناه، عند أحمد، والبخاري، والطبراني في الأوسط"بأسناد رواته رواة الصحيح"، وابن حبان في صحيحه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك تعالى ذكره"، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت.
(3) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49 / 3: 7، 220 / 5: 339 / 7: 297، 235.

(7/454)


أهل نصرتكم وملتكم (1) ="ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: من اليهود وقولهم:"إن الله فقير ونحن أغنياء"، وقولهم:"يد الله مغلولة"، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله="ومن الذين أشركوا"، يعني النصارى="أذى كثيرًا"، (2) والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم:"المسيح ابن الله"، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله="وإن تصبروا وتتقوا"، يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته="وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته="فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقيل: إن ذلك كله نزل في فنخاص اليهودي، سيد بني قَيْنُقَاع، كالذي:-
8316 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر:"لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع". (3) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال:"قد احتاج ربكم أن نمده"! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع"،
__________
(1) انظر تفسير"أنفسهم" فيما سلف 6: 501.
(2) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374.
(3) كل من أحدث دونك شيئا، ومضى عليه ولم يستشرك، واستبد به دونك، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو"افتعال" من"الفوت"، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.

(7/455)


فكف، ونزلت: (" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ") . (1) وما بين الآيتين إلى قوله:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله:"فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك" = قال ابن جريج: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال:"ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: اليهود والنصارى="ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا) فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم:"عزير ابن الله"، ومن النصارى:"المسيح ابن الله"، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم، (2) فقال الله:"وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبّب بنساء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل
__________
(1) انظر أخبار فنخاص اليهودي في الآثار السالفة: 8300 - 8302.
(2) في المطبوعة: "ويسمعون إشراكهم" بالواو، وفي المخطوطة، هذه الواو كأنها (د) ، فآثرت أن أجعلها"إذ"، لأنها حق المعنى.

(7/456)


يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعَوَالي، (1) فلما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم، وقالوا: جئناك لحاجة! قال: فليدن إليّ بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعًا عندنا لنستنفق بها. (2) فقال: والله لئن فعلتم لقد جُهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاءً حين هدأ عنهم الناس، (3) فأتوه فنادوه، فقالت امرأته: ما طَرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال: إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم.
(4) قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهَنُوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال، فقالوا: إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال:"هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقين"! (5) فقال: أترهنوني نسائكم؟ قالوا: أنت أجملُ الناس، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم. قالوا: فأنزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينزل، (6)
__________
(1) "العوالي"، جمع عالية. و"العالية": اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهو"السافلة". وعوالي المدينة، بينها وبين المدينة أربعة أميال، وقيل ثلاثة، وذلك أدناها، وأبعدها ثمانية.
(2) استنفق بالمال: جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله.
(3) هدأ عنهم الناس: سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة: "حين هدى عنهم الناس" بطرح الهمزة، وهو صواب جيد، جاء في شعر ابن هرمة، من أبياته الأليمة الموجعة: لَيْتَ السَّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً ... وَأَنَّنَا لا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدَا
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا عَنْ فَرائِسِهَا ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا
يريد: "لتهدأ" و"بهادئ شرهم".
(4) هذا بدأ سياق آخر للخبر، منقطع عما قبله من خبر الزهري، ولم يتم خبر الزهري، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه.
(5) "الوسق" كيل معلوم، قيل: هو حمل بعير، وقيل: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
(6) قوله: "ذهب ينزل"، أي تحرك لينزل، و"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة، أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه"، أو "قعد لا يسأله سائل إلا حرمه"، لا يراد به حقيقة القعود، بل استمرار ذلك منه واتصاله، وحاله عند رؤية الناس، أو طروق السائل. واستعمال"ذهب" بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم، وإن لم تذكره كتب اللغة.

(7/457)


فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال: لو وجدني هؤلاء نائمًا ما أيقظوني! قالت: فكلِّمهم من فوق البيت، فأبى عليها، فنزل إليهم يفوحُ ريحه. قالوا: ما هذه الريح يا فلان؟ قال: هذا عطرُ أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عَبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة! فذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صَنيعه، وما كان يحضّ عليهم، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا، قال: فكان ذلك الكتابُ مع عليّ رضوان الله عليه.
* * *

(7/458)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضا من [أمر] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، (1) إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة والإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه="فنبذوه وراء ظهورهم"، يقول:
__________
(1) الزيادة بين القوسين مما لا يستقيم الكلام إلا بها أو بشبهها.

(7/458)


فتركوا أمر الله وضيعوه. (1) ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك="واشتروا به ثمنًا قليلا"، يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك، عوضًا منه خسيسًا قليلا من عرض الدنيا (2) = ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال:"فبئس ما يشترون". (3)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها اليهود خاصّة.
* ذكر من قال ذلك:
8318 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه، عن ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" إلى قوله:"عذاب أليم"، يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار.
8319 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله. (4)
__________
(1) انظر تفسير"نبد" فيما سلف 2: 401 = وتفسير"وراء ظهورهم" فيما سلف 2: 404.
(2) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف 1: 312 - 315 / 2: 340 - 342، 455 / 3: 330 / 4: 246: 6: 527 / 7: 420.
وانظر تفسير"الثمن" فيما سلف 1: 565 / 3: 328 / 6: 527 بولاق.
(3) انظر بيان معنى"بئس" فيما سلف 2: 338 - 340 / 3: 56.
(4) الأثران: 8318، 8319 - سيرة ابن هشام 2: 208، وهو تابع الأثر السالف رقم: 8300، 8301.

(7/459)


8320 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم"، كان أمرهم أن يتبعوا النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته، وقال: (اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة الأعراف: 158] فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [سورة البقرة: 40] عاهدهم على ذلك، فقال حين بعث محمدًا: صدِّقوه، وتلقون الذي أحببتم عندي.
8321 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس" الآية، قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس، محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، ="فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا".
8322 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحّاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج بن يوسف جُلساءه عن هذه الآية:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب" يهود،"ليبيننه للناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم،"ولا يكتمونه فنبذوه".
8323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، قال: وكان فيه إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
وقال آخرون: عني بذلك كل من أوتي علمًا بأمر الدين.
ذكر من قال ذلك:

(7/460)


8324 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم" الآية، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمانَ العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة، ولا يتكلَّفن رجلٌ ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلِّفين، كان يقال:"مثلُ علم لا يقال به، كمثل كنز لا ينفق منه! ومثل حكمة لا تخرج، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب". وكان يقال:"طوبي لعالم ناطق، وطوبي لمستمع واعٍ". هذا رجلٌ علم علمًا فعلّمه وبذله ودعا إليه، ورجلٌ سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به.
8325 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبد الله بن مسعود فقال: إنّ أخاكم كعبًا يقرئكم السلام، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه". فقال له عبد الله: وأنت فأقره السلام وأخبرهُ أنها نزلت وهو يهوديّ.
8326 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بنحوه، عن عبد الله وكعب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
ذكر من قال ذلك:
8327 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني يحيى بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون: (" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِيثَاقَهَمْ ") ، قال: من النبيين على قومهم.

(7/461)


8328 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد قال، قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) ، قال فقال: أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
* * *
وأما قوله:"لتبيننه للناس"، فإنه كما:-
8329 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن ذكوان قال، حدثنا أبو نعامة السعدي قال: كان الحسن يفسر قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، لتتكلمن بالحق، ولتصدِّقنه بالعمل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) بالتاء. وهي قراءة عُظْم قرأة أهل المدينة والكوفة، (2) على وجه المخاطب، بمعنى: قال الله لهم: لتُبيننّه للناس ولا تكتمونه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ") بالياء جميعًا، على وجه الخبر عن الغائب، لأنهم في وقت إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم، كانوا غير موجودين، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب.
* * *
__________
(1) كانت الآية في المطبوعة: "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" بالياء، في جميع الآثار السالفة، فجعلتها على قراءة مصحفنا بالتاء في الكلمتين.
(2) في المطبوعة: "وهي قراءة أعظم قراء أهل المدينة. . ." وهو خطأ، صوابه من المخطوطة كما سلف عشرات من المرات. وعظم القوم: أكثرهم ومعظمهم.

