تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)

القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون"، لا يعتدل المتخلِّفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله، المؤثرون الدعةَ والخَفْض وَالقُعودَ في منازلهم على مُقاساة حُزُونة الأسفار والسير في الأرض، ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله، وقتالهم في طاعة الله، إلا أهل العذر منهم بذَهَاب أبصارهم، وغير ذلك من العِلل التي لا سبيل لأهلها -للضَّرَر الذي بهم- إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله="والمجاهدون في سبيل الله"، ومنهاج دينه، (1) لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقَتهم في قتال أعداءِ الله وأعداءِ دينهم= بأموالهم، إنفاقًا لها فيما أوهَن كيد أعداء أهل الإيمان بالله - وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة الله العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"غير أولي الضرر".
* * *
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة ومكة والشأم (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) ، نصبًا، بمعنى: إلا أولي الضرر.
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة والبصرة: (2) (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) برفع"غير"،
__________
(1) انظر تفسير"في سبيل الله" فيما سلف ... ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة"، وأثبت ما في المخطوطة.

(9/85)


على مذهب النّعت"للقاعدين".
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) بنصب"غير"، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله:"غير أولي الضرر"، نزل بعد قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، استثناءً من قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون".
* * *
ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك:
10233- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتوني بالكتف والَّلوح، فكتب (1) "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، وعمرو بن أم مكتوم خلف ظَهره، فقال: هل لي من رُخصة يا رسول الله؟ فنزلت:"غير أولي الضرر". (2)
10234- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي
__________
(1) في المطبوعة"فكتب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 10233 - هذا حديث البراء بن عازب، في شأن نزول قوله تعالى (غير أولي الضرر) - وقد رواه الطبري هنا بسبعة أسانيد. خمسة منها في نسق: 10233 - 10237، ثم: 10248، 10249.
وأبو إسحاق -فيها كلها-: هو أبو إسحاق السبيعي.
فهذا الحديث أولها، "عن نصر بن علي الجهضمي" - رواه الترمذي 3: 19، عن نصر بن علي، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه النسائي 2: 54، عن نصر بن علي.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 40 - بتحقيقنا- عن محمد بن عمر بن يوسف، عن نصر بن علي.
وقوله: "فكتب: لا يستوي" - إلخ: يعني أمر بالكتابة. وهذا هو الثابت في المطبوعة"فكتب" بالفاء. وهو الموافق لما في الترمذي، والنسائي، وابن حبان، وفي المخطوطة"وكتب" بالواو. فأثبتنا الموافق دون المخالف، وإن كان المعنى واحدًا.

(9/86)


إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى، فقال: يا رسول الله، كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت:"غير أولي الضرر". (1)
10235- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: لما نزلت، جاء عمرو ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ضريرَ البصر، فقال: يا رسول الله، ما تأمرني، فإني ضرير البصر؟ فأنزل الله هذه الآية، فقال: ائتوني بالكتف والدواة، أو: اللوح والدواة. (2)
10236- حدثني إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرَّملي قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء: أنه لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، كلمه ابن أم مكتوم، فأنزلت:"غير أولي الضرر". (3)
__________
(1) الحديث: 10234 - هو تكرار للحديث قبله، على ما في سفيان بن وكيع من ضعف. ولكنه سمع من أبي بكر بن عياش، أبو بكر سمع من أبي إسحاق السبيعي.
والحديث في ذاته صحيح من هذا الوجه:
فقد رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبيد، عن أبي بكر بن عياش، به.
(2) الحديث: 10235 - سفيان بن وكيع لم ينفرد بروايته عن أبيه عن سفيان الثوري: فقد رواه أحمد في المسند 4: 290، 299 (حلبي) ، عن وكيع، عن الثوري - بهذا الإسناد. وكذلك رواه الترمذي 4: 90-91، عن محمود بن غيلان، عن وكيع، به. وقال: "هذا حديث حسن صحيح. ويقال: عمرو بن أم مكتوم. ويقال: عبد الله بن أم مكتوم. وهو عبد الله بن زائدة. وأم مكتوم: أمه".
(3) الحديث: 10236- إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، أبو محمد: ثقة من شيوخ ابن أبي حاتم، ترجمه في 1 / 1 / 158، وقال: "كتبنا عنه، وهو صدوق". ولكن عنده"السلال" بدل"الدلال" - ولم نجد مرجحًا، فأثبتنا ما ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة. ولكن فيه خطأ في المطبوعة: "محمد بن إسماعيل" بزياة"محمد بن" وليست في المخطوطة، فحذفناها. ويؤيد ذلك أن الطبري نفسه روى عنه في التاريخ 2: 273، بهذا الإسناد، عن البراء في عدة أصحاب طالوت، وسماه هناك"إسماعيل بن إسرائيل الرملي". وحديث البراء في عدة أصحاب طالوت، مضى بأسانيد: 5724 - 5729، ولكن ليس فيها هذا الإسناد الذي في التاريخ.
عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي، سكن مصر: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 158، وروى عن أبيه، قال: "ليس بالقوي". ولم يذكر أنه يروي عن مسعر، ولكن روايته عنه ثابتة في تهذيب الكمال للحافظ المزي، ص: 1322 (مخطوط مصور) ، في ترجمة مسعر، في الرواة عنه، وكذلك ثبت في ترجمته هو في لسان الميزان 3: 332 - 333 أنه يروي عن مسعر. وفي ترجمته هذه ما يدل على جرحه جرحًا شديدًا، يسقط روايته.
والحديث من رواية مسعر - ثابت صحيح، من غير رواية عبد الله بن محمد بن المغيرة هذا. فرواه مسلم 2: 101، عن أبي كريب، عن ابن بشر، وهو محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي الحافظ، عن مسعر، به.

(9/87)


10237- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، أنه سمع البراء يقول في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكتف فكتبها. قال: فشكا إليه ابن أم مكتوم ضَرَارته، فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر".
= قال شعبة، وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون"، مثل حديث البراء. (1)
__________
(1) الحديث: 10237 - إبو إسحاق: هو السبيعي، كما قلنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق"، وهو خطأ يقينًا. وثبت على الصواب في المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 282 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه مسلم 2: 100-101، عن محمد بن المثنى (شيخ الطبري هنا) ، وعن محمد بن بشار - كلاهما عن محمد بن جعفر، به.
ورواه أبو داود الطيالسي: 705، عن شعبة، به.
ورواه أحمد أيضا 4: 284، عن عفان و299-300، عن عبد الرحمن (وهو ابن مهدي) - كلاهما عن شعبة.
ورواه البخاري 6: 34 (فتح) ، والدارمي 2: 209 - كلاهما عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 41 (بتحقيقنا) ، عن أبي خليفة، عن أبي الوليد الطيالسي، به.
ورواه البخاري أيضًا 8: 196 (فتح) ، عن حفص بن عمر، عن شعبة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 23، بإسنادين، من طريق حفص بن عمر. وهذا كله عن أصل الحديث، حديث البراء. وأما الإسناد الآخر الملحق به هنا: "شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد" - وهو ابن ثابت: فإنه في الحقيقة حديث آخر بإسناد آخر، فيه رجل مبهم. فيكون إسناده ضعيفًا. وحديث زيد بن ثابت -في نفسه- صحيح، وسيأتي: 10239، 10240.
وأما من هذا الوجه الضعيف، فقد رواه مسلم أيضًا، تبعًا لحديث البراء هذا، كمثل صنيع الطبري هنا. وبالضرورة ليس هذا الإسناد على شرط الصحيح عند مسلم. وإنما ساقه تمامًا للرواية عن شعبة، كما سمعه.
ومن العجب أن لم يتحدث عنه النووي في شرحه 13: 42، ولم يذكر علته.
ومن عجب أيضًا أن لم يذكره الحافظ المزي في باب (المبهمات) من تهذيب الكمال، ولا ذكره أحد من فروعه - مع أنه في صحيح مسلم بروايتين: "عن سعد بن إبراهيم، عن رجل، عن زيد"، و"عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد".
ثم لما نعرف هذا الرجل المبهم.
وسعد: هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وأبوه: من كبار التابعين، فمن المحتمل جدًا أن يكون شيخه الرجل المبهم هنا صحابيًا. ولكنا لا نستطيع ترجيح ذلك.

(9/88)


10238- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، ما لي رخصة؟ قال: لا! قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخِّص! فأنزل الله:"غير أولي الضرر"، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها= يعني: الكاتب. (1)
__________
(1) الحديث: 10238 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: مضى توثيقه في: 6456. أبو سنان الشيباني: هو الأصغر الكوفي، واسمه"سعيد بن سنان البرجمي". وهو ثقة، تكلم فيه من أجل بعض خطئه. وقد مضت ترجمته في: 175.
وقد وهم الحافظ في الفتح 8: 196 وهمًا شديدًا، حين أشار إلى هذا الحديث من رواية الطبراني -كما سيأتي- فزعم أنه"ضرار بن مرة"! وهو أبو سنان الشيباني الأكبر. والذي يروي عن أبي إسحاق السبيعي ويروي عنه إسحاق بن سليمان الرازي - هو"أبو سنان الشيباني الأصغر، سعيد بن سنان"، كما هو بين من تهذيب الكمال وفروعه. فلم يذكر الحافظ المزي في ترجمتيهما إلا ما قلنا.
وأبو إسحاق: هو السبيعي، كما ذكرنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق". وهو خطأ، صوابه ما أثبتنا عن المخطوطة. وهو الثابت في الرواية.
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 196 -كما قلنا آنفًا. وذكر أنه عند الطبراني، وعلله بأن"المحفوظ: عن أبي إسحاق عن البراء. كذا اتفق الشيخان عليه من طريق شعبة ... "، ثم أشار إلى كثير من الروايات التي ذكرها الطبري هنا وفيما يأتي.
ولسنا نرى هذا علة لذاك، ولا ذاك علة لهذا، فالقصة مشهورة وقد رواها أيضًا زيد بن ثابت، كما سيأتي: 10239، 10240.
ورواها أيضًا الفلتان بن عاصم الجرمي الصحابي، مطولة. ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9. وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه، والطبراني بنحوه ... ورجال أبي يعلى ثقات".
وذكره الحافظ في الإصابة 5: 213 في ترجمة الفلتان، من رواية الحسن بن سفيان في مسنده، ثم ذكر أنه رواه ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه.
وذكره السيوطي 2: 203-204، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
ورواها ابن عباس، كما سيأتي: 10242.

(9/89)


10239- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد قال: رأيت مروان بن الحكم جالسًا، فجئت حتى جلست إليه، فحدَّثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ! قال: فأنزل عليه وفخذُه على فخذي، فثقلت، فظننتُ أن تُرَضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فقال:"غير أولي الضرر". (1)
__________
(1) الحديث: 10239 - رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبد الله بن بزيع، أحد شيخي الطبري هنا - بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري، به، ولم يذكر لفظه كاملا، أحاله على رواية قبيصة بن ذؤيب قبله. وهي الرواية التي ستأتي هنا عقب هذا.
ورواه البخاري 8: 195-196 (فتح) ، من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، به. ورواه الترمذي 4: 92، والنسائي 2: 54، وابن الجارود، ص: 460 - كلهم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه.
ورواه البيهقي 9: 23، من طريق إبراهيم بن سعد.
وذكره السيوطي 2: 202-203، وزاد نسبته لابن سعد، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن المنذر، وأبي نعيم في الدلائل.
"رض الشيء يرضه رضا": كسره. و"سُري عنه" (بالبناء للمجهول) : أي كشف عنه وتجلى ما كان يأخذه من الكرب عند نزول الوحي.

(9/90)


10240- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، إني أحبُّ الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزَّمَانة ما قد ترى، قد ذهب بصري! قال زيد: فثقلت فخِذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يَرُضَّها، ثم قال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله". (1)
10241- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عبد الكريم: أن مقسمًا مولى عبد الله بن الحارث أخبره: أن ابن عباس أخبره قال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، عن بدر، والخارجون إلى بدر. (2)
__________
(1) الحديث: 10240 - هو في معنى الحديث السابق عن زيد بن ثابت، ولكنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عنه.
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة: تابعي كبير ثقة، كما مضى في: 5471 وهو مترجم في التهذيب وغيره، وفي الإصابة 5: 271-272.
والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 48 (مخطوط مصور) .
ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن عبد الرزاق.
وذكره ابن كثير 2: 549، من تفسير عبد الرزاق، ثم قال: "رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 195، ونسبه لأحمد فقط.
(2) الحديث: 10241 - هذا الحديث ليس في تفسير عبد الرزاق، فلعله في المصنف. ولم يروه أحمد في المسند، فيما وصل إليه تتبعي.
وقد رواه البخاري 8: 196-197، هكذا مختصرًا، من طريق هشام، عن ابن جريج، ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج.
وذكره ابن كثير 2: 549، وقال: "انفرد به البخاري دون مسلم".
وذكره السيوطي 2: 203، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي عقيب هذا، بأطول منه.

(9/91)


10242- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، أخبرني عبد الكريم: أنه سمع مقسمًا يحدث عن ابن عباس، أنه سمعه يقول:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين" عن بدر، والخارجون إلى بدر، لما نزل غزو بدر. (1) قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول الله، إنا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة". (2)
10243- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، فسمع بذلك عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، فأتى رسول
__________
(1) في المطبوعة: "لما نزلت غزوة بدر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 10242 - هذا هو السياق المطول للحديث السابق، وفيه قصة ابن أم مكتوم، التي مضت مرارًا من حديث البراء بن عازب، ومن حديث زيد بن أرقم، ومن حديث زيد بن ثابت - مع بعض زيادات أخر في القصة.
والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي 4: 91، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس".
وقد نقله الحافظ في الفتح 8: 197، من رواية الترمذي، وأشار إلى رواية الطبري هنا، كما سيأتي.
ونقله ابن كثير أيضا 2: 549-550، عن رواية الترمذي.
ونقله السيوطي 2: 203، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في سننه.
ووقع في رواية الترمذي ومن نقل عنه: "وعبد الله بن جحش". بدل"وأبو أحمد بن جحش". وجزم الحافظ في الفتح بأن الصواب ما في رواية الطبري"وأبو أحمد بن جحش"، قال: "فإن عبد الله أخوه. وأما هو فاسمه: "عبد"، بغير إضافة. وهو مشهور بكنيته".
و"عبد الله بن جحش" لم يكن أعمى. وقد قتل شهيدًا في غزوة أحد.
وأخوه"أبو أحمد": مترجم في الإصابة 7: 3-4، وابن سعد 7 / 1 / 76-77. وجزم الحافظ في الإصابة بأن اسمه"عبد" بدون إضافة، كما قال في الفتح. وفي ابن سعد أن اسمه"عبد الله". وأخشى أن يكون خطأ طابع أو ناسخ.
وقال الحافظ في الإصابة: "وكان أبو أحمد ضريرًا، يطوف بمكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وشهد بدرًا والمشاهد".

(9/92)


الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت، وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت في شأنك بشيء، وما أدري هل يكون لك ولأصحابك من رخصة! فقال ابن أم مكتوم: اللهم إني أنشدك بصري! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"على القاعدين درجة".
10244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال رجل أعمى: يا نبي الله، فأنا أحب الجهادَ ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت:"غير أولي الضرر".
10245- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد قال: لما نزلت هذه الآية في الجهاد:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، قال عبد الله ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي ضرير كما ترى! فنزلت:"غير أولي الضرر". (1)
10246- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، عذرَ الله أهل العذر من الناس فقال:"غير أولي الضرر"، كان منهم ابن أم مكتوم="والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم".
__________
(1) الحديث: 10245 - حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي.
وهذا الحديث مرسل، لأن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي: تابعي من كبار التابعين وثقاتهم. ولكنه لم يذكر عمن رواه. وإن كان أصل الحديث في ذاته صحيحًا، بما ثبت في الروايات السابقة. والحديث ذكره السيوطي 2: 204 - هكذا مرسلا. ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد.

(9/93)


10247- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، لما ذكر فضلَ الجهاد، قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل الله فيه:"غير أولي الضرر".
10248- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي زيدًا، وقل له يأتي= أو: يجيء= بالكتف والدواة= أو: اللوح والدواة= الشك من زهير= اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بعيني ضررًا! فنزلت قبل أن يبرَح:"غير أولي الضرر". (1)
10249- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البَرَاء بنحوه= إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا، وليجئني معه بكتف ودواة= أو: لوح ودواة. (2)
__________
(1) الحديث: 10248 - هو والذي بعده من روايات حديث البراء، الذي مضى بالأسانيد: 10233-10237، كما أشرنا إليهما هناك.
وهو من هذا الوجه -رواه أحمد في المسند 4: 301 (حلبي) ، عن هاشم بن القاسم، عن زهير، وهو ابن معاوية، بهذا الإسناد.
(2) الحديث: 10249 - إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، راوية جده أبي إسحاق.
والحديث رواه البخاري 8: 196، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل.
ورواه البخاري أيضًا 9: 19 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 39 (بتحقيقنا) ، من طريق محمد بن عثمان العجلي، عن عبيد الله بن موسى.

(9/94)


10250- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون"، قال عمرو ابن أم مكتوم: يا رب، ابتليتني فكيف أصنع؟ قال: فنزلت:"غير أولي الضرر". (1)
وكان ابن عباس يقول في معنى:"غير أولي الضرر" نحوًا مما قلنا.
10251- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"غير أولي الضرر"، قال: أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، على القاعدين من أولي الضرر، درجة واحدة= يعني: فضيلة واحدة (2) = وذلك بفضل جهاده بنفسه، فأما فيما سوى ذلك، فهما مستويان، كما:-
__________
(1) الحديث: 10250 - زياد بن فياض الخزاعي الكوفي: مضت ترجمته وتوثيقه في: 1382.
وشيخه"أبو عبد الرحمن": لم أعرف من هو، ولم أجد قرينة تعين شيخًا بعينه؟ و"أبو عبد الرحمن": كنيته واسعة فيها كثرة كثيرة.
وأيا ما كان فهو -على الأكثر- من التابعين، لأن زياد بن فياض لا يرتفع في روايته فوق التابعين. فيكون الحديث مرسلا غير موصول.
وهكذا ذكره السيوطي 2: 204، على هذا الوجه من الإرسال، ونسبه لابن سعد، وعبد بن حميد، والطبري.
(2) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533-536 / 7: 368.

(9/95)


10252- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك: أنه سمع ابن جريج يقول في:"فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، قال: على أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وعد الله الكلَّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، (1) والقاعدين من أهل الضرر="الحسنى"، ويعني جل ثناؤه: بـ "الحسنى"، الجنة، كما:-
10253- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وهي الجنة، والله يؤتي كل ذي فضل فضلَه.
10254- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الحسنى"، الجنة.
وأما قوله:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا"، فإنه يعني: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، كما:-
10255- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر ما قاله في"كل" فيما سلف 3: 195 / 5: 509 / 6: 210.

(9/96)


دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)

عن أبي جريج:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه ومغفرة"، قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"درجات منه"، فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الدرجات" التي قال جل ثناؤه:"درجات منه".
فقال بعضهم بما:-
10256- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"درجات منه ومغفرة ورحمة"، كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد دَرَجة.
* * *
وقال آخرون بما:-
10257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله تعالى:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه"،"الدرجات" هي السبع التي ذكرها في"سورة براءة": (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) فقرأ حتى بلغ:
__________
(1) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533، 536 / 7: 368، وما مضى ص: 95، تعليق: 2

(9/97)


(أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة التوبة: 120-121] . قال: هذه السبع الدرجات. قال: وكان أول شيء، فكانت درجة الجهاد مُجْملة، فكان الذي جاهد بماله له اسمٌ في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة، فقرأ: (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) ، وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً) ، قال: وهذه نفقة القاعد.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك درجات الجنة.
ذكر من قال ذلك.
10258- حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سحيم. عن ابن محيريز في قوله:"فضل الله المجاهدين على القاعدين"، إلى قوله:"درجات"، قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين سنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل قوله:"درجات منه"، أن يكون معنيًّا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز. لأن قوله تعالى ذكره:"درجات منه": ترجمة وبيان عن قوله:"أجرًا عظيمًا"، ومعلوم أن"الأجر"، إنما هو الثواب والجزاء. (2)
__________
(1) الأثر: 10258 -"علي بن الحسين الأزدي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة، وقد روى عنه في تاريخه في مواضع منها 1: 44، 49 / 6: 73، 143.
و"الأشجعي"، هو: "عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي" مضت ترجمته برقم: 8622. و"سفيان"، هو الثوري.
و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم 2827، 7287.
و"جبلة بن سحيم" مضى برقم: 3003.
و"ابن محيريز"، هو عبد الله بن محيريز، مضى برقم: 8720.
و"حضر الفرس" ارتفاعه في عدوه، "أحضر الفرس يحضر إحضارًا"، عدا عدوًا شديدًا.
و"الفرس المضمر"، وهو الذي أعد إعدادًا للسباق والركض.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 8: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(9/98)


وإذْ كان ذلك كذلك، وكانت"الدرجات" و"المغفرة" و"الرحمة" ترجمة عنه، كان معلومًا أن لا وجه لقول من وجَّه معنى قوله:"درجات منه"، إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد، كما قال قتادة وابن زيد: وإذ كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيِّنٌ أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله.
* * *
="ومغفرة" يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها=
"ورحمة"، يقول: ورأفة بهم="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين، يصفح لهم عن العقوبة عليها (1) ="رحيما" بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه، وركوبهم معاصيه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيصفح" بزيادة الفاء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الجيد.
(2) انظر تفسير"المغفرة"، و"الرحمة"، و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(9/99)


إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن الذين توفَّاهم الملائكة"، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة (1) ="ظالمي أنفسهم"، يعني: مكسبي أنفسهم غضبَ الله وسخطه.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى قبل. (2)
* * *
="قالوا فيم كنتم"، يقول: قالت الملائكة لهم:"فيم كنتم"، في أيِّ شيء كنتم من دينكم="قالوا كنا مستضعفين في الأرض"، يعني: قال الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم:"كنا مستضعفين في الأرض"، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفةٌ وحُجَّة واهية="قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، (3) وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي
__________
(1) انظر تفسير"التوفي" فيما سلف 6: 455 / 8: 73.
(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(3) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف 4: 317، 318 / 7: 490.

(9/100)


يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحِّدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيَّه؟ = يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك مأواهم جهنم"، أي: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم= الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم="مأواهم جهنم"، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم (1) ="وساءت مصيرًا"، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها (2) ="مصيرًا" ومسكنًا ومأوى. (3)
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون="من الرجال والنساء والولدان"، وهم العجزة عن الهجرة= بالعُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق= من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم: أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. (4)
* * *
ونصب"المستضعفين" على الاستثناء من"الهاء" و"الميم" اللتين في قوله:"فأولئك مأواهم جهنم". (5)
* * *
يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، يعني: هؤلاء المستضعفين، يقول: لعل الله أن يعفو عنهم، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، (6) إذ لم يتركوها اختيارًا ولا إيثارًا
__________
(1) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494.
(2) انظر تفسير"ساء" فيما سلف 8: 138، 358.
(3) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128، 317 / 7: 366.
(4) سياق هذه الجملة: "ثم استثنى الله المستضعفين ... وهم العجزة عن الهجرة ... من أرضهم ... ، من القوم ... أن تكون جهنم مأواهم"، كثر فيها تعلق حروف الجر بما سلف، فخشيت أن يتعب القارئ!!
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 284. هذا، وقد خالف أبو جعفر نهجه هذا، وأخر الكلام في قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة" إلى آخر تفسير الآية ص: ...
(6) في المطبوعة: "فيتفضل"، وأثبت ما في المخطوطة.

(9/101)


منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النّقلة عنها (1) ="وكان الله عفوًّا غفورًا" يقول: ولم يزل الله"عفوًّا" يعني: ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده، بتركه العقوبة عليها="غفورًا"، ساترًا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. (2)
* * *
وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرِض بعضهم على الفتنة فافْتُتِن، (3) وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرًا عنهم:"قالوا كنا مستضعفين في الأرض".
* * *
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا: من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم.
10259- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا أشعث، عن عكرمة:"إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله:"فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" إلى قوله:"عفوًّا غفورًا= قال ابن عباس: فأنا منهم: وأمّي منهم= قال عكرمة: وكان العباس منهم.
10260- حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم
__________
(1) في المخطوطة: "ولكن العجز"، والذي في المطبوعة أجود.
(2) انظر تفسير"عفو" و"غفور" في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.
(3) "الفتنة"، التعذيب الشديد الذي ابتلي به المؤمنون.

(9/102)


المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون:"كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا"! فاستغفروا لهم، فنزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم" الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. (1) قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النحل: 110] ، فكتبوا إليهم بذلك:"إن الله قد جعل لكم مخرجًا"، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل. (2)
10261- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني حيوة= أو: ابن لهيعة، الشك من يونس=، عن أبي الأسود: أنه سمع مولَى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سَوَاد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدَهم
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه لا عذر لهم"، بزيادة"وأنه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير.
(2) الأثر: 10260 -"أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي"، شيخ الطبري، ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو أحمد الزبيري" سلف مرارًا عديدة.
و"محمد بن شريك المكي" أبو عمارة قال أحمد وابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 552 من تفسير ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور الرمادي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 205، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. وهو في السنن الكبرى 9: 14، من طريق سعدان بن نصر، عن سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، بغير هذا اللفظ.
وقوله: "فأعطوهم الفتنة" هكذا جاء في جميع المراجع، إلا تفسير ابن كثير، فإن فيه: "فأعطوهم التقية"، وهو خطأ، والصواب ما في التفسير والمراجع. ومعناها: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر الآتي رقم: 10266.

(9/103)


فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" حتى بلغ"فتهاجروا فيها".
10262- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال: قُطع على أهل المدينة بَعْث إلى اليمن، فاكتُتِبْتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس. فنهاني عن ذلك أشدَّ النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين= ثم ذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب. (1)
10263- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) الأثران: 10261، 10262 - رواه البخاري (الفتح 8: 197، 198) بالإسناد الثاني: 10262، "عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وغيره، قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن، أبو الأسود". ورواه البيهقي في السنن 9: 12 من طريق"محمد بن مسلمة الواسطي، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة ورجل قالا، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وقال: "رواه البخاري في الصحيح".
والظاهر أن الرجل المبهم في إسناد البخاري والبيهقي هو"ابن لهيعة" كما جاء في الإسناد الأول. هذا وقد نقل الحافظ في الفتح (8: 198) أن الطبراني قال: "لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث واين لهيعة"، فقال الحافظ ابن حجر: "ورواية البخاري من طريق حيوة، ترد عليه. ورواية ابن لهيعة أخرجها ابن أبي حاتم أيضًا".
"أبو عبد الرحمن المقرئ" هو"عبد الله بن يزيد العدوي" مضى برقم: 318، 5451، 6743.
و"أبو الأسود" هو: "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وهو: "يتيم عروة"، مضى برقم: 2891.
قوله: "قطع على أهل المدينة بعث"، قال الحافظ ابن حجر: "أي: جيش، والمعنى: أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام. وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة" وأما "اكتتبت" فهي بالبناء للمجهول.
هذا، وقد كان في المطبوعة بحذف"إلى اليمن"، وهي ثابتة في المخطوطة لا شك فيها، ولكنها غير موجودة في سائر روايات الخبر. وهي دالة على أن الحافظ قد أخطأ في اجتهاده، إذ زعم أن الجيش خرج لقتال أهل الشأم. وكأنه استخرج ذلك استنباطًا ليبرئ عكرمة مما نسب إليه من رأي الخوارج. قال في الفتح (8: 198) : "وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأي الخوارج، لأنه بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكفير سواد من يقاتلهم". وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق. كتبه محمود محمد شاكر.

(9/104)


قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، هم قوم تخلَّفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره.
10264- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن مُنبّه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. (1) قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعِيرِ قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنْ يطلبوا ما نِيل منهم يوم نَخْلة، (2) خرجوا معهم شباب كارهين، (3)
__________
(1) هكذا جاءت أسماؤهم في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 295، واتفاقهم جميعًا جعلني أتحرج في إثبات ما أعرفه صوابًا. وهؤلاء الذين قتلوا ببدر معروفة أسماؤهم في السير، وهذا صوابها من سيرة ابن هشام 2: 295، وإمتاع الأسماع 1: 20.
"أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة"
"أبو قيس بن الوليد بن المغيرة"
"العاص بن منبِّه بن الحجاج"
وأكبر ظني أن هذا خطأ من النساخ، لا خطأ في الرواية، وانظر الأثر الآتي رقم 10266.
(2) "يوم نخلة"، يعني سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي إلى بطن نخلة بين مكة والطائف، سار إليها عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوا عمرًا، واستأسر من استأسر من المشركين. فأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما قدموا عليه قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام". انظر سيرة ابن هشام 2: 252-256، وإمتاع الأسماع 1: 55-58.
(3) في المطبوعة، والدر المنثور 2: 205، 206: "بشبان كارهين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.

(9/105)


كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارًا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم= قال ابن جريج، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش= قال ابن جريج، وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قوله:"وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: يعني الشيخَ الكبيرَ والعجوزَ والجواري الصغار والغلمان.
10265- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: لما أسر العباس وعقيل ونَوْفل، (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابني أخيك. (2) قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم! (3) ثم تلا هذه الآية:"ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا"، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر، فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حيلةً في المال، و"السبيل" الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم، من الوِلدان.
10266- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة
__________
(1) يعني: العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "وابن أخيك" بالإفراد، وكأن الصواب بالتثنية كما أثبتها، وإفراد"أخيك" مع أنهما ابني أخويه أبي طالب والحارث، صواب أيضًا.
(3) "خصم" بالبناء للمجهول: أي غلب في الخصام، وهو الجدال والاحتجاج.

(9/106)


إلى المسلمين الذين بمكة. قال: فخرج ناسٌ من المسلمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون، فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، (1) فأنزل الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل: 110] (2)
= قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال: هم خمسة فتية من قريش: علي بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة ابن الأسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس. (3)
10267- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، حُدِّثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلّموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدوِّ الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبلَ منهم. وقوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، أناسٌ من أهل مكة عذَرهم الله فاستثناهم، فقال:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"= قال: وكان ابن عباس يقول: كنتُ أنا وأمي من الذين
__________
(1) "أعطوا الفتنة"، أي: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10260.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 10260.
(3) انظر الأثر السالف رقم: 10264، وجاء هنا"أبو قيس بن الفاكه"، على الصواب، وانظر التعليق على الأثر السالف. ولكن جاء أيضًا هنا: "أبو العاص بن منبه"، والصواب: "العاص بن منبه" كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف. وأما خامسهم في رواية ابن إسحاق، فهو أبو قيس بن الوليد كما سلف. وخبر ابن إسحاق هو في سيرة ابن هشام 2: 294، 295.

(9/107)


لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
10268- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، قال: هم أناس من المنافقين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
10269- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته= يعني ابن زيد= عن قول الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" فقرأ حتى بلغ:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، فقال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظَهر، ونَبَعَ الإيمان، نَبَع النّفاق معه. (1) فأتَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يُعَذبوننا، ويفعلون ويفعلون، لأسلمنا، ولكنّا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر، قام المشركون فقالوا: لا يتخلَّفُ عنا أحد إلا هَدَمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم، فقتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، الآية كلها="ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم="أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا". قال: ثم عذَر الله أهلَ الصدق فقال:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدانِ لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا"، يتوجَّهون له، لو خرجوا لهلكوا="فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، إقامَتهم بين ظَهْري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك
__________
(1) "نبع"، من قوله: "نبع الماء"، إذا جرى وتفجر من بطن الأرض.

(9/108)


تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفًا! فقال الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم= (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) خرجوا مع المشركين= (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الأنفال: 70، 71] .
10270- حدثني محمد بن خالد بن خداش قال، حدثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عَذَر الله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (1)
10271- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال ابن عباس: أنا من المستضعفين.
10272- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، قال: من قتل من ضُعفاء كفار قريش يوم بدر.
__________
(1) الأثر: 10270 -"محمد بن خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن أبيه، قالوا: "وربما أغرب عن أبيه"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وقد مضى ذكره في رقم: 2378.
وأبوه: "خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن حماد بن زيد. وهو صدوق. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، ثم من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد (الفتح 8: 198) ، والبيهقي في السنن 9: 13.

(9/109)


10273- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
10274- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. (1)
10275- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الله - أو: إبراهيم بن عبد الله القرشي- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر:"اللهم خَلّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (2)
10276- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الأثر: 10274 -"عبيد الله بن أبي يزيد المكي"، سلف برقم: 20، 3778 وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله"، وهو خطأ لا شك فيه.
والأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق عبد الله بن محمد عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد. والبيهقي في السنن 9: 13.
(2) الأثر: 10275 -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي". روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الحمادان والسفيانان وغيرهم. كان كثير الحديث، وفيه ضعف، ولا يحتج به. وقال أحمد: "ليس بشيء". مترجم في التهذيب.
و"عبد الله" هو"عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الكناني" حليف بني زهرة، ويقال هو"إبراهيم بن عبد الله بن قارظ"، يروي عن أبي هريرة، مترجم في التهذيب. وذكر الاختلاف في اسمه. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله" وهو خطأ. وفي تفسير ابن كثير"عبد الله القرشي"، ولم يذكر الاختلاف، مع أنه رواه عن ابن جرير.
وهذا الحديث ضعيف، ولكن قال ابن كثير في تفسيره 2: 554: "ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه"، يعني ما رواه البخاري (الفتح 8: 198) .

(9/110)


هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، الآية.
10277- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
* * *
وأما قوله:"لا يستطيعون حيلة"، فإن معناه كما:-
10278- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله:"لا يستطيعون حيلة"، قال: نهوضًا إلى المدينة="ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة.
10279- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة.
10280- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الحيلة"، المال= و"السبيل"، الطريق إلى المدينة. (1)
* * *
وأما قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، ففيه وجهان: (2)
أحدهما: أن يكون"توفاهم" في موضع نصب، بمعنى المضيِّ، لأن"فعل" منصوبة في كل حال. (3)
__________
(1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف 1: 497، وسائر فهارس اللغة في الأجزاء السابقة، مادة (سبل) .
(2) أخر الطبري على غير عادته هذا الفصل من كلامه عن موضعه، كما أسلفت في موضع آخر.
(3) يعني بقوله"النصب"، الفتح. أي: أنه مبني على الفتح لأنه فعل ماض. وقوله: "فعل" أي الفعل الماضي.

(9/111)


وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

والآخر: أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة، فتكون إحدى"التاءين" من"توفاهم" محذوفةً وهي مرادة في الكلمة، لأن العرب تفعل ذلك، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى، وربما أثبتتهما جميعًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يهاجر في سبيل الله"، ومن يُفارق أرضَ الشرك وأهلَها هربًا بدينه منها ومنهم، إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين (2) ="في سبيل الله"، يعني: في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القَيِّم (3) ="يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله="مراغمًا كثيرًا"، وهو المضطرب في البلاد والمذْهب.
* * *
يقال منه:"راغم فلانٌ قومه مراغمًا ومُرَاغمة"، مصدرًا، ومنه قول نابغة بني جعدة:
كَطَوْدٍ يُلاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزِ المُراغَمِ وَالمَهْرَبِ (4)
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 284.
(2) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف ص: 100، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"سبيل الله" في مراجع اللغة.
(4) ديوانه 22، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 138، اللسان (رغم) . والبيت من قصيدته التي في الديوان، ولكنه أفرد منها فلم يعرف مكانه. و"الطود": الجبل العظيم المنيف. ولست أدري على أي شيء تقع كاف التشبيه.

(9/112)


وقوله:"وسعة"، فإنه يحتمل السِّعة في أمر دينهم بمكة، (1) وذلك منعُهم إياهم -كان- من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية. (2)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارًّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيَّته قبل بلوغه أرضَ الإسلام ودارَ الهجرة فقال: من كان كذلك="فقد وقع أجرُه على الله"، وذلك ثوابُ عمله وجزاءُ هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. (3) يقول جل ثناؤه: ومن يخرج مهاجرًا من داره إلى الله وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته= إن لم يبلغ دارَ هجرته باخترام المنية إيّاه قبل بلوغه إياها (4) = على ربه="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله تعالى ذكره="غفورًا" يعني: ساترًا ذنوب عبادهِ المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها="رحيمًا"، بهم رفيقًا. (5)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيمًا بمكة وهو مسلم،
__________
(1) هكذا جاءت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وهي غير مستقيمة. وظني أنه سقط من الناسخ شيء من كلام أبي جعفر، ولعله يكون هكذا:
"وقوله: "وسعة"، فإنه يحتمل السَّعةَ في الرِّزق، ويحتمل السعة في أمر دينهم، من ضيعتهم في أرض أهل الشرك بمكة، وذلك منعهم...."
فقوله: "وذلك منعهم"، تفسير"الضيق"، كما هو ظاهر من تأويل أبي جعفر. وانظر ما سيأتي في تأويل معنى"السعة" ص: 122.
(2) في المطبوعة. أسقط قوله: "كان" الموضوعة هنا بين الخطين، لظن الناشر أنها خطأ وزيادة. وهو كلام عربي محكم، يضعون"كان" هذا الموضع للدلالة على الماضي، فكأنه قال: "وهو ما كان من منعهم إياهم"، ولكن الناشر أخطأ معرفة معناه، فحذف"كان"، فأساء.
(3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 98، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) "اخترمته المنية": أخذته من بين أصحابه وقطعته منهم. من"الخرم" وهو الشق والفصم، يقال: "ما خرمت منه شيئا" أي: ما نقصت وما قطعت.
(5) انظر تفسير"كان"، و"غفور"، و"رحيم" في مواضعها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.

(9/113)


فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها، وذلك قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا"، فمات في طريقه قبلَ بلوغه المدينة.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
10282- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص - أو: العيص بن ضمرة بن زنباع- قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعلوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم، فنزلت هذه الآية. (1)
10283- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، في ضمرة بن العيص بن الزنباع= أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع= حين بلغ التنعيم ماتَ، فنزلت فيه.
10284- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العَوَّام التيمي، بنحو حديث يعقوب، عن هشيم، قال: وكان رجلا من خُزاعة. (2)
__________
(1) الأثر: 10282 - أخرجه البيهقي في السنن 9: 14، 15، وهذه القصة قصة رجل واحد اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من عشرة أوجه، هكذا قال الحافظ ابن حجر في الإصابة. وقد ساق أبو جعفر هنا من 10282 -10295 أكثر وجوه هذا الاختلاف في اسمه واسم أبيه. فتركت لذلك الإشارة إلى هذا الاختلاف في مواضعه من الآثار التالية.
و"التنعيم" موضع في الحل، بين مر وسرف، بينه وبين مكة فرسخان. ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة من أهل مكة.
(2) الأثر: 10284 -"العوام التيمي"، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم، وأخشى أن يكون الصواب"العوام، عن التيمي"، يعني: "العوام بن حوشب الشيباني"، وهو يروي عن"إبراهيم التيمي". و"هشيم" يروي عن"العوام بن حوشب".

(9/114)


10285- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، الآية، قال: لما أنزل الله هؤلاء الآيات، ورجل من المؤمنين يقال له:"ضمرة" بمكة، قال:"والله إنّ لي من المال ما يُبَلِّغني المدينة وأبعدَ منها، وإنِّي لأهتدي! أخرجوني"، وهو مريض حينئذ، فلما جاوز الحرَم قبضَه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله"، الآية.
10286- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال رجل من المسلمين يومئذٍ وهو مريض:"والله ما لي من عُذْر، إني لدليلٌ بالطريق، وإنّي لموسِر، فاحملوني"، (1) فحملوه، فأدركه الموت بالطريق، فنزل فيه (2) "ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله".
10287- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: لما أنزل الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآيتين، قال رجل من بني ضَمْرة، وكان مريضًا:"أخرجوني إلى الرَّوْح"، (3) فأخرجوه، حتى إذا كان بالحَصْحاص
__________
(1) قوله: "لدليل بالطريق"، أي عارف به، يقال: "دللت بهذا الطريق دلالة"، أي: عرفته، فهو"دليل بين الدلالة".
(2) في المطبوعة: "فنزلت فيه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله: "أخرجوني إلى الروح" (بفتح الراء وسكون الواو) : أي: إلى السعة والراحة وبرد النسيم. هذا تفسيره، وسيأتي في رقم: 10290"لعلي أن أخرج فيصببني روح"، أي: برد النسيم، وكان يجد الحر في مكة حتى غمه، كما سيأتي في الأثر: 10294.
وأما "الحصحاص"، فهو موضع بالحجاز، وقال ياقوت"جبل مشرف على ذي طوى"، يعني: بناحية مكة. ويقال فيه: "ذو الحصحاص"، قال شاعر حجازي: ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيَّرَ بَعْدَنَا ... ظِبَاءٌ بِذِي الَحصْحَاصِ نُجْلٌ عُيُونُهَا
وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ قَدْ بَدَا بِهَا ... صُدُوعُ الهَوَى، لَوْ كَانَ قَيْنٌ يَقِينُهَا!

(9/115)


مات، فنزل فيه:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية.
10288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المنذر بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: نزلت في رجل من خزاعة. (1)
10289- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك في قول الله جل وعز:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربتْ وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ، قال لأهله:"أخرجوني"، وقد أدنفَ للموت. (2) قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها، (3) فتوفَّي، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية. (4)
10290- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما سمع هذه (5) = يعني: بقوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا" = ضمرةُ بن جندب
__________
(1) الأثر: 10288 -"ثعلبة بن المنذر بن حرب الطائي". و"علباء بن أحمر اليشكري"، مضيا برقم: 7190.
(2) يقال: "دنفت الشمس للمغيب" (على وزن: فرح) و"أدنفت"، إذا دنت للمغيب واصفرت، وكذلك يقال المريض: "دنف المريض وأدنف"، أي ثقل ودنا للموت. و"الدنف" (بفتحتين) المرض اللازم المخامر.
(3) "العقبة" (بفتحات) : طريق في الجبل وعر= أو: هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه.
(4) الأثر: 10289 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "لما سمع بهذه"، غير ما في المخطوطة، لقوله بعد: "يعني: بقوله.." ولا بأس بهذا التغيير، وإن كان ما في المخطوطة صوابا أيضًا.

(9/116)


الضمري، قال لأهله، وكان وجعًا:"أرحلوا راحلتي، فإن الأخشبين قد غَمَّاني! " = يعني: جَبَلىْ مكة="لعلي أن أخرج فيصيبني رَوْح"! (1) فقعد على راحلته، ثم توجه نحو المدينة، فمات بالطريق، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وأما حين توجه إلى المدينة فإنه قال:"اللهم إني مهاجر إليك وإلى رسولك".
10291- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية= يعني قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال جندب بن ضمرة الجُنْدَعي."اللهم أبلغتَ في المعذرة والحجّة، ولا معذرة لي ولا حُجَّة"! قال: ثم خرج وهو شيخ كبير، فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولايةٍ أم لا! فنزلت:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".
10292- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني لَيْثٍ كان على دين النبي صلى الله عليه وسلم مقيمًا بمكة، وكان ممن عَذَر الله، كان شيخًا كبيرًا وَصِبًا، (2) فقال لأهله:"ما أنا ببائت الليلة بمكة! "، فخُرِج به، (3) حتى إذا بلغ التَّنعيم من طريق المدينة أدركه
__________
(1) انظر التعليق السالف قريبًا: ص: 115، تعليق: 3.
(2) في المطبوعة: "وضيئًا"، وليس له معنى يقبل في هذا الموضع. وفي المخطوطة: "وصيا" بالياء، وهو تصحيف ما أثبته.
و"رجل وصب"، دام عليه المرض ولزمه وثبت عليه. و"الوصب" (بفتحتين) المرض الموجع الدائم.
(3) في المطبوعة: "فخرجوا به مريضًا"، وكأنه تصرف من النساخ أو الناشر الأول. وفي الدر المنثور 2: 208: "فخرجوا به" ليس فيه"مريضًا". وأثبت ما في المخطوطة: "فخرج به" بالبناء للمجهول.

(9/117)


الموت، فنزل فيه"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله" الآية.
10293- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، قال: وهاجر رجل من بني كنانة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق، فسخِر به قومه واستهزؤوا به وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال: فنزل القرآن:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".
10294- حدثنا أحمد بن منصور الرماديّ قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، فكان بمكة رجل يقال له"ضمرة"، (1) من بني بكر، وكان مريضًا، فقال لأهله:"أخرجوني من مكة، فإني أجد الحرّ". فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة، فنزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله" إلى آخر الآية.
10295- حدثني الحارث بن أبي أسامة قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: رَخَّص فيها قوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر، (2) حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، فقالوا: قد بين الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، ورخَّص لأهل الضرر! حتى نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قالوا: هذه موجبة! حتى نزلت:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، فقال ضَمْرة بن العِيص
__________
(1) في المطبوعة: "وكان بمكة" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ممن كان بمكة"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.

(9/118)


الزُّرَقي، أحد بني ليثٍ، وكان مُصَاب البصر:"إنيّ لذو حيلة، لي مال، ولي رقيق، فاحملوني". فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الآية. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"المراغم". (2)
فقال بعضهم: هو التحول من أرض إلى أرض.
*ذكر من قال ذلك:
10296- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"مراغَمًا كثيرًا"، قال: المراغَم، التحوّل من الأرض إلى الأرض.
10297- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"مراغمًا كثيرًا"، يقول: متحوَّلا.
10298- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) الأثر: 10295 -"الحارث بن أبي أسامة" منسوب إلى جده، وهو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي"، ولد في شوال سنة 186، ومات يوم عرفة ضحوة النهار سنة 282، عن ست وتسعين سنة. وهو ثقة مترجم في تاريخ بغداد 8: 218، 219. يروي عنه أبو جعفر الطبري في التفسير، وفي التاريخ 11: 57، 58.
و"عبد العزيز بن أبان الأموي" من ولد"سعيد بن العاص". مترجم في التهذيب، وقال ابن معين: "كذاب خبيث يضع الأحاديث".
و"قيس"، هو"قيس بن الربيع"، مضى برقم: 159، 4842، وغيرها. * * *
هذا، وقد رأيت كيف اختلفوا في اسم الرجل الذي خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله، وقد تركت التنبيه على ذلك، كما أسلفت، فإن تحقيق شيء من اسمه واسم أبيه يكاد يكون مستحيلا.
(2) في المخطوطة: "في تأويل الآية"، والصواب ما في المطبوعة، سها الناسخ.

(9/119)


جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا.
10299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن أو قتادة:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا.
10300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: مندوحةً عما يكره.
* * *
10301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"مراغمًا كثيرًا"، قال: مزحزحًا عما يكره.
10302- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متزحزحًا عما يكره.
وقال آخرون: مبتغَى معيشةٍ.
*ذكر من قال ذلك:
10303- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: مبتغىً للمعيشة.
* * *
وقال آخرون:"المراغَمُ"، المهاجر.
*ذكر من قال ذلك:
10304- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في

(9/120)


قوله:"مراغمًا"، المراغَم، المهاجَر.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل. (1)
* * *
واختلفوا أيضًا في معنى:"السعة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال:"وسعة". فقال بعضهم: هي: السعة في الرزق.
*ذكر من قال ذلك:
10305- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق.
10306- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق.
10307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسعة"، يقول: سعة في الرزق.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:-
10308- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة"، أي والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيْلة إلى الغِنى. (2)
__________
(1) انظر ما سلف ص: 112، 113.
(2) "العيلة": الفقر.

(9/121)


قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبرَ أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطرَبًا ومتَّسعًا. وقد يدخل في"السعة"، السعة في الرزق، والغنى من الفقر، ويدخل فيه السعة من ضيق الهمِّ والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني"السعة"، التي هي بمعنى الرَّوْح والفرَج من مكروهِ ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظَهْري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دِلالة على أنه عنى بقوله:"وسعة"، بعض معاني"السعة" التي وصفنا. فكل معاني"السعة" التي هي بمعنى الرَّوح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش، وغم جِوار أهل الشرك، وضيق الصدر بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والآلهة، داخلٌ في ذلك.
وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية= أعني قوله:"ومن يخرُج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"= أنها في حكم الغازي يخرج للغزو، فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت، أنّ له سَهْمه من المغنَم، وإن لم يكن شهد الوقعة، كما:-
10309- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عديّ قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن أهل المدينة يقولون:"من خرج فاصلا وجب سهمه"، وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله". (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 10309 -"يوسف بن عدي بن زريق التيمي"، كوفي، نزل مصر، ومات بها سنة 232. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"يزيد بن أبي حبيب المصري" سلف برقم: 4348، 5493.

(9/122)


وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض"، وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، (1) ="فليس عليكم جناح"، يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم (2) ="أن تقصروا من الصلاة"، يعني: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعًا، اثنتين، في قول بعضهم.
وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلِّ عددها في حال ضربكم في الأرض= أشار إلى واحدة، في قولِ آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة. ="إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم. (3) وفتنتهم إياهم فيها: حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له. (4)
= ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال:"إن الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا"، يعني: الجاحدين وحدانية الله (5) ="كانوا لكم عدوَّا مبينًا"،
__________
(1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593 / 7: 332.
(2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 8: 180، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 8: 298، 318، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف 9: 28، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: "يعني: الجاحدون" بالرفع، والذي أثبت من المخطوطة، صواب محض، وهو الذي جرى عليه أبو جعفر في مثله من التفسير

(9/123)


يقول: عدوًّا قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى:"القصر" الذي وضع الله الجُناح فيه عن فاعله. فقال بعضهم: في السفر، من الصلاة التي كان واجبًا إتمامها في الحضر أربعَ ركعات، (1) وأذِن في قصرها في السفر إلى اثنتين.
*ذكر من قال ذلك:
10310- حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاري قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن منية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم"، وقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدَقته. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "تمامها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 10310 -"عبيد بن إسماعيل الهباري"، وهو"عبيد الله بن إسماعيل الهباري"، مضى برقم: 2890، 3185، 3325، 4888.
و"ابن إدريس"، هو"عبد الله بن إدريس الأودي"، مضى برقم: 438، 2030، 2890، وغيرها.
و"ابن أبي عمار"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي، هو"القس" صاحب"سلامة"، التي يقال لها"سلامة القس". وهو ثقة.
و"عبد الله بن بابيه" ثقة. (وهو بباء، بعدها ألف، بعدها باء مفتوحة، بعدها ياء ساكنة) . ويقال"عبد الله بن باباه".
و"يعلى بن منية"، هو"يعلى بن أمية المكي"، و"منية" جدته، نسب إليها. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه جميعًا"يعلى بن أمية"، ولكن المخطوطة في هذا الأثر وحده، كان فيها ما أثبته.
وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في مسنده رقم: 174، 244، 245، ورواه مسلم في صحيحه 5: 195، 196 بإسنادين. والبيهقي في السنن 3: 134، 140، 141، وأبو داود في سننه 2: 4، رقم: 1199، ورواه ابن ماجه رقم: 1065، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 557، 558.
وسيأتي بإسنادين آخرين بعد، وهو حديث صحيح. وقال علي بن المديني: "هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، ورجاله معروفون".

(9/124)


10311- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
10312- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن جريج قال، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن بابيه يحدِّث، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: أعجبُ من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال الله تبارك وتعالى:"أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"! فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صَدقته. (1)
10313- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلّي ركعتين، فلقيني قُرَّاء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟ قلت ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كلٌّ، سنة وقرآن، (2) [فقد] صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (3) قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال الله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
__________
(1) الأثران: 10311، 10312 - صحيحا الإسناد، وهما مكرر الذي قبله.
(2) في المطبوعة: "كل ذلك سنة وقرآن"، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور، وهو الصواب. والزيادة من الناسخ أو الناشر.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "قلت صلى رسول الله ... "، وقوله"قلت" ليست في الدر المنثور، فاستظهرت قراءتها كما أثبتها بين القوسين.

(9/125)


رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) [سورة الفتح: 27] ، وقال:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عيكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"فإذا اطمأننتم". (1)
10314- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: سأل قومٌ من التجار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بِحَوْلٍ، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظُّهر، فقال المشركون: لقد أمْكَنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إنّ لهم أخرى مثلها في إِثرها! فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا وإذا كنت فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك" إلى قوله:"إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، فنزلت صلاة الخوف. (2)
__________
(1) الأثر: 10212 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وقصر نسبته إلى ابن جرير وحده.
(2) الأثر: 10314 - هذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وابن كثير في تفسيره 2: 565، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
وفي ابن كثير: "قال ابن جرير، حدثني ابن المثنى، حدثنا إسحاق ... "، مخالفا ما في المطبوعة والمخطوطة فجعله"ابن المثنى" يعني"محمد بن المثنى"، والطبري يروي عنهما جميعًا، عن"المثنى بن إبراهيم"، وعن"محمد بن المثنى"، ولكني أرجح أن الصواب ما في المطبوعة، لكثرة رواية المثنى عن إسحاق بن الحجاج الطاحوني، كما سلف مئات من المرات.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يوسف، عن أبي روق"، والصواب"سيف" كما في تفسير ابن كثير. ومما سيأتي في كلام أبي جعفر. وهو سيف بن عمر التميمي، وهو متروك الحديث.
أما "عبد الله بن هاشم"، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
وقد قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الأثر: "وهذا سياق غريب جدًا، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي، واسمه زيد بن الصامت"، ثم ساق الأثر الآتي برقم: 10323، من رواية أحمد وأبي داود، كما سيأتي.
ورد أبي جعفر الآتي بعد، دال على تضعيفه هذا الحديث.

(9/126)


قال أبو جعفر: وهذا تأويل للآية حسن، لو لم يكن في الكلام"إذا"، و"إذا" تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها. (1) ولو لم يكن في الكلام"إذا"، كان معنى الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق: إن خفتم، أيها المؤمنون، أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم، يا محمد، فأقمت لهم الصلاة،"فلتقم طائفة منهم معك" الآية.
* * *
وبعد، فإن ذلك فيما ذُكر في قراءة أبيّ بن كعب: (2) (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
10315- حدثني بذلك الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، أنه كان يقرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ولا يقرأ:"إن خفتم". (3)
10316- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شرود عن الثوري، عن واصل الأحدب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُم) ، قال بكر: وهي في"الإمام" مصحف عثمان رحمة الله عليه:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". (4)
__________
(1) يعني بذلك"إذا" في قوله تعالى: "وإذا كنت فيهم ... "
(2) في المخطوطة: "وبعدد فإن"، وهو من غريب سهو الناسخ في كتابته.
(3) الأثر: 10315 -"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة" سلف قريبًا برقم: 10295.
و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" سلف برقم: 10295.
و"واصل بن حيان الأحدب" مضى برقم: 10.
(4) الأثر: 10316 -"بكر بن شرود" مضى برقم: 8562.

(9/127)


وهذه القراءة تنبئ على أن قوله:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، مواصلٌ قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" (1) =، وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض، فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة= وأن قوله:"وإذا كنت فيهم"، قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية.
وذلك أن تأويل قراءة أبيٍّ هذه التي ذكرناها عنه: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا، فحذفت"لا" لدلالة الكلام عليها، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا.
ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.
* * *
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوٍّ يخشى أن يفتِنَه في صلاته.
*ذكر من قال ذلك:
10317- حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد قال، حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في السفر ركعتين؟
__________
(1) في المخطوطة: "وهي في الإمام مصحف عثمان رحمة الله عليه: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" من أصل قوله: "فليس عليكم جناح" ... وأن معنى الكلام...."، وهي عبارة فاسدة مضطربة، كأن ناسخًا غير ناسخنا، أو كأن الناشر، زاد أحدهما"وهذه القراءة.." إلخ، حتى اتصل الكلام واستقام، فتركت ما في المطبوعة على حاله، إلا أنه كتب"تنبئ على أن قوله"، فجعلتها"تنبئ عن أن قوله ... ". وتصحيحه"من أصل" فجعلها"مواصل" هو الصواب إن شاء الله.

(9/128)


فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟ . (1)
10318- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصْرَ صلاة الخوف، (2) ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به. (3)
10319- حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.
10320- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أيُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.
* * *
__________
(1) الأثر: 10317 -"أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة. و"عبد الكبير بن عبد المجيد، أبو بكر الحنفي" مضى برقم: 6822.
وأما "محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" فهو ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 210، "عمر" مكان"محمد"، وهو خطأ، والناسخ كثيرًا ما يكتب"محمد""عمر" كما مر في مواضع كثيرة.
وأبوه: "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، المعروف بابن أبي عتيق. روى عن عمة أبيه عائشة، وروى عنه ابناه، عبد الرحمن ومحمد (المذكور قبل) .
وهذا الأثر لم أجده في شيء من دواوين السنة التي بين يدي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) في المطبوعة: "قصر الصلاة في الخوف"، وفي المخطوطة: "قصر الصلاة الخوف"، وصوابها من تفسير ابن كثير.
(3) الأثر: 10318 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 561، والدر المنثور 2: 210، ولم ينسباه لغير ابن جرير. وأخرجه البيهقي في سننه 3: 136 من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وقال البيهقي: "ورواه الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر، وأسنده جماعة عن ابن شهاب فلم يقيموا إسناده".

(9/129)


وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف، في غير حال المُسَايفة. قالوا: وفيها نزل.
*ذكر من قال ذلك:
10321- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين= أو: أربعًا، شك أبو عاصم= ركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمْتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى العصر، فصفَّ أصحابه صَفَّين، ثم كبَّر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون سجدة، والآخرون قيام،
__________
(1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ.

(9/130)


ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأوَّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصَرَ العصرَ إلى ركعتين.
10322- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعًا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى بهم صلاة العصر، فصفّ أصحابه صفّين، ثم كبر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون لسجوده، (2) والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبَّر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصفُّ الآخر واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين.
10323- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُّرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلَّينا الظهر، فقال المشركون: لقد كانوا على حالٍ، لو أردنا لأصبنا غِرَّة، لأصبنا غفلة. (3) فأنزلت آية القَصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاحَ وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلهم، (4) فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّروا جميعًا، ثم ركع وركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكصَ الصفّ الذي يليه وتقدم الآخرون، فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووْا معه، فقعدوا جميعًا، ثم سلم عليهم جميعًا، فصلاها بعُسْفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم. (5)
10324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان النحوي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي= وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان، ثم ذكر نحوه. (6)
__________
(1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "بسجوده" بالباء وأثبت ما في المخطوطة، وهو جيد.
(3) في المطبوعة: "كانوا على حال"، أسقط "لقد"، لأن ناسخ المخطوطة كتبها"لو كانوا ... "، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"مستقبلهم" (وقراءتها بضم الميم وسكون السين وفتح الباء) ، يعني: أمامهم. وكان المشركون يومئذ بينهم وبين القبلة.
(5) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".
(6) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".

(9/131)


10325- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل؟ أو: أيَّ يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عِير قريش آتية من الشأم، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجلٌ من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: نعم. قال: هل تخافني؟ قال: لا! قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك! قال: فسلَّ السيف، ثم هَدَّده وأوعده، ثم نادى بالرَّحيل وأخْذِ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعُ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف،
__________
(1) الأثر: 10325 -"سليمان اليشكري" هو: سليمان بن قيس اليشكري. روى عن جابر، وأبي سعيد الخدري. وروى عنه قتادة، وعمرو بن دينار، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية. قال البخاري: "يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله، ولم يسمع منه قتادة، ولا أبو بشر، ولا نعرف لأحد منهم سماعًا، إلا أن يكون عمرو بن دينار، سمع منه في حياة جابر". وقال أبو حاتم: "جالس جابرًا فسمع منه وكتب عنه صحيفة، فتوفى وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة"، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 32، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136.
وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده 3: 364، 390، من طريق أبي عوانة عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، بغير هذا اللفظ، وبمعناه.
وأشار إلى خبر سليمان بن قيس، أبو داود في سننه 2: 24، والبيهقي في السنن 3: 259، ومعاني الآثار للطحاوي 1: 187.
وقال ابن كثير في تفسيره 2: 568، وذكر حديث أحمد في المسند، وقال: "تفرد به من هذا الوجه".

(9/132)


إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر لا في صلاة الإقامة. (1) قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، كما أن صلاة الإقامة أربعُ ركعات في حال الإقامة. قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمامٌ في السفر. ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف، ركعة.
*ذكر من قال ذلك:
10326- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا"، إلى قوله:"عدوًّا مبينًا"، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام. (2) والتقصير لا يحلّ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة. والتقصير ركعة: يقوم الإمام ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلّي بمن معه ركعة، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القَهْقرى. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلّون لأنفسهم ركعة، ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة. والناس يقولون: لا بل
__________
(1) في المطبوعة: "القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فهي تمام"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.

(9/133)


هي ركعة واحدة، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئًا، تجزئه ركعة الإمام. فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة. فذلك قول الله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"وخذوا حذركم".
10327- حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. (1)
10328- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كيف تكون قصرًا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة.
10329- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (2)
10330- حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، حدثني بكر بن سوادة: أن زياد بن نافع حدثه عن كعب= وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُطعت يده يوم اليَمامة=: أن صلاة الخوف لكل طائفة، ركعة وسجدتان. (3)
__________
(1) الأثر: 10327 - رواه البيهقي في السنن 3: 263، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 210، وزاد نسبه إلى عبد بن حميد. وأشار إليه أبو داود في السنن 2: 23.
(2) الأثر: 10329-"يزيد الفقير" هو"يزيد بن صهيب"، وهذا الأثر بهذا الإسناد، مضى برقم: 5563.
(3) الأثر: 10330 -"أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري" و"عبد الله بن وهب"، مضيا، برقم: 2747.
و"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري" مضى برقم: 1387، 6889.
و"بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي المصري". تابعي ثقة، مترجم في التهذيب.
و"زيادة بن نافع التجيبي المصري"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"كعب" الأقطع، مترجم في الإصابة، والكبير للبخاري 4 / 1 / 222. وهذا الأثر ساقه الحافظ ابن حجر في ترجمة"كعب الأقطع"، وقال: "أظن في إسناده انقطاعًا، فقد علقه البخاري من طريق زياد بن نافع، عن أبي موسى الغافقي، عن جابر بن عبد الله. وقال البخاري في التاريخ، كعب قطعت يده يوم اليمامة، له صحبة. روى عنه زياد بن نافع".

(9/134)


واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما:-
10331- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهدم اليربوعي قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم يحفظ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفًّا، وصفًّا موازيَ العدو، (1) فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة. (2)
10332- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "وصف موازي العدو"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في روايات الحديث.
(2) الأثر: 10331 - وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10333.
"أشعث بن أبي الشعثاء" هو: أشعث بن سليم بن أسود المحاربي، من ثقات شيوخ الكوفيين، مترجم في التهذيب.
و"الأسود بن هلال المحاربي"، كان جاهليًا، أدرك الإسلام. روى عن معاذ بن جبل، وعمر، وابن مسعود. مترجم في التهذيب.
و"ثعلبة بن زهدم الحنظلي"، مختلف في صحبته، روى عن حذيفة وأبي مسعود، وعامة روايته عن الصحابة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده 5: 385، 399، 404، وأبو داود في السنن 2: 23 رقم: 1246، والنسائي في السنن 3: 167، 168 والبيهقي، في سننه 3: 261، والحاكم في المستدرك 1: 335 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. والطحاوي في معاني الآثار 1: 183.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 212، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن حبان.

(9/135)


سفيان، عن الرُّكين بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال: سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني، بنحوه. (1)
10333- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه. (2)
10334- حدثنا ابن بشار قال، حدثني يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد، فصفّ الناس خلفه صفين، صفًّا خلفه، وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة. ولم يَقْضوا. (3)
__________
(1) الأثر: 10332 -"ركين بن الربيع بن عميلة الفزاري". ثقة كوفي.
و"القاسم بن حسان العامري". ذكره ابن حبان في الثقات، قال الحافظ ابن حجر: في أتباع التابعين، ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت، ثم وجدته قد ذكره (يعني ابن حبان) في التابعين أيضًا".
وقد ساق الخبر، البيهقي في سننه 3: 262، وفيه تصريح بسماعه عن زيد بن ثابت، قال: "عن القاسم بن حسان قال: أتيت فلان بن وديعة فسألته عن صلاة الخوف فقال: إيت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيدًا فسألته ... " وساق الخبر. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 183.
(2) الأثر: 10333 - انظر التعليق على الأثر: 10331.
(3) الأثر: 10334 -"أبو بكر بن أبي الجهم"، هو: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم العدوي" نسب إلى جده. كما في التهذيب، وفي الكنى للبخاري: 13"أبو بكر ابن أبي الجهم بن صخير"، وفي ابن أبي حاتم 4 / 2 / 338: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم بن صخير"، وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب: "واسم أبي الجهم، صخير"، كان فقيهًا، ثقة، قال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب. وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح مسند أحمد.
و"عبيد الله بن عبد الله" هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، تابعي، كان عالمًا ثقة كثير الحديث والعلم، تقيًا، شاعرًا محسنًا، وكان أحد فقهاء المدينة، وهو معلم عمر بن عبد العزيز.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده: 2063، 3364، وإسناده صحيح. وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 182.

(9/136)


10335- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صخير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس مثله. (1)
10336- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعةً.
10337- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (2)
10338- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزديّ قال، حدثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (3)
10339- حدثنا يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (4)
__________
(1) الأثر: 10335 -"أبو بكر بن صخير"، هو"أبو بكر بن أبي الجهم"، في الإسناد السابق، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن صحير" بالحاء المهملة، وهو خطأ.
(2) الأثران: 10336، 10337 -"أبو عوانة" هو: "الوضاح بن عبد الله اليشكري"، مضى برقم: 4498.
و"بكير بن الأخنس" كوفي ثقة
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند رقم: 2124، 2293، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم أيضًا 5: 196.
(3) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي".
و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197.
وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901.
وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب.
(4) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي".
و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197.
وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901.
وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب.

(9/137)


10340- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صفٌّ بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعةً وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة. (1)
10341- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكر بن سوادة حدثه، عن زياد بن نافع حدثه، عن أبي موسى: أن جابر بن عبد الله حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين. (2)
10342- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي قال، حدثنا عبد الله بن شقيق قال، حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبَّ إليهم من أبنائهم وأبْكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلةً واحدة. وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمرَه أن يقسم
__________
(1) الأثر: 10340 -"يزيد الفقير"، هو: يزيد بن صهيب، مضى برقم: 10329. وهذا الأثر، رواه النسائي في السنن 3: 174، ورواه النسائي أيضًا من طريق المسعودي، عن يزيد الفقير 3: 175، والبيهقي في السنن 3: 263، وانظر كلام البيهقي فيه، وقد أشار إلى طريق الحكم بن عتيبة، عن يزيد الفقير. وتفسير ابن كثير 2: 569.
(2) الأثر: 10341 -"أبو موسى" هو: "علي بن رباح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 324، و"هو تابعي معروف أخرج له مسلم"، وقال أيضًا إن أبا موسى في هذا الأثر: "يقال هو الغافقي: مالك بن عبادة، وهو صحابي معروف أيضًا". وقد مضى ذكر"علي بن رباح" رقم: 4747.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 324) .

(9/138)


أصحابه شَطْرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (1)
* * *
وقال آخرون: عنى به القصر في السفر، إلا أنه عنى به القصر في شدَّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماءً برأسه حيث توجَّه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله:"ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا".
*ذكر من قال ذلك:
10343- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا ضربتم في الأرض"، الآية، قصرُ الصلاة، إن لقيت العدوَّ وقد حانت الصلاة: أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكبًا كنت أو ماشيًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال:"عنى بالقصر فيها، القصرَ من حدودها. وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها، مستقبلَ القبلة فيها ومستدبرَها، وراكبًا وماشيًا،
__________
(1) الأثر: 10342 -"سعيد بن عبيد الهنائي"، قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"عبد الله بن شقيق العقيلي" مضى برقم: 196 - 199.
وهذا الأثر رواه النسائي في السنن 3: 174، والترمذي في السنن، في كتاب التفسير. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 211، واقتصر على نسبته لابن جرير والترمذي. وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب من حديث عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة".

(9/139)


وذلك في حال السَّلَّة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، (1) وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) ، [سورة البقرة: 239] ، وأذِن بالصلاة المكتوبة فيها راكبًا، إيماءً بالركوع والسجود، على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، لدلالة قول الله تعالى:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، على أن ذلك كذلك. لأن إقامتها: إتمامُ حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها، دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبًة في حال الخوف.
فإن ظن ظان أن ذلك أمرٌ من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم، غيرَ مقيم صلاته، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين. وذلك قولٌ إن قاله قائل، (2) مخالف لما عليه الأمة مجمعة: من أن المسافر لا يستحق أن يقال له= إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين=:"إنه غير مقيم صلاته". وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفًا من عدوه أن يفتنه، أن يقيم صلاتَه إذا اطمأن وزال الخوف، كان معلومًا أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف. وإذْ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة: إقامة
__________
(1) في المطبوعة: "في حال الشبكة والمسايفة"، وهو خطأ فارغ، صوابه من المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. و"السلة": استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف في المعركة، إذا تدانى أهل القتال.
(2) في المطبوعة: "فذلك قول" والصواب من المخطوطة.

(9/140)


صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة: ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها، على ما بيّنّا.
* * *

(9/141)


وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك، يا محمد، الخائفين عدوهم أن يفتنهم="فأقمت لهم الصلاة"، يقول: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوَّهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها="فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك (1) = وليكن سائرهم في وجوه العدو.
= وترك ذِكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلِّية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله، لدلالة الكلام المذكور على المراد به، والاستغناءِ بما ذكر عما ترك ذكره="وليأخذوا أسلحتهم".
__________
(1) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 6: 500، 506.

(9/141)


واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح.
فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. (1) قال: ومعنى الكلام:"وليأخذوا"، يقول: ولتأخذ الطائفة المصلَية معك من طوائفهم="أسلحتهم"، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم، كالسيف يتقلَّده أحدهم، والسكين، والخنجر يشدُّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه، ونحو ذلك من سلاحه.
* * *
وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم: الطائفةُ التي كانت بإزاء العدوِّ، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك قول ابن عباس.
10344- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإذا سجدوا"، يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلِّي بصلاتك ففرغت من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مُصَافيِّ العدوِّ في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلِّ معك، ولم تدخل معك في صلاتك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم".
فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلَّوْا ففرغوا من صلاتهم، فليكونوا من ورائكم.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة.
فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت
__________
(1) في المطبوعة: "مع رسول الله" وأثبت ما في المخطوطة.

(9/142)


من صلاتها، حتى تأتي مقامَ أصحابها بإزاء العدوّ، ولا قضاء عليها. وقالوا: هم الذين عنى الله بقوله: (1) "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، أن تجعلوها -إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم- ركعة (2) ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفةٍ صلاة الخوف ركعة، ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا.
وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه.
* * *
وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة= التي أمرَها الله بالقيام مع نبيِّها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو، وإذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه= (3) أن تقوم في مقامها الذي صلّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصلي لأنفسها بقية صلاتها وتسلّم، وتأتي مصافّ أصحابها، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبُت قائمًا في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلّت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلّت معه مما يجوز قصرُ عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصاف أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافَّةً عدوَّها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.
* * *
ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون.
فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهم الذين قالوا عنى الله بقوله"، أخر"قالوا" عن مكانها، وكأنه من فعل الناسخ، فرددتها إلى سياق الكلام، في أوله.
(2) السياق: "أن تجعلوها ... ركعة"، تفسيرًا لقوله"أن تقصروا من الصلاة".
(3) السياق"بل الواجب كان على هذه الطائفة ... أن تقوم في مقامها".

(9/143)


فرغ من ركعتيه ورَفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية، أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدًا في تشهُّده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم.
* * *
وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعدَ النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده. فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم. (1) ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائلٍ من الذين ذكرنا قولهم، روَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارًا بأنه كما قال فَعَل.
* * *
ذكر من قال: انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت [كل طائفة] صلاتها، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما. (2)
10345- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذاتِ الرِّقاع: أن طائفة صفّت معه، (3) وطائفة وجاه العدو. (4) فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم. ثم جاءت
__________
(1) في المخطوطة: "بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ... "، سقط من الناسخ ما هو ثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة: "حتى قضت صلاتها"، وفي المطبوعة: "حتى قضت صلاتهما" بالتثنية، أراد أن يصحح سياق المخطوطة فأساء، ووضعت ما بين القوسين اجتهادًا حتى يستقيم الكلام.
(3) في المطبوعة: "أن طائفة صفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "وجاه" (بكسر الواو وضمها) و"تجاه" (بكسر التاء وضمها) : أي حذاء العدو من تلقاء وجهه. وبجميع هذه الوجوه، روي هذا الخبر.

(9/144)


الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. (1)
10346- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني عبيد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام، فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا وتخلّف الذين كانوا قُدَّامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. (2)
10347- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف: تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم. ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين، ثم يسلم. (3)
* * *
ذكر من قال:"كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليه وسلم عليها بعدُ".
10348- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم قال: حدثني صالح بن خوّات بن جبير: أن سهل
__________
(1) الأثر: 10345 -"يزيد بن رومان الأسدي" أبو روح المدني، من شيوخ مالك، كان عالمًا كثير الحديث ثقة.
و"صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري"، روى عن أبيه وخاله سهل بن أبي حثمة، وهو تابعي ثقة قليل الحديث. روى له الجماعة حديث صلاة الخوف. مترجم في الكبير 2 / 2 / 277.
و"سهل بن أبي حثمة الأنصاري"، له صحبة، مات رسول الله وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه. قال الحافظ في التهذيب: "قال ابن أبي حاتم. عن أبيه، بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد. قال ابن أبي حاتم: سمعت رجلا من ولده سأله أبي عن ذلك وأخبره به".
قلت: ولم أجد في الجرح والتعديل ترجمة"سهل"، ولا قول ابن أبي حاتم.
ثم قال الحافظ: "وقال ابن القطان: قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة، والغلط الذي فيه من هذا الرجل الذي لا يدرى من هو. وإنما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصًا، أبوه أبو حثمة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، كذا ذكره ابن جرير وغيره".
و"سهل بن أبي حثمة"، مترجم في التهذيب، وفي الكبير 2 / 2 / 98، وقد مضى ذكره برقم: 9179.
وهذا حديث صحيح، رواه مالك في الموطأ: 183، والشافعي في الرسالة رقم: 509، 677، وفي الأم 1: 186، والبخاري (الفتح 7: 325) ، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277، ومسلم 6: 128، وأبو داود في سننه 2: 18، رقم: 1238، والنسائي 3: 171، والترمذي 2: 456 (شرح أخي السيد أحمد) ، والطحاوي في معاني الآثار 1: 184، والبيهقي في سننه 3: 252، وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي، وشرح رسالة الشافعي. والجصاص في أحكام القرآن 2: 259، 260.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 326: "قوله: عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف= قيل: إن اسم هذا المبهم، سهل بن أبي حثمة، لأن القاسم بن محمد، روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة. وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه"خوات بن جبير"، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه، فقال: عن صالح بن خوات، عن أبيه أخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة من طريقه. وكذلك أخرجه البيهقي (3: 253) من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه. وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره".
وقد أجاد الحافظ في بيان هذا بعد ذلك في الفتح (7: 329) ، ودل على أن سهل بن أبي حثمة كان صغيرًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله قبض وهو ابن ثمان سنين، فأيد بذلك أن المراد بقوله: "عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم" هو خوات بن جبير، لا سهل بن أبي حثمة.
(2) الأثر: 10346 - حديث سهل بن أبي حثمة، من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، هذا والذي يليه، رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في الفتح (7: 329) ومسلم 6: 128، والبيهقي في السنن 3: 253، 254. وانظر التعليق على الأثر السالف، والأثر التالي رقم: 10351.
(3) الأثر: 10347 - مكرر الذي قبله. رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277. وهذا هو الحديث المرفوع الذي سيشير إليه في رقم: 10351.

(9/145)


بن أبي حثمة حدّثه: أن صلاة الخوف: أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلّي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدو، فيصلي. فيركع الإمام بالذين معه ويسجد، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا، والإمام قائم، فقاموا إزاء العدوّ، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا. (1)
10349- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد: أن صالح بن خوّات أخبره، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه. (2)
10350- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة. ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين. (3)
10351- قال بندار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد،
__________
(1) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239.
(2) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239.
(3) الأثر: 10350 -"يحيى بن سعيد" هو القطان.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 328) ، والترمذي 2: 455 (شرح أخي السيد أحمد) ، والبيهقي في سننه 3: 253، والنسائي في سننه 3: 178.

(9/147)


وقال لي: اكتبه إلى جنبه، فلست أحفظه، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد. (1)
10352- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات: أن الإمام يقوم فيصفّ صفين، طائفة مواجهة العدو، وطائفة خلف الإمام. فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفُّون. ويجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة. (2)
10353- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوّات، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة الخوف: أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو، فيصلّي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائمًا، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم، ويجيء أصحابهم والإمام قائم، فيصلي بهم ركعة، فيسلم. ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون= قال عبيد الله: فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا. (3)
10354- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
__________
(1) الأثر: 10351 - هذا الأثر إشارة، إلى الأثر السالف رقم: 10347، مرفوعًا. ورواه الترمذي 2: 456، والبيهقي في السنن 3: 253. وقال الترمذي: "لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد، وهكذا روى أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري موقوفًا. ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد".
(2) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346.
وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء".
(3) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346.
وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء".

(9/148)


عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، فهذا عند الصلاة في الخوف، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو. فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانيةَ والإمام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم، فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"، فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه في صلاته، السجدةَ الثانية من ركعتها الأولى (1) ="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من ورائك، يا محمد، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلِّم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدوّ، عليها بقية صلاتها. (2) قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدوّ حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عز ذكره:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم".
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقَّى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته، على قول قائلي هذه المقالة ومتأوِّلي هذا التأويل.
__________
(1) السياق: "فإذا سجدت الطائفة ... السجدة الثانية".
(2) في المطبوعة: "وعليها بقية صلاتها" بزيادة واو.

(9/149)


فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها، إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقامها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعدُ لم تتم. (1) فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت بقية صلاتها.
ذكر الرواية بذلك:
10355- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال، قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء= أو مستقبلي= العدو، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم. وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم رسول الله، ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقامَ أصحابهم مستقبلي العدوّ، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "لم تتم صلاتها"، زاد"صلاتها"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب جيد.
(2) الأثر: 10355 -"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام الثقات، مضى برقم: 2616.
و"خصيف" هو: خصيف بن عبد الرحمن الجزري مضى برقم: 8136، تكلموا فيه، قال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به آخرون وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروي، ويتفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يتابع عليه، وهو من أستخير الله تعالى فيه".
و"أبو عبيدة"، هو: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، مضى برقم: 4570، 4694. و"عبد الله" هو عبد الله بن مسعود.
وهذا الأثر رواه أبو داود 2: 22 رقم: 1224. والبيهقي في السنن 3: 261، من طريق عبد السلام بن حرب عن خصيف، ومن طريق الثوري عن خصيف، ومن طريق شريك عن خصيف. وهذا الأخير هو رقم: 10357. ولفظه مخالف للفظ حديث عبد الواحد بن زياد عن خصيف، قال البيهقي: "وهذا الحديث مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف الجزري ليس بالقوي".

(9/150)


10356- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه. (1)
10357- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقفَ أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها= فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة. وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة= فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك وسلمت، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وأقبلت الطائفة التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلَّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من
__________
(1) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224.
(2) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224.

(9/151)


صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت، انصرفت إلى أصحابها.
*ذكر من قال ذلك:
10358- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف، قال: يصف صفًّا خلفه، وصفًّا بإزاء العدو في غير مصلاه، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، (1) وقد صلى هو ركعتين، وصلى كلّ صف ركعة. ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو، فقاموا مقامهم، وجاؤوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو، وجاء أولئك فصلوا ركعة (2) = قال سفيان: فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين. (3)
10359- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعًا، عن سفيان قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه.
10360- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم عليهم""يصلي" و"يسلم" مضارعًا، والصواب الجيد ما أثبته من المخطوطة.
(2) الأثر: 10358 -"الحارث"، هو: "الحارث بن محمد بن أبي سامة" و"عبد العزيز" هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي"، مضيا برقم: 10295، 10315، وغيرهما، وسيأتي برقم: 10360.
(3) في المطبوعة: "فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان"، والذي أثبته من المخطوطة، وهو صواب حسن جدًا.
(4) الأثر: 10360 -"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، و"عبد العزيز بن أبان الأموي"، انظر التعليق على الأثر: 10358. وزدت: "رحمة الله عليه" من المخطوطة.

(9/152)


وقال آخرون: بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها، من غير تضييع منهم بعضها.
*ذكر من قال ذلك:
10361- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها. قال: فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة، وخَلَفهم الآخرون فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة ثم سلم، فقامت كل طائفة فصلت ركعًة.
10362- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي موسى، بنحوه.
10363- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من أصبهان، (1) وما بهم يومئذ خوف، (2) ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم. فصفَّهم بصفَّين: (3) صفًّا خلفه، وصفًّا مواجهة العدوّ مقبلين على عدوهم. فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصافّ أصحابهم. وجاء أولئك، فصفّهم خلفه، فصلى بهم ركعة ثم سلم. فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض. فكانت للإمام ركعتان في جماعة، (4) ولهم ركعة ركعة. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "صلى أبو موسى بأصحابه بأصبهان"، غير ما في المخطوطة، وفي الدر المنثور"بالدار من أصبهان"، ولم أهتد إلى موضع يقال له"الدير" أو "الدار" من بلاد أصبهان. ومع ذلك فكثير من بلدان هذه الجهات، قد أغفلت معاجم البلدان ذكرها، وقلما تظفر بها إلا في ثنايا الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والفتوح.
(2) في الدر المنثور: "وما بهم يومئذ كبير خوف".
(3) في المطبوعة"فصفهم صفين"، وهو صواب في المعنى، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ركعتين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 10363، 10364 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 213، ونسبه لابن أبي شيبة وجده، بغير هذا اللفظ. وأشار إليه البيهقي في السنن 3: 252.

(9/153)


10364- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى، بمثله.
10365- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال في صلاة الخوف: يصلي بطائفة من القوم ركعة، (1) وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم. فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. (2)
10366- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
10367- حدثني عمران بن بكَّار الكلاعي قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه. (3)
10368- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: أنه كان يحدِّث أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (4)
10369- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (5)
10370- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع،
__________
(1) في المطبوعة: "يصلي طائفة"، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 10365 - والآثار التي تليه: 10366، 10367، ثم 10370، 10371، خمسة أسانيد لحديث نافع، عن ابن عمر. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده برقم: 6159، وهو إسناد الطبري رقم: 10371، ثم رواه برقم: 6431، من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وانظر شرح أخي السيد أحمد في المسند على الأثر: 6159.
(3) الأثر: 10367 -"عمران بن بكار الكلاعي" مضى برقم: 2071.
(4) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.
(5) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.

(9/154)


عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو، ثم ذكر نحوه. (1)
10371- حدثنا محمد بن هارون الحربي قال، حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال، حدثنا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه. (2)
10372- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"فليصلوا معك"، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح، فيقبلون على العدو، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى. وهذا تمام الصلاة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة.
__________
(1) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365.
"محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير.
و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل.
(2) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365.
"محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير.
و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل.

(9/155)


ذكر الأخبار المنقولة بذلك:
10373- حدثنا أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم: فإنّ لهم صلاة أخرى هي أحبَّ إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى آخر الآية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة، فجعل المسلمين خلفه صفين، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا. فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام، سجد الصف الثاني ثم قاموا، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع ركعوا معه جميعًا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه، سجد الصفّ المؤخر، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّم عليهم جميعًا. فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردنا! (1)
__________
(1) الأثر: 10373 -"النضر أبو عمر" هو: "نضر بن عبد الرحمن الخزاز"، مضى برقم: 718، وهو ضعيف الحديث، سئل عنه أبو نعيم فقال: "لا يسوى هذا= ورفع شيئًا من الأرض= كان يجيء فيجلس عند الحماني، وكل شيء يسأل عنه يقول: عكرمة عن ابن عباس".
وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 3: 30، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وهذا عجب، فإن البخاري قال في ترجمة"النضر": "منكر الحديث"!! فكيف يكون هذا الخبر على شرطه!! ومن أجل مثل هذا لم يبال العلماء بتصحيح الحاكم غفر الله له. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 213، وزاد نسبته للبزار.

(9/156)


10374- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال، حدثني مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهرَ فرأوه سجدَ وسجد الناس، قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذره الله ذلك. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبّر وكبر الناس معه، فذكر نحوه.
10375- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، أخبرني عبيد الله بن عمرو، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع النبّي صلى الله عليه وسلم، فلقينا المشركين بنخل، فكانوا بيننا وبين القبلة. فلما حضرت صلاة الظهر، (1) صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع. فلما فرغنا، تذَامر المشركون، (2) فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن، هي أحبّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم. قال: فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر، (3) وعلّمه كيف يصلي. فلما حضرت العصر، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي العدوّ، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعًا، ثم ذكر نحوه. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "فلما حضرت الظهر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "تذامر المشركون" أي: تلاوموا على ترك الفرصة، وقال بعضهم: "قد تكون بمعنى تحاضوا على القتال". ولكن الأجود، هو المعنى الأول، فإن"التذامر" - فيما أرى - يحمل معنى التلاوم والحض على انتهاز الفرصة من العدو. وفي الدر المنثور: "تآمر المشركون"، والصواب ما في المخطوطة والمطبوعة. وقد ذكره ابن الأثير بهذا اللفظ، ونقله صاحب اللسان"تذامر المشركون" في حديث صلاة الخوف، يعني هذا الحديث بلا شك.
(3) في المطبوعة: " ... إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة."عليهما"، يعني رسول الله وجبريل.
(4) الأثر: 10375 -"عمران بن بكار الكلاعي"، مضى قريبًا رقم: 10367.
" يحيى بن صالح الوحاظي" ثقة من أهل الشام. مات سنة 222، روى عن عبيد الله بن عمرو الرقي، وإسماعيل بن عياش وغيرهما.
و"ابن عياش" هو: إسماعيل بن عياش بن سلم العنسي. ثقة حافظ، وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و"عبيد الله بن عمرو الرقي الجزري" أبو وهب. مضى برقم: 1566، 4964، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن عمر"، وهو خطأ لا شك فيه، فإنه هو الذي يروي عن أبي الزبير.
و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تدرس. مضى برقم: 2029، 8025.
وهذا الأثر رواه ابن جرير بثلاثة أسانيد، هذا والإسنادان التاليان. وحديث أبي الزبير عن جابر، رواه مسلم 5: 127 من طريق أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير. ورواه النسائي في السنن 3: 176 من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير. وأشار إليه البخاري (الفتح 7: 326) . وأفاض الحافظ ابن حجر في مواضع في بيان حديث أبي الزبير عن جابر، ورواه البخاري من طريق هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهما إسنادا أبي جعفر رقم: 10377، 10378، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 240، من طريق هشام أيضًا. وأخرجه البيهقي في السنن 3: 258، وكلهم اختصره.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 2: 214، فاقتصر على نسبته لابن أبي شيبة وابن جرير. ورواية ابن جرير مطولة.

(9/157)


10376- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
10377- حدثنا مؤمل بن هشام قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
10378- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الظهر، وعلى المشركين خالد بن الوليد. فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غرة، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى

(9/158)


بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، [ففرّقنا] = يعني فرقتين= (1) فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة تصلي خلفهم يحرسونهم. ثم كبر فكبروا جميعًا، وركعوا جميعًا، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعًا، ثم سجد بالذين يلونه، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصافِّ أصحابهم، ثم تقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم. فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه الرواية=: وإذا كنت يا محمد، فيهم= يعني: في أصحابك خائفا="فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: ممن دخل معك في صلاتك="فإذا سجدوا" يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رءوسها من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليَصِرْ مَنْ خلفك خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك (3) ="ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"، يعني الطائفةَ الحارسة التي صلت معه، غير أنها لم تسجد بسجوده. فمعنى قوله:"لم يصلوا"- على مذهب هؤلاء-: لم يسجدوا بسجودك="فليصلوا معك"،
__________
(1) في المطبوعة: "صلاة العصر يعني فرقتين"، وهو لا يكاد يستقيم، فزدت ما بين القوسين من النسائي، ونصه هناك"ففرقنا فرقتين" ليس فيه (يعني) .
(2) الأثر: 10378 -"عمرو بن عبد الحميد الآملي" شيخ الطبري، مضى برقم: 3759، وقد قال أخي هناك: "لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة، ولعله محرف عن شيء لا أعرفه". والذي قاله لا يصح، فقد جاء هنا أيضًا"عمرو بن عبد الحميد"، وروى عنه أبو جعفر في التاريخ في موضع واحد 1: 184، قال: "حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال، حدثنا أبو أسامة"، فثبت أنه غير محرف.
وخبر"أبي عياش الزرقي"، مضى من طريق منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش بثلاثة أسانيد، 10323، 10324، وطريق عبد العزيز بن عبد الصمد، هو الذي رواه النسائي في السنن 3: 177 وهذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "وليصر من خلفك وخلف الطائفة ... " بالواو في"ليصر"، وبالواو قبل"خلف الطائفة"، وصححها في المطبوعة: "فليصر من خلفك خلف" فجعل الأول فاء، وحذف الثانية، وهو الصواب إن شاء الله.

(9/159)


يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرُسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى= وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، يعني الحارسة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلِّ معك الركعة الأولى بإزاء العدو، وبعد فراغها من بقية صلاتها (1) ="ولتأت طائفة أخرى"، وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدو="لم يصلوا"، يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى="فليصلوا معك"، يقول: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك="وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، لقتال عدوهم، بعد ما يفرغون من صلاتهم.
وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة. (2)
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله عز ذكره قال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"، وقد دللنا على أن"إقامتها"، إتمامها بركوعها وسجودها، ودَللنا مع ذلك على أن قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، إنما هو إذنٌ بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف.
فإذْ صح ذلك، كان بيِّنًا أنْ لا وجه لتأويل من تأول ذلك: أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"،
__________
(1) في المطبوعة: " ... بإزاء العدو بعد فراغها ... " بحذف الواو من"وبعد"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) يعني الخبر رقم: 10345، ثم خبر سهل بن أبي حثمة من: 10346 - 10353.

(9/160)


لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرتُ قبل= ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلَها، عُنِي به القصر من عدد الركعات.
وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال:"أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة، على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان"، أبعد. (1) وذلك أنّ الله جل ثناؤه يقول:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك"، وكلتا الطائفتين قد كانت صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان. ومحالٌ أن تكون التي صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصلِّ معه.
فإن ظن ظان أنه أريد بقوله:"لم يصلوا"، لم يسجدوا= فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني"الصلاة"، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
وإذْ كان ذلك كذلك= ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكرهُ للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، (2) ولا على المسلمين الذين بإزاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر (3) = لم يكن لأمرها بتأخير ذلك، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها، معنًى.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة، لصحّة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) قوله: "أبعد" خبر قوله: "فقول من قال"، والسياق: فقول من قال ... أبعد.
(2) في المطبوعة: " ولم يكن في الآية أمر من الله عز ذكره للطائفة الأولى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله: "ولا على المسلمين ... " معطوف على قوله: "ولم يكن في الآية أمر ... " والمعنى: ولم يكن على المسلمين الذين بإزاء العدو ... ضرر ... في اشتغالها بقضاء ذلك.
وسياق الجملة التالية: "وإذ كان ذلك كذلك ... لم يكن لأمرها بتأخير ذلك ... معنى".

(9/161)


وسلم، وأنه من الأمور التي علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ثم أباح لهم العمل بأيِّ ذلك شاءوا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم"، فإنه يعني: تمنى الذين كفروا بالله (1) ="لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم": يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. (2) ="فيميلون عليكم ميلة واحدة"، يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم حملة واحدة، فيصيبون منكم غِرَّة بذلك، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم.
يقول جل ذكره: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو، (3) فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم، ولكن أقيموا الصلاة على ما بيّنت لكم، وخذوا من عدوكم حِذْركم وأسلحتكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف ص: 17، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"غفل" فيما سلف 2: 244، 316 / 3: 127، 184.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو العدو" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ، صوابه ما أثبت، وقد سلف شرح ذلك في ص: 130، تعليق: 1.

(9/162)


القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا جناح عليكم"، ولا حرج عليكم ولا إثم (1) ="إن كان بكم أذى من مطر"، يقول: إن نالكم [أذى] من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوِّكم (2) ="أو كنتم مرضى"، يقول: أو كنتم جرحى أو أعِلاء (3) ="أن تضعوا أسلحتكم"، إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوكم="حذركم"، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون="إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، يعني بذلك: أعدّ لهم عذابًا مُذِلا يبقون فيه أبدًا، لا يخرجون منه. وذلك هو عذاب جهنم. (4)
* * *
وقد ذكر أن قوله:"أو كنتم مرضى" نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا.
__________
(1) انظر تفسير"جناح" فيما سلف ص: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، وكان في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وانظر التعليق السالف ص: 162 تعليق: 3.
(3) "أعلاء" جمع"عليل". وكان في المطبوعة: "يقول: جرحى"، وأثبت الزيادة من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 8: 355 تعليق: 3، والمراجع هناك.

(9/163)


فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)

*ذكر من قال ذلك:
10379- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى"، عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا فرغتم، أيها المؤمنون، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوِّكم= التي بيّناها لكم، (1) فاذكروا الله على كل أحوالكم= قيامًا وقعودًا ومضطجعين على جنوبكم، بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة الأنفال: 45] ، وكما:-
10380- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واذكروا الله كثيرًا"، (2) يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، (3) ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غيرَ الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله، فقال:"فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم"، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حالٍ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543 / 4: 195.
وقوله: "التي بينها لكم"، صفة قوله: "من صلاتكم".
وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو عدوكم"، خطأ. انظر التعليق السالف ص163، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "فاذكروا الله قيامًا"، مكان قوله تعالى: "واذكروا الله كثيرًا"، وهو في ظني تصرف من الناشر، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا جعل لها جزاء معلومًا"، وهو خطأ، والصواب"حدًا" كما يدل عليه سياق الكلام، وسياق المعنى.

(9/164)


وأما قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا اطمأننتم"، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم (1) ="فأقيموا"، يعني: فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10381- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم"، قال: الخروج من دارِ السفر إلى دار الإقامة.
10382- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"فإذا اطمأننتم"، يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"فإذا استقررتم"="فأقيموا الصلاة"، أي: فأتموا حدودَها بركوعها وسجودها.
*ذكر من قال ذلك:
10383- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا اطمأننتم"، قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف.
10384- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: فإذا اطمأننتم فصلُّوا الصلاة، لا تصلِّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا. (3)
__________
(1) وانظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492.
(2) في المخطوطة: "فأقيمو الصلاة التي أذن ... " ليس فيها"يعني: فأتموا".
(3) انظر تفسير"إقامة الصلاة" فيما سلف 1: 241، وفهارس اللغة في الأجزاء السالفة.

(9/165)


10385- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: أتموها.
10386- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم، أيها المؤمنون، واطمأنت أنفسكم بالأمن="فأقيموا الصلاة"، فأتموا حدودَها المفروضة عليكم، (1) غير قاصريها عن شيء من حدودها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عرَّف عباده المؤمنين الواجبَ عليهم من فرض صَلاتهم بهاتين الآيتين في حالين:
إحداهما: حالُ شدة خوف، أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بيَّنت من قصر حدودها عن التمام.
والأخرى: حالُ غير شدة الخوف، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها، على ما وصفه لهم جل ثناؤه، من معاقبة بعضهم بعضًا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضًا من عدوهم. وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جل ثناؤه: لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة". فمعلوم بذلك أن قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم، فأقيموها. وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حالٍ غير شدة الخوف بقوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فأتموها بحدودها"، غير ما في المخطوطة مسيئًا في تغييره.

(9/166)


القول في تأويل قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10387- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (2)
10388- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا،"الموقوت"، المفروض. (3)
10389- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما"كتابًا موقوتًا"، فمفروضًا.
10390- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409 / 4: 295، 297 / 5: 300، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "كتابًا موقوتًا، قال: فريضة مفروضة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 10388 - كان إسناد هذا الأثر في المطبوعة: "حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني علي، عن ابن عباس: إن الصلاة ... ". وأثبت الإسناد الذي في المخطوطة.
ومع ذلك فالإسناد الذي في المطبوعة فيه خطأ، فإنه أسقط بين"حدثنا عبد الله بن صالح" وبين"قال حدثني علي" ما لا ينبغي إسقاطه وهو: "قال حدثني معاوية"، فهذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 10380.
(4) الأثر: 10390 - هذا الأثر مقدم على الذي قبله في المخطوطة.

(9/167)


وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا واجبًا.
*ذكر من قال ذلك:
10391- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: كتابًا واجبًا.
10392- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: واجبًا.
10393- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10394- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن معمر بن سام، عن أبي جعفر في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: مُوجَبًا. (1)
__________
(1) الأثر: 10394 -"معمر بن سام"، يقال هو منسوب إلى جده وهو"معمر بن سام بن موسى" أو: "معمر بن يحيى بن سام"، روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وعن أخيه أبان بن يحيى بن سام، وفاطمة بنت علي. روى عنه وكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم. سئل أبو زرعة عن"معمر بن يحيى بن سام" فقال: كوفي ثقة. مترجم في التهذيب، وفي الكبير 4 / 1 / 377"معمر بن يحيى بن سام"، وفي 4 / 1 / 378"معمر بن موسى بن سام"، وهما ترجمة واحدة. وفي الجرح والتعديل 4 / 1 / 258 وسيأتي في رقم: 10396، "معمر بن يحيى".
وكان في المطبوعة: "معمر بن هشام" وهو خطأ محض، وفي المخطوطة"معمر بن شام"، والصواب ما أثبت.
و"أبو جعفر" هو: أبو جعفر الباقر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، كان ثقة كثير الحديث، وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال الزبير بن بكار: "كان يقال لمحمد: باقر العلم".
وكان في المخطوطة: "موقوتا قال: موجوبا" وهي غريبة لا يجيزها الاشتقاق، وكأن الناسخ سها، وغلب عليه وزن"موقوتا"، فكتب"موجوبا"، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. أو تكون كما يجيء في الأثر رقم: 10396"موقوتًا: وجوبها" فكتبها الناسخ"موجوبا"، وقرأها كذلك خطأ أو سهوًا.

(9/168)


10395- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، و"الموقوت"، الواجب.
10396- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا معمر بن يحيى قال، سمعت أبا جعفر يقول:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: وجوبها. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، منجَّمًا يؤدُّونها في أنجمها. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10397- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتًا كوقت الحجِّ.
10398- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: منجَّمًا، كلما مضى نجم جاء نَجْم آخر. يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر.
10399- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 10396 -"معمر بن يحيى" هو"معمر بن سام" الذي سلف في الأثر: 10394، وانظر التعليق السالف.
(2) "النجم" هو الوقت المضروب، يقال: "جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة، يؤدي كل نجم في شهر كذا"، وهو القسط أو الوظيفة يؤديها عند حلول وقتها مشاهرة أو مساناة. وجمع"نجم""نجوم" و"أنجم"، و"نجم المال والدين ينجمه تنجيمًا". وانظر تفسير ذلك في الأثر التالي رقم: 10398.

(9/169)


وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض. لأن ما كان مفروضًا فواجب، وما كان واجبًا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجَّم.
غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة، قول من قال:"إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا منجَّمًا"، لأن"الموقوت" إنما هو"مفعول" من قول القائل:"وَقَتَ الله عليك فرضه فهو يَقِته"، ففرضه عليك"موقوت"، إذا أخرته، جعل له وقتًا يجب عليك أداؤه. (1) فكذلك معنى قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، إنما هو: كانت على المؤمنين فرضًا وقَّت لهم وقتَ وجوب أدائه، فبيَّن ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا.
* * *
من قولهم:"وهَنَ فلان في هذا الأمرَ يهِن وَهْنًا ووُهُونًا". (2)
* * *
وقوله:"في ابتغاء القوم"، يعني: في التماس القوم وطلبهم، (3) و"القوم"
__________
(1) في المطبوعة: "إذا أخبر أنه جعل له وقتًا ... " وهو كلام غسيل من كل معنى. وفي المخطوطة: "إذا احرانه" غير منقوطة، وبزيادة ألف بعد الراء، وصواب قراءتها ما أثبت، وهو صواب المعنى أيضًا.
(2) انظر تفسير"وهن" فيما سلف 7: 234، 269، و"الوهون" مصدر لم تنص عليه أكثر كتب اللغة، ولم يذكره أبو جعفر فيما سلف 7: 234.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 71 تعليق: 2، والمراجع هناك

(9/170)


هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله="إن تكونوا تألمون"، يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون، تَيْجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا، (1) ="فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: فإن المشركين يَيْجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تَيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها="وترجون"، أنتم أيها المؤمنون = "من الله" من الثواب على ما ينالكم منهم= "ما لايرجون" هم على ما ينالهم منكم. يقول: فأنتم= إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم، (2) بما هم به مكذّبون= أولى وأحرَى أن تصبروا على حربهم وقتالهم، منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجِدُّوا من طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يَهنون فيه ولا يَجِدّون، فكيف على ما جَدُّوا فيه ولم يهنوا؟ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10400- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون.
__________
(1) يقال: "وجع الرجل يوجع وييجع وياجع وجعا"، كله صواب جيد.
(2) في المطبوعة: "إن كنتم موقنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. وهذه الجملة بين الخطين، معترضة بين المبتدأ والخبر. والسياق: "فأنتم.. أولى وأحرى أن تصبروا".
(3) في المطبوعة: "فإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون هم فيه ولا تجدون، فكيف على ما وجدوا فيه ولم يهنوا"، وهو كلام لا معنى له، وضع عليه ناشر الطبعة الأولى رقم (3) دلالة على اضطراب الكلام.
وفي المخطوطة: "وإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون ولا يحدون، فكيف على فاحذوا فيه ولم يهنوا"! وهي أشد اضطرابًا وفسادًا لعدم نقطها. وصواب قراءتها ما أثبت.
وسياق هذه العبارة كلها: "فأنتم ... أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم ... وأن تجدوا في طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يهنون ... " أي: لكي يقاتلوهم على الأمر الذي لا يجدون فيه جدًا لا وهن معه.

(9/171)


10401- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، قال يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون الجراحات، (1) فإنهم يَيْجعون كما تيجعون.
* * *
10402- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، لا تضعفوا.
10403- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تهنوا"، يقول: لا تضعفوا. (2)
10404- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، قال يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم="إن تكونوا تألمون" القتال="فإنهم يألمون كما تألمون". وهذا قبل أن تصيبهم الجراح (3) = إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه="فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون"، يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال. (4)
10405- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تكونوا تألمون"، توجعون.
10406- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"إن تكونوا تألمون"، قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون
__________
(1) في المطبوعة: "تيجعون من الجراحات" بزيادة"من"، والذي في المخطوطة صواب.
(2) هذا الأثر لم يتم في المخطوطة، فقد انتهت الصحيفة بقوله تعالى"فلا تهنوا"، ثم قلب الوجه الآخر وكتب"في ابتغاء القوم ... "، وساق بقية الخبر التالي وأسقط إسناده. وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو الصواب بلا شك.
(3) في المطبوعة: "قال: وهذا ... " بزيادة"قال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "مكان القتال"، وفي المخطوطة: "لمكان القتال"، وهذا صواب قراءتها، يعني: جدهم في التماس القوم في المعركة.

(9/172)


كما توجعون، وترجون أنتم من الثواب فيما يصيبكم ما لا يرجون.
10407- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أُحُد، وأصابَ المسلمين ما أصاب، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال:"يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ (1) الحرب سِجَال، يوم لنا ويوم لكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه. فقالوا:"لا سواء، لا سواء، (2) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". فقال أبو سفيان:"عُزَّى لنا ولا عُزَّى لكم"، (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان:"أُعْلُ هُبَل، أُعْل هبل"! (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله أعلى وأجل"! فقال أبو سفيان:"موعدنا وموعدكم بدر الصغرى"، ونام المسلمون وبهم الكلوم (5) = وقال عكرمة: وفيها أنزلت: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران: 140] ، وفيهم أنزلت:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا". (6)
10408- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"،
__________
(1) في المطبوعة: "لا جرح إلا بجرح"، أساء قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، فكتبها كما كتب!! ولا معنى له. وقوله: "الحرب سجال"، أي: مرة لهذا ومرة لهذا.
(2) في المطبوعة، حذف"لا سواء" الثانية، لأن الناسخ كان قد كتب شيئًا ثم ضرب عليه، فاختلط الأمر على الناشر الأول، فحذف.
(3) "العزى" صنم كان لقريش وبني كنانة.
(4) و"هبل" صنم كان في الكعبة لقريش. وقد مضى تفسير"اعل هبل" 7: 310، وخطأ من ضبطه"أعل" بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام، وأن الصواب أنها من"علا يعلو".
(5) "الكلوم" جمع"كلم" (بفتح وسكون) : الجرح. و"الكليم": الجريح.
(6) الأثر: 10407 - مضى برقم: 7098، وجاء فيه على الصواب، ومنه ومن المخطوطة صححت ما سلف.

(9/173)


قال: ييجعون كما تيجعون.
وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يتأول، (1) قوله:"وترجون من الله ما لا يرجون"، وتخافون من الله ما لا يخافون، من قول الله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) [سورة الجاثية: 14] ، بمعنى: لا يخافون أيام الله.
وغير معروف صرف"الرجاء" إلى معنى"الخوف" في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [سورة نوح: 13] ، بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر: (2)
لا تَرْتَجِي حِينَ تُلاقِي الذَّائِدَا ... أَسَبْعَةً لاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا (3)
وكما قال أبو ذؤيب الهُذَليّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ (4)
__________
(1) في المطبوعة: "وقد ذكرنا عن بعضهم" وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "الشاعر الهذلي"، وهو خطأ نقل نسبة أبي ذؤيب في البيت بعده إلى هذا المكان. ولم أعرف هذا الراجز من يكون، وإن كنت أخشى أن يكون الرجز لأبي محمد الفقعسي.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 286، والأضداد لابن الأنباري: 9، واللسان (رجا) .
(4) ديوانه: 143، ومعاني القرآن للفراء 1: 286، وسيأتي في التفسير 11: 62 / 25: 83 / 29: 60 (بولاق) . يروى: "إذا لسعته الدبر"، وتأتي روايته في التفسير"نوب عواسل" أيضًا. وهذا البيت من قصيدة له، وصف فيها مشتار العسل من بيوت النحل، فقال قبل هذا البيت: تَدَلَّى عَلَيْهَا بالحِبَالِ مُوَثَّقًا ... شَدِيدُ الْوَصَاةِ نابِلٌ وَابْنُ نِابِلِ
فَلَوْ كَانَ حَبْلا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَسَبْعِينَ بَاعًا، نَالَهَا بالأَنامِلِ
يقول: تدلى على هذه النحل مشتار موثق بالحبال، شديد الوصاة والحفظ لما ائتمن عليه، حاذق وابن حاذق بما مرن عليه وجربه. ثم ذكر أنه لا يخاف لسع النحل، إذا هو دخل عليها فهاجت عليه لتلسعه.
وقوله: "فخالفها"، أي دخل بيتها ليأخذ عسلها، وقد خرجت إليه حين سمعت حسه، فخالفها إلى بيوت عسلها غير هياب للسعها. ويروى"حالفها" بالحاء، أي: لازمها، ولم يخش لسعها. و"النوب" جمع"نائب" وهو صفة للنحل، أي: إنها ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتضع عسلها، تجيء وتذهب. و"العوامل"، هي التي تعمل العسل. و"العواسل" النحل التي تصنع العسل، أو ذوات العسل.

(9/174)


وهي فيما بلغنا - لغةٌ لأهل الحجاز يقولونها، بمعنى: ما أبالي، وما أحْفِلُ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) }
يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله="عليمًا" بمصالح خلقه="حكيمًا"، في تدبيره وتقديره. (2) ومن علمه، أيها المؤمنون، بمصالحكم عرّفكم= عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم (3) = ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) }
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 286.
(2) انظر تفسير"كان" و"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وقد مضى مثل هذا الخطأ مرارًا فيما سلف ص: 146، تعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "بصركم بما فيه" بزيادة الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.

(9/175)


إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)

القول في تأويل قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"،"إنا أنزلنا إليك" يا محمد="الكتاب"، يعني: القرآن="لتحكم بين الناس"، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم="بما أراك

(9/175)


الله"، يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله="خصيما" تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه="واستغفر الله"، يا محمد، وسَلْه أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره="إن الله كان غفورًا رحيمًا"، يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها="رحيما" بهم. (1)
فافعل ذلك أنت، يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن.
* * *
وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هَّم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك.
* * *
وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم: بنو أُبَيْرِق.
* * *
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه، فوصفه الله بها.
فقال بعضهم: كانت سرقًة سرقها.
*ذكر من قال ذلك:
10409- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله"، فيما بين ذلك، في ابن أبيرق، (2) ودرعه من حديد، من يهود، التي سرق، (3)
__________
(1) انظر تفسير"الاستغفار"، و"كان" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "طعمة بن أبيرق"، وسيأتي ذكر"طعمة بن أبيرق" في رقم: 10412، ولكنه في المخطوطة هنا"ابن أبيرق"، وسترى الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء.
(3) قوله"من يهود" أثبتها من المخطوطة.

(9/176)


وقال أصحابه من المؤمنين للنبي:"اعذره في الناس بلسانك"، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا.
10410- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. (1)
10411- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبَشِير، ومُبَشِّر، وكان بشير رجلا منافقًا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول:"قال فلان كذا"، و"قال فلان كذا"، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال: (2)
أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَضِمُوا وَقَالُوا: ابْنُ الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (3)
قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس
__________
(1) الأثر: 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "إلا هذا الخبيث"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "نحلت وقالوا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ضموا إلى بان أبيرق قالها
والذي هنا هو صوابه، وأنشد بعده هناك: مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُم ... جَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَا
هكذا جاء على الإقواء، على الخلاف بين القافية في"قالها" و"أبانها" وهو عيب جاء مثله في الشعر، لتقارب مخرج اللام والنون، وأعانه على ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية.
وقوله: "أضموا" أي: غضبوا عليه وحقدوا. وقوله: "متخمطين"، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط: شديد الغضب له ثورة وجلبة. وفي المستدرك: "متخطمين" بتقدم الطاء على الميم، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.

(9/177)


إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك، (1) ابتاع الرجل منها فخصَّ به نفسه. (2) فأما العِيال، فإنما طعامهم التمر والشَّعير. فقدمت ضافطة من الشأم، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك، فجعله في مَشْرُبة له، (3) وفي المشربة سلاح له: دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي عليه من تحت الليل، (4) فنُقِبَت المشربة، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، (5) فنقبت مشرُبتنا، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال: فتحسّسنا في الدار، (6) وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم.
= قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل! = رجلا منا له صلاح وإسلام. (7) فلما سمع بذلك لبيد، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: (8) والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتُبَيّننَّ هذه
__________
(1) الضافطة: كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما. ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الذي يكري الأحمال"الضافطة" و"الضفاط". و"الدرمك" هو الدقيق النقي الحواري، الأبيض.
(2) في المطبوعة: "ابتاع الرجل منهم"، وفي المخطوطة: "منا"، وأثبت ما في المراجع.
(3) "المشربة" (بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها) : وهي الغرفة، أو العلية، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب: العلالي.
(4) في المراجع الأخرى: "من تحت البيت"، وكأن الذي في الطبري هو صواب الرواية.
(5) "تعلم" (بتشديد اللام) ، بمعنى: اعلم.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "فتجسسنا" بالجيم، وهي صواب، وأجود منها بالحاء، كما في سائر المراجع."تحسس الخبر": تطلبه وتبحثه، وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".
و"الدار" هنا: المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها، ويعني بها القبيلة أو البطن، كما جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بخير دور الأنصار؟ دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، وفي كل دور الأنصار خير". يعني القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها.
(7) في المطبوعة: "رجل" بالرفع، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض عال.
(8) "اخترط سيفه": سله من غمده.

(9/178)


السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!
= قال قتادة: فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ، (1) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. (3) فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له:"أسير بن عروة"، فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (4)
= قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عَمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال: فرجعت ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان!
= فلم نلبث أن نزل القرآن:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يعني: بني أبيرق="واستغفر الله"، أي: مما قلت لقتادة="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون
__________
(1) "الجفاء" غلظ الطبع.
(2) في المخطوطة: "فلا حاجة لنا به"، وهما سواء.
(3) في المطبوعة: "سأنظر في ذلك"، وفي الترمذي وابن كثير: "سآمر في ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "الثبت" (بفتحتين) : الحجة والبينة والبرهان.

(9/179)


أنفسهم"، أي: بني أبيرق="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من الناس إلى قوله:"ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم="ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يَرْم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، قولهم للبيد="ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك"، يعني: أسيرًا وأصحابه="وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرُّونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا".
فلما نزل القرآن، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة. = قال قتادة: فلما أتيتُ عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) وكنت أرى إسلامه مَدْخولا (2) فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد، (3) فأنزل الله فيه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ
__________
(1) "عسا في الجاهلية" أي: كبر وأسن، من قولهم: "عسا العود" أي: يبس واشتد وصلب.
(2) "المدخول"، من"الدخل" (بفتحتين) وهو العيب والفساد والغش، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول: أي في عقله دخل وفساد.
(3) في المطبوعة: "سلافة بنت سعد بن سهل"، وفي المخطوطة: " ... بنت سعد بن سهيل"، وفي الترمذي وابن كثير"بنت سعد بن سمية" وفي المستدرك: "سلامة بنت سعد بن سهل، أخت بني عمرو بن عوف، وكانت عند طلحة بن أبي طلحة بمكة".
والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور، ثم جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت.
و"سلافة بنت سعد بن شهيد" أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس، استظهرت نسبها: "سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس". وذلك من جمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 314، إذ ذكر"عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو ... " وقال: "له صحبة، ولاه عمر فلسطين". ولم أجد في تراجم الصحابة وسائر المراجع"عويمر بن سعد بن شهيد". هذا، ولكن نقل ابن حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و"سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية" معروفة غير منكورة، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة، وهي أم مسافع، والجلاس، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3: 66) ، وقد قتلوا يوم أحد هم وأبوهم، قتل مسافعًا والجلاس، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، حمى الدبر، فنذرت سلافة: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر (النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3: 180) .
فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما.

(9/180)


الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) . فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، (1)
فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح، (2) ثم قالت: أهديتَ إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (3)
__________
(1) شعر حسان هذا في ديوانه: 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول، قال: وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًا ... بذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْ
فَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ، فأَصْبَحَتْ ... يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها وَتُنَازِعُهْ
(2) في المطبوعة: "فرمته بالأبطح"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في الترمذي. و"الأبطح"، هو أبطح مكة، أو: بطحاء مكة، وهو مسيل واديها.
(3) الأثر: 10411 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي" أبو مسلم الحراني. من أهل حران، سكن بغداد. قال الخطيب: "ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". روى عن محمد بن سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2، وتاريخ بغداد 7: 266.
وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن، في تفسير هذه الآية، بإسناد الطبري نفسه، أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 385، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 574-576، والسيوطي في الدر 2: 214، 215، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
وإسناد الحاكم في المستدرك: "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، حدثني محمد بن إسحاق ... "، وساق إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان، كما في التفسير والترمذي.
وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده: "أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا، حدثنا محمد بن سلمة" وساقه كإسناد أبي جعفر.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن أبيه وجده، وأخشى أن يكون وهم، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله"حدثني جدي وأبي جميعًا"، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد، لا الحسن بن أحمد.
ثم قال الخطيب البغدادي: "قال أبو شعيب: "قال أبي (يعني الحسن بن أحمد) : سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن أبي إسرائيل". وأما في ابن كثير، فقائل هذا: "محمد بن سلمة"، وهو الصواب.
وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري) : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
أما الترمذي فقد قال: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده".
غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير، مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان.

(9/181)


10412- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل الله عليك وبيَّن لك="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، فقرأ إلى قوله:"إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا". ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا.
= وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، (1) يقال له:"زيد بن السمين". (2) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف، (3) فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم،
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور: "فقدمها" والصواب ما في المطبوعة.
(2) في أسباب النزول للواحدي: 134: "زيد بن السمير" بالراء، وسائر الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يهتف" بالتاء، كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون، من قولهم: "أهنف الصبي إهنافًا"، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال: "أهنف الرجل"، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح.

(9/182)


وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" إلى قوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"، يعني بذلك قومه="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه:
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
10413- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظَنَّ بها رجلا من الأنصار، (1) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك، عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيَّبْتُ الدرعَ وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلا (2) فقالوا: يا نبيّ الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطْنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! (3) فقام رسول الله صلى الله
__________
(1) "ظننت الرجل، وأظننته"، اتهمته. و"الظنة" (بالكسر) : التهمة.
(2) "ليلا" غير موجودة في المخطوطة، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على صواب إثباتها.
(3) في المطبوعة: "إن لم يعصمه الله"، والذي في المخطوطة، صواب عريق.

(9/183)


عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب="واستغفر الله إنّ الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن= ثم قال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب (1) = ثم قال:"ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، يعني: السارقَ والذين يجادلون عن السارق.
10414- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" الآية، قال: كان رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" بما قلت لهذا اليهودي="إن الله كان غفورًا رحيمًا"= ثم أقبل على جيرانه فقال:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" فقرأ حتى بلغ"أم من يكون عليهم وكيلا". قال: ثم عرض التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) في المطبوعة، سقط من الناشر من أول قوله: "يجادلون عن الخائن" إلى قوله: "بالكذب"، فأثبتها من المخطوطة.

(9/184)


يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه"، فما أدخلكم أنتم أيها الناس، على خطيئة هذا تكلَّمون دونه="وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، وإن كان مشركًا="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فقرأ حتى بلغ:"لا خير في كثير من نجواهم"، (1) فقرأ حتى بلغ:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى". قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرَض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتًا يسرقه، (2) فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (3) "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى"، فقرأ حتى بلغ"وساءت مصيرًا"= ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظَفر.
* * *
وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، جحودُه وديعة كان أودِعها.
*ذكر من قال ذلك:
10415- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، قال: أما"ما أراك الله"، فما أوحى الله إليك. قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعًا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه، كافره عنها، (4) فانطلق إلى ناس من
__________
(1) سقط من المطبوعة: "فقرأ حتى بلغ: لا خير في كثير من نجواهم"، وزاد في التي بعدها: "حتى بلغ إلى قوله". وأثبت نص المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ليسرقه"، والذي في المخطوطة صواب معرق.
(3) في المطبوعة: "فذلك قوله"، وأثبت نص المخطوطة.
(4) "كافره حقه": جحده، و"كافره عنه"، عربي صريح.

(9/185)


اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبُّوه، وقال: أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة: أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني ويكذِّب حجة اليهودي، (1) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه:"ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" مما أردت="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيما"= ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول"، يقول: يقولون ما لا يرضى من القول (2) ="ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"= ثم دعا إلى التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"= ثم ذكر قوله حين قال:"أخذها أبو مليل" فقال:"ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه" ="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا" = ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه: (3) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه، فقال:"لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: النبوة= ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا عن طعمة، فقال:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس". فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده، (4) فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه، فمات بحرَّة بني سُلَيم كافرًا، (5) وأنزل الله فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى" إلى"وساءت مصيرًا".
10416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع، (6) وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته، فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين: فتعلَّق صاحب الدرع بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ عنه، فهمّ بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا * واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: طعمة بن أبيرق وقومه= "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في
__________
(1) "نضح عنه": أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به.
(2) قوله: "يقول: يقولون ما لا يرضى من القول"، غير موجودة في المخطوطة، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى"التبيت" على وجه الدقة فيما يلي ص: 191، 192.
(3) في المطبوعة: "وإتيانهم إياه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "الخشخشة": صوت حركة، تكون من السلاح إذا احتك، والثوب الجديد، ويبيس النبات. و"القعقعة": أشد من الخشخشة، صوت يكون من الجلد اليابس، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض.
(5) "حرة بني سليم" في عالية نجد. و"الحرة" أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار.
(6) المشربة: الغرفة، كما أسلفت في التعليق.

(9/186)


الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة= "ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، محمد وطعمة وقومه= قال:"ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه" الآية، طعمة="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، يعني زيد بن السمين="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، طعمة بن أبيرق="ولولا فضل الله عليك ورحمته" يا محمد="لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء"، قوم طعمة بن أبيرق="وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا" يا محمد (1) ="لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف"، حتى تنقضي الآية للناس عامة="ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرَ سبيل المؤمنين" الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق، لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي، (2) حليفٌ لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلَحِج. (3) فلما أصبح أخرجوه من مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل مُنْقَطَعٌ به! فحملوه، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم، ثم انطلق. فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات= قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، أنزلت في طعمة بن أبيرق= ويقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخَزْرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.
10417- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خوَّنوا صاحبنا، وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فبين الله خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى قوله:"وساءت مصيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية، قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية، جحودَه ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني"الخيانات" في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل، أولى من غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "محمد صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"البهري"، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا، بل الصحيح أن يقال: "السلمي ثم البهزي" بالتقديم والتأخير، فإنه"بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور"، فبهز بطن من سليم بن منصور.
(3) "لحج بالمكان": نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و"لحج السيف": نشب في الغمد فلم يخرج.

(9/188)


وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)

القول في تأويل قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تجادل" يا محمد، فتخاصم="عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خَبوَنة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه مالَه، وهم بنو أبيرق. يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا"، يقول: إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وقد تقدم ذكر الرواية عنهم.
10418- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، قال: اختان رجل عمًّا له درعًا، فقذف بها يهوديًا كان يغشاهم، فجادل عمُّ الرجل قومه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" الآية.
* * *

(9/190)


يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)

القول في تأويل قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يستخفون من الناس"، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، ما أتَوْا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية (1) ="من الناس"، الذين لا يقدرون لهم على شيء، إلا ذكرهم بقبيح ما أتَوْا من فعلهم، (2) وشنيع ما ركبوا من جُرْمهم إذا اطلعوا عليه، حياءً منهم وحذرًا من قبيح الأحدوثة="ولا يستخفون من الله" الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنَّكال وتعجيل العذاب، وهو أحق أن يُستحى منه من غيره، وأولى أن يعظَّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه="وهو معهم"، يعني: والله شاهدهم="إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، يقول: حين يسوُّون ليلا ما لا يرضى من القول، فيغيِّرونه عن وجهه، ويكذبون فيه.
* * *
وقد بينا معنى"التبييت" في غير هذا الموضع، وأنه كل كلام أو أمرٍ أصلح ليلا. (3)
وقد حكى عن بعض الطائيين أن"التبييت" في لغتهم: التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل: (4)
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر ما سلف 8: 562، 563.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " ... بن جرير"، والصواب ما أثبت، والأسود بن عامر بن جوين الطائي، أبو عامر بن جوين الطائي، الذي نزل به امرؤ القيس (الأغاني 8: 90، 95) ، وقد ذكرهما ابن دريد في الاشتقاق: 233 وقال: "كانا سيدين رئيسين"، وذكرهما ابن حزم في الجمهرة: 379، وقال في الأسود بن عامر: "شاعر"، ثم قال: "فولد الأسود هذا: قبيصة بن الأسود، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(9/191)


وَبَيَّتَّ قَوْلِيَ عَبْدَ الْمَلِيكِ ... قاتلَكَ الله عَبْدًا كَنُودًا!! (1)
بمعنى: بدَّلت قولي.
* * *
وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله:"يبيتون"، يؤلّفون.
10419- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين:"إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، قال: يؤلِّفون ما لا يرضى من القول.
10420- حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بنحوه.
10421- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي رزين، مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه. وذلك أن"التأليف" هو التسوية والتغيير عما هو به، وتحويلُه عن معناه إلى غيره.
* * *
وقد قيل: عنى بقوله:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله"، الرهطَ الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه، (3) على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره.
* * *
="وكان الله بما يعملون محيطًا" يعني جل ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء
__________
(1) لم أجد البيت في مكان، وكنت أعرفه ولكن غاب عني مكانه، فأرجو أن أجده وألحق به بيانه في طبعة أخرى، أو في كتاب آخر.
(2) الآثار: 10419 - 10421 -"أبو رزين" هو"أبو رزين الأسدي": "مسعود بن مالك"، مضى برقم: 4291 - 4294 ثم: 4791 - 4793.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "بني أبيرق"، والسياق يقتضي ما أثبت.

(9/192)


هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

المستخفون من الناس، فيما أتَوْا من جرمهم، حياءً منهم، من تبييتهم ما لا يرضى من القول، وغيره من أفعالهم="محيطًا"، محصيًا لا يخفى عليه شيء منه، حافظًا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، ها أنتم الذين جادلتم، (2) يا معشر من جادل عن بني أبيرق="في الحياة الدنيا"= و"الهاء" و"الميم" في قوله:"عنهم" من ذكر الخائنين.
="فمن يجادل الله عنهم"، يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم="يوم القيامة"، أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، (3) فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك: إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب.
= وأما قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة= أي: ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة.
* * *
وقد بينا معنى:"الوكالة"، فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف 2: 284 / 5: 396 / 7: 158.
(2) انظر ما قاله: في"ها أنتم أولاء" و"ها أنتم هؤلاء" فيما سلف 7: 150، 151.
(3) انظر تفسير"يوم القيامة" فيما سلف 2: 518 / 8: 592.
(4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566.

(9/193)


وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)

القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل ذنبًا، وهو"السوء" (1) ="أو يظلم نفسه"، بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله="ثم يستغفر الله"، يقول: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظُلْم نفسه، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبَه وتذهب جرمه="يجد الله غفورًا رحيمًا"، يقول: يجد ربه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه، رحيمًا به. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم".
* * *
وقال آخرون: بل عني بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين، (3) الذين قال الله لهم:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنه عنى بها كل من عمل سوءًا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرَهم في الآيات قبلها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السوء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"استغفر"، "غفور"، "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة"الذين يجادلون عن الخائنين"، وأثبت ما في المخطوطة.

(9/194)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10422- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال، قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم ذنبًا أصبح قد كُتِب كفارة ذلك الذنب على بابه. وإذا أصاب البولُ شيئًا منه، قَرَضه بالمقراض. (1) فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا! فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرٌ مما آتاهم، جعل الله الماءَ لكم طهورًا وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران: 135] ، وقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا".
10423- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفّل، فسألته عن امرأة فَجرت فَحبِلت، فلما ولدتْ قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرَك إلا أحدَ أمرين:"من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: فَمَسحت عينها ثم مضت. (2)
10424- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) "قرضه": قصه. و"المقراض": المقص.
(2) الأثر: 10423 -"حبيب بن أبي ثابت الأسدي" مضى برقم: 9012، 9035. و"عبد الله بن مغفل المزني" من مشاهير الصحابة، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس بالبصرة.
وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه، وبصره بأمر دينه، ونصيحته للناس في أمور دنياهم.

(9/195)


وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)

يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: أخبر الله عبادَه بحلمه وعفوه وكرمه، وسعةِ رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يأت ذنبًا على عَمْدٍ منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وَبَال ذلك الذنب وضُرَّه وخِزْيه وعاره على نفسه، دون غيره من سائر خلق الله. (1) يقول: فلا تجادلوا، أيها الذين تجادلون، عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا، برآء مما أتوه من الذنب ومن التَّبِعة التي يُتَّبعون بها، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم، (2) كنتم مثلَهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا.
= وأما قوله:"وكان الله عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني: وكان الله عالمًا بما تفعلون، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم، في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالِكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها="حكيمًا" يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه. (3)
* * *
وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرق. وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 8: 267 تعليق: 1، والمراجع هناك= وتفسير"الإثم" فيما سلف 4: 328، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإنكم متى دافعتم ... " والسياق يقتضي"وإنكم".
(3) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) يعني الآثار السالفة من 10409 - 10418.

(9/196)


وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب="أو إثمًا"، وهو ما لا يحلّ من المعصية. (1)
* * *
وإنما فرق بين"الخطيئة" و"الإثم"، لأن"الخطيئة"، قد تكون من قبل العَمْد وغير العمد، و"الإثم" لا يكون إلا من العَمْد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال: ومن يأت"خطيئة" على غير عمد منه لها="أو إثمًا" على عمد منه.
* * *
="ثم يرم به بريئًا"، (2) يعني: ثم يُضيف ماله من خطئه أو إثمه الذي تعمده (3) ="بريئًا" مما أضافه إليه ونحله إياه="فقد احتمل بُهتانًا وإثمًا مبينًا"، يقول: (4) فقد تحمّل بفعله ذلك فريَة وكذبًا وإثمًا عظيمًا= يعني، وجُرْمًا عظيمًا، على علم منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"بريئًا"، بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريءَ من الإثم الذي كان أتاه، ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل.
__________
(1) انظر تفسير"خطيئة" فيما سلف 2: 110، 284، 285.
(2) في المطبوعة زيادة حذفتها، كان الكلام: "ثم يرم به بريئًا، يعني بالذي تعمده بريئًا، يعني ... " وهو فساد في التفسير، فحذفته لذلك وتابعت المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ثم يصف ما أتى من خطئه ... " وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(4) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124.

(9/197)


فقال بعضهم: عنى الله عز وجل بالبريء، رجلا من المسلمين يقال له:"لبيد بن سهل". (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى رجلا من اليهود يقال له:"زيد بن السمين"، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. (2)
* * *
وممن قال:"كان يهوديًّا"، ابنُ سيرين.
10425- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين:"ثم يرم به بريئًا"، قال: يهوديًّا.
10426- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. (3)
* * *
وقيل:"يرم به بريئًا"، بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن، من هو بريء مما رماه به= فـ"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الإثم". ولو جعلت كناية من ذكر"الإثم" و"الخطيئة"، كان جائزًا، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها، فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعلٌ. (4)
* * *
= وأما قوله:"فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فإن معناه: فقد تحمل - هذا الذي رمَى بما أتى من المعصية وركب من الإثم الخطيئة، مَنْ هو بريء مما رماه به
__________
(1) انظر الأثر رقم: 10411.
(2) انظر رقم: 10412، 10416.
(3) الأثر: 10426 -"بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي" روى عن شعبة، والخليل بن أحمد صاحب العروض، وغيرهما. وروى عنه البخاري، والأربعة بواسطة محمد بن بشار. ثقة.
و"بدل" بفتحتين.
(4) هذا مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 286، 287.

(9/198)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

من ذلك="بهتانًا"، وهو الفرية والكذب (1) ="وإثمًا مبينًا"، يعني وِزْرًا"مبينًا"، يعني: أنه يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه، (2) وتقدّمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولولا فضل الله عليك ورحمته"، ولولا أن الله تفضل عليك، يا محمد، (3) فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قِبَله="لهمت طائفة منهم"، يقول: لهمت فرقة منهم، (4) يعني: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم="أن يضلوك"، يقول: يزلُّوك عن طريق الحق، (5) وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درعَ جاره،"إلا أنفسهم".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف ص: 197، تعليق: 4.
(2) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 3، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: "يبين عن أمر عمله"، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 141، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"الإضلال" فيما سلف 8: 507، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(9/199)


فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسَهم؟
قيل: وجهُ إضلالهم أنفسهم: أخذُهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذَ بها فيه من سبله. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدّم إليهم فيما تقدّم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، والأمر بالتعاون على الحق. فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، معاونة من ظلموه، دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم. فكان سعيهم في معونتهم، دون معونة من ظلموه، أخذًا منهم في غير سبيل الله. وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله فقال:"وما يضلون إلا أنفسهم".
* * *
="وما يضرونك من شيء"، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلُّوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته="من شيء"، لأن الله مثبِّتك ومسدِّدك في أمورك، ومبيِّن لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم، ففاضِحُه وإياهم.
= وقوله:"وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: ومن فضل الله عليك، يا محمد، مع سائر ما تفضَّل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك"الكتاب"، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدًى وموعظة="والحكمة"، يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، وأحكامه، ووعده ووعيده (1) ="وعلمك ما لم تكن تعلم" من خبر الأولين والآخرين، وما كان وما هو كائن، فكل ذلك من فضل الله عليك، يا محمد، مُذْ خلقك، (2) فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك، بالتمسك بطاعته،
__________
(1) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211 / 5: 15، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وما كان وما هو كائن قبل ذلك من فضل الله عليك"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت، "فكل" مكان"قبل".

(9/200)


والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن. ولا أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه، واتبعت هوى من حاول صدَّك عن سبيله.
* * *
وهذه الآية تنبيهٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه، (1) وتذكيرٌ منه له الواجبَ عليه من حقه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "موضع حظه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها موافقا لسياق القصة.

(9/201)


لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)

القول في تأويل قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا خير في كثير من نجواهم"، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا="إلا من أمر بصدقة أو معروف"، و"المعروف"، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، (1) ="أو إصلاح بين الناس"، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما،
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371 / 7: 105، وغيرهما من المواضع في فهارس اللغة.

(9/201)


ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به.
= ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس="ابتغاء مرضاة الله"، يعني: طلب رضى الله بفعله ذلك (1) ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لما فعل من ذلك عظيمًا، (2) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله"عظيمًا" يعلمه سواه. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم، إلا في نجوى من أمر بصدقة= كأنه عطف بـ "مَنْ" على"الهاء والميم" التي في"نجواهم". (4) وذلك خطأ عند أهل العربية، لأن"إلا" لا تعطف على"الهاء والميم" في مثل هذا الموضع، من أجل أنه لم ينله الجحد.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون"مَنْ" في موضع خفض ونصب. أما الخفض، فعلى قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون"النجوى" على هذا التأويل، هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ) [سورة المجادلة: 7] ، وكما قال (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [سورة الإسراء: 47] .
__________
(1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 170، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 113، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"عظيم" فيما سلف 6: 518.
(4) في المطبوعة: "كأنه عطف من" بحذف الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.

(9/202)


وأما النصب، فعلى أن تجعل"النجوى" فعلا (1) فيكون نصبًا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا، لأن"مَنْ" خلاف"النجوى"، (2) فيكون ذلك نظير قول الشاعر. (3)
...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُها...... (4)
وقد يحتمل"مَنْ" على هذا التأويل أن يكون رفعًا، كما قال الشاعر: (5) وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ ... إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (6)
* * *
__________
(1) قوله: "فعلا" أي مصدرًا.
(2) في المطبوعة: "لأنه من خلاف النجوى"، والصواب المحض من المخطوطة.
(3) هو النابغة الذبياني.
(4) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف 1: 183، 523، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 288.
(5) هو جران العود النميري.
(6) ديوانه: 52، سيبويه 1: 133، 365، معاني القرآن للفراء 1: 288، ومجالس ثعلب: 316، 452، الخزانة 4: 197، والعيني (هامش الخزانة) 3: 107، وسيأتي في التفسير: 12: 28 / 27: 39 (بولاق) ، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية هذا الشعر في ديوانه: قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُ ... يَعْتَسُّ فيه السَّبُعُ الجَرُوسُ
الذِّئْبُ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُ ... بَسَابِسًا، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُ
إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ ... وَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُ
كَأَنَّمَا هُنَّ الجَوَارِي المِيسُ
"يعتس": يطلب ما يأكل، "الجروس" هنا الشديد الأكل، وأخطأ صاحب الخزانة فقال: "من الجرس، وهو الصوت الخفي"، وليس ذلك من صفات الذئب، وحسبه عواؤه إذا جاع، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت! ، وقد بين في البيت الثالث أنه يعني"الذئب". و"ذو لبد" هو الأسد و"اللبدة" ما بين كتفيه من الوبر."هموس" من صفة الأسد، يقال تارة: هو الذي يمشي مشيًا يخفيه، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى: شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار، وما فيها من المخاوف."بسابس" قفار خلاء. وأما رواية: "وبلدة" فإن"البلدة" هنا: هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و"اليعافير" جمع"يعفور"، وهو الظبي في لون التراب. و"العيس" جمع"أعيس" وهو الظبي الأبيض فيه أدمة."كنوس" جمع"كانس"، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه، وهو بيته في الشجر يستتر فيه. و"الميس" جمع"ميساء"، وهي التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها.
ثم انظر الخزانة، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء 1: 287، 288.

(9/203)


وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل"من" في موضع خفض، بالردِّ على"النجوى"= وتكون"النجوى" بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج"السكرى" و"الجرحى" و"المرضى". وذلك أن ذلك أظهر معانيه.
فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين، يا محمد، من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له (1) ="من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم="ويتبع غير سبيل المؤمنين"، يقول: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير
__________
(1) انظر تفسير"الشقاق" فيما سلف 3: 115، 116، 336 / 8: 319.

(9/204)


منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم="نولّه ما تولّى"، يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، (1) وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه، كما:-
10427- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"نوله ما تولى"، قال: من آلهة الباطل.
10428- حدثني ابن المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
="ونصله جهنم"، يقول: ونجعله صِلاءَ نار جهنم، (2) يعني: نحرقه بها.
* * *
وقد بينا معنى"الصلى" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
="وساءت مصيرًا"، يقول وساءت جهنم (4) ="مصيرًا"، موضعًا يصير إليه من صار إليه. (5)
* * *
ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدًّا، مفارقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: 17، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "صلى" بتشديد الياء، والصواب من المخطوطة. و"الصلاء" (بكسر الصاد) : الشواء، لأنه يصلى بالنار.
(3) انظر ما سلف في تفسير"الإصلاء" 8: 27-29، 231، 484.
(4) انظر تفسير"ساء" فيما سلف ص 101، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"مصير" فيما سلف ص: 101، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(9/205)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به="ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء. يعني بذلك جل ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه، لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه= وكذلك حكم كل من اجترم جُرْمًا، فإلى الله أمره، إلا أن يكون جرمه شركًا بالله وكفرًا، فإنه ممن حَتْمٌ عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه (1) = فأما إذا مات على شركه، فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار.
* * *
وقال السدي في ذلك بما:-
10429- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين.
* * *
وأما قوله:"ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكًا، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل،
__________
(1) هذه العبارة التي وضعتها بين الخطين، معترضة في سياق الجملة، وسياقها: أن طعمة لولا أنه مات على شركه. لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه ... فإما إذا مات على شركه ... " ولما أخطأ ناشر المطبوعة الأولى قراءة هذه العبارة، فقد كتب هكذا: "فإنه حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه ... " فصار الكلام كله لغوًا وخلطًا.

(9/206)


إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)

ذهابًا بعيدًا وزوالا شديدًا، وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه، (1) وترك طاعة الله ومنهاج دينه. فذاك هو الضلال البعيد والخُسران المبين.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى وَمناة، فسماهن الله"إناثًا"، بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث.
*ذكر من قال ذلك:
10430- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث.
10431- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك بنحوه= إلا أنه قال: كلهنَّ مؤنث.
10432- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: يسمونهم"إناثًا": لاتٌ ومَنَاة وعُزَّى.
10433- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: آلهتهم، اللات والعزى ويَسَاف
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أطاع الشيطان" بزيادة الفاء، ولا معنى لها هنا.

(9/207)


ونائلة، (1) إناث، يدعونهم من دون الله. وقرأ:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مَواتًا لا رُوح فيه.
*ذكر من قال ذلك:
10434- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: مَيْتًا.
10435- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، أي: إلا ميتًا لا رُوح فيه. (2)
10436- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: و"الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح: خشبة يابسة أو حجر يابس، قال الله تعالى:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا" إلى قوله:"فليبتكن آذان الأنعام".
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون:"الملائكة بنات الله". (3)
*ذكر من قال ذلك:
10437- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
__________
(1) "إساف" (بكسر الهمزة وفتحها) و"يساف" (بكسر الياء وفتحها) واحد. زعموا أن إساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل، من جرهم، وجدا خلوة في الكعبة، ففجرا فيها، فمسخهما الله حجرين، عبدتهما قريش بعد. ويقال: صنمان وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة.
(2) في المخطوطة: "لا أرواح فيه" بالجمع.
(3) في المطبوعة: "إن الملائكة ... " وأثبت ما في المخطوطة.

(9/208)


جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: الملائكة، يزعمون أنهم بنات الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم"إناثًا"، فأنزل الله ذلك كذلك.
ذكر من قال ذلك: (1)
10438- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم، يسمونها:"أنثى بني فلان"، (2) فأنزل الله"إن يدعون من دونه إلا إناثًا".
10439- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس قال، حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحُدَّاني قال، سمعت الحسن يقول: كان لكل حي من العرب، فذكر نحوه. (3)
* * *
وقال آخرون:"الإناث" في هذا الموضع، الأوثان.
*ذكر من قال ذلك:
10440- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إناثًا" قال: أوثانًا.
__________
(1) من أول الأثر رقم: 10437، إلى هذا الموضع، ساقط من المخطوطة.
(2) في كتاب المحتسب لابن جني، في المسألة رقم: 143 (وهو مخطوط عندي) عن الحسن: "وهو اسم صنم لحي من العرب، كانوا يعبدونها ويسمونها: أنثى بني فلان". فأخشى أن يكون سقط من الناسخ هنا [كانوا يعبدونها] .
(3) الأثران: 10438، 10439 -"أبو رجاء"، "محمد بن سيف الحداني"، أدرك أنسًا، وروى عن الحسن، وابن سيرين، ومطر الوراق، وعكرمة، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة"الحراني" بالراء، والصواب من المخطوطة، بضم الحاء والدال المشددة.

(9/209)


10441- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10442- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: (إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أَوْثَانًا) .
* * *
قال أبو جعفر: روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُثُنًا) بمعنى جمع"وثن" فكأنه جمع"وثنًا""وُثُنًا"، (1) ثم قلب الواو همزة مضمومة، كما قيل:"ما أحسن هذه الأجُوه"، بمعنى الوجوه= وكما قيل: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [سورة المرسلات: 11] ، بمعنى: وُقِّتت. (2)
* * *
وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُنُثًا) كأنه أراد جمع"الإناث" فجمعها"أنثا"، كما تجمع"الثمار""ثُمُرًا". (3)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها، (4) قراءة من قرأ: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا) ، بمعنى جمع"أنثى"، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك، إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، (5) كاللات والعُزَّى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك.
__________
(1) "أثن" (بضم الهمزة والثاء) و"وثن" بجمع"وثنا" (بضم فسكون) و"ووثنا" (بضمتين) ، و"أوثان".
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 288.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 289. و"الثمر" بضم الثاء والميم.
(4) في المطبوعة: "لا أستجيز"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "ويسمونها بالإناث"، وما في المخطوطة أجود عربية.

(9/210)


وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني"الإناث" في كلام العرب، ما عُرِّف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصْله جهنم وساءت مصيرًا * إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: ما يدعو الذين يشاقّون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئًا="من دون الله"، بعد الله وسواه، (1) ="إلا إناثًا"، يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك. يقول جل ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجّة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثًا ويدعونها آلهة وأربابًا، والإناث من كل شيء أخسُّه، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودة، على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودة للذي له ملك كل شيء، وبيده الخلق والأمر. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها =
__________
(1) انظر تفسير"دون" فيما سلف 2: 489 / 6: 313.
(2) في المطبوعة: "بالعبودية" و"العبودية"، في الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. و"العبودة" هي العبادة، وقد سلف استعمال الطبري لهذه اللفظة على هذا البناء، وتغيير الناشر لها في كل مرة. انظر 3: 347، تعليق: 1 / 6: 271، تعليق: 1، 404 تعليق: 2، 549: 2، 564، تعليق: 3 / 8: 592، تعليق: 2.

(9/211)


لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)

"إلا شيطانًا مريدًا"، يعني: متمردًا على الله في خلافه فيما أمره به، وفيما نهاه عنه، كما:-
10443- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، تمرَّد على معاصي الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لعنه الله"، أخزاه وأقصاه وأبعده.
* * *
ومعنى الكلام:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، قد لعنه الله وأبعده من كل خير.
* * *
="وقال لأتخذن"، يعني بذلك: أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا".
= يعني بـ "المفروض"، المعلوم، (1) كما:-
* * *
10444- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك:"نصيبًا مفروضًا"، قال: معلومًا.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يتّخذ الشيطانُ من عباد الله نصيبًا مفروضًا.
قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب، بإغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه
__________
(1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206 / ثم 8: 58: تعليق: 4، والمراجع هناك= وتفسير: "الفرض" فيما سلف 4: 121 / 5: 120 / 7: 597-599 / 8: 50.

(9/212)


وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)

إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلالَ والكفر حتى يزيلهم عن منهج الطريق، فمن أجاب دعاءَه واتَّبع ما زينه له، فهو من نصيبه المعلوم، وحظّه المقسوم.
* * *
وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا"، ليعلم الذين شاقُّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أنهم من نصيبِ الشيطان الذي لعنه الله، المفروضِ، (1) وأنهم ممن صدق عليهم ظنّه. (2)
* * *
وقد دللنا على معنى"اللعنة" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: مخبرًا عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته في هذه الآية:"ولأضلنهم"، ولأصدّن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الإسلام إلى الكفر="ولأمنينهم"، يقول: لأزيغنَّهم -بما أجعل في نفوسهم من الأماني- عن طاعتك وتوحيدك، إلى طاعتي والشرك بك، ="ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، يقول: ولآمرن النصيبَ المفروض لي من عبادك، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد
__________
(1) "المفروض" صفة قوله: "نصيب الشيطان".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه ممن صدق ... " والسياق يقتضي"وأنهم".
(3) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 57، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(9/213)


حتى يَنْسُكوا له، (1) ويحرِّموا ويحللوا له، ويشرعوا غيرَ الذي شرعته لهم، فيتبعوني ويخالفونك.
* * *
و"البتك"، القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بَحِيرة. (2)
وإنما أراد بذلك الخبيثُ أنه يدعوهم إلى البحيرة، فيستجيبون له، ويعملون بها طاعةً له.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10445- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: البتك في البحيرة والسَّائبة، كانوا يبتّكون آذانها لطواغِيتهم.
10446- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قوله:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، أما"يبتكن آذان الأنعام"، فيشقونها، فيجعلونها بَحيرة.
10447- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: دينٌ شرعه لهم إبليس، كهيئة البحائر والسُّيَّب. (3)
* * *
__________
(1) "نسك ينسك"، إذا ذبح نسيكة، أي ذبيحة. وانظر تفسير ذلك فيما سلف 3: 75-80 / 4: 86، 195.
(2) "البحيرة" من الأنعام، من عقائد أهل الجاهلية، أبطلها الإسلام، وذلك الشاة أو الناقة تشق أذنها، ثم تترك فلا يمسها أحد.
(3) "السائبة" أم"البحيرة"، وذلك أن الرجل كان ينذر نذرًا: إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجاه شيء من مشقة أو حرب فيقول: "ناقتي هذه سائبة"، أي: تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وجمع"سائبة""سيب" (بضم السين والياء المشددة المفتوحة) مثل"نائم ونوم"، و"نائحة ونوح".
وهكذا جاءت على الصواب في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة جعلها"السوائب" كأنه استنكر هذا الجمع، فأساء غاية الإساءة في تبديل الصواب، وإن كانت"السوائب" صوابًا أيضًا، فإن هذه الآثار حجة في اللغة.

(9/214)


القول في تأويل قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"فليغيرن خلق الله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم، بإخصائهم إياها. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10448- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغِّيرُن خلقَ الله".
10449- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
10450- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: هو الإخصاء، يعني قول الله:"ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله".
10451- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف قال:
__________
(1) "خصى الفحل يخصيه خصاء" (بكسر الخاء) : سل خصييه. والفقهاء القدماء يقولون: "الإخصاء" ولم تذكره كتب اللغة، وقال المطرزي في المغرب 1: 159"خصاء على فعال، والإخصاء في معناه، خطأ". وهذا موضع إشكال، فإنك ستراه مستفيضًا في الآثار التالية، وهي نص صحيح في جواز"الإخصاء"، وبمثل هذه الآثار احتج أصحاب معاجم اللغة، وكيف لا يحتج به، وقد جاء في كلام ابن عباس، كما ترى في الأثر: 10451.

(9/215)


حدثنى رجل، عن ابن عباس قال: إخصاء البهائم مُثْلَةٌ! ثم قرأ:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
10452- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: من تغيير خلق الله، الإخصاءُ.
10453- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرني شبيل: أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية:"فليغيرن خلق الله"، قالالخِصَاء، قال: فأمرت أبا التَّيَّاح فسأل الحسن عن خِصَاء الغنم، فقال: لا بأس به. (1)
10454- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي وهب بن نافع، عن القاسم بن أبي بزة قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله:"فليغيرن خلق الله"، فسألته، فقال: هو الخصاء.
10455- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة قال، قال لي مجاهد: سل عنها عكرمة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فسألته فقال: الإخصاء= قال مجاهد: ما له، لعنة الله! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء= ثم قال: سله، فسألته فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) .
__________
(1) الأثر: 10453 -"جعفر بن سليمان الضبعي" مضى برقم: 2905، 6461. و"شبيل" هو"شبيل بن عزرة بن عمير الضبعي"، يروي عن شهر بن حوشب وروى عنه جعفر بن سليمان. ثقة. روى له أبو داود حديثًا واحدًا. وكان شبيل من أئمة العربية، وهو ختن قتادة. وذكره الجاحظ في البيان 1: 343 فقال: "ومن علماء الخوارج شبيل بن عزرة الضبعي، صاحب الغريب، وكان راوية خطيبًا، وشاعرًا ناسبًا، وكان سبعين سنة رافضيًا، ثم انتقل خارجيًا صفريًا". وقال البلاذري: "لم يكن خارجيًا، وإنما كان يقول أشعارًا في ذلك على سبيل التقية". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "شبل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة.
و"أبو التياح"، هو: "يزيد بن حميد الضبعي"، روى عن أنس والحسن البصري. وهو ثبت ثقة معروف. مترجم في التهذيب.

(9/216)


[سورة الروم: 30] ؟ قال: لدين الله= فحدَّثت به مجاهدًا فقال: ما له أخزاه الله!. (1)
10456- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ليث قال، قال عكرمة:"فليغيرن خلق الله"، قال: الإخصاء.
10457- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: سئل عكرمة عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: هو الإخصاء.
10458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: الإخصاء.
10459- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: منه الخصاء.
10460- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، بمثله.
10461- حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، بمثله. (2)
10462- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي،
__________
(1) الأثر: 10455 -"عبد الجبار بن الورد بن أغر بن الورد المخزومي"، ثقة، لا بأس به. مترجم في التهذيب. وقد مضى في الإسناد رقم: 4631، ولم يترجم هناك.
وقول مجاهد في عكرمة: "ماله لعنه الله"، و"ماله أخزاه الله"، أراد مجاهد اضطراب عكرمة في روايته، وكان مجاهد سيئ الرأي فيه، كما كان مالك ابن أنس سيئ الرأي فيه، يقول: "لا أرى لأحد أن يقبل حديثه". وقد قيل إنه كان مضطرب الحديث، وأنه كان قليل العقل!! روى الحافظ في التهذيب 7: 269"قال الأعمش عن إبراهيم: لقيت عكرمة فسألته عن: البطشة الكبرى. قال: يوم القيامة. فقلت: إلا عبد الله، كان يقول: يوم بدر. فأخبرني من سأله بعد ذلك فقال: يوم بدر". وهذا شبيه بهذا الخبر الذي بين أيدينا. وانظر أيضًا الأثر التالي رقم: 10469.
وانظر ترجمة عكرمة البربري في التهذيب، فقد استوفى الحافظ القول في عدالته وتوثيقه، ورواية الأئمة عنه.
(2) الأثر: 10461 - هو من تتمة الأثر السالف، ولكنه جرى مفردًا في الترقيم خطأ.

(9/217)


عن قتادة، عن عكرمة: أنه كره الإخصاء، قال: وفيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن دينَ الله.
*ذكر من قال ذلك:
10463- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10464- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10465- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله.
10466- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله.
10467- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
10468- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي، عن القاسم بن أبي بزة قال، أخبرت مجاهدًا بقول عكرمة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10469- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله:

(9/218)


"فليغيرن خلق الله"، فقال: كذب العبْدُ! "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. (1)
10470- حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد وعكرمة قالا دين الله.
10471- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وحفص، عن ليث، عن مجاهد قال: دين الله. ثم قرأ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] .
10472- حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة دين الله.
10473- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة، الدين.
10474- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10475- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، أي: دين الله، في قول الحسن وقتادة.
10476- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10477- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم بن أبي بزة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
__________
(1) الأثر: 10469 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10455.

(9/219)


10478- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: أما"خلق الله"، فدين الله.
10479- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله، وهو قول الله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، [سورة الروم: 30] ، يقول: لدين الله.
10480- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وقرأ: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، قال: لدين الله.
10481- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10482- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عيسى بن هلال قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فكتب:"إنه دين الله". (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" بالوشم.
*ذكر من قال ذلك:
10483- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
__________
(1) الأثر: 10482 -"معاذ بن معاذ بن نصر حسان العنبري" الحافظ. وكان في المطبوعة: "معاذ"، وحذف بقية الاسم، وهو ثابت في المخطوطة.

(9/220)


حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: الوشْم.
10484- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد، عن نوح بن قيس، عن خالد بن قيس، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم. (1)
10485- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم.
10486- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هلال الراسبي قال: سأل رجل الحسنَ: ما تقول في امرأة قَشَرت وجهها؟ قال: ما لها، لعنها الله! غَيَّرت خلقَ الله! (2)
10487- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لعن الله المُتَفَلِّجات والمُتَنَمِّصات والمُسْتَوْشِمَات المغِّيرات خلق الله.
10488- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله الوَاشِرَات والمُسْتَوْشِمَات والمُتَنَمِّصات والمُتَفَلِّجات للحسن المغِّيرات خلق الله.
10489- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الأثر: 10484 -"يزيد"، هو"يزيد بن هارون" مضى مرارًا.
و"نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، مضى برقم: 1218.
و"خالد بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، أخو"نوح بن قيس". ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "حدثنا يزيد بن نوح، عن قيس، عن خالد بن قيس" وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة.
(2) "قشر الوجه": دواء قديم بالغمرة تعالج به المرأة وجهها أو وجه غيرها، وكأنها تقشر أعلى الجلد. و"الغمرة" (بضم فسكون) ، قالوا: هو الزعفران، وقالوا: هو الجص. وقالوا: هو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها، حتى ترق بشرتها ويصفو لونها. والظاهر أنه كان يخلط به شيء يقشر أعلى البشرة، ومن أجل ذلك نهى عنه، وفي الحديث: "لعنت القاشرة والمقشورة".

(9/221)


عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله المُتَنَمِّصات والمتَفَلِّجات= قال شعبة: وأحسبه قال: المغِّيرات خلق الله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قولُ من قال: معناه:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] .
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه: من خِصَاءِ ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه، وغير ذلك من المعاصي= ودخل فيه ترك كلِّ ما أمر الله به. لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته. فذلك معنى أمره نصيبَه المفروضَ من عباد الله، بتغيير ما خلق الله من دينه.
* * *
قال أبو جعفر: فلا معنى لتوجيه من وجَّه قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، إلى أنه وَعْد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض، أو بعض ما
__________
(1) الآثار: 10487 - 10489 - هو حديث صحيح، رواه البخاري (الفتح 10: 313، 317) من طريق منصور عن إبراهيم، ورواه به أحمد في المسند مطولا: 4129، 4230، 4434.
وفي الإسناد الأول 10487 لم يذكر علقمة، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند".
وطريق محمد بن جعفر، عن شعبة (10489) رواه أحمد: 4434، ونصه"لعن الله المتوشمات والمتنمصات ... "، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ"المتوشمات".
و"المتفلجة" التي تصنع الفلج بأسنانها إذا كانت متلاصقة، وذلك بأن تحك ما بينهما بالمبرد حتى يتسع ما بين أسنانها.
و"المتنمصة" و"النامصة" التي تزيل شعر حاجبها بالمنقاش حتى ترققه وترفعه وتسويه. و"المستوشمة" و"الواشمة"، و"الوشم" أن تغرز إبرة في الجلد حتى يسيل الدم، ثم يحشى بالنورة أو غيرها فيخضر. ويقال: "هو أن تجعل خالا في وجهها بالكحل". ويفعلونه أيضًا في الشفاه واللثات، وكل ذلك داخل في الذي نهى الله عنه، ولعن عليه.
= و"الواشرة" التي تحدد أسنانها وترققها بالمنشار، وهو المبرد.
وكل هذا الذي لعن الله فاعله، تفعله نساؤنا المسلمات اليوم، متبرجات به، موغلات فيه، مقلدات لمن كفر بالله ورسوله. فمن أجل عصيانهن واستخفافهن - بل من أجل عصياننا جميعًا أمر الله - أحل الله بنا العقوبة التي أنذرنا بها رسول الله، بأبي هو وأمي، فجعل الله بأسنا بيننا، وسلط علينا شرارنا، وجمع علينا الأمم لتأكلنا. فاللهم اهد ضالنا، وخذ بنواصي عصاتنا، واغفر لنا وارحمنا، عليك نتوكل، وبك نستجير، وإليك نلجأ.

(9/222)


أمر به دون بعض. فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، (1) إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام، (2) فإن في قوله جل ثناؤه إخبارًا عن قيل الشيطان:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه. لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وَعْد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسَّرًا، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا (3) إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يُترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص. وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام، أولى من توجيهه إلى غيره، ما وجد إليه السبيل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا كان الذي وجه ... " والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "عنى به" بزيادة"به"، وهو فساد، والصواب من المخطوطة.
(3) سقط سطر من المخطوطة، فكان فيها: "وقد مضى الخبر عنه مجملا، إذ كان الفصيح"، وهو مضطرب، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. ولا أدري أهو اجتهاد من ناسخ أو ناشر، أم هذا كلام أبي جعفر كما كتبه؟.

(9/223)


القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن حال نصيب الشيطان المفروضِ الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى. (1) يقول الله: ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليًّا لنفسه ونصيرًا من دون الله (2) ="فقد خسر خسرانًا مبينًا"، يقول: فقد هلك هلاكًا، وبخس نفسه حظَّها فأوبقها بخسًا"مبينًا" = يبين عن عَطَبه وهلاكه، (3) لأن الشيطان لا يملك له نصرًا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمرَه، بل يخذُله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيًّا ممهَلا بالعقوبة، كما وصفه الله جل ثناؤه بقوله:"يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا"، يعني بذلك جل ثناؤه: يعد الشيطان المَرِيد أولياءه الذين هم نصيبُه المفروض: أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء، وظهيرًا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفَلَج عليهم. (4)
= ثم قال:"وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا" يقول: وما يعد الشيطان أولياءَه الذين اتخذوه وليًّا من دون الله="إلا غرورًا" يعني: إلا باطلا. (5)
وإنما جعل عِدَته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم"غرورًا"، لأنهم كانوا يحسبون
__________
(1) في المطبوعة: "من الذين شاقوا ... " بزيادة"من"، والصواب حذفها كما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ونصيرًا دون الله" بإسقاط"من"، وهو سهو من الناسخ في عجلته، فزدتها لدلالة الآية على مكانها.
(3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572 / 6: 570 / 7: 276= وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 199 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) "الفلج" (بفتحتين) : الظفر والفوز والعلو على الخصم.
(5) انظر تفسير"الغرور" فيما سلف 7: 453.

(9/224)


أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)

أنهم في اتخاذهم إياه وليًّا على حقيقةٍ من عِدَاته الكذب وأمانيه الباطلة، (1) حتى إذا حصحص الحق، وصاروا إلى الحاجة إليه، قال لهم عدوّ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) ، [سورة إبراهيم: 22] . وكما قال للمشركين ببدر، وقد زيَّن لهم أعمالهم: (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) ، وحصحص الحقّ، وعاين جِدّ الأمر ونزول عذاب الله بحزبه (2) =: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، [سورة الأنفال: 48] ، فصارت عِدَاته، عدُوَّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورًا (3) (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) . [سورة النور: 39] .
* * *
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليًّا من دون الله="مأواهم جهنم"، يعني: مصيرهم الذين يصيرون إليه جهنم، (4)
__________
(1) في المطبوعة: "على حقيقته"، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "عداته الكاذبة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "حد الأمر" بالحاء: أي شدته وبأسه. ولو قرئ"جد" لكان صوابًا أيضًا، بل هو الأرجح، ولذلك أثبته.
(3) قوله: "عدو الله" منصوب على الذم، وفصل به بين المصدر ومفعوله.
(4) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494.

(9/225)


="ولا يجدون عنها محيصًا"، يقول: لا يجدون عن جهنم -إذا صيّرهم الله إليها يوم القيامة- مَعْدِلا يعدِلون إليه.
* * *
يقال منه:"حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصًا وحُيُوصًا"، إذا عدل عنه.
ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرِيّة كنت فيهم، فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصة، (1) = وقال بعضهم:"فجاضوا جيضَة". و"الحَيص" و"الجَيْض"، متقاربا المعنى. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بعثنا رسول الله"، والصواب من المخطوطة. ولم أستطع أن أقف على بقية خبر ابن عمر، وإن كنت أظنه مشهورًا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: أساء نقط"جاض وحاص"، فرددتها إلى صوابها.

(9/226)


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات"، والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة="وعملوا الصالحات"، يقول: وأدَّوا فرائض الله التي فرضها عليهم (1) ="سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله، جزاءً بما عملوا في الدنيا من الصالحات="جنات"، يعني:
__________
(1) انظر تفسير"عملوا الصالحات" فيما سلف: 8: 488.

(9/226)


بساتين (1) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها (2) ="أبدًا"، دائمًا.
= وقوله:"وعد الله حقًّا"، يعني: عِدَةٌ من الله لهم ذلك في الدنيا="حقًّا"، يعني: يقينًا صادقًا، (3) لا كعدة الشيطان الكاذبة التي هي غرور مَنْ وُعِدها من أوليائه، ولكنها عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب، (4) ولا يخلف وعده.
وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه، لما سبق من خبره جل ثناؤه عن قول الشيطان الذي قصه في قوله:"وقال لأتّخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ثم قال جل ثناؤه:"يعِدُهم ويمنيهم وما يَعِدهم الشيطان إلا غرورًا"، ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وعدًا منه حقًّا، لا كوعد الشيطان الذي وَصَف صفته.
فوصف جل ثناؤه الوعدَين والوَاعِدَيْن، وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما، تنبيهًا منه جل ثناؤه خلقَه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والمعطبة، (5) لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه.
ثم قال لهم جل ثناؤه:"ومن أصدق من الله قيلا"، يقول: ومن أصدق، أيها الناس، من الله قيلا أي: لا أحد أصدق منه قيلا! فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وتكفرون به وتخالفون أمره، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلا وتعملون
__________
(1) انظر تفسير"جنات" في مادة (جنن) فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 7: 97.
(4) في المطبوعة: "ولكن عدة ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "والعطب"، وهي صواب، وفي المخطوطة: "والعطبة"، فآثرت كتابتها كما رجحت قراءتها، والمعطب والمعطبة، جمعها معاطب.

(9/227)


لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)

بما يأمركم به الشيطان رجاءً لإدراك ما يعدُكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عداته غرورٌ لا صحة لها ولا حقيقة، وتتخذونه وليًّا من دون الله، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء؟
* * *
ومعنى"القيل" و"القول" واحدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب".
فقال بعضهم: عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، أهل الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
10490- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهلُ الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! قال: فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانِّي أهل الكتاب".
10491- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
10492- حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن

(9/228)


الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: احتجَّ المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم! وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: ففَلَج عليهم المسلمون بهذه الآية: (1) "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، إلى آخر الآيتين.
10493- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيُّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ بِه"، إلى قوله:"ومن أحسنُ دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفًا"، فأفلج الله حُجَّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
10494- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا! وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا! فردّ الله عليهم قولهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجزَ به"، ثم فضل الله
__________
(1) "الفلج": الفوز والظفر والعلو على الخصم.

(9/229)


المؤمنين عليهم فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا".
10495- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا أول كتاب وخيرُها، ونبينا خيرُ الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحوًا من ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام، وكتابنا نَسَخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، ثم خَّير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا".
10496- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، إلى:"ولا نصيرًا"، تحاكم أهل الأديان، (1) فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، (2) أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، وخيَّر بين أهل الأديان فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلا."
10497- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يَعلى بن عبيد
__________
(1) "التحاكم" و"المحاكمة": التخاصم والمخاصمة.
(2) في المطبوعة: "خير من الكتب"، والصواب ما أثبت.

(9/230)


وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
10498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا (1) فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! (2) فأنزل الله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا".
10499- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الأنبياء على الله، موسى كلَّمه الله قَبَلا (3) وخَلا به نجيًّا، وديننا خير الأديان! وقالت النصارى: عيسى ابن مريم خاتم الرسل، وآتاه الله التوراة والإنجيل، ولو أدركه موسى لاتّبعه، وديننا خير الأديان! وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين
__________
(1) زاد في المطبوعة: "وأهل الإيمان"، وليست في المخطوطة وحذفتها، لأن السياق لا يحتاج إليها كما سترى في التعليق التالي.
(2) في المطبوعة، حذف"وقال هؤلاء: نحن أفضل" الثالثة، وهي ثابتة في المخطوطة، والفرق التي تفاخرت ثلاث فرق، كما رأيت قبل.
(3) "قبلا" (بفتحتين) و"قبلا" (بكسر وفتح) و"قبيلا"، أي: عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب. وقد مضت هذه الكلمة في الآثار: 711، 4039، وفسرت هناك. وكان في المطبوعة: "قيلا" بالياء المثناة التحتية، وهي في المخطوطة غير منقوطة.

(9/231)


وسيد الأنبياء، والفُرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله، وهو أمين على كل كتاب، والإسلام خير الأديان! فخيَّر الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب".
وقال آخرون: بل عنى الله بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، أهلَ الشرك به من عَبَدة الأوثان.
*ذكر من قال ذلك:
10500- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: قريش، قالت:"لن نُبْعث ولن نعذَّب".
10501- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم"، قال: قالت قريش:"لن نبعث ولن نعذب"، فأنزل الله:"من يعمل سوءًا يجزَ به".
10502- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت العرب:"لن نبعث ولن نعذَّب"، وقالت اليهود والنصارى: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: 111] ، أو قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، [سورة البقرة: 80] = شك أبو بشر. (1)
10503- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قريشٌ
__________
(1) الأثر: 10502 -"أبو بشر" هو"ابن علية"، وهو: "إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، سيد المحدثين، الثقة المشهور. سلف مرارًا.

(9/232)


وكعبُ بن الأشرف (1) ="من يعمل سوءًا يجز به".
10504- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر الآية، قال: جاء حُيَيّ بن أخطب إلى المشركين فقالوا له: يا حُيَيّ، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير منه! (2) فذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) إلى قوله: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [سورة النساء: 51، 52] . ثم قال للمشركين:"ليس بأمانيِّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، فقرأ حتى بلغ:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه="فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا"، قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، وقرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة العنكبوت: 7] . (3)
10505- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت قريش:"لن نُبعث ولن نعذَّب"! (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قال قريش وكعب بن الأشرف"، فحذفت"قال"، كما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "كعب بن الأشرف نحوه"، ولم أجد لهذه الزيادة معنى، ولا وجهًا في التحريف أو التصحيف أهتدي إليه.
(2) في المطبوعة: "أنتم خير منه"، وفي المخطوطة: "نحن خير منه"، وأثبت الصواب من الأثر السالف رقم: 9794.
(3) الأثر: 10504 - مضى مختصرًا برقم: 9794.
(4) الأثر: 10505 - كان في المطبوعة: "حدثنا أبو كريب"، مكان"حدثنا ابن حميد"، والذي في المخطوطة هو الصواب.

(9/233)


وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصَّة.
*ذكر من قال ذلك:
10506- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، سمعت الضحاك يقول:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب" الآية، قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد: من أنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، مشركي قريش.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله:"ليس بأمانيكم"، وإنما جرى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان المفروضِ، وذلك في قوله:"ولأمنينَّهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، وقوله:"يعدهم ويمنيهم"، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه:"ليس بأمانيكم" بما قد جرى ذكره قبل، أحقُّ وأولى من ادِّعاء تأويلٍ فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذًا: ليس الأمر بأمانيكم، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليُّكم عدوّ الله، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوءٍ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به= ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله وبحلمه عنهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) و (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاءَ عمله، مَن يعمل منكم سوءًا، ومن غيركم، يجز به، ولا يجدْ له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
__________
(1) الأثر: 10506 - في المطبوعة: "حدثنا أبي، عن أبي أسيد"، ولا أدري من أين جاء بهذا!! وفي المخطوطة: "حدثنا أبي سفيان"، والصواب"عن سفيان"، وهو الثوري. وهذا إسناد مضى مثله.

(9/234)


ومما يدلّ أيضًا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم" مشركو العرب، كما قال مجاهد: إن الله وصف وعدَ الشيطان ما وعدَ أولياءهُ وأخبَر بحال وعده، ثم أتبع ذلك بصفة وعدِه الصادق بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًّا"، وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، تمنيتَه إياهم الأمانيّ بقوله: (1) "يعدهم ويمنيهم"، كما ذكر وعده إياهم. فالذي هو أشبهُ: أن يتبع تمنيتَه إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عِدَته إياهم به من الصفة.
وإذ كان ذلك كذلك، صحَّ أن قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به" الآية، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان، وما إليه صائرة أمانيهم= مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرةٌ أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنِّيهموها بقوله:"ولأضلنهم ولأمنينّهم ولآمرنهم".
القول في تأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عنى بـ "السوء" كل معصية لله. وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرةً أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "وتمنيته" بالواو، والصواب حذفها كما في المخطوطة. وذلك أن معنى الكلام ذكر تمنيتهم مع وصف وعد الشيطان.

(9/235)


10507- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الربيع بن زياد سأل أبي بن كعب عن هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبةَ والعودَ والخدْش. (1)
10508- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا قتادة، عن الربيع بن زياد قال: قلت لأبي بن كعب: قول الله تبارك وتعالى:"من يعمل سوءًا يجز به"، والله إن كان كل ما عملنا جُزينا به هلكنا! قال: والله إن كنتُ لأراك أفقهَ مما أرى! لا يصيب رجلا خدشٌ ولا عثرةