تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَإِذًا
لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
ولو عمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجرًا،
ولكان له عند الله ذخرًا، وكان على عمله الذي يعمل أقوى،
ولنفسه أشدَّ تثبيتًا، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله
الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله:"وأشد تثبيتًا"،
تصديقًا، كما:-
9922 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"، قال:
تصديقًا.
* * *
= لأنه إذا كان مصدّقًا، كان لنفسه أشد تثبيتًا، ولعزمه فيه
أشدّ تصحيحًا. وهو نظير قوله جل ثناؤه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة: 265] .
وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه، بما فيه كفاية من إعادته،
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا
أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (68) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون
به لكان خيرًا لهم، لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعِظُوا به من
طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا ="أجرًا" يعني: جزاء وثوابًا
عظيمًا (2) = وأشد تثبيتًا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على
أعمالهم، لهدايتنا إياهم صراطًا مستقيمًا = يعني: طريقًا لا
اعوجاج فيه، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه
لهم، وذلك الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير الآية فيما سلف 5: 530 - 534.
(2) انظر تفسيره"الأجر" فيما سلف ص: 365، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170 - 177 / 3:
140، 141 / 6: 441.
(8/529)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
(69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
عَلِيمًا (70)
ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم
للصراط المستقيم. (1)
ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه السلام، من
الكرامة الدائمة لديه، والمنازل الرفيعة عنده. فقال: (وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ
الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يطع الله والرسول"
بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضى بحكمهما، والانتهاء إلى
أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين
أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من
أنبيائه، وفي الآخرة إذا دخل الجنة ="والصديقين" وهم
جمع"صِدِّيق".
* * *
واختلف في معنى:"الصديقين".
فقال بعضهم:"الصديقون"، تُبَّاع الأنبياء الذين صدّقوهم
واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم.
فكأن"الصدِّيق"،"فِعِّيل"، على مذهب قائلي هذه المقالة،
من"الصدق"، كما يقال:"رجل سِكّير" من"السُّكر"، إذا كان مدمنًا
على ذلك، و"شِرِّيبٌ"، و"خِمِّير".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/530)
وقال آخرون: بل هو"فِعِّيل" من"الصَّدَقة"،
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال
ذلك، وهو ما:-
9923 - حدثنا به سفيان بن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن
موسى بن يعقوب قال، أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن
زمعة، عن أمها كريمة ابنة المقداد، (1) عن ضباعة بنت الزبير،
(2) وكانت تحت المقداد، عن المقداد قال: قلت للنبي صلى الله
عليه وسلم: شيء سمعته منك شككت فيه! قال: إذا شكّ أحدكم في
الأمر فليسألني عنه. قال قلت: قولك في أزواجك:"إنيّ لأرجو لهن
من بعدِيَ الصدِّيقين" قال: من تَعُدُّون الصديقين؟ (3) قلت:
أولادنا الذين يهلكون صغارًا. قال: لا ولكن الصدِّيقين هم
المصَّدِّقون. (4)
* * *
وهذا خبر، لو كان إسناده صحيحًا، لم نستجز أن نعدوه إلى غيره،
ولو كان في إسناده بعض ما فيه.
__________
(1) في المخطوطة"كريمة ابنة المقدام"، وهو خطأ، والصواب ما في
المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "متاعة بنت الزبير"، خطأ، صوابه في المطبوعة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "من تعنون الصديقين"، وهو خطأ لا
معنى له. والصواب ما أثبت من مختصر هذا الأثر في منتخب كنز
العمال (هامش المسند) 5: 113.
(4) الحديث: 9923 - سفيان بن وكيع بن الجراح - شيخ الطبري:
ضعيف، كما فصلنا في: 142، 143.
موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود، الزمعي
-بسكون الميم - المدني: ثقة، وثقه ابن معين وابن القطان
وغيرهما. وضعفه ابن المديني وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير
للبخاري 4 / 1 / 298، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 167 - ولم يذكرا
فيه جرحًا. بل اقتصر ابن أبي حاتم على توثيق ابن معين إياه.
قريبة - بالتصغير - بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عمة موسى بن
يعقوب: مترجمة في التهذيب، دون جرحها بشيء.
أمها: "كريمة بنت المقداد بن الأسود": تابعية ثقة. ذكرها ابن
حبان في الثقات.
ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه
وسلم: صحابية معروفة. كانت زوجًا للمقداد بن الأسود. ولها
أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد.
وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 183، مختصرًا،
ولم ينسبه لغير ابن جرير.
ولكنه ذكره في الجامع الكبير، المسمى"جمع الجوامع"، كما يدل
عليه ذكره في كتاب"منتخب كنز العمال" للمتقي الهندي، المطبوع
بهامش مسند أحمد - طبعة الحلبي - ذكره فيه مختصرًا (ج5 ص113) ،
ونسبه للطبراني في الكبير.
وقد أعجزني أن أجده في مجمع الزوائد، لأنه على شرطه. ولست أعرف
إذا كانت روايته عند الطبراني من طريق سفيان بن وكيع، أو من
طريق راو آخر، فإن يكن من طريق راو غيره، كان الإسناد جيدًا،
لأن جرح سفيان بن وكيع لم يكن من قبل صدقه، كما بينا في
ترجمته.
(8/531)
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بـ
"الصديق"، أن يكون معناه: المصدِّق قوله بفعله. إذ
كان"الفعِّيل" في كلام العرب، إنما يأتي، إذا كان مأخوذًا من
الفعل، بمعنى المبالغة، إما في المدح، وإما في الذم، ومنه قوله
جل ثناؤه في صفة مريم: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة:
75] .
وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلا من كان موصوفًا بما
قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين.
="والشهداء"، وهم جمع"شهيد"، وهو المقتول في سبيل الله، سمي
بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل. (1)
* * *
="والصالحين"، وهم جمع"صالح"، وهو كل من صلحت سريرته وعلانيته.
(2)
وأما قوله جل ثناؤه:"وحَسُن أولئك رفيقًا"، فإنه يعني: وحسن،
هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم، (3) رفقاء في الجنة.
* * *
و"الرفيق" في لفظ واحدٍ بمعنى الجميع، (4) كما قال الشاعر: (5)
__________
(1) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف: 368، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف: 293، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر ما كتبته في"حسن" 4: 458، تعليق: 2.
(4) في المطبوعة: "بلفظ الواحد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) هو جرير.
(8/532)
دَعَوْنَ الهَوَى، ثُمَّ ارْتَمَيْنَ
قُلُوَبنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءِ، وَهُنَّ صَدِيقُ (1)
بمعنى: وهن صدائق.
* * *
وأما نصب"الرفيق"، فإن أهل العربية مختلفون فيه.
فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، ويقول: هو
كقول الرجل:"كَرُم زيد رجلا"، ويعدل به عن معنى:"نعم الرجل"،
ويقول: إن"نعم" لا تقع إلا على اسم فيه"ألف ولام"، أو على
نكرة.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير، (2) وينكر
أن يكون حالا ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول:"كرم زيدٌ من
رجل" و"حسن أولئك من رفقاء"، وأن دخول"مِنْ" دلالة على
أن"الرفيق" مفسره. قال: وقد حكي عن العرب:"نَعِمتم رجالا"، فدل
على أن ذلك نظير قوله:"وحسنتم رفقاء".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب، للعلة التي ذكرنا
لقائليه.
* * *
__________
(1) ديوانه: 398، وطبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) ،
وغيرها كثير. من أبيات ذكر فيهن الحجاج، قبله أبيات حسان،
تحفظ: وَبِتُّ أُرَائِي صَاحِبَيَّ تَجَلُّدًا ... وَقَدْ
عَلِقَتْنِي مِنْ هَوَاكِ عَلُوقُ
فَكَيْفَ بِهَا? لا الدَّارُ جَامِعَةُ الْهَوَى ... وَلا
أنْتَ عَصْرًا عَنْ صِبَاكَ مُفِيقُ
أَتجْمَعُ قَلْبًا بِالْعِرَاقِ فَرِيُقهُ، ... ومِنْهُ
بِأَظْلالٍ الأََرَاكِ فَرِيقُ?
كأنْ لَمْ تَرُقْني الرَّائِحَاتُ عَشِيَّةً ... وَلَمْ يُمْسِ
فِي أَهْل الْعِرَاقِ وَمِيقُ
أُعَالِجُ بَرْحًا مِنْ هَوَاكِ، وَشَفَّني ... فُؤَادٌ إذَا
مَا تُذْكَرِينَ خَفُوقُ
أَوَانِسُ، أَمَّا مَنْ أَرَدْنَ عَنَاءَهُ ... فَعَانِ،
وَمَنْ أَطْلَقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ
دَعَوْنَ الْهَوَى............. ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وفي المطبوعة: "نصبن الهوى"، وهي رواية أخرى، غير التي في
المخطوطة والديوان.
(2) "التفسير". التمييز و"المفسر": المميز. كما سلف مرارًا.
انظر فهرس المصطلحات.
(8/533)
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت، (1) لأن قومًا
حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرًا أن لا يروه
في الآخرة.
ذكر الرواية بذلك:
9924 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي
المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: يا فلان، مالي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله، شيء فكرت
فيه! فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك
ونجالسك، غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فلم يردّ النبي
صلى الله عليه وسلم شيئًا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه
الآية:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا".
قال: فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
9925 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي
الضحى، عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قَدْ
مِتَّ رُفِعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله:"ومن يطع الله
والرسول"، الآية.
9926 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم من النبيين"، ذكر لنا أن رجالا قالوا: هذا نبي الله نراه
في الدنيا، فأما في الآخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل الله:"ومن
يطع الله والرسول" إلى قوله:"رفيقًا".
9927 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين
أنعم الله عليهم" الآية، قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول
الله، إذا أدخلك الله الجنة فكنت
__________
(1) في المخطوطة: "وقد ذكرنا أن ... "، والصواب ما في
المطبوعة.
(8/534)
في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟
فأنزل الله"ومن يطع الله والرسول".
9928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية،
قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من آمن به في درجات
الجنة، (1) ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن
يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل الله في ذلك. يقال: (2) إن الأعلَين
ينحدرون إلى من هم أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما
أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون
عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في رَوْضه يحبرون
ويتنعَّمون فيه. (3) .
* * *
وأما قوله:"ذلك الفضل من الله"، فإنه يقول: كون من أطاع الله
والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين ="الفضل من الله"، يقول: ذلك عطاء الله
إياهم وفضله عليهم، لا باستيجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم. (4)
* * *
فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من
فضله؟
قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به
عليهم، فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.
* * *
وقوله:"وكفى بالله عليما"، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم
="عليما"
__________
(1) في المطبوعة: "له فضل على من آمن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فقال"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "في روضة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 518
/ 7: 299، 414 / 8: 268.
(8/535)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا
يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه، حتى يجازي
جميعهم، جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيئين منهم
بالإساءة، (1) ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (2) "يا أيها الذين
آمنوا"، صدَّقوا الله ورسوله ="خذوا حذركم"، خذوا جُنَّتكم
وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم ="فانفروا
إليهم ثُبات".
* * *
= وهي جمع"ثبة"، و"الثبة"، العصبة.
= ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوكم جماعة بعد جماعة متسلحين.
= ومن"الثبة" قول زهير:
وَقَدْ أَغْدُوا عَلَى ثُبَةٍ كِرَامٍ ... نَشَاوَى وَاجِدِينَ
لِمَا نَشَاء (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فيجزي المحسن منهم بالإحسان، والمسيء منهم
بالإساءة" وفي المخطوطة: "جزاء المحسنين منهم بالإحسان،
والمسيء منهم بالإساءة"، وأثبت ما في المخطوطة، وأثبت صواب
السياق على ما يقتضيه صدر الكلام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك ... " والسياق يقتضي ما
أثبت.
(3) ديوانه: 72، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132، واللساق
(ثبا) و (نشا) ، وغيرها. من أبيات وصف فيها الشرب، قد بلغت
منهم النشوة، وهم في ترف من يومهم، لا يفتقدون شيئًا ثم يقول:
لَهُمْ رَاحٌ، وَرَاوُوقٌ، ومِسْكٌ ... تُعَلُّ بِهِ
جُلُودُهُمُ، ومَاءُ
أُمَشِّي بَيْنَ قَتْلَى قَدْ أُصِيَبتْ ... نُفُوسُهُمُ،
ولَمْ تَقْطُرَ دماءُ
يَجُرُّونَ الْبُرُودَ وَقَدْ تَمَشَّتْ ... حُمَيَّا
الْكَأْسِ فِيهِمْ والغِنَاءُ
(8/536)
وقد تجمع"الثبة" على"ثُبِين". (1) .
* * *
="أو انفروا جميعًا"، يقول: أو انفروا جميعًا مع نبيكم صلى
الله عليه وسلم لقتالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9929 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خذوا حذركم
فانفروا ثبات"، يقول: عصبًا، يعني سَرايَا متفرقين ="أو انفروا
جميعًا"، يعني: كلكم.
9930 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فانفروا ثبات"، قال:
فرقًا، قليلا قليلا.
9931 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"فانفروا ثبات"، قال:"الثبات" الفرق.
9932 - حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
9933 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فانفروا ثبات"، فهي العصبة، وهي الثبة
="أو انفروا جميعًا"، مع النبي صلى الله عليه وسلم.
9934 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فانفروا
ثبات"، يعني: عصبًا متفرِّقين.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132.
(8/537)
وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ
شَهِيدًا (72)
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ
شَهِيدًا (72) }
قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم
لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال:"وإن
منكم"، أيها المؤمنون، يعني: من عِدَادكم وقومكم، ومن يتشَّبه
بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم ومِلَّتكم، وهو منافق يبطِّئ من
أطاعه منكم عن جهاد عدوكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم ="فإن
أصابتكم مصيبة"، (1) يقول: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو
جراح من عدوكم ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم
شهيدًا"، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسَرَّه تخلّفه عنكم،
شماتة بكم، لأنه من أهل الشك في وعد الله الذي وعد المؤمنين
على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب، وفي وعيده. فهو غيرُ
راج ثوابًا، ولا خائف عقابًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9935 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن منكم لمن ليبطئن فإن
أصابتكم مصيبة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، ما بين
ذلك في المنافقين.
__________
(1) انظر تفسير"إصابة المصيبة" فيما سلف: 514.
(8/538)
9936 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن منكم لمن ليبطئن" عن الجهاد والغزو في سبيل الله
="فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم
شهيدًا"، قال: هذا قول مكذِّب.
9938 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال،
قال ابن جريج: المنافق يبطِّئ المسلمين عن الجهاد في سبيل
الله، قال الله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: بقتل العدو من
المسلمين ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"،
قال: هذا قول الشامت.
9939 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: هزيمةٌ.
* * *
ودخلت"اللام" في قوله:"لمن"، وفتحت، لأنها"اللام" التي تدخل
توكيدًا للخبر مع"إنَّ"، كقول القائل:"إنّ في الدار لَمَن
يكرمك". وأما"اللام" الثانية التي في"ليبطئن"، فدخلت لجواب
القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله
ليبطئن. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 275، 276.
(8/539)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ
فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ
أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ
تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"ولئن أصابكم فضل من الله"، ولئن
أظفركم الله بعدوكم فأصبتم منهم غنيمة، ليقولن هذا المبطِّئُ
المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله، المنافقُ ="كأن لم يكن
بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز"، بما أصيب معهم من
الغنيمة ="فوزًا عظيمًا".
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين: أنّ شهودهم
الحرب مع المسلمين إن شهدوها، لطلب الغنيمة = وإن تخلَّفوا
عنها، فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابًا،
ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا.
* * *
وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين
إذا كان الظفر للمسلمين:"يا ليتني كنت معهم"، حسدًا منهم لهم.
9940 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم
وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"، قال: قول
حاسد.
9941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله"، قال: ظهور المسلمين
على عدوهم فأصابوا الغنيمة، ليقولن:"يا ليتني كنت معهم فأفوز
فوزًا عظيمًا"، قال: قول الحاسد.
* * *
(8/540)
فَلْيُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
القول في تأويل قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) }
قال أبو جعفر: وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من
أهل الكفر به على أحايينهم = غالبين كانوا أو مغلوبين،
والتهاونِ بأقوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين،
(1) [وأن لهم في] جهادهم إياهم - مغلوبين كانوا أو غالبين -
منزلة من الله رفيعة. (2)
* * *
يقول الله لهم جل ثناؤه:"فليقاتل في سبيل الله"، يعني: في دين
الله والدعاء إليه، والدخول فيما أمر به أهل الكفر به ="الذين
يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، يعني: الذين يبيعون حياتهم
الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعُهم
إياها بها: إنفاقهم أموالهم في طلب رضى الله، لجهاد من أمر
بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، (3) وبَذْلهم مُهَجهم له في
ذلك.
* * *
أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال:"ومن يقاتل في
سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن
يقاتل - في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله - أعداءَ الله
="فيقتل"، يقول: فيقتله أعداء الله، أو يغلبهم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"والتهاون بأحوال المشركين"، والذي
يدل عليه سياق التفسير، هو ما أثبت. ويعني بذلك ما يقوله
المنافق عند هزيمة المسلمين: "قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم
شهيدًا"، وقوله إذا كانت الدولة والظفر للمسلمين: "يا ليتني
كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا".
وقوله: "والتهاون" عطف على قوله: "وهذا حض من الله المؤمنين
على جهاد عدوه".
(2) كان مكان ما بين القوسين في المخطوطة والمطبوعة: "وقع" وهو
كلام لا يستقيم البتة، فاستظهرت أن يكون صواب سياقه ما أثبت،
أو ما يشبهه من القول.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كجهاد من أمر بجهاده"، وصواب
السياق"لجهاد........" كما أثبتها.
(8/541)
فيظفر بهم ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"،
يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابًا وأجرًا عظيمًا. وليس لما
سمى جل ثناؤه"عظيمًا"، مقدار يعرِف مبلغَه عبادُ الله. (1)
* * *
وقد دللنا على أن الأغلب على معنى:"شريت"، في كلام
العرب:"بعت"، بما أغنى [عن إعادته] ، (2)
وقد:-
9942 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون
الحياة الدنيا بالآخرة"، يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
9943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، فـ "يشري": يبيع، و"يشري":
يأخذ = وإن الحمقى باعوا الآخرة بالدنيا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف: 529، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"شرى" و"اشترى" فيما سلف 1: 312- 315 / 2: 340-
342، 455 / 3: 328 / 4: 246 / 6: 527 / 7: 420، 459 / 8: 428
وزدت ما بين القوسين، جريًا على نهج عبارته في مئات من المواضع
السالفة، والظاهر أن الناسخ نسى أن يكتبها، لأن"بما أغنى" وقعت
في آخر الصفحة، ثم قلب الورقة إلى الصفحة التالية، وكتب"وقد".
(8/542)
وَمَا لَكُمْ لَا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
القول في تأويل قوله: {وَمَا لَكُمْ لا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) }
(8/542)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وما
لكم" أيها المؤمنون ="لا تقاتلون في سبيل الله"،
وفي"المستضعفين"، يقول: عن المستضعفين منكم ="من الرجال
والنساء والولدان"، فأما من"الرجال"، فإنهم كانوا قد أسلموا
بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم
بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله
المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من
الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن
مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم
ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟ "من الرجال والنساء والولدان"
= جمع"ولد": وهم الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها"، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من
الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم
من فتنة من قد استضعفهم من المشركين:"يا ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها".
* * *
والعرب تسمي كل مدينة"قرية" = يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسَها
أهلُها = وهي في هذا الموضع، فيما فسر أهل التأويل،"مكة".
* * *
وخفض"الظالم" لأنه من صفة"الأهل"، وقد عادت"الهاء والألف"
اللتان فيه على"القرية"، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم
الذي معه عائد لاسم قبلها، (1) أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم
الذي قبلها، كأنها صفة له، فتقول:"مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه".
* * *
="واجعل لنا من لدنك وليًّا"، يعني: أنهم يقولون أيضًا في
دعائهم: يا ربنا، واجعل لنا من عندك وليًّا، يلي أمرنا
بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك =
__________
(1) في المخطوطة: "الذي معه عادر لاسم قبلها"، وهو سهو من
الناسخ، صوابه ما في المطبوعة.
(8/543)
"واجعل لنا من لدنك نصيرًا"، يقولون: (1)
واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية
الظالم أهلها، (2) بصدِّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم،
وتعلي دينك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الرجال والنساء
والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم
أهلها"، قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين،
كانوا بمكة.
9945 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمستضعفين من الرجال والنساء
والولدان" = الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية
الظالم أهلها"، مكة = أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين
مؤمنين كانوا بمكة.
9946 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، يقول: وما لكم لا تقاتلون
في سبيل الله وفي المستضعفين = وأما"القرية"، فمكة.
9947 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما
لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين"، قال: وفي
المستضعفين.
__________
(1) انظر تفسير"الولي"، و"النصير"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة"من ظلمنا من أهل القرية"، والصواب من
المخطوطة.
(8/544)
9948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير:
أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول،"وما لكم لا تقاتلون في
سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: في
سبيل الله وسبيل المستضعفين.
9949 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"أخرجنا من هذه القرية
الظالم أهلها"، قالا خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية
الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأى بصدره إلى القرية
الصالحة، (1) فما تلافاه إلا ذلك (2) = فاحتجَّت فيه ملائكة
الرحمة وملائكة العذاب، (3) فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين
إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبْرٍ = وقال بعضهم:
قرّب الله إليه القرية الصالحة، فتوفَّته ملائكة الرحمة.
9950 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الرجال
والنساء والولدان"، هم أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن
يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك (4) =
وقوله:"ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، فهي مكة.
9950م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:
__________
(1) قوله: "نأى بصدره" أي تباعد به. يعني: تحامل وهو هالك حتى
وجه صدره إلى القرية الصالحة، ابتعادًا وإعراضًا عن القرية
الظالمة. ومثله: "نأى بجانبه".
(2) قوله: "فما تلافاه إلا ذلك"، أي: فما تداركه وأنقذه من سوء
المصير، إلا هذه الإعراضة التي أعرضها عن القرية الظالمة.
وكانت هذه الجملة غير منقوطة في المخطوطة. فآثر ناشر المطبوعة
حذفها، لما لم يحسن قراءتها وفهمها.
(3) قوله: "احتجت فيه"، أي: اختصمت فيه الملائكة، وألقى كل خصم
بحجته، ولم يرد هذا الوزن بهذا المعنى في كتب اللغة، وهو صحيح
عريق، وإنما قالوا: "احتج بالشيء" اتخذه حجة، أما التخاصم
والتنازع فقالوا فيه: "تحاج القوم". فهذا من الزيادات الصحيحة
على قيد اللغة.
(4) في المطبوعة: "وفيهم قوله"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو
صواب محض.
(8/545)
الَّذِينَ آمَنُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قال: وما لكم لا تفعلون؟
تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم
من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا
تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ (1) قال: و"القرية الظالم
أهلها"، مكة.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله،
وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به ="يقاتلون في سبيل الله"،
يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده (2)
="والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت"، يقول: والذين جحدوا
وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم ="يقاتلون
في سبيل الطاغوت"، (3) يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه
الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله، مقوِّيًا
عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به:"فقاتلوا"
أيها المؤمنون، ="أولياء الشيطان"، يعني بذلك: الذين يتولَّونه
ويطيعون أمره، في خلاف طاعة الله، والتكذيب به، وينصرونه (4)
="إن كيد الشيطان
__________
(1) في المطبوعة: "حتى يسلم لله"، وأثبت ما في المخطوطة فهو
الصواب.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة
(سبل) .
(3) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 3: 416- 420 / 8: 461- 465،
507- 513.
(4) انظر تفسير"ولي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/546)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا
لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا
إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ
فَتِيلًا (77)
كان ضعيفًا"، يعني بكيده: ما كاد به
المؤمنين، (1) من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله
وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان،
فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.
