تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض
ولا يكتمون الله حديثًا"، وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ) ؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند
أصحابك فقلت:"ألقى علي ابن عباس مُتَشابه القرآن"، فإذا رجعت
إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بَقيع واحد،
(1) فيقول المشركون:"إن الله لا يقبل من أحد شيئًا إلا ممن
وحّده"! فيقولون:"تعالوا نَقُل"! (2) فيسألهم فيقولون:"والله
رَبنا ما كنا مشركين"، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق
جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك
تمنوا لو أن الأرض سُوِّيت بهم ولا يكتمون الله حديثًا.
9523 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يومئذ يود الذين كفروا
وعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"،
يعني: أن تسوّى الأرضُ بالجبال والأرضُ، عليهم. (3)
فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يومئذ
يود الذين كفروا وعصوا الرسول، لو تسوّى بهم الأرض ولم يكتموا
الله حديثًا (4) = كأنهم تمنوا أنهم سوُّوا مع الأرض، وأنهم لم
يكونوا كتموا الله حديثًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يومئذ لا يكتمون الله حديثًا = ويودّون
لو تسوّى بهم الأرض. وليس بمنكتم عن الله شيء من حديثهم، لعلمه
جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإن همْ كتموه بألسنتهم فجحدوه،
(5) لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا
مَا تَقُولُونَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (6) "يا أيها الذين
آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تقربوا الصلاة"، لا تصلوا
="وأنتم سكارى"، وهو جمع"سكران" ="حتى تعلموا ما تقولون"، في
صلاتكم فتميّزون فيها ما أمركم الله به أو ندبكم إلى قيله
فيها، (7) مما نهاكم عنه وزَجَركم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"السكر" الذي عناه الله بقوله:"لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
فقال بعضهم: عنى بذلك السّكر من الشراب.
__________
(1) "البقيع": المكان المتسع من الأرض، يكون فيه بعض الشجر.
(2) في المطبوعة: "تعالوا نجحد"، غير ما في المخطوطة، وهو ما
أثبته، ولم يستطع أن يعرف لها معنى، وهي صواب، وإن كانت كتب
اللغة قد قصرت في إثبات هذا المعنى. وذلك أن"نقل" هنا
من"القول" يراد به الكذب أو التعريض به، وقد مر بي ذلك في كتب
السيرة مرارًا منها، ما قرأته في سيرة ابن هشام 3: 58، في خبر
مقتل كعب الأشرف وقول محمد بن مسلمة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: "يا رسول الله، لا بد لنا من أن نقول"! فقال رسول الله:
"قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك". وهو شبيه المعنى
بالكذب.
(3) في المطبوعة: "أن تسوى الأرض بالجبال عليهم" حذف"الأرض"
الثانية، والصواب ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ولا يكتمون الله حديثًا"، وهو خطأ فاحش،
والصواب ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "فإنهم إن كتموه بألسنتهم"، وهو خطأ فاحش
أيضًا، والصواب ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(7) في المطبوعة: "وتقرأون فيها مما أمركم الله ... " وهو سياق
مضطرب جدا، وفي المخطوطة: "وتقرون فيها مما أمركم الله" غير
منقوط، وهو مضطرب أيضًا، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.
(8/375)
ذكر من قال ذلك
9524 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان
هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن
فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها، فنزلت:"لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
9525 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب: أن عبد الرحمن
بن عوف صنعَ طعامًا وشرابًا، فدعا نفرًا من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلوا، فقدّموا عليًّا
يصلي بهم المغرب، فقرأ:"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُون أَعْبُد
مَا تَعْبُدُون، وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِيِنكُمْ وَلِيَ دِين"، فأنزل
الله تبارك وتعالى هذه الآية:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
حتى تعلموا ما تقولون".
9526 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قبل أن تحرّم الخمر، فقال
الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"،
الآية.
9527 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين
في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"،
قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر. فقال: وكان هذا قبل أن ينزل
تحريم الخمر.
9528 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين
قال: كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في"البقرة"، (1) وبعد
التي في"النساء"،
__________
(1) يعني آية سورة البقرة: 219: "يسألونك عن الخمر والميسر".
(8/376)
فلما أنزلت التي في"المائدة" تركوها. (1)
9529 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون"، قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريمُ
الخمر.
9530 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9531 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى"، قال: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ
بتحريم الخمر.
9532 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي
وائل، وأبي رزين وإبراهيم في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" و (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [سورة
البقرة: 90] ، وقوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا
حَسَنًا) [سورة النحل: 67] ، قالوا: كان هذا قبل أن ينزل تحريم
الخمر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى من
النوم.
ذكر من قال ذلك
9533 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن
الضحاك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: ليست لمن يقربها
سكران من الشراب، إنما عُنِي بها سكر النوم. (2)
__________
(1) يعني آية سورة المائدة: 90، 91: "يا أيها الذين آمنوا إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه".
(2) في المطبوعة: "قال: سكر النوم"، حذف ما بين ذلك، وكان في
المخطوطة: "لمن يقربها سكرا إنما عنى بها سكر النوم" بياض بين
الكلام، ووضع بهامش المخطوطة حرف"ط" بمعنى الخطأ. وقد اجتهدت
قراءتها كما أثبتها.
(8/377)
9534 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال،
حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"يا أيها الذين
آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: لم يعن بها سكر
الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من
قال: ذلك نهيٌ من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى
من الشراب قبل تحريم الخمر، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك، نهيٌ من الله = وأن هذه
الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك معناه، والسكران في حال زوال
عقله، نظيرُ المجنون في حال زوال عقله، وأنت ممن يُحيل تكليف
المجانين لفقدهم الفهم لما يُؤمر وينهى؟ (1)
قيل له: إن السكران لو كان في معنى المجنون، لكان غير جائز
أمرُه ونهيه. ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذَر، غير أن
الشراب قد أثقل لسانه وأجزاء جسمه وأخدَرها، (2) حتى عجز عن
إقامة قراءته في صلاته، وحدودها الواجبة عليه فيها، من غير
زوال عقله، فهو بما أمر به ونهى عنه عارف فَهِمٌ، وعن أداء
بعضه عاجز بخدَرِ جسمه من الشراب. وأما من صار إلى حدّ لا يعقل
ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخَبل ومعاني
المجانين، (3) وليس ذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما يؤمر ... "، والصواب"لما" كما
أثبته.
(2) في المطبوعة: "وأحر جسمه وأخدره" غير ما في المخطوطة لأنه
كتب"وأحرا حسمه وأخدرها"، فلم يحسن قراءة"وأجزاء"، فأفسد
الكلام.
(3) في المطبوعة: "ومعدود في المجانين"، غير ما في المخطوطة،
وكان فيها: "ومعاني المجانين"، فلم يحسن قراءتها، ففعل ما فعل
كدأبه.
(8/378)
الذي خوطب بقوله:"لا تقربوا الصلاة"، لأن
ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكرانُ ما وصفنا صفته.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم،
معنى ذلك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"
="ولا تقربوها جنبًا إلا عابري سبيل" = يعني: إلا أن تكون
مجتازي طريق، أي: مسافرين ="حتى تغتسلوا". (1)
*ذكر من قال ذلك:
9535 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن
جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في
قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر = وقال ابن
المثنى: في السفر.
9536 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا جنبًا إلا عابري
سبيل"، يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب إذا وجدتم الماء،
فإن لم تجدوا الماء فقد أحللتُ لكم أن تمسَّحوا بالأرض.
9537 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن
المنهال، عن عباد بن عبد الله = أو: عن زِرّ = عن علي رضي الله
عنه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إلا أن تكونوا مسافرين
فلم تجدوا الماء، (2) فتيمموا. (3)
__________
(1) انظر تفسير: "الجنب" فيما سلف قريبًا ص: 340.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تجدوا الماء"، والصواب ما
أثبت.
(3) الأثر: 9537 -"عباد بن عبد الله الأسدي". روى عن علي. وروى
عنه المنهال بن عمرو. قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان
في الثقات، وتكلم فيه أحمد. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر
التالي رقم: 9540.
(8/379)
9538 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير في
قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر.
9539 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشام،
عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس بمثله.
9540 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة،
عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن
علي رضي الله عنه قال: نزلت في السفر:"ولا جنبًا إلا عابري
سبيل"،"وعابر السبيل"، المسافر، إذا لم يجد ماء تيمم.
9541 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن
أبيه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر، إذا لم يجد
الماءَ فإنه يتيمم، فيدخلُه فيصلي. (1)
9542 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الرجل يكون في
السفر، فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي.
9543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال:
مسافرين، لا يجدون ماء فيتيممون صعيدًا طيبًا، لم يجدوا الماء
فيغتسلوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "فإنه يتيمم فيصلي" حذف"فيدخله"، كأنه لم
يعرف ماذا عنى بها فحذفها، وهذا عمل سيئ قبيح. وقوله: "فيدخله"
يعني: المسجد.
(2) في المطبوعة: "حتى يجدوا الماء فيغتسلوا"، وفي المخطوطة:
"لي يجدوا الماء فيغتسلوا"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(8/380)
9544 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا جنبًا
إلا عابري سبيل"، قال: مسافرين لا يجدون ماء.
9545 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن بكير بن
الأخنس، عن الحسن بن مسلم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"،
قال: إلا أن يكونوا مسافرين، فلم يجدوا الماء فيتيمموا. (1)
9546 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن
الحكم:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر تصيبه
الجنابة، فلا يجد ماء فيتيمم.
9547 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير = وعن
منصور، عن الحكم = في قوله:"إلا عابري سبيل"، قالا المسافر
الجنبُ، لا يجد الماء فيتيمم فيصلي.
9548 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
سالم، عن سعيد بن جبير:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، إلا أن
يكون مسافرًا.
9549 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
منصور، عن الحكم نحوه.
9550 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: كنا نسمع أنه في السفر.
9551 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو المسافر الذي لا يجد
الماء، فلا بد
__________
(1) في المطبوعة: "فلا يجدون الماء فيتمموا"، وأثبت ما في
المخطوطة، إلا"فلم يجدوا"، فقد كانت فيها"فلا يجدوا".
(8/381)
له من أن يتيمم ويصلي، فهو يتيمم ويصلي =
قال: كان أبي يقولُ هذا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك، لا تقربوا المصَلَّى للصلاة وأنتم سكارى
حتى تعلموا ما تقولون = ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا إلا
عابري سبيل = يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه.
فقال أهل هذه المقالة: أقيمت"الصلاة" مقام"المصلَّى"
و"المسجد"، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيّامئذ، لا
يتخلَّفون عن التجميع فيها. (1) فكان في النهي عن أن يقربوا
الصلاة، كفايةٌ عن ذكر المساجد والمصلَّى الذي يصلون فيه.
*ذكر من قال ذلك:
9552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله،
عن أبيه في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الممرُّ
في المسجد. (2)
9553 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن
أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن ابن يسار، عن ابن
عباس:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل":، قال: لا تقرب المسجد إلا أن
يكون طريقك فيه، فتمرّ مارًّا ولا تجلس. (3)
9554 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا
أبي، عن قتادة، عن سعيد في الجنب: يمر في المسجد مجتازًا وهو
قائم، لا يجلس وليس بمتوضئ. وتلا هذه الآية:"ولا جنبًا إلا
عابري سبيل".
__________
(1) في المطبوعة: "التجمع فيها"، و"التجميع" هو: شهود صلاة
الجماعة، أو إقامة صلاة الجماعة.
(2) الأثر: 9552 -"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، أبوه: عبد
الله بن مسعود الصحابي. مضت ترجمته في رقم: 43، 4570، وغيرهما.
(3) في المطبوعة: "فتمر مرًا"، لم يحسن قراءة ما كان في
المخطوطة، على سوء كتابتها.
(8/382)
9555 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون،
عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لا بأس للحائض والجنب أن
يمرَّا في المسجد ما لم يجلسا فيه.
9556 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
أبو الزبير قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنب مجتازًا.
9557 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن
قتادة، عن الحسن في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال:
الجنب يمر في المسجد ولا يقعُد فيه.
9558 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد = وحدثني المثنى
قال، حدثنا أبو نعيم = قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إذا لم يجد
طريقًا إلا المسجد، يمرّ فيه.
9559 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال،
حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ولا جنبًا
إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، قال: لا بأس أن يمرّ الجنب في
المسجد، إذا لم يكن له طريق غيره.
9560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم
مثله.
9561 - حدثني المثنى قال، حدثنا [الحماني] قال، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد بن جبير قال: الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس
فيه. ثم قرأ:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". (1)
__________
(1) الأثر: 9561 - في المخطوطة: "حدثني المثنى قال حدثنا قال
حدثنا شريك"، وهو إسناد ناقص، فجاء في المطبوعة فجعله"حدثني
المثنى قال حدثنا شريك"، واستظهرت أن يكون كما أثبته بين
القوسين، من الآثار التي تليه، ومن رواية المثنى بمثل هذا
الإسناد فيما سلف.
(8/383)
9562 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني
قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة مثله.
9563 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
سماك، عن عكرمة مثله.
9564 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى مثله.
9565 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن
قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد، ولا يقعدَا
فيه.
9566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سعيد، عن
الزهري قال: رُخِّص للجنب أن يمرّ في المسجد.
9567 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث
قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله:"ولا جنبًا إلا عابري
سبيل"، أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم
جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في
المسجد، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل".
9568 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم،"ولا جنبًا إلا عابري
سبيل"، قال: لا يجتاز في المسجد، إلا أن لا يجدَ طريقًا غيره.
9569 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن
أبيه: لا يمر الجنب في المسجد، يتخذُه طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من
تأوَّله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك
أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عَدِم
(8/384)
الماء وهو جنب في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) ، فكان معلومًا بذلك أن قوله
(1) "ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، لو كان معنيًّا
به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله:"وإن كنتم مرضى أو على
سفر" معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا، لا
تقربوا المساجد للصلاة مصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون، ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل.
* * *
و"العابر السبيل": المجتازُه مرًّا وقطعًا. يقال منه:"عبرتُ
هذا الطريق فأنا أعبُرُهُ عَبْرا وعبورًا". ومنه قيل:"عبر فلان
النهرَ"، إذا قطعه وجازه. ومنه قيل للناقة القوية على
الأسفار:"هي عُبْر أسفار، وعَبْر أسفار"، (2) لقوتها على
الأسفار.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم مرضى"، من جرح أو
جُدَرِيّ وأنتم جنب، كما:-
9570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان معلوم بذلك"، والصواب ما
أثبت.
(2) في المطبوعة، حذف"وعبر أسفار" الثانية، كأنه ظنها تكرارًا.
وإنما أراد واحدة بضم العين وسكون الباء، والأخرى بفتح العين
وسكون الباء = وهناك ثالثة بكسر العين وسكون الباء.
(8/385)
المنبِّه الفضل بن سليم، (1) عن الضحاك، عن
ابن مسعود قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: المريض الذي
قد أُرخص له في التيمم، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة
الكسيرَ اغتسل، (2) والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى
عليها. (3)
9571 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف
الأزرق، عن شريك، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك قال، في هذه
الآية:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: هي للمريض الذي به
الجراحةُ التي يخاف منها أن يغتسل، فلا يغتسل. فرُخِّص له في
التيمم.
9572 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض" هو الجراح.
والجراحة التي يتخوّف عليه من الماء، (4) إن أصابه ضرَّ صاحبه،
فذلك يتيمم صعيدًا طيبًا.
9573 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد،
عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير في قوله:"وإن كنتم مرضى"،
قال: إذا كان به جروح أو قُروح يتيمم. (5)
9574 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن
إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: من القروح تكون في الذراعين.
__________
(1) الأثر: 9570 -"أبو المنبه: الفضل بن سليم"، لم أجده، وإنما
وجدت"الفضل بن سليم العبدي". روى عن القاسم بن خالد، روى عنه
مسلم بن إبراهيم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 63.
(2) في المطبوعة، حذف قوله: "ولم يحل جبائره" كأنه لم يعرف لها
معنى!! وهو أشهر من ذلك!
(3) في المخطوطة: "والجرح لا يحل جراحته"، والصواب ما في
المطبوعة.
(4) في المخطوطة: "التي يتخوف عليه منه الماء"، وفي المطبوعة:
"التي يتخوف عليها من الماء"، والصواب بينهما ما أثبت.
(5) الأثر 9573 -"عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي"، مضى برقم:
2752، 2753. وقد كان في المطبوعة: "عروة"، والصواب من
المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة.
(8/386)
9575 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون،
عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: القروح
في الذراعين.
9576 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن جويبر،
عن الضحاك قال: صاحب الجراحة التي يتخوّف عليه منها، يتيمم. ثم
قرأ:"وإن كنتم مرضى أو على سفر".
9577 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض"، أن يصيب
الرجل الجرح والقرح والجدريّ، (1) فيخاف على نفسه من برد الماء
وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء.
9578 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني
أبي، عن قتادة، عن عاصم = يعني الأحول = عن الشعبي: أنه سئل عن
[قوله] : المجدور تُصيبه الجنابة؟ قال: ذهب فرسان هذه الآية.
(2)
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
9579 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا"، قال:
المريضُ الذي لا يجد أحدًا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس
له خادم ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء، وليس عنده من
يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلَّى إذا
__________
(1) في المطبوعة: "أو القروح أو الجدري"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) هكذا في المخطوطة: "عن قوله: المجدور ... " فأثبتها بين
القوسين، لأني في شك منها. وأما قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"،
فإنه مما أشكل على معناه، وربما رجحت أنه أراد أن الآية نزلت
في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار كانت
أبوابهم في المسجد، تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيريدون
الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، كما مضى في الأثر رقم:
9567. فيكون قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"، عن ذلك الشطر من
الآية"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، وأنهم هم الأنصار من أصحاب
رسول الله، الذين كانت أبوابهم في المسجد، وقد مضوا، لم يبق
اليوم منهم أحد. هذا غاية اجتهادي، وفوق كل ذي علم عليم.
(8/387)
حلَّت الصلاة = قال: هذا كله قولُ أبي =
إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، لا
يترك الصلاة، وهو أعذَرُ من المسافر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وإن كنتم جَرْحى أو بكم
قروحٌ، أو كسر، أو علّة لا تقدرون معها على الاغتسال من
الجنابة، وأنتم مقيمون غيرُ مسافرين، فتيمموا صعيدًا طيبًا.
* * *
وأما قوله:"أو على سفر"، فإنه يعني: أو إن كنتم مسافرين وأنتم
أصحّاء جنب، فتيمموا صعيدًا.
* * *
وكذلك تأويل قوله:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، يقول: أو جاء
أحدٌ منكم من الغائط، قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم
صعيدًا أيضًا.
* * *
و"الغائط": ما اتسع من الأودية وتصوَّب. وجعل كناية عن قضاء
حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاءَ حاجتها في الغِيطان،
فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي
كانت تقضي في الغِيطان، حيثُ قضاها من الأرض:"مُتَغَوِّط"
و"جاء فلان من الغائط"، يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في
الغائط من الأرض. (1) .
* * *
وذكر عن مجاهد أنه قال في"الغائط": الوادي.
9580 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، قال:
الغائط، الوادي.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف 5: 354.
(8/388)
القول في تأويل قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ
النِّسَاءَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أو باشرتم النساءَ بأيديكم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"اللمس" الذي عناه الله بقوله:"أو
لامستم النساء".
فقال بعضهم: عنى بذلك الجماع.
*ذكر من قال ذلك:
9581 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس،
فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس
الجماع. قال: فأتيت ابن عباس فقلت: إنّ ناسًا من الموالي
والعرب اختلفوا في"اللمس"، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت
العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من
الموالي. قال: غُلِب فريق الموالي، إن"المس" و"اللمس"،
و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. (1)
9582 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن أبي قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
9583 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن
ابن عباس: أنه قال:"أو لامستم النساء"، قال: هو الجماع.
9584 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي،
__________
(1) الأثر: 9581 - أخرجه البيهقي في السنن 1: 125، من طريق
إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة.
(8/389)
عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: اختلفتُ
أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله:"أو لامستم النساء"، فقال
عبيد بن عمير: هو الجماع. وقلت أنا وعطاء: هو اللمس. قال:
فدخلنا على ابن عباس فسألناه فقال: غُلِب فريقُ الموالي،
وأصابت العرب، هو الجماع، ولكن الله يعفُّ ويكني.
9585 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح
وعبيد بن عمير: اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد بن جبير وعطاء:
الملامسة ما دون الجماع. وقال عبيد: هو النكاح. فخرج عليهم ابن
عباس فسألوه، فقال: أخطأ الموليَان وأصَاب العربيّ، الملامسة
النكاح، ولكن الله يكني ويعفّ.
9586 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن
قتادة قال: اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير، فذكر
نحوه.
9587 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن عثمة قال، حدثنا
سعيد بن بشير، عن قتادة قال، قال سعيد بن جبير وعطاء في
التماس: (1) الغمز باليد. وقال عبيد بن عمير: الجماع. فخرج
عليهم ابن عباس فقال: أخطأ الموليان وأصابَ العربيُّ، ولكنه
يعفّ ويكني. (2)
9588 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا قال ابن عباس:
اللمس، الجماع. (3)
9589 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية وعبد الوهاب، عن
خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، ولعل صوابها: "اللماس"
مصدر"لامس ملامسة ولماسًا"، كما سيأتي في الآثار التالية.
(2) الأثر: 9587 - محمد بن عثمة، هو: "محمد بن خالد بن عثمة"
مضى برقم: 90، 5314، 5483.
(3) الأثر: 9588 - أخشى أن يكون في هذا الإسناد خرم.
(8/390)
9590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال:"اللمس" و"المس" و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني بما
شاءَ.
9591 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن
سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال:
الملامسة الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء.
9592 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب
بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس
مثله.
9593 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن
جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قال: اختلفت العرب
والموالي في"الملامسة" على باب ابن عباس، قالت العرب: الجماع.
وقالت الموالي: باليد. قال: فخرج ابن عباس فقال: غُلِب فريق
الموالي، الملامسة الجماع.
9594 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن رجل، عن سعيد بن جبير قال: كنا على باب ابن عباس،
فذكر نحوه.
9595 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا
داود، عن سعيد بن جبير قال: قعد قوم على باب ابن عباس، فذكر
نحوه.
9596 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو
لامستم النساء"، الملامسة هو النكاح.
9597 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عبد
الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير قال: اجتمعت الموالي والعرب
في المسجد، وابن عباس في الصُّفَّة، فاجتمعت الموالي على
أنّ"اللمس" دون الجماع،
(8/391)
واجتمعت العرب على أنه الجماع. فقال ابن
عباس: من أيّ الفريقين أنت؟ قلت: من الموالي. قال: غُلِبت.
9598 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي
إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس، الجماع.
9598م = وبه عن سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس مثله.
9599 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن
سعيد، عن ابن عباس قال: هو الجماع.
9600 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن زهير، عن خصيف، عن
عكرمة، عن ابن عباس مثله.
9601 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن داود، عن جعفر بن
إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو لامستم النساء"، قال:
الجماع.
9602 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن
الشعبي، عن علي رضي الله عنه قال: الجماع.
9603 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن
الحسن قال: الجماع.
9604 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن خصيف قال: سألت
مجاهدًا فقال ذلك.
9605 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة والحسن قالا غشيان النساء.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك كلَّ لمسٍ، بيدٍ كان أو بغيرها من
أعضاء جسد الإنسان = وأوجبوا الوضوءَ على من مسَّ بشيء من جسده
شيئًا من جسدها مفضيًا إليه.
(8/392)
*ذكر من قال ذلك:
9606 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أنه قال،
شيئًا هذا معناه: الملامسة ما دون الجماع.
9607 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن منصور، عن هلال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله = أو: عن
أبي عبيدة، منصورٌ الذي شك = قال: القبلة، من المس.
9608 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال: اللمس، ما دون
الجماع.
9609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة،
عن المغيرة، عن إبراهيم قال، قال ابن مسعود: اللمس، ما دون
الجماع.
9610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش،
عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: القبلةُ، من
اللمس.
9611 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية = وحدثنا ابن
وكيع قال، حدثنا ابن فضيل = عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي
عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: القبلة، من اللمس، وفيها
الوضوء.
9612 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود مثله.
9613 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر
قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قوله:"أو
لامستم النساء"، قال: فأشار بيده هكذا = وحكاه سليم = وأراناه
أبو عبد الله، فضم أصابعه. (1)
__________
(1) الأثر: 9613 -"سليم بن أخضر البصري". روى عن ابن عون، قال
ابن سعد: "كان ألزمهم لابن عون. وكان ثقة". مترجم في
التهذيب."وأبو عبد الله"، هو: "أحمد بن عبدة الضبي" مضى برقم:
5502.
(8/393)
9614 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا
ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد قال: سألت عبيدة عن
قوله:"أو لامستم النساء"، قال بيده، فطَبِنْتُ ما عَنىَ، فلم
أسأله. (1)
9615 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال:
ذكروا عند محمد مسَّ الفرج، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في
ذلك، فقال محمد: قلت لعبيدة: قوله:"أو لامستم النساء"، فقال
بيده. قال ابن عون بيده، كأنه يتناوَل شيئًا يقبض عليه. (2)
9616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد، عن
محمد قال، قال عبيدة: اللمس باليد.
9616م - قال [يعقوب] ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد قال:
سألت عبيدة عن هذه الآية:"أو لامستم النساء"، فقال بيده، وضم
أصابعه، حتى عرفت الذي أراد.
9617 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من
قُبْلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللِّماس. (3)
9618 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن
__________
(1) قوله: "قال بيده"، أي: أومأ بيده وأشار. وقوله: "فطبنت ما
عنى"، أي: فطنت له وفهمته. يقال: "طبن الشيء يطبن طبنا = وطبن
له" أي: فظن له. و"رجل طبن": فطن حاذق عالم بكل شيء. وفي
المطبوعة: "فظننت ما عنى"، ليست بشيء. وهي في المخطوطة، سيئة
النقط. والصواب ما أثبته، وسيأتي في الأثر رقم: 9616: "حتى
عرفت الذي أراد"، فهو المعرفة، لا الظن كما ترى، وكذلك الأثر
رقم: 9626.
(2) "قال" في هذا الأثر، في الموضعين، بمعنى الإيماء والإشارة،
كما أسلفت في التعليق السالف.
(3) "اللماس" (بكسر اللام) مصدر"لامسه ملامسة ولماسًا".
(8/394)
إسماعيل، عن عامر قال: الملامسة ما دون
الجماع.
9619 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
مُحِلّ بن محرز، عن إبراهيم قال: اللمس من شهوة ينقض الوضوء.
(1) .
9620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا اللمس، ما دون الجماع.
9621 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، عن عطاء قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9622 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن
أصحاب عبد الله، عن عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9623 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، عن
عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9624 - قال حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله
مثله.