(7/462)


قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان، صحيحةٌ وجوههما، مستفيضتان في قرأة الإسلام، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك. غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك، فإن أحب القراءتين إليّ أن أقرأ بها: (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ") ، بالياء جميعًا، استدلالا بقوله:"فنبذوه"، (1) إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله:"فنبذوه"= حتى يكون متَّسقًا كله على معنى واحد ومثال واحد. ولو كان الأول بمعنى الخطاب، لكان أن يقال:"فنبذتموه وراء ظهوركم" أولى، من أن يقال:"فنبذوه وراء ظهورهم".
* * *
وأما قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به.
وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
8330 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يحيى بن أيوب البَجَلي، عن الشعبي في قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: إنهم قد كانوا يقرأونه، إنما نبذوا العمل به.
8331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "استدلالا بقوله فنبذوه، أنه إذ كان قد خرج مخرج الخبر. . ." وهو كلام لا يستقيم، فحذفت: "أنه"، ويكون السياق: "فإن أحب القراءتين إلى أن أقرأ بها. . . حتى يكون متسقا كله على معنى واحد". وما بينهما فصل، علل به اختيار قراءته.
(2) انظر ما سلف 2: 404، وما سلف ص: 459، تعليق: 1.

(7/463)


ابن جريج:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: نبذوا الميثاق.
8332 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا مالك بن مغول: قال، نبئت عن الشعبي في هذه الآية:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: قذفوه بين أيديهم، وتركوا العمل به.
* * *
وأما قوله:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، فإن معناه ما قلنا، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب، (1) كما:-
8333 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، أخذوا طمعًا، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله:"فبئس ما يشترون"، يقول: فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب، كما:-
8334 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فبئس ما يشترون"، قال: تبديل اليهود التوراة.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص: 459، تعليق: 2.

(7/464)


لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

القول في تأويل قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عني بذلك قومٌ من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
* ذكر من قال ذلك:
8335 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله. وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فأنزل الله تعالى فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية. (1)
8336 - حدثني يونس قال، أخبرنا بن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هؤلاء المنافقون، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها.
* * *
__________
(1) الحديث: 8335 - رواه البخاري من طريق شيخه سعيد بن أبي مريم، كرواية الطبري (الفتح: 8: 175) . وقال ابن كثير 2: 317: "رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه".

(7/465)


وقال آخرون: عني بذلك قوم من أحبار اليهود، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلى العلم.
* ذكر من قال ذلك:
8337 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"ولهم عذاب أليم"، يعني فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زيَّنوا للناس من الضلالة="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أن يقول لهم الناس علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، (1) ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا. (2)
8338 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك= إلا أنه قال: وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى. (3)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم: أهل صلاة وصيام.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) سيرة ابن هشام"هدى ولا حق". وفي المطبوعة: "لم يحملوهم على هدى" غير ما في المخطوطة، ولكنها الصواب، ويدل على ذلك الأثر التالي، فإنه ذكر وجه الخلاف بين الروايتين.
(2) الأثر: 8337، 8338 - سيرة ابن هشام 2: 208، وهو تتمة الأثر السالف رقم: 8318، والإسناد متصل إلى ابن عباس، كما مضى مرارًا.
(3) في المطبوعة: "ابن كريب"، وهو خطأ، قد مضى على صحته في مئات من المواضع.

(7/466)


8339 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا:"قد جمع الله كلمتنا، ولم يخالف أحد منا أحدًا [أن محمدًا ليس بنبي] . (1) وقالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أهل الصلاة والصيام"، وكذبوا، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله، قال الله:"يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
8340 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: كانت اليهود أمر بعضهم بعضًا، (2) فكتب بعضهم إلى بعض:"أنّ محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم"، ففعلوا وفرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
8341 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي
__________
(1) هذه الجملة بين القوسين، كان مكانها في المطبوعة: "أنه نبي"، وفي المخطوطة"أن بنبي"، والذي في المطبوعة مخالف لما تمالأ عليه اليهود، والذي في المخطوطة بين الفساد والخرم، واستظهرت ما بين القوسين من الأثر الذي رواه السيوطي في الدر المنثور 2: 109 ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك، والذي سيأتي في الأثر التالي، ونصه: "إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض أن محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم". فمن هذا استظهرت صواب العبارة التي أثبتها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: قالت اليهود أمر بعضهم بعضًا"، وهو كلام غير مستقيم، صحفت"كانت" إلى"قالت" فأثبتها على الصواب إن شاء الله.

(7/467)


قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
8342 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون:"نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم"، فأنزل الله فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أحبوا أن تحمدهم العرب، بما يزكون به أنفسهم، وليسوا كذلك.
8343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية:"لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا"، قال سعيد بن جبير: بكتمانهم محمدًا="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هو قولهم:"نحن على دين إبراهيم عليه السلام". (1)
8344 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصومون ويصلون، ويطيعون الله. فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، كفرًا بالله وكفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم (2) ="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، من الصلاة والصوم، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم".
* * *
__________
(1) الأثر: 8343 - انظر الأثر السالف رقم: 8322.
(2) في المطبوعة: "كفروا بالله، وكفروا بمحمد"، والصواب من المخطوطة.

(7/468)


وقال آخرون: بل معنى ذلك:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، من تبديلهم كتاب الله، ويحبون أن يحمَدهم الناس على ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
8345 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، قال: يهودُ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
8346 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية:"ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: اليهود، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام.
* * *
8347 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة عن أبي المعلى العطّار، عن سعيد بن جبير قال: هم اليهود، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام.
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) قوله: "ولا تملك يهود ذلك" كأنه يعني: ولا تملك يهود النجاة من عذاب الله، كما أنذرهم في الآية.

(7/469)


8348 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن أبي مليكة: أن علقمة بن أبي وقاص أخبره: أن مروان قال لرافع: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له:"لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، ليعذبنا الله أجمعين"! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه. ثم قال:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، الآية.
8349 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره: أن مروان بن الحكم قال لبوابه: يا رافع، اذهب إلى ابن عباس فقل له:"لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، لنعذبن جميعًا"! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس" إلى قوله:"أن يحمدوا بما لم يفعلوا". قال ابن عباس: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. (1)
* * *
__________
(1) الأثران: 8348، 8349 - أخرجهما البخاري في كتاب التفسير، الأول من طريق: "إبراهيم بن موسى عن هشام، أن ابن جريج أخبرهم ... " والآخر من طريق: "ابن مقاتل، أخبرنا الحجاج، عن ابن جريج"، وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير. وقد استوفى الحافظ ابن حجر في الفتح 8: 175، 176، في هذين الأثرين، ذكر رافع، الذي لم يروا له ذكرًا في كتب الرواة، وفي اختلافهم على ابن جريج في شيخ شيخه مرة"علقمة بن أبي وقاص"، وأخرى"حميد بن عبد الرحمن بن عوف". وانظر أسباب النزول الواحدي: 101، 102.

(7/470)


وقال آخرون: بل عني بذلك قومٌ من يهود، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد، والله عالم منهم خلاف ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
8350 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ أعداء الله اليهود، يهود خيبر، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه، وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمَدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا، فأنزل الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، الآية.
8351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا:"إنا على رأيكم وسنتكم، (1) وإنا لكم رِدْء". (2) فأكذبهم الله فقال:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآيتين.
8352 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إن كعبًا يقرأ عليك السلام ويقول: إن هذه الآية لم تنزل فيكم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهودي. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية، قول من قال:"عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر
__________
(1) في المطبوعة: "على رأيكم وهيئتكم"، والذي في المخطوطة"على رأيكم وسكم" غير منقوطة، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت. وأكثر من روى هذا الخبر حذف منه هذه الكلمة. و"السنة": الطريقة والنهج.
(2) "الردء": العون والناصر، ينصره ويشد ظهره.
(3) الأثر: 8352 - انظر الأثر السالف رقم: 8325، "وكعب" هو"كعب الأحبار".