* * *
وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا
يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا
للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. والمؤمنون يقاتل مَن قاتل
منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف
من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن
قتل، وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على
حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا
الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض
عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون
الله أن يُفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم
ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكيد" فيما سلف 7: 156.
(8/547)
فتأويل قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم
كفوا أيديكم"، ألم تر بقلبك، يا محمد، فتعلم (1) ="إلى الذين
قيل لهم"، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم
القتال ="كفوا أيديكم"، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم
="وأقيموا الصلاة"، يقول: وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله
عليكم بحدودها (2) ="وآتوا الزكاة"، يقول: وأعطوا الزكاة أهلها
الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم
(3) = كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال المشركين وشق
ذلك عليهم ="فلما كتب عليهم القتال"، يقول: فلما فرض عليهم
القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم (4) ="إذا فريق منهم"،
يعني: جماعة منهم (5) ="يخشون الناس"، يقول: يخافون الناس أن
يقاتلوهم ="كخشية الله أو أشد خشية"، أو أشد خوفًا (6) =
وقالوا جزعًا من القنال الذي فرض الله عليهم:"لم كتبت علينا
القتال"، لم فرضت علينا القتال؟ ركونًا منهم إلى الدنيا،
وإيثارًا للدعة فيها والخفض، (7) على مكروه لقاء العدوّ ومشقة
حربهم وقتالهم ="لولا أخرتنا"، يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا
="إلى أجل قريب"، يعني: إلى أن يموتوا على فُرُشهم وفي
منازلهم. (8) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "ألم تر" فيما سلف: 426، تعليق: 5، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير: "إقامة الصلاة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم)
.
(3) انظر تفسير"إيتاء الزكاة" فيما سلف من فهارس
اللغة"أتى""زكا".
(4) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 525، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"فريق" سلف 2: 244، 245، 402 / 3: 549 / 6: 535.
(6) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 599، 560 / 2: 239، 243.
(7) في المطبوعة: "وإيثارًا للدعة فيها والحفظ عن مكروه"، وفي
المخطوطة: "والحفظ على مكروه"، وكلاهما خطأ فاسد، والصواب:
"والخفض" وهو لين العيش، وأما قوله: "على مكروه لقاء العدو"
فهو متعلق بقوله: "وإيثار للدعة ... على مكروه ... ".
(8) انظر تفسير"الأجل" فيما سلف 5: 7 / 6: 43، 76.
(8/548)
وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نزلت فيه،
قال أهل التأويل.
ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله.
9951 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال،
أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن
عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله
عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون،
فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا.
فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله
تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، الآية
(1) .
9952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"،
عن الناس ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم"، نزلت في
أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال: ابن جريج
وقوله:"وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل
قريب"، قال: إلى أن نموت موتًا، هو"الأجل القريب".
9953 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا
الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"إلى أجل قريب"، قال: كان أناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة،
تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى
__________
(1) الأثر: 9951 -"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" مضى برقم:
1591، 2575، 2594.
وأبوه: "علي بن الحسن بن شقيق بن دينار" مضى برقم: 1909.
وكان في المطبوعة: " ... بن الحسين بن شقيق"، وهو خطأ.
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 307 مع اختلاف في
لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"،
ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 9: 11، ورواه ابن كثير
في تفسيره 2: 514، من طريق ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر
المنثور 2: 184، ونسبه إلى هؤلاء وزاد نسبته إلى النسائي.
(8/549)
الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول
فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم
عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال،
كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى:
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ
اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا) .
9954 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، قال: هم قوم أسلموا قبل أن
يُفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا
الله أن يفرض عليهم القتال ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق
منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" الآية، إلى"إلى أجل
قريبٍ" (1) وهو الموت، قال الله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا
قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) .
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها، في اليهود.
*ذكر من قال ذلك:
9955 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم
وأقيموا الصلاة" إلى قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، ما بين
ذلك في اليهود.
9956 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فلما كتب عليهم القتال إذا
فريق منهم" إلى قوله:"لم كتبت علينا القتال"، نهى الله تبارك
وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الآية إلى أجل قريب"، والسياق
يقتضي"إلى" الثانية.
(8/550)
القول في تأويل قوله: {قُلْ مَتَاعُ
الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا
تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"قل متاع الدنيا قليل"، قل،
يا محمد، لهؤلاء القوم الذين قالوا:"ربنا لم كتبت علينا القتال
لولا أخرتنا إلى أجل قريب" =: عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها
قليل، لأنها فانية وما فيها فانٍ (1) ="والآخرة خير"، يعني:
ونعيم الآخرة خير، لأنها باقية ونعيمها باق دائم. وإنما
قيل:"والآخرة خير"، ومعنى الكلام ما وصفت، من أنه معنيٌّ به
نعيمها - لدلالة ذكر"الآخرة" بالذي ذكرت به، على المعنى المراد
منه ="لمن اتقى"، يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب
معاصيه، فأطاعه في كل ذلك ="ولا تظلمون فتيلا"، يعني: ولا
ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا.
* * *
وقد بينا معنى:"الفتيل"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته ههنا.
(2)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: = حيثما تكونوا يَنَلكم
الموت فتموتوا ="ولو كنتم في بروج مشيَّدة"، يقول: لا تجزعوا
من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا
على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت
__________
(1) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 55 / 5: 262
/ 6: 258.
(2) انظر ما سلف: 456 - 460.
(8/551)
بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث
كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"ولو كنتم في بروج مشيدة".
فقال بعضهم: يعنى به: قصور مُحصنة.
*ذكر من قال ذلك:
9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: في قصور محصنة.
9958 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال،
حدثنا أبو همام قال، حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد قال: كان
فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت
لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له
الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه
الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، (1) ويكون
موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد
أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت،
فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه
تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال
كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة
في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها
تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير،
وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء،
ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا
هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! =
وأرته الشق في بطنها = وقد كنت
__________
(1) "تبغي" من"البغاء"، "بغت المرأة": فجرت وزنت.
(8/552)
أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال:
فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. (1) قال: فبنى لها برجًا
بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في
السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط،
فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها
واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنزلت هذه الآية:"أينما تكونوا
يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة". (2)
9959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، قال: قصور مشيدة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قصورٌ بأعيانها في السماء.
*ذكر من قال ذلك:
9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في
بروج مشيدة"، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية.
9961 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعيد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"أينما
تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: ولو كنتم
في قصور في السماء. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بالعنكبوت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 9958 -"كثير أبو الفضل"، هو: كثير بن يسار الطفاوي،
أبو الفضل البصري. روى عن الحسن البصري، وثابت البناني
وغيرهما. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 515، من تفسير ابن أبي
حاتم، وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 184، ونسبه أيضًا لابن
أبي حاتم، وأبي نعيم في الحلية.
(3) الأثر: 9961 -"عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ"،
مضى برقم: 2929، وهذا الإسناد نفسه مضى أيضًا قبله برقم 2919،
وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبد الرحمن بن سعيد"، كما كان
في رقم: 2929، ولكنه سيأتي على الصواب في المخطوطة والمطبوعة
بعد قليل رقم: 9962، 9972.
(8/553)
واختلف أهل العربية في معنى"المشيدة".
فقال بعض أهل البصرة منهم:"المشيدة"، الطويلة. قال:
وأما"المشِيدُ"، بالتخفيف، فإنه المزيَّن. (1)
* * *
وقال آخر منهم نحو ذلك القول، (2) غير أنه قال:"المَشِيد"
بالتخفيف المعمول بالشِّيد، و"الشيد" الجِصُّ.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة:"المَشيد" و"المُشَيَّد"، أصلهما واحد،
غير أن ما شدِّد منه، فإنما يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع،
(3) مثل قولهم:"هذه ثياب مصبَّغة"، و"غنم مذبَّحة"، فشدد؛
لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله،"قصور مشيدة"، لأن
القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل:"بروج مشيدة"، ومنه
قوله:"وغَلَّقت الأبواب"، وكما يقال:"كسَّرت العودَ"، إذا
جعلته قطعًا، أي: قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف،
فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في
جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه:"هذا ثوب
مخرَّق" و"جلد مقطع"، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق.
وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، ولم يجيزوه إلا
بالتخفيف، وذلك نحو قولهم:"رأيت كبشًا مذبوحًا" ولا يجيزون
فيه:"مذَّبحًا"، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في
الثوب.
* * *
وقالوا: فلهذا قيل:"قصر مَشِيد"، لأنه واحد، فجعل بمنزلة
قولهم:
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 132.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون منهم"، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "فإنما يشدد لتردد الفعل فيه ... " غير ما في
المخطوطة، وهو ما أثبته وهو صواب المعنى المطابق للسياق.
(8/554)
أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ
مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
"كبش مذبوح". وقالوا: جائز في القصر أن
يقال:"قصر مشيَّد" بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا
يجوز ذلك في"كبش مذبوح"، لما ذكرنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}
قل أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه
من عند الله"، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة (2)
="يقولوا هذه من عند الله"، يعني: من قبل الله ومن تقديره (3)
="وإن تصبهم سيئة"، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو
وجراح وألم، (4) = يقولوا لك يا محمد: ="هذه من عندك"، بخطئك
التدبير.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ) .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9962 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعد وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي
العالية في قوله:
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 277.
(2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف: 514، 538
وانظر تفسير"الحسنة" فيما سلف 4: 203-206.
(3) انظر تفسير"عند" فيما سلف: 2: 500 / 7: 490، 495.
(4) انظر تفسير"سيئة" فيما سلف: 2: 281، 282، / 7: 482، 490 /
8: 254.
(8/555)
"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله
وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك"، قال: هذه في السراء
والضراء. (1)
9963 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9964 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك" فقرأ حتى بلغ:"وأرسلناك للناس رسولا"،
قال: إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعًا) فقرأ حتى بلغ:"وإن تصبهم سيئة"،
يقولوا:"هذه من عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء
النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر".
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"قل كل من عند الله"، قل،
يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة:"هذه من عند الله"،
وإذا أصابتهم سيئة:"هذه من عندك": = كل ذلك من عند الله، دوني
ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن
عنده الفَلُّ والهزيمة، (2) كما:-
9965 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن
__________
(1) الأثر: 9962 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9961.
(2) في المطبوعة: "القتل والهزيمة"، وفي المخطوطة: "العال
والهزيمة" غير منقوطة، ورجحت أن صوابها"الفل"، من قولهم: "فل
القوم يفلهم فلا.": هزمهم وكسرهم.
(8/556)
قتادة:"قل كل من عند الله"، النعم
والمصائب.
9966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"كل من عند الله"، النصر والهزيمة.
9967 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قل كل
من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا"، يقول:
الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما
السيئة فابتلاك بها.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فمال هؤلاء القوم"، (1)
فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا:"هذه من عند
الله"، وإن تصبهم سيئة يقولوا:"هذه من عندك" ="لا يكادون
يفقهون حديثًا"، يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به،
من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضرّ وشدة ورخاء، فمن عند
الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره،
ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته.
وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا
يملك شيئًا منها أحد غيره.
* * *
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن 1: 278: " (فمال) ، كثرت في
الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة ب"ما"، وأنها حرف في بعضه".
(8/557)
مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
القول في تأويل قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله
وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء
ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك
إحسانًا منه إليك = وأما قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"،
يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه ="فمن نفسك"، يعني:
بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك، (1) كما:-
9968 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك
من سيئة فمن نفسك"، أما"من نفسك"، فيقول: من ذنبك.
9969 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن
نفسك"، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله
صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا
عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه
أكثر.
9970 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما أصابك من حسنة فمن
الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول:"الحسنة"، ما فتح الله
عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح = و"السيئة"، ما
أصابه يوم أُحُد، أنْ شُجَّ في وجهه وكسرت رَبَاعيته.
__________
(1) انظر تفسير"الحسنة" فيما سلف: 555، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
وانظر تفسير"السيئة" فيما سلف: 555، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(8/558)
9971 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ما أصابك من
حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول: بذنبك = ثم
قال: كل من عند الله، النعم والمصيبات.
9972 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعد، وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي
العالية قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة
فمن نفسك"، قال: هذه في الحسنات والسيئات. (1)
9973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9974 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: عقوبةً بذنبك.
9975 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"،
بذنبك، كما قال لأهل أُحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [سورة آل عمران: 165] ،
بذنوبكم.
9976 - حدثني يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد،
عن أبي صالح في قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال:
بذنبك، وأنا قدّرتها عليك.
9977 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن
إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"ما أصابك من حسنة
فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، وأنا الذي قدّرتها
عليك.
__________
(1) انظر التعليق على الأثرين السالفين: 9961، 9962.
(8/559)
9978 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي
قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد، عن
أبي صالح بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول"مِن" في قوله:"ما
أصابك من حسنة" و"من سيئة"؟
* * *
قيل: اختلف في ذلك أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت"من" لأن"من" تحسن مع النفي،
مثل:"ما جاءني من أحد". (1) قال: ودخول الخبر بالفاء، لأن"ما"
بمنزلة"مَن". (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت"مِن" مع"ما"، كما تدخل على"إن"
في الجزاء، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك، تدخل مع"مَن"، إذا كانت
جزاء، فتقول العرب:"مَن يزرك مِن أحد فتكرمه"، كما تقول:"إن
يَزُرك من أحد فتكرمه". قال: وأدخلوها مع"ما" و"مَنْ"، ليعلم
بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف،
لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين، وذلك أن"ما" في
قوله:"ما أصابك من سيئة" رفع بقوله:"أصابك"، (3) فلو
حذفت"مِن"، رفع قوله:"أصابك""السيئةَ"، لأن معناه: إن تصبك
سيئة = فلم يجز حذف"مِن" لذلك، لأن الفعل الذي هو على"فعل"
أو"يفعل"، لا يرفع شيئين. (4) وجاز ذلك مع"مَن"، لأنها تشتبه
بالصفات، (5) وهي في موضع اسم. فأما"إن" فإن"مِن" تدخل معها
وتخرج، ولا تخرج مع"أيٍّ"، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب،
ودخلت مع"ما"، لأن الإعراب لا يظهر فيها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة
من"، وهو كلام لا معنى له البتة، صواب قراءته ما أثبت، ويعني
بدخول الفاء في الخبر قوله: "فمن الله" و"فمن نفسك".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ما أصابك من حسنة"، والسياق يقتضي
ذكر الأخرى كما أثبتها.
(4) "فعل" أو "يفعل"، يعني الماضي والمضارع.
(5) "الصفات"، حروف الجر، كما سلف مرارًا، فراجعه في فهارس
المصطلحات.
(8/560)
القول في تأويل قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ
لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وأرسلناك للناس رسولا"،
إنما جعلناك، يا محمد، رسولا بيننا وبين الخلق، تبلّغهم ما
أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى
من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردُّوا فعليها
="وكفى بالله" عليك وعليهم ="شهيدًا"، يقول: حسبك الله تعالى
ذكره، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه،
(1) وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه
لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك،
ومجازيهم ما عملوا من خير وشر، جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء
بإساءته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/561)
مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
القول في تأويل قوله: {مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) }
قال أبو جعفر: وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها
الناس، محمدًا فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا
أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم
عنه من شيء فمن نهيي، فلا يقولنَّ أحدكم:"إنما محمد بشر مثلنا
يريد أن يتفضَّل علينا"!
* * *
(8/561)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك،
يا محمد، فأعرض عنك، (1) فإنا لم نرسلك عليهم"حفيظًا"، يعني:
حافظًا لما يعملون محاسبًا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل
إليهم، وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين.
* * *
ونزلت هذه الآية، فيما ذكر، قبل أن يؤمر بالجهاد، كما:-
9979 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن
قول الله:"فما أرسلناك عليهم حفيظًا" قال: هذا أول ما بعثه،
قال: (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) [سورة الشورى: 48] . قال:
ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا
مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي
تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله:"ويقولون طاعة"، يعني:
الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا
الناس كخشية الله أو أشد خشية، يقولون لنبي الله صلى الله عليه
وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به
وتنهانا عنه ="وإذا برزوا من عندك"، يقول: فإذا خرجوا من عندك،
(2) يا محمد ="بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، يعني بذلك جل
ثناؤه: غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم.
وكل عمل عُمِل ليلا فقد"بُيِّت"، ومن ذلك"بيَّت" العدو، وهو
الوقوع
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 7: 326، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"برز" فيما سلف 5: 354 / 7: 324.
(8/562)
بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام: (1)
أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا، ... وَكَانُوا
أَتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ (2)
لأنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا، ... وَهَلْ يُنْكِحَ
الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ?! (3)
يعني بقوله:"فلم أرض ما بيتوا"، ليلا أي: ما أبرموه ليلا
وعزموا عليه،
ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ:
هَبَّتْ لِتَعْذُلَنِي مِنَ اللَّيْل اسْمَعِ! ... سَفَهًا
تُبَيِّتُكِ المَلامَةُ فَاهْجَعِي (4)
__________
(1) عبيدة بن همام، أخو بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، من
بني تميم، وظنه ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة"عبيدة بن همام
التغلبي"، وكلا، فهذا إسلامي، وذلك جاهلي! واستظهرت من
نسب"يعلى بن أمية" في جمهرة الأنساب: 217، وغيرها أنه"عبيدة بن
همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد
مناة بن تميم. وخبر هذا الشعر دال على أنه جاهلي، فقد ذكر
الجاحظ في الحيوان 4: 376 خبر هذه الأبيات، في خبر للنعمان بن
المنذر ومثالبه، وذلك أن أخاه المنذر بن المنذر خطب إلى عبيدة
بن همام، فرده أقبح الرد، وذكر الأبيات.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، الحيوان 4: 376، الكامل 2:
35، 106، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1: 263، ديوان الأسود بن
يعفر لنهشلي، أعشى بني نهشل، في ديوان الأعشين: 298، اللسان
(نكر) . وروى: "فقد طرقوني بشيء".
"طرقوني": أتوني ليلا. و"نكر" بضمتين، مثل"نكر" بضم فسكون:
الأمر المنكر الذي تنكره. والبيت يتممه الذي بعده.
(3) "الأيم" من النساء، التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا.
و"رجل أيم"، لا زوجة له. و"منذر" يعني: المنذر بن المنذر، أخا
النعمان بن المنذر. وقوله: "هل ينكح العبد حر لحر" أي: هل ينكح
الحر الذي ولدته الأحرار، عبدًا من العبيد، وذلك تعريض منه
بالمنذر وأخيه النعمان، الذي جعل امرأته ظئرًا لبعض ولد كسرى،
وسماه كسرى"عبدًا". وقوله: "حر لحر"، أي: حر قد ولدته الأحرار،
كما تقول: "هو كريم لكرام، وحر لأحرار"، اللام فيه للنسب، كأنه
قال: كريم ينسب إلى آباء كرام، وحر ينسب إلى آباه أحرار. وهذا
الذي قلته لا تجده في كتاب، فاحفظه.
وكان في المخطوطة: "لأنكح إليهم منذرًا"، وهو فاسد جدًا كما
ترى، وفيها أيضًا: "حر بحر"، والصواب ما أثبت.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، والخزانة 1: 153، والعيني
(بهامش الخزانة) 2: 536، وشرح شواهد المغني: 161، وغيرها. وكان
في المطبوعة: "بليل اسمع"، وهو خطأ، ومثله في المخطوطة: "بليل
اسمع"، ولكني أثبت رواية أبي عبيدة فهي أجود الروايات.
وقوله: "اسمع"، هذا قول امرأته أو أمه التي كانت تلومه على
الكرم والسخاء. ويعني بذلك أنها كانت تكثر من مقالة"اسمع،
واسمع مني". وقوله: "سفها"، أي باطلا وخفة عقل. وقوله"تبيتك
الملامة" ليس من معنى ما أراد الطبري، وإن كان الشراح قد فسروه
كذلك. وهو عندي من قولهم: "بات الرجل" إذا سهر، ومنه: "بت
أراعي النجوم"، أي سهرت أنظر إليها، فقوله: "تبيتك الملامة"،
أي تسهرك ملامتي وعتابي، يقول: سهرك المضني هذا من السفه،
فنامى واهجعي، فهو أروح لك!
فاستشهاد أبي عبيدة، والطبري على أثره، بهذا البيت، ليس في
تمام موضعه، وإن كان الأمر قريب بعضه من بعض.
(8/563)
يقول الله جل ثناؤه:"والله يكتب ما
يبيتون"، يعني بذلك جل ثناؤه: والله يكتب ما يغيِّرون من قولك
ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9980 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم
غير الذي تقول"، قال: يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم:
9981 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن
خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في
قوله:"بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيَّر أولئك ما
قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9982 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت
طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيّر أولئك ما قال النبي صلى
الله عليه وسلم.
9983 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت
طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون) ، قال: هؤلاء
المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله عليه وسلم
فأمرهم بأمر قالوا:"طاعة"، فإذا
(8/564)
خرجوا من عنده، غيّرت طائفة منهم ما يقول
النبي صلى الله عليه وسلم ="والله يكتب ما يبيتون"، يقول: ما
يقولون.
9984 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من
عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: يغيرون ما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
9985 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا
برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، وهم ناس كانوا
يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمنا بالله ورسوله"،
ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم، (1) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم
الله، فقال:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، يقول: يغيرون ما
قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9986 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بيت
طائفة منهم غير الذي تقول"، هم أهل النفاق.
* * *
وأما رفع"طاعة"، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول
وهو: أمرُك طاعة، أو: منا طاعة. (2) وأما قوله:"بيت طائفة"،
فإن"التاء" من"بيّت" تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة
والعراق وسائر القرأة، لأنها لام"فَعَّل".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا برزوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 378.
(8/565)
وكان بعض قرأة العراق يسكّنها، ثم يدغمها
في"الطاء"، لمقاربتها في المخرج (1) .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام، لأنها =
أعني"التاء" و"الطاء" = من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك، كان
ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزةٌ =
أعني الإدغام في ذلك = محكيّةٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه
وسلم:"فأعرض"، يا محمد، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك
فيما تأمرهم:"أمرك طاعة"، (2) فإذا برزوا من عندك خالفوا ما
أمرتهم به، وغيَّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من
الضلالة، وارض لهم بي منتقمًا منهم ="وتوكل" أنت يا محمد ="على
الله"، يقول: وفوِّض أنت أمرك إلى الله، وثق به في أمورك،
وولِّها إياه (3) ="وكفى بالله وكيلا"، يقول: وكفاك بالله =
أي: وحسبك بالله ="وكيلا"، أي: فيما يأمرك، ووليًّا لها،
ودافعًا عنك وناصرًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر معني القرآن للفراء 1: 379.
(2) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8:
88.
(3) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف: 7: 346.
(4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405.
(8/566)
أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
القول في تأويل قوله: {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أفلا يتدبرون القرآن"،
أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله،
فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي
أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف
أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض
بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه،
وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، كما:-
9987 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" أي: قول الله لا يختلف، وهو حق
ليس فيه باطل، وإنّ قول الناس يختلف.
9988 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن
القرآن لا يكذّب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل
الناس من أمرٍ، (1) فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم!
وقرأ:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا".
قال: فحقٌّ على المؤمن أن يقول:"كل من عند الله"، ويؤمن
بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض= وإذا جهل أمرًا ولم يعرف أن
يقول: (2) "الذي قال الله حق"، ويعرف أن الله تعالى لم يقل
قولا وينقضه، (3) ينبغي
__________
(1) في المطبوعة: "من أمره"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبت من
المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا جهل أمرًا" بإسقاط الواو، وهو
لا يستقيم. وهو معطوف على قوله: "فحق على المؤمن أن يقول ...
".
(3) في المطبوعة: "وينقض" والصواب من المخطوطة.