9624م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن مغيرة،
عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.
9625 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن
أبي معشر، عن إبراهيم قال، قال عبد الله = الملامسة، ما دون
الجماع. ثم قرأ:"أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء".
9626 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين
قال: سألت عبيدة عن:"أو لامستم النساء"، فقال بيده هكذا، فعرفت
ما يعني.
__________
(1) الأثر: 9619 -"محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور". روى عن
أبي وائل: وإبراهيم النخعي، والشعبي. أدخله البخاري في
الضعفاء، فقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي قال: يحول من هناك".
قال يحيى القطان: "كان وسطا، ولم يكن بذاك". وهو ثقة. مترجم في
التهذيب.
و"محل" بضم
الميم، وكسر الحاء، واللام مشددة.
(8/395)
9627 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
أبيه = وحسن بن صالح، عن منصور = عن هلال بن يساف، عن أبي
عبيدة قال: القبلة من اللمس.
9628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن زهير،
عن خصيف، عن أبي عبيدة: القبلة والشيء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:"عنى
الله بقوله:"أو لامستم النساء"، الجماع دون غيره من معاني
اللمس"، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قبّل
بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ.
9629 - حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال، أخبرنا أبو بكر
بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة
قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلِّي
ولا يتوضأ. (2)
9630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا
أنت؟ فضحكت. (3)
__________
(1) قوله: "والشيء"، هكذا هي في المطبوعة، وفي المخطوطة"السي"
غير منقوطة، وأخشى أن يكون صوابها"والمس".
(2) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة
بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم
أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب
إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد
حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع -
بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك
جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من
طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة
التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى
حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا
صحيحًا".
والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) -
كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون،
فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول
فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول
بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض
الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1:
123-127، وابن كثير 2: 465-466.
(3) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة
بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم
أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب
إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد
حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع -
بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك
جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من
طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة
التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى
حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا
صحيحًا".
والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) -
كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون،
فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول
فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول
بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض
الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1:
123-127، وابن كثير 2: 465-466.
(8/396)
9631 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن
غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي
صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبَّل ثم يصلي ولا يتوضأ. (1)
9632 - حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا شهاب بن عباد قال،
حدثنا مندل، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة = وعن أبي روق، عن
إبراهيم التيمي، عن عائشة = قالت: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء (2)
__________
(1) الحديث: 9631 - حجاج: هو ابن أرطاة.
زينب السهمية: هي بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. فهي
عمة عمرو بن شعيب. وذكرها ابن حبان في الثقات. وزعم الدارقطني
أنها مجهولة!
والحديث في هذه الرواية مرسل، لأن زينب السهمية تابعية، لا
صحابية.
وقد رواه أحمد في المسند موصولا 6: 62 (حلبي) ، عن محمد بن
فضيل، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة.
فارتفع الإرسال.
وكذلك رواه ابن ماجه: 503، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن
فضيل، به، موصولا.
وأعله بعض الحفاظ بأن الحجاج بن أرطاة مدلس، وأنه رواه هنا
بقوله: "عن عمرو بن شعيب"، لم يصرح بالتحديث.
(2) الحديث: 9632 - هذا الحديث يرويه الطبري هنا من وجهين:
فيرويه عن عمر بن شبة، عن شهاب بن عباد، عن مندل. ثم يرويه
مندل عن ليث، عن عطاء، عن عائشة - ويرويه مندل أيضًا عن أبي
روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة.
عمر بن شبة أبو زيد: مضت ترجمته في: 6310. شهاب بن عباد العبدي
الكوفي أبو عمر: ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. قال ابن عدي: "كان
من خيار الناس". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 /
236، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 363. ووقع اسمه محرفًا في المخطوطة
والمطبوعة"سهاد بن عباد"! ولا يوجد راو بهذا الاسم. ووقع أيضًا
محرفًا تحريفًا آخر في ابن كثير 2: 466"هشام بن عباد"! نقلا عن
هذا الموضع من الطبري. وثبت على الصواب في المخطوطة الأزهرية
من تفسير ابن كثير (2: 301 نسخة مصورة عندي) .
مندل - بفتح الميم والدال بينهما نون ساكنة -: هو ابن علي
العنزي، بفتح النون، الكوفي. وهو مختلف فيه بين التوثيق
والتضعيف. والراجح - عندي - أنه حسن الحديث. وهو مترجم في
التهذيب، والكبير 4 / 2 / 73، وابن سعد 6: 265، وابن أبي حاتم
4 / 1 / 434-435.
ليث: هو ابن أبي سليم.
عطاء: هو ابن أبي رباح.
وأبو روق: هو عطية بن الحارث الهمداني. مضى توثيقه في: 137.
والحديث من الوجه الأول: رواية"عطاء عن عائشة" - رواه أيضًا
البزار في مسنده، من طريق محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه، عن
عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة، به. نقله ابن التركماني
في الجوهر النقي 1: 125 (مع السنن الكبرى) ، والزيلعي في نصب
الراية 1: 74 (طبعة مصر) . وهذا إسناد صحيح، ولا علة له.
وقد رواه الدارقطني، ص: 50، من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبد
الكريم، عن عطاء، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكن
الدارقطني حاول إعلاله بعلة غير قادحة. فذكر أن الثوري رواه عن
عبد الكريم، عن عطاء، فقط، من قوله = يعني: من كلام عطاء.
وقال: "وهو الصواب"! وهذه علة متهافتة. فالوصل والرفع زيادتان
من ثقة، فهما مقبولتان.
تنبيه: وقع في الجوهر النقي في هذا الحديث"عن عبد الكريم، عن
عائشة"، دون ذكر"عن عطاء". وهو خطأ مطبعي لا شك فيه. بدلالة
نقل الزيلعي، وبأن باقي الكلام في الجوهر النقي يدل على أنه"عن
عطاء عن عائشة" - يقينا.
والحديث من الوجه الثاني: رواية إبراهيم التيمي، عن عائشة -
رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع، عن سفيان - وهو
الثوري - عن أبي روق، به.
وكذلك رواه أبو داود: 178، والنسائي 1: 39، والدارقطني، ص 50،
51، والبيهقي 1: 126-127، كلهم من طريق الثوري، عن أبي روق،
به. وقال أبو داود: "هو مرسل. إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة
شيئًا". وقال النسائي: "ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا
الحديث وإن كان مرسلا". وأشار إليه الترمذي 1: 138 (بشرحنا) ،
وقال: "وهذا لا يصح أيضًا. ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعًا عن
عائشة".
وهذا الحديث قد روي موصولا أيضًا، من رواية إبراهيم التيمي، عن
أبيه، عن عائشة. وقد بينت ذلك مفصلا في شرح الترمذي.
ثم للحديث إسناد آخر صحيح عن عائشة:
فرواه الدارقطني، ص: 49، من طريق سعيد بن بشير، عن منصور، عن
الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. ونقله عنه الزيلعي وابن
التركماني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني
في الأوسط. وفيه سعيد بن بشير: وثقه شعبة وغيره، وضعفه يحيى
وجماعة". و"سعيد بن بشير" رجحنا توثيقه في: 5439.
(8/397)
9633 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال،
حدثني أبي قال، حدثني
(8/398)
يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن
يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقبِّلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث
وضوءًا. (1)
= ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
الدلالةُ الواضحة على أنّ"اللمس" في هذا الموضع، لمس الجماع،
لا جميع معاني اللمس، كما قال الشاعر:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ
نَنِكْ لَمِيسَا (2)
يعني بذلك: ننك لماسًا. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 9633 - هذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة. ولم
أجده في مسند أحمد أيضًا.
ونقله ابن كثير 2: 466، عن الطبري، ولم ينسبه لغيره.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني
في الأوسط. وفيه يزيد بن سنان الرهاوي: ضعفه أحمد ويحيى وابن
المديني، ووثقه البخاري وأبو حاتم، وثبته مروان بن معاوية.
وبقية رجاله موثقون". ويزيد هنا، مختلف فيه كما قال الهيثمي.
والراجح عندنا توثيقه. وهو مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري
في الكبير 4 / 2 / 337، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في
الضعفاء، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 266.
(2) مضى تخريجه في 4: 126، تعليق: 1.
(3) قوله: "لماسًا" أي، ملامسة. وكأنه جعل"اللميس" مصدرًا
من"اللمس"، مثل"المسيس" مصدرًا من"المس". وهو قول غريب لم أجده
عند غيره. بل أكثرهم يقول: "لميس: اسم امرأة"، ومعنى"امرأة
لميس": هي المرأة اللينة الملمس.
(8/399)
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة، وفيهم جراح. (1)
9634 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، في المريض لا
يستطيع الغُسل من الجنابة، أو الحائض، قال: يجزيهم التيمم.
وقال: أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت
فيهم، (2) ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، فنزلت:"وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم
من الغائط"، الآية كلها.
* * *
وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أعوَزَهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم.
*ذكر من قال ذلك:
9635 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان
قال، سمعت عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن
عائشة أنها قالت: كنت في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حتى إذا كنا بذات الجيش ضلَّ عِقدي، (3) فأخبرت بذلك
النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه، فالتُمِس فلم يوجد،
فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم
تلك، فقال الناس: حبست عائشة النبي صلى الله عليه وسلم! قالت:
فجاء إليّ أبو بكر ورأس النبي صلى الله عليه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وهم جراح"، و"جريح" جمعه"جرحى"،
لا يجمع على"جراح"، ولم أجد من نص عليه، أو على شذوذ على
القياس. ورجحت أن الناسخ كتب"وهم" مكان"وفيهم" فأثبتها كذلك.
(2) في المطبوعة"ونال أصحاب رسول الله ... " مكان: "وقال: أصاب
أصحاب رسول الله"، كأنه أخطأ قراءة المخطوطة.
(3) "ضل الشيء": إذا ضاع.
(8/400)
وسلم في حجري وهو نائم، فجعلَ يَهمِزُني
ويَقْرصني ويقول (1) من أجل عقدك حبست النبيَّ صلى الله عليه
وسلم! قالت: فلا أتحرك مخافة أن يستيقظ النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد أوجعني، فلا أدري كيف أصنع! فلما رآني لا أُحير
إليه، انطلق. (2) فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وأراد
الصلاة فلم يجد ماء، قالت: فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت:
فقال ابن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر! (3)
9636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب،
عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر،
ففقدت عائشة قلادة لها، فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وليس معهم
ماء. فأتى أبو بكر على عائشة فقال لها: شَقَقت على الناس! =
وقال أيوب بيده، يصف أنه قرصها (4) = قال: وَنزلت آية التيمم،
ووُجدت القلادة في مُناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا قط
امرأة أعظم بركة منها! (5)
__________
(1) همز صاحبه: غمزه بيده ولمزه ونخسه.
(2) يقال: "أحار عليه جوابه، وأحار له جوابًا، فهو يحير"، إذا
رد عليه. ويقال: "ما أحار بكلمة"، و"ما أحار إلى جوابًا". أي
ما رد جوابًا. وقولها: "لا أحير إليه"، أي: ما أجيبه ولا
أكمله.
وكان في المطبوعة: " لا أجير" بالجيم، وهو خطأ. والصواب ما
أثبت من المخطوطة.
(3) الحديث: 9635 - عبيد الله بن عمر: هو العمري، أحد الفقهاء
السبعة.
وهذا الحديث ظاهره الإرسال. لأنه - هنا - من رواية عبد الرحمن
بن القاسم عن عائشة. وعبد الرحمن لم يدرك أن يسمع من عمة أبيه
عائشة.
وسيأتي بنحوه: 9641، من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة - متصلا. ونخرجه هناك، إن شاء الله.
(4) قوله: "قال بيده" أي أومأ وأشار، كما سلف مرارًا.
(5) الحديث: 9636 - وهذا أيضًا مرسل، لأن ابن أبي مليكة حكى
القصة دون أن يذكر من حدثه. وهو تابعي.
وسيأتي نحو معناه: 9639، من رواية ابن أبي مليكة، عن ذكوان
حاجب عائشة.
وسيأتي أيضًا: 9642، من رواية ابن أبي مليكة، عن قصة ابن عباس
وعائشة، دون واسطة ذكوان.
(8/401)
9637 - حدثني محمد بن عبد الله الهلالي
قال، حدثني عمران بن محمد الحداد قال، حدثني الربيع بن بدر
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا، من بَلَعْرَج، (1) يقال
له الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحَلُ له،
فقال لي ذات ليلة: يا أسلع، قم فارحلْ لي. قلت: يا رسول الله،
أصابتني جنابة! فسكت ساعة، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام
بآية الصعيد، ووصف لنا ضربتين. (2)
__________
(1) "بلعرج" يعني: بني الأعرج، كما يقولون في"بني
العنبر""بلعنبر"، وكان حقه أن يكون"بلأعرج"، (بفتح الباء وسكون
اللام وفتح الهمزة) ، ولكنه عاد فسهل الهمزة، وألقى حركتها على
اللام، فصارت مفتوحة الباء واللام ساكنة العين. و"بنو الأعرج"
هم: بنو الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
واسم"الأعرج": الحارث، قطعت رجله، كما ذكر أبو عبيدة في
النقائض: 1025.
(2) الحديث: 9637 - محمد بن عبد الله الهلالي - شيخ الطبري -
مضى في: 1275، 6180.
عمران بن محمد الحداد: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من
المراجع.
الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي الأعرجي، ولقبه"عليلة":
ضعيف مجمع على ضعفه.
أبوه"بدر"، وجده"عمرو بن جراد": فيهما جهالة. فلم يرو عنهما
غير الربيع بن بدر، وهو ضعيف كما قلنا.
والحديث رواه الطبري عقب هذا، من طريق عمرو بن خالد، عن
الربيع، به، نحوه.
ورواه ابن سعد في الطبقات 7 / 1 / 45، في ترجمة"الأسلع"، عن
مسلم بن إبراهيم، عن الربيع بن بدر. ووقع عنوان الترجمة فيه
هكذا"ميمون بن سنباذ الأسلع". وهو تخليط من الطابع. فإن"ميمون
بن سنباذ" غير"الأسلع" وإنما هي عنوان مستقل، دون ترجمة، كما
يقع في ابن سعد كثيرًا، ثم"الأسلع" عنوان ترجمة أخرى.
ورواه الدارقطني، ص: 66، والطحاوي في معاني الآثار 1: 67-68،
والبيهقي في السنن الكبرى 1: 208- كلهم من طريق الربيع بن بدر.
وقال البيهقي: "الربيع بن بدر ضعيف، إلا أنه غير منفرد به".
ونقله الزيلعي في نصب الراية 1: 153، ونقل كلام البيهقي،
وتعقبه بأن هذا لا يكفي في الاحتجاج به حتى يعلم الوجه الآخر
ودرجته. وكذلك تعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي.
والوجه الآخر الذي أشار إليه البيهقي - نقله ابن كثير 2:
472-473، من رواية ابن مردويه، من طريق العباس بن أبي سرية،
"حدثني الهيثم بن رزيق المالكي، من بني مالك بن كعب بن سعد،
وعاش مائة وسبعة عشر سنة، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك ... " -
فذكر الحديث، بنحوه.
و"العباس بن أبي سرية": لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة.
و"الهيثم بن رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 83-84، ولم
يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذه الرواية. وله ترجمة موجزة في
لسان الميزان 6: 206، ولم يذكر أنه يروي عن أبيه. و"رزيق":
بتقديم الراء، كما في المشتبه، ص: 221، والمخطوطة الأزهرية من
ابن كثير 2: 307. ووقع مغلوطًا في المراجع التي نشير إليها.
وأبوه"رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 504 (في باب الراء) .
وقد رواه أيضًا الطبراني في الكبير، من هذا الوجه. ذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 261-262، وقال: "وفيه الهيثم بن
رزيق. قال بعضهم: لا يتابع على حديثه".
وذكر الهيثمي أيضًا رواية الربيع بن بدر، بلفظين 1: 262،
ونسبهما للطبراني في الكبير، وأعلمهما بضعف الربيع.
وذكر الحافظ ابن حجر هذه الروايات في الإصابة 1: 34-35، في
ترجمة"الأسلع". وفيها فوائد كثيرة.
(8/402)
9638 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، حدثنا عمرو بن خالد قال، حدثني الربيع بن بدر قال، حدثني
أبي، عن أبيه، عن رجل منا يقال له الأسلع، قال: كنت أخدم النبي
صلى الله عليه وسلم = فذكر مثله إلا أنه قال: فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئًا (1) = أو قال: ساعةً، الشك من عمرو =
قال: وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: قم يا أسلع فتيمم. قال: فتيممت ثم رحَلت له.
قال: فسرنا حتى مررنا بماء، فقال: يا أسلع، مَسَّ = أو: أمِسّ
= بهذا جلدك. قال: وأراني التيمم، كما أراه أبوه: ضربة للوجه،
وضربة لليدين والمرفقين. (2)
9639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بُغيل قال، حدثنا
زهير بن معاوية قال، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم قال،
حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: أنه حدثه ذكوان أبو
عمرو، حاجبُ عائشة: أن ابن عباس دخل عليها في مرضها فقال:
أبشري، كنت أحبَّ نساء رسول الله صلى
__________
(1) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، وقد فسر في هذا الخبر، "ساعة"
وقد أسلفت شرح ذلك بشواهده، وأنه من نوادر اللغة التي أغفلتها
المعاجم في 6: 448، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "إلى المرفقين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/403)
الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولم يكن رَسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلا
طيبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبْوَاء، فأصبح رسول الله صلى الله
عليه وسلم يلتقطها حتى أصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم
ماء، فأنزل الله:"تيمموا صعيدًا طيبًا"، فكان ذلك من سببك، وما
أذن الله لهذه الأمة من الرخصة. (1)
9640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن
أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، (2) فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها، فوجدوها.
وأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء. فشكوا ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم.
فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك
أمر
__________
(1) الحديث: 9639 - حفص ين بغيل الهمداني المرهبي الكوفي:
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 170، ولم يذكر فيه
جرحًا، فهو ثقة. و"بغيل": بضم الباء الموحدة وفتح الغين
المعجمة. ووقع في المطبوعة"نفيل". وهو تصحيف. وفي المخطوطة غير
منقوط.
عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: هو التابعي المعروف. وقد
مضت ترجمته في: 6605، ووقع في المطبوعة"عبد الله بن عبيد الله
عن ابن أبي مليكة"! جعل راويين. وهو خطأ صرف، فليس في شيوخ عبد
الله بن عثمان بن خثيم، ولا في تلاميذ ابن أبي مليكة - من
يسمى"عبد الله بن عبيد"، بالاستقصاء التام الذي في تهذيب
الكمال (مخطوط مصور) . وابن خثيم يروي عن ابن أبي مليكة
مباشرة.
ثم هذا الحديث - بعينه - معروف من روايته عنه، كما سيأتي.
ذكوان أبو عمرو المدني، حاجب عائشة ومولاها: تابعي ثقة. مترجم
في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 238، وابن سعد 5: 218،
وابن أبي حاتم 1 / 2 / 451.
والحديث قطعة من حديث طويل، رواه أحمد في المسند: 2496، عن
معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ابن خثيم، عن ابن أبي مليكة، عن
ذكوان.
ثم رواه أيضًا: 3262، بمعناه، عن عبد الرازق، عن معمر، عن ابن
خثيم.
وسيأتي مختصرًا، بنحوه، من طريق ابن عيينة: 9642.
وكان استئذان ابن عباس على عائشة، حين كانت تموت. ولذلك قال
لها ابن عباس حينذاك: "أبشري، ما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى
الله عليه وسلم والأحبة، إلا أن تخرج الروح من الجسد". رضي
الله عنها وأرضاها.
وقوله: "وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة" - هذا هو الصواب
الثابت في المطبوعة، وهو الموافق لرواية المسند 2496. ويؤيده
ما في الرواية الأخرى منه: 3262: "فكان في ذلك رخصة للناس عامة
في سببك". ووقع في المخطوطة هنا"لهذه الآية". وهو خطأ لا معنى
له.
(2) قوله: "هلكت"، أي انقطعت وضاعت وضلت.
(8/404)
تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه
خيرًا! (1)
9641 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد
الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن عبد الرحمن بن
القاسم حدثه، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبَيداء، ونحن داخلون إلى المدينة،
فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل. فبينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم في حِجْري راقد، أقبل أبي فلكزني لَكْزة ثم
قال: حبست الناس! ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ
وحَضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، ونزلت:"يا أيها الذين
آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية. قال أسيد بن حضيرك لقد بارك
الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة! (2)
9642 - حدثني الحسن بن شبيب قال، حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخل
ابن عباس على عائشة فقال: كنتِ أعظم المسلمين بركة على
المسلمين! سقطت قلادتك بالأبواء، فأنزل الله فيك آية التيمم!
(3)
* * *
__________
(1) الحديث: 9640 - رواه أحمد في المسند 6: 57 (حلبي) ، عن ابن
نمير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1: 373 (فتح) ، من طريق ابن نمير.
ورواه مسلم 1: 109-110، وأبو داود: 317، وابن ماجه: 568،
والبيهقي في السنن الكبرى 1: 214- من طرق، عن هشام بن عروة،
نحوه.
ونقله ابن كثير 2: 471، عن رواية المسند.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث: 9641 - مضى معناه بإسناد منقطع: 9635، من رواية
عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة. وأما هذا فمتصل، يرويه عبد
الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 53 - 54، عن عبد الرحمن بن
القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 179 (حلبي) ، والبخاري 1:
365-368 (فتح) . ومسلم 1: 109، والنسائي 1: 59 - كلهم من طريق
مالك.
ونقله ابن كثير 2: 471-472، عن رواية البخاري.
(3) الحديث: 9642 - الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر، أبو علي
المؤدب، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ترجمة موجزة 1 / 2 /
18، وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 7: 328، والحافظ في لسان
الميزان 2: 213-214. وقال ابن عدي: "حدث عن الثقات بالبواطيل،
ووصل أحاديث هي مرسلة". وقال الدارقطني: "يعتبر به، وليس
بالقوي".
وهذا الحديث عن هذا الشيخ فيه غلط يقينًا ولعله من تخليطه!!
فإنه يرويه عن ابن عيينة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم -
مباشرة، بالتصريح بالسماع. وهذا - في ذاته - ممكن، لأن ابن
عيينة سمع من ابن خثيم. ولكن هذا الحديث بعينه ليس كذلك:
فقد رواه أحمد في المسند: 1905، بأطول مما هنا - عن سفيان، وهو
ابن عيينة: "عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم". فأثبت
الواسطة بين ابن عيينة وابن خثيم. ولا نستسيغ أن نوازن بين
الإمام أحمد وهذا الشيخ"الحسن بن شبيب".
وقد رواه - بنحوه - البخاري 8: 371-372، وابن سعد في الطبقات
8: 51، كلاهما من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي
مليكة.
وفي هذه الروايات الثلاث، كما في رواية الطبري هنا: أنه من
حكاية ابن أبي مليكة للقصة، دون أن يذكر أنه أخبره بها"ذكوان
حاجب عائشة"، كما مضى في الرواية: 9639.
والراجح عندي أن تكون هذه الروايات مرسلة، وأن ابن أبي مليكة
لم يشهد احتضار عائشة ودخول ابن عباس عليها، وأنه سمع ذلك من
مولاها ذكوان. ولكن حاول الحافظ في الفتح التكلف في احتمال أن
يكون شهد ذلك. وهو تكلف بعيد.
(8/405)
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أو لامستم
النساء".
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين:
(أَوْ لامَسْتُمُ) بمعنى: أو لمستم نساءكم ولَمَسْنَكم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (أو لمستم النساء) بمعنى: أو
لمستم، أنتم أيها الرجال، نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا
المعنى. لأنه لا يكون الرجل لامسًا امرأته إلا وهي لامِستُه.
فـ "اللمس" في ذلك يدل على معنى"اللِّماس"، و"اللماس" على
معنى"اللمس" من كل واحد منهما صاحبه. فبأي القراءتين قرأ ذلك
القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما.
* * *
(8/406)
القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلم تجدوا ماء"،"أو لمستم
النساء، فطلبتم الماء لتتطَّهروا به فلم تجدوه بثمن ولا غير
ثمن ="فتيمموا" يقول: فتعمَّدوا.
* * *
= وهو:"تفعَّلوا" من قول القائل:"تيممت كذا" = إذا قصدته
وتعمدته ="فأنا أتيمّمه"، وقد يقال منه:"يَمَّمه فلان فهو
يُيممه"، و"أمّمته أنا" و"أمَمْته" خفيفة، و"تيممت وتأمَّمت"،
ولم يسمع فيها"يَمَمْت" خفيفة. (1) ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
تَيَمَّمْتَ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الأرْضِ مِنْ
مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ (2)
يعني بقوله:"تيمَّمت"، تعمدت وقصدت. (3)
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله:"فَأُمُّوا صَعِيدًا".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9643 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا
ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"فتيمموا صعيدًا
طيبًا"، قال: تحرَّوا وتعمَّدوا صعيدًا طيبًا. (4)
* * *
__________
(1) بل روى ذلك اللحياني فقال: "أمو، ويموا".
(2) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 5: 558.
(3) انظر تفسير: "تيمم" فيما سلف 5: 558، 559.
(4) الأثر: 9643 -"عبد الله بن محمد" هو: "عبد الله بن محمد بن
يزيد، أبو محمد الحنفي" و"عبدان"، هو: "عبد الله بن عثمان بن
جبلة بن أبي رواد الأزدي".
مضت ترجمتهما برقم: 5000، ومضى هذا الإسناد نفسه برقم: 5009،
6198، 6200، وانظر الإسناد التالي: 9648، 9676.
(8/407)
وأما"الصعيد"، فإن أهل التأويل اختلفوا
فيه.
فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نَبات فيها ولا غِرَاس.
*ذكر من قال ذلك:
9644 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"صعيدًا طيبًا"، قال: التي ليس فيها شجر ولا
نبات.
* * *
وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية.
*ذكر من قال ذلك:
9645 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"الصعيد"، المستوي.
* * *
وقال آخرون: بل"الصعيد"، التراب.
*ذكر من قال ذلك:
9646 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا
عمرو بن قيس الملائي قال: الصعيد، التراب. (1)
* * *
وقال آخرون:"الصعيد"، وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذاتِ التراب والغُبَار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"هو وجه الأرض
الخالية من النبات والغُروس والبناء، المستوية"، ومنه قول ذي
الرمة:
__________
(1) الأثر: 9646 -"الحكم بن بشير بن سلمان"، مضت ترجمته برقم:
1497، 6171. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحكم بن بشر"، وهو
خطأ.
"عمرو بن قيس الملائي" مضت ترجمته: 886، 6171.
(8/408)
كَأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ
بِهِ ... دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ (1)
يعني: تضرب به وجه الأرض.