(7/471)


الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، لأن قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن، يا محمد، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء، لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه="فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم".
* * *
وقوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا، (1) من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه، (2) كما:-
8353 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، قال: بمنجاة من العذاب.
* * *
قال أبو جعفر:"ولهم عذاب أليم"، يقول: ولهم عذابٌ في الآخرة أيضًا مؤلم، مع الذي لهم في الدنيا معجل. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"فاز" فيما سلف قريبا ص: 452.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250.
(3) أخشى أن يكون صواب العبارة: "ولهم عذاب مؤلم في الآخرة أيضا مؤجل، مع الذي لهم في الدنيا معجل".

(7/472)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا:"إن الله فقير ونحن أغنياء". يقول تعالى ذكره، مكذبا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون أيها المفترون على الله، من كان ملك ذلك له فقيرًا؟
ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك، ولكل مكذب به ومفتر عليه، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه= فقال:"والله على كل شيء قدير"، يعني: من إهلاك قائلي ذلك، وتعجيل عقوبته لهم، وغير ذلك من الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) }
قال أبو جعفر: وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك، وعلى سائر خلقه، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، (1) تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في
__________
(1) عاقب بين الشيئين: راوح بينهما، لهذا مرة ولذاك مرة. واستعمل الطبري"عقب" مشددة القاف، بنفس المعنى، كما يقال: "ضاعف وضعف"، و"عاقد وعقد". و"اعتقب الليل والنهار" جاء هذا بعد هذا، دواليك.

(7/473)


الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)

هذا راحة لأجسادكم= معتبر ومدَّكر، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل، يعلم أن من نسبني إلى أنّي فقير وهو غني كاذب مفتر، (1) فإنّ ذلك كله بيدي أقلّبه وأصرّفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتم، فكيف ينسب إلى فقر من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه؟ (2) أم كيف يكون غنيًّا من كان رزقه بيد غيره، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حَرَمه؟ فاعتبروا يا أولي الألباب.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}
قال أبو جعفر: وقوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" من نعت"أولي الألباب"، و"الذين" في موضع خفض ردًّا على قوله:"لأولي الألباب".
* * *
ومعنى الآية: إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا. كما:-
8354 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المخطوطة: "يعلم أنه أن من نسبي إلى أني فقير وهو غني، دادب معى"، وهو كلام مصحف مضطرب، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "فكيف ينسب فقر إلى من كان ... "، أخر"إلى"، والصواب الجيد تقديمها كما في المخطوطة.

(7/474)


ابن جريج، قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" الآية، قال: هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن.
8355 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم"، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فاذكره وأنت على جنبك، يُسرًا من الله وتخفيفًا.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"وعلى جنوبهم": فعطف بـ"على"، وهي صفة، (1) على"القيام والقعود" وهما اسمان؟
قيل: لأن قوله:"وعلى جنوبهم" في معنى الاسم، ومعناه: ونيامًا، أو:"مضطجعين على جنوبهم"، فحسن عطف ذلك على"القيام" و"القعود" لذلك المعنى، كما قيل: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [سورة يونس: 12] فعطف بقوله:"أو قاعدا أو قائما" على قوله:"لجنبه"، لأن معنى قوله:"لجنبه"، مضطجعا، (2) فعطف بـ"القاعد" و"القائم" على معناه، فكذلك ذلك في قوله:"وعلى جنوبهم". (3)
* * *
وأما قوله:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض"، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.
* * *
__________
(1) "الصفة": حرف الجر، كما سلف في مواضع كثيرة، وانظر 1: 299، تعليق: 1، وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(2) انظر ما سلف 3: 475.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250.

(7/475)


القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض" قائلين:"ربنا ما خلقت هذا باطلا"، فترك ذكر"قائلين"، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه.
* * *
وقوله:"ما خلقت هذا باطلا" يقول: لم تخلق هذا الخلق عبثًا ولا لعبًا، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة، وإنما قال:"ما خلقت هذا باطلا" ولم يقل:"ما خلقت هذه، ولا هؤلاء"، لأنه أراد بـ"هذا"، الخلقَ الذي في السموات والأرض. يدل على ذلك قوله:"سبحانك فقنا عذاب النار"، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم. ولو كان المعنيّ بقوله:"ما خلقت هذا باطلا"، السموات والأرض، لما كان لقوله عقيب ذلك:"فقنا عذاب النار"، معنى مفهوم. لأن"السموات والأرض" أدلة على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب، الأمر والنهي.
وإنما وصف جل ثناؤه:"أولي الألباب" الذين ذكرهم في هذه الآية: أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين قالوا:"يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك"، يعني: تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر، لجنة أو نار.
ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره، فيكونوا من أهل جهنم.
* * *

(7/476)


رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)

القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها، فقد أخزيته. قال: ولا يخزي مؤمن مصيرُه إلى الجنة، وإن عذِّب بالنار بعض العذاب.
* ذكر من قال ذلك:
8356 - حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار قالا أخبرنا المؤمل، أخبرنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس في قوله:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: من تُخلد. (1)
8357 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن المسيب:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هي خاصة لمن لا يخرج منها.
8358 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا قبيصة بن مروان، عن الأشعث الحمْليّ قال، قلت للحسن: يا أبا سعيد، أرأيت ما تذكر من الشفاعة، حق هو؟ قال: نعم حق. قال، قلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله تعالى:"ربنا إنك من تدخل النار فقد
__________
(1) الأثر: 8356 -"أبو حفص الجبيري"، لم أجده، والذي يروى عنه أبو جعفر هو عمرو بن علي الفلاس، "أبو حفص الصيرفي"، وهو في المخطوطة"الحبرى" غير منقوطة، ولا أدري أيقرأ"الجبيري" أو "الخيبري"، ولم أجد هذه النسبة في ترجمة"عمرو بن علي الفلاس"،. وعمرو بن علي الفلاس يروي عن مؤمل بن إسماعيل كما مضى في مواضع كثيرة منها رقم: 1885، 1891، 1898، وغيرها كثير.

(7/477)


أخزيته" و (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) (1) [سورة المائدة: 37] ؟ قال فقال لي: إنك والله لا تسطو على بشيء، (2) إنّ للنار أهلا لا يخرجون منها، كما قال الله. قال قلت: يا أبا سعيد، فيمن دخلوا ثم خرجوا؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبًا في الدنيا فأخذهم الله بها، فأدخلهم بها ثم أخرجهم، بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به. (3)
8359 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هو من يخلد فيها.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار، من مخلد فيها وغير مخلد فيها، فقد أخزي بالعذاب.
* ذكر من قال ذلك:
8360 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر، عن عمرو بن دينار قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"؟ قال:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة، أسقط"الواو" بين الآيتين، والصواب إثباتها كما يدل عليه سياق سؤاله، وجواب الحسن له.
(2) في المطبوعة: "إنك والله لا تستطيع على شيء"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب ما أثبته من المخطوطة، غيره الناشرون إذ لم يفهموه. وقوله: "لا تسطو علي بشيء"، أي: إنك لا تحتج علي بحجة تقهرني بها وتغلبني. وأصله من"السطو"، وهو البطش والقهر. و"فلان يسطو على فلان"، أي يتطاول عليه.
(3) الأثر: 8358 -"قبيصة بن مروان بن المهلب" روى عن والان، وروى عنه حماد بن زيد. مترجم في الكبير 4 / 1 / 177، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 125. والأشعث الحملي" منسوب إلى جده، وهو: "الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأعمى" ويقال: "الأزدي"، و"حدان" بطن من الأزد. روى عن أنس، والحسن، وابن سيرين. وروى عنه شعبة، وحماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد القطان، مترجم في التهذيب.