(8/567)
وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله. (1)
9989 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك قوله:"أفلا يتدبرون القرآن"، قال:"يتدبرون"،
النظر فيه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن
أو الخوف أذاعوا به"، وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم="أمرٌ من الأمن"، فالهاء
والميم في قوله:"وإذا جاءهم"، من ذكر الطائفة المبيتة= يقول جل
ثناؤه: وإذا جاءهم خبرٌ عن سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد
أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم="أو الخوف"، يقول: أو تخوّفهم
من عدوهم بإصابة عدوهم منهم="أذاعوا به"، يقول: أفشوه وبثّوه
في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتَى سرايا
رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) = و"الهاء" في قوله:"أذاعوا
به"، من ذكر"الأمر". وتأويله أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف
الذي جاءهم.
* * *
يقال منه:"أذاع فلان بهذا الخبر، وأذاعه"، ومنه قول أبي
الأسود:
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ
نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ (3)
__________
(1) في المطبوعة: "بحقية ما جاء من الله"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وقبل أمراء سرايا رسول الله" وفي المخطوطة:
"وقبل أمانا" وجر مع الميم شبه الراء، فاختلطت الكلمة، ورجحت
صواب قراءتها ما أثبت.
(3) ديوانه (في نفائس المخطوطات: 2) : 44، والأغاني 12: 305،
مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، اللسان (ذيع) ، من أبيات قالها
أبو الأسود الدؤلي لما خطب امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء
بنت زياد، فأسر أمرها إلى صديق له، فحدث الصديق ابن عم لها كان
يخطبها، فمشى ابن عمها إلى أهلها وسألهم أن يمنعوها من نكاحه،
ففعلوا، وضاروها حتى تزوجت ابن عمها، فقال أبو الأسود:
أَمِنْتُ امْرءَا فِي السَّرِّ لَمْ يَكُ حَازِمًا ...
ولكِنَّهُ فِي النُّصْحِ غَيْرُ مُرِيبِ
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ، حَتَّى كأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ
نَارٌ أُوقِدَتْ بِثُقوبِ
وَكُنْتَ مَتَى لَمْ تَرْعَ سِرَّكَ تَلْتَبِسْ ...
قَوَارِعُهُ مِنْ مُخْطِئٍ وَمُصِيبِ
فَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ ... وَمَا كُلُّ
مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلكِنْ إِذَا مَا اسْتُجْمِعَا عِنْدَ وَاحِدٍ، ... فَحُقَّ
لهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ
وهي أبيات حسان كما ترى، و"الثقوب": ما أثقبت به النار، أي
أوقدتها.
(8/568)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9990 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به"، يقول: سارعوا به وأفشوه.
9991 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف
أذاعوا به"، يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو
أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوَّهم أمرُهم.
9992 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءهم أمر من
الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: أفشوه وسعَوْا به. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "وشنعوا به"، والصواب من المخطوطة."سعى بفلان
إلى الوالي"، وشى به إليه، وهذا من مجازه: أي: مشى بالخبر حتى
يبلغ العدو، فكأنه وشى بالسرايا إلى عدوهم. وانظر التعليق
التالي رقم: 4.
(8/569)
9993 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو
الخوف أذاعوا به"، قال هذا في الأخبار، إذا غزت سريّة من
المسلمين تخبَّر الناس بينهم فقالوا (1) "أصاب المسلمون من
عدوهم كذا وكذا"،"وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا"، فأفشوه
بينهم، من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي
أخبرهم (2) = قال ابن جريج: قال ابن عباس قوله:"أذاعوا به"،
قال: أعلنوه وأفشوه.
9994 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أذاعوا به"، قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به، قوم:
إمّا منافقون، وإما آخرون ضعفوا. (3)
9995 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول:
أفشوه وسَعَوْا به، (4) وهم أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو ردوه"، الأمر الذي
نالهم من عدوهم [والمسلمين] ، إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإلى أولي أمرهم (5) = يعني:
__________
(1) في المطبوعة: إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها"
غير ما في المخطوطة إذ لم يفهمه! وقوله: "تخبر الناس بينهم"،
أي تساءلوا عن أخبارهم بينهم: يقال: "تخبر الخبر واستخبر"، إذا
سأل عن الأخبار ليعرفها.
(2) في المطبوعة: "هو الذي يخبرهم به"، لا أدري لم غير ما في
المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وإما آخرون ضعفاء" وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "وشنعوا به" كما سلف في ص569 تعليق: 1.
(5) قوله: "والمسلمين" هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم أدر ما
هو، فتركته على حاله، ووضعته بين القوسين، وأخشى أن يكون سقط
من الكلام شيء. وبحذف ما بين القوسين يستقيم الكلام على وجهه.
(8/570)
وإلى أمرائهم = وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم
من الخبر، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذو
وأمرهم، هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك، (1) بعد أن ثبتت عندهم
صحته أو بطوله، (2) فيصححوه إن كان صحيحًا، أو يبطلوه إن كان
باطلا ="لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، يقول: لعلم حقيقة ذلك
الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه ويستخرجونه ="منهم"،
يعني: أولي الأمر ="والهاء""والميم" في قوله:"منهم"، من ذكر
أولي الأمر = يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه.
* * *
وكل مستخرج شيئًا كان مستترًا عن أبصار العيون أو عن معارف
القلوب، فهو له:"مستنبط"، يقال:"استنبطت الركية"، (3) إذا
استخرجت ماءها،"ونَبَطتها أنبطها"، و"النَّبَط"، الماء
المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر: (4)
قَرِيبٌ ثَرَاهُ، ما يَنَالُ عَدُوُّه ... لَهُ نَبَطًا، آبِي
الهَوَانِ قَطُوبُ (5)
يعني: ب"النبط"، الماء المستنبط.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "هم الذين يقولون الخبر عن ذلك"
وهو كلام مريض، صوابه ما أثبت، وهو تصحيف ناسخ.
(2) في المطبوعة: "ثبتت عندهم" أساء قراءة المخطوطة، لأنها غير
منقوطة. و"البطول" مصدر"بطل الشيء" ومثله"البطلان".
(3) "الركية": البئر تحفر.
(4) هو كعب بن سعد الغنوي، أو: غريقة بن مسافع العبسي، وانظر
تفصيل ذلك في التعليق على الأصمعيات، وتخريج الشعر هناك.
(5) الأصمعيات: 103، وتخريجه هناك. وقوله: "قريب الثرى"،
يريدون كرمه وخيره. و"الثرى": التراب الندي، كأنه خصيب الجناب.
وقوله: "ما ينال عدوه له نبطًا"، أي لا يرد ماءه عدو، من عزه
ومنعته، / إذا حمى أرضًا رهب عدوه بأسه."آبى الهوان" لا يقيم
على ذل. و"قطوب": عبوس عند الشر
(8/571)
9996 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به
="لعلمه الذين يستنبطونه"، يعني: عن الأخبار، وهم الذين
يُنَقِّرون عن الأخبار.
9997 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: إلى
علمائهم = (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ، لعلمه الذين يفحصون
عنه ويهمّهم ذلك. (1)
9998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ولو ردوه إلى الرسول"، حتى يكون هو الذي يخبرهم
="وإلى أولي الأمر منهم"، الفقه في الدين والعقل. (2)
9999 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم"، العلم (3) ="الذين يستنبطونه منهم"،
يتتبعونه ويتحسسونه.
10000 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث،
عن مجاهد:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، قال: الذين يسألون عنه
ويتحسسونه.
10001 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) في المخطوطة: "يفصحون عنه"، وهو تصحيف، قدم وأخر.
(2) في المطبوعة: "أولى الفقه" زاد"أولى"، والذي في المخطوطة
صواب أيضًا، على طريقة قدماء المفسرين في الاختصار، كما سلف
آلافًا من المرات.
(3) في المطبوعة: "لعلمه" مكان"العلم"، والذي في المخطوطة
صواب، كما سلف في التعليق السابق، وهو طريقتهم في الاختصار،
ويعني"أولي العلم".
(8/572)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
قوله:"يستنبطونه"، قال: قولهم:"ما كان"؟ "ماذا سمعتم"؟
10002 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10003 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية:"الذين يستنبطونه"، قال: يتحسسونه.
10004 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلمه الذين يستنبطونه
منهم"، يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم.
10005 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله:"يستنبطونه منهم"، قال، يتتبعونه.
10006 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" حتى
بلغ"وإلى أولي الأمر منهم"، قال: الولاة الذين يَلُون في الحرب
عليهم، (1) الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر: أصدق،
أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب،
وقرأ:"أذاعوا به"، ولو فعلوا غير هذا: وردوه إلى الله وإلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذين يكونون في الحرب عليهم"، لم يحسن
قراءة المخطوطة، فغير وبدل.
(8/573)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلا قَلِيلا (83) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم،
أيها المؤمنون، بفضله وتوفيقه ورحمته، (1) فأنقذكم مما ابتلى
به هؤلاء المنافقين = الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أمرهم بأمر:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيت طائفة
منهم غير الذي يقول = لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا
كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
وخاطب بقوله تعالى ذكره:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم
الشيطان"، الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعًا) [سورة النساء: 71] .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القليل"، الذين استثناهم في هذه
الآية: من هم؟ ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟
فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر، استثناهم من
قوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، ونفى عنهم أن يعلموا
بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد
عليهم من الأمن أو الخوف. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف: 535، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، ويعني أن الاستثناء
من"الاستنباط" لا من"الإذاعة".
(8/574)
عن قتادة قال: إنما هو:"لعلمه الذين
يستنبطونه منهم" = إلا قليلا منهم ="ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان".
10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته
لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، يقول: لاتبعتم الشيطان كلّكم =
وأما قوله:"إلا قليلا"، فهو كقوله:"لعلمه الذين يستنبطونه
منهم"، إلا قليلا.
10009 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك قراءة، عن سعيد، عن قتادة:"ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، قال يقول: لاتبعتم الشيطان
كلكم. وأما"إلا قليلا "، فهو كقوله: لعلمه الذين يستنبطونه
منهم إلا قليلا.
10010 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج نحوه = يعني نحو قول قتادة = وقال: لعلموه إلا قليلا.
وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول
الله صلى الله عليه وسلم:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير
الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف
أذاعوا به = إلا قليلا منهم.
*ذكر من قال ذلك:
10011 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولولا فضل الله
عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، فهو في أول الآية
لخبر المنافقين، قال:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به"، يعني بـ "القليل"، المؤمنين، [كقوله تعالى: (الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ
(8/575)
عِوَجَا قَيِّمًا) [سورة الكهف: 221] يقول
الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيّما، ولم يجعل له عوجًا.
(1)
10012 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هذه
الآية مقدَّمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلا منهم،
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله:"لاتبعتم الشيطان".
وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الآخرون
همّوا به من اتباع الشيطان. فعرَّف الله الذين أنقذهم من ذلك
موقع نعمته منهم، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما
كان من الآخرين.
*ذكر من قال ذلك:
10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: في
قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا"، قال: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حدّثوا
أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم
الشيطان جميعًا.
__________
(1) الأثر: 10011- نص هذا الأثر في المطبوعة: "ولولا فضل الله
عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان- فانقطع الكلام، وقوله: "إلا
قليلا"، فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: وإذا جاءهم
أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به- إلا قليلا. يعني بالقليل
المؤمنين كقول الحمد لله ... " إلى آخر الأثر. وهو منقول من
الدر المنثور 2: 187. أما في المخطوطة، فهو كمثل الذي أثبته،
إلا أنه قال في آخره: "يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا
قيما ... " إلى آخر الكلام.
وقد رجحت أن الذي في المخطوطة من صدر الكلام هو الصواب، وأن
آخر الخبر قد سقط منه ذكر نص الآية من سورة الكهف، فأثبتها بين
الكلامين.
وقوله: "فهو في أول الآية لخبر المنافقين"، يعني أنه مردود إلى
أول الآية في خبرهم. ثم عقب على ذلك بذكر آية سورة الكهف، وبين
ما فيها من التقديم والتأخير. وكأن الذي رجحت هو الصواب.
(8/576)
قالوا: وقوله:"إلا قليلا"، خرج مخرج
الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والإحاطة، وأنه لولا
فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة، فجعل قوله:"إلا
قليلا"، دليلا على الإحاطة، (1) واستشهدوا على ذلك بقول
الطرِمّاح بن حكيم، في مدح يزيد بن المهلب:
أَشَمُّ كَثِيرُ يُدِيِّ النَّوَالِ، ... قَلِيلُ المَثَالِبِ
وَالقَادِحَةْ (2)
قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب،
ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلا
بأنّ فيه معايب، وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة، فإنما
ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب
عنه. قالوا: فكذلك قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، إنما
معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من
قال: عنى باستثناء"القليل" من"الإذاعة"، وقال: معنى الكلام:
وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو
ردوه إلى الرسول.
* * *
وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب، لأنه لا يخلو القولُ في ذلك
من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من
قوله:"لاتبعتم الشيطان"، لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته،
فغير جائز أن يكون من تُبَّاع الشيطان.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في معنى"القليل" فيما سلف 2: 331 / 8: 439،
وما كتبته في الجزء الأول: 554، تعليق: 1.
(2) ديوانه: 139."الأشم": السيد ذو الأنفة والكبرياء،
من"الشمم" وهو ارتفاع في قصبة الأنف، مع استواء أعلاه، وإشراف
الأرنبة قليلا. وهو من صفات الكرم والعتق. وقوله"يدي" (بضم
الياء وكسر الدال، والياء المشددة) أو (بفتح الياء وكسر الدال
وتشديد الياء) ، جمع"يد" الأول جمعها على وزن"فعول"، مثل فلس
وفلوس، والثاني جمعها على وزن"فعيل" مثل عبد وعبيد. كأنه قال:
كثير أيدي النوال. وفي ديوانه: "يدي" بفتح الياء والدال وهو
خطأ. وفي المخطوطة: "برى النوادي"، وهو خطأ لا معنى له.
و"المثالب" جمع"مثلبة"، وهي العيوب الجارحة. و"القادحة" يعني
بها: العيوب التي تقدح في أصله وخلائقه، سماها بالقادحة، وهي
الدودة التي تأكل الأسنان، أو الأشجار، ووضعها اسما للجمع.
(8/577)
وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير
الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل
ذلك على الأغلب من كلام العرب، سبيل، فنوجِّهه إلى المعنى الذي
وجهه إليه القائلون (1) "معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعًا"،
ثم زعم أن قوله:"إلا قليلا"، دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع
خروجه من تأويل أهل التأويل. (2)
* * *
وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله:"لعلمه الذين
يستنبطونه منهم"، لأن علم ذلك إذا رُدَّ إلى الرسول وإلى أولي
الأمر منهم، فبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر
منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كلّ مستنبطٍ حقيقتَه،
(3) فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم، وخصوص بعضهم بعلمه،
مع استواء جميعهم في علمه.
وإذْ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخَل هذه الأقوال
الثلاثة ما بيّنا من الخلل، (4) فبيِّنٌ أن الصحيح من القول في
ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء
من"الإذاعة". (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فتوجيهه إلى المعنى"، كأنه ابتداء كلام، وهو
فساد في القول، والصواب ما في المخطوطة. ومن أجل هذا الخطأ في
قراءة المخطوطة، زاد الناشر: "لا وجه له" كما سترى في التعليق
التالي. وهو عمل غير حسن.
(2) في المطبوعة: " ... من تأويل أهل التأويل، لا وجه له"،
فحذفت هذه الكلمة التي زادها الناشر، ليستقيم له قراءة الكلام.
وانظر التعليق السالف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كل مستنبط حقيقة"، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "فدخل"، ولا معنى للفاء هنا،
والصواب ما أثبته.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، 280.
(8/578)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84)
}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "فقاتل في سبيل الله
لا تكلف إلا نفسك"، فجاهد، يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك
به ="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام،
وقاتلهم فيه بنفسك. (2)
* * *
فأما قوله:" لا تكلف إلا نفسك" فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما
فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما
حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما
اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك. (3)
* * *
ثم قال له:"وحرض المؤمنين"، يعني: وحضهم على قتال من أمرتك
بقتالهم معك ="عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا"، يقول: لعل
الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك،
عنك وعنهم، ونكايتهم. (4)
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"عسى" من الله واجبة، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق ما
أثبت.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 8: 3470، 546، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"التكليف" فيما سلف 5: 45.
(4) سياق الكلام"أن يكف ... عنك وعنهم" ثم عطف"ونكايتهم" على
قوله: "قتال من كفر بالله".
(5) لم أجد هذا الموضع الذي أشار الطبري، وأخشى أن لا يكون مضى
شيء من ذلك، وأنه قد وهم.
(8/579)
مَنْ يَشْفَعْ
شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
="والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا"، يقول:
والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به = منهم فيك يا محمد
وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، (1) فإني راصِدُهم
بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم،
وأعلي الحق عليهم.
و"التنكيل" مصدر من قول القائل:"نكلت بفلان"، فأنا أنكّل به
تنكيلا"، إذا أوجعته عقوبة، (2) كما:-
10014 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، قوله:"وأشد تنكيلا"، أي عقوبة.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً
سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له
نصيب منها"، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم
في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو"الشفاعة الحسنة" (3)
="يكن له نصيب منها"، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو
الحظ (4) - من ثواب الله وجزيل كرامته ="ومن يشفع شفاعة سيئة،
يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على
__________
(1) "نكل عن الشيء": أحجم وارتد عنه من الفرق. والمعنى: أشد
نكاية في عدوه ... من نكاية عدوه فيك يا محمد.
(2) انظر تفسير"النكال" و"التنكيل" فيما سلف 2: 176، 177.
(3) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 2: 31، 32 / 5: 382- 384،
395.
(4) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 472، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(8/580)
المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك
هو"الشفاعة السيئة" ="يكن له كِفل منها".
يعني: بـ "الكفل"، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ
من"كِفل البعير والمركب"، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه
بالسرج على الدابة. يقال منه:"جاء فلان مكتَفِلا"، إذا جاء على
مركب قد وطِّئَ له -على ما بيّنا- لركوبه. (1)
* * *
وقد قيل إنه عنى بقوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"
الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية
نزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر.
* * *
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية
التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على
القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة
الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد.
ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
10015 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له
نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة"، قال: شفاعة بعض الناس لبعض.
10016 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10017 - حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن
قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله
يقول:
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135.
(8/581)
"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"،
ولم يقل"يشفَّع". (1)
10018 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن
الحسن قال:"من يشفع شفاعة حسنة"، كتب له أجرها ما جَرَت
منفعتها.
10019 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن
قول الله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، قال: الشفاعة
الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها
شريكان="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، قال: هما
شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين.
ذكر من قال:"الكفل": النصيب.
10020 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، أي حظ
منها="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، و"الكفل" هو
الإثم.
10021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يكن له كفل منها"، أما"الكفل"،
فالحظ.
10022 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يكن له كفل منها"، قال: حظ
منها، فبئس الحظ.
10023 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
__________
(1) الأثر: 10016- كان في المطبوعة: "كان له أجرها وإن لم
يشفع، لأن الله يقول:.." وهو نص ما في الدر المنثور 2: 187.
وأثبت ما في المخطوطة. والظاهر أنه تصرف من السيوطي، وتبعه
ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في المخطوطة، إلا أنه ينبغي
أن تقرأ"يشفع" الأولى في قول الحسن مشددة الفاء بالبناء
للمجهول. ويعني الحسن: أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان
له أجران، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه، وأجر آخر هو مثل
أجر المشفوع إليه في فعله ما فعل من الخير.
(8/582)
"الكفل" و"النصيب" واحد. وقرأ: (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [سورة الحديد: 8] .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتًا (85) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وكان الله على
كل شيء مقيتًا".
فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.
*ذكر من قال ذلك:
10024 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"
يقول: حفيظًا.
10025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مقيتًا" شهيدًا.
10026 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه
مجاهد، عن مجاهد مثله.
10027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"مقيتًا" قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.
10028 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن
شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج:"وكان الله
على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الحسيب.
* * *
(8/583)
وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء
بالتدبير.
*ذكر من قال ذلك:
10029 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"وكان الله على كل شيء
مقيتًا"، قال:"المقيت"، الواصب. (1)
وقال آخرون: هو القدير.
*ذكر من قال ذلك:
10030 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"،
أما"المقيت"، فالقدير.
10031 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" قال: على كل شيء
قديرًا،"المقيت" القدير.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال:
معنى"المقيت"، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة
قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (2)
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى
مَسَاءتِهِ مُقِيتَا (3)
أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) يقال: "وصب الرجل على ماله يصب" (مثل: وعد يعد) : إذا لزمه
وأحسن القيام عليه.
(2) لم أجده للزبير، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة، مرفوع
القافية في طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 243، ومراجعه هناك.
ونسبه في الدر المنثور 2: 187، 188 إلى أحيحة ابن الجلاح
الأنصاري.
(3) اللسان (قوت) ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 242، 243
والتعليق عليه هناك.
(8/584)
10032 -"كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من
يُقيت". (1)
في رواية من رواها:"يُقيت"، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه
من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال= منه."أقات فلان الشيء
يقتيه إقاتة" و"قاته يقوته قياتةً وقُوتًا"، و"القوت" الاسم.
وأما"المقيت" في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه: (2)
لَيْتَ شِعْرِي، وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا
مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ (3) ! أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ
إذا حُوسِبْتُ? ... إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ (4)
= فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى.
(5)
* * *
__________
(1) الحديث: 10032- رواه أحمد في مسنده، من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاص رقم: 6495، 6819، 6828، 6842، والحاكم في
المستدرك 1: 415، وهو حديث صحيح، وروايته"يقوت".
(2) هو السموأل بن عادياء اليهودي.
(3) ديوانه: 13، 14، والأصمعيات: 85، ومجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 135، وطبقات فحول الشعراء للجمحي: 236، 237، اللسان (قوت)
وغيرها. وقوله: "ليت شعري": أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله:
"وأشعرن" استفهام، أي: وهل أشعرن. وقوله: "قربوها منشورة"
يعني: صحف أعماله يوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي البيت
روايات أخر.
(4) يعني بالفضل: الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله."أم
على": أم على الإثم المستحق للعقوبة.
(5) هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر، هو قول أبي عبيدة، وهو
أحسن ما قيل في معنى"المقيت" في هذا البيت. وانظر اعتراض
المعترضين على البيت، واختلافهم في تفسيره في مادة (قوت) من
لسان العرب.
(8/585)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، إذا
دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. (1) ="فحيوا بأحسن منها
أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا
لكم="أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ
به المُحَّيي، والتي هي مثلها.
فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا
قيل:"السلام عليكم"،:"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على
دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل
له، (2) أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي
دعا له. (3)
*ذكر من قال ذلك:
10033 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو
ردوها"، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت:"وعليك السلام ورحمة
الله"، أو تقطع إلى"السلام عليك"، كما قال لك.
10034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) وذلك لأن معنى"التحية": البقاء والسلامة من الآفات.
(2) في المخطوطة، مكان قوله: "كما قيل له"="قال قيل له"، ولا
أدري ما هو، وتصرف الطابع الأول لا بأس به.
(3) في المطبوعة: "فيدعو الداعي له"، والصواب من المخطوطة،
ولكن أوقعه في الخطأ، أن الناسخ كتب: "فيدعوا" بالألف بعد
الواو.
(8/586)
عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: في أهل الإسلام.
10035 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء قال: في أهل
الإسلام.
10036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي
إسحاق، عن شريح أنه كان يرد:"السلام عليكم"، كما يسلم عليه.
10037 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل
بن أبي خالد، عن إبراهيم أنه كان يرد:"السلام عليكم ورحمة
الله".
10038 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن
ابن عمر: أنه كان يرد:"وعليكم".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام، أو
ردوها على أهل الكفر.