* * *
وأما قوله:"طيبًا"، فإنه يعني به: طاهرًا من الأقذار
والنجاسات. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"طيبًا".
فقال بعضهم: حلالا.
*ذكر من قال ذلك:
9647 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"صعيدًا
طيبًا" قال، قال بعضهم: حلالا.
* * *
وقال بعضهم بما:-
9648 - حدثني عبد الله قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء:"فتيمموا صعيدًا
طيبًا"، قال: طيّب ما حولك. (3) قلت: مكان جَرْدٌ غير بَطِح،
(4) أيجزئ عني؟ قال: نعم. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه: 571، من قصيدته المحكمة المشهورة. والبيت من
أبياته في ذكر ظبية أودعت ولدها الصغير بين أشجار، فإذا ارتفعت
شمس الضحى نال منه التعب، فانطرح على الأرض، كأنه سكران أثقله
النعاس. وقوله: "دبابة": تدب في أوصال شاربها، يعني الخمر.
وكان في المطبوعة: "وما به"، وهو خطأ. و"خرطوم"، صفة للخمر
السريعة الإسكار، تأخذ شاربها حتى يشمخ بخرطومه - أي: أنفه -
من شدة السكر وغلبته.
(2) انظر تفسير"طيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 7: 424.
(3) في المطبوعة: "الطيب ما حولك"، وكان مثلها في المخطوطة،
إلا أنه ضرب على الألف واللام.
(4) قوله: "جرد" (بفتح فسكون) : وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها،
وكأنه عنى أنها كانت ذات نبات ثم جردها الشتاء والقحط. وقوله:
"بطح" على وزن"فرح" وهو الرمل في البطحاء، وهو"الأبطح"، أيضًا،
وهو أرض ترابها سهل لين فيه دقاق الحصى. وكان في المطبوعة:
"غير أبطح"، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 9648 - انظر التعليق على الإسناد السالف رقم: 9643.
(8/409)
ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء، أيها
الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو
لمستم النساء، فأردتم أن تصلّوا ="فتيمموا"، يقول: فتعمدوا وجه
الأرض الطاهرة ="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم".
* * *
القول في تأويل قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فامسحوا منه بوجوهكم
وأيديكم، ولكنه ترك ذكر"منه"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
* * *
و"المسح منه بالوجه"، أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض
الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسَح بما علق من الغُبار وجهه. فإن
كان الذي علق به من الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو
جائز. وإن لم يعلَق بيديه من الغبار شيء وقد ضرب بيديه أو
إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه، أجزأه ذلك، لإجماع
جميع الحجَّة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد = وهو أرض
رمل = فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به، أن ذلك مجزئَه، لم
يخالف ذلك من يجوز أن يُعْتَدّ خلافًا. (1) فلما كان ذلك
إجماعًا منهم، كان معلومًا أن الذي يراد به من ضَرْب الصعيد
باليدين، مباشرةُ الصعيد بهما، بالمعنى الذي أمرً الله
بمباشرته بهما، لا لأخْذِ ترابٍ منه.
* * *
وأما"المسح باليدين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدِّ الذي
أمر الله بمسحه من اليدين.
__________
(1) في المطبوعة: "أن يعتد بخلافه"، غير ما في المخطوطة، وهو
معرق في الصواب. وقوله: "يعتد خلافًا" أي: يحسب خلافا.
وأقام"خلافًا" المصدر، صفة مثل"عدل"، ومعناه: الذي يعد خلافه
خلافًا.
(8/410)
فقال بعضهم: حدّ ذلك الكفّان إلى
الزَّندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين.
*ذكر من قال ذلك:
9649 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس،
عن حصين، عن أبي مالك قال: تيمّم عمّارٌ فضرب بيديه إلى التراب
ضربةً واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى، ثم مسح وجهه، ثم
ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يَدَه على الأخرى، ولم يمسح الذراع.
(1)
9650 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي
خالد قال: رأيت الشعبي وصفَ لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الأرض
ضربة، ثم نفضهما ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفَّيه
إحداهما على الأخرى. ولم يذكر أنه مسح الذراع.
9651 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي
مالك قال: وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب، ثم رفعهما
فنفخهما، فمسح وجهه وكفيه، ثم قال: هكذا التيمم.
9652 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا سلام
مولى حفص قال، سمعت عكرمة يقول: التيمم ضربتان: ضربة للوجه،
وضربة للكفين.
9653 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن
الأوزاعي، عن سعيد وابن جابر: أن مكحولا كان يقول: التيمم ضربة
للوجه والكفين إلى الكوع = ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك:
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)
[سورة المائدة: 6] ، وقوله في التيمم:"فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم"، ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء"إلى المرافق" =
قال مكحول: قال الله
__________
(1) الأثر: 9649 - رواه بغير هذا اللفظ، البيهقي في السنن
الكبرى 1: 210، وانظر الأثر الآتي رقم: 9651.
(8/411)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا) [سورة المائدة: 38] ، فإنما تقطع يد السارق من
مَفصِل الكوع.
9654 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن
بكر التنيسي، عن ابن جابر: أنه رأى مكحولا يتيمم، يضرب بيديه
على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدةٍ.
9655 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود،
عن الشعبي قال: التيمم ضربة للوجه والكفين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة من الأثر، ما:
9656 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن
أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه،
عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
التيمم، فقال: مرة للكفين والوجه (1) = وفي حديث ابن بشر: أن
عمارًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "على الوجه"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 9656 - سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، مولى خزاعة:
تابعي ثقة. أخرج له الجماعة.
أبوه: عبد الرحمن بن أبزى، له صحبة، أدرك النبي صلى الله عليه
وسلم معه.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 263 (حلبي) ، عن عفان، عن
أبان، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن، بهذا
الإسناد، نحوه.
فزاد في الإسناد"عن عزرة" بين قتادة وسعيد.
وعزرة: هو ابن عبد الرحمن بن زراة الخزاعي. مضت ترجمته في:
2752، 2753.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 67، من طريق عفان، عن
أبان.
وكذلك رواه أبو داود: 327، والترمذي: 144 بشرحنا - كلاهما من
طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة،
به.
وقال الترمذي: "حديث عمار حديث حسن صحيح. وقد روى عن عمار من
غير وجه".
وكذلك رواه البيهقي 1: 210، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن
سعيد بن أبي عروبة.
ثم قال البيهقي: "وكذلك رواه جماعة عن ابن أبي عروبة. ورواه
عيسى بن يونس، عن ابن أبي عروبة - دون ذكر عزرة في إسناده.
وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، واختلف عليه في ذكر
عزرة في إسناده.
ورواه الدارمي 1: 190، عن عفان - وهو الشيخ الذي رواه عنه أحمد
بن حنبل، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن سعيد بن عبد
الرحمن - بدون ذكر عزرة في الإسناد.
أفيكون هذا من الاختلاف على"أبان" الذي أشار إليه البيهقي؟ قد
يكون. ولكني أراه بعيدًا، لأن هذا إنما هو في النسخة المطبوعة
من الدارمي، وهي مملوءة بالغلط والتحريف، لا يعتمد عليها. وقد
ثبت ذكر"عن عزرة" في مخطوطة عتيقة صحيحة بدار الكتب، من كتاب
الدارمي. فهي العمدة في ذلك - إلى أن شيخ الدارمي هو شيخ أحمد.
وقد رواه عنه بزيادة"عن عزرة"، كما ذكرنا آنفًا.
وأيا ما كان فالإسناد صحيح، لأن قتادة يروي أيضًا عن سعيد بن
عبد الرحمن بن أبزى مباشرة. ولكن الذين زادوا"عزرة" في الإسناد
أكثر وأحفظ ممن لم يذكره. وإن صح الإسنادان، فلعله يكون من
المزيد في متصل الأسانيد.
ولكن متن الحديث هنا محرف"مرة بالكفين على الوجه"! وهذا لا
معنى له. وصوابه في المخطوطة: "مرة للوجه والكفين". وهو
الموافق لمعنى الحديث في الروايات الأخر. ولفظ المسند: "ضربة
للوجه والكفين" أيضًا.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 469، عن رواية المسند. ووقع فيه
(مخطوطًا ومطبوعًا) "عروة" بدل"عزرة". وهو تحريف من الناسخين.
(8/412)
9657 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد بن
سعيد القرشي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبزى، قال: جاء رجل
إلى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد الماء! فقال عمر: لا تصل.
فقال له عمار: أما تذكر أنّا في مسيرٍ على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا
فتمعَّكت في التراب وصلَّيت، (1) فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"إنما كان يكفيك"، وضرَب كفّيه
الأرض، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة؟ (2)
__________
(1) "تمعك في التراب": تمرغ فيه.
(2) الحديث: 9657 - عبيد بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص،
القرشي الأموي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وهو
أخو"يحيى بن سعيد الحافظ".
الحكم: هو ابن عتيبة الكندي.
ابن أبزى: هو سعيد بن عبد الرحمن، المترجم في الحديث الذي قبل
هذا.
والحديث على ظاهر الإسناد الذي هنا - يكون منقطعًا، فإنه يكون
من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى للحادثة في عهد عمر، وهو
لم يدرك ذلك يقينًا، لأنه من صغار التابعين. وهو إنما يروي هذا
عن أبيه.
فلا أدري أوقعت هذه الرواية للطبري هكذا، أم هو تخليط من
الناسخين.
وأما الحديث في ذاته فهو صحيح من هذا الوجه:
فقد رواه أحمد في المسند 4: 265 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن
شعبة، عن الحكم، عن ذر -وهو ابن عبد الله المرهبي الهمداني -
عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رجلا أتى عمر ... "،
إلخ.
وكذلك رواه الطيالسي، عن شعبة، بنحوه: 638.
وكذلك رواه البخاري 1: 375-377، بأسانيد من طريق شعبة.
وكذلك رواه مسلم 1: 110، وأبو داود: 324-326، والنسائي 1:
59-60، و60-61، وابن ماجه: 569، والبيهقي في السنن الكبرى 1:
209-210، بأسانيد - كلهم من طريق شعبة، به نحوه.
ففي كل هذه الأسانيد أنه من رواية سعيد عن أبيه. أما زيادة"ذر
بن عبد الله المرهبي" في الإسناد بين الحكم وسعيد. فإنه ثبت
عند الشيخين - البخاري ومسلم - تصريح الحكم بأنه سمعه من"ابن
عبد الرحمن بن أبي أبزى عن أبيه، مثل حديث ذر". فقد سمعه عن
سعيد بالواسطة، ثم سمعه منه مباشرة.
وسيأتي حديثان آخران لعمار في شأن التيمم: 9670، 9672.
(8/413)
وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه
واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع
من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس.
* * *
وقال آخرون: حدُّ المسح الذي أمر الله به في التيمم، أن يمسح
جميع الوجه واليدين إلى المرفقين.
*ذكر من قال ذلك:
9658 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوراث بن
سعيد قال، حدثنا أيوب عن نافع: أن ابن عمر تيمم بمربد النعم،
(1) فضرب ضربة فمسح وجهه، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين.
9659 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال: سمعت
عبيد الله،
__________
(1) "المربد" (بكسر فسكون) : المكان تحبس فيه الإبل والغنم.
و"مربد النعم" بالمدينة.
(8/414)
عن نافع، عن عبد الله أنه قال: التيمم
مسحتان، يضرب الرجل بيديه الأرض يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما
مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين. (1)
9660 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن عبيد الله قال،
أخبرني نافع، عن ابن عمر في التيمم قال: ضربة للوجه، وضربة
للكفين إلى المرفقين.
9661 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن
عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان يقول في المسح في
التيمم: إلى المرفقين. (2)
9662 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا ابن عون قال: سألت الحسن عن التيمم، فضرب بيديه على
الأرض فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرَهما
وباطنهما.
9663 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عامر: أنه قال في هذه الآية: (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [سورة
المائدة: 6] ، وقال في هذه الآية (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (3) [سورة المائدة: 6] ، قال: أمر أن
يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن
يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان.
9664 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن المثنى
قال، حدثني محمد بن أبي عدي = جميعًا، عن داود، عن الشعبي في
التيمم قال:
__________
(1) في المخطوطة: "ثم يمسح بهما مرة أخرى"، والصواب ما في
المطبوعة.
(2) الآثار: 9658 -9661 - انظر ما أخرجه البيهقي في سننه 1:
207 من أثر ابن عمر.
(3) هذه الآية من سورة المائدة، وفيها"منه"، أما آية سورة
النساء التي نحن فيها، فليس فيها"منه"، ولكن ثبت في
المخطوطة"منه"، فرددتها إلى آية المائدة.
(8/415)
ضربة للوجه، ولليدين إلى المرفقين. (1)
9665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي
قال: أمر بالتيمم، فيما أمر بالغسل.
9666 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سألت
سالم بن عبد الله عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح
بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما يديه
إلى المرفقين.
9667 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، وأخبرنا حبيب بن
الشهيد، عن الحسن: أنه سئل عن التيمم فقال: ضربة يمسح بها
وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أن التيمم بدلٌ من الوضوء، وعلى
المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه
بالماء منهما في الوضوء. (2) واعتلوا من الأثر بما:-
9668 - حدثني به موسى بن سهلٍ الرملي قال، حدثنا نعيم بن حماد
قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن
عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم قال: رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبول، فسلَّمت عليه، فلم يرد عليَّ. فلما فرغ قام
إلى حائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى
الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم ردَّ عليَّ السلام.
(3)
__________
(1) في المطبوعة: "وضربة لليدين"، زاد"ضربة"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "على المتيمم" بإسقاط الواو، وأثبتها من
المخطوطة.
(3) الحديث: 9668 - نعيم بن حماد بن معاوية، الخزاعي الفارضي:
ثقة من شيوخ البخاري، تكلم فيه بعضهم بما لا يقدح. مترجم في
التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 100، وابن سعد 7 / 2 /
205-206، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 463-464، وتاريخ بغداد 13:
306-314.
خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني: مختلف فيه جدًا. والأكثر
على تضعيفه. ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1:
499، قال: "خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا
روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة".
عبد الله بن عطاء: إن لم يكن الطائفي المكي فلا أدري من هو؟
وأخشى أن يكون من المجهولين الذين يروي عنهم نعيم بن حماد.
الأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز، التابعي الثقة المشهور. وما
رأيت له رواية عن أبي جهيم، وما إخاله أدركه. وهو يروي هذا
الحديث عن"عمير مولى ابن عباس" عن أبي جهيم، كما سيأتي.
فلا أدري أسقط هذا من نسخ الطبري، أم هو هكذا في هذه الرواية؟
فيكون من غلط نعيم بن حماد، أو من غلط شيخه عبد الله بن عطاء!
وقد نقله ابن كثير 2: 468-469، كما ثبت هنا. فإن كان خطأ في
النسخ، كان خطأ قديمًا.
أبو جهيم - بالتصغير - بن الحارث بن الصمة الأنصاري: صحابي
معروف.
والحديث في أصله ثابت صحيح، بغير إسناد الطبري هذا الذي لا
يكاد يقوم!
فرواه البخاري 1: 374-375 (فتح) : "حدثنا يحيى بن بكير، قال:
حدثنا الليث [هو ابن سعد] ، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، سمعت
عميرًا مولى ابن عباس، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي جهيم
بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: أقبل النبي صلى
الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي
صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم
رد عليه السلام".
فهذه هي الرواية الصحيحة. أما ما هنا من زيادة"إلى المرفقين" -
فهي زيادة ضعيفة الإسناد كما ترى. وقد أشار الحافظ إلى روايتين
أخريين فيهما: "فمسح بوجهه وذراعيه"، وضعفهما بضعف رواتهما،
وقال"والثابت في حديث أبي جهيم بلفظ: يديه، لا ذراعيه".
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 1: 205.
ورواه أيضًا أبو داود: 329، والنسائي 1: 59 -كلاهما من طريق
الليث بن سعد، به.
وذكره مسلم في صحيحه 1: 110-111 تعليقًا، قال: "وروى الليث بن
سعد"- إلخ. ويظهر أنه لم يكن متوثقا منه. فوقع فيه وهم في
موضعين: "عبد الرحمن بن يسار"، بدل"عبد الله بن يسار". و"أبو
جهم" بالتكبير، بدل"أبو جهيم". وقد نص الحافظ في الفتح على
وهمه في الموضعين.
ورواه أيضًا أحمد في المسند: 17614 (ج4 ص169 حلبي) ، عن حسن بن
موسى، عن ابن لهيعة: "حدثنا عن الرحمن الأعرج"، فذكر الحديث،
كرواية البخاري.
ووقع للحافظ ابن حجر وهم شديد في هذه الرواية، في الإصابة 7:
35، في ترجمة أبي جهيم، فقال: "ورواه ابن لهيعة، عن عبد الله
بن يسار، عن أبي جهيم! أخرجه أحمد"! ورواية أحمد ليست كما قال.
بل هي كروايات البخاري وأبي داود والنسائي، اللاتي ذكرهن من
قبل.
(8/416)
وقال آخرون: الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ
بالتراب إليه في التيمم: الآباط.
(8/417)
*ذكر من قال ذلك:
9669 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن
أبي سلمة التنيسي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: التيمم إلى
الآباط.
وعلة من قال ذلك: أن الله أمر بمسح اليد في التيمم، كما أمر
بمسح الوجه. وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك
عليه جميع اليد، ومن طرف الكفّ إلى الإبط"يدٌ". واعتلوا من
الخبر بما:-
9670 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي
ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة،
(1) فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح،
فتغيَّظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد.
فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة! نزل فيك رخصة! فضربنا
بأيدينا: ضربة لوجوهنا، (2) وضربة بأيدينا إلى المناكب
والآباط. (3)
* * *
__________
(1) "هلك العقد" انقطع فضاع.
(2) في المطبوعة: "لوجهنا" بالإفراد، والصواب من المخطوطة.
(3) الحديث: 9670 - صيفي بن ربعي الأنصاري: ذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 1 / 448،
وروى عن أبيه، قال: "صالح الحديث، ما أرى بحديثه بأسًا". ووقعت
ترجمته في مطبوعة ابن أبي حاتم في ترجمتين برقمين، اتباعًا
لإحدى نسخه المخطوطة. ووهم مصححه الفاضل في ترجيحها على
المخطوطة الأخرى التي جعلت فيه ترجمة واحدة.
أبو اليقظان: هو عمار بن ياسر. وهذه كنيته.
والحديث رواه الطيالسي في مسنده: 637، عن ابن أبي ذئب، بهذا
الإسناد، مطولا.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 208، من طريق الطيالسي.
ورواه أحمد في المسند 4: 320 (حلبي) ، عن حجاج، عن ابن أبي
ذئب، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 565، من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، بهذا
الإسناد.
والحديث من هذا الوجه بهذا الإسناد - منقطع، لأن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يدرك عمار بن يسار، وروايته عنه
مرسلة.
وقد ثبت أن عبيد الله سمعه من أبيه من عمار، وسمعه من ابن عباس
عن عمار. فاتصل إسناده من هذين الوجهين:
قال البيهقي - بعد روايته -: "وكذلك رواه معمر بن راشد، ويونس
بن يزيد الأيلي، والليث بن سعد، وابن أخي الزهري، وجعفر بن
برقان - عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن
عمار".
ثم رواه - بنحوه - من طريق مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة"أنه أخبره عن أبيه، عن عمار بن ياسر".
وقال أبو داود - بعد الحديث: 320، الذي سنذكره بعد - قال:
"وقال مالك: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن
عمار. وكذلك قال أبو أويس، عن الزهري".
ورواه ابن ماجه: 566، من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، وهو
ابن دينار، عن الزهري: "عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن
عمار بن ياسر" - مختصرًا.
وأما من رواية عبيد الله عن ابن عباس: فرواه أحمد في المسند 4:
263-264، من طريق صالح - وهو ابن كيسان - عن الزهري: "حدثني
عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر" - فذكره
مطولا.
وكذلك رواه البيهقي 1: 208-209، من طريق أحمد في المسند.
وذكره ابن كثير 2: 472، من رواية المسند.
وكذلك رواه أبو داود: 320، والنسائي 1: 60 -كلاهما من طريق
صالح، عن الزهري، به - بذكر ابن عباس في الإسناد.
وقال الطيالسي - بعد الحديث: 637، الذي ذكرناه آنفًا -: "روى
هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد
الله، عن ابن عباس، عن عمار".
وكذلك نص أبو داود في السنن، والبيهقي - بعد روايتهما الحديث
من طريق صالح - على أن ابن إسحاق رواه عن الزهري، وذكر فيه"عن
ابن عباس".
وأياما كان: فالحديث صحيح. ولسنا نرى هذا اضطرابًا، بل هي طرق
متعددة ثابتة، لا تكون واحدة منها علة لغيرها.
(8/418)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن
الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من
يديه: الكفان إلى الزّندين، لإجماع الجميع على أن التقصير عن
ذلك غير جائز. ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر، إن شاء بلغ بمسحه
المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا
فيما جاوز الكفين: أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في
التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه. فما مسح المتيمم من يديه
أجزأه، إلا ما أُجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه
التقصير عنه. وقد أجمع الجميعُ على أن التقصير عن الكفين غير
(8/419)
مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، (1) وما عدا ذلك
فمختلف فيه. وإذا كان مختلفًا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلا في
عموم الآية = كان خارجًا مما لزمه من فرض ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم
إذا لم يجد الماء أم لا؟
فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
الخالفين: حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء،
حكم من جاء من الغائط وسائر من أحدَث ممن جُعل التيمم له
طهورًا لصلاته. وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله:"أو لامستم
النساء"، أو جامعتموهن، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك.
* * *
واعتلَّ قائلو هذه المقالة، بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء
في سفره، بإجماع الحجة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه
وسلم، الذي يقطع العذر ويزيل الشك.
* * *
وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزئ الجنب غيرُ الاغتسال بالماء،
وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. قالوا: وإنما جعل
التيمم رخصة لغير الجنب. وتأولوا قول الله:"ولا جنبًا إلا
عابري سبيل". قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصَلَّى
المسلمين إلا مجتازًا فيه حتى يغتسل، ولم يرخِّص له بالتيمم.
قالوا: وتأويل قوله:"أو لامستم النساء" أو لامستموهن باليد،
دون الفرج، ودون الجماع.
قالوا: فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن
لا يقرب الصلاة إلا مغتسلا. قالوا: والتيمم لا يطهِّره لصلاته.
*ذكر من قال ذلك:
9671 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن
__________
(1) في المطبوعة: "فخرج ذلك بالسنة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/420)
الأعمش، عن شقيق قال: كنت مع عبد الله بن
مسعود وأبي موسى الأشعري، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن،
أرأيت رجلا أجنبَ فلم يجد الماء شهرًا، أيتيمم؟ فقال عبد الله:
لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا. فقال أبو موسى: فكيف تصنعون
بهذه الآية في"سورة المائدة": (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا) [سورة المائدة: 6] ؟ فقال عبد الله: إن رُخّص لهم في
هذا، لأوشكوا إذا بَرَد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد! فقال
له أبو موسى: إنما كرهتم هذا لهذا! قال: نعم! قال أبو موسى:
ألم تسمع قول عمار لعمر:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرَّغت في الصعيد كما
تَمَرَّغ الدابة. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: إنما يكفيك أن تصنع هكذا = وضرب بكفيه ضربة واحدة، ومسح
بهما وجهه، ومسح كفيه"؟ قال عبد الله: ألم تر عُمرَ لم يقنع
لقول عمار؟ (1)
9672 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك، وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن
أبزى، قال: كنا عند عمر بن الخطاب رحمه الله، (2) فأتاه رجل
فقال: يا أمير المؤمنين، إنا
__________
(1) الحديث: 9671 - أبو السائب: هو سلم بن جنادة، مضت ترجمته
في: 48 شقيق: هو ابن سلمة، أبو وائل الأسدي، التابعي الكبير
المخضرم.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 264-265 (حلبي) ، عن أبي
معاوية، عن الأعمش بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1: 386 (فتح) ، ومسلم 1: 110، وأبو داود:
321: والنسائي 1: 61- كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش.
ورواه أحمد أيضًا 4: 265، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد
العبدي، عن الأعمش، به، بنحوه.
ونقله ابن كثير 2: 269 عن هذه الرواية من المسند.
وكذلك رواه مسلم 1: 110، من طريق عبد الواحد.
ورواه البيهقي 1: 211، من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش. ثم
قال: "أخرجه البخاري ومسلم، من أوجه عن الأعمش. وأشار البخاري
إلى رواية يعلى بن عبيد، وهو أثبتهم سياقة للحديث". وإشارة
البخاري هي فيه 1: 387، عقب رواية أبي معاوية.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/421)
نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء! فقال
عمر: أمّا أنا، فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلِّي حتى أجد
الماء. قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين، حيث كنا
بمكان كذا وكذا، ونحن نرعي الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا =؟ قال:
نعم! = فأما أنا فتمرغت في التراب، فأتينا النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إن كان الصعيد لكَافيك! وضرب بكفَيه الأرض، ثم نفخ
فيهما، ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيه؟ فقال: اتق الله يا عمار!
فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت لم أذكره! فقال: لا ولكن
نُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيت. (1)
9673 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن الحكم قال: سمعت إبراهيم في دُكان مسلم الأعور، فقلت:
أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب؟ قال: لا أصلي. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجنب ممن أمره
الله بالتيمم إذا لم يجد الماء، والصلاةِ (3) بقوله:"أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا". وقد بينا ثَمَّ
أن معنى"الملامسة"، في هذا الموضع: الجماع، بنقل الحجة التي لا
يجوزُ الخطأ فيما نقلته مجمعةً عليه، ولا السهو ولا التواطؤ
والتشاعر، (4) بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه
التطهر لصلاته = مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها، وتركنا ذكر كثير
منها، استغناءً بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة
الكتاب باستقصاء جميعه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا"،
وهل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء، (5) أم ذلك
أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدِثَ حدثًا يجب عليه
منه الوضوء بالماء، لو كان للماء واجدًا؟
فقال بعضهم: ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرضُ الطلب بعد
الطلب، محدثًا كان أو غير محدث.
*ذكر من قال ذلك:
9674 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج، عن أبي إسحاق،
__________
(1) الحديث: 9672 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي.
سفيان: هو الثوري.
سلمة: هو ابن كهيل. مضت ترجمته في 439، 2435.
أبو مالك: هو غزوان الغفاري، وهو تابعي معروف، مضى مرارًا.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 2 / 2 / 94 وهو أخو"سعيد بن عبد الرحمن" المترجم في:
9656، 9657.
ووقع في الطبري هنا من الناسخين يقينًا، إذ سقط منه مخطوطًا
ومطبوعًا [عن عبد الرحمن بن أبزى] . فصار ظاهر الإسناد أن عبد
الله بن عبد الرحمن هو الذي كان عند عمر وحكى القصة! وما كان
هذا قط، لأن عبد الله لم يدرك ذلك، وليست له رواية إلا عن
أبيه. ولا يحتمل السياق هنا أن يكون هذا اختلاف رواية.