(7/478)


وما أخزاه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك لخزيًا. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، قول جابر:"إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها". وذلك أن"الخزي" إنما هو هتك ستر المخزيّ وفضيحته، (2) ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو"الخزي".
* * *
وأما قوله:"وما للظالمين من أنصار"، يقول: وما لمن خالف أمر الله فعصاه، من ذي نُصرة له ينصره من الله، فيدفع عنه عقابه، أو ينقذه من عذابه.
* * *
__________
(1) الأثر: 8360 -"الحارث بن مسلم الرازي" مضى برقم: 8097، و"بحر السقاء"، هو"بحر بن كنيز الباهلي السقاء" مضى أيضًا برقم: 8097، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحارث بن مسلم، عن يحيى بن عمرو بن دينار"، وهو خطأ صرف.
وهذا الأثر قد أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 300، ولم يقل فيه شيئًا، وقال الذهبي في تعليقه: "قلت: بحر هالك"، ورواه بأتم مما هنا، بيد أن السيوطي في الدر المنثور 2: 111، خرجه، ونسبه للحاكم وابن جرير، وساق لفظ الأثر بأتم من لفظ أبي جعفر، ومخالفًا لفظ الحاكم، ولفظه: "قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهت إليه أنا وعطاء، فقلت: "وما هم بخارجين من النار"؟ قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الكفار. قلت لجابر: فقوله: إنك من تدخل النار فقد أخزيته ... "، وسائر لفظه مطابق لما في الطبري.
وفي المخطوطة: "حين أحروه بالنار"، والصواب ما في المطبوعة، موافقًا لفظ الحاكم والسيوطي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "وما إخزاؤه" وهو لا يستقيم، والصواب ما في الدر المنثور. وقوله: "ما أخزاه" تعجب. والذي في الحاكم"قد أخزاه حين أحرقه بالنار". فهما روايتان تصحح إحداهما معنى الأخرى. ويدل على صواب ذلك ترجيح الطبري لقول جابر في الفقرة التالية.
(2) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف 2: 314، 525.

(7/479)


رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"المنادي" الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية.
فقال بعضهم: ا"لمنادي" في هذا الموضع، القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
8361 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
8362 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا منصور بن حكيم، عن خارجة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادي القرآن. (2)
* * *
وقال آخرون: بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 8361 -"قبيصة بن عقبة بن محمد السوائي" مضى برقم: 489، 2792، وهو ثقة معروف، أخرج له الستة، وتكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري: بأنه يخطئ في بعض روايته، بأنه سمع من الثوري صغيرًا.
و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، ضعيف جدا، مضى برقم: 1875، 1876، 3291.
(2) الأثر: 8362 -"منصور بن حكيم"، لم أعرفه ولم أجد له ترجمة، وكذلك"خارجة" لم أعرف من يكون فيمن اسمه"خارجة"، وأخشى أن يكون فيهما تصحيف أو تحريف.

(7/480)


8363 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان": قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
8364 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول محمد بن كعب، وهو أن يكون"المنادي" القرآن. لأن كثيرًا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرًا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [سورة الجن: 1، 2]
وبنحو ذلك:-
8365 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان" إلى قوله:"وتوفَّنَا مع الأبرار"، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الجنّ كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأما مؤمن الإنس فقال:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا"، الآية.
* * *
وقيل:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، يعني: ينادي إلى الإيمان، كما

(7/481)


قال تعالى ذكره: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [سورة الأعراف: 43] بمعنى: هدانا إلى هذا، (1) وكما قال الراجز: (2)
أَوْحَى لَها القَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ ... وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ (3)
بمعنى: أوحى إليها، ومنه قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [سورة الزلزلة: 5]
* * *
وقيل: يحتمل أن يكون معناه: إننا سمعنا مناديًا للإيمان، ينادي أن آمنوا بربكم. (4)
* * *
فتأويل الآية إذًا: ربنا سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان= يقول: إلى التصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك="فآمنا ربنا"، يقول: فصدقنا بذلك يا ربنا. ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفّرها عنا، وسيئات أعمالنا، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا="وتوفنا مع الأبرار"، (5) يعني بذلك: واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك، في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم.
* * *
و"الأبرار" جمع"بَرَ"، وهم الذين برُّوا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له، حتى أرضوه فرضي عنهم. (6)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 169.
(2) هو العجاج.
(3) سلف تخريجهما في 6: 405، تعليق: 3.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 111.
(5) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 111.
(6) وانظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8 / 3: 336 - 338، 556 / 4: 425 / 6: 587.

(7/482)


رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) }
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربَّهم أن يؤتيهم ما وعدهم، وقد علموا أن الله منجز وعده، وغيرُ جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟ قيل: اختلف في ذلك أهل البحث. (1)
فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج المسألة، ومعناه الخبر. قالوا: وإنما تأويل الكلام:"ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار" لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا:"إن توفيتنا مع الأبرار، فأنجز لنا ما وعدتنا"، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء، (2) ولكنه تفضل بابتدائه، ثم ينجزه. (3)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قول من قائليه على معنى المسألة والدعاء لله بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، (4) لا أنهم كانوا قد
__________
(1) "أهل البحث"، أهل النظر من المتكلمين، وانظر ما سلف 5: 387، تعليق 2، وأيضا: 406، تعليق: 1.
(2) في المخطوطة: "بعطية"، وعلى الياء شدة، وكأن الصواب ما في المطبوعة على الأرجح.
(3) في المطبوعة: "تفضل بإيتائه"، والصواب ما في المخطوطة، يعني أن الله ابتدأه متفضلا به من غير سؤال ولا دعاء.
(4) في المطبوعة: "بل ذلك قول من قائله" على الإفراد، وصواب السياق الجمع، كما في المخطوطة.

(7/483)


استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يُخلف وعده. قالوا: ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار، لكانوا قد زكَّوْا أنفسهم، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه. قالوا. وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل قالوا هذا القول على وجه المسألة، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، فيعجل ذلك لهم. قالوا: ومحال أن يكون القوم= مع وصف الله إياهم بما وصفهم به، كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك، ولكنهم كانوا وُعدوا النصرَ، ولم يوقَّت لهم في تعجيل ذلك لهم، لما في تعجَله من سرور الظفر ورَاحة الجسد.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي، أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره، مفارقًا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله، وغيرهم من تُبّاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم، فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نُصرتك عليهم عاجلا فإنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم، فعجل [لهم] خزيهم، ولنا الظفر عليهم. (1)
يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى، وهو قوله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ
__________
(1) في المطبوعة: "فعجل حربهم"، وفي المخطوطة، غير منقوطة، إلا نقطة على الخاء، وصواب قراءتها ما أثبت. وزدت"لهم" بين القوسين، استظهارًا من قوله"ولنا الظفر عليهم". ولو كان قوله"ولنا" تصحيف"وآتنا"، لكان جيدًا أيضًا، ولما احتاج الكلام إلى زيادة"لهم".

(7/484)


بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) الآيات بعدها. وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء. وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال:"افعل بنا يا رب كذا وكذا"، بمعنى:"لتفعل بنا كذا وكذا". (1) ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل لآخر (2) : "أقبل إليّ وكلمني"، بمعنى:"أقبل إليّ لتكلمني"، وذلك غير موجود في الكلام ولا معروف جوازه.
وكذلك أيضًا غير معروف في الكلام:"آتنا ما وعدتنا"، بمعنى:"اجعلنا ممن آتيته ذلك". وإن كان كل من أعطى شيئًا سنيًّا، فقد صُيِّر نظيرًا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه. ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إليه. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك: أنك تُعلي كلمتك كلمةَ الحق، بتأييدنا على من كفر بك وحادَّك وعبد غيرك (4) = وعجَل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك- ولا تخزنا يوم القيامة فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا، ولكن كفِّرها عنا واغفرها لنا. وقد:-
8366 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك"، قال: يستنجز موعود الله على رُسله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بمعنى أفعل بنا لكذا الذي. ولو جاز ذلك ... "، وهذا خلط ليس له معنى مفهوم. وفي المخطوطة: "بمعنى: افعل بنا كذى الذي. ولو جاز ذلك"، وهذا خلط أشد فسادًا من الأول. والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، لأن هذا رد من أبي جعفر على أصحاب القول الأول الذين قالوا إنها بمعنى: "لتؤتينا ما وعدتنا" في تفسير"وآتنا ما وعدتنا"، ولأنه مثل بعد بقوله: "أقبل إلي وكلمني"، أنه غير موجود بمعنى"أقبل إلي لتكلمني".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقول القائل الآخر" وهو خطأ لا شك فيه.
(3) وهذا رد على أصحاب القول الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرها قبل. وهم الذين قالوا إن قوله: "وآتنا ما وعدتنا"، على معنى المسألة والدعاء لله بإن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم.
(4) في المخطوطة: "بأيدينا على من كفر بك"، وأرجح ما جاء في المطبوعة.

(7/485)


فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

القول في تأويل قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين= بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به (1) = ربُّهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرًا، ذكرًا كان العامل أو أنثى.
* * *
وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة"؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.
8367 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر؟ فنزلت:"أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى"، الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة"فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم ... " وهو كلام لا يستقيم. وفي المخطوطة: "فأجاب الله هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوه به ربهم.." وهو أيضًا غير مستقيم، والصواب الراجح ما أثبت. لأن الله عدد أدعيتهم التي دعوه بها قبل في الآيات السالفة، فكان صوابًا أن يذكرها إجمالا في بيان تفسير الآية. وغير مستقيم في العربية أن يقال: "وصف عن فلان كذا"، فلذلك رجحت قراءتها كما أثبت. والناسخ كما ترى كثير السهو والغلط.
وسياق الكلام"فأجاب هؤلاء الداعين ... ربهم" برفع"ربهم"، وما بينهما فصل في السياق، وهو تأويل قوله: "فاستجاب لهم ربهم".
(2) الحديث: 8367 - هذا إسناد صحيح. ومؤمل: هو ابن إسماعيل، وهو ثقة، كما ذكرنا في: 2057.
سفيان - هنا -: هو الثوري، وإن كان مؤمل يروى أيضا عن ابن عيينة. ولكن بين أنه الثوري في رواية الحاكم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
والحديث رواه الطبري أيضا، فيما يأتي في تفسير الآية: 25 من سورة الأحزاب (ج22 ص8 بولاق) ، عن ابن حميد، عن مؤمل، بهذا الإسناد. وذكره سببًا لنزول تلك الآية.
والحديث مروي على أنه سبب في نزول هذه الآية وتلك.
فرواه الحاكم في المستدرك 2: 416، من طريق الحسين بن حفص، عن سفيان بن سعيد [وهو الثوري] ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، قالت: "قلت: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟ فأنزل الله عز وجل: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات" الآية، وأنزل: "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والحسين بن حفص الهمداني الإصبهاني: ثقة، كما ذكرنا في شرح: 2435.
وقد ذكر ابن كثير رواية الطبري الأخرى، في سورة الأحزاب 6: 533، غير منسوب.
ورواه أحمد في المسند 6: 301 (حلبى) ، سببًا لنزول آية الأحزاب. رواه من وجهين، جمعهما في إسناد واحد: من رواية عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، ومن رواية عبد الرحمن بن شيبة المكي الحجبي = كلاهما عن أم سلمة.
ثم أعاده مرة أخرى، ص: 305 من الوجهين، فرقهما إسنادين.
ورواه المزي في تهذيب الكمال، في ترجمة"عبد الرحمن بن شيبة"، بإسناده إليه.
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن النسائي رواه في التفسير من طريق عبد الرحمن. فهو في السنن الكبرى.
ورواه الطبري، فيما سيأتي (ج22 ص8 بولاق) ، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة - سببًا لنزول آية الأحزاب.
ويحيى بن عبد الرحمن: تابعي ثقة جليل رفيع القدر.
وذكر ابن كثير 6: 533 أنه رواه النسائي من طريقه ثم أشار إلى رواية الطبري إياه.
وانظر أيضا الدر المنثور 5: 200.
فالحديث في الموضعين في الطبري، من طريق مجاهد = مختصر.
وانظر الروايتين التاليتين لهذا.

(7/486)


8368 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تبارك وتعالى:"فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى".
8369 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أنها

(7/487)


قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى:"فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عملٍ عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض". (1)
* * *
وقيل:"فاستجاب لهم" بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر: (2)
وَدَاٍع دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى? ... فَلَم يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (3)
بمعنى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.
* * *
__________
(1) الحديثان: 8368، 8369 - الرجل من ولد أم سلمة: أبهم هنا، ولكنه عرف من إسناد آخر.
وكذلك ذكره الترمذي في روايته مبهمًا.
فرواه 4: 88، عن ابن أبي عمر، عن سفيان -وهو ابن عيينة- بهذا الإسناد.
وكذلك أبهمه سعيد بن منصور: فرواه عن سفيان، به. فيما نقله عنه ابن كثير في التفسير 2: 326.
وبينه الحاكم في المستدرك.
فرواه 2: 300، من طريق يعقوب بن حميد: "حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن أبي سلمة: رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. سمعت أبا أحمد الحافظ - وذكر في بحثين في كتاب البخاري: يعقوب عن سفيان، ويعقوب عن الدراوردي = فقال أبو أحمد: هو يعقوب بن حميد". والذهبي وافق الحاكم على أنه على شرط البخاري.
ويعقوب بن حميد بن كاسب: مضى توثيقه في: 4779، 4880، ومضى اعتراض الذهبي على الحاكم في تصحيح حديثه هناك. فالعجب أن يوافقه هنا!
و"سلمة بن أبي سلمة" هذا: هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة"، نسب إلى جده الأعلى. وبعضهم يذكر نسبه كاملا، وبعضهم ينسبه لجده، يقول: "سلمة بن عمر بن أبي سلمة". وأم سلمة أم المؤمنين: هي أم جده"عمر بن أبي سلمة".
و"سلمة" هذا: مترجم في تهذيب التهذيب، ولم يترجم في أصله"تهذيب الكمال". وله ترجمة في الكبير للبخاري 2 / 2 / 81، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 166.
والحديث ذكره السيوطي 2: 112، دون التقيد بتابعي معين عن أم سلمة، وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني.
(2) كعب بن سعد الغنوي.
(3) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1: 320، تعليق: 1 / 3: 483، تعليق: 1.

(7/488)


وأدخلت"من" في قوله:"من ذكر أو أنثى" على الترجمة والتفسير عن قوله: (1) "منكم"، بمعنى:"لا أضيع عمل عامل منكم"، من الذكور والإناث. وليست"من" هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد، (2) لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به.
* * *
وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم:"قد كان من حديث"، قال: و"من" ههنا أحسن، لأن النهي قد دخل في قوله:"لا أضيع".
* * *
وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال: = لا تدخل"من" وتخرج إلا في موضع الجَحد. (3) وقال: قوله:"لا أضيع عمل عامل منكم"، لم يدركه الجحد، لأنك لا تقول:"لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت"، فتدخل،"ولا"، (4) لأنه لم ينله الجحد، ولكن"مِنْ" مفسرة. (5)
* * *
وأما قوله:"بعضكم من بعض"، فإنه يعني: بعضكم= أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= من بعض، في النصرة والملة والدين، (6) وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم ولا أنثى.
* * *
__________
(1) "الترجمة": البدل، كما سلف في 2: 340، تعليق: 1، ص: 374، 420، 424 - 426. أما "التفسير"، فكأنه عنى به"التبيين"، ولم يرد التمييز، وانظر فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء السالفة.
(2) انظر زيادة"من" في الجحد فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586.
(3) انظر ما سلف 2: 127.
(4) في المطبوعة"فيدخل" بالياء، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها.
(5) يعني بقوله"مفسرة" مبينة، وانظر التعليق السالف رقم: 1.
(6) في المطبوعة: "والمسألة والدين"، والصواب من المخطوطة.

(7/489)


القول في تأويل قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فالذين هاجروا" قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله، والتصديق برسوله، (1) "وأخرجوا من ديارهم"، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة="وأوذوا في سبيلي"، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربَّهم، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو"سبيل الله" التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها (2) ="وقاتلوا" يعني: وقاتلوا في سبيل الله ="وقتلوا" فيها (3) ="لأكفرن عنهم سيئاتهم"، يعني: لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم (4) ="ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا"، يعني: جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله (5) ="من عند الله"، يعني: من قبل الله لهم (6) ="والله عنده حسن الثواب"، يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه،
__________
(1) انظر تفسير"هاجر" فيما سلف 4: 317، 318.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 3: 563، 583، 592 / 4: 318 / 5: 280 / 6: 230.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقتلوا: يعني، وقتلوا في سبيل الله، وقاتلوا فيها" قدم وأخر في سياق الآية، وفي سياقة المعنى، والصواب ما أثبت، وإن كانت إحدى القراءات تجيز ما كان في المخطوطة، وانظر القراآت في الآية بعد.
(4) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف قريبًا ص: 482.
(5) انظر تفسير"الثواب" فيما سلف 2: 458 / 7: 262، 304.
(6) انظر تفسير"عند" فيما سلف 2: 501.