*ذكر من قال ذلك:
10039 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا
حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن
ابن عباس قال: من سلَّم عليك من خلق الله، فاردُدْ عليه وإن
كان مجوسيًّا، فإن الله يقول:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن
منها أو ردوها".
10040 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها"، للمسلمين="أو ردوها"، على أهل الكتاب.
10041 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
(8/587)
عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها"، للمسلمين=" أو ردوها"، على أهل الكتاب.
10042 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، يقول:
حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين="أو ردوها"، أي: على أهل
الكتاب.
10043 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في
قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: قال
أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها، وإذا
حياه غير أهل الإسلام، أن يرد عليه مثل ما قال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك
في أهل الإسلام، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم
إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصِّحاح من
الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم
ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ
الأحسن والمثل في هذه الآية، من غير تمييز منه بين المستوجب
ردَّ الأحسن من تحيته عليه، والمردودِ عليه مثلها، بدلالة يعلم
بها صحة قولُ من قال:"عنى برد الأحسن: المسلم، وبرد المثل: أهل
الكفر".
والصواب= إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك، ولا صحة أثر
لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم (1) = أن يكون الخيار في
ذلك إلى المسلَّم عليه: بين رد الأحسن، أو المثل، إلا في
الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي
عن رد الأحسن
__________
(1) في المطبوعة: "ولا بصحته أثر لازم"، وفي المخطوطة: "ولا
بصحة أثر لازم"، وكلتاهما غير مستقيمة، فرجحت أن يكون ما أثبت
أقرب إلى حق السياق.
(8/588)
من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن
يقال:"وعليكم"، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلَّم
عليه منهم في الردّ من الخيار، ما جعل الله له من ذلك.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو
الذي قلنا، خَبَرٌ. وذلك ما:-
10044 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا عبد الله بن
السري الأنطاكي قال، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن
أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال:
وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله
ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم
جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي،
أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت
عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله:"وإذا حييتم بتحية
فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، فرددناها عليك. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 10044- عبد الله بن السري المدائني الأنطاكي:
ضعيف، وكان رجلا صالحًا، كما قالوا. وقال أبو نعيم: "يروى
المناكير، لا شيء". وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: "روى عن
أبي عمران العجائب التي لا يشك أنها موضوعة". مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 78. ولكنه لم ينفرد برواية هذا
الحديث عن هشام بن لاحق، كما سيأتي.
هشام بن لاحق، أبو عثمان المدائني: مختلف فيه، قال أحمد: "يحدث
عن عاصم الأحول، وكتبنا عنه أحاديث، لم يكن به بأس، ورفع عن
عاصم أحاديث لم ترفع، أسندها هو إلى سلمان". وأنكر عليه شبابة
حديثًا. وهذا خلاصة ما في ترجمته عند البخاري في الكبير 4 / 2
/ 200- 201، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 69- 70. وفي لسان الميزان
أن النسائي قواه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات وفي الضعفاء.
وقال ابن عدي: "أحاديثه حسان، وأرجو أنه لا بأس به". فيبدو من
كل هذا أن الكلام فيه ليس مرجعه الشك في صدقه، بل إلى وهم أو
خطأ منه- فالظاهر أنه حسن الحديث.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 526- 527، عن هذا الموضع من الطبري.
ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه رواه معلقًا من طريق عبد الله بن
السري الأنطاكي، بهذا الإسناد، مثله.
ثم قال ابن كثير: "ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي
بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا
هشام بن لاحق أبو عثمان -فذكر مثله. ولم أره في المسند".
وهو كما قال ابن كثير، ليس في المسند.
ولكن السيوطي ذكره في الدر المنثور 2: 188، وأنه رواه أحمد"في
الزهد". وزاد نسبته أيضًا لابن المنذر، والطبراني، وأنه"بسند
حسن".
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 33، وقال: "رواه
الطبراني. وفيه هشام بن لاحق، قواه النسائي، وترك أحمد حديثه،
وبقية رجاله رجال الصحيح".
وإطلاقه أن أحمد ترك حديث هشام- ليس بجيد، فإن النص الثابت عن
أحمد عند البخاري وابن أبي حاتم، لا يدل على ذلك.
(8/589)
فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر
الله به في كتابه؟
قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين.
*ذكر من قال ذلك:
10045 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن
عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه، قوله:"وإذا حييتم بتحية
فحيوا بأحسن منها أو ردوها". (1)
10046 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: السلام: تطوُّع،
والرد فريضة.
* * *
__________
(1) أي: يوجب رد السلام.
(8/590)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما
تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا
عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، كما:-
10047 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حسيبًا"، قال: حفيظًا.
10048 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل"الحسيب" في هذا الموضع عندي،"فعيل" من"الحساب" الذي هو في
معنى الإحصاء، (1) يقال منه:"حاسبت فلانًا على كذا وكذا"،
و"فلان حاسِبُه على كذا"، و"هو حسيبه"، وذلك إذا كان صاحبَ
حِسابه.
* * *
وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة: أن معنى"الحسيب" في هذا
الموضع، الكافي. يقال منه:"أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا"،
بمعنى كفاني، من قولهم:"حسبي كذا وكذا". (2)
وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في"أحسبني الشيء"،
(3)
__________
(1) انظر تفسير"الحسيب" فيما سلف 7: 596، 597. =
وتفسير"الحساب" فيما سلف 4: 207، 274، 275 / 6: 279.
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 135، وانظر ما سلف 7: 596،
597.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت"، والصواب"أحسبني" كما دل
عليه السياق.
(8/591)
"أحسبَ على الشيء، فهو حسيب عليه"، (1)
وإنما يقال:"هو حَسْبه وحسيبه"= والله يقول:"إن الله كان على
كل شيء حسيبًا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت على الشيء"، والصواب ما
أثبت.
(8/592)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
القول في تأويل قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ
إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الله لا إله إلا هو
ليجمعنكم"، المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له، (1) هو الذي
له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع. (2)
* * *
وقوله:"ليجمعنكم إلى يوم القيامة"، يقول: ليبعثنَّكم من بعد
مماتكم، وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس
فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته، وأهل الإيمان
به والكفر (3) ="لا ريب فيه"، (4) يقول: لا شك في حقيقة ما
أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة
بعد مماتكم (5) ="ومن أصدق من الله حديثًا"، يعني بذلك:
فاعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم
القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا
تشكوا في صحته ولا تمتروا في حقيقته، (6)
__________
(1) انظر ما كتب عن"العبودة" فيما سلف 6: 271، تعليق: 1 404،
تعليق 2 / 549، تعليق: 2 / 565، تعليق: 2.
(2) انظر تفسير"لا إله إلا هو" فيما سلف 6: 149.
(3) انظر تفسير"القيامة" فيما سلف 2: 518.
(4) انظر تفسير"لا ريب فيه" 1: 228، 378 / 6: 221، 294، 295.
(5) في المطبوعة: "أي جامعكم"، أساء قراءة المخطوطة.
(6) في المطبوعة: "في حقيته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/592)
فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي
الصدق الذي لا خُلْف له-"ومن أصدق من الله حديثًا"، يقول: وأي
ناطق أصدق من الله حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب
بكذبه إلى نفسه نفعًا، أو يدفع به عنها ضرًّا. والله تعالى
ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا
يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه أو دفع ضر عنها [داعٍ. وما من
أحدٍ لا يدعوه داعٍ إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضر عنها]
، سواه تعالى ذكره، (1) فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه
نظيرًا، [فقال] :"ومن أصدق من الله حديثًا"، وخبرًا.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين على ما جاء في المطبوعة، لأنه حق
الكلام. فإن أبا جعفر قدم الحجة الأولى في الجملة السابقة،
للبيان عن استحالة الكذب على الله سبحانه وتعالى. ثم أتبع ذلك
بالبيان عن معنى استعمال التفضيل في قوله تعالى: "ومن أصدق من
الله حديثًا"، وبين أنه ليس لله سبحانه وتعالى نظير في ذلك.
وكان في المطبوعة، كما أثبته، خلا ما بين القوسين وهو كلام غير
مستقيم. أما المخطوطة، فقد كان فيها ما نصه: "لأنه لا يدعوه
إلى اجتلاب نفع ولا دفع ضر عن نفسه أو دفع ضر عنها؛ سواه تعالى
ذكره، فيجوز أن يكون ... " وهو كلام مختلط دال على إسقاط
الناسخ من كلام أبي جعفر. فاجتهدت في وضع هذه الزيادة التي
أثبتها، ليستقيم الكلام على وجه يصح. وزدت أيضًا"فقال" بين
قوسين، لحاجة الكلام إليها.
(8/593)
فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
القول في تأويل قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا
كَسَبُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فما لكم في المنافقين
فئتين"، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين
مختلفتين (1) ="والله أركسَهم بما كسبوا"، يعني بذلك: والله
رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم.
* * *
و"الإركاس"، الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ، إِنَّهُمُ ... كَانُوا
عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا (2)
يقال منه:"أرْكَسهم" و"رَكَسَهم".
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: (وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ)
، بغير"ألف". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"فئة" فيما سلف 5: 352، 353 / 6: 230.
(2) ديوانه: 36، وليس هذا البيت بنصه هذا في الديوان، بل جاء
في شعر من بحر آخر، هو: أُرْكِسُوا فِي جَهَنَّمٍ، أَنَّهُمْ
كَانُوا ... عُتَاةً تَقُولُ إفْكًا وَزُورَا
ولم أجده برواية أبي جعفر في مكان آخر.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 281 = ثم انظر تفسير"أركسهم"
فيما يلي ص: 15، 16
(8/7)
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه
الآية.
فقال بعضهم:نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام
ولأصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ) [سورة آل
عمران: 167] .
*ذكر من قال ذلك:
10049- حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال: حدثنا أبو داود، عن
شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري
يحدّث، عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج
إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله
عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول:"نقتلهم"، وفرقة تقول:"لا".
فنزلت هذه الآية:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما
كسبوا أتريدون أن تهدوا" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المدينة: إنها طَيْبَة، وإنها تَنْفي خَبَثها كما تنفي
النار خبثَ الفِضَّة. (1)
10050- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا شعبة،
عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. (2)
10051- حدثني زريق بن السخت قال، حدثنا شبابة، عن عدي بن ثابت،
عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: ذكروا المنافقين عند
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فريق:"نقتلهم"، وقال فريق:"لا
نقتلهم". فأنزل
__________
(1) الحديث: 10049 - الفضل بن زياد الواسطي: لا أدري من هو؟
والترجمة الوحيدة التي وجدتها بهذا الاسم هي"الفضل بن زياد
الطساس البغدادي". وهو من هذه الطبقة. فلعله هو. مترجم في
الجرح 3 / 2 / 62. وتاريخ بغداد 12: 360. وله ترجمة غير محررة،
في لسان الميزان 4: 441.
أبو داود: هو الطيالسي.
وقد روى الطبري هذا الحديث بثلاثة أسانيد، سيأتي تخريجه في
آخرها، إن شاء الله.
(2) الحديث: 10050 - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة.
(8/8)
الله تبارك وتعالى:"فما لكم في المنافقين
فئتين" إلى آخر الآية (1)
وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا
للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك.
*ذكر من قال ذلك:
10052- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما لكم في المنافقين فئتين"، قال:
قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم
ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا
__________
(1) الحديث: 10051 - زريق- بتقديم الزاي - بن السخت، شيخ
الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في المشتبه للذهبي، ص:
222، قال: "زريق بن السخت، عن إسحاق الأزرق. وهو الصحيح، ويقال
بتقديم الراء".
شبابة: هو ابن سوار. مضت ترجمته في: 37.
ويجب أن يكون هنا سقط في الإسناد، بين شبابة وعدي بن ثابت، لأن
شبابة بن سوار مات سنة 204 أو 205، أو 206، وهو الذي جزم به
البخاري في الصغير، ص: 228. وعدي بن ثابت مات سنة 116، فبينهما
90 سنة. والظاهر أنه سقط من الإسناد هنا [عن شعبة] .
عدي بن ثابت الأنصاري: ثقة معروف. أخرج له الجماعة. وهو ابن
بنت عبد الله بن يزيد - شيخه في هذا الإسناد.
عبد الله بن يزيد الخطمي - بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء
المهملة: صحابي معروف، شهد الحديبية صغيرا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند 5: 184، عن بهز، عن شعبة،
كالرواية الأولى هنا المطولة: 10049.
وكذلك رواه البخاري 4: 83، و7: 275، و 8: 193 - من طريق شعبة،
به. ورواه مسلم 1: 389 - 390، من طريق شعبة أيضا، ولكنه روى
آخره: "إنها طيبة ... " فقط.
وذكره ابن كثير 2: 529، من رواية المسند. ثم قال: "أخرجاه في
الصحيحين من طريق شعبة".
وذكره السيوطي 2: 189-190، وزاد نسبته للطيالسي، وابن أبي
شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، وابن
أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الدلائل.
وليس في مسند الطيالسي المطبوع، لأنه ناقص كما هو معروف.
(8/9)
النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا
ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل
يقول:"هم منافقون"، وقائل يقول:"هم مؤمنون". فبين الله نفاقهم
فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن
عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، (1) وبينه وبين النبي صلى
الله عليه وسلم حلف= وهو الذي حَصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو
يُقاتل قومه، فدفع عنهم= بأنهم يَؤُمُّون هلالا (2) وبينه وبين
النبي صلى الله عليه وسلم عهد.
10053- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله بنحوه= غير أنه قال: فبيّن الله
نفاقهم، وأمر بقتالهم، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم
يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم حِلْف. (3)
* * *
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا
الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
10054- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فما لكم في المنافقين
فئتين"، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا
يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن
لقينا أصحابَ محمد"عليه السلام"، فليس علينا منهم بأس! وأن
المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من
__________
(1) أسقط المطبوعة: "علي بن عويمر، أو: " وساق الخبر"فلقيهم
هلال.." وأثبته من المخطوطة. والأثر التالي من رواية أبي جعفر،
هو الذي فيه إسقاط علي بن عويمر" من الخبر.
(2) في المطبوعة: "يؤمنون هلالا"، والصواب من المخطوطة والدر
المنثور 2: 190
(3) الأثران: 10052، 10053 - انظر الأثر التالي: 10071.
(8/10)
المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم،
فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان
الله = أو كما قالوا =، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما
تكلَّمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تستحلّ
دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه السلام
عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت:"فما لكم في
المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من
أضل الله"، الآية.
10055- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين" الآية،، ذكر لنا
أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد
تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال
بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم: لا يحلُّ لكم!
فتشاجروا فيهما، فأنزل الله في ذلك:"فما لكم في المنافقين
فئتين والله أركسهم بما كسبوا" حتى بلغ"ولو شاء الله لسلَّطهم
عليكم فلقاتلوكم".
10056- حدثنا القاسم قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد
قال: بلغني أنّ ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم، فاختلف
فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال! وقالت طائفة: دماؤهم
حرام! فأنزل الله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم
بما كسبوا".
* * *
10057- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فما لكم
في المنافقين فئتين"، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله
عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف
فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون،
(8/11)
وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من
وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا.
* * *
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا
الخروج عنها نفاقًا.
* ذكر من قال ذلك:
10058- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فما لكم في المنافقين فئتين والله
أركسهم بما كسبوا"، قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن
يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في
المدينة واتَّخَمْناها، (1) فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى
نتماثل ثم نرجع، (2) فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف
فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله
منافقون! (3) وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا
فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة
فاتّخموها، (4)
__________
(1) "اتخمناها"، "افتعل" من"الوخم"، يقال: "أرض وخمة ووخيمة"،
وبيئة، لا يوافق المرء سكنها فيجتويها. و"استوخم القوم
المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم. والذي ذكرته
كتب اللغة بناء"استوخم""استفعل" متعديا من"الوخم"، ولم
يذكروا"اتخم""افتعل"، وهو صحيح في قياس العربية. وهذا شاهده.
(2) "الظهر": ما غلظ وارتفع من الأرض، و"البطن": ما لان منها
وسهل ورق واطمأن. ومثله"ظاهر الأرض"، فسموا ما بعد عن القرية
وارتفع في البرية: "ظهر البلدة وظاهرها".
(3) في المطبوعة: "أعداء الله المنافقون"، وفي المخطوطة: أعداء
الله منافقون"، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والدر المنثور 2: 191: "تخمتهم المدينة
فاتخموها"، وليس صوابا. وفي المخطوطة: "عمهم المدينة" غير
منقوطة، وهذا صواب قراءتها، من"الغم": وهو الكرب وكل ما يكرهه
الإنسان فيورثه الضيق والهم. والدليل على صحة هذه القراءة ما
جاء في معاني القرآن 1: 280"ضجروا منها واستوخموها" وانظر ما
سلف تعليق: 1، في تفسير"اتخم".
(8/12)
فخرجوا إلى الظهر يتنزهون، (1) فإذا
بَرَؤوا رجعوا. فقال الله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، يقول:
ما لكم تكونون فيهم فئتين ="والله أركسهم بما كسبوا".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك.
*ذكر من قال ذلك:
10059- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"،
حتى بلغ"فلا تتّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"،
قال: هذا في شأن ابن أُبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم.
10060- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن
هذه الآية حين أنزلت:"فما لكم في المنافقين فئتين"، فقرأ حتى
بلغ"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، فقال
سعد بن معاذ: فإنّي أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! = يريد
عبد الله بن أبيّ ابن سلول. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال:
نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
__________
(1) "يتنزهون" أي: يتباعدون عن الأرض التي استوخموها، حتى
يبرأوا. و"التنزه" التباعد عن الأرياف والمياه، حيث لا يكون
ماء ولا ندى ولا جمع ناس، وذلك شق البادية، وهو أصح للأبدان.
(2) الأثر: 10059، 10060 - في المطبوعة، ساق هذين الأثرين،
أثرا واحدا، فجعله هكذا: "حين تكلم في عائشة بما تكلم، فقال
سعد بن معاذ.." وأسقط صدر الأثر: 10060، فرددته إلى الصواب من
المخطوطة. والذي أوقع الناشر في هذا، سوء صنيع السيوطي في نقله
عن ابن جرير، وذلك في الدر المنثور 2: 191.
(8/13)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنّ اختلاف
أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا
من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.
والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.
= وفي قول الله تعالى ذكره:"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى
يهاجروا"، أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة.
لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار
الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ
هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب قوله:"فئتين".
فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول:"ما لَك قائما"،
يعني: ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل"ما لك"، قال: ولا
تُبالِ أكان المنصوب في"ما لك" معرفة أو نكرة. (1) . قال:
ويجوز في الكلام أن تقول:"ما لك السائرَ معنا"، لأنه كالفعل
الذي ينصب بـ"كان" و"أظن" وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت
فيه"فعل" و"يفعل" من المنصوب، جاز نصب المعرفة منه والنكرة،
كما تنصب"كان" و"أظن"، لأنهن نواقصُ في المعنى، وإن ظننت أنهنّ
تَامّاتٍ. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "ولا تبالي كان المنصوب.." وفي المخطوطة:
"ولا تبال كان المنصوب" ورجحت قراءتها كما أثبتها، استظهارًا
من نص الفراء في معاني القرآن.
(2) هذا مختصر نص الفراء في معاني القرآن 1: 281.
(8/14)
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن
المطلوب في قول القائل:"ما لك قائمًا"،"القيام"، فهو في
مذهب"كان" وأخواتها، و"أظن" وصواحباتها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا
كَسَبُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"والله
أركسهم".
فقال بعضهم: معناه: ردَّهم، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
10061- حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء
الخراساني، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"، ردَّهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوْقَعهم.
*ذكر من قال ذلك:
10062- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"،
يقول: أوقعهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أضلهم وأهلكهم.
*ذكر من قال ذلك:
10063- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان،
عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم"، قال: أهلكهم.
10064- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم بما كسبوا"، أهلَكَهم بما
عملوا.
__________
(1) في المخطوطة: "والظن وصواحباتها"، والصواب ما في المطبوعة.
(8/15)
10065- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والله أركسهم بما
كسبوا"، أهلكهم.
* * *
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل، بما أغنى عن إعادته.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلا (88) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"أتريدون أن تهدوا من أضل
الله"، أتريدون، أيها المؤمنون، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا
للإقرار به والدخول فيه، من أضله الله عنه= يعني بذلك: من
خَذَله الله عنه، فلم يوفقه للإقرار به؟ (2)
وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء
المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية. يقول لهم جل
ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلَّهم الله فخذلهم عن الحق
واتباع الإسلام، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالَهم من
المؤمنين؟ ="ومن يُضلل الله فلن تجد له سبيلا"، يقول: ومَن
خذله عن دينه واتباع ما أمره به، من الإقرار به وبنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضلَّه عنه="فلن تجد
له"، يا محمد،"سبيلا"، يقول: فلن تجد له طريقًا تهديه فيها إلى
إدراك ما خذله الله [عنه] ، (3) ولا منهجًا يصل منه إلى الأمر
الذي قد حرمه الوصول إليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص: 7
(2) انظر معنى"هدى"، ومعنى"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) هذه الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق اقتضاء. وانظر
تفسير"السبيل" فيما سلف. من فهارس اللغة.
(8/16)
وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا (89)
القول في تأويل قوله: {وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ودوا لو تكفرون كما
كفروا"، تمنَّى هؤلاء المنافقون (1) = الذين أنتم، أيها
المؤمنون، فيهم فئتان= أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم،
وتصديقَ نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم="كما كفروا"، يقول:
كما جحدوا هم ذلك="فتكونون سواء"، يقول: فتكونون كفّارًا
مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله (2) ="فلا تتخذوا منهم
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، يقول (3) حتى يخرجوا من دار
الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون، إلى دار الإسلام
وأهلها="في سبيل الله"، يعني: في ابتغاء دين الله، وهو سبيله،
(4) فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم، كما:-
10066- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ودّوا لو تكفرون كما كفروا
فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، يقول: حتى
يصنعوا كما صنعتم= يعني الهجرةَ في سبيل الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542 / 8: 371.
(2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495 - 497 / 6:
483، 486، 487 / 7: 118
(3) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما سلف: 8: 430، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف: 8: 579، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(8/17)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون
عن الإقرار بالله ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى
دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام (1) ="فخذوهم" أيها
المؤمنون="واقتلوهم حيث وجدتموهم"، من بلادهم وغير بلادهم، أين
أصبْتموهم من أرض الله ="ولا تتخذوا منهم وليَّا"، يقول: ولا
تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم، ولا ناصرًا ينصركم على
أعدائكم، (2) فإنهم كفار لا يألونكم خبالا وَدُّوا ما عنتُّم.
* * *
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، إبانةٌ عن صحة نِفاق الذين اختلف
المؤمنون في أمرهم، وتحذيرٌ لمن دفع عنهم عن المدافعة عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10067- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم"،
فإن تولوا عن الهجرة ="فخذوهم واقتلوهم".
10068- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث
وجدتموهم"، يقول: إذا أظهروا كُفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 8: 562 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص 17، تعليق: 3= و"نصير" فيما
سلف 8: 472 تعليق 1، والمراجع هناك.
(8/18)
إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ
جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق"، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين
اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم
يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من
وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، (1)
فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم
فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله
فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما: -
10069- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن
أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما
تجرُون على أهل الذمة.
10070- حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا
الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يصلون إلى هؤلاء
الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما
لهؤلاء.
10071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن
جريج، عن عكرمة قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن
جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 8: 127 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) الأثر: 10071 - انظر الأثرين السالفين: 10052، 10053.
(8/19)
وقد زعم بعض أهل العربية، (1) أن معنى
قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم"، إلا الذين يتَّصلون في
أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم:"اتّصل الرجل"،
بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى
قوم:
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ! ... وَبَكْرٌ
سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ! (2)
يعني بقوله:"اتصلت"، انتسبت.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن
الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب
للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما
لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم
أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم،
أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه
وسلم مشركي قريش= بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان
منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح
أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له
من العهد ما لذي العهد من انتسابه.
فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من
أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ
قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإن أهل
التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك"براءة"، و"براءة" نزلت بعد فتح
مكة ودخول قريش في الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 136، وفي المطبوع من مجاز
القرآن تأخير وتقديم لم يمسسه بالتحرير ناشر الكتاب، فليحرر
مكانه.
(2) ديوانه: 59، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 136 والناسخ
والمنسوخ: 109 واللسان (وصل) ، وغيرهما. وفي اللسان"لبكر بن
وائل"، وفسرها"اتصلت": انتسبت. وفسرها شارح شعر الأعشى: إذا
دعت، يعني دعت بدعوى الجاهلية، وهو الاعتزاء. وهذا البيت آخر
بيت في قصيدة الأعشى تلك. يقول: تدعى إليهم وتنتسب، وهي من
إمائهم اللواتي سبين وقد رغمت أنوفهن وأنوف رجالهن الذي كانوا
يدافعون عنهن، ثم انهزموا عنهن وتركوهن للسباء.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أهل التأويل أجمعوا على أن
ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام"، وهو
خطأ لا معنى له، وخلط فاحش. واستظهرت أن ما كتبته هو الصواب
وأنه عنى"سورة براءة"، من الناسخ والمنسوخ: 109، ومن تفسير أبي
حيان 3: 315، وتفسير القرطبي 5: 308، وقد نسبوه جميعًا إلى
الطبري أيضا.
(8/20)
القول في تأويل قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا
قَوْمَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم
أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"،"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث
وجدتموهم" ="إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"= أو:
إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو
يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم.
ويعني بقوله:"حصرت صدورهم"، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن
يقاتلوا قومهم.
والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام:"قد
حَصِرَ"، ومنه"الحَصَرُ" في القراءة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أو جاءوكم حصرت صدورهم"، يقول: رجعوا
فدخلوا فيكم="حصرت صدورهم"، يقول: ضاقت صدورهم="أن يقاتلوكم أو
يقاتلوا قومهم".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الحصر" فيما سلف 6: 376، 377 وانظر مجاز القرآن
لأبي عبيدة 1: 136، ومعاني القرآن للفراء 1: 282.
(8/21)
وفي قوله:"أو جاءوكم حصرت صدورهم أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام
عليه. وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر"قد"،
لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك: تقول:"أتاني فلان ذَهَب عقله"،
بمعنى: قد ذهب عقله. ومسموع منهم:"أصبحت نظرتُ إلى ذات
التَّنانير"، بمعنى: قد نظرت. (1) ولإضمار"قد" مع الماضي، جاز
وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن"قد" إذا دخلت معه
أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء. (2)
* * *
وعلى هذه القراءة= أعني"حَصِرَت"، قراءة القرأة في جميع
الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (أَوْ جَاءُوكُمْ
حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) ، نصبًا، (3) وهي صحيحة في العربية
فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها
عن قراءة قرأة الإسلام.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 282. و"ذات
التنانير": أرض بين الكوفة وبلاد غطفان، وقال ياقوت في معجمه:
"عقبة بحذاء زبالة".
(2) في المطبوعة: "وأشبه الأسماء"، وما في المخطوطة صواب، يعني
وأشبهت الأفعال الماضية الأسماء.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 282.
(8/22)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا
(90) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"ولو شاء الله لسلطهم عليكم
فلقاتلوكم"، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم
قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم= عليكم، (1) أيها
المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى
ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم
بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من
الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم
حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه:"فإن
اعتزلوكم"، يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن
قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم
حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم="فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم
السَّلَم"، يقول: وصالحوكم.
* * *
و"السَّلَم"، هو الاستسلام. (2) وإنما هذا مثلٌ، كما يقول
الرجل للرجل:"أعطيتك قِيادي"، و"ألقيت إليك خِطَامي"، إذا
استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله:"وألقوا إليكم السلم"،
إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم
وسَلَمًا. ومن"السَّلم" قول الطرمَّاح:
وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًا غَادَرَتْ سَلَمًا ... لِلأسْدِ كُلَّ
حَصَانٍ وَعْثَةِ اللِّبَدِ (3)
__________
(1) السياق: ولو شاء الله لسلط هؤلاء ... عليكم".
(2) انظر تفسير"الإسلام" أيضًا فيما سلف من فهارس اللغة"سلم".
(3) ديوانه: 145، من قصيدته التي هجا بها الفرزدق وبيوت بني
دارم وبني سعد فقال قبله: وَدَارِمٌ قد قَذَفْنَا مِنْهُمُ
مِئَةً ... فِي جَاحِمِ النَّارِ، إِذْ يُلْقَوْنَ فِي
الخُدَدِ
يَنْزُونَ بالْمُشْتَوَى مِنْهَا، ويُوقِدُهَا ... عَمْرٌو،
وَلَوْلا لُحُومُ الْقَوْمِ لَمْ تَقِدِ
وَذَاكَ أنَّ تَمِيمًا............ ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
فزعم أن عمرو بن المنذر اللخمي، أحرق بني دارم رهط الفرزدق،
قال أبو عبيدة: ولم يكن للطرماح بهذا الحديث علم. يعني حديث
يوم أوارة، وهو يوم غزا عمرو بن المنذر بني دارم، فقتل منهم
تسعة وتسعين رجلا.
و"الأسد" يعني عمرو بن المنذر ومن معه. و"الحصان" المرأة
العفيفة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "كل مصان وعثه اللبد"
وهو خطأ لا معنى له. وامرأة"وعثة": كثيرة اللحم، كأن الأصابع
تسوخ فيها من كثرة لحمها ولينها."وامرأة وعثه الأرداف"، كذلك.
و"اللبد" جمع لبدة (بكسر فسكون) : وهي كساء ملبس يفرش للجلوس
عليه. وعنى بذلك أنها وعثة الأرداف، حيث تجلس على اللبد. فسمي
الأرداف لبدًا.
يقول: أسلمت تميم نساءها لنا ولجيش عمرو بن المنذر، وفروا عن
أعراضهم، لم يلفتهم إليهن ضعفهن عن الدفع عن أنفسهن، وأنساهم
الروع كرائم نسائهم ومترفاتهن.
(8/23)
يعني بقوله:"سلمًا"، استسلامًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10073- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر: عن أبيه، عن
الربيع:"فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم"، قال:
الصلح.
* * *
وأما قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، فإنه يقول: إذا
استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم
لكم="فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، أي: فلم يجعل الله لكم
على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء
أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في
ذلك= إلا سبيل خير
* * *
ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره:
(8/24)
(فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله:
(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة
التوبة: 5] .
ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:
10074- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) إلى
قوله: (وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا) وقال في"الممتحنة": (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) ، وقال فيها: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ) إلى (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة
الممتحنة: 8، 9] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين
فقال: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [سورة التوبة:
1، 2] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان
قبل ذلك. وقال في التي تليها: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ) ، ثم نسخ واستثنى فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) إلى قوله: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ) [سورة التوبة: 5، 6] .
10075- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فإن اعتزلوكم"، قال: نسختها:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
(8/25)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
10076- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن
المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة: يقول في
قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" إلى
قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، ثم نسخ ذلك بعد في
براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين
بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ) .
10077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد
في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، الآية،
قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر:
إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد.
* * *
القول في تأويل قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى
الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}
قال أبو جعفر: وهؤلاء فريق آخر من المنافقين، كانوا يظهرون
الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به
عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم
قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله،
ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. يقول
الله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني: كلما دعاهم
[قومهم] إلى الشرك بالله، (1) ارتدُّوا فصاروا مشركين مثلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(8/26)
فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة
أسلموا -على ما وصفهم الله به من التقيَّة- وهم كفار، ليأمنوا
على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم. يقول الله:"كلما ردُّوا
إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك
بالله، (1) ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم، ليأمنوا عند هؤلاء
وهؤلاء.
*ذكر من قال ذلك:
10078- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"،
قال: ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء،
ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن
يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويُصلحوا.
10079- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10080- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ستجدون آخرين يريدون أن
يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"،
يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن
الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرَّب إلى العُود والحجَر
وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلِّم
بالإسلام:"قل: هذا ربي"، للخنفساء والعقرب.
* * *
وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند
المشركين.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(8/27)
10081- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ستجدون آخرين يريدون أن
يأمنوكم ويأمنوا قومهم"، قال: حيٌّ كانوا بتهامة، قالوا:"يا
نبيّ الله، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا"، وأرادوا أن يأمنوا
نبيَّ الله ويأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم، فقال:"كلما
ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا
فيه.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي.
*ذكر من قال ذلك:
10082- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي وكان
يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبي صلى الله
عليه وسلم والمشركين، فقال:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم
ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة"، يقول: إلى الشرك.
* * *
وأما تأويل قوله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، فإنه
كما:-
10083- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"كلما ردّوا
إلى الفتنة أركسوا فيها"، قال: كلما ابتلُوا بها، عَمُوا فيها.
10084- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: كلما عرَض لهم بلاء، هلكوا فيه.
* * *
والقول في ذلك ما قد بينت قبلُ، وذلك أن"الفتنة" في كلام
العرب، الاختبار، و"الإركاس" الرجوع. (1) .
* * *
فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر
والشرك، رجعوا إليه.
* * *
__________
(1) انظر"تفسير الفتنة" فيما سلف 2: 444 / 3: 565، 566، 570،
571 / 4: 301 / 6: 196، 197= وانظر تفسير"الإركاس" فيما سلف ص:
7، 15، 16.
(8/28)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يعتزلكم، (1) أيها
المؤمنون، هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم
كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه ="ويلقوا إليكم السلم"، ولم
يستسلموا إليكم فيعطوكم المقادَ ويصالحوكم، (2) . كما:-
10085- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم
السلم"، قال: الصلح.
* * *
="ويكفوا أيديهم"، يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، (3)
="فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، يقول جل ثناؤه: إن لم
يفعلوا، فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها، (4)
فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال="وأولئكم جعلنا لكم عليهم
سلطانًا مبينًا"، يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن
يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم على ما هم عليه من الكفران، ولم
يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، (5) جعلنا لكم حجة
في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم، وتركهم هجرة دار
الشرك="مبينًا" يعني: أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن لم يعتزلوكم"، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(2) انظر تفسير"ألقوا السلم" فيما سلف ص23، 24.
(3) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548.
(4) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يعتزلوكم"، بإسقاط الواو،
والأصح إثباتها.
(8/29)
وإصابتكم الحق في قتلهم. وذلك
قوله:"سلطانًا مبينًا"، و"السلطان" هو الحجة، (1) . كما:-
10086- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن
رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو: حجّة.
10087- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"سلطانًا مبينًا" أما"السلطان
المبين"، فهو الحجة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 = وتفسير"المبين"
فيما سلف 8: 124 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(8/30)
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنًا إلا خطأ"، وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل
مؤمنًا. يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من
الأشياء البتة، كما:-
10088- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: ما
كان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه.
* * *
وأما قوله:"إلا خطأ"، فإنه يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن
خطأ،
(9/30)
وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من
الاستثناء الذي يُسميه أهل العربية"الاستثناء المنقطع"، كما
قال جرير بن عطية:
مِنَ البِيضِ، لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا، وَلَمْ تَطَأْ ...
عَلَى الأرْضِ إِلا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ (1)
يعني: ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل
البُرْد من الأرض. (2)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قُتل من المؤمنين خطأ،
فقال:"ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير"، يقول: فعليه تحرير ="رقبة
مؤمنة"، في ماله ="ودية مسلمة"، تؤديها عاقلته (3) ="إلى أهله
إلا أن يصدقوا"، يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من
لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه.
* * *
وموضع"أن" من قوله:"إلا أن يصدقوا"، نصب، لأن معناه: فعليه
ذلك، إلا أن يصدّقوا.
* * *
__________
(1) ديوانه: 457، والنقائض: 706، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1:
137، من قصيدته التي هجا فيها الفرزدق وآل الزبرقان بن بدر،
وهو من أول القصيدة، وقبله: أَمِنْ عَهْدِ ذِي عَهْدٍ تَفِيضُ
مَدَامِعِي ... كَأَنَّ قَذَى الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَبِّ
فُلْفُلِ?
فَإنْ يَرَ سَلْمَى الجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا، ... وَإِنْ
يَرَ سَلْمَى رَاهِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
ورواية الديوان وأبي عبيدة في النقائض: "إِلاَّ نِيرَ مِرْطٍ
مُرَحَّلِ"
و"النير" (بكسر النون) : علم الثوب. و"المرط": إزار خز له علم،
ويكون من صوف أيضا. وأما "الريط" فهو جمع"ريطة": وهي الملاءة
إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقين، وتكون ثوبًا دقيقًا
لينًا. و"المرحل": الموشى، وهو ضرب من البرود، وشيه معين
كتعيين جديات الرحل. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "مرجل"
بالجيم، وهو خطأ.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 136-138.
(3) "العاقلة"،: هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب، الذين
يعطون دية قتل الخطأ. من"العقل"، وهي الدية.
(9/31)
وذكر أن هذه الآية نزلت في عيّاش بن أبي
ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلا مسلمًا بعد إسلامه، وهو لا
يعلم بإسلامه.
ذكر الآثار بذلك:
10089- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنًا إلا خطأ"، قال: عياش بن أبي ربيعة، قتل رجلا مؤمنًا كان
يعذِّبه مع أبي جهل= وهو أخوه لأمه= فاتّبَع النبي صلى الله
عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عيّاش هاجر
إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، فجاءه أبو جهل= وهو أخوه
لأمه= فقال: إنّ أمك تناشدك رَحِمها وحقَّها أن ترجع إليها=
وهي أسماء ابنة مخرِّبة، (1) فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم
مكة. فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرًا وافتتانًا، وقالوا: إنّ
أبا جهل ليقدِرُ من محمدٍ على ما يشاء ويأخذ أصحابه.
10090- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فاتبع
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل، وعيّاش حَسبه أنه كافر
كما هو. (2) وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنًا، فجاءه أبو
جهل= وهو أخوه لأمه- فقال: إن أمك تنشُدك برحمها وحقها إلا
رجعت إليها. وقال أيضًا: ويأخذ أصحابه فيربطهم. (3)
10091- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "بنت مخرمة"، والصواب من المخطوطة: "مخربة"
بالراء المشددة المكسورة، وبالباء. وأسماء من بني نهشل بن
دارم، تميمية.
(2) في المطبوعة: "وعياش يحسبه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فيأخذ" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/32)
ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= قال ابن جريج،
عن عكرمة قال: كان الحارث ابن يزيد بن أنيسة، (1) = من بني
عامر بن لؤي= يعذِّبُ عياشَ بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج
الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه
عياش بالحرّة، فعلاه بالسيف حتى سكت، (2) وهو يحسب أنه كافر.
ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت:"وما كان
لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية فقرأها عليه، ثم قال له:
قم فحِّررْ.
10092- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا
خطأ"، قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي= وكان أخًا
لأبي جهل بن هشام، لأمه (3) = وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين
الأولين قبل قُدُوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلبه أبو
جهل والحارث بن هشام، ومعهما رجل من بني عامر بن لؤي. فأتوه
بالمدينة، وكان عياش أحبَّ إخوته إلى أمه، فكلَّموه
وقالوا:"إنّ أمك قد حلفت أن لا يُظِلَّها بيت حتى تراك، وهي
مضطجعة في الشمس، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع"! وأعطوه موثقًا من
الله لا يَهِيجونه حتى يرجع إلى المدينة، (4) فأعطاه بعض
أصحابه بعيرًا له نجيبًا وقال: إن خفت منهم شيئًا، فاقعد على
النجيب. فلما أخرجوه من المدينة، أخذوه فأوثقوه، وجَلَده
العامريّ، فحلف ليقتلنَّ العامري. فلم يزل محبوسًا بمكة حتى
خرج يوم الفتح، فاستقبله العامريّ وقد أسلم، ولا يعلم عيّاش
بإسلامه، فضربه فقتله. فأنزل الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن="ومن قتل مؤمنًا
خطأ فتحرير رقبه مؤمنة وديةٌ مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا"،
فيتركوا الدّية.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أبي الدرداء.
*ذكر من قال ذلك:
10093- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية، قال: نزل
هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه. (5) كانوا في
سرية، فعدَل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلا
من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله!
قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئًا،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ألا شققتَ عن قلبه! فقال: ما عَسَيْتُ
أجِدُ! (6) هل هو يا رسول الله إلا دمٌ أو ماء؟ قال: فقد أخبرك
بلسانه فلم تصدقه؟ قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا
إله إلا الله؟ قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله
إلا الله؟ = حتى تمنَّيتُ أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: ونزل
القرآن:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ" حتى بلغ"إلا أن
يصدّقوا"، قال: إلا أن يَضَعوها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عرَّف
عبادَه بهذه الآية مَا على مَن قتل مؤمنًا خطأ من كفَّارة
ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله،
وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان، فالذي
__________
(1) في المطبوعة: "بن نبيشة"، وفي المخطوطة بهذا الرسم، بغير
ألف في أوله، غير منقوطة. والصواب من الإصابة وأسد الغابة
وغيرهما.
(2) "سكت" سكن، وانقطعت حركته. وهو مما يزاد من المجاز على
نصوص المعاجم.
(3) في المطبوعة: "فكان أخا" أساء قراءة المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لا يحجزونه"، وهو خطأ وتغيير لما في
المخطوطة."هاجه يهيجه": أزعجه ونفره، يريد: لا يؤذونه بما
يزعجه أو ينفره.
(5) حذفت المطبوعة قوله: "نزل هذا كله فيه"، ولا أدري لم فعل
ذلك!!
(6) قوله: "ما عسيت أجد"، من"عسى"، كأنه قال: ماذا أجد بقتلي
إياه وهو مشرك.
(9/33)
عَنَى الله تعالى بالآية: تعريفَ عباده ما
ذكرنا، وقد عرف ذلك من عَقَل عنه من عباده تنزيلَه، (1) وغير
ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه.
* * *
وأما"الرقبة المؤمنة"، فإن أهل العلم مختلفون في صفتها.
فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان
بعد بلوغها، وصلَّت وصامت، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة.
*ذكر من قال ذلك:
10094- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي
حيان قال: سألت الشعبي عن قوله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، قال: قد
صلَّت وعرفت الإيمان.
10095- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"،
يعني بالمؤمنة، مَن عقل الإيمان وصام وصلّى.
10096- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم
قال: ما كان في القرآن من"رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا من صام
وصلَّى. وما كان في القرآن من"رقبة" ليست"مؤمنة"، فالصبيّ
يجزئ.
10097- حدثت عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال:
كل شيء في كتاب الله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، فمن صام وصلى وعَقل.
وإذا قال:"فتحرير رقبة"، فما شاء.
10098- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كل شيء في
القرآن:"فتحرير رقبه
__________
(1) في المخطوطة: "من عقل عنه عباده وتنزيله"، وهو غير مستقيم،
والذي في المطبوعة جيد صحيح.
(9/35)
مؤمنة"، فالذي قد صلى. وما لم يكن"مؤمنة"،
فتحرير من لم يصلّ.
10099- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فتحرير رقبة مؤمنة"،"والرقبة المؤمنة" عند قتادة من قد
صلَّى. وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلِّ ولم يبلغ
ذلك.
10100- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض،
عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"، قال: إذا
عقل دينه.
10101- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن قتادة قال في:"فتحرير رقبة مؤمنة"، لا يجزئ فيها
صبيٌّ.
10102- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتحرير رقبة مؤمنة"،
يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى. فإن لم يجد رقبة،
فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا
بها عليه.
* * *
وقال آخرون: إذا كان مولودًا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن، وإن
كان طفلا.
*ذكر من قال ذلك:
10103- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن
جريج، عن عطاء قال: كلّ رقبة ولدت في الإسلام، فهي تجزئ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قال من قال: لا
يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان
من بالغي الرجال والنساء، (1) إذا كان ممن كان أبواه على مِلّة
من الملل سوى الإسلام، وولد بينهما
__________
(1) في المطبوعة، حذف قوله: "بالغي" وجعلها"من الرجال
والنساء"، وكانت في المخطوطة: "تابعي"، وهو خطأ صواب قراءته ما
أثبت.
(9/36)
وهما كذلك، (1) ثم لم يسلما ولا واحدٌ
منهما حتى أعتِق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين
مسلمين، فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ
الاختيار والتمييز، ولم يدرك الحُلُم، فمحكوم له بحكم أهل
الإيمان في الموارثة، والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن
جَنَى، ويجب له إن جُنِيَ عليه، وفي المناكحة. فإذْ كان ذلك من
جميعهم إجماعًا، فواجب أن يكون له من الحكم= فيما يجزئ فيه من
كفارة الخطأ إن أعتق فيها= من حكم أهل الإيمان، مثلُ الذي له
من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبَى
ذلك، عُكِس عليه الأمر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصلٍ أو
قياس. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله.
وأما"الدية المسلمة" إلى أهل القتيل، فهي المدفوعة إليهم، على
ما وجب لهم، موفَّرة غير منتقصةٍ حقوقُ أهلها منها. (2)
* * *
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: هي الموفرة.
10104- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"وديه مسلمة إلى أهله"، قال:
موفَّرة.
* * *
وأما قوله:"إلا أن يصَّدقوا"، فإنه يعني به: إلا أن يتَصدقوا
بالدية على القاتل، أو على عاقِلته، فأدغمت"التاء" من
قوله:"يتصدقوا" في"الصاد" فصارتا"صادًا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولد يتيما وهو كذلك"، والمخطوطة
غير منقوطة، وهو كلام لا خير فيه ولا معنى له، وصواب قراءته ما
أثبت.
(2) انظر تفسير"مسلمة" فيما سلف 2: 184، 213-215.
(9/37)
وقد ذكر أن ذلك في قراءه أبي، (إِلا أَنْ
يَتَصَدَّقُوا) .
10105- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن
الشرود حرف أُبيّ: (إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كان من قوم عدو لكم
وهو مؤمن"، فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ =،"من قوم
عدو لكم"، يعني: من عِدَاد قوم أعداء لكم في الدين مشركين قد
نابَذُوكم الحربَ على خلافكم على الإسلام (2) ="وهو مؤمن
فتحرير رقبة مؤمنة"، يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلا من عِداد
المشركين، والمقتول مؤمن، والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه
تحرير رقبة مؤمنة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدو لكم وهو
مؤمن= أي: بين أظهرهم لم يهاجر= فقتله مؤمن، فلا دية عليه،
وعليه تحرير رقبة مؤمنة.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 10105 -"إسحاق" هو"إسحاق بن إبراهيم بن الضيف" أو
"إسحاق بن الضيف"= و"بكر بن الشرود"، مضيا برقم: 8562.
(2) في المطبوعة: "لم يأمنوكم الحرب" وفي المخطوطة: "قد
يأمنوكم الحرب" وصواب المعنى يقتضي أن تكون"قد نابذوكم الحرب"
كما أثبتها.
(9/38)
10106- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى
بن سعيد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة والمغيرة، عن إبراهيم في
قوله:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، قال: هو الرجل يُسْلم
في دار الحرب فيقتل. قال: ليس فيه دية، وفيه الكفَّارة.
10107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك،
عن عكرمة في قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، قال:
يعني المقتول يكون مؤمنًا وقومه كفار. قال: فليس له دية، ولكن
تحرير رقبة مؤمنة.
10108- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل،
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فإن كان من قوم عدو
لكم وهو مؤمن"، قال: يكون الرجل مؤمنًا وقومه كفار، فلا دية
له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.
10109- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" في
دار الكفر، يقول:"فتحرير رقبة مؤمنة"، وليس له دية.
10110- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"،
ولا دية لأهله، من أجْل أنهم كفار، وليس بينهم وبين الله عهدٌ
ولا ذِمَّة.