ثم مما يقطع بذلك أن النسائي روى هذا الحديث 1: 60، عن محمد بن
بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد نفسه، وفيه: [عن عبد
الرحمن بن أبزى] ، التي زدناها هنا.
وكذلك رواه أحمد في المسند 4: 319 (حلبي) ، عن عبد الرحمن بن
مهدي - شيخ شيخ الطبري هنا، بهذا -الإسناد. وفيه هذه الزيادة.
ولكن وقع في مطبوعة المسند خطأ مطبعي"عن أبي ثابت" بدل"عن أبي
مالك"، وصححناه من مخطوطة المسند التي عندنا.
فالحديث يرويه سلمة بن كهيل، عن شيخين، هما: أبو مالك، وعبد
الله بن عبد الرحمن بن أبزى - كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي
أبزى.
وقد أشار البيهقي 1: 209-210 إلى روايات لسلمة بن كهيل في هذا
الحديث، زعمها اضطرابًا من سلمة، ولكن الظاهر أنها اختلاف
روايات من الرواة عنه.
وقوله - في متن الحديث -"قال: نعم. فأما أنا فتمرغت ... " -
هذا هو الثابت أيضًا في رواية النسائي. وفي طبعة مصر"أما أنا"
بدون الفاء. وهو سياق صحيح، على تقدير حذف"قال" بعد قوله"نعم".
لظهور أن قوله"فأما أنا" من كلام عمار بن ياسر، لا من كلام
عمر. ومثل هذا كثير. ولفظ المسند في هذا الموضع: "قال: نعم،
قال: فإني تمرغت في التراب".
(2) الأثر: 9673 -"مسلم الأعور"، هو"مسلم بن كيسان الضبي"،
ضعيف يتكلمون فيه، ولكن ليس له مدخل في هذا الأثر. و"إبراهيم"
هو النخعي.
(3) قوله: "والصلاة" مجرورًا عطفًا على"أمره الله بالتيمم ...
والصلاة".
(4) "التشاعر"، التعالم والتواطؤ. وقد سلفت هذه الكلمة في 6:
127، تعليق: 2 = و155، تعليق: 1. وكان في المطبوعة:
"والتضافر"، غيرها إذ لم يفهمها.
(5) في المطبوعة: "هل ذلك أمر" بحذف الواو، وأثبت ما في
المخطوطة.
(8/422)
عن الحارث، عن علي رضي الله عنه أنه كان
يقول: التيمم لكل صلاة.
9675 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن أبي إسحاق،
عن الحارث، عن علي مثله.
9676 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان المروزي قال،
أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوراث قال، أخبرنا عامر
الأحول، عن نافع: أنه حدثه عن ابن عمر مثل ذلك. (1)
9677 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا
مجالد، عن الشعبي قال: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة.
9678 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن سعيد، عن قتادة قال: يتيمم لكل صلاة = ويتأوّل هذه
الآية:"فلم تجدوا ماء".
9679 - قال أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا الفريابي، عن
الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن قالوا: التيمم لكل صلاة. (2)
9680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا
عمران القطان، عن قتادة، عن النخعي قال: يتيمم لكل صلاة.
* * *
وقال أخرون: بل ذلك أمرٌ من الله بالتيمم بعد طلب الماء مَنْ
لزمه فرض الطلب إذا كان محدثًا. فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره
بالتراب، فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي
بتيممه الأول.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 9676 - انظر التعليق على الأثر: 9643.
(2) الأثر: 9679 -"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" القاضي، روى
عن أنس. و"عبد الكريم بن أبي المخارق"، الفقيه روى عن أنس.
"وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي"، وهو: ربيعة الرأي، صاحب
الفتوى بالمدينة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وعبد الكريم بن
ربيعة بن أبي عبد الرحمن"، وهو خطأ، ولا يستقيم مع السياق
أيضًا.
(8/424)
9681 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا
سفيان بن حبيب، عن يونس، عن الحسن قال: التيمم بمنزلة الوضوء.
9682 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا عمر بن شاكر،
عن الحسن قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء
فليتوضأ. (1)
9683 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام،
عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم
يحدث. وكذلك التيمم.
9684 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام،
عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.
9685 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبي، عن
قتادة، عن الحسن قال: يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث.
9686 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن
جريج، عن عطاء قال: التيمم بمنزلة الوضوء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، قول من
قال:"يتيمم المصلي لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضًا"،
لأن الله جل ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن
لم يجد الماء فالتيمم. ثم أخرج القائمَ إلى الصلاة من كان قد
تقدم من قيامه إليها الوضوء بالماء (2) = سنةُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم، (3) إلا أن يكون قد أحدث حدثًا ينقض طهارته،
فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم
قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر
التنزيل، بعد طلبه الماء إذا أعوزه.
* * *
__________
(1) الأثر: 9682 -"عمر بن شاكر البصري". يروي عن أنس المناكير.
روى عنه إسماعيل بن موسى السدي الفزاري. مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "قد تقدم قيامه إليها"، بحذف"من"، وهي صواب
في مكانها، كما في المخطوطة.
(3) قوله: "سنة رسول الله" مرفوع، فاعل قوله: "ثم أخرج القائم
... سنة رسول الله".
(8/425)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَفُوًّا غَفُورًا (43) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لم يزل (1)
="عفوا"، عن ذنوب عباده، (2) وتركه العقوبة على كثير منها ما
لم يشركوا به، كما عفا لكم، (3) أيها المؤمنون، عن قيامكم إلى
الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى ="غفورًا"،
يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذابَ على
خطاياهم، كما ستر عليكم، أيها المؤمنون، بتركه معاجلتكم على
صلاتكم في مساجدكم سكارى. يقول: فلا تعودوا لمثلها، فينالكم
بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك، مُنَكِّلَة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه:"ألم
تر إلى الذين". فقال قوم: معناه: ألم تخبر؟
* * *
وقال آخرون: معناه ألم تعلم؟ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف 7: 523 / 8: 51،
88، 98، 229.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف 7: 215، 327.
(3) في المطبوعة: "كما عفا عنكم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(4) قوله: "منكلة" (بضم الميم وفتح النون وتشديد الكاف مكسورة)
من التنكيل: وهو إنزال العقاب الشديد، إذا رآه غير نكل عنه
وحذره. ولو قرئت: "منكلة"، (بفتح الميم وسكون النون واللام
المفتوحة) ، لكانت صوابًا، ومثلها: "المنكل" وهو النكال أيضًا.
(5) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / 5: 429، 430 / 6:
288 = ومعاني القرآن للفراء 1: 270.
(8/426)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك:
ألم تر بقلبك، يا محمد، علمًا (1) "إلى الذين أوتوا نصيبًا".
وذلك أن"الخبر" و"العلم" لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب
بالعلم. فذلك كما قلنا فيه. (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، فإنه
يعني: إلى الذين أعطوا حظَّا من كتاب الله فعلموه (3)
وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالَيْ
مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
9687 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون
الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل"، فهم أعداء الله اليهود،
اشتروا الضلالة.
9688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"
إلى قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"، قال: نزلت في رفاعة بن زيد
بن السائب اليهودي. (4)
9689 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق
__________
(1) في المخطوطة: "ألم تر بعلمك"، وهو خطأ، صوابه ما في
المبطوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لذلك"، وصواب السياق ما أثبت.
(3) انظر تفسير"الإيتاء" في فهارس اللغة = وتفسير"النصيب" فيما
سلف 4: 206 / 6: 288 / 8: 274.
(4) هكذا في المخطوطة أيضًا"رفاعة بن زيد بن السائب"، وسترى
أنه: " ... بن زيد بن التابوت" في الأثر التالي، وأسماء يهود
مشكلة، فلم أستطع أن أقطع بخطئها، فلعل"السائب" اسم جده،
ولقبه"التابوت".
(8/427)
قال، (1) حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد
بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال:
كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم - يعني من عظماء
اليهود = إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه
وقال:"راعنا سمعَك، يا محمد حتى نفهمك"! ثم طعن في الإسلام
وعابه، فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب
يشترون الضلالة" إلى قوله:"فلا يؤمنون إلا قليلا" (2)
9690 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (3)
بإسناده، عن ابن عباس، مثله.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحاق"، وهو خطأ فاحش.
(2) الأثر: 9689 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تال للأثر السالف
رقم: 9501.
(3) في المطبوعة وحدها: "عن أبي إسحاق"، والمخطوطة صواب هنا.
(8/428)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ
الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
القول في تأويل قوله: {يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يشترون الضلالة"، اليهود
الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، يختارون الضلالة = وذلك: الأخذ
على غير طريق الحقّ، وركوبُ غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم
منهم بقصد السبيل ومنهج الحق. (1) وإنما عنى الله بوصفهم
باشترائهم الضلالة: مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه
وسلم، وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أنّ السبيل الحقَّ
الإيمانُ به،
__________
(1) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 1: 312-315 / 2: 340-342،
455 / 3: 328 / 6: 527 = وتفسير"الضلالة" 1: 195، 313 / 2:
495، 496 / 6: 66، 500، 584 / 7: 369.
(8/428)
وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم
التي عندهم.
* * *
وأما قوله:"ويريدون أن تضلوا السبيل"، يعني بذلك تعالى ذكره:
ويريد هؤلاء اليهود الذين وصَفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبًا
من الكتاب =" أن تضلوا" أنتم، يا معشر أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم، المصدقين به =" أن تضلوا السبيل"، يقول: أن تزولوا
عن قصد الطريق ومَحَجَّة الحق، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالا
مثلهم.
وهذا من الله تعالى ذكره تحذيرٌ منه عبادَه المؤمنين، أن
يستنصحوا أحدًا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن
يسمعوا شيئًا من طعنهم في الحق.
* * *
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى
المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جل ثناؤه: ="والله
أعلم بأعدائكم"، يعني بذلك تعالى ذكره: والله أعلم منكم
بعداوَة هؤلاء اليهود لكم، أيها المؤمنون. يقول: فانتهوا إلى
طاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، (1) فإني أعلم
بما هم عليه لكم من الغشِّ والعداوة والحسد، وأنهم إنما
يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحق فتهلكوا.
* * *
وأما قوله:"وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا"، فإنه يقول:
فبالله، أيها المؤمنون، فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا،
دون غيره، يكفكم مهمَّكم، وينصركم على أعدائكم ="وكفى بالله
وليًّا"، يقول: وكفاكم وحسْبكم بالله ربكم وليًّا يليكم ويلي
أموركم بالحياطة لكم، والحراسة من أن يستفزّكم أعداؤكم عن
دينكم، أو يصدّوكم
__________
(1) في المخطوطة: "مما نهيتكم عنه"، وفي المطبوعة: "عما نهيتكم
عنه"، والصواب ما أثبت.
(8/429)
مِنَ الَّذِينَ
هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ
وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
قَلِيلًا (46)
عن اتباع نبيكم (1)
"وكفى بالله نصيرًا"، يقول: وحسبكم بالله ناصرًا لكم على
أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم
العَوَج. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}
قال أبو جعفر: ولقوله جل ثناؤه:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"،
وجهان من التأويل.
أحدهما: أن يكون معناه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من
الكتاب" ="من الذين هادوا يحرفون الكلم"، فيكون قوله:"من الذين
هادوا" من صلة"الذين". وإلى هذا القول كانت عامة أهلِ العربية
من أهل الكوفة يوجِّهون قوله:"من الذين هادوا يحرِّفون". (3)
* * *
والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يُحرِّف الكلم
عن مواضعه، فتكون"مَن" محذوفة من الكلام، اكتفاء بدلالة
قوله:"من الذين هادوا"، عليها. وذلك أن"مِن" لو ذكرت في الكلام
كانت بعضًا ل"مَن"، فاكتفى بدلالة"مِنْ"، عليها. والعرب
تقول:"منا من يقول ذلك، ومِنا لا يقوله"، (4) بمعنى: منا
__________
(1) انظر تفسير: "الولي" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 424 / 6:
142، 313، 497.
(2) انظر تفسير"النصير" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 581 / 6:
443، 449.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 271.
(4) في المطبوعة: "والعرب تقول: منا من يقول ذلك" بزيادة"من"
وهو خطأ، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فكان
فيها: "والعرب تقول ذلك ومثالا لا يقوله" وهو من عبث الناسخ
وإسقاطه.
(8/430)
من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله =
فتحذف"مَن" اكتفاء بدلالة"مِنْ" عليه، كما قال ذو الرمة:
فَظَلُّوا، وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وَآخَرُ
يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِالهَمْلِ (1)
يعني: ومنهم مَن دمعه، وكما قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا
مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات: 164] .
وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجِّهون
تأويل قوله:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، غير أنهم كانوا
يقولون: المضمر في ذلك"القوم"، كأن معناه عندهم: من الذين
هادوا قوم يحرِّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ
رِجْلَيْهِ بِشَنِّ (2)
يعني: كأنك جمل من جمال أقيش.
فأما نحويو الكوفة فينكرون أن يكون المضمر مع"مِن" إلا"مَن" أو
ما أشبهها. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه 485، وقبله: مع اختلاف الرواية: بَكَيْتُ عَلَى
مَيٍّ بِهَا إذْ عَرَفْتُهَا ... وَهِجْتُ الْهَوَى حَتَّى
بَكَى القَوْمُ مِنْ أَجْلِي
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ
يَثْنِي عَبْرَةَ العَيْنِ بالهَمْلِ
وَهَلْ هَمَلانُ الْعَيْنِ رَاجِعُ مَا مَضَى ... مِنَ
الوَجْدِ، أوْ مُدْنِيكِ يَا مَيُّ مِنْ أَهْلِي
وكان في المطبوعة: "يذري دمعة العين بالمهل" وهو خطأ، وتغيير
من الطابع، وفي المخطوطة"يثني" كما في الديوان.
وقوله: "يثني دمعة العين"، أي يرد هملانها. وقوله: "بالهمل"
متعلق بقوله"دمعة" ووضع"دمعة" هنا مصدرًا لقوله: "دمعت عينه
دمعًا ودمعانًا ودموعًا"، وزاده هو"دمعة" على وزن"رحمة" في
المصادر = وكذلك في رواية"عبرة"، كلاهما مصدر، ولم تثبته كتب
اللغة. يقول: وآخر يرد إرسال العين دمعها منهملا، يعني: لولا
ذلك لسالت دموعه غزارًا.
(2) مضى تخريجه فيما سلف 1: 179، تعليق: 2، ونسيت هناك أن أرده
إلى هذا المكان، فأثبته.
(3) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 271.
(8/431)
قال أبو جعفر: والقول الذي هو أولى بالصواب
عندي في ذلك: قول من قال: قوله:"من الذين هادوا"، من صلة"الذين
أوتوا نصيبًا من الكتاب"، لأن الخبرين جميعًا والصفتين، من صفة
نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصفَ الله صفتهم في
قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب". وبذلك جاء
تأويلُ أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام = إذ كان الأمر كذلك =
إلى أن يكون فيه متروك.
* * *
وأما تأويل قوله:"يُحَرِّفون الكلِمَ عن مواضعه"، (1) فإنه
يقول: يبدِّلون معناها ويغيِّرونها عن تأويله.
* * *
و"الكلم" جماع"كلمة".
* * *
وكان مجاهد يقول: عنى بـ "الكلم"، التوراة.
9691 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"،
تبديل اليهود التوراة.
9692 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأما قوله:"عن مواضعه"، فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي
وجوهه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التحريف" فيما سلف 2: 248، 249.
(8/432)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}
يعني بذلك جل ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا، يا محمد،
قولك، وعصينا أمرك، كما:-
9693 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"سمعنا
وعصينا"، قال: قالت اليهود: سمعنا ما نقول ولا نطيعك.
9694 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9695 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9696 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله:"سمعنا وعصينا"، قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود الذين
كانوا حوالَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره:
أنهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه
بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل
للرجل يَسُبُّه:"اسمع، لا أسمعَك الله"، كما:-
9697 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة
ما يقول الإنسان:
(8/433)
"اسمع لا سمعت"، أذًى لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، وشتمًا له واستهزاءً.
9698 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق،
عن الضحاك، عن ابن عباس:"واسمع غير مسمع" قال: يقولون
لك:"واسمع لا سمعت".
وقد روي عن مجاهد والحسن: أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى:
واسمع غير مقبول منك.
= ولو كان ذلك معناه لقيل:"واسمع غير مسموع"، ولكن معناه:
واسمع لا تسمع، ولكن قال الله تعالى ذكره:"ليًّا بألسنتهم
وطعنًا في الدين"، فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم، والطعن في
الدين بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، يقول: غير
مقبول ما تقول، فهو كما:-
9699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، قال: غير مُسْتمع - قال
ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"،
غير مقبول ما تقول.
9700 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9701 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: كما
تقول اسمع غير مَسْموع منك.
9702 - وحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط،
(8/434)
عن السدي قال: كان ناس منهم يقولون:"واسمع
غير مسمع"، كقولك: اسمع غير صاغِرٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وراعنا"، أي: راعنا سمعك، افهم عنّا
وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في"سورة البقرة" بأدلته، بما فيه
الكفاية عن إعادته. (2)
* * *
ثم أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم:"ليًّا بألسنتهم"، يعني تحريكًا منهم بألسنتهم
بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، (3) واستخفافًا
منهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنًا في الدين، كما:-
9703 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبي صلى
الله عليه وسلم:"راعنا سمعك"! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود
قبيحة أن يقال: (4) "راعنا سمعك" ="ليًّا بألسنتهم" والليّ:
تحريكهم ألسنتهم بذلك ="وطعنًا في الدين".
9704 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"راعنا
ليًّا بألسنتهم"، كان
__________
(1) في المطبوعة: "غير صاغ"، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 459-467.
(3) انظر تفسير"اللي" و"اللي بالألسنة" فيما سلف 6: 535-537.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكان في اليهود قبيحة فقال"، وهو
كلام لا يستقيم البتة، وصوابه الذي لا شك فيه ما أثبت، وانظر
كونها كلمة قبيحة لليهود في 2: 460.
(8/435)
الرجل من المشركين يقول:"أرعني سمعك"! يلوي
بذلك لسانه، يعني: يحرِّف معناه.
9705 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أييه، عن ابن عباس:"من الذين هادوا يحرّفون
الكلم عن مواضعه"، إلى"وطعنًا في الدين"، فإنهم كانوا
يستهزئون، ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويطعنون في الدين.
9706 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"وراعنا ليا بألسنتهم وطعنًا في الدين"، قال:"راعنا"،
طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه، ويكذبوه. قال:
و"الرَّاعن"، الخطأ من الكلام. (1)
9707 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر قال، حدثنا أبو روق، عن
الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"ليا بألسنتهم"، قال: تحريفًا
بالكذب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَأَقْوَمَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين
وصف الله صفتهم، قالوا لنبي الله:"سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا
أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما
نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا" ="لكان خيرًا لهم
وأقوم"، يقول: لكان ذلك خيرًا لهم عند الله ="وأقوم"، يقول:
وأعدل وأصوبَ في القول.
* * *
__________
(1) انظر القول في"الراعن" فيما سلف 2: 465، 466.
(8/436)
وهو من"الاستقامة" من قول الله:
(وَأَقْوَمُ قِيلا) [سورة المزمل: 6] ، بمعنى: وأصوبُ قيلا (1)
كما:-
9708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرًا
لهم"، قال: يقولون اسمع منا، فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا
فلا تعجل علينا.
9709 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة،
عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد قوله:"وانظُرنا"، قال:
اسمع منا.
9710 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"وانظرنا"، قال: أفهمنا.
9711 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"وانظرنا"، قال: أفهمنا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة، من توجيههما
معنى:"وانظرنا" إلى:"اسمع منا" = وتوجيه مجاهد ذلك إلى"أفهمنا"
= فما لا نعرف في كلام العرب، (2) إلا أن يكون أراد بذلك من
توجيهه إلى"أفهمنا"، انتظرنا نفهم ما تقول = أو: انتظرنا نقل
حتى تسمع منا = فيكون ذلك معنًى مفهومًا، وإن كان غير تأويلٍ
للكلمة ولا تفسير لها. (3) ولا نعرف:"انظرنا" في كلام العرب،
(4) إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا = فأما"انظرنا" بمعنى:
انتظرنا، فمنه قول الحطيئة:
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتَكُمْ ... يَوْمًا
يَجِيء بها مَسْحِي وَإِبْسَاسِي (5)
__________
(1) انظر تفسر"أقوم" فيما سلف 6: 77، 78.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا نعرف" بغير فاء، ولكني
زدتها لأنها أعرق في العربية وأقوم للسياق.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "غير تأويل الكلمة" والصواب ما
أثبت.
(4) في المطبوعة: "فلا نعرف" بالفاء، والأجود ما في المخطوطة،
كما أثبته.
(5) ديوانه: 52، والكامل 1: 351، وهذا خطأ لا شك فيه في رواية
البيت، وأثبته على حاله، لأنه دلالة على عجلة أبي جعفر أحيانًا
في كتابة تفسيره، ودليل على حفظه الشعر، ولولا ذلك لم يخلط هذا
الخلط فإن هذه القصيدة، هي التي هجا بها الزبرقان بن بدر، ومدح
بغيض ابن عامر، والتي شكاه من أجلها الزبرقان إلى عمر بن
الخطاب فحبسه، يقول للزبرقان لما غضب حين استضافه بغيض: مَا
كانَ ذَنْبُ بَغِيض لا أَبَا لَكُمُ ... فِي بَائِسٍ جَاءَ
يَحْدُو آخِرَ الناسِ
لَقَدْ مَرَيْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتكُمْ ... يَوْمًا يجِيءُ
بِهَا مَسْحِي وَإبْسَاسِي
وَقَدْ مَدَحْتُكُمْ عَمْدًا لأُرْشِدَكُمْ ... كَيْمَا
يَكُونَ لَكُمْ مَتْحٍي وَإمْرَاسِي
ثم يليه بيت الشاهد الذي كان ينبغي أن يذكره هنا أبو جعفر، كما
ذكره فيما سلف في تفسير"انظرنا" من سورة البقرة 2: 467، 468
وقد شرحته هناك. ولولا أن أثبت حال أبي جعفر في كتابه، لألغيت
البيت المذكور في المتن، ولوضعت هذا البيت: وَقَدْ
نَظَرْتُكُمُ أَعْشَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا
حَوْزِي وَتَنْسَاسِي
وقوله: "لقد مريتكم" من قولهم: "مري الناقة يمريها مريًا": إذا
مسح ضرعها لتدر. و"الدرة": الدفعة من اللبن و"المسح" مسح الضرع
للحلب. و"الإبساس": هو صوت الراعي، يلينه لناقته عند الحلب
لتسكن ويسهل حلبها. يقول: لقد ترفقت لكم، أستخرج خيركم بالمديح
الرقيق والقول اللين، فلم ألمق خيرًا، ولم تجودوا به.
وكان في المخطوطة: "يجيء به" وهو خطأ.
(8/437)
وأما"انظرنا"، بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول
عبد الله بن قيس الرقيات:
ظَاهِرَاتُ الجَمالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ
الأَرَاكَ الظِّبَاءُ (1)
__________
(1) ديوانه: 171، من قصيدته التي فخر فيها بقريش، ومدح مصعب بن
الزبير، وذكر نساء عبد شمس بن عبد مناف فقال: وَحِسَانٌ مِثْلُ
الدُّمَي عَبْشَمِيَّاتٌ ... عَلَيْهِن بَهْجَةٌ وَحَيَاءُ
لا يَبِعْنَ العِيَابَ في مَوْسِمٍ النَّاسِ ... إذَا طَافَ
بِالعِيابِ النِّسَاءُ
ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ والسَّرْو........ ... . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
و"السرو": الشرف وكرم المحتد. وهي أجود الروايتين، وقوله: "كما
ينظر الأراك الظباء"، من حسن التشبيه، ودقة الملاحظة للعلاقة
بين الشرف والسؤدد. وما يكون للمرء من شمائل وسمت وهيأة. ويعني
أنهن قد ينصبن أجيادهن، كأنهن ظباء تعطو الأراك لتناله. وذلك
أظهر لجمال أجيادهن، وحركتهن. والجيد فيه دلالة من دلائل الخلق
لا يخطئها بصير.
(8/438)
بمعنى: كما ينظر إلى الأراك الظباء. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ولكن الله تبارك وتعالى أخْزَى هؤلاء
اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية، فأقصاهم وأبعدهم من
الرشد واتباع الحق (2) ="بكفرهم"، يعني: بجحودهم نبوّة نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى
والبينات ="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يصدقون بمحمد صلى
الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرُّون بنبوته
="إلا قليلا"، يقول: لا يصدقون بالحق الذي جئتهم به، يا محمد،
إلا إيمانًا قليلا كما:-
9712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فلا يومنون إلا قليلا"، قال:
لا يؤمنون هم إلا قليلا.
قال أبو جعفر: وقد بيّنا وجه ذلك بعلله في"سورة البقرة". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الكلمة من آية البقرة: "وقولوا
انظرنا" 2: 467 - 469.
(2) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328 / 3: 254، 261 / 6:
577.
(3) يعني تفسير قوله تعالى"فقليلا ما يؤمنون" 2: 329 - 331.
(8/439)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا
لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولًا (47)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين أوتوا
الكتاب"، اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا حوالَيْ مهاجَر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله لهم: يا أيها الذين
أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به ="آمنوا" يقول: صدِّقوا بما
نزلنا إلى محمد من الفرقان ="مصدقًا لما معكم"، يعني: محقِّقًا
للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران ="من قبل
أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"طمسه إياها": محوه آثارها حتى تصير كالأقْفَاء.
وقال آخرون: معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيّرها عمياء، ولكن
الخبر خرج بذكر"الوجه"، والمراد به بصره ="فنردّها على
أدبارها"، فنجعل أبصارَها من قبل أقفائها.
*ذكر من قال ذلك:
9713 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين أوتوا
الكتاب آمنوا" إلى قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، وطمسها: أن
تعمى ="فنردها على أدبارها"، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل
أقفِيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
(8/440)
9714 - حدثني أبو العالية إسماعيل بن
الهيثم العبْدي قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن
عطية العوفي في قوله:"من قبل أن نطمس وجوها فنردها على
أدبارها"، قال: نجعلها في أقفائها، فتمشي على أعقابها القهقرى.
(1)
9715 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن
موسى قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، بنحوه = إلا أنه قال:
طمْسُها: أن يردَّها على أقفائها.
9716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة:"فنردها على أدبارها"، قال: نحوِّل
وجوهها قِبَل ظهورها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك (2) من قبل أن نعمي قومًا عن الحق
="فنردها على أدبارها"، في الضلالة والكفر.