(7/490)


وذلك ما لا يبلغه وصف واصفٍ، لأنه مما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، كما:-
8370 - حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان، لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول:"أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة"، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون:"ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك، مَنْ هؤلاء الذين آثرتهم علينا" فيقول الرب جل ثناؤه:"هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي". فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) . (1) [سورة الرعد: 24]
* * *
__________
(1) الحديث: 8370 - أبو عشانة، بضم العين المهملة وتشديد الشين المعجمة، المعافري، بفتح الميم: هو حي بن يؤمن بن عجيل المصري. تابعي ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 110، وابن سعد 7 / 2 / 201، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 276.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 71- 72، من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب -وهو عبد الله- بهذا الإسناد، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه أيضا الطبراني، من طريق أحمد بن صالح، عن ابن وهب - فيما نقل عنه ابن كثير 4: 519
ورواه أحمد في المسند، بنحوه: 6570، من طريق معروف بن سويد الجذامي، عن أبي عشانة المعافري.
ثم رواه - بنحوه أيضًا: 6571، من طريق ابن لهيعة، عن أبي عشانة.
ورواه أبو نعيم في الحلية - مختصرًا - من طريق معروف بن سويد 1: 347. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 259، من روايتي المسند، وذكر في الأولى أنه رواه أيضًا البزار، والطبراني، "ورجالهم ثقات". وذكر في الثانية أنه رواه أيضًا الطبراني، "ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير أبي عشانة، وهو ثقة". وذكره السيوطي 2: 112، ونسبه لابن جرير، وأبي الشيخ، والطبراني والحاكم"وصححه"، والبيهقي في الشعب.
ثم ذكره مرة أخرى 4: 57- 58، ونسبه لأحمد، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، والحاكم"وصححه"، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.
ولم يذكره ابن كثير في هذا الموضع، بل ذكره في ذاك الموضع، في تفسير سورة الرعد، كما أشرنا إليه.

(7/491)


قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وقاتلوا وقتلوا".
* * *
فقرأه بعضهم: (" وَقَتَلُوا وَقُتِّلُوا ") بالتخفيف، بمعنى: أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا) بتشديد"قتَلوا"، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقتَّلهم المشركون، بعضًا بعد بعض، وقتلا بعد قتل.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين: (وَقَاتَلُوا وَقَتَلُوا) بالتخفيف، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقَتَلوا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:"وَقُتِلُوا" بالتخفيف."وقاتلوا"، بمعنى: أن بعضهم قُتِل، وقاتل من بقي منهم.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها، إحدى هاتين القراءتين، وهي:"وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا" بالتخفيف، أو"وَقَتَلُوا" بالتخفيف"وَقَاتَلُوا" لأنها القراءة المنقولة نقل وراثةٍ، وما عداهما فشاذ. وبأيّ هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوَهما، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصوابَ من القراءة، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام، مع اتفاق معنييهما.
* * *

(7/492)


لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)

القول في تأويل قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولا يغرنك" يا محمد="تقلب الذين كفروا في البلاد"، يعني: تصرفهم في الأرض وضربهم فيها، (1) كما:-
8371 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، يقول: ضربهم في البلاد.
* * *
= فنهى الله تعالى ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم، مع شركهم، وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله= ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة.
8372 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يغرَّنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، والله ما غرُّوا نبيَّ الله، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك.
* * *
وأما قوله:"متاع قليل"، فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها،
__________
(1) انظر تفسير"التقلب" فيما سلف 3: 172.
(2) أخشى أن يكون سقط من هذه العبارة شيء، وإن كان الكلام مفهوم المعنى، وكأن أصل العبارة"كما قد بينا فيما مضى قبل - ولم يكل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشرك والكفر شيئًا من أمر الله، ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا".

(7/493)


لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

متعة يمتَّعون بها قليلا حتى يبلغوا آجالهم، فتخترمهم منياتهم="ثم مأواهم جهنم"، بعد مماتهم.
* * *
و"المأوى": المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه. (1)
* * *
ويعني بقوله:"وبئس المهاد". وبئس الفراش والمضجع جهنم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "لكن الذين اتقوا ربهم"، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتّباع مرضاته، في العمل بما أمرهم به، واجتناب ما نهاهم عنه="لهم جنات" يعني: بساتين، (4) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، يقول: باقين فيها أبدًا. (5) ="نزلا من عند الله"، يعني: إنزالا من الله إياهم فيها، أنزلوها.
ونصب"نزلا" على التفسير من قوله:"لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"،
__________
(1) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف ص: 279.
(2) انظر تفسير"المهاد" فيما سلف 4: 246 / 6: 229.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 1: 384 / 5: 535، 542 / 6: 261، 262 / 7: 227.
(5) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف 6: 261: 262 تعليق: 1، والمراجع هناك، وفهارس اللغة.

(7/494)


كما يقال:"لك عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا"، وكما يقال:"هو لك صدقة": و"هو لك هبة". (1)
* * *
= وقوله:"من عند الله" يعني: من قبل الله، (2) ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم.
* * *
وقوله:"وما عند الله خير للأبرار"، يقول: وما عند الله من الحياة والكرامة، وحسن المآب"،"خير للأبرار"، مما يتقلب فيه الذين كفروا، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فانٍ، وهو قليلٌ من المتاع خسيس، وما عند الله من كرامته للأبرار - (3) وهم أهل طاعته (4) باقٍ، غيرُ فانٍ ولا زائل.
* * *
8373 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"وما عند الله خير للأبرار"، قال: لمن يطيع الله.
8374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود، عن عبد الله قال: ما من نَفْس بَرَّة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. ثم قرأ عبد الله:"وما عند الله خير للأبرار"، وقرأ هذه الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ) . (5) [سورة آل عمران: 178]
__________
(1) "التفسير"، عند الكوفيين، هو التمييز عند البصريين، وانظر ما سلف 2: 338، تعليق: 1 / 3: 90، تعليق: 2 / 5: 91، تعليق: 4 وانظر معاني القرآن للفراء 1: 251.
(2) انظر تفسير"عند" فيما سلف قريبًا ص: 490، تعليق 6، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "وما عند الله خير من كرامته للأبرار"، وهو فاسد المعنى، وكان مثله في المخطوطة، إلا أنه ضرب على"خير" بإشارة الحذف، ولكن الناشر لم يدرك معنى الإشارة فأبقاها. فأفسدت الكلام.
(4) انظر تفسير"الأبرار" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(5) الحديث: 8374 - مضى برقم: 8267، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن سفيان.
ورواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش كما نقله ابن كثير عنه 2: 328.

(7/495)


وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

8375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول:"وما عند الله خير للأبرار"، ويقول: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنزلت.
* ذكر من قال ذلك:
8376 - حدثنا عصَام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله: أن
__________
(1) الحديث-: 8375 - فرج بن فضالة: ضعيف، كما بينا في: 1688.
لقمان: هو ابن عامر الوصابي الحمصي. وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 251، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 182- 183. ولم يذكرا فيه جرحا.
و"الوصابي": بفتح الواو وتشديد الصاد المهملة، كما ضبطه ابن الأثير في اللباب، والذهبي في المشتبه، ووهم الحافظ ابن حجر، فضبطه في التقريب بتخفيفها.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 328 - 329، عن هذا الموضع من الطبري. ووقع في طبعته"نوح ابن فضالة" بدل"فرج بن فضالة"، وهو خطأ مطبعي سخيف.
وذكره السيوطي 2: 104، عند الآية السابقة: 178، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

(7/496)


النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اخرجوا فصلوا على أخ لكم". فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال:"هذا النجاشي أصحمة"، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرَاني لم يره قط! (1) فأنزل الله:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله". (2)
8377 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال: فنزلت:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله". قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [سورة البقرة: 115]
8378 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، ذكر
__________
(1) "العلج": الرجل من كفار العجم، غير العرب، والجمع"علوج" و"أعلاج".
(2) الحديث: 8376 - عصام بن رواد بن الجراح: مضت ترجمته وتوثيقه: 2183. وقع هنا في المطبوعة"عصام بن زياد بن رواد بن الجراح"؛ فزيادة اسم"زياد" في نسبه لا أصل لها. وثبت في المخطوطة بحذفها، على الصواب.
أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته وتضعيفه: 126، 2183.
أبو بكر الهذلي: سبق بيان ضعفه جدًا، في: 597، وشرح: 2526.
وهذا الحديث ذكره السيوطي 2: 113، ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره ابن كثير 2: 330، عن الطبري، ولكن في روايته خلاف في بعض لفظه لما هنا، ولم يذكر أول إسناده. فلعله نقله عن موضع آخر من الطبري.
وهذا الحديث ضعيف كما ترى، وسيأتي قول الطبري، ص: 499 س: 15"قيل: ذلك خبر في إسناده نظر".
والضعف إنما هو في هذا الإسناد لحديث جابر، أما أصل المعنى، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة، فإنه ثابت صحيح لا شك في صحته. رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر، ومن حديث أبي هريرة. انظر المنتقى: 1821 - 1824.

(7/497)


لنا أن هذه الآية نزلت في النَّجاشي، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته، قال لأصحابه:"صلّوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم"! فقال أناس من أهل النفاق:"يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه"؟ فأنزل الله هذه الآية:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب".
8379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، قال: نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم = واسم النجاشي، أصحْمة.
8380 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الرزاق، وقال ابن عيينة: اسم النجاشي بالعربية: عطية.
8381 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، طعن في ذلك المنافقون، فنزلت هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله"، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سَلامٍ ومن معه.
* ذكر من قال ذلك:
8382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت -يعني هذه الآية- في عبد الله بن سلام ومن معه.
8383 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في

(7/498)


قوله:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، الآية كلها= قال: هؤلاء يهود.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك مُسْلِمة أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
8384 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم"، من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله:"وإنّ من أهل الكتاب" أهلَ الكتاب جميعًا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله. وكلا الفريقين =أعني اليهود والنصارى= من أهل الكتاب.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في الخبر الذي رويتَ عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟
قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحًا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف. (1) وذلك أنّ جابرًا ومن قال بقوله، إنما قالوا:"نزلت في النجاشيّ"، وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشيّ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشيّ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيّ في اتباعهم
__________
(1) في المطبوعة: "خلاف"، والصواب ما في المخطوطة. وقوله: "بخلاف"، أي بمخالف.

(7/499)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل.
* * *
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"وإن من أهل الكتاب" التوراة والإنجيل="لمن يؤمن بالله" فيقرّ بوحدانيته="وما أنزل إليكم"، أيها المؤمنون، يقول: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="وما أنزل إليهم"، يعني: وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل والزبور="خاشعين لله"، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذلِّلين، (1) كما:-
8385 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في قوله:"خاشعين لله"، قال: الخاشع، المتذلل لله الخائف.
* * *
ونصب قوله:"خاشعين لله"، على الحال من قوله:"لمن يؤمن بالله"، وهو حال مما في"يؤمن" من ذكر"من". (2)
* * *
="لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا"، يقول: لا يحرِّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدِّلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، (3) ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الخشوع" فيما سلف 2: 16، 17.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 251.
(3) انظر تفسير"الاشتراء" وتفسير"الثمن" فيما سلف قريبًا: 459، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(7/500)


القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (1) "أولئك لهم أجرهم"، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم="لهم أجرهم عند ربهم"، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه (2) ="عند ربهم" يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفِّيهم ذلك ="إنّ الله سريع الحساب"، وسرعة حسابه تعالى ذكره: أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاء، فلذلك قال:"إن الله سريع الحساب". (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورَابطوهم".
ذكر من قال ذلك:
8386 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 2: 148، 512 / 5: 519.
(3) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207 / 6: 279.

(7/501)


عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: أنه سمعه يقول في قول الله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سَرَّاء ولا ضراء، وأمرهم أن يُصابروا الكفار، وأن يُرابطوا المشركين.
8387 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، أي: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله="واتقوا الله لعلكم تفلحون".
8388 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله.
8389 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: اصبروا على الطاعة، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله.
8390 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم.
* * *

(7/502)


وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وَعدي إياكم على طاعتكم لي، ورَابطوا أعداءكم.
* ذكر من قال ذلك:
8391 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوِّي وعدوَّكم، حتى يترك دينه لدينكم. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم.
* ذكر من قال ذلك:
8392 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوَّكم، ورابطوا على عدوكم.
8393 - حدثني المثنى قال، حدثنا مطرف بن عبد الله المدنّي قال، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعًا من الروم وما يتخوَّف منهم، فكتب إليه عمر:"أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عُسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورَابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 8391 -"أبو صخر" هو: حميد بن زياد بن أبي المخارق، أبو صخر الخراط، صاحب العباء، سكن مصر. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 8393 -"مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان الهلالي، المدني، مولى ميمونة أم المؤمنين، وأمه أخت مالك بن أنس، روى عن خاله مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن عمر العمري، وغيرهم. روى عنه البخاري والترمذي، عن محمد بن أبي الحسن عنه وابن ماجه، عن الذهلي عنه، والربيع المرادي، وأبو حاتم، وأبو زرعة وآخرون. قال أبو حاتم: "مضطرب الحديث صدوق". وقال= ابن سعد"كان ثقة، وبه صمم". مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 397، والجرح 4 / 1 / 315. وكان في المطبوعة: "المرى"، وفي المخطوطة مثلها، وتقرأ"المزني" والصواب"المدني" أو "المديني" في نسبه كما جاء في المراجع، وابن كثير 2: 337.
وفي ابن كثير 2: 337: "مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة"، وفي الدر المنثور 2: 114"مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة"، وفي المطبوعة والمخطوطة: "مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة"، بحذف"من" والصواب إثباتها.
ومن الأخطاء الشائعة أن يقال إن"مهما" لا تدخل على الماضي، وقد وردت في الآثار والأخبار والأشعار، من ذلك قول أبي هريرة للفرزدق: "مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله" (الكامل 1: 70) وقول الأسود بن يعفر (نوادر أبي زيد: 159) : أَلا هَلْ لِهَذَا الدَّهْرِ مِنْ مُتَعَلَّلِ ... سِوَى النَّاسِ، مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ
وهذا الأثر رواه الحاكم مطولا في المستدرك 2: 300 بإسناده قال:
"أخبرنا أبو العباس السباريّ، حدثنا عبد الله بن علي، حدثنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن أبا عبيدة حُصِر بالشأم، وقد تألّبَ عليه القوم، فكتب إليه عمر: "سلام الله عليك، أمّا بعد، فإنه ما ينزلْ بعبد مؤمن من منزلة شدة، إلا يجعل الله له بعدها فرجًا، ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرين، (يَأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
فكتب إليه أبو عبيدة: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإن الله يقول في كتابه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأوْلادِ) - إلى آخرها".
قال: فخرج عمر بكتابه، فقعد على المنبر، فقرأ على أهل المدينة ثم قال: يا أهْل المدينة، إِنما يعرّضُ بكم أبو عبيدة: أَنِ ارغبوا في الجهادِ".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

(7/503)


وقال آخرون: معنى:"ورابطوا"، أي: رابطوا على الصلوات، أي: انتظروها واحدة بعد واحدة.
ذكر من قال ذلك:
8394 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال، حدثني داود بن صالح قال، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"؟ قال قلت: لا! قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. (1)
__________
(1) الأثر: 8394 -"مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير"، مضت ترجمته برقم: 6456. و"داود بن صالح التمار المدني"،. روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة. قال أحمد: "لا أعلم به بأسًا"، وذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" من التابعين، روى عن خلق من الصحابة والتابعين. كان ثقة فقيها كثير الحديث.
والأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 332، وذكر سياق ابن مردويه له (2: 331) من طريق"محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل على أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 301 من طريق سعيد بن منصور، عن ابن المبارك، بمثل رواية الطبري، إلا أنه قال في جواب السؤال: "قال: قلت: لا. قال: يا ابن أخي إني سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي ... " بلفظه.
وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 113، ونسبه لابن المبارك وابن المنذر، والحاكم، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي جميع هذه المواضع: "انتظار الصلاة بعد الصلاة"، والثابت في المخطوطة"خلف الصلاة"، وكان الكاتب قد كتب فيها"بعد" ثم جعل الباء والعين خاء، ومد الدال وعقد عليها فاء، فالظاهر أنه كتبها كما كان يحفظها، ثم استدرك، لأنه رأى في النسخة التي كتب عنها"خلف".