10111- حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال،
أخبرنا عطاء بن السائب، عن ابن عباس أنه قال في قول الله:"وإن
كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن" إلى آخر الآية، قال: كان الرجل
يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمرّ بهم الجيش
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قاتله
رقبة، ولا دية له.
(9/39)
10112- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
مغيرة، عن إبراهيم:"فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة"، قال: هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم= أي:
ليس لهم عهد - يقتل خطأ، فإن على من قتله تحريرُ رقبة مؤمنة.
10113- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، فإن
كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفّر
بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين، ولا دية عليه.
10114- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، القتيل مسلم وقومه
كفّار، فتحرير رقبه مؤمنة، ولا يؤدِّي إليهم الدية فيتقوّون
بها عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل عنى به الرجلُ من أهل الحرب يقدَم دار الإسلام
فيسلم، ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مرَّ بهم الجيش من أهل
الإسلام هَرَب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله
المسلمون وهم يحسبونه كافرًا.
*ذكر من قال ذلك:
10115- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو
مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، فهو المؤمن يكون في العدوّ من
المشركين، يسمعون بالسريَّة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،
فيفرّون ويثبتُ المؤمن، فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنةٍ.
* * *
(9/40)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن كان من قوم بينكم
وبينهم ميثاق"، وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ="من قوم
بينكم" أيها المؤمنون="وبينهم ميثاق"، أي: عهدٌ وذمة، وليسوا
أهلَ حرب لكم="فدية مسلّمة إلى أهله"، يقول: فعلى قاتله دية
مسلمة إلى أهله، يتحملها عاقلته="وتحرير رقبه مؤمنة"، كفارة
لقتله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا
وبينهم ميثاق، أهو مؤمن أو كافر؟ (1)
فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتلَه ديته، لأن له ولقومه
عهدًا، فواجب أداءُ دِيته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين
المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من
أموالهم بغير طِيب أنفسهم.
*ذكر من قال ذلك:
10116- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، يقول: إذا كان كافرًا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية
مسلمةً إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين.
10117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب
قال، سمعت الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم. قال: وكان
يتأول:"وإن
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص: 19، تعليق1، والمراجع
هناك.
(9/41)
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة
إلى أهله".
10118- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
إدريس، عن عيسى بن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله:"وإن كان من
قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله"، قال: من أهل
العهد، وليس بمؤمن.
10119- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن
هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، وليس بمؤمن.
10120- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله
وتحرير رقبة مؤمنة"، بقَتْله، أي: بالذي أصاب من أهل ذمته
وعَهدِه ="فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله"،
الآية.
10121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى
أهله"، يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق. قال: وأهل الذمة
يدخلون في هذا="وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين".
* * *
وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤدِّيها إلى قومه من
المشركين، لأنهم أهل ذمة.
*ذكر من قال ذلك:
10122- حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن
إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى
أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون
لهم عقدٌ، فتكون ديته لقومه، وميراثه للمسلمين، ويَعْقِل عنه
قومه، ولهم دِيَته.
(9/42)
10123- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن جابر بن
زيد في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: وهو
مؤمن.
10124- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن
حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"وإن كان من قوم
بينكم وبينهم ميثاق"، قال: كلهم مؤمن. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قولُ من
قال: عنى بذلك المقتولَ من أهل العهد. لأن الله أبهم ذلك
فقال:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم"، ولم يقل:"وهو مؤمن"، كما
قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب= وعنى المقتولَ منهم وهو
مؤمن. (2) فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصفَ به القتيلين
الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.
* * *
فإن ظن ظان أنّ في قوله تبارك وتعالى:"فدية مسلمة إلى أهله"،
دليلا على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلا
لمؤمن= فقد ظن خطأ. وذلك أن دية الذميّ وأهل الإسلام سواء،
لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيدِ المؤمنين من
أهل الإيمان سواء. فكذلك حكم ديات أحرارهم سواءٌ، مع أن دياتهم
لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النِّصف من
ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليلٌ على أن
المعنيّ بقوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، من أهل
الإيمان، لأن دية المؤمنة لا خلافَ
__________
(1) في المطبوعة: "قال: هو كافر"، مكان"كلهم مؤمن"، والذي في
المطبوعة مناقض للترجمة، والذي أثبته من المخطوطة مخالف أيضا
للترجمة لقوله: "كلهم مؤمن" أي: أنه هو وقومه مؤمنون. إلا أن
يكون أراد بقوله: "كلهم" كل قتيل مر ذكره في الآيات السالفة،
وهذا هو الأرجح عندي، ولم يعن بقوله: "كلهم" قوم القتيل.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو عن المؤمن منهم وهو مؤمن"، ولا
معنى له، والصواب ما أثبت.
(9/43)
بين الجميع= إلا من لا يُعدُّ خلافًا= أنها
على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية.
فكذلك حكم ديات أهل الذمة، لو كانت مقصِّرة عن ديات أهل
الإيمان، لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات. فكيف والأمر في ذلك
بخلافه، ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟
* * *
وأما"الميثاق" فإنه العهد والذمة. وقد بينا في غير هذا الموضع
أن ذلك كذلك، والأصل الذي منه أخذ، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10125- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، يقول: عهد.
10126- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، قال: هو المعاهدة.
10127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل،
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق"، عهد.
10128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل عن سماك عن
عكرمة مثله.
* * *
فإن قال قائل: وما صفة الخطأ، الذي إذا قتل المؤمن المؤمنَ أو
المعاهِدَ لزمته ديتُه والكفارة؟
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: ص: 19، والتعليق: 1، وص:
41، والتعليق: 1. والمراجع هناك.
(9/44)
قيل: هو ما قال النَّخَعيّ في ذلك، وذلك
ما:-
10129- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يريد
الشيء فيصيبَ غيره.
10130- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم، عن
مغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يرمي الشيء فيصيب إنسانًا
وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقِلة. (1)
* * *
فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟
قيل: أما في قتل المؤمن، فمائة من الإبل، إن كان من أهل الإبل،
على عاقلة قاتله. لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ
أسنانها اختلافٌ بين أهل العلم. فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس
وعشرون منها حِقّة، وخمس وعشرون جَذعَةَ، وخمس وعشرون بَنات
مَخَاض، وخمس وعشرون بنات لَبُون. (2)
ذكر من قال ذلك.
10131- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علي رضي الله عنه في الخطأ
شبه العمد: ثلاثٌ وثلاثون حِقّة، وثلاث وثلاثون جَذَعة، وأربع
وثلاثون ثَنِيَّة إلى بازِل عامها. (3) وفي الخطأ: خمس وعشرون
حِقّة، وخمس وعشرون جَذَعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشر
بناتِ لبون.
__________
(1) مضى كثيرًا تفسير"العاقلة"، وهم العصبة الذين يؤدون الدية
عن القاتل منهم، من"العقل"، وهو الدية.
(2) البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة، فهو
حينئذ"حق" (بكسر الحاء) ، والأنثى"حقة". فإذا استوفى السنة
الرابعة ودخل في الخامسة، فهو حينئذ"جذع" (بفتحتين)
والأنثى"جذعة". ثم قبل ذلك يكون البعير فصيلا. فإذا استكمل
الفصيل الحول ودخل في الثانية فهو حينئذ"ابن مخاض"،
والأنثى"ابنة مخاض" فإذا استكمل السنة الثانية وطعن في
الثالثة، فهو حينئذ"ابن لبون"، والأنثى"ابنة لبون"
(3) البعير إذا استكمل السنة الخامسة وطعن في السادسة، فهو
حينئذ"ثني"، والأنثى"ثنية". فإذا استكمل السنة الثامنة وطعن في
التاسعة وفطر نابه، فهو حينئذ"بازل" والأنثى"بازل" بغير هاء.
قال ابن الأعرابي: "ليس قبل الثني اسم يسمى، ولا بعد البازل
اسم"يسمى" يعني أنه ليس للبعير إذا دخل في السابعة وطعن في
الثامنة اسم يسمى به. وكأن ذلك لأن البازل ربما بزل في السنة
الثامنة. وأما "البازل" فهو أقصى أسنان البعير. ثم يقولون
بعد"بازل عام" و"بازل عامين"، وكذلك ما زاد.
(9/45)
10132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن فراسٍ والشيباني، عن الشعبي، عن
علي بن أبي طالب بمثله.
10133- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه
بنحوه.
10134- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث
بن سوار، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه أنه قال في قتل
الخطأ: الدية مائة أرباعًا، ثم ذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات
لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض.
*ذكر من قال ذلك:
10135- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد،
عن قتادة، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن عبد الله بن
مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات
لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. (1)
10136- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن
أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن مسعود في قتل الخطأ: مائة من
الإبل أخماسًا:
__________
(1) أنكر اللغويون أن يقال"بنو لبون" جمع"ابن لبون"، وقالوا
هي: "بنات لبون" للذكر والأنثى، وهذه الآثار الصحاح دالة على
أنه صحيح في اللغة العربية.
(9/46)
خُمْس جَذَاع، وخُمْس حِقَاق، (1) وخُمْس
بنات لبون، وخمس بنات مَخَاض، وخمس بنو مخاض.
10137- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا
سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:
الدية أخماس: دية الخطأ: خمس بنات مخاض، وخُمْس بنات لبون،
وخُمْس حقِاق، وخُمْس جِذاع، وخُمْس بنو مخاض. (2)
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بحديث=
10138- حدثنا به أبو هشام الرفاعي، (3) قال، حدثنا يحيى بن أبي
زائدة وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن الخشف بن
مالك، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
في الدية في الخطأ أخماسًا= قال: أبو هشام، قال ابن أبي زائدة:
عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض،
وعشرون بني مخاض. (4)
__________
(1) "الحقاق"، و"الجذاع" جمع"حقة" و"جذعة" وقد سلف شرحها في
التعليقات قريبًا.
(2) وقوله: "بنو مخاض" مما أنكره اللغويون، لا يقال عندهم في
الجمع إلا"بنات مخاض"، و"بنات لبون" ومثله"بنات آوى"، وهذا
الأثر وما بعده دال على صحة قولهم: "بنو مخاض".
(3) في المطبوعة: "أبو هشام الرباعي"، وهو خطأ، صوابه من
المخطوطة، وقد مضت ترجمته مرارًا في الأجزاء السالفة.
(4) الأثر: 10138 -"الخشف بن مالك الطائي"، روى عن أبيه، وعمر،
وابن مسعود. روى عنه"زيد بن جبير الجشمي". قال النسائي: "ثقة"،
وقال الدارقطني في السنن: "مجهول". وقال الأزدي: "ليس بذاك".
مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8: 75-76) من
طريقين: طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية محمد بن خازم عن
الحجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا.
ولم يزد على هذا.
ثم رواه من طريق أبي داود، عن مسدد، عن عبد الواحد، عن الحجاج،
عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في دية الخطأ عشرون حقة،
وعشرون جذعة، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن
مخاض ذكر= قال أبو داود: هو قول عبد الله - يعني: إنما روي من
قول عبد الله موقوفا غير مرفوع.
ثم نقل البيهقي تعليل هذا الحديث عن أبي الحسن الدارقطني فقال:
"لا نعلم رواه إلا خشف بن مالك، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه إلا
زيد بن جبير بن حرمل الجشمي. ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن
جبير إلا حجاج بن أرطاة. والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه
يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه. قال: ورواه جماعة من الثقات عن
حجاج فاختلفوا عليه فيه" ثم ساق الروايات عن الحجاج، وأنه جعل
في بعضها بني اللبون مكان الحقاق. ثم ذكر أنهم لم يرووا فيه
تفسير الأخماس، ثم قال: "فيشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر
الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث، فيتوهم السامع أن ذلك في
الحديث، وليس كذلك".
قال البيهقي: "وكيف ما كان، فالحجاج بن أرطاة غير محتج به،
وخشف بن مالك مجهول، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود.
والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسها بني المخاض في
الأسانيد التي تقدم ذكرها، لا كما توهم شيخنا أبو الحسن
الدارقطني رحمنا الله وإياه. وقد اعتذر من رغب عن قول عبد الله
رضي الله عنه في هذا بشيئين: أحدهما ضعف رواية خشف بن مالك عن
ابن مسعود بما ذكرنا، وانقطاع رواية من رواه عنه موقوفًا" ثم
ساق وجوهها وبين انقطاعها.
(9/47)
10139- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى، عن
أبيه، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله: أنه قضى بذلك.
* * *
وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات
لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
*ذكر من قال ذلك:
10140- حدثنا ابن بشار قال، حدثني محمد بن بكر قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن
ثابت قالا في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خَلِفة، (1)
وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض= وفي الخطأ ثلاثون حقة،
وثلاثون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
10141- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن
__________
(1) "الخلفة" (بفتح الخاء وكسر اللام وفتح الفاء) : الناقة
الحامل، وجمع"خلفة""مخاض"، كما قالوا: "امرأة" و"نسوة". أما من
لفظها فيقال: "خلفات وخلائف"، وفي الحديث: "ثلاث آيات يقرؤها
أحدكم، خير له من ثلاث خلفات سمان عظام"، وفي حديث هدم الكعبة:
"لما هدموها ظهر فيها مثل خلائف الإبل" أي: صخور عظام في
أساسها كالنوق الحوامل.
(9/48)
قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت:
في دية الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات
مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
10142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عثمة قال، حدثنا سعيد بن
بشير، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان
رضي الله عنه= قال وحدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب،
عن زيد بن ثابت، مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجميع مجمعون أن
في الخطأ المحض على أهل الإبل: مائة من الإبل.
ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصَّر بها
في الذي وجبت له الأسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي
حدَّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها في الذي
وَجبت له عن أعلاها. (2) وإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا،
فالواجب أن يكون مجزيًا من لزمته دية قتل خطأ، أيَّ هذه
الأسنان التي
__________
(1) الأثر: 10142-"أبو عثمة"، هو"محمد بن خالد بن عثمة"، وهو
معروف بابن عثمة. وقد سلف مثل ذلك في رقم: 5314، ومضت ترجمته
في رقم: 90، 91، 5483، ورقم: 9587. وكان في المطبوعة هنا"ابن
عثمة" وأثبت ما في المخطوطة، لما مضى في رقم: 5314، وانظر
التعليق عليه هناك.
و"عبد ربه" هو: عبد ربه بن أبي يزيد. قال علي بن المديني: "عبد
ربه الذي روى عنه قتادة، مجهول، لم يرو عنه غير قتادة". وقال
البخاري في التاريخ: "نسبه همام". وقال علي: "عرفه ابن عيينة،
قال: كان يبيع الثياب". مترجم في التهذيب.
"أبو عياض" هو المدني، مختلف في اسمه وفي روايته. انظر ترجمته
في التهذيب. وهو يروي عن عبد الله بن مسعود، ويروي عنه قتادة.
ودل هذا الأثر على أنه يروي أيضًا عن عثمان بن عفان.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه لا يجاوز بها الذي وجب عن
أعلاها"، وهو لا يستقيم، وجعلتها على سياقة التي قبلها
فزدت"في" و"له".
(9/49)
اختلف المختلفون فيها، (1) أدَّاها إلى من
وجبت له. (2) لأن الله تعالى لم يحدَّ ذلك بحدّ لا يجاوز به
ولا يقصَّر عنه ولا رسولُه، إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما
أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا
زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين.
* * *
وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب، فإن لورثة القتيل عليهم
عندنا ألف دينار. وعليه علماء الأمصار.
* * *
وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رحمة الله عليه، للإبل على أهل
الذهب في عصره. والواجب أن يقَّوم في كل زمان قيمتها، إذا عدم
الإبلَ عاقلةُ القاتل، واعتلوا بما:-
10143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن أيوب بن موسى، عن مكحول قال: كانت الدية ترتفع
وتنخفض، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمانمئة
دينار، فخشي عمر من بعد، فجعلها اثني عشر ألف درهم، وألفَ
دينار. (3)
* * *
وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبًا ألف دينار،
فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله، كما فرض الإبل
على أهل الإبل. قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر
وزمان، إلا من شذ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا
تنقص عنها= أوضحُ الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب،
وجوبَ الإبل على أهل الإبل، لأنها لو كانت قيمة لمائة من
الإبل، لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل.
__________
(1) في المطبوعة: "دية قتل خطأ" وفي المخطوطة: "ديته قتيل خطأ"
ورجحت المخطوطة بعد تصحيح"ديته" إلى"دية".
(2) السياق: "أي هذه الأسنان أداها إلى من وجبت له".
(3) انظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 76-80.
(9/50)
وهذا القول هو الحق في ذلك، لما ذكرنا من
إجماع الحجة عليه.
* * *
وأما من الوَرِق على أهل الوَرِق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم،
(1) وقد بينا العِلل في ذلك في كتابنا (كتابِ لطيف القول في
أحكام شرائع الإسلام) .
* * *
وقال آخرون: إنما على أهل الورق من الورِق عشرة آلاف درهم.
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاقٌ، فإن أهل العلم
اختلفوا في مبلغها.
فقال بعضهم: ديته ودية الحر المسلم سواءٌ.
*ذكر من قال ذلك:
10144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن
السري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري: أن أبا بكر وعثمان رضوان
الله عليهما، كانا يجعلان دية اليهوديّ والنصرانيّ، إذا كانا
معاهدين، كدية المسلم.
10145- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن
السري، عن الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن عيينة:
أن ابن مسعود كان يجعل ديةَ أهل الكتاب، إذا كانوا أهل ذمّة،
كدية المسلمين.
10146- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب،
فأخبرته أنّ إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء.
10147- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا
حماد، عن إبراهيم وداود، عن الشعبي أنهما قالا دية اليهوديّ
والنصرانيّ والمجوسيّ مثل دية الحرّ المسلم.
__________
(1) الورق (بفتح فكسر) و"الورق" (بفتح أو كسر ثم سكون)
و"الرقة" (بكسر ففتح) : هي الدراهم المضروبة.
(9/51)
10148- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: دية اليهودي
والنصراني والمجوسيّ كدية المسلم، إذا كانت له ذمة.
10149- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي
نجيح، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا دية المعاهِد دية المسلم.
10150- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: دية المسلم
والمعاهد سواء.
10151- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سمعت
الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم.
10152- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن
عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم.
10153- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن
أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم مثله.
10154- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم مثله. (1)
10155- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن
إسماعيل، عن عامر: وبلغه أن الحسن كان يقول:"دية المجوسي
ثمانمئة، ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف"، فقال: ديتهم
واحدة.
10156- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان،
__________
(1) الأثر: 10154 - كان هذا الإسناد في المطبوعة والمخطوطة
متصلا بالذي بعده هكذا: "عن إبراهيم قال حدثنا عبد الحميد بن
بيان"، وهو خطأ، "إبراهيم" هو النخعي، الذي سلف في الآثار
السالفة. و"عبد الحميد بن بيان" هو السكري القناد، شيخ أبي
جعفر. فرجح عندي أن الناسخ جعل مكان"مثله"، "قال" فرددتها إلى
ما يجب.
(9/52)
عن قيس بن مسلم، عن الشعبي قال: دية
المعاهد والمسلم في كفّارتهما سواء.
10157- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: دية المعاهد والمسلم سواء.
* * *
وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10158- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصرانيّ، قال: جعلها
عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية المسلم، ودية المجوسي
ثمانمئة. فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن يقول:"أربعة آلاف"!
قال: كان ذلك قبل الغِلْمة (1) وقال: إنما جعل دية المجوسي
بمنزلة العبد.
10159- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان،
عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على
النصف من دية المسلم.
* * *
وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10160- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن
مطرف، عن أبي عثمان= قال: وكان قاضيًا لأهل مَرْو= قال: جعل
عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلافٍ، أربعة
آلافٍ.
10161- حدثنا عمار بن خالد الواسطي قال، حدثنا يحيى بن سعيد
__________
(1) كان في المطبوعة: "لعله كان ذلك قبل" حذف"الغلمة"، وزاد في
أول الكلام"لعله"، وهو صنيع سيئ. فأثبت ما في المخطوطة كما هو،
ولم أعرف ما أراد، فتركته لمن يعلمه.
(9/53)
، عن الأعمش، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب
قال، قال عمر: دية النصراني أربعةُ آلاف، والمجوسي ثمانمئة.
10162- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا
شعبة عن ثابت قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر: دية أهل
الكتاب أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمئة.
10163- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه قال، فذكر مثله.
10164- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن
قتادة، عن أبي المليح: أن رجلا من قومه رمى يهوديًّا أو
نصرانيًّا بسهمٍ فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه
ديته، أربعةَ آلاف.
10165- وبه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال عمر: دية
اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، أربعة آلاف.
10166- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
بعض أصحابنا، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مثله.
10167- قال حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عمر
مثله.
10168- قال حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان بن
يسار أنه قال: دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، والمجوسي
ثمانمئة.
10169- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال،
حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
10170- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين"، الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبةٌ لا
يبطلها شيء.
* * *
(9/54)
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين"، فمن لم يجد رقبةً مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في
قتله من قتل من مؤمن أو معاهد، لعُسْرته بثمنها="فصيام شهرين
متتابعين"، يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
10171- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين"، قال: من لم يجد عِتْقًا = أو عتاقة، شك أبو عاصم
(1) = في قتل مؤمن خطأ، قال: وأنزلت في عيّاش بن أبي ربيعة،
قتل مؤمنًا خطأ.
* * *
وقال آخرون: صوم الشهرين عن الدية والرقبة. قالوا: وتأويل
الآية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة، ولا دِية يسلمها إلى أهلها،
فعليه صوم شهرين متتابعين.
*ذكر من قال ذلك:
10172- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن
المبارك، عن زكريا، عن الشعبي، عن مسروق: أنه سئل عن الآية
التي في"سورة النساء":"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين": صيام
الشهرين عن
__________
(1) "العتاقة" (بفتح العين) مصدر: "عتق العبد يعتق عتقًا
وعتاقًا وعتاقة". وانظر"العتاقة"، في التعليق على الأثر السالف
رقم: 9265.
(9/55)
الرقبة وحدَها، أو عن الدية والرقبة؟ فقال:
من لم يجد، فهو عن الدية والرقبة.
10173- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، عن
مسروق بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الصوم عن الرقبة
دون الدية، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على
القاتل، بإجماع الحجّة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه
وسلم، (1) فلا يقضي صومُ صائم عما لزم غيرَه في ماله.
* * *
و"المتابعة" صوم الشهرين، وأن لا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير
علة حائلة بينه وبين صومه. (2)
* * *
ثم قال جل ثناؤه:"توبةً من الله وكان الله عليمًا حكيما"،
يعني: تجاوزًا من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما
خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه
عليكم صوم شهرين متتابعين="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول:
ولم يزل الله="عليمًا"، بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه
وغير ذلك="حكيمًا"، بما يقضي فيهم ويريد. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "عن نبينا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ولا يقطعه" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"التوبة"، و"كان"، و"عليم" و"حكيم" في موادها من
فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(9/56)
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (93)
القول في تأويل قوله تعالى {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمنًا عامدًا
قتله، مريدًا إتلاف نفسه="فجزاؤه جهنم"، يقول: فثوابه من قتله
إياه (1) ="جهنم"، يعني: عذاب جهنم="خالدًا فيها"، يعني:
باقيًا فيها (2) = و"الهاء" و"الألف" في قوله:"فيها" من
ذكر"جهنم"="وغضب الله عليه"، يقول: وغضب الله عليه بقتله إياه
متعمدًا (3) ="ولعنه" يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه (4) ="وأعد
له عذابًا عظيمًا"، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى
ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبُه أن يسمى
متعمِّدًا، بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجلٌ رجلا بحدِّ
حديد يجرح بحدِّه، أو يَبْضَع ويقطع، (5) فلم يقلع عنه ضربًا
به حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصدٌ ضربَه: أنه
عامدٌ قتلَه. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك. فقال بعضهم: لا عمدَ
إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا.