*ذكر من قال ذلك:
9717 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن نطمس وجوهًا فنردها على
أدبارها"، فنردها عن الصراط، عن الحق (3) ="فنردها على
أدبارها"، قال: في الضلالة.
9718 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن نطمس وجوهًا" عن صراط الحق
="فنردها على أدبارها"، في الضلالة.
9719 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك
قراءة، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
__________
(1) الأثر: 9714 -"أبو العالية، إسماعيل بن الهيثم العبدي"، لم
نجده، وانظر ما سلف رقم: 9365، 9366.
و"أبو قتيبة" هو: سلم بن قتيبة، مضت ترجمته برقم: 1899، 1924،
9365.
(2) في المطبوعة، أسقط: "بل".
(3) في المطبوعة: "عن الصراط الحق"، أسقط"عن" الثانية.
(8/441)
9720 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، الحسن:"نطمس وجوهًا"، يقول:
نطمسها عن الحق ="فنردها على أدبارها"، على ضلالتها.
9721 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى
قوله:"كما لعنّا أصحاب السبت"، قال: نزلت في مالك بن
الصَّيِّف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، من بني قينقاع. أما"أن
نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، يقول: فنعميها عن الحق
ونُرجعها كفارًا.
9722 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من قبل
أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، يعني: أن نردهم عن الهدى
والبصيرة، فقد ردَّهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد صلى الله عليه
وسلم وما جاء به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي
هم بها، وناحيتهم التي هم بها ="فنردها على أدبارها"، من حيث
جاءوا منه بَديًّا من الشام. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، قال: كان
أبي يقول: إلى الشأم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، فنمحو أثارها
__________
(1) في المطبوعة: "بدءًا من الشام"، وأثبت في المخطوطة،
وكلتاهما صواب. و"بديًا"، في بدء أمرهم. وتفسير"الوجوه" هنا:
النواحي.
(8/442)
ونسوِّيها ="فنردها على أدبارها"، بأن نجعل
الوجوه منابتَ الشَّعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور
بني آدم في أدبار وجوههم. فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم،
فقد ردَّها على أدبارها، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار
الوجوه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
معنى قوله:"من قبل أن نطمس وجوها"، من قبل أن نطمس أبصارَها
ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء ="فنردها على أدبارها"، فنجعل
أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه،
فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقْفاءً والأقفَاء وجوهًا، فيمشون
القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه
الآية اليهودَ الذين وصف صفتهم بقوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة"، ثم حذرهم جل ثناؤه
بقوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدِّقًا
لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها" الآية،
بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم، (2) إن هم لم يؤمنوا بما
أمرهم بالإيمان به. ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به
يومئذ كفارًا.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ فساد قول من قال: تأويل ذلك: أن
نعمِيها عن الحق فنردها في الضلالة. فما وجْه ردِّ من هو في
الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجًا منه. فأما من
هو فيه، فلا وجه لأن يقال:"نرده فيه".
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا أنّ الله قد تهدَّد للذين
ذكرهم في هذه
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 272.
(2) السياق: ثم حذرهم ... بأسه وسطوته ...
(8/443)
الآية بردّه وجوهَهم على أدبارهم = كان
بيّنًا فساد تأويل من قال: معنى ذلك: يهددهم بردِّهم في
ضلالتهم.
* * *
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابتَ
الشعر كهيئة وجوه القردة، فقولٌ لقول أهل التأويل مخالف. وكفى
بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من
الخالفين، على خطئه شاهدًا.
* * *
وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها،
فنردّهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ، فإنه = وإن كان
قولا له وجه = مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. (1) وذلك أن
المعروف من"الوجوه" في كلام العرب، التي هي خلاف"الأقفاء"،
وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام مَن نزل
بلسانه، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه، الذي
يجب التسليم له. (2)
* * *
وأما"الطمس"، فهو العُفُوّ والدثور في استواء. منه يقال:"طمست
أعلام الطريق تطمِسُ طُموسًا"، إذا دثرت وتعفَّت، فاندفنت
واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرقَتْ ...
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعْلام مَجْهُولُ (3)
يعني:"طامس الأعلام"، دائر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل
للأعمى الذي
__________
(1) في المطبوعة: "كما يدل عليه"، وفيه خطأ، وفي المخطوطة:
"كما يدل على" وفيه خطآن. والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "من الوجوه التي ذكرت، دليل يجب التسليم له"،
زاد فيما كان في المخطوطة لتستقيم الجملة، وكان فيها: "من
الوجوه التي يجب التسليم له" والأمر أهون من ذلك، أخطأ
فكتب"التي" مكان"الذي"، وهو حق السياق.
(3) سلف البيت وتخريجه في 4: 424، تعليق: 4.
(8/444)
قد تعفَّى غَرُّ ما بين جفني عينيه فدثر:
(1) "أعمى مطموس، وطمْيس"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَلَوْ
نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) [سورة يس: 66] .
* * *
= قال أبو جعفر:"الغَرُّ"، الشقّ الذي بين الجفنين. (2)
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان
ما توعَّدهم به؟ (3)
قيل: لم يكن، لأنه آمن منهم جماعة، منهم: عبد الله بن سلام،
وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، (4) وأسد بن عبيد، ومُخَيْرِق،
(5) وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم.
ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم،
ما:-
9724 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة = جميعًا، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد
بن أبي محمد
__________
(1) في المطبوعة: "الذي قد تعفى ما بين جفني ... " حذف"غر"،
لأنه لم يحسن قراءتها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وانظر شرح
أبي جعفر لكلمة"غر"، والتعليق عليه بعد.
(2) في المطبوعة: (العراسق الذي بين الخفين) ، واستدرك عليه
الناشر الأول، وكتب فيه خلطًا شديدًا، نقله عنه آخرون!! وأما
المخطوطة التي لم يحسن الناشر قراءتها فكان فيها: العرالسق
الذي بين الخفين" كله غير منقوط، وصوابه قراءته ما أثبت. وأصل
ذلك أن"الغر" (بفتح الغين وتشديد الراء) هو الشق في الأرض.
و"الغر" أيضًا: الكسر يكون في الثوب، والغضون في الجلد، وهو
مكاسر الجلد، ومنه قليل: "اطو الثوب على غره" أي على كسره. وقد
جاءت هذه الكلمة في تفسير أبي جعفر 23: 17، 18 مصحفة بالزاي:
"والطمس على العين هو أن لا يكون بين جفني العين (غز) ، وذلك
هو الشق الذي بين الجفنين". وانظر شرح ابن إسحاق في سيرته 2:
210: "المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق".
فتبين من هذا صحة قراءتنا وصوابها، وخلط من لا يحسن أن يخلط،
فضلا عن أن يصيب!!
(3) "كان" هنا تامة، بمعنى: وقع وحدث.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أسد بن سعية" وعند ابن إسحاق:
"أسيد بن سعية" (بفتح الألف وكسر السين) . والاختلاف في اسمه
واسم أبيه كثير.
(5) لم أجد"مخيرق" في غير هذا الموضع، وهو في سائر الكتب وفي
ترجمته"مخيريق"، والاختلاف في أسماء بني إسرائيل كثير. فتركته
على حاله هنا، لأنه هكذا ثبت في المخطوطة.
(8/445)
مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير
أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كلَّم رسول الله صلى الله عليه
وسلم رؤساء من أحبار يهود: منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن
أسد فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم
لتعلمون أن الذي جئتكم به لحقٌّ! (1) فقالوا: ما نعرف ذلك يا
محمد! وجحدوا ما عرفوا، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله
فيهم:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما
معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، الآية (2)
9725 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن
المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعبٍ، (3) فقال: أسلم
كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة،
فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرأون في
كتابكم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [سورة
الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه. ثم خرج حتى
انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينًا وهو يقول:"يا
أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من
قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، الآية. فقال كعب: يا
رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله
باليمن، ثم جاء بهم مسلمين.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "الذي حكم به لحق"، وفي هامش النسخة بخط
عتيق: "الصواب: بعثت"، وأخطأ من كتب، فالصواب ما في المطبوعة،
وهو نص سيرة ابن هشام.
(2) الأثر 9724 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تابع الأثر
السالف: 9689، 9690.
(3) يعني"كعب الأحبار".
(8/446)
القول في تأويل قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ
كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولا (47) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أو نلعنهم"، أو نلعنكم
فنخزيكم ونجعلكم قردة ="كما لعنا أصحاب السبت"، يقول: كما
أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم. (1) قيل ذلك على وجه
الخطاب في قوله:"آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم"، كما قال:
(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ
بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) [سورة يونس: 22] . (2)
وقد يحتمل أن يكون معناه:"من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على
أدبارها"، أو نلعن أصحاب الوجوه = فجعل"الهاء والميم" في
قوله:"أو نلعنهم"، من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام
دلالة على ذلك:
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9726 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"أو نلعنهم
كما لعنّا أصحاب السبت"، أي: نحوّلهم قردة.
9727 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"،
يقول: أو نجعلهم قردة.
9728 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف قريبًا ص: 439، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف 1: 154 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464، ومواضع
أخرى كثيرة فيما سلف.
(8/447)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى
إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أسباط، عن السدي:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب
السبت"، أو نجعلهم قردة.
9729 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، قال: هم يهود جميعًا،
نلعن هؤلاء كما لعنّا الذين لعنّا منهم من أصحاب السبت. (1)
* * *
وأما قوله:"وكان أمر الله مفعولا"، فإنه يعني: وكان جميع ما
أمر الله أن يكون، كائنًا مخلوقًا موجودًا، لا يمتنع عليه خلق
شيء شاء خَلْقه. و"الأمر" في هذا الموضع: المأمور = سمي"أمر
الله"، لأنه عن أمره كان وبأمره.
والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم" = وإن الله لا يغفر أن يشرك
به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك
لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام.
* * *
وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله:"أن يشرك به"، في موضع نصب
بوقوع"يغفر" عليها (2) = وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها
لو كان ظاهرًا. وذلك أن يوجَّه معناه إلى: إن الله لا يغفر أن
يشرك به، على تأويل الجزاء،
__________
(1) انظر خبر"أصحاب السبت" فيما سلف 2: 166 - 175.
(2) "الوقوع" تعدى الفعل إلى مفعول، كما سلف مرارًا كثيرة.
(8/448)
كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبًا مع شرك،
أو عن شرك. (1)
وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون"أن" في موضع خفض في قول بعض
أهل العربية. (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين
نزلت: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) [سورة الزمر: 53] .
ذكر الخبر بذلك:
9730 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثني مُجَبَّر، عن عبد الله بن
عمر: أنه قال: لما نزلت: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل فقال: والشرك، يا نبيَّ
الله. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنّ الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد
افترى إثما عظيما". (3)
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1: 272: "مع شرك، ولا عن شرك"،
والصواب في التفسير.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 272 فهذه مقالته.
(3) الحديث: 9730 - ابن أبي جعفر: هو عبد الله بن أبي جعفر
الرازي: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: 7030.
الربيع: هو ابن أنس البكري. مضت ترجمته في: 5480.
مجبر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة المفتوحة،
بوزن"محمد"-: هو ابن أخي عبد الله بن عمر. و"مجبر" لقبه،
واسمه: "عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب".
ذكره المصعب في نسب قريش، ص: 356، وابن حزم في جمهرة الأنساب،
ص: 146، والمشتبه للذهبي، ص: 462. مترجم في التعجيل، ص: 392 -
393، وله ذكر فيه أيضًا في ترجمة ابنه"عبد الرحمن" ص: 256 -
257.
وله رواية في المسند: 1402، عن عثمان وطلحة. وأظنها رواية
منقطعة، فإن طبقته أصغر من أن يدركهما.
وله ذكر في الموطأ ص: 397: "مالك، عن نافع، عن عبد الله بن
عمر: أنه لقي رجلا من أهله يقال له المجبر، قد أفاض ولم يحلق
ولم يقصر، جهل ذلك، فأمره عبد الله أن يرجع، فيحلق أو يقصر، ثم
يرجع إلى البيت فيفيض".
ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهذا تابعي عرف شخصه، ولم يذكر
بجرح، فأقل حالاته أن يكون حديثه حسنًا.
والحديث نقله ابن كثير 2: 481، عن هذا الموضع. ثم قال: "وقد
رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر".
وذكره السيوطي 1: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم.
وسيأتي عقب هذا بإسناد ضعيف، لإبهام شيخ الطبري.
(8/449)
9731 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك له
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، قال: أخبرني مُجَبَّر، عن عبد
الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: (يَاعِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل
فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي، فقال:"إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
9732 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا
الهيثم بن جَمّاز قال، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن ابن
عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نَشُك في
قاتلِ النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرَّحم،
حتى نزلت هذه الآية:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء"، فأمسكنا عن الشهادة. (1)
وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء
عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله.
* * *
__________
(1) الحديث: 9732 - آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني. مضت
ترجمته في: 187، الهيثم بن جماز البكاء، الحنفي البصري القاضي:
ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين، والنسائي، وغيرهم. مترجم في لسان
الميزان 6: 204 - 205، والكبير للبخاري 4 / 2 / 216. وابن أبي
حاتم 4 / 2 / 81، والضعفاء للنسائي، ص: 30.
و"جماز": بفتح الجيم وتشديد الميم وآخره زاي. ووقع في المخطوطة
والمطبوعة"حماد"، وهو تصحيف. وكذلك وقع مصحفًا في التهذيب 11:
100، عند ذكره بترجمة"الهيثم بن أبي الهيثم".
بكر بن عبد الله المزني: تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة.
والحديث ذكره السيوطي 2: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم،
والبزار.
ومعناه ثابت عن ابن عمر من روايات أخر:
ففي الدر المنثور 2: 169"أخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن
المنذر، وابن عدي - بسند صحيح، عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن
الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه
وسلم: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
، وقال: إني ادخرت دعوتي، شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي،
فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 5، وقال: "رواه أبو يعلى،
ورجاله رجال الصحيح، غير حرب بن سريج، وهو ثقة".
وفي مجمع الزوائد 10: 210 - 211"عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن
الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم
يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
، وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر يوم القيامة. رواه البزار،
وإسناده جيد". وهو نحو الذي قبله.
وفيه أيضًا روايات بهذا المعنى عن ابن عمر 10: 193.
هذا، وكان في المخطوطة: "لا نشك في المؤمن، وآكل مال اليتيم":
بينهما بياض وقبل"المؤمن" في أعلاه حرف"ط"، وهذا دال على أن
النسخة التي نقل عنها كانت غير واضحة فأثبتنا ما جاء في
الروايات الأخر.
(8/450)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يشرك بالله" في عبادته
غيره من خلقه ="فقد افترى إثما عظيما"، يقول: فقد اختلق إثما
عظيمًا. (1) وإنما جعله الله تعالى ذكره"مفتريًا"، لأنه قال
زورًا وإفكًا بجحوده وحدانية الله، وإقراره بأن لله شريكًا من
خلقه وصاحبة أو ولدًا. فقائل ذلك مُفترٍ. وكذلك كل كاذب، فهو
مفترٍ في كذبه مختلقٌ له.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"افترى" فيما سلف 6: 292.
(8/451)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ
يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ
يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد بقلبك، (1)
الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرِّئونها من الذنوب
ويطهرونها. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل، في المعنى الذي كانت اليهود تُزَكي به
أنفسها.
فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسَهم، قولهم:"نحن أبناء الله
وأحباؤه".
*ذكر من قال ذلك:
9733 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من
يشاء ولا يُظلمون فتيلا"، وهم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم
بأمر لم يبلغوه، فقالوا:"نحن أبناء الله وأحِبّاؤه".
وقالوا:"لا ذنوب لنا".
9734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم"، قال: هم اليهود والنصارى، قالوا:"نحن أبناء الله
وأحباؤه". وقالوا:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى".
9735 - وحدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة،
عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: قالت يهود:"ليست لنا ذنوب
إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون! فإن كانت لهم ذنوب فإنّ لنا
ذنوبًا! فإنما نحن
__________
(1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف قريبًا: 426، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف: 369، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(8/452)
مثلهم"! قال الله تعالى ذكره: (انْظُرْ
كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ
إِثْمًا مُبِينًا)
9736 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: قال أهل
الكتاب:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى"،
وقالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، وقالوا:"نحن على الذي يحب
الله". فقال تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل
الله يزكي من يشاء"، حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء
الله وأحباؤه وأهل طاعته.
9737 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل لله
يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا"، نزلت في اليهود، قالوا:"إنا
نعلم أبناءنا التوراة صغارًا، فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل
ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفَّر عنا بالليل".
* * *
وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسَهم، تقديمهم أطفالهم
لإمامتهم في صلاتهم، زعمًا منهم أنهم لا ذنوب لهم.
*ذكر من قال ذلك:
9738 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يزكون أنفسهم"، قال: يهود،
كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمُّونهم، يزعمون أنهم لا
ذنوب لهم. فتلك التزكية.
9739 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9740 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد قال: كانوا يقدمون الصبيان
أمامهم في
(8/453)
الدعاء والصلاة يؤمُّونهم، ويزعمون أنهم لا
ذنوب لهم، فتلك تزكية = قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى.
9741 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن
أبي مالك في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: نزلت
في اليهود، كانوا يقدمون صبيانهم يقولون:"ليست لهم ذنوب".
9742 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة
في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال، كان أهل الكتاب
يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحِنْث يصلُّون بهم،
يقولون:"ليس لهم ذنوب"! فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم"، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم، كانت قولهم:"إن أبناءنا
سيشفعون لنا ويزكوننا".
*ذكر من قال ذلك:
9743 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم"، وذلك أن اليهود قالوا:"إن أبناءنا قد تُوُفُّوا، وهم
لنا قربة عند الله، وسيشفعون ويزكوننا"! فقال الله لمحمد:"ألم
تر إلى الذين يزكون أنفسهم" إلى"ولا يظلمون فتيلا".
* * *
وقال آخرون: بل ذلك كان منهم، تزكية من بعضهم لبعض.
*ذكر من قال ذلك:
9744 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن
أبيه،
__________
(1) الأثر: 9742 -"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة الأنصاري،
مولاهم. مترجم في التهذيب.
(8/454)
عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن
شهاب قال: قال عبد الله: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما
معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعًا ولا ضرًا،
فيقول:"والله إنك لذَيْتَ وذَيْتَ"، ولعله أن يرجع ولم يَحْلَ
من حاجته بشيء، (1) وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ:"ألم تر إلى
الذين يزكون أنفسهم" الآية. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:
معنى"تزكية القوم"، الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم،
وَصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء
وأحبّاء، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه. لأن ذلك هو
أظهر معانيه، لإخبار الله عنهم أنهم إنما كانوا يزكون أنفسهم
دون غيرها.
* * *
وأما الذين قالوا: معنى ذلك:"تقديمهم أطفالهم للصلاة"، فتأويل
لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه:"بل الله يزكي من يشاء"، فإنه تكذيب من
الله المزكِّين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرِّئيها من
الذنوب. يقول الله لهم: ما الأمر كما
__________
(1) في المطبوعة: "ويجعله أن يرجع"، وهو خطأ لا شك فيه،
والصواب في المخطوطة. وقوله: "لم يحل من حاجة بشيء"، أي لم
يظفر منها بشيء، ولم يصب شيئًا مما ابتغى، وهو لا يستعمل إلا
مع النفي والجحد بهذا المعنى.
وقوله: "ذيت وذيت" من ألفاظ الكنايات، بمعنى: "كيت وكيت".
(2) الأثر: 9744 -"يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي" سلفت ترجمته برقم:
5379.
و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني" روى عن طارق بن شهاب، وروى عنه
الأعمش، وسفيان الثوري وآخرون. قال أحمد"ثقة في الحديث، كان
مرجئًا" وقال أحمد عن سفيان: "يقولون: ما رفع رأسه إلى السماء
منذ كذا وكذا تعظيمًا لله".
و"طارق بن شهاب الأحمسي"، روى عنه الأربعة. ورأى طارق النبي
صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة،
وبلال، وحذيفة، وخالد بن الوليد.
(8/455)
زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وأنكم
برآء مما يكرهه الله، ولكنكم أهل فِرْية وكذب على الله، وليس
المزكَّي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه الله، والله يزكي من
يشاء من خلقه فيطهره ويبرِّئه من الذنوب، بتوفيقه لاجتناب ما
يكرهه من معاصيه، إلى ما يرضاه من طاعته.
* * *
وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك، لقوله جل ثناؤه:"انظر كيف يفترون على
الله الكذب"، وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم
أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد طهرهم من الذنوب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يظلم الله هؤلاء الذين
أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في
تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه
= شيئًا من حقوقهم، ولا يضع شيئًا في غير موضعه، ولكنه يزكي من
يشاء من خلقه، فيوفِّقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه. كل ذلك
إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدًا = ممن زكاه أو لم
يزكه = فتيلا.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الفتيل".
فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ، إذا
فتلتَ إحداهما بالأخرى.
*ذكر من قال ذلك:
9745 - حدثني سليمان بن عبد الجبار [قال، حدثنا محمد بن الصلت]
(8/456)
قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه،
عن ابن عباس قال: الفتيل ما خرج من بين إصبعيك. (1) 9746 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق
الهمداني، عن التيمي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"ولا يظلمون
فتيلا"، قال: ما فتلت بين إصبعيك.
9747 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي
العلاء قال، سمعت أبا العالية، عن ابن عباس:"ولا يظلمون
فتيلا"، قال: الفتيل، هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل. (2)
9748 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يظلمون فتيلا"، والفتيل،
هو أن تدلُك إصبعيك، (3) فما خرج بينهما فهو ذلك.
9749 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
حصين،
__________
(1) الأثر: 9745 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط" مضى
برقم: 5994 = وكذلك مضت ترجمة: "محمد بن الصلت"، وترجمة"أبي
كدينة: يحيى بن المهلب". هذا وقد كان الإسناد مخرومًا فيما
رجحت، سقط منه ذكر"محمد بن الصلت" كما مضى في 5994، 7964، وكما
سيأتي الإسناد نفسه برقم: 9799، ولأن سليمان بن عبد الجبار، لم
يلحق"أبا كدينة".
و"قابوس" هو: قابوس بن أبي ظبيان الجنبي، روى عن أبيه حصين بن
جندب. وهو ضعيف، لا يحتج به، كما قال ابن سعد. قال ابن حبان:
"كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له".
وأبوه: "حصين بن جندب الجنبي، أبو ظبيان. روى عن عمر، وعلي،
وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين،
وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 9747 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء العجمي"، أخو:
محمد بن درهم، روى عن أنس بن مالك، والحسن، وهذا هو يروي أيضًا
عن أبي العالية، ولم يذكروه. روى عنه وكيع، وعبد الصمد بن عبد
الوارث. قال الفلاس: "ثقة"، وقال ابن معين: "ليس بشيء". وذكره
ابن حبان في الثقات وقال: "يخطئ كثيرًا". مترجم في ابن أبي
حاتم 4 / 2 / 260، ولسان الميزان 6: 286. وانظر الأثر التالي:
9811، والتعليق عليه.
هذا، وكان في المطبوعة: "زيد بن درهم: ... "، والصواب من
المخطوطة.
(3) في المطبوعة"تدلك بين إصبعيك"، زاد"بين" وليست في
المخطوطة.
(8/457)
عن أبي مالك في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"،
قال: الفتيل: الوَسخ الذي يخرج من بين الكفين.
9750 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الفتيل، ما فتلت به يديك، فخرج
وَسَخ.
9751 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: ما تدلكه في
يديك فيخرج بينهما.
* * *
وأناس يقولون: الذي يكون في بَطن النواة.
*ذكر من قال ذلك:
9752 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"فتيلا"، قال: الذي في بطن النواة.
9753 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن
عطاء قال: الفتيل، الذي في بطن النواة.
9754 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن
عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله.
9755 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال
قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:
الفتيل، الذي في شِقّ النواة.
9756 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا
سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: الفتيل، في النَّوى.
9757 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا
(8/458)
معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يظلمون
فتيلا"، قال: الفتيل الذي في شِقّ النواة.
9758 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: الفتيل، شق
النواة.
9759 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
الفتيل، الذي في بطن النواة.
9760 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك قال: الفتيل، الذي يكون في شِقّ النواة.
9761 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يظلمون فتيلا"، فتيل النواة.
9762 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن
عطية قال: الفتيل، الذي في بطن النواة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الفتيل"، المفتول، صرف من"مفعول" إلى"فعيل"
كما قيل:"صريع" و"دهين" من"مصروع" و"مدهون".
وإذ كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه إنما قصد بقوله:"ولا
يظلمون فتيلا"، الخبرَ عن أنه لا يظلم عبادَه أقلَّ الأشياء
التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر؟ = وكان الوسخ الذي يخرج من
بين إصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى،
كالذي هو في شق النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من
__________
(1) الأثر: 9762 -"أبو عامر" هو أبو عامر العقدي، عبد الملك بن
عمرو، مضت ترجمته برقم: 4143.
و"قرة" هو قرة بن خالد السدوسي، روى عن أبي رجاء العطاردي،
وابن سيرين، والحسن. وروى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان،
وأبو داود الطيالسي، وغيرهم. مترجم في التهذيب و"عطية" هو:
عطية بن سعد بن جنادة العوفي. مترجم في رقم: 305.
(8/459)
انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا
مُبِينًا (50)
الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له،
ولا قيمة = فواجبٌ أن يكون كل ذلك داخلا في معنى"الفتيل"، إلا
أن يخرج شيئًا من ذلك ما يجب التسليم له، مما دل عليه ظاهر
التنزيل.
* * *
القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: انظر، يا محمد، كيف يفتري
هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب = القائلون:"نحن أبناء
الله وأحباؤه"، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى،
الزاعمون أنه لا ذنوب لهم = الكذبَ والزور من القول، فيختلقونه
على الله ="وكفى به"، يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذبَ والزورَ
على الله ="إثمًا مبينًا"، يعني أنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح
لهم أنهم أفَكَةٌ فجرة، (1) كما:-
9763 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: هم اليهود
والنصارى ="انظر كيف يفترون على الله الكذب" (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"ألم تر"، فيما سلف قريبًا: 452، تعليق: 1،
والمراجع هناك = وتفسير"النصيب" فيما سلف: 427، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(8/460)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك، يا محمد، إلى
الذين أُعطوا حظًّا من كتاب الله فعلموه ="يؤمنون بالجبت
والطاغوت"، يعني: يصدِّقون بالجبت والطاغوت، ويكفرون بالله،
وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر، والتصديقَ بهما شرك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الجبت" و"الطاغوت".
فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله.
*ذكر من قال ذلك:
9764 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال:"الجبت"
و"الطاغوت"، صنمان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الأصنام، و"الطاغوت" تراجمة الأصنام. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9765 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"،"الجبت" الأصنام،
و"الطاغوت"، الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبّرون عنها
الكذبَ ليضلوا الناس.