(7/504)


8395 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط". (1)
8396 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن مهاجر قال، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة،
__________
(1) الحديث: 8395 - أبو السائب: هو سلم بن جنادة. وابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان.
عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري: ضعيف جدا، رمي بالكذب. وقد مضى في: 7855.
شرحبيل: لست أدري من هو؟ والإسناد ضعيف من أجل عبد الله بن سعيد، كما ترى.
ولو صح هذا الإسناد لظننت أنه"شرحبيل بن السمط الكندى"، من كبار التابعين، مختلف في صحبته. وهو معاصر لعلي. ومن المحتمل أن يروي عنه أبو سعيد المقبري، الذي يروي عن علي مباشرة.
والحديث نقله ابن كثير 2: 332، عن هذا الموضع. ولم ينسبه لغير الطبري. وأشار إليه السيوطي 2: 114، بعد حديث جابر، الآتي بعد هذا، فقال: "وأخرج ابن جرير عن علي مثله".
ومعنى الحديث ثابت عن علي، من وجه آخر صحيح. ولكن ليس فيه قوله: "فذلك الرباط" - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 36، وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح".
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 97، وقال: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم".

(7/505)


عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفِّر به الذنوب؟ " قال: قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط. (1)
8397 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يحطُّ الله به الخطايا ويَرفع به
__________
(1) الحديث: 8396 - محمد بن مهاجر بن أبي مسلم، الأنصاري الشامي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 229، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 91.
يحيى بن يزيد الجزري، أبو شيبة الرهاوي: قال البخاري في الكبير 4 / 2 / 310: "لم يصح حديثه" وذكره في الضعفاء أيضا، ص: 37، وقال مثل ذلك. وقال ابن أبي حاتم 4 / 2 / 198، عن أبيه: "ليس به بأس، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، يحول من هناك".
فمثل هذا حديثه حسن. ثم هو لم ينفرد براوية هذا الحديث، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. قال ابن سعد 7 / 2 / 180: "كان ثقة كثير الحديث، فقيها راوية للعلم". أخرج له الجماعة كلهم.
شرحبيل -هنا-: هو ابن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار. مختلف فيه، والحق أنه ثقة. إلا أنه اختلط في آخر عمره، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 2104، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 252، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد 5: 228، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 338- 339.
وقد بين ابن حبان في صحيحه، في رواية هذا الحديث، أنه شرحبيل بن سعد.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه (2: 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، به.
وأبو عبد الرحيم: هو خالد بن أبي يزيد الحراني، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. فروايته متابعة صحيحة، توثق رواية يحيى بن يزيد، التي هنا، وتؤيدها.
والحديث نقله ابن كثير 2: 332، عن رواية الطبري هذه.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 160- 161، عن رواية ابن حبان في صحيحه، وأشار إليه أيضا قبل ذلك، ص: 128.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 37، ونسبه للبزار، وذكر أن"في إسناده شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له في صحيحه هذا الحديث".
وذكره السيوطي 2: 114، ونسبه لابن جرير، وابن حبان.

(7/506)


الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط". (1)
8398 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 8397 - خالد بن مخلد: هو القطواني. ومحمد بن جعفر: هو ابن أبي كثير. وقد مضى مثل هذا الإسناد في حديث آخر: 2206.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7208، من طريق شعبة، عن العلاء، عن أبيه، دون كلمة"فذلك" الرباط".
ورواه أحمد أيضا: 7751، مع هذه الكلمة - من طريق مالك عن العلاء.
ثم رواه ثالثًا: 8008، (ج2 ص303 حلبي) ، من طريق مالك أيضًا. وفي آخره: "فذلكم الرباط" - ثلاث مرات.
وهو بهذا اللفظ، في الموطأ، ص: 161.
وكذلك رواه النسائي 1: 34، من طريق مالك.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه (2: 329- 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق مالك.
ونقله ابن كثير 2: 331، من رواية ابن أبي حاتم، من حديث مالك، كرواية الموطأ.
ورواه مسلم 1: 86، من طريق مالك، ومن طريق شعبة. وذكر أن رواية مالك -عنده-"فذلكم الرباط" مرتين.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 97، 128، ونسبه لمالك، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
وذكره السيوطي 2: 114، وزاد نسبته للشافعي، وعبد الرزاق.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(2) الحديث: 8398 - القاسم: هو ابن الحسن، والحسين: هو ابن داود المصيصي، ولقبه"سنيد".
وهذا الإسناد"القاسم، عن الحسين" يدور عند الطبري كثيرًا، في التفسير والتاريخ، فما مضى منه في التفسير: 144، 165، 1688. وفي التاريخ -مثلا- 1: 21، 41.
أما "سنيد" فقد ترجمنا له في: 144، 1688.
وأما "القاسم بن الحسن" - شيخ الطبري: فلم أجد له ترجمة. ولكن في تاريخ بغداد 12: 432- 433 ترجمة"القاسم بن الحسن بن يزيد، أبو محمد الهمذاني الصائغ"، المتوفى سنة 272. فهذا يصلح أن يكون هو المراد، ولكن لا أطمئن إلى ذلك، ولا أستطيع الجزم به، بل لا أستطيع ترجيحه.
وعسى أن نجد ما يدل على حقيقة هذا الشيخ، في فرصة أخرى، إن شاء الله.
إسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري القارئ، وهو ثقة مأمون. مضت الإشارة إليه في شرح: 6884.
وهذا الحديث تكرار لما قبله.
وكذلك رواه مسلم 1: 86، والترمذي. (رقم: 51 بشرحنا) = كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر. ورواه الترمذي أيضا: 52، من طريق الدراوردي، عن العلاء. وقال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح".

(7/507)


قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله،="اصبروا" على دينكم وطاعة ربكم. وذلك أنّ الله لم يخصص من معاني"الصبر" على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عني بقوله:"اصبروا"، الأمرَ بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها. (1)
="وصابروا"، يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم. (2)
* * *
وكذلك قوله:"ورابطوا"، معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله.
* * *
قال أبو جعفر: ورأى أن أصل"الرباط"، ارتباط الخيل للعدوّ، كما
__________
(1) انظر تفسير"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124 / 3: 214، 349 / 5: 352 / 6: 264 / 7: 181.
(2) في المطبوعة: "وإلا يكن عددهم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.

(7/508)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

ارتبط عدوهم لهم خيلهم، (1) ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر، كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رَجْلة لا مركب له. (2)
* * *
وإنما قلنا معنى:"ورابطوا"، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط". وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه= حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"واتقوا الله"، أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه (4) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده، (5) كما:-
__________
(1) في المخطوطة: "كما ارتبط عددهم لهم حملهم"، ولعل صواب قراءتها"جيادهم"، ولكني تركت ما في المطبوعة على حاله، فهو صواب حسن.
(2) "الرجلة" (بضم الراء وسكون الجيم) : المشي راجلا غير راكب.
(3) قوله: "حجة"، فاعل قوله: "حتى تأتي بخلاف ذلك..". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه ... "، والصواب"مما يوجب" كما أثبتها، وفي المطبوعة أيضا: "إلى الخفي من معاينة"، وهو خطأ ظاهر.
(4) في المطبوعة: "وتتقدموا" بالواو، والصواب من المخطوطة. وقوله: "تتقدموا نهيه" هكذا جاء متعديا، وكأنه أراد: أو تسبقوا نهيه، وسبقهم نهيه. أن يخاطروا بالإسراع إلى المحارم بشهواتهم، قبل أن يردهم نهي الله عن إتيانها.
(5) انظر تفسير"لعل" فيما سلف 1: 364، 365، ومواضع أخرى كثيرة. وانظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 1: 249، 250 / 3: 561 / 7: 91.

(7/509)


8399 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في قوله:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني.
* * *
آخر تفسير سورة آل عمران. (1)
* * *
__________
(1) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا"
ثم يتلوه ما أثبتناه في أول تفسير سورة النساء.

(7/510)