*ذكر من قال ذلك:
10174- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا
ابن جريج قال: قال عطاء:"العَمد"، السلاح= أو قال: الحديد=
قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح.
__________
(1) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314 / 6: 576.
(2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف 6: 577، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف 1: 188، 189 / 2: 138، 347
/ 7: 116.
(4) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328، 329 / 3: 254، 261 /
6: 577 / 8: 439، 471.
(5) "بضع اللحم يبضعه": قطعه.
(9/57)
10175- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم
قالا حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان
بحديدة، وما كان بدون حديدة، فهو شبه العمد، لا قَوَد فيه.
10176- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه
العمد ما كان بَخَشبة. وشبه العمد لا يكون إلا في النفس. (1)
10178- حدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن
عمرو، عن طاوس قال: من قتل في عصبيّة، في رمي يكون منهم
بحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بالعصى، فهو خطأ، ديته دية
الخطأ. ومن قتل عمدًا فهو قَوَد يَدِه. (2)
10179- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، ومغيرة، عن الحارث
وأصحابه، في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضًا حتى يموت، قال:
أسأل الشهودَ أنه ضربه، فلم يزل مريضًا من ضربته حتى ماتَ، فإن
كان بسلاح فهو قَوَد، وإن كان بغير ذلك فهو شِبْه العمد.
* * *
وقال آخرون: كلّ ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا
كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. (3)
*ذكر من قال ذلك:
10180- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة، عن عبيد بن عمير أنه
قال: وأي
__________
(1) سقط من الترقيم رقم: 10177.
(2) في المطبوعة: "قود يديه"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله:
"قود يده"، أي قود بما جنت يده.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان الذي ضرب الأغلب"،
والسياق يقتضي إثبات"به" حيث أثبتها.
(9/58)
عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا، ثم لا
يقلع عنه حتى يموت؟. (1)
10181- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت،
أو ضربه بخشبة حتى يموت، فهو القَوَد.
* * *
وعلة من قال:"كل ما عدا الحديد خطأ"، ما:-
10182- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن
أبي عازب، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرْش؟ (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10180 -"حبان بن أبي جبلة القرشي، مولاهم، المصري.
روى عن عمرو بن العاص، والعبادلة إلا ابن الزبير، مضت ترجمته
برقم: 2195.
أما "عبد الرحمن بن يحيى"، فلم أعرف من هو، وأخشى أن
يكون"صوابه" عبد الرحمن بن أنعم، وهو: "عبد الرحمن بن زياد بن
أنعم بن ذري بن يحمد الإفريقي"، وسلفت ترجمته برقم 2195،
وروايته أيضًا عن"حبان بن أبي جبلة".
(2) الحديث: 10182 - سفيان: هو الثوري.
جابر: هو ابن يزيد الجعفي. وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب، كما
بينا في: 2340. أبو عازب: رجل كوفي غير معروف. قيل: اسمه"مسلم
بن عمرو"، وقيل: "مسلم بن أراك". لم يرو عنه غير جابر الجعفي
-هذا- و"الحارث بن زياد".
و"الحارث بن زياد" -هذا-: لا يعرف أحدًا، فإنه هو مجهول. ترجمه
ابن أبي حاتم 1 / 2 / 75. وروى عن أبيه أنه قال: "هو مجهول".
ولم يترجم له البخاري.
وأما أبو عازب: فقد ترجم له البخاري في الكبير 4 / 1 / 268،
وابن أبي حاتم 4 / 1 / 190 - كلاهما في اسم"مسلم بن عمرو".
وهو -على الرغم من هذا- لا يزال مجهولا، إذ لم يرو عنه ثقة
معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 272 (حلبي) ، عن وكيع، بهذا
الإسناد. ولكن بلفظ"لكل شيء خطأ" بزيادة اللام في"كل".
ثم رواه 4: 275 (حلبي) ، عن أحمد بن عبد الملك، عن زهير، عن
جابر -وهو الجعفي- به، بلفظ"كل شيء خطأ إلا السيف، وفي كل خطأ
أرش".
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8: 42، بثلاثة أسانيد، من طريق
جابر الجعفي ثم رواه بإسناد آخر، من طريق قيس بن الربيع، عن
أبي حصين، عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير، عن النعمان. ثم
قال: "مدار هذا الحديث على جابر الجعفي، وقيس بن الربيع، ولا
يحتج بهما".
وذكره الزيلعي في نصب الراية 4: 333، من رواية المسند. وأعله
بما قاله صاحب التنقيح: "وعلى كل حال فأبو عازب ليس بمعروف".
ثم نقل تعليله عن البيهقي في المعرفة بمثل ما أعله به في السنن
الكبرى. ولم يعقب عليهما.
(9/59)
وعلة من قال:"حكم كلّ ما قتل المضروب به من
شيء، حكم السيف، في أنّ من قتل به قتيلُ عمد"، ما:-
10183- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا
همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديًّا قتل جارية على
أوضاحٍ لها بين حجرين، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله
بين حجرين. (1)
* * *
قالوا: فأقاد النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر، وذلك غير
حديدٍ. قالوا: وكذلك حكم كل من قتل رجلا بشيء الأغلب منه أنه
يقتل مثلَ المقتول به، نظيرُ حكم اليهوديِّ القاتلِ الجارية
بين الحجرين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: كل
من ضرب إنسانًا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى
أتلف نفسَه به: أنه قاتل عمدٍ، ما كان المضروب به من شيء (2)
للذي ذكرنا من الخبر عن
__________
(1) الحديث: 10183 - هذا مختصر من حديث صحيح متفق عليه.
رواه البخاري 12: 174 -175، 187-188، ومسلم 2: 27 -كلاهما من
طريق همام، عن قتادة، عن أنس.
ورواه البخاري أيضًا 12: 176، 180، ومسلم 2: 26-27، من أوجه
أخر عن أنس.
وذكره المجد بن تيمية في المنتقى: 3915، وقال: "رواه الجماعة"
- يعني الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة.
="الأوضاح" جمع وضح (بفتحتين) ، وهو الدرهم الصحيح. ثم اتخذ
حلي من الدراهم الصحاح من الفضة، فقيل لها"أوضاح".
(2) قوله: "ما كان المضروب به من شيء" يعني: أي شيء كان
المضروب به.
(9/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها"، فإن أهل التأويل اختلفوا
في معناه. فقال بعضهم معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه.
*ذكر من قال ذلك:
10184- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية، عن سليمان
التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه
جهنم"، قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.
10185- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن
عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح:"ومن يقتل
مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
* * *
وقال آخرون: عُنِي بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه،
وقتل رجلا مؤمنًا. قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا مستحلا قتلَه، فجزاؤه جهنم خالدًا فيها.
*ذكر من قال ذلك:
10186- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن
صُبَابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الديةَ فقبلها، ثم
وثب على قاتل أخيه فقتله= قال ابن جريج: وقال غيره: ضرب النبيّ
صلى الله عليه وسلم ديتَه على بني النجار، ثم بعث مقيسًا، وبعث
معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمل
مقيسٌ الفِهريَّ (1) = وكان أيِّدًا (2) = فضرب به الأرض،
__________
(1) "مقيس الفهري"، والأشهر"السهمي"، وهو واحد، لأنه من بني
سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
(2) "الأيد" على وزن"سيد" الشديد القوي، من"الأيد" (بفتح
فسكون) وهو القوة.
(9/61)
ورَضخَ رأسه بين حجرين، ثم ألفى يتغنى:
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا، وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ
بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ (1)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أظنّه قد أحدث حدثًا! أما
والله لئن كان فعل، لا أومِنه في حِلّ ولا حَرَم ولا سلم ولا
حرب! فقتل يوم الفتح= قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية:"ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا"، الآية.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب.
*ذكر من قال ذلك:
10187- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، حدثني
سعيد بن جبير= أو: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير= قال: سألت
ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال:
إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا
متعمدًا، فجزاؤه جهنم، ولا توبة
__________
(1) سيرة ابن هشام 3: 305، 306، تاريخ الطبري 3: 66، معجم
البلدان (فارع) ، وهو آخر أبيات أربعة هي: شَفَى النَّفْسَ
أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرِّجُ
ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ
فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
حَلَلْتُ بِهِ وِترِي، وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ
إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ راجِعِ
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا............. ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلت به فهرًا"، وليس صوابًا،
إنما قتل قاتل أخيه هشام بن صبابة، قالوا: اسمه"أوس"، لا"فهر".
أما "فهر" في قوله: "ثأرت به فهرًا" فإنه يعني أبناء فهر، وهم
رهطه، أدرك ثأرهم بقتله الأنصاري. وفي مطبوعة تاريخ
الطبري"قهرًا" بالقاف، والصواب بالفاء. و"فارع" أطم بالمدينة
لبني النجار، كان لحسان بن ثابت رحمه الله، ذكره في شعره.
(9/62)
له = فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من نَدم.
* * *
وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيدَ لقاتل المؤمن متعمّدًا،
كائنًا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة
من فعله. قالوا: فكل قاتل مؤمن عمدًا، فله ما أوعده الله من
العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية
بعد التي في"سورة الفرقان".
*ذكر من قال ذلك:
10188- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى
الجابر، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما
كُفَّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في
رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال:"جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضبَ
الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا". قال: أفرأيت إن تاب
وآمن وعمِل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلتْه أمه! وأنَّى
له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيَّكم صلى الله
عليه وسلم يقول: ثكلته أمه! رجل قتل رجلا متعمدًا جاء يوم
القيامة آخذًا بيمينه أو بشماله، تَشْخَبُ أوداجه دمًا، في
قُبُل عرش الرحمن، يَلزم قاتلَه بيده الأخرى يقول: سلْ هذا فيم
قتلني؟ ووالذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية، فما
نسختها من آية حتى قُبض نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل
بعدها من برهان. (1)
__________
(1) الأثر: 10188 -"يحيى الجابر" هو"يحيى بن المجبر"، وهو:
يحيى بن عبد الله بن الحارث المجبر التيمي وثقه أخي السيد أحمد
في المسند.
ورواه أحمد في المسند رقم: 2142 بطوله، وهو حديث صحيح، من طريق
محمد بن جعفر عن شعبة، عن يحيى بن المجبر التيمي. ثم رواه
برقم: 2683، ورواه مختصرًا برقم: 1941، 3445 وانظر ابن كثير 2:
537-539.
وقوله: "تشخب أوداجه دما"، أي تسيل دمًا له صوت في خروجه،
و"الشخب"، ما يخرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة لضرع
الشاة، ويكون لمخرجه صوت عند الحلب. و"الأوداج" جمع"ودج"
(بفتحتين) ، وهي العروق التي تكتنف الحلقوم، وما أحاط بالعنق
من العروق التي يقطعها الذابح.
وقوله: "في قبل عرش الرحمن"، "قبل" (بضم فسكون) ، أو (بفتحتين)
أو (بضمتين) كل ذلك جائز، وهو الوجه، أو ما يستقبلك من شيء،
ويعني به ما بين يدي العرش حيث يستقبله الناظر.
(9/63)
10189- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو
خالد: عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن
أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه
ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا"، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل
صالحًا! فقال: وأنَّى له التوبة! (1)
10190- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا
همام، عن يحيى، عن رجل، عن سالم قال: كنت جالسًا مع ابن عباس،
فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنًا متعمدًا، أين منزله؟
قال:"جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا
عظيمًا". قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟
قال: وأنَّى له الهدى، ثكلته أمه؟ والذي نفسي بيده لسمعته
يقول= يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم= يجيء يوم القيامة
مُعَلِّقًا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذًا
صاحبه بيده الأخرى، تشخَبُ أوداجه حِيَال عرش الرحمن، يقول: يا
رب، سلْ عبدك هذا عَلام قتلني؟ فما جاء نبيّ بعد نبيِّكم، ولا
نزل كتابٌ بعد كتابكم. (2)
__________
(1) الأثر: 10189 -"أبو خالد" الأحمر، هو سليمان بن حيان
الأزدي، مضى برقم: 3956، ورواية سفيان بن وكيع عنه برقم: 2472.
و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى مرارًا، وانظر رقم: 3956.
و"يحيى بن الحارث التيمي" هو"يحيى الجابر"، و"يحيى بن عبد الله
بن الحارث" نسب إلى جده، ومضى في الأثر السالف.
وهذا الأثر مختصر الذي قبله.
(2) الأثر: 10190 -"موسى بن داود الضبي الطرسوسي"، من شيوخ
أحمد وعلي بن المديني. ثقة صاحب حديث، ولي قضاء طرسوس إلى أن
مات بها.
و"همام" هو ابن يحيى بن دينار الأزدي، روى عن عطاء وقتادة وابن
سيرين. روى عن الثوري، وهو من أقرانه. ثقة.
وهذا الأثر طريق آخر للأثر السالف بمعناه، وجعل بين يحيى
الجابر، وسالم بن أبي الجعد"رجلا"، ويحيى قد سمع سالمًا، فلا
يضر أن يكون سمعه أيضًا من رجل عن سالم.
(9/64)
10191- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة
قال، حدثنا عمار بن رُزيق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي
الجعد، عن ابن عباس: بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فوالله لقد
أنزلت على نبيكم، ثم ما نسخها شيء، ولقد سمعته يقول: ويل لقاتل
المؤمن، يجيء يوم القيامة آخذًا رأسه بيده= ثم ذكر الحديث
نحوه. (1)
10192- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن
أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل
ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"،
فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [سورة
الفرقان: 68] . قال: نزلت في أهل الشرك.
10193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن
بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين، فذكر نحوه. (2)
10194- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن
منصور قال، حدثني سعيد بن جبير= أو: حُدّثت عن سعيد بن جبير:
أن عبد الرحمن بن أبزى أمَره أن يسأل ابن عباس عن هاتين
الآيتين التي في"النساء":
__________
(1) الأثر: 10191 -"عمار بن رزيق الضبي"، أبو الأحوص. روى عن
أبي إسحاق السبيعي والأعمش وعطاء بن السائب، وغيرهم. قال ابن
معين: ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عمان بن
زريق" بالنون في"عمار" وبتقديم الزاي على الراء، وهو خطأ.
(2) الأثر: 10192، 10193 - رواه مسلم (18: 158) والبخاري (فتح
8: 380) من طريق محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، كالإسناد
الثاني.
(9/65)
"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" إلى
آخر الآية= والتي في"الفرقان": (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا) إلى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، قال ابن عباس:
إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنًا
متعمدًا، فلا توبة له. وأما التي في"الفرقان"، فإنها لما أنزلت
قال المشركون من أهل مكة: فقد عدَلنا بالله، وقتلنا النفس التي
حرم الله بغير الحق، وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام! قال
فنزلت: (إِلا مَنْ تَابَ) الآية (1)
10195- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: ما نسخها
شيء.
10196- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة،
عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: هي من آخر ما
نزلت، ما نسخها شيء.
10197- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل
الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته فقال: لقد
نزلت في آخر ما أنزل من القرآن، وما نسخها شيء. (2)
10198- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا شعبة
قال، حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة قال، أخبرني شهر بن حوشب
قال،
__________
(1) الأثر: 10194 - رواه البخاري (فتح 8: 379) ومسلم (18: 159)
. رواه البخاري من طريق سعد بن حفص، عن شيبان، عن منصور. ورواه
مسلم من طريق هارون بن عبد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم
الليثي، عن أبي معاوية شيبان.
وأسقطت المخطوطة: "وأتينا الفواحش". وليس فيها كلمة"الآية" في
آخر الأثر.
(2) الآثار 10195 - 10197 - هذه الآثار، رواها البخاري في
صحيحه (فتح 8 / 379) ومسلم (18: 158) . وقد استقصى الحافظ ابن
حجر الكلام فيها في الفتح. وكان في المطبوعة: "لقد نزلت في آخر
ما نزل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/66)
سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية:"ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" بعد قوله: (إِلا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، بسنةٍ.
10199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا
شعبة، عن معاوية بن قرة، عن ابن عباس قال:"ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: نزلت بعد (إِلا مَنْ تَابَ) ،
بسنة.
10200- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث
قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس قال، حدثني من سمع ابن
عباس يقول في قاتل المؤمن: نزلت بعد ذلك بسنة. فقلت لأبي إياس:
من أخبرك؟ فقال: شهر بن حَوْشب.
10201- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في
قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن
يستغفر الله.
10202- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا" الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت
بعد الآية التي في"سورة الفرقان" بثمان سنين، وهو قوله:
(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى
قوله: (غَفُورًا رَحِيمًا) .
10203- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف عن
أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس قال: هما المبهمتان: الشرك
والقتل. (1)
10204- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر
الإشراك
__________
(1) يعني بقوله: "المبهمتان"، يعني: الآيتان اللتان لا مخرج
منهما، كأنها باب مبهم مصمت، أي: مستغلق لا يفتح، ولا مأتى له.
وذلك أن الشرك والقتل، جزاؤه التخليد في نار جهنم، أعاذنا الله
منها. ومثله في الحديث: "أربع مبهمات: النذر والنكاح والطلاق
والعتاق"، وفسرته رواية أخرى: "أربع مقفلات"، أي: لا مخرج
منها، كأنها أبواب مبهمة عليها أقفال. وقد مضى تفسير"المبهم"
فيما سلف 8: 143، تعليق: 2، بغير هذا المعنى، فانظره.
(9/67)
بالله، وقتل النفس التي حرم الله، لأن الله
سبحانه يقول:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه
وأعدَّ له عذابًا عظيمًا".
10205- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في
قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: إنها
لمحكمة، وما تزداد إلا شدة.
10206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثني
هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي
الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت قال: نزلت"سورة
النساء" بعد"سورة الفرقان" بستة أشهر. (1)
10207- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا
نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن
سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة
آخذًا رأسه بيمينه وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربِّ، دمي عند
فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضى بينهما. ثم
نزع بهذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا
فيها" الآية، قال ابن عباس: والذي نفسي بيده، ما نسخها الله جل
وعز منذ أنزلها على نبيَّكم عليه السلام. (2)
10208- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة،
__________
(1) الأثر: 10206 -"هياج بن بسطام الهروي"، مضت ترجمته برقم:
9603.
(2) الأثر: 10207 -"ابن البرقي"، هو"أحمد بن عبد الله بن عبد
الرحيم البرقي" سلف برقم: 22 وكان في المطبوعة"ابن الرقي" وهو
خطأ.
و"ابن أبي مريم"، هو"سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحي"،
مضى برقم: 22، وغيره من المواضع.
وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(9/68)
عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة
بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال، سمعت أباك يقول: نزلت
الشديدةُ بعد الهيِّنة بستة أشهر، قوله:"ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا"، إلى آخر الآية، بعد قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى آخر الآية، [سورة الفرقان،
68] .
10209- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة
بن زيد قال: سمعت أباك في هذا المكان بمنَى يقول: نزلت الشديدة
بعد الهينة= قال: أراه: بستة أشهر، يعني:"ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا" بعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)
[سورة النساء: 48، 116] .
10210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن
الضحاك بن مزاحم قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، (1) قول من قال:
معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا
فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، (2)
فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله
فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل
رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)
[سورة الزمر: 53] .
* * *
فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية، فقد
يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله
عز ذكرُه قد أخبر
__________
(1) في المطبوعة: "وأولى القول في ذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعفو أو يتفضل"، والصواب من المخطوطة.
(9/69)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94)
أنه غير غافرٍ الشركَ لأحدٍ بقوله: (إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48، 116] ، والقتل دون
الشرك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا
أيها الذين صدَّقوا الله وصدَّقوا رسوله فيما جاءهم به من عند
ربهم="إذا ضربتم في سبيل الله"، يقول: إذا سرتم مسيرًا لله في
جهاد أعدائكم (2) ="فتبينوا"، يقول: فتأنَّوا في قتل من أشكل
عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، (3) ولا تعجلوا
فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على
قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله="ولا تقولوا
لمن ألقى إليكم السَّلَم"، (4) يقول: ولا تقولوا لمن استسلم
لكم فلم يقاتلكم، مظهرًا لكم أنه من أهل ملتكم ودَعوتكم (5)
="لست
__________
(1) في المخطوطة: "ولا نقبل دون الشرك"، وهو خطأ محض، والصواب
ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ص: 17، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(3) في المخطوطة: "فلما تعلموا"، وهو خطأ.
(4) كان في المطبوعة هنا، "السلام"، كقراءتنا اليوم في مصحفنا،
والسلام التحية، وهي إحدى القراءتين، ولكن تفسير أبي جعفر بعد،
هو تفسير"السلم"، وهو الاستسلام والانقياد، وهي القراءة الأخرى
التي اختارها. فكتابتها هنا"السلام" خطأ. لا يصح به المعنى من
تفسيره.
(5) انظر تفسير"السلم" فيما سلف ص: 23، 24، 29 ومادة"سلم" من
فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(9/70)
مؤمنًا"، فتقتلوه ابتغاء="عرض الحياة
الدنيا"، يقول: طلبَ متاعِ الحياة الدنيا، (1) فإن="عند الله
مغانم كثيرة"، من رزقه وفواضل نِعَمه، فهي خير لكم إن أطعتم
الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فأثابكم بها على طاعتكم إياه،
فالتمسوا ذلك من عنده="كذلك كنتم من قبل"، يقول، كما كان هذا
الذي ألقى إليكم السلم فقلتم له (2) "لست مؤمنًا" فقتلتموه،
كذلك كنتم أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز الله دينه
بتُبَّاعه وأنصاره، تستخفُون بدينكم، كما استخفى هذا الذي
قتلتموه وأخذتم ماله، بدينه من قومه أن يُظهره لهم، حذرًا على
نفسه منهم. وقد قيل إن معنى قوله:"كذلك كنتم من قبل" كنتم
كفارًا مثلهم="فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتفضل الله عليكم
بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تُبَّاعه. وقد قيل، فمنَّ الله
عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله بعد ما
ألقى إليكم السلم (3) ="فتبينوا"، يقول: فلا تعجلوا بقتل من
أردتم قتلَه ممن التبس عليكم أمرُ إسلامه، فلعلَّ الله أن يكون
قد مَنَّ عليه من الإسلام بمثل الذي منَّ به عليكم، وهداه لمثل
الذي هداكم له من الإيمان. (4) ="إن الله كان بما تعملون
خبيرًا"، يقول: إن الله كان بقتلكم من تقتلون، وكَفِّكم عمن
تكفُّون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم، وغير ذلك من أموركم
وأمور غيركم="خبيرًا"، يعني: ذا خبرة وعلم به، (5) يحفظه عليكم
وعليهم، حتى يجازى جميعكم به يوم القيامة جزاءه، المحسن
بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 8: 316 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف
ص: 70، رقم: 4.
(3) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف
ص: 70، رقم: 4.
(4) انظر تفسير"من" فيما سلف 7: 369.
(5) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة: "جزاء المحسن بإحسانه.."، وهو غير مستقيم،
والصواب من المخطوطة.
(9/71)
وذكر أن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته
سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال:"إنيّ مسلم" =
أو بعد ما شهد شهادة الحق= أو بعد ما سلَّم عليهم= لغنيمة كانت
معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه.
ذكر الرواية والآثار في ذلك: (1)
10211- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن
نافع، عن ابن عمر قال (2) بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلِّم
بن جثَّامة مَبْعثًا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية
الإسلام، وكانت بينهم حِنَةٌ في الجاهلية، (3) فرماه محلم
بسهم، فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سُنَّ
اليوم وغيِّر غدًا! (4) فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه
من الثكل ما ذاق نسائي (5) فجاء محلِّم في بُرْدين، (6) فجلس
بين يديْ رسول الله ليستغفر له، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقى دموعه ببُرْديه، فما مضت
به سابعة حتى مات، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاؤوا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم
__________
(1) في المطبوعة: "والآثار بذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "عن نافع أن ابن عمر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "إحنة في الجاهلية"، وهو صواب، و"الإحنة":
الحقد في الصدر. من"أحن" وأما "حنة" كما أثبتها من المخطوطة،
فهي من"وحن"، وهي أيضًا الحقد. وقد سلف التعليق على هذه
اللفظة، حيث وردت في الأثر رقم 2195، في الجزء الثالث: 152،
153، تعليق: 2. وقد ذكرت هناك إنكار الأصمعي"حنة"، وزعم
الأزهري أنها ليست من كلام العرب. وهذا دليل آخر على صواب هذه
الكلمة، وأن الذي قاله الأزهري ليس بشيء.
(4) في ابن كثير 2: 546: "سر اليوم وغر غدا" وهو خطأ محض.
(5) في المخطوطة: "حتى تذوق بكاؤه" وهو تحريف من الناسخ،
والصواب من السياق ومن تفسير ابن كثير.
(6) في المخطوطة: "في برد"، والصواب من ابن كثير، وكما صححه في
المطبوعة من سياق الخبر.
(9/72)
فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو
شرٌّ من صاحبكم! ولكن الله جل وعز أراد أن يَعِظكم. ثم طرحوه
بين صَدفَيْ جبل، (1) وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت:"يا أيها
الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية (2)
10212- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن
يزيد ابن عبد الله بن قسيط، (3) عن أبي القعقاع بن عبد الله بن
أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَمٍ، (4) فخرجت في نَفَرٍ
من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ، ومحلِّم بن
جَثَّامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم، مرّ
بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له، معه مُتَيِّعٌ له،
ووَطْبٌ من لبن. (5) فلما مر بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام،
فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلِّم بن جثَّامة الليثي لشيء كان
بينه وبينه فقتله، وأخذ بعيره ومتَيِّعَه. فلما قدِمنا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، (6) نزل فينا
القرآن:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضَرِبتم في سبيل الله فتبينوا
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمنًا"، الآية (7)
__________
(1) "الصدف" (بفتحتين) : جانب الجبل الذي يقابلك منه. والصدف:
كل شيء مرتفع عظيم كالحائط والجبل.
(2) الأثر: 10211 - في تفسير ابن كثير 2: 546، وخرجه السيوطي
في الدر المنثور 2: 200 مختصرًا.
(3) في المطبوعة: "عن يزيد عن عبد الله بن قسيط"، وهو خطأ،
صوابه من المخطوطة وسائر المراجع.
(4) "إضم": واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، من عند المدينة،
وهو واد لأشجع وجهينة.
(5) "القعود": هو البكر من الإبل، حين يمكن ظهره من الركوب،
وذلك منذ تكون له سنتان حتى يدخل في السادسة. و"متيع"
تصغير"متاع": وهو السلعة، وأثاث البيت، وما يستمتع به الإنسان
من حوائجه أو ماله. و"الوطب": سقاء اللبن.
(6) في المطبوعة: "وأخبرناه" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(7) الأثر: 10212 - هذا الأثر رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة
ابن هشام 4: 275، ورواه أحمد في مسنده 6: 11، وابن سعد في
الطبقات 4 / 2 / 22 و2 / 1 / 96 (بغير إسناد) ، والطبري في
تاريخه 3: 106، وابن عبد البر في الاستيعاب: 285، وابن الأثير
في أسد الغابة 3: 77، وابن كثير في تفسيره 2: 545، والحافظ ابن
حجر في ترجمة"عبد الله بن أبي حدرد"، والسيوطي في الدر المنثور
2: 199، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والطبراني، وابن المنذر،
وابن أبي حاتم، وأبي نعيم والبيهقي، وكلاهما في الدلائل.
وفي إسناد هذا الأثر اضطراب شديد أرجو أن أبلغ في بيانه بعض ما
أريد في هذا المكان.
1- وإسناد محمد بن إسحاق في سيرة ابن هشام: "حدثني يزيد بن عبد
الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه
عبد الله بن أبي حدرد".
2- وإسناد أحمد في مسنده: "حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن
إسحاق (وفي المطبوعة: عن إسحاق، خطأ صوابه من تفسير ابن كثير)
، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن
أبي حدرد، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد".
3- وإسناد الطبري في تاريخه: "حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة،
عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن
عبد الله بن أبي حدرد= وقال بعضهم: عن ابن القعقاع= عن أبيه،
عن عبد الله بن أبي حدرد".
4- وإسناد ابن سعد في الطبقات: "أخبرنا محمد بن عمر قال، حدثنا
عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عبد الله
بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه".
والأسانيد الثلاثة الأولى، وإسناد الطبري في التفسير، جميعها
من طريق محمد بن إسحاق، وقد اتفق إسناد أحمد وإسناد ابن إسحاق
في سيرة ابن هشام.
وأما إسنادا الطبري فقد خالف ما اتفق عليه أحمد وابن هشام في
السيرة، فجاء في التفسير هنا"عن أبي القعقاع" لا"عن القعقاع"،
ثم زاد الطبري الأمر إشكالا في التاريخ فقال"عن أبي القعقاع..
عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد"، فزاد"عن أبيه"، ولا ذكر
لها في تفسيره، ولا في سائر الأسانيد، والظاهر أنه خطأ، وأن
صوابه كما في التفسير"عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد".
وأما إسناد ابن سعد، فقد خالف هذا كله فجعل مكان"القعقاع"، أو
"أبي القعقاع"، "عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد"، ولم أجد
لعبد الرحمن هذا ذكرًا في كتب تراجم الرجال. وجاء ابن عبد البر
في الاستيعاب 2: 452، بما هو أغرب من هذا، فسماه"عبد ربه بن
أبي حدرد الأسلمي"، وليس له ذكر في كتاب. ولكني وجدت في الجرح
والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 228"عبد الرحمن بن أبي حدرد
الأسلمي"، سمع أبا هريرة. روى عنه أبو مودود عبد العزيز بن أبي
سليمان المديني. ولا أظنه هذا الذي في إسناد ابن سعد. (انظر
أيضًا تهذيب التهذيب 6: 160) .
وأما "القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" فقد ترجم البخاري في
الكبير 4 / 1 / 187، لصحابي هو"القعقاع بن أبي حدرد الأسلمي"
وامرأته"بقيرة"، وهو كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة،
أخو"عبد الله بن أبي حدرد" ثم عقب البخاري على هذه الترجمة
بقوله: "ويقال: القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، ولا يصح"،
يعني أنه هذا الأخير لا تصح له صحبة، وأنه غير الأول. وكذلك
فعل ابن أبي حاتم 3 / 2 / 136، كمثل ما في التاريخ الكبير.
أما الحافظ في تعجيل المنفعة: 344، فقد ترجم للقعقاع بن عبد
الله بن أبي حدرد الأسلمي ووهم في نقله عن البخاري، فظن
البخاري قد ترجم له، فذكر في ترجمته ما قال البخاري في
ترجمة"القعقاع بن أبي حدرد"، مع أنه صحح ذلك في ترجمة"القعقاع
بن عبد الله بن أبي حدرد" في القسم الثالث من الإصابة.
أما ما ذكره الطبري من أنه"أبو القعقاع بن عبد الله بن أبي
حدرد" أو "ابن القعقاع"، فلم أجده في مكان آخر، ولكني تركت ما
كان في نص إسناده في التفسير"أبو القعقاع"، مع أنه لا ذكر له
في الكتب ولا ترجمة، لأنه وافق ما في التاريخ، ولأن ما رواه من
قوله: "ويقال: ابن القعقاع"، يستبعد معه كل تحريف أو زيادة من
ناسخ أو غيره.
هذا، وقد جاء في إسناد آخر في التاريخ 3: 125 عن ابن إسحاق، عن
يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب
الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، "عن أبيه عبد
الله بن أبي حدرد". فلم يذكر اسمه، كما ذكر في الإسناد السالف،
كما سيأتي في الإسناد التالي أيضًا: "عن ابن أبي حدرد، عن
أبيه".
وهذا اضطراب غريب في إسناده، أردت أن أجمعه في هذا المكان،
لأني لم أجد أحدًا استوفى ما فيه، وعسى أن يتوجه لباحث فيه
رأي، وكتبه محمود محمد شاكر.
(9/73)
10213- حدثني هارون بن إدريس الأصم قال،
حدثنا المحاربي عبد الرحمن
(9/74)
بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد
الله بن قسيط، عن ابن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه. (1)
10214- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن
عطاء، عن ابن عباس قال: لحق ناسٌ من المسلمين رجلا في غُنَيْمة
له، فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغُنَيْمة، فنزلت
هذه الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا
تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة. (2)
10215- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس
بنحوه.
10216- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن
__________
(1) الأثر: 10213 - انظر التعليق على الأثر السالف."هارون بن
إدريس الأصم" شيخ الطبري، مضى برقم: 1455.
و"المحاربي""عبد الرحمن بن محمد بن زياد" مضى برقم: 221، 875،
1455.
(2) "الغنيمة" تصغير"غنم"، وهو قطيع من الغنم. وإنما أدخلت
التاء في"غنيمة"، لأنه أريد بها القطعة من الغنم. وانظر ما
قاله أبو جعفر في دخول هذه التاء فيما سلف 6: 412، 413.
(9/75)
عطاء، عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا
ثم ذكر مثله. (1)
10217- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني
سُلَيم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو
في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إلا ليتعوذَ
منكم! فَعَمَدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا
إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" إلى آخر الآية.
10218- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن
سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله. (2)
10219- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم
بالإسلام، ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت
سريَّة محمدٍ صلى الله عليه
__________
(1) الأثر: 10216 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و"سعيد بن الربيع الرازي" مضى برقم: 3791، 5312.
(2) الأثران: 10217، 10218 - رواه أحمد في مسنده من طريق يحيى
بن أبي بكير، وحسين بن محمد، وخلف بن الوليد، ويحيى بن آدم،
جميعًا عن إسرائيل. وأرقامه في المسند: 2023، 2462، 2988،
وإسناده صحيح. وقال ابن كثير في تفسيره 2: 544: "ورواه ابن
جرير من حديث عبيد الله بن موسى، وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما
عن إسرائيل به. وقال في بعض كتبه غير التفسير: وقد رواه من
طريق عبد الرحمن فقط (هكذا في الأصل) . وهذا خبر عندنا صحيح
سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما، لعلل، منها:
أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا عن هذا الوجه= ومنها: أن
عكرمة في روايته عندهم نظر= ومنها: أن الذي نزلت فيه هذه الآية
عندهم مختلف فيه، فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة. وقال
بعضهم: أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك. قلت [القائل ابن كثير] :
وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه، أحدها: أنه ثابت عن سماك،
حدث به غير واحد من الأئمة الكبار. الثاني: أن عكرمة محتج به
في الصحيح. الثالث: أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس.."
وهذا الذي نقله ابن كثير من بعض كتب أبي جعفر، أرجح، بل أقطع،
أنه في كتابه تهذيب الآثار، وبيانه هذا الذي نقله ابن كثير،
مطابق لنهجه في تهذيب الآثار، ونقلت هذا هنا للفائدة، ولأنه
أول نقل رأيته في تفسير ابن كثير عن تهذيب الآثار فيما أرجح.
(9/76)
وسلم أخبر بها حيّه= يعني قومه= ففرّوا،
وأقام الرجل لا يخافُ المؤمنين من أجل أنه على دينهم، حتى
يلقاهم فيلقي إليهم السلام، فيقولُ المؤمنون:"لست مؤمنًا"، وقد
ألقى السلام فيقتلونه، فقال الله تبارك وتعالى:"يا أيها الذين
آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، إلى"تبتغون عرض الحياة
الدنيا"، يعني: تقتلونه إرادةَ أن يحلَّ لكم ماله الذي وجدتم
معه -وذلك عرضُ الحياة الدنيا- فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا
من فضل الله. وهو رجل اسمه"مِرْداس"، جَلا قومه هاربين من خيلٍ
بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها رجل من بني لَيْث
اسمه"قُليب"، (1) ولم يجلُ معهم، (2) وإذْ لقيهم مرداس فسلم
عليهم قتلوه، (3) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله
بديته، ورد إليهم ماله، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
10220- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله
فتبينوا"، الآية، قال: وهذا الحديث في شأن مرداس، رجل من
غطفان، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا
عليهم غالب اللَّيثي إلى أهل فَدَك، وبه ناس من غطفان، وكان
مرداس منهم، ففرّ أصحابه، فقال مرداس:"إني مؤمن وإنيّ غيرُ
مُتّبعكم، فصبَّحته الخيلُ غُدْوة، (4) فلما لقوه سلم عليهم
مرداس، فرماه
__________
(1) انظر الاختلاف في اسمه"قليب" بالقاف والباء، أو فليت"
بالفاء والتاء، في الإصابة في موضعه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولم يجامعهم" وظاهر أنه تحريف من
الناسخ، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "إذا لقيهم مرداس فسلم عليهم فقتلوه" وأثبت
ما في المخطوطة إلا أني جعلت"وإذا""وإذ"، لأن السياق يقتضيها.
(4) "صبحتهم الخيل (بفتحتين) وصبحتهم (بتشديد الباء) ": أتتهم
صباحًا، وكانت أكثر غاراتهم في الصباح. و"الغدوة" (بضم فسكون)
: البكرة، ما بين صلاة الغداة (الفجر) وطلوع الشمس.
(9/77)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقتلوه، (1) وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جل وعز في
شأنه:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، لأن تحية
المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضًا.
(2)
10221- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل
الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا
تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من
قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا"، (3) بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضَمْرة، فلقوا رجلا
منهم يدعى مِرداس بن نهيك، معه غُنَيْمة له وجمل أحمر. فلما
رآهم أوى إلى كهف جبل، واتّبعه أسامة. فلما بلغ مرداسٌ الكهفَ،
وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال:"السلام عليكم، أشهد أن لا
إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". فشدّ عليه أسامة فقتله،
من أجل جمله وغُنَيْمته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
بعث أسامة أحبَّ أن يُثْنَى عليه خيرٌ، ويسأل عنه أصحابَه.
فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدِّثون النبي صلى الله
عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله، لو رأيت أسامة ولقيه رجل،
فقال الرجل:"لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فشد عليه
فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة
فقال: كيفَ أنت ولا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما
قالها متعوذًا، تعوَّذ بها!. فقال
__________
(1) في المخطوطة: "فدعاه" وهو تحريف، صواب ما أثبت. وفي
المطبوعة: "فتلقوه"، وهو رديء، خير منه ما في الدر المنثور:
"فتلقاه".
(2) الأثر: 10220 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 200، وزاد
نسبته إلى عبد بن حميد.
(3) كان في المطبوعة: " ... عرض الحياة الدنيا، الآية، قال:
بعث ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ قد غفل فأسقط
من الآية في كتابته: "كذلك كنتم من قبل".
(9/78)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلا
شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ قال: يا رسول الله، إنما قلبه بَضْعة
من جسده! (1) فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من
أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول:"تبتغون عرض الحياة الدنيا"،
فلما بلغ:"فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتاب الله عليكم، فحلف
أسامةُ أن لا يقاتل رجلا يقول:"لا إله إلا الله"، بعد ذلك
الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
10222- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنًا"، قال: بلغني أن رجلا من المسلمين أغار على
رجل من المشركين فَحَمَل عليه، فقال له المشرك:"إنّي مسلم،
أشهد أن لا إله إلا الله"، فقتله المسلم بعد أن قالها. فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: أقتلته، وقد
قال لا إله إلا الله؟ فقال، وهو يعتذر: يا نبي الله، إنما
قالها متعوذًا، وليس كذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
فهلا شققت عن قلبه؟ ثم ماتَ قاتلُ الرجل فقُبر، فلفظته الأرض.
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم
لفظته الأرض، حتى فُعل به ذلك ثلاث مرات. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إن الأرض أبتْ أن تقبَله، فألقوه في غارٍ من
الغيران= قال معمر: وقال بعضهم: إن الأرض تَقْبَل من هو شرٌّ
منه، ولكن الله جعله لكم عِبْرَة.
10223- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قومًا من
المسلمين لقوا رجلا من المشركين في غُنَيْمة له، فقال:"السلام
عليكم، إنِّي مؤمن"، فظنوا أنه يتعوّذ بذلك، فقتلوه وأخذوا
غُنَيْمته. قال: فأنزل الله جل وعز:"ولا تقولوا لمن
__________
(1) "البضعة" (بفتح فسكون) : القطعة من اللحم.
(9/79)
ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض
الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة="كذلك كنتم من قبل فمن الله
عليكم فتبينوا".
10224- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن
أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا
ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، قال: خرج المقداد بن الأسود في
سريّة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمُّروا برجل
في غُنَيْمة له، فقال:"إنّي مسلم"، فقتله المقداد. (1) فلما
قدموا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه
الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون
عرض الحياة الدنيا"، قال: الغنيمة. (2)
10225- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نزل
ذلك في رجل قتله أبو الدرداء=
= فذكر من قصة أبي الدرداء، نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن
زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا
إلا خطأ"، (3) ثم قال في الخبر:
= ونزل الفرقان:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، فقرأ
حتى بلغ:"لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، غنمه التي
كانت، عرض الحياة الدنيا ="فعند الله مغانم كثيرة"، خير من تلك
الغنم، إلى قوله:"إن الله كان بما تعملون خبيرًا".
__________
(1) في المخطوطة: "فقتله الأسود"، والصواب ما في المطبوعة، أو
أن تكون: "فقتله ابن الأسود".
(2) الأثر: 10224-"حبيب بن أبي عمرة" القصاب، بياع القصب،
ويقال"اللحام"، أبو عبد الله الحماني. روى عن مجاهد، وسعيد بن
جبير، وأم الدرداء. روى عنه الثوري وجماعة. قال ابن سعد: "ثقة
قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
(3) انظر ما سلف رقم: 10221.
(9/80)
10226- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تقولوا
لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: راعي غنم، لقيه نفر
من المؤمنين فقتلوه، (1) وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا
منه:"السلام عليكم، فإني مؤمن".
10227- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: حرم الله على المؤمنين أن
يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله:"لست مؤمنًا"، كما حرم
عليهم الميْتَة، فهو آمن على ماله ودمه، لا تردّوا عليه قوله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"فَتَبَيَّنُوا".
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعضُ الكوفيين
والبصريين: (فَتَبَيَّنُوا) بالياء والنون، من"التبين" بمعنى،
التأني والنظر والكشف عنه حتى يتَّضح. (2)
وقرأ ذلك عُظْم قرأة الكوفيين: (فَتَثَبَّتُوا) ، بمعنى
التثبُّت، الذي هو خلاف العَجَلة.
قال أبو جعفر: والقولُ عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان
مستفيضتان في قرأة المسلمين بمعنى واحد، وإن اختلفت بهما
الألفاظ. لأن"المتثبت" متبيّن، و"المتبيِّن" متثبِّت، فبأي
القراءتين قرأ القارئ، فمصيبٌ صوابَ القراءة في ذلك.
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلم". (3)
__________
(1) في المخطوطة: "بعثه نفر من المؤمنين"، وهو خطأ، صوابه ما
في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"التبين" فيما سلف ص: 70.
(3) في المطبوعة: " ... السلام" بالألف، والصواب إثباتها كرسم
المصحف هنا، حتى يظهر سياق اختلاف القراءة.
(9/81)
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين
والكوفيين: (السَّلَمَ) بغير ألف، بمعنى الاستسلام.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين والبصريين: (السَّلامَ) بألف، بمعنى التحية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (لِمَنْ
أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ، بمعنى: من استسلم لكم، مذعنًا
لله بالتوحيد، مقرًّا لكم بملَّتكم.
وإنما اخترنا ذلك، لاختلاف الرواية في ذلك: فمن راوٍ رَوى أنه
استسلم بأن شهد شهادة الحق وقال:"إنّي مسلم" = ومن راوٍ رَوى
أنه قال:"السلام عليكم"، فحياهم تحية الإسلام= ومن راوٍ رَوى
أنه كان مسلمًا بإسلامٍ قد تقدم منه قبل قتلهم إياه= وكل هذه
المعاني يجمعه"السَّلَم"، لأن المسلم مستسلم، والمحيي بتحية
الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لأهل الإسلام،
فمعنى"السَّلم" جامع جميع المعاني التي رُويت في أمر المقتول
الذي نزلت في شأنه هذه الآية وليس ذلك في"السلام"، (1)
لأن"السلام" لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية. فلذلك
وصفنا"السلم"، بالصواب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كذلك كنتم من
قبل".
فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى
إليكم السَّلَم، مستخفيًا في قومه بدينه خوفًا على نفسه منهم،
كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرًا على أنفسكم منهم،
فمنَّ الله عليكم.
*ذكر من قال ذلك:
10228- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: "وليس كذلك في الإسلام"، والصواب الجيد من
المخطوطة.
(9/82)
جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن
سعيد بن جبير في قوله:"كذلك كنتم من قبل"، تستخفون بإيمانكم،
(1) كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.
10229- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن
أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"كذلك كنتم من قبل"، تكتمون إيمانكم
في المشركين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه، بعد ما ألقى
إليكم السلم، (2) كافرًا، كنتم كفارًا، فهداه كما هداكم.
*ذكر من قال ذلك:
10230- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم"، كفارًا
مثله="فتبينوا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الأول،
وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين
وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيمًا بين
أظهر قومه من المشركين مستخفيًا بدينه منهم.
وإنما قلنا:"هذا التأويل أولى بالصواب"، لأن الله عز ذكره إنما
عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلم ولم
يُقَدْ به قاتلوه، (3) للبْس الذي كان دخل في أمره على قاتليه
بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنِّهم أنه ألقى
__________
(1) في المخطوطة: "مستخفون بإيمانكم"، وما في المطبوعة أجود.
(2) قوله"كافرًا" ليس في المخطوطة، والسياق يقتضيها كما في
المطبوعة، وانظر اعتراض أبي جعفر بعد، فهو يوجب إثبات هذه
الكلمة في هذا الموضع.
(3) في المطبوعة في هذا الموضع وما يليه"السلام" مكان"السلم"،
ولكني أثبت ما في المخطوطة، لأن تفسير أبي جعفر جار على"السلم"
لا على"السلام". وقوله: "لم يقد" بالبناء للمجهول من"القود"
(بفتح القاف والواو) وهو القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، يقال
منه"أقدته به أقيده إقادة".
(9/83)
السلم إلى المؤمنين تعوّذًا منهم، ولم
يعاتبهم على قتلهم إياه مشركًا فيقال:"كما كان كافرًا كنتم
كفارًا"، بل لا وجه لذلك، لأن الله جل ثناؤه لم يعاتب أحدًا من
خلقه على قتل محارِبٍ لله ولرسوله من أهل الشرك، بعد إذنه له
بقتلِه.
واختلف أيضًا أهل التأويل في تأويل قوله:"فمنّ الله عليكم".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز
أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتتمون به من أهل
الشرك. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10231- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن
أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"فمن الله عليكم"، فأظهر الإسلام.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن الله عليكم= أيها القاتلون الذي
ألقى إليكم السلم (2) طلبَ عرض الحياة الدنيا= بالتوبة من
قتلكم إياه.
*ذكر من قال ذلك:
10232- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن الله عليكم"، يقول: تاب الله
عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي
ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدِّلالة على أن معنى
قوله:"كذلك كنتم من قبل"، ما وصفنا قبل. فالواجب أن يكون
عَقِيب ذلك:"فمن الله عليكم"،
__________
(1) في المطبوعة: "بعد ما كانوا يكتمونه"، والجيد ما في
المخطوطة."يكتتمون به"، يستخفون به.
(2) في المخطوطة: "أيها القاتلو الذي ألقي إليكم السلم"، وهو
لا بأس به.
(9/84)
فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم
عنكم، بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم
تستخفون به من توحيده وعبادته، حِذَارًا من أهل الشرك. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "حذرًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(9/85)
|