* * *
وزعم رجال أنّ"الجبت"، الكاهن، و"الطاغوت"، رجل من اليهود يدعى
__________
(1) يعني بقوله: "تراجمة الأصنام"، الكهان، تنطق على ألسنة
الأصنام، كأنها تقول للناس بلسانهم، ما قالته تلك بألسنتها.
(8/461)
كعب بن الأشرف، وكان سيِّد اليهود.
* * *
وقال آخرون:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9766 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن
شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد قال: قال عمر رحمه
الله:"الجبت" السحر، و"الطاغوت" الشيطان. (1)
9767 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي
إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي، عن عمر مثله. (2)
9768 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"
الشيطان.
9769 - حدثني يعقوب قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن
الشعبي قال:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
9770 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"،
قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان في صورة إنسان
يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.
9771 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس،
عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان والكاهن.
* * *
__________
(1) الأثر: 9766 -"حسان بن فائد العبسي"، مضى برقم: 5834، وكان
في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه: "حسان بن قائد العنسي".
ومضى هذا الإسناد برقم: 5835.
(2) الأثر: 9767 - مضى برقم: 5834.
(8/462)
وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"،
الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9772 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان
أبي يقول:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن.
*ذكر من قال ذلك:
9773 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"الجبت
والطاغوت"، قال:"الجبت" الساحر، بلسان الحبشة، و"الطاغوت"
الكاهن.
9774 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن رفيع قال:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن.
9775 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن أبي العالية أنه قال:"الطاغوت" الساحر، و"الجبت"
الكاهن.
9776 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن داود، عن أبي العالية، في قوله:"الجبت والطاغوت"، قال:
أحدهما السحر، والآخر الشيطان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت" الكاهن.
*ذكر من قال ذلك:
9777 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، كنا نحدَّث أن
الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن.
(8/463)
9778 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
9779 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت"
الكاهن.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9780 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن
سعيد بن جبير قال:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر.
9781 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا
عوف، عن محمد قال في الجبت والطاغوت، قال:"الجبت" الكاهن،
والآخر الساحر.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" حيي بن أخطب، و"الطاغوت"، كعب بن الأشرف.
*ذكر من قال ذلك:
9782 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يؤمنون بالجبت
والطاغوت"،"الطاغوت": كعب بن الأشرف، و"الجبت": حيي بن أخطب.
9783 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب
بن الأشرف.
9784 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "والطاغوت الشيطان"، وصواب السياق
ما أثبت.
(8/464)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"الجبت
والطاغوت"، قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب بن
الأشرف.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" كعب بن الأشرف، و"الطاغوت" الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9785 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد
قال:"الجبت": كعب بن الأشرف، و"الطاغوت": الشيطان، كان في صورة
إنسان.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل:"يؤمنون بالجبت
والطاغوت"، أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله،
يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين.
وذلك أن"الجبت" و"الطاغوت": اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون
الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من
حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي
كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظمة بالعبادة من دون الله = فقد
كانت جُبوتًا وطواغيت. وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها
في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما
ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن
الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملّتهما من اليهود في معصية
الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين.
* * *
وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت:"طاغوت"، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5: 419، وسائر الآثار في"الطاغوت" من رقم:
5834 - 5845.
(8/465)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلا (51) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا
وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم =:"هؤلاء"،
يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر ="أهدى"، يعني: أقوم
وأعدل ="من الذين آمنوا"، يعني: من الذين صدَّقوا الله ورسوله
وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم
="سبيلا"، يعني: طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ذلك مَثَلٌ. ومعنى الكلام: أن الله وصف
الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود = بتعظيمهم غير الله
بالعبادة والإذعان له بالطاعة = في الكفر بالله ورسوله
ومعصيتهما، بأنهم قالوا: (1) إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من
أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ
من دين أهل التصديق لله ولرسوله. وذكر أن ذلك من صفة كعب بن
الأشرف، وأنه قائل ذلك.
ذكر الآثار الواردة بما قلنا:
9786 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود،
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت
له قريش: أنت حَبْر أهل المدينة وسيدهم؟ (2) قال: نعم. قالوا:
ألا ترى إلى هذا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأنهم قالوا" بالواو، والواو
متصلة بالألف في المخطوطة، والصواب ما أثبته، وقوله: "بأنهم"
متعلق بقوله: "إن الله وصف ... ".
(2) في المطبوعة: "خير أهل المدينة"، وفي المخطوطة"حبر"، وإن
كانت غير منقوطة في كثير من المواضع. ووقع في لسان العرب مادة
(صنبر) : "خير" وفي مادة (بتر) : "حبر"، فأثبتها ورجحتها،
لأنهم إنما سألوه عن شأن الدين، والحبر: العالم من أهل الكتاب،
فهو المسئول عن مثل ما سألوه عنه من أمر خير الدينين.
(8/466)
الصُّنبور المنبتر من قومه، (1) يزعم أنه
خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السِّدانة وأهل السِّقاية؟ قال:
أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)
[سورة الكوثر: 3] ، وأنزلت:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من
الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" إلى قوله:"فلن تجد له نصيرًا".
9787 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عكرمة في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا
من الكتاب" ثم ذكر نحوه.
9788 - وحدثني إسحاق بن شاهين قال، أخبرنا خالد الواسطي، عن
داود، عن عكرمة قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقال له المشركون:
احكم بيننا، وبين هذا الصنبور الأبتر، فأنت سيدنا وسيد قومك!
فقال كعب: أنتم والله خيرٌ منه! فأنزل الله تبارك وتعالى:"ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، إلى آخر الآية. (2)
9789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف
انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي صلى
الله عليه وسلم، (3) وأمرهم أن
__________
(1) "الصنبور": سفعات تنبت في جذع النخلة، غير مستأرضة في
الأرض. ثم قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا
عقب ولا ناصر"صنبور". فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا
صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، صنبور نبت في جذع نخلة،
فإذا قلع انقطع: فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له. وكذبوا، ونصر
الله رسوله وقطع دابر الكافرين.
و"المنبتر" و"الأبتر": المنقطع الذي لا عقب له.
(2) الأثر: 9788 -"إسحاق بن شاهين الواسطي"، مضى برقم: 8211،
ولم نجد له ترجمة. و "خالد الواسطي"، هو: خالد بن عبد الله بن
عبد الرحمن الواسطي" مضى برقم: 7211.
(3) "استجاش القوم": طلب منهم أن يجيشوا جيشًا.
(8/467)
يغزوه، وقال: إنا معكم نقاتله. فقالوا:
إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا
منكم! فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما.
ففعل. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، (1)
ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا
البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده؟ قال: بل أنتم خير وأهدى!
فنزلت فيه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون
بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين
آمنوا سبيلا".
9790 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: قال: لما كان من أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم واليهود من بني النضير ما كان، (2) حين أتاهم
يستعينهم في دية العامريَّين، فهمّوا به وبأصحابه، (3) فأطلع
الله رسوله على ما هموا به من ذلك. ورجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة،
فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد، إنكم قوم
تقرؤون الكتابَ وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم! فأخبرنا، ديننا خير
أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن
قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت
ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن
نترك هذا ونتبعه! قال: دينكم خير من دين محمد، فاثبتوا عليه،
ألا ترون أنّ محمدًا يزعم
__________
(1) "الكوماء": هي الناقة المشرقة السنام العاليته، وهذه خير
النوق وأسمنها وأعزها عليهم، والجمع"كوم".
(2) في المطبوعة: "واليهود بني النضير"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) ذلك في سنة أربع من الهجرة، فأرادوا أن يغدروا برسول الله
صلى الله عليه وسلم وتمالأوا على أن يلقوا عليه حجرًا من فوق
جدار البيت الذي كان رسول الله جالسًا إلى جنبه، فأطلعه الله
على ذلك من أمرهم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، ثم أمر
بالتهيؤ لحرب بني النضير، فحاصرهم، وأجلاهم، وفيهم نزلت"سورة
الحشر" بأسرها. انظر سيرة ابن هشام 3: 199 - 213.
(8/468)
أنه بُعِث بالتواضع، وهو ينكح من النساء ما
شاء! وما نعلم مُلْكًا أعظم من ملك النساء!! (1) فذلك حين
يقول:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا".
9791 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش،
قال: كفار قريش أهدى من محمد! "عليه السلام" = قال ابن جريج:
قدم كعب بن الأشرف، فجاءته قريش فسألته عن محمد، فصغَّر أمره
ويسَّره، وأخبرهم أنه ضالٌّ. قال: ثم قالوا له: ننشدك الله،
نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكُوم، ونسقي الحجيج،
ونعمر البيت، ونطعم ما هبَّت الريح؟ (2) قال: أنتم أهدى.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الصفة، صفة جماعة من اليهود، منهم: حُيَيّ
بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم
قالوه لهم.
ذكر الأخبار بذلك:
9792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن
قاله قال، أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حَزَّبوا الأحزاب من قريش
وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو
رافع، (3) والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، (4)
__________
(1) لم تزل هذه مقالة كل طاعن على رسول الله من المستشرقين
وأذنابهم في كل أرض، والكفر كله ملة واحدة، والذي يلقى على
ألسنتهم، هو الذي ألقى على لسان هذا اليهودي الفاجر، عدو الله
وعدو رسوله.
(2) قوله: "نطعم ما هبت الريح"، يراد به معنى الدوام. ولو
أرادوا به زمن الشتاء في القحط، لكان صوابًا.
(3) في المطبوعة: "وأبو رافع" بزيادة الواو، وهو خطأ: "أبو
رافع" كنية سلام ابن أبي الحقيق. والصواب من المخطوطة، وهو
مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(4) في المطبوعة: "والربيع بن أبي الحقيق" أسقط"بن الربيع"،
والصواب من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(8/469)
وأبو عمار، (1) ووَحْوَح بن عامر، وهوذة بن
قيس = فأما وحوح وأبو عمار وهوذة، (2) فمن بني وائل، وكان
سائرهم من بني النضير = فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء
أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل، فاسألوهم: أدينكم خير أم
دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى
منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم:"ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"، إلى قوله:"وآتيناهم
ملكًا عظيمًا". (3)
9793 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون
بالجبت والطاغوت"، الآية، قال: ذُكر لنا أن هذه الآية أنزلت في
كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ورجلين من اليهود من بني النضير،
لقيا قريشًا بمَوْسم، (4) فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم
محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السِّدانة والسقاية، وأهل الحرم؟ فقالا
لا بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان،
إنما حملهما على ذلك حَسَد محمد وأصحابه.
* * *
وقال آخرون: بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده، وإياه عنى
بقوله:"ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا".
*ذكر من قال ذلك:
9794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر
الآية، قال: جاء حيي بن
__________
(1) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ،
صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(2) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ،
صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 9792 - سيرة ابن هشام 2: 210، وهو تابع الآثار التي
آخرها رقم: 9724.
(4) الموسم: مجتمع الناس، في سوق أو في حج أو غيرهما.
(8/470)
أخطب إلى المشركين فقالوا: يا حيي، إنكم
أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير
منهم! فذلك قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"
إلى قوله:"ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك، قولُ من قال: إن
ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود.
وجائز أن تكون كانت الجماعةَ الذين سماهم ابن عباس في الخبر
الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد، = أو يكون
حُيَيًّا وآخر معه، (1) إما كعبًا، وإما غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أن يكون"، وهو خطأ لا ريب فيه، صوابه ما
أثبت.
(8/471)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا (52)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا (52) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين وصف
صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت
والطاغوت، هم"الذين لعنهم الله"، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من
رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا
منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا:"هؤلاء أهدى من الذين
آمنوا سبيلا" ="ومن يلعن الله"، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من
رحمته ="فلن تجد له نصيرًا"، يقول: فلن تجد له، يا محمد،
ناصرًا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به، فيدفع ذلك
عنه، كما:-
9795 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
(8/471)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قتادة قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب
ما قالا = يعني من قولهما:"هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" =
وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الله:"أولئك الذين لعنهم الله
ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ
فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم لهم نصيب من الملك"، أم
لهم حظ من الملك، يقول: ليس لهم حظ من الملك، (2) كما:-
9796 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أم لهم نصيب من الملك"، يقول: لو كان
لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا.
9797 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال،
قال ابن جريج: قال الله:"أم لهم نصيب من الملك"، قال: فليس لهم
نصيب من الملك، [لم يؤتوا الناس نقيرًا] ="فإذا لا يؤتون الناس
نقيرًا"، (3) ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذًا
يعطون الناس نقيرًا، من بُخْلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:"النقير".
فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة.
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف: 439، تعليق: 2، والمراجع
هناك = وتفسير"النصير" فيما سلف: 430، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 460، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة حذف جملة"لم يؤتوا الناس نقيرًا" كلها، وهي في
الحقيقة جملة قلقة، فأثبتها كما هي بين قوسين.
(8/472)
*ذكر من قال ذلك:
9798 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"نقيرًا"، يقول:
النقطة التي في ظهر النواة.
9799 - حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت
قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:
النقير الذي في ظهر النواة. (1)
9800 - حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي قال، حدثنا عبيد
الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: النقير
وَسط النواة. (2)
9801 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإذًا لا يؤتون الناس
نقيرًا"،"النقير" نقيرُ النواة: وَسطها.
9802 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا
يؤتون الناس نقيرًا"، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم
يؤتوا محمدًا نقيرًا = و"النقير"، النكتة التي في وَسَط
النواة.
9803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن
عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: النقير الذي في ظَهر
النواة.
__________
(1) الأثر: 9799 - انظر التعليق على الأثر رقم: 9745.
(2) الأثر: 9800 -"جعفر بن محمد الكوفي المروزي"، لم أعرف من
هو، ولكني رأيت أبا جعفر روى عنه في التاريخ 5: 18، دون
ذكر"المروزي"، و"جعفر بن محمد" كثير، ولكن لم أجد هذه النسب
التي ذكرها الطبري. و"عبيد الله" لم أعرفه.
(8/473)
9804 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا
يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"النقير"، النقرة التي
تكون في ظهر النواة.
9805 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
حصين، عن أبي مالك قال:"النقير"، الذي في ظهر النواة.
* * *
وقال آخرون:"النقير"، الحبة التي تكون في وَسَط النواة.
*ذكر من قال ذلك:
9806 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"نقيرًا"، قال:"النقير"،
حبة النواة التي في وَسَطها.
9807 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، قال:
النقير، حبة النواة التي في وسطها.
9808 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال:"النقير"، في النوى.
9809 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا
يقول:"النقير"، نقير النواة الذي في وسطها.
9810 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم
يقول:"النقير"، نقير النواة الذي يكون في وَسط النواة.
* * *
(8/474)
وقال آخرون: معنى ذلك: نَقْرُ الرجل الشيء
بَطَرف أصابعه.
*ذكر من قال ذلك:
9811 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي
العلاء قال، سمعت أبا العالية: ووضع ابن عباس طرف الإبهام على
ظهر السبابة، ثم رفعهما وقال: هذا النقير. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال، إن الله
وصف هؤلاء الفرْقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي
لا خطر له، ولو كانوا ملوكًا وأهلَ قدرة على الأشياء الجليلة
الأقدار. فإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى"النقير"، أن
يكون أصغرَ ما يكون من النُّقر. وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة
التي في ظهر النواة من صغار النُّقر، وقد يدخل في ذلك كل ما
شَاكلها من النُّقر. ورفع قوله:"لا يؤتون الناس"، ولم ينصبْ بـ
"إذَنْ"، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدئ
الكلام بها، لأن معها"فاء". ومن حكمها إذا دخل فيها بعضُ حروف
العطف، أن توجه إلى الابتداء بها مرة، وإلى النقل عنها إلى
غيرها أخرى. وهذا الموضع مما أريد بـ "الفاء" فيه، النقل
عن"إذَنْ" إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب،
فلا يؤتون الناس نقيرًا إذَنْ. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 9811 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء" مضى برقم: 9747
في مثل هذا الإسناد، وقد علقت عليه هناك. وكان في المطبوعة هنا
أيضًا"زيد بن درهم"، وقد بينت خطأ ذلك هناك. أما المخطوطة هنا،
فكان فيها: "عن ابن در بن درهم" سيئة الكتابة، متصلة الراءين،
غير منقوطة.
(2) القول في"إذن" استوفاه الفراء في معاني القرآن 1: 273،
274.
(8/475)
أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
القول في تأويل قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم يحسدون الناس"، أم يحسد
هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود، كما:-
9812 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال:
يهود.
9813 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9814 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة مثله.
* * *
وأما قوله:"الناس"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عَنَى الله
به.
فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم خاصةً.
*ذكر من قال ذلك:
9815 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال،
أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"أم يحسدون الناس على
ما آتاهم الله من فضله"، قال:"الناس" في هذا الموضع، النبيّ
صلى الله عليه وسلم خاصةً.
9816 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(8/476)
9817 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
9818 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله"، قال:"الناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
9819 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله به العرب.
*ذكر من قال ذلك:
9820 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"،
أولئك اليهود، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من
فضله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله
عاتب اليهودَ الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في
قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه
سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذَبة =:
أتحسدون محمدًا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله. (1)
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله:"أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله"، مضى بذّم القائلين من
اليهود للذين كفروا:"هؤلاء أهدىَ من الذين آمنوا سبيلا"،
فإلحاق قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"،
بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل =
أشبهُ
__________
(1) في المطبوعة: "أم يحسدون"، والصواب من المخطوطة.
(8/477)
وأولى، ما لم تأت دلالة على انصراف معناه
عن معنى ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"الفضل" الذي أخبر الله أنه آتى
الذين ذكرهم في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله". (1) فقال بعضهم: ذلك"الفضل" هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك:
9821 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، حسدوا هذا
الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله. بعث الله منهم
نبيًا، فحسدوهم على ذلك.
9822 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج:"على ما آتاهم الله من فضله"، قال: النبوة.
وقال آخرون: بل ذلك"الفضل" الذي ذكر الله أنه آتاهموه، هو
إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء، ينكح
منهن ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني: بـ "الناس"، محمدًا
صلى الله عليه وسلم، على ما ذكرتُ قبل.
*ذكر من قال ذلك:
9823 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أم يحسدون الناس على ما
آتاهم الله من فضله" الآية، وذلك أن أهل الكتاب قالوا:"زعم
محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، ليس همه إلا
النكاح! فأيّ ملك أفضَلُ من هذا"! فقال الله:"أم يحسدون الناس
على ما آتاهم الله من فضله".
9824 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف في فهارس اللغة.
(8/478)
أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما
آتاهم الله من فضله"، يعني: محمدًا، أن ينكح ما شَاء من
النساء.
9825 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، وذلك أن اليهود
قالوا:"ما شأن محمد أُعطي النبوّة كما يزعم، وهو جائع عارٍ،
وليس له هم إلا نكاحُ النساء؟ " فحسدوه على تزويج الأزواج،
وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قولُ قتادة
وابن جريج الذي ذكرناه قبل: أن معنى"الفضل" في هذا الموضع:
النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها
رجلا منهم دون غيرهم = لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية،
تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة
الله عليهم، (2) على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ
النساء = وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده =
بتقريظ لهم ومدح.
* * *
__________
(1) الأثر: 9825 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثت عن الحسين بن
الفرج قال سمعت الضحاك يقول"، أسقط من الإسناد ما أثبته. وهو
إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 9819.
وقد أسلفت أن مقالة اليهود هذه، قد تلقفها من بعدهم أهل الضغن
على محمد رسول الله، ولا يزالون يبثونها في كتبهم، وقد تعلق
بها أشياعهم من أهل الضلالة المتعبدين لسادتهم من المستشرقين
في زماننا هذا.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد
فعلت ذلك مرارًا دون أن أنبه عليه في بعض المواضع.
(8/479)
القول في تأويل قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا
عَظِيمًا (54) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود =
الذين وصف صفتهم في هذه الآيات = الناسَ على ما آتاهم الله من
فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم؟ فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد
آتيناهم الكتاب = ويعني بقوله:"فقد آتينا آل إبراهيم"، فقد
أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه (1) "الكتاب"،
يعني كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى
والزّبور، وسائر ما آتاهم من الكتب.
* * *
= وأما"الحكمة"، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا (2)
"وآتيناهم ملكًا عظيمًا".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الملك العظيم" الذي عناه الله في
هذه الآية. (3)
فقال بعضهم: هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك:
9826 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود
="على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب"،
وليسوا منهم ="والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: النبوّة.
__________
(1) انظر تفسير"آل" فيما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1 / 6:
326.
(2) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 7: 369، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5:
312، 314، 371 / 6: 299، 300.
(8/480)
9827 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = إلا أنه
قال:"ملكًا"، النبوّة.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك تحليلُ النساء. قالوا: وإنما عنى الله
بذلك: أم يحسدون محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء، فقد
أحل الله مثل الذي أحله له منهن، لداود وسليمان وغيرهم من
الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك، وحسدوا محمدًا عليه
السلام؟
*ذكر من قال ذلك:
9828 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فقد آتينا آل إبراهيم"، سليمان وداود
="الحكمة"، يعني: النبوة ="وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، في النساء،
فما باله حَلّ لأولئك وهم أنبياء: أن ينكح داود تسعًا وتسعين
امرأة، وينكح سليمان مئة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا؟
* * *
وقال آخرون: بل معنى قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، الذي آتى
سليمان بن داود.
*ذكر من قال ذلك:
9829 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا".
يعني ملكَ سليمان.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا أُيِّدوا بالملائكة.
*ذكر من قال ذلك:
9830 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال،
حدثنا
(8/481)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ
سَعِيرًا (55)
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن
الحارث:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: أُيِّدوا بالملائكة
والجنود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية = وهي
قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا" = القولُ الذي رُوي عن ابن عباس
أنه قال:"يعني ملك سليمان". لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب،
دون الذي قال إنه ملك النبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليلُ
النساء والملك عليهن. (1) لأن كلام الله الذي خوطب به العرب،
غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه،
إلا أن تأتي دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجبُ
التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا
(55) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب =
من يهود بني إسرائيل، الذين قال لهم جل ثناؤه:"آمنوا بما نزلنا
مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"
="مَنْ آمن به"، يقول: من صدَّق بما أنزلنا على محمد صلى الله
عليه وسلم مصدّقًا لما معهم ="ومنهم من صدّ عنه"، ومنهم من
أعرَض عن التصديق به، (2) كما:-
9831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمنهم من آمن به"، قال: بما أنزل على
محمد من يهود ="ومنهم من صدّ عنه".
__________
(1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5:
312، 314، 371 / 6: 299، 300.
(2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53.
(8/482)
9832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما
أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل
الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله:
(آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى
أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ
السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) في الدنيا، (1)
وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن
الوعيدَ لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على
مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه
وسلم. فلما آمن بَعضُهم، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل
الدنيا، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال
لهم: كفاكم بجهنم سعيرًا. (2)
* * *
ويعني بقوله:"وكفى بجهنم سعيرًا"، وحسبكم، أيها المكذبون بما
أنزلت على محمد نبيي ورسولي ="بجهنم سعيرًا"، يعني: بنار جهنم،
تُسعَر عليكم = أي: تُوقدُ عليكم.
* * *
= وقيل:"سعيرًا"، أصله"مسعورًا"، من"سُعِرت تُسعَر فهي
مسعورة"، كما قال الله: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [سورة
التكوير: 12] ، ولكنها صرفت إلى"فعيل"، كما قيل:"كف خضيب"،
و"لحية دهين"، بمعنى: مخضوبة ومدهونة - و"السعير"، الوقود. (3)
* * *
__________
(1) هي الآية السالفة من"سورة النساء" رقم: 47.
(2) انظر ما سلف ص: 445س: 4 وما بعده.
(3) انظر تفسير"السعير" فيما سلف: 30.
(8/483)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا
(56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}
قال أبو جعفر: هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على
تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من
سائر الكفار، وبرسوله. يقول الله لهم: إن الذين جحدوا ما
أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم، من آياتي = يعني:
من آيات تنزيله، ووَحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد
صلى الله عليه وسلم = فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل
وغيرهم من سائر أهل الكفر به ="سوف نصليهم نارًا"، يقول: سوف
ننضجهم في نارٍ يُصلون فيها = أي يشوون فيها (1) ="كلما نضجت
جلودهم"، يقول: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت ="بدلناهم
جلودًا غيرها"، يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت، كما:-
9833 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ثوير،
عن ابن عمر:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"، قال:
إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا بيضًا أمثالَ القراطيس. (2)
9834 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما
نضجت جلودهم
__________
(1) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27 - 29، 231.
(2) الأثر: 9833 -"ثوير"، هو: ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة
الهاشمي. مضت ترجمته برقم: 3212، 5414. وفي المطبوعة: "نوير"،
وفي المخطوطة غير منقوط.
في المطبوعة: "جلودًا بيضاء"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة.
و"القراطيس" جمع"قرطاس": وهو الصحيفة البيضاء التي يكتب فيها.
(8/484)
بدلناهم جلودًا غيرَها"، يقول: كلما احترقت
جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرَها.
9835 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كلما نضجت جلودهم"، قال:
سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول: جلدُ أحدهم أربعون ذراعًا،
(1) وسِنُّه سبعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل وَسِعه. (2)
فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها.
9836 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك قال: بلغني عن الحسن:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا
غيرها"، قال: ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة.
9837 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو عبيدة
الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله:"كلما نضجت جلودهم
بدلناهم غيرها"، قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد. قال:
وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعًا، والله أعلم بأيِّ ذراع! (3) .
* * *
قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وما معنى قوله جل
ثناؤه:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"؟ وهل يجوز أن
يبدّلوا جلودًا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا، فيعذَّبوا
فيها؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يُبدَّلوا أجسامًا وأرواحًا
غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن
أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار، غيرُ الذين
أوعدهم الله العقابَ على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون
الكفار قد ارتفعَ عنهم العذاب!!
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أن جلده ... "، وأثبت ما في المخطوطة. وعنى
بذلك غلظ الجلد، كما سيأتي في رقم: 9837.
(2) في المطبوعة: "لوسعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 9837 -"أبو عبيدة الحداد"، هو: عبد الواحد بن واصل
السدوسي. مضت ترجمته برقم: 8284.
و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم: 2827.
(8/485)
قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك.
فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد
واللحم، (1) وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب.
وأما الجلد واللحم، فلا يألمان. قالوا: فسواء أعيد على الكافر
جلدهُ الذي كان له في الدنيا أو جلدٌ غيره، إذ كانت الجلود غير
آلمة ولا معذَّبة، وإنما الآلمةُ المعذبةُ: النفسُ التي تُحِس
الألم، ويصل إليها الوجع. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير
مستحيل أن يُخْلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من
الجلود ما لا يحصى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم
العذاب، إذ كانت الجلود لا تألَمُ.
* * *
وقال آخرون: بل الجلودُ تألم، واللحمُ وسائرُ أجزاء جِرْم بني
آدم. وإذا أحرق جلدهُ أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى
جميعه. قالوا: ومعنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا
غيرها": بدلناهم جلودًا غير محترقة. وذلك أنها تعاد جديدة،
والأولى كانت قد احترقتْ، فأعيدت غير محترقة، فلذلك
قيل:"غيرها"، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا، التي
عصوا الله وهى لهم. قالوا: وذلك نظيرُ قول العرب للصّائغ إذا
استصاغته خاتمًا من خاتم مَصُوغ، (2) بتحويله عن صياغته التي
هُو بها، إلى صياغة أخرى:"صُغْ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره"،
فيكسره ويصوغ له منه خاتمًا غيره، والخاتم المصوغ بالصّياغة
الثانية هو الأول، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتمًا قيل:"هو
غيره". قالوا: فكذلك معنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم
جلودًا غيرها"، لما
__________
(1) في المخطوطة: "الذي هو الجلد واللحم"، وهو لا يستقيم،
وأصاب ناشر المطبوعة الأولى في زيادة"غير".
(2) "استصاغه خاتما": طلب إليه أن يصوغ له خاتمًا. وهذه صيغة
لم تذكرها كتب اللغة، وهي عربية معرقة، وقياس صحيح.
(8/486)
احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد
الاحتراق، (1) قيل:"هي غيرها"، على ذلك المعنى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"كلما نضجت جلودهم"، (2) سرابيلهم،
بدلناهم سرابيل من قَطِران غيرها. فجعلت السرابيل [من] القطران
لهم جلودًا، (3) كما يقال للشيء الخاص بالإنسان:"هو جِلدة ما
بين عينيه ووجهه"، لخصُوصه به. قالوا: فكذلك سرابيل القطران
التي قال الله في كتابه: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة إبراهيم: 50] ، لما
صارت لهم لباسًا لا تفارق أجسامهم، جعلت لهم جلودًا، فقيل:
كلما اشتعل القَطِران في أجسامهم واحترق، بدلوا سرابيل من
قطران آخر. قالوا: وأما جلود أهل الكفر من أهل النار، فإنها لا
تحترق، (4) لأن في احتراقها = إلى حال إعادتها = فناءَها، (5)
وفي فنائها رَاحتها. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنها:
أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها. قالوا: وجلود الكفار
أحد أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد
الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها. وإذا جاز ذلك، وجب
أن يكون جائزًا عليهم الفناء، ثم الإعادة والموت، ثم الإحياء،
وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون. قالوا: وفي خبره عنهم أنهم
لا يموتون، دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم،
والجلود أحدُ تلك الأجزاء.
* * *
وأما معنى قوله:"ليذوقوا العذاب"، فإنه يقول: فعلنا ذلك بهم،
ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته، بما كانوا في الدنيا يكذّبون
آيات الله ويجحدونها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الاحتراق"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون: معنى ذلك"، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(3) الزيادة التي بين القوسين، لا غنى عنها.
(4) في المطبوعة: "لا تحرق" والجيد ما في المخطوطة كما أثبته.
(5) يعني: أنها عندئذ تفنى حتى تعاد مرة أخرى، وفناؤه يوجب
فترة يخف فيها عنهم العذاب. وهذا باطل كما سترى في الحجج
التالية.
(8/487)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَزِيزًا حَكِيمًا (56) }
قال أبو جعفر: يقول: إن الله لم يزل (1) ="عزيزًا" في انتقامه
ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أرادَه
بضرّ، ولا الانتصار منه أحدٌ أحلّ به عقوبة ="حكيمًا" في
تدبيره وقضائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين آمنوا وعملوا
الصالحات"، والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه
وسلم، وصدّقوا بما أنزل الله على محمد مصدّقًا لما معهم من
يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم ="وعملوا الصالحات"، يقول:
وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم الله
عليهم من معاصيه، وذلك هو"الصالح" من أعمالهم ="سندخلهم جنات
تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف يدخلهم الله يوم القيامة
="جنات"، يعني: بساتين (3) ="تجري من تحتها الأنهار"، يقول:
تجري من تحت تلك الجنات الأنهار ="خالدين فيها أبدًا"، يقول:
باقين فيها أبدًا بغير نهاية ولا انقطاع، دائمًا ذلك لهم فيها
أبدًا ="لهم فيها أزواج"، يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف
صفتها ="أزواج
__________
(1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل فيما سلف: 426، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"عزيز" و"حكيم" في فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف: 7: 494، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(8/488)
مطهرة"، يعني: بريئات من الأدناس والرَّيْب
والحيض والغائط والبول والحَبَل والبُصاق، وسائر ما يكون في
نساء أهل الدنيا. وقد ذكرنا ما في ذلك من الآثار فيما مضى قبل،
وأغنى ذلك عن إعادتها. (1)
* * *
وأما قوله:"وندخلهم ظِلا ظليلا"، فإنه يقول: وندخلهم ظلا
كَنينًا، كما قال جل ثناؤه: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [سورة
الواقعة: 30] ، وكما:-
9838 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا ابن
المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر = قالا جميعًا، حدثنا شعبة
قال، سمعت أبا الضحاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال: إنّ في الجنة لشجرةً يسيرُ الراكب في ظلّها مئة
عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 395 - 397 / 6: 261، 262.
(2) الحديث: 9838 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي.
أبو الضحاك البصري: تابعي، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو
عنه أحد غير شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 /
395.
والحديث رواه أحمد في المسند: 9870، عن محمد بن جعفر وحجاج، و:
9951، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - ثلاثتهم عن شعبة. (المسند
2: 455، 462 حلبي) .
وذكر الحافظ في المزي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) أنه رواه
ابن ماجه في التفسير.
ونقله ابن كثير 2: 490، عن هذا الموضع من الطبري.
وأصل الحديث ثابت عن أبي هريرة، من أوجه كثيرة، في المسند
والصحيحين وغيرهما، دون زيادة"شجرة الخلد". انظر المسند: 7490.
وقد أشرنا لكثير من طرقه هناك.
(8/489)
إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ}
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها ولاة أمور المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
9839 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا أبو
أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم قال: نزلت هذه الآية:"إن
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، في ولاة الأمر. (1)
9840 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث،
عن شهر قال: نزلت في الأمراء خاصة"إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
9841 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا
إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ
أصاب فيهن:"حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن
يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن
يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا". (2)
9842 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا
إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن علي بنحوه.
__________
(1) الأثر: 9839 -"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة بن زيد
القرشي، مضى برقم: 5265. و"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة، مضى
برقم: 9742.
(2) الأثر: 9841 -"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري". روى عن
أبيه، وعلي، وطلحة، وعكرمة ابن أبي جهل، وغيرهم، تابعي ثقة،
قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث". مترجم في التهذيب.
(8/490)
9843 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال،
حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول في قول الله:"وأولي الأمر منكم"،
قال: هم أهلُ الآية التي قبلها:"إن الله يأمرُكم أن تؤدّوا
الأمانات إلى أهلها"، إلى آخر الآية.
9844 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن زيد
قال، قال أبي: هم الوُلاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى
أهلها.
وقال آخرون: أمر السلطان بذلك: أن يعِظوا النساء. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9845 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن الله
يأمرُكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، قال: يعني السلطان،
يعظون النساء. (2)
* * *
وقال آخرون: الذي خوطب بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في
مفتاح الكعبة، أمر برَدّها على عثمان بن طلحة.
*ذكر من قال ذلك:
9846 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"،
قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى
الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، (3)
فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان
__________
(1) في المطبوعة: "أن يعطوا الناس"، غير ما في المخطوطة، وهو
الذي أثبته، ولكنه كان في المخطوطة غير منقوط، فلم يحسن
قراءته، فكتب ما لا معنى له. والمقصود بذلك أن على الأمراء أن
يعظوا النساء في النشوز وغيره، حتى يردوهن إلى أزواجهن. وهو
القول المنسوب إلى ابن عباس في كتب التفسير.
(2) في المطبوعة: "يعظون الناس"، وهو خطأ، وانظر التعليق
السالف.
(3) في المطبوعة: "مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت"، وكان في
المخطوطة: "مفاتيح الكعبة ودخل به البيت"، ورد اللفظ
مفردًا"المفتاح" في هذا الأثر والذي يليه، وكذلك نقله ابن كثير
في تفسيره 2: 492"مفتاح الكعبة" بالإفراد، فصححت نص المخطوطة،
كما في ابن كثير.
(8/491)
فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن
الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه
الآية: فداهُ أبي وأمي! (1) ما سمعته يَتلوها قبل ذلك!
9847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الزنجي بن
خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من
قال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى
من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم،
بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك
ما وَعظ به الرعية (3) في: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ، فأمرهم بطاعتهم،
وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة، كما:-
9848 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) قال: قال
أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ) [سورة آل عمران: 26] ، وإنما نقول: هم العلماء الذي
يُطيفون على
__________
(1) في المطبوعة: "فداؤه أبي وأمي"، وأثبت ما في المخطوطة وابن
كثير.
(2) الأثر: 9847 -"الزنجي بن خالد" هو: مسلم بن خالد بن فروة،
أبو خالد الزنجي، الفقيه المكي. وإنما سموه"الزنجي" قالوا:
لأنه كان شديد السواد. وقالوا: لأنه كان أشقر كالبصلة. وقالوا:
كان أبيض مشربًا بحمرة، وإنما سمى"الزنجي" لمحبته التمر. قالت
له جاريته: "ما أنت إلا زنجي"، لأكل التمر، فبقي عليه هذا
اللقب.
ومن الزنجي تعلم الشافعي الفقه قبل أن يلقى مالكًا. ولكنهم
تكلموا في حديثه، فقال البخاري: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا
يحتج به". وذكروا عللا في ضعف حديثه وهو صدوق. مترجم في
التهذيب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فدل على ذلك ما وعظ به الرعية"،
وهو كلام فاسد جدًا، أخل بحجة الطبري، والصواب ما أثبت.
(8/492)
السلطان، (1) ألا ترى أنه أمرهم فبدأ بهم،
بالولاة فقال (2) "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها"؟ و"الأمانات"، هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه
وقَسْمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها ="وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" الآية كلها. فأمر بهذا
الولاة. ثم أقبل علينا نحن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الأمْرِ مِنْكُمْ) .
* * *
وأما الذي قال ابن جريج من أنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن
طلحة، فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على
أمانة، فدخلَ فيه ولاة أمور المسلمين، وكلّ مؤتمن على أمانة في
دين أو دنيا. ولذلك قال من قال: عُني به قضاءُ الدين، وردّ
حقوق الناس، كالذي:-
9849 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنّ الله يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، فإنه لم يرخص لموسِر ولا معسر أن
يُمسكها.
9850 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، عن
الحسن: أن
__________
(1) حذف ناشر المطبوعة هذه الجملة إذ لم يفهمها، وجعل سياق
الكلام هكذا: " ... ممن تشاء، ألا ترى أنه أمر فقال: إن الله
يأمركم"، وهذا فساد شديد، وهجر للأمانة، وعبث بكلام أهل
التاويل. وقائل هذا الكلام هو ابن زيد، بعد أن ذكر تأويل أبيه
زيد بن أسلم.
وقوله: "يطيفون على السلطان" هم الذين يقاربونه ويدنيهم في
مجالسه ويستشيرهم. من قوله: "طاف بالشيء وطاف عليه= وأطاف به
وأطاف عليه": دار حوله.
(2) في المطبوعة: "أنه أمر فقال ... " كما ذكرت في التعليق
السالف. وسياق عبارته أنه أمر العلماء بالولاة - فبدأ بهم، أي:
بالعلماء. والعلماء هم الذين يفتون الولاة في قسمة الفيء
والصدقات، لأنهم هم أهل العلم بها. فهذا خطاب للعلماء الذين
ائتمنوا على الدين. ثم قال للولاة: "وإذا حكمتم بين الناس"،
كما ترى في سياق الأثر.
(8/493)
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا = إذ كان الأمر على ما وصفنا
=: إن الله يأمركم، يا معشر ولاة أمور المسلمين، أن تؤدوا ما
ائتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم
إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له،
بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء
منها، ولا تضعوا شيئًا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن
أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصيرَ في أيديكم = ويأمركم إذا
حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكمُ
الله الذي أنزله في كتابه، وبيّنه على لسان رسوله، لا تعدُوا
ذلك فتجورُوا عليهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور
المسلمين، إن الله نعم الشيء يَعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها
في أمره إياكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين
الناس بالعدل (2)
* * *
="إن الله كان سميعًا"، يقول: إن الله لم يزل سميعًا بما
تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم
__________
(1) الأثر: 9850 - قال ابن كثير في تفسيره 2: 490"وفي حديث
الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد
الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". رواه الإمام أحمد،
وأهل السنن".
(2) انظر تفسير"نعما" فيما سلف 5: 582.
(8/494)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
بين الناس ولما تُحاورونهم به (1) "بصيرًا"
بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، (2)
وما تقضون به بينهم من أحكامكم: بعدل تحكمون أو جَوْر، لا يخفى
عليه شيء من ذلك، حافظٌ ذلك كلَّه، حتى يجازي محسنكم بإحسانه،
ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ
مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله
محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة،
وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته، كما:-
9851 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني
فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول".
__________
(1) في المطبوعة: "ولم تجاوزوهم به"، ولا معنى لها البتة،
والصواب ما في المخطوطة، ولكنه لم يفهم ما أراد، فحرفه وغيره.
(2) في المطبوعة: "فيما ائتمنتكم عليه"، غير ما في المخطوطة
لغير شيء.
(3) الحديث: 9851 - ورواه أحمد في المسند مرارًا، من طرق
مختلفة، منها: 7330، 7428، 7643. ورواه الشيخان وغيرهما، كما
فصلنا هناك.
وذكره ابن كثير 2: 497، بقوله: "وفي الحديث المتفق على صحته".
وهو كما قال.
(8/495)
فقال بعضهم: ذلك أمرٌ من الله باتباع سنته.
*ذكر من قال ذلك:
9852 - حدثنا المثنى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن عبد
الملك، عن عطاء في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، قال:
طاعة الرسول، اتباع سُنته.
9853 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن
عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"،
قال: طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة.
9854 - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.
* * *
وقال آخرون: ذلك أمرٌ من الله بطاعة الرّسول في حياته.
*ذكر من قال ذلك:
9855 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، إن كان حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمرٌ من
الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمرَ ونهى، وبعد وفاته باتباع
سنته. (1) وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في
حال دون حال، (2) فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ التسليم
له.
* * *
واختلف أهل التأويل في"أولي الأمر" الذين أمر الله عبادَه
بطاعتهم في هذه الآية.
__________
(1) في المطبوعة: "في اتباع سنته"، وكان في المخطوطة"في باتباع
سنتنا"، وضرب على"في".
(2) في المطبوعة: "لم يخصص ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/496)
فقال بعضهم: هم الأمراء.
*ذكر من قال ذلك:
9856 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية،
عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله:"أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: هم الأمراء. (1)
9857 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا حجاج بن محمد،
عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس أنه قال:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم"، نزلت في رجل بعثه النبي صلى الله
عليه وسلم على سرية. (2)
9858 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس
السهمي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية. (3)
__________
(1) الحديث: 9856 - هذا موقوف على أبي هريرة. وإسناده صحيح.
ومعناه صحيح.
وقد ذكره الحافظ في الفتح 8: 191، وقال: "أخرجه الطبري بإسناد
صحيح".
(2) الحديث: 9857 - يعلى بن مسلم بن هرمز البصري المكي: ثقة،
أخرج له الشيخان. ووثقه ابن معين وأبو زرعة. مترجم في التهذيب.
والكبير للبخاري 4 / 2 / 417، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 302. وهو
أخو"عبد الله بن مسلم" الآتي في الإسناد بعده - كما رجحه
البخاري وغيره.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3124، عن حجاج، وهو ابن محمد،
بهذا الإسناد. وفيه تسمية الرجل، أنه"عبد الله بن حذافة بن قيس
بن عدي السهمي".
وكذلك رواه البخاري 8: 190 - 191، عن صدقة بن الفضل، عن حجاج
بن محمد، به.
وذكره ابن كثير 2: 494، عن رواية البخاري، ثم قال: "وهكذا
أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث حجاج بن محمد
الأعور، به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من
حديث ابن جريج".
وقصة عبد الله بن حذافة رواها أحمد في المسند: 11662 (ج3 ص67
حلبي) ، من حديث أبي سعيد الخدري. روى معناها أيضًا من حديث
علي بن أبي طالب: 622.
(3) الحديث: 9858 - عبد الله بن مسلم بن هرمز: هو أخو يعلى
الذي في الحديث السابق - على الراجح. وعبد الله هذا: فيه ضعف،
مع أن الثوري يروي عنه، والثوري لا يروي إلا عن ثقة. فالظاهر
أن ضعفه من قبل حفظه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 /
2 / 164 - 165.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبيد الله"، بدل"عبد الله" وهو
خطأ واضح.
والحديث بمعنى الذي قبله.
(8/497)
9859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن
عنبسة، عن ليث قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن
قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال:
أصحاب السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
9860 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم"، قال. قال أبي: هم السلاطين. قال وقال ابن زيد في
قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال أبي: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: الطاعةَ الطاعة، وفي الطاعة بلاء. وقال: ولو شاء
الله لجعل الأمر في الأنبياء (1) = يعني: لقد جعلت [الأمر]
إليهم والأنبياء معهم، (2) ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن ز
كريا؟
9861 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم"، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة
عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قِبَل القوم
الذين يريدون، فلما بلغوا قريبًا منهم عرَّسوا، (3) وأتاهم ذو
العُيَيْنَتين فأخبرهم، (4) فأصبحوا قد هربوا، (5) غير رجل أمر
أهله فجمعوا
__________
(1) في المطبوعة: "ولو شاء الله لجعل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعني: لقد جعل إليهم الأنبياء معهم"، وهو
مستقيم، ولكنه كان في المخطوطة: "لقد جعلت إليهم الأنبياء
معهم"، فاستظهرت سقوط"الأمر"، فوضعته بين قوسين.
(3) "عرس القوم تعريسًا": إذا نزلوا في السفر من آخر الليل،
يقعون وقعة للاستراحة، ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة، ثم
يثورون مع انفجار الصبح سائرين.
(4) "ذو العيينتين" و"ذو العوينتين"، و"ذو العينين": الجاسوس.
(5) في المطبوعة وابن كثير 2: 496"وقد هربوا"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(8/498)
متاعهم، (1) ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل
حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا
اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا
عبده ورسوله، وإنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل
إسلامي نافعي غدًا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم.
فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه
وأخذ ماله. فبلغ عمارًا الخبر، فأتى خالدًا، فقال: خلِّ عن
الرجل، فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت
تجير؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فأجاز
أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبَّا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا
العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
خالد، لا تسبَّ عمارًا، فإنه من سب عمارًا سبه الله، ومن أبغض
عمارًا أبغضه الله، ومن لعن عمارًا لعنه الله. فغضب عمار فقام،
فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله
تعالى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
(2)
* * *
وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه.
*ذكر من قال ذلك:
9862 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح،
عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله..... (3)
__________
(1) في المخطوطة: "غير رجال من أهله"، وهو فاسد، وأثبت ما في
المطبوعة وتفسير ابن كثير.
(2) الأثر: 9861 - أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 497، ثم قال:
"وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق، عن السدي مرسلا. ورواه ابن
مردويه من رواية الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن
عباس، فذكر بنحوه. والله أعلم".
(3) الأثر: 9862 - كان هذا الأثر والذي يليه متصلين، " ... عن
جابر بن عبد الله قال حدثنا جابر بن نوح" وهو خطأ وفساد لا شك
فيه. وكأن هذا الأثر كان: "حدثني بذلك سفيان بن وكيع ... " =
أو: "عن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والفقه". أو ما
شابه ذلك. ولكني وضعت النقط دلالة على الخزم.
(8/499)
9863 -.... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن
الأعمش، عن مجاهد في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم"، قال: أولي الفقه منكم. (1)
9864 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث،
عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم"، قال: أولي الفقه والعلم.
9865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح:"وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه في الدين
والعقل.
9866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9867 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، يعني: أهل الفقه
والدين.
9868 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا
سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وأولي الأمر منكم"، قال: أهل العلم.
9869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي العلم والفقه.
__________
(1) الأثر: 9863 - كأن صواب هذا الإسناد: "حدثني أبو كريب، قال
حدثنا جابر بن نوح"، فإن أبا كريب هو يروي عن جابر بن نوح، كما
سلف مرارًا، أقربها رقم: 9842، ولكني تركته على حاله، ووضعت
مكان ذلك نقطًا.
(8/500)
9870 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن
عون قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء:"وأولي الأمر
منكم"، قال: الفقهاء والعلماء.
9871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم
العلماء.
9872 - قال، وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهل الفقه والعلم.
9873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وأولي
الأمر منكم"، قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: (وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة
النساء: 83] ؟
* * *
وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
9874 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم"، قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد = قال:
وربما قال: أولي العقل والفقه ودين الله. (1)
* * *
وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رحمهما الله. (2)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "أولي الفضل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنهما".
(8/501)
9875 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال،
حدثنا حفص بن عمر العدني قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن
عكرمة:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال:
أبو بكر وعمر. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم
الأمراء والولاة = لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان [لله] طاعةً،
وللمسلمين مصلحة، (2) كالذي:-
9876 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال،
حدثني عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح
السمان، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَرُّ ببِرِّه، والفاجر بفجوره،
فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلُّوا وراءهم. فإن
أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم. (3)
__________
(1) الأثر: 9875 -"أحمد بن عمرو البصري"، لم أجده في كتب
التراجم، وظننت أنه"أحمد بن عمرو بن عبد الخالق" البزار، أبو
بكر العتكي البصري، من أهل البصرة، قال الخطيب: "كان ثقة
حافظًا، صنف المسند، وتكلم على الأحاديث، وبنى عللها، وقدم
بغداد وحدث بها" ومات بالرملة سنة 291، فهو خليق أن يكون رآه
أبو جعفر وروى عنه في بغداد أو في الرملة. مترجم في تاريخ
بغداد 4: 334.
و"حفص بن عمر العدني" مضت ترجمته برقم: 6796.
(2) الزيادة بين القوسين، أراها زيادة لا غنى عنها.
(3) الحديث: 9876 - ابن أبي فديك: هو محمد بن إسماعيل بن مسلم
بن أبي فديك المدني. وهو ثقة معروف، من شيوخ الشافعي وأحمد.
أخرج له الجماعة.
عبد الله بن محمد بن عروة: هو عبد الله بن محمد بن يحيى بن
عروة بن الزبير المدني. قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، ضعيف
الحديث جدًا". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الثقات".
مترجم في لسان الميزان 3: 331 - 332، وابن أبي حاتم 2 / 2 /
158.
فهذا حديث ضعيف جدًا، لم نجده إلا في هذا الموضع.
وقد نقله ابن كثير 2: 495، والسيوطي 2: 177- ولم ينسباه لغير
الطبري.
(8/502)
9877 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى،
عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن عبد الله، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم، الطاعةُ فيما أحب وكره،
إلا أن يؤمر بمعصية؛ فمن أمر بمعصية فلا طاعة. (1)
9878 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني خالد، عن عبيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
= فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله
أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله:"أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم" بطاعة ذَوِي أمرنا = كان معلومًا أن
الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن
ولَّوْه المسلمين، (3) دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضًا
القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه
لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه، إلا
للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما
هو مصلحة لعامة الرعيّة، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك
في كل ما لم يكن لله معصية.
__________
(1) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن
سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت
ترجمته في: 7818.
عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر
بن الخطاب، العمري.
ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد
بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل
الإسناد الأول هنا.
ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى
القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن
جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(2) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن
سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت
ترجمته في: 7818.
عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر
بن الخطاب، العمري.
ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد
بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل
الإسناد الأول هنا.
ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى
القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن
جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(3) في المطبوعة: "ومن ولاه المسلمون"، وأثبت ما في المخطوطة،
ولم يرد أبو جعفر معنى ما كان في المطبوعة، بل أراد: ومن ولاه
الأئمة أمور المسلمين.
(8/503)
وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا بذلك صحة ما
اخترنا من التأويل دون غيره.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم، أيها
المؤمنون، في شيء من أمر دينكم: أنتم فيما بينكم، أو أنتم
وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه (1) ="فردوه إلى الله"، يعني بذلك:
فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم = أنتم بينكم، أو أنتم
وأولو أمركم = فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله،
فاتبعوا ما وجدتم = وأما قوله:"والرسول"، فإنه يقول: فإن لم
تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك
أيضًا من عند الرسول إن كان حيًا، وإن كان ميتًا فمن سنته ="إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم
تصدقون بالله ="واليوم الآخر"، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب
والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك. فلكم من الله
الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9879 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث،
عن مجاهد في قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول"، قال: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله والرسول. قال
يقول: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
__________
(1) انظر تفسير"تنازع" فيما سلف 7: 289.
(8/504)
ثم قرأ مجاهد هذه الآية: (وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء: 83] .
9880 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله والرسول"،
قال: كتاب، الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
9881 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله
والرسول"، قال: إلى الله"، إلى كتابه = وإلى"الرسول"، إلى سنة
نبيه.
9882 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث،
قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله:"فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول"، قال:"الله"، كتابه، و"رسوله" سنته،
فكأنما ألقمه حجرًا.
9883 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا
جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران:"فإن تنازعتم في شيء فردوه
إلى الله والرسول"، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه =
والرد إلى رسوله إن كان حيًا، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى
السنة.
9884 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"،
يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ="إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر".
9885 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول"، إن كان الرسول حيًا = و"إلى الله" قال: إلى كتابه.
* * *
(8/505)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، فردُّ ما تنازعتم
فيه من شيء إلى الله والرسول، ="خير" لكم عند الله في معادكم،
وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة، وترك التنازع
والفرقة ="وأحسن تأويلا"، يعني: وأحمد مَوْئلا ومغبّة، وأجمل
عاقبة.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"التأويل""التفعيل" من"تأوّل"، وأنّ قول
القائل:"تأوّل"،"تفعّل"، من قولهم:"آل هذا الأمر إلى كذا"، أي:
رجع = بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9886 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأحسن تأويلا"، قال: حسن
جزاء.
9887 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9888 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، يقول: ذلك أحسنُ ثوابًا، وخير
عاقبةً.
9889 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحسن تأويلا" قال: عاقبة.
__________
(1) انظر ما سلف 6: 204 - 206.
(8/506)
9890 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، قال: وأحسن
عاقبة = قال: و"التأويل"، التصديق.
* * *
(8/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالا بَعِيدًا (60) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد، بقلبك،
فتعلم = إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب،
وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب،
يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت = يعني إلى: من
يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، (1)
="وقد أمروا أن يكفروا به"، يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا
بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمرَ الله
واتبعوا أمر الشيطان ="ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا"،
يعني: أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت
عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدًا = يعني: فيجور
بهم عنها جورًا شديدًا (2) .
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من
اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهَّان، ليحكم بينهم،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.
__________
(1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416 - 419 / 8: 461 -
465.
(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف: 8: 428، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(8/507)
*ذكر من قال ذلك:
9891 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت"، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين
خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون
الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا
يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة،
فأنزل الله فيه هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا
بما أنزل إليك" حتى بلغ"ويسلموا تسليمًا".
9892 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر نحوه = وزاد فيه: فأنزل الله:"ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، يعني
المنافقين ="وما أنزل من قبلك"، يعني اليهود ="يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت"، يقول: إلى الكاهن ="وقد أمروا أن
يكفروا به"، أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه، أن يكفر
بالكاهن.
9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود،
عن الشعبي قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من
اليهود، خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك = أو قال:
إلى النبي = لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في
جهينة، قال: فنزلت:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما
أنزل إليك"، يعنى: الذي من الأنصار ="وما أنزل من قبلك"، يعني:
اليهوديّ (1) "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، إلى الكاهن
="وقد أمروا
__________
(1) في المخطوطة: "اليهود".
(8/508)
أن يكفروا به"، يعني: أمر هذا في كتابه،
وأمر هذا في كتابه. وتلا"ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا
بعيدًا"، وقرأ:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"
إلى"ويسلموا تسليما".
9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد
أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، (1) فقال
اليهودي له: انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال:
فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله:"ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
__________
(1) المدرأة: المدافعة والخصومة.
(8/509)
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت".
9895 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك"، الآية، حتى بلغ"ضلالا بعيدًا"، ذُكر لنا أن
هذه الآية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له"بشر"، وفي
رجل من اليهود، في مدارأة كانت بينهما في حق، فتدارءا بينهما،
فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى
الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك = وذُكر لنا أن اليهودي
كان يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم
أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري
يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله
تبارك وتعالى ما تسمعون، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم،
وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال:"ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى قوله:"صدودًا".
9896 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت"، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم.
وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني
النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من
بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر.
(1) فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني
النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية
الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم
في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في
الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنزل الله يُعَيِّرهم بما
فعلوا فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 54] ، فعيَّرهم، ثم ذكر قول
النضيري:"كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا
يقتلونا"، فقال (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [سورة
المائدة: 50] . وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير
وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم
منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، (2) الكاهن الأسلمي،
فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر
بيننا! (3)
__________
(1) "الوسق" مكيلة معلومة في زمانهم، كانت تبلغ حمل بعير.
(2) في المطبوعة: "أبو برزة الأسلمي" وهو خطأ محض، والصواب ما
كان في المخطوطة، فإن أبا برزة الأسلمي - نضلة بن عبيد - فهو
صحابي جليل، و"برزة" بفتح الباء بعدها راء ساكنة بعدها زاي.
وأما "أبو بردة" فهو بالباء المضمومة بعدها راء ساكنة بعدها
دال.
وذكر الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا
أبا بردة الأسلمي إلى الإسلام، فأبى، ثم كلمه ابناه في ذلك،
فأجاب إليه وأسلم. وقال الحافظ ابن حجر: "وعند الطبراني بسند
جيد عن ابن عباس قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا يقضي بين
اليهود، فذكر القصة في نزول قوله تعالى: ألم تر إلى الذين
يزعمون ... " الإصابة في ترجمته. وذكر الهيثمي خبر ابن عباس في
مجمع الزوائد 7: 6، وفيه أيضًا"أبو برزة الأسلمي"، وهو خطأ،
وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". وكذلك رواه ابن
كثير في تفسيره 2: 500 وفيه أيضًا"أبو برزة" وهو خطأ.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا"أبو برزة"، وانظر التعليق السالف.
ويقال: "نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرًا": أي قضى
عليه بالغلبة. وهو من"المنافرة" وذلك أن يتفاخر الرجلان كل
واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا، يغلب أحدهما على
الآخر.
(8/510)
وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا بل
النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه!
فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، (1) فقال:
أعظِموا اللُّقمة = يقول: أعظِموا الخَطَر (2) = فقالوا:
لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، (3) فإني أخاف
أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني
النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم
بينهم، فأنزل الله عز وجل:"يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت" = وهو أبو بردة (4) ="وقد أمروا أن يكفروا به"
إلى قوله:"ويسلموا تسليما".
* * *
وقال آخرون:"الطاغوت"، في هذا الموضع، هو كعب بن الأشرف.
*ذكر من قال ذلك:
9897 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به"، و"الطاغوت"
رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما
دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل
نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت"، الآية.
9798 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، قال:
تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من
__________
(1) في المطبوعة هنا مرة ثالثة: "أبو برزة".
(2) "الخطر" هو المال الذي يجعل رهنًا بين المتراهنين،
وأراد به الجعل الذي يدفعه كل واحد من المتنافرين إلى
الحكم. وسماه"اللقمة" مجازًا، وهذا كله لم تقيده كتب
اللغة، ولم أجده في أخبار المنافرات. فيستفاد من هذا
الخبر. أن الحكم في المنافرة كانوا يجعلون له جعلا يأخذه
بعد استماعه للمنافرة، وبعد الحكم.
(3) "أوساق" جمع"وسق" ومضى تفسيره"الوسق" فيما سلف ص: 510،
تعليق: 1.
(4) في المطبوعة هنا مرة رابعة"أبو برزة".
(8/511)
اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن
الأشرف. وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم. فقال الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزعمون"
الآية، والتي تليها فيهم أيضًا. (1)
9899 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر مثله = إلا أنه قال: وقال
اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.
9900 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"ألم تر إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"
إلى قوله:"ضلالا بعيدًا"، قال: كان رجلان من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن والآخر
منافق، فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه
المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله: (وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا) .
9901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت"، قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود،
فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن:
اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله:"ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى
قوله:"صدودًا" = قال ابن جريج:"يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل
إليك"، قال: القرآن ="وما أنزل من قبلك"، قال: التوراة.
قال:
__________
(1) في المخطوطة: "الآية التي تليها منهم فيهما أيضًا"،
ولا أدري ما هو، وما في المطبوعة أقرب إلى الصواب.
(8/512)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه
المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبى
المنافق ويدعوه إلى الطاغوت = قال ابن جريج: قال
مجاهد:"الطاغوت"، كعب بن الأشرف.
9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، هو كعب بن الأشرف.
* * *
وقد بينا معنى:"الطاغوت" في غير هذا الموضع، فكرهنا
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد، إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى
الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب،
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ="وإذا قيل لهم تعالوا إلى
ما أنزل الله"، يعني بذلك:"وإذا قيل لهم تعالوا"، هلُمُّوا
إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم
بيننا (2) ="رأيت المنافقين يصدون عنك"، يعني بذلك:
يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير
إليك كذلك غيرهم ="صدودًا". (3)
* * *
وقال ابن جريج في ذلك بما:-
__________
(1) انظر ما سلف: 507 والتعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474، 483، 485.
(3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482.
(8/513)
فَكَيْفَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا
إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
9903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول"، قال: دعا المسلمُ المنافقَ إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم، قال:"رأيت المنافقين
يصدون عنك صدودًا".
* * *
= وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم اليهوديّ، والمدعوَّ إليه المنافق، على ما ذكرت
من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله:"ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" = فإنه على ما بيَّنت
قبل.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا
وَتَوْفِيقًا (62) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ="إذا أصابتهم مصيبة"،
يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله ="بما قدمت أيديهم"،
يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، (1) ="ثم جاؤوك يحلفون
بالله"، يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا ="إن
أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا". وهذا خبرٌ من الله تعالى
ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العِبر
والنِّقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى
الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، (2) ولكنهم يحلفون بالله
كذبًا وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا
الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصوابَ فيما احتكمنا فيه
إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 368 / 7: 447.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنهم وإن تأتهم"، والأجود
حذف الواو.
(8/514)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا
بَلِيغًا (63)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا
بَلِيغًا (63) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء
المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم ="يعلم الله ما
في قلوبهم" في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام
إليك، وصدودهم عنك = من النفاق والزيغ، (1) وإن حلفوا
بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا ="فأعرض عنهم
وعظهم"، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم،
ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته
أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في
أمر الله وأمر رسوله =،"وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا"،
يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد،
رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى
ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من
أرسلتُه إليه.
وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين = الذين
كانوا يزعمون أنهم
__________
(1) السياق: "يعلم الله ما في قلوبهم ... من النفاق
والزيغ".
(8/515)
يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم = فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا
إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه
وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم
إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه: أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه =
يعني: بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته، (1)
كما:-
9904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إلا ليطاع بإذن
الله"، واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد
إلا بإذن الله.
9905 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9906 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا
ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء
المنافقين، بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه،
إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا
ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه، والمسارعة إلى
طاعته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 192 تعليق: 2 والمراجع
هناك.
(8/516)
وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا
اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين
= الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى
حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا =،"إذ ظلموا أنفسهم"،
باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت،
وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها ="جاؤوك"،
يا محمد، حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين
بحكمه دون حكمك، جاؤوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح
لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللهَ رسولهُ
صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله:"فاستغفروا
الله واستغفر لهم الرسول".
* * *
= وأما قوله:"لوجدوا الله توابًا رحيمًا"، فإنه يقول: لو
كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم ="لوجدوا الله توابًا"،
يقول: راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون (1) ="رحيمًا"
بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه.
* * *
وقال مجاهد: عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما
إلى كعب بن الأشرف.
9907 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ظلموا أنفسهم" إلى
قوله:"ويسلموا تسليما"، قال: إن هذا في الرجل اليهودي
والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاستغفار" و"التوبة" فيما سلف من فهارس
اللغة.
(8/517)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
القول في تأويل قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا" فليس الأمر كما
يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى
الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد = واستأنف
القسم جل ذكره فقال:"وربك"، يا محمد ="لا يؤمنون"، أي: لا
يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك ="حتى يحكموك فيما شجر
بينهم"، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من
أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال:"شجَر يشجُر شُجورًا
وشَجْرًا"، و"تشاجر القوم"، إذا اختلفوا في الكلام
والأمر،"مشاجرة وشِجارًا".
* * *
="ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت"، يقول: لا يجدوا
في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج
أنفسهم مما قضيت = أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها
في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه،
كما:-
9908 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حرجًا مما قضيت"، قال: شكًّا.
9909 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد
بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في
قوله:"حرجًا مما قضيت"، يقول: شكًّا.
(8/518)
9910 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال،
أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجًا مما قضيت"، قال: إثمًا ="ويسلموا تسليما"، يقول:
ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك
بالنبوة تسليمًا.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؟
فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من
الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض
الأمور.
ذكر الرواية بذلك:
9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن
الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن
العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان
به كَلأهما النخل، (1) فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ!
(2) فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق
يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا
رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ (3) فتلوّن وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) "الشراج" (بكسر الشين) جمع"شرج" (بفتح فسكون) ، وهو
مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و"الحرة" موضع معروف
بالمدينة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنما أحرقت
بالنار. و"الكلأ" هو العشب ترعاه الأنعام. وكان في
المطبوعة: "كلاهما" بغير همز، وهو خطأ يوهم.
(2) قوله: "سرح الماء"، أي أطلقه، لأن الماء كان يمر على
أرض الزبير قبل أرض الأنصاري، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه.
(3) قوله: "أن كان ... "، "أن" (بفتح الألف وسكون النون) ،
التعليل، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك؟ وأم الزبير هي: صفية
بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8/519)
ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى
يرجع إلى الجدْر، (1) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى
رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه = قال أبو جعفر:
والصواب:"استوعب" (2) = وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له
وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
الأنصاريُّ، (3) استوعب للزبير حقه في صريح الحكم = قال
فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك:"فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، الآية. (4)
9913 - حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد
الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل
من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل
الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: (5) اعدل يا
نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى عُرف
__________
(1) "الجدر" (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي
تحبس الماء.
(2) الظاهر أن قول أبي جعفر: "والصواب: استوعب"، إنما عنى
به صواب الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد، ولا أظن أبا
جعفر ينكر"استوعى" أن تكون صحيحة، فإن"استوعى" بمعنى:
استوعب الحق واستوفاه، عربي صحيح لا شك فيه.
(3) "أحفظه" أغضبه.
(4) الحديث: 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من
حديث"الزبير بن العوام" - لقوله"أن عبد الله بن الزبير
حدثه عن الزبير بن العوام". ويحتمل أن يكون من حديث"عبد
الله بن الزبير" حكاية عن القصة. وقد جاء الحديث بسياقات
أخر، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي
القصة، فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية
عروة عن أبيه الزبير، كما سيأتي:
فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2: 503 -
بإسناد الطبري هذا: عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب،
به.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 453، عن محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب.
وكذلك رواه الإسماعيلي، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5:
26.
ورواه النسائي 2: 308 - 309، كرواية الطبري هذه. ولكن عن
شيخين: يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن
ابن وهب، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا - كما هنا: "أن
عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام".
ورواه أحمد في المسند: 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند
عبد الله بن الزبير - عن هاشم بن القاسم، عن الليث، عن ابن
شهاب، "عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال:
خاصم رجل من الأنصار الزبير"، إلخ.
وبنحو ذلك رواه البخاري 5: 26 - 28، ومسلم 2: 221، وأبو
داود: 3637، والترمذي 2: 289 - 290، وابن ماجه: 2480، وابن
حبان في صحيحه: 23 (بتحقيقنا) - كلهم من طريق الليث بن
سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، حكاية
للقصة. وفي بعض ألفاظهم: "عن عروة: أن عبد الله بن الزبير
حدثه". وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث"عبد الله بن
الزبير" - حكاية للقصة، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه
الزبير بن العوام.
وقال البخاري عقب هذه الرواية: "ليس أحد يذكر: عروة عن عبد
الله - إلا الليث فقط".
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية"النسائي وغيره" -
المطابقة لرواية الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم -
أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه"عن عبد الله بن الزبير"،
كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن يونس
والليث: أنه"عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه الزبير بن
العوام".
ورواه أحمد في المسند: 1419، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن
الزهري، قال، "أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث
أنه خاصم رجلا من الأنصار" - إلخ.
وكذلك رواه البخاري 5: 227 (فتح) ، عن أبي اليمان، بهذا
الإسناد، كرواية أحمد.
فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه
الزبير بن العوام مباشرة.
وقد نقل ابن كثير 2: 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم
قال: "هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة وبين
أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من
أخيه عبد الله".
وقد تعقبته في شرح المسند: 1419 فقلت: إن الحديث حديث
الزبير، ولا يبعد أن يكون سمعه منه أبناه عبد الله وعروة،
وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله، أو ثبته عبد
الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة
تنقضه، فإنه كان مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه، كانت
سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7: 185: "قال مسلم بن الحجاج في
كتاب التمييز: حج عروة مع عثمان، وحفظ عن أبيه فمن دونهما
من الصحابة".
وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة"عروة" في التاريخ
الكبير 4 / 1 / 31 بسماعه من أبيه، فقال: "سمع أباه وعائشة
وعبد الله بن عمر". وأن الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله:
1418، من طريق هشام بن عروة، "عن عروة، قال: أخبرني أبي
الزبير" - وإسناده صحيح، وفيه التصريح بسماع عروة من أبيه،
وأن الحافظ في الفتح 5: 26 قال: "وإنما صححه البخاري - مع
هذا الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه".
ورواه عروة أيضًا من عند نفسه، حكاية للقصة، دون أن يذكر
أنه عن اخيه أو عن أبيه - فيكون ظاهره أنه حديث مرسل، كما
في الرواية الآتية عقب هذه، وسيأتي باقي الكلام هناك.
(5) في المطبوعة: حذف قوله: "من بني أمية"، كأنه ظن أن"بني
أمية" هنا هم القرشيون!! و"بنو أمية" هنا: هم بنو أمية بن
زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.
(8/520)
أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس
الماء إلى الجدْرِ = أو: إلى الكعبين = ثم خل سبيل الماء.
قال: ونزلت:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم". (1)
9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله
بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن
سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم
رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله
عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن
عمتك! فأنزل الله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم ثم
__________
(1) الحديث: 9913 - إسماعيل بن إبراهيم: هو ابن علية.
عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: ثقة،
وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 212 - 213.
وهذا الحديث صورته صورة الإرسال، كما أشرنا في الحديث
قبله. لأن عروة بن الزبير - وهو تابعي - يحكي القصة، دون
أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه.
وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج، رقم: 337
(بتحقيقنا) ، عن ابن علية، كرواية الطبري هذه.
وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5: 29 (فتح) ،
من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: "خاصم الزبير
رجلا". - إلخ. وكذلك رواه مرة أخرى 8: 191، من طريق معمر.
وكذلك رواه 5: 30، من طريق ابن جريج، عن الزهري - على صوره
الإرسال.
وأشار الحافظ في الفتح 5: 26 إلى روايات أخر عن الزهري
توافق روايتي معمر وابن جريج على روايته بصورة الحديث
المرسل.
والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد
الله، ولعله لم يتثبت من حفظه تمامًا لصغر سنه، فسمعه مرة
أخرى من أخيه. فحدث به على تارات: يذكر أنه عن أخيه عن
أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا
دون ذكر واحد منهما لثقته بسماعها واطمئنانه.
ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة
الإرسال في موضعين، توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد
الحافظ في الفتح 5: 26 صنيع البخاري هذا بقوله: "ثم الحديث
ورد في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه".
والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته لعبد
الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي.
(8/522)
لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا
تسليمًا". (1)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ
اللذين وصف الله صفتهما في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت".
*ذكر من قال ذلك:
9915 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا
مما قضيت ويسلموا تسليما"، قال: هذا الرجل اليهوديُّ
والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
__________
(1) الحديث: 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري:
لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.
عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي: هو الحميدي الإمام
الثقة المشهور، من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم: "هو أثبت
الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام". مات
سنة 219.
سفيان: هو ابن عيينة.
"سلمة رجل من ولد أم سلمة": هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن
أبي سلمة". مضت ترجمته في: 8368، 8369.
وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5: 26، قال: "وقد جاءت هذه
القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري والطبراني، من حديث أم
سلمة".
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال:
"رواه الطبراني، وفيه يعقوب بن حميد، وثقه ابن حبان، وضعفه
غيره".
وليس"يعقوب بن حميد" في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو
وجه آخر.
وقد ذكره ابن كثير 2: 503 - 504 من كتاب ابن مردويه، من
طريق الفضل بن دكين، عن ابن عيينة، بهذا الإسناد. ولكن
فيه: "عن رجل من آل أبي سلمة، قال: خاصم الزبير رجلا" -
إلخ. فلم يذكر فيه"عن أم سلمة".
وذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه
الذي في الطبري هنا - وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن
المنذر.
(8/523)
9916 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9917 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن
الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: إلى الكاهن. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول = أعني قول من قال: عني به
المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في
قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك" = أولى بالصواب، لأن قوله:"فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" في سياق قصة الذين
ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: (2) "ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، ولا دلالة تدل على
انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض = ما"لم تأت دلالة على
انقطاعه = أولى.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من
قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في
خبرهما:"فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم" = ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة
الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة
المحتكمين إلى الطاغوت، (3) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه
الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة (4) وإذ
كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى
__________
(1) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف، دليله في الأثر
رقم: 5819، أن الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو
الحصين، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا في 5: 410،
تعليق: 4، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره
هذا.
(2) في المطبوعة: "الذين أسدى الله الخبر عنهم"، وهو كلام
خلو من كل معنى، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة،
ولم يعرف قط قاعدة ناسخها، فإنه يكتب"ابتدأ" هكذا: "ابتدى"
غير منقوطة.
(3) في المطبوعة: "في حصة المحتكمين"، وهو خطأ في الطباعة.
(4) في المطبوعة: "إذ كانت الآية دالة على ذلك"، وأثبت ما
في المخطوطة وهو صواب.
(8/524)
بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة
معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض
ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.
* * *
وأما قوله:"ويسلموا"، فإنه منصوب عطفًا، على قوله:"ثم لا
يجدوا في أنفسهم" = وقوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم"، نصبٌ
عطفًا على قوله:"حتى يحكموك فيما شجر بينهم".
* * *
(8/525)
وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو أنا كتبنا عليهم
أن اقتلوا أنفسكم"، ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت، أن
يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك = أو أن يخرجوا من ديارهم
مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها (1) ="ما فعلوه"، يقول:
ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا
عنها إلى الله ورسوله، طاعة لله ولرسوله ="إلا قليل منهم".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9918 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولو أنا كتبنا
عليهم أن اقتلوا
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 8: 170، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(8/525)
أنفسكم"، يهود يعني = أو كلمة تشبهها =
والعربَ، (1) كما أمر أصحاب موسى عليه السلام.
9919 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
أنفسكم أو اخرجوا من دياركم"، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل
بعضهم بعضًا بالخناجر، لم يفعلوا إلا قليل منهم.
9920 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"،
افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي:
والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا
أنفسنا! فقال ثابت: والله لو كُتب علينا أن اقتلوا أنفسكم،
لقتلنا أنفسنا! أنزل الله في هذا:"ولو أنهم فعلوا ما
يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا".
9921 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو
زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما
نزلت:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من
دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، قال رجل: لو أمرنا
لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: إنّ من أمتي لَرِجالا الإيمان أثبت في
قلوبهم من الجبال الرَّواسي.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله:"إلا قليل منهم".
فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع"قليل"، لأنه جعل بدلا
من الأسماء
__________
(1) في المطبوعة: "هم يهود يعني والعرب". ومثلها في الدر
المنثور 2: 181، وهو تصرف من السيوطي، وتبعه الناشر الأول.
وذلك أنه شك في معنى"أو كلمة تشبهها" فحذفها، وزاد في أول
الكلام"هم". ولكن قوله: "أو كلمة تشبهها" أي: تشبه"يعني"
في معناها، كقولك "يريد" أو "أراد".
(8/526)
المضمرة في قوله:"ما فعلوه"، لأن الفعل
لهم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن
معناه: ما فعلوه، ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن
معد يكرب: (1)
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، ... لَعمْرُ أَبِيك إلا
الفَرْقَدَانِ (2)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال:
رفع"القليل" بالمعنى الذي دلَّ عليه قوله:"ما فعلوه إلا
قليل منهم". وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم
= فقيل:"ما فعلوه" على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في
قوله:"ألم تر إلى الذين
__________
(1) وأصح، نسبته إلى حضرمي بن عامر الأسدي، وينسب إلى سوار
بن المضرب، وهو خطأ.
(2) سيبويه 1: 371 / مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 131 /
البيان والتبيين 1: 228 / حماسة البحتري: 151 / الكامل 2:
298 / المؤتلف والمختلف: 85 / الخزانة 2: 52= 4: 79 / شرح
شواهد المغني: 78. هذا ولم أجد أبيات عمرو بن معد يكرب،
وأما شعر حضرمي، فقبل البيت، وهو شعر جيد: وَذِي فَجْعٍ
عَزَفتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... حِذَارَ الشَّامتين، وَقَدْ
شَجَانِي
أَخِي ثِقَةٍ، إذَا مَا اللَّيْلُ أَفْضَى ... إلَيَّ
بِمُؤْيِدٍ حُبْلَى كَفَانِي
قَطَعْتُ قَرِينَتِي عَنْهُ فأغْنَى ... غناهُ، فَلَنْ
أَراهُ وَلَنْ يَرَانِي
وكُلُّ قَرِينَةٍ قُرِنَتْ بِأُخْرى، ... وَلَوْ ضَنَّتْ
بِهَا، سَتَفَرَّقَانِ
وكُلُّ أَخٍ...................... ... . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
وَكُلُّ إِجَابَتي إِيَّاهُ أَنِّي ... عَطَفْتُ عَلَيْهِ
خَوَّار الْعِنَانِ
وقوله: "وذي فجع"، أي: صديق يورث فراقه الفجيعة، ويروى"وذى
لطف"، ويروي"وذي فخم"، يعني: ذي كبرياء واستعلاء. و"عزف
نفسه عن الشيء": صرفها. و"شجاني": أحزنني. و"المؤيد"
الداهية العظيمة."حبلى" تلد شرًا بعد شر. و"القرينة" النفس
التي تقارن صاحبها لا تفارقه، حتى يموت. و"خوار العنان"
صفة الفرس إذا كان سهل المعطف لينه كثير الجري، يعني، أنه
ينصره في الحرب حين يستغيث به.
(8/527)
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك"، ثم استثنى"القليل"، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ
كان الفعل منفيًّا عنه.
* * *
وهي في مصاحف أهل الشام: (مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلا
مِنْهُمْ) . وإذا قرئ كذلك، فلا مرْزِئَةَ على قارئه في
إعرابه، (1) لأنه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل
مشغولا بما فيه كنايةُ مَنْ قد جرى ذكره، (2) ثم استثني
منهم القليل.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتًا (66) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى
الطاغوت، ويصدُّون عنك صدودًا ="فعلوا ما يوعظون به"،
يعني: ما يذكّرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره (3)
="لكان خيرًا لهم"، في عاجل دنياهم، وآجل معادهم ="وأشد
تثبيتًا"، وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. (4) وذلك
أن المنافق يعمل على شك، فعمله يذهب باطلا وعناؤه يضمحلّ
فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناءٍ وضعف. (5)
__________
(1) "المرزئة" (بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الزاي) ،
مثل الرزء، والرزيئة: وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص،
وكل ما يثقل عليك، عافاك الله. وكان في المطبوعة
والمخطوطة: "فلا مرد به على قارئه"، وهو شيء لا يفهم ولا
يقال!!
(2) "الكناية" الضمير، كما سلف مرارًا كثيرة. ثم انظر
مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 131.
(3) انظر تفسير"الوعظ"، فيما سلف ص: 299، تعليق: 4،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"التثبيت" فيما سلف 5: 354، 531 / 7: 272،
273. ولو قال: "وأقوى لهم عليها"، لكان ذلك أرجح عندي،
وكلتاهما صواب.
(5) "الونا" و"الوناء": الفترة والكلال والإعياء والضعف.
(8/528)
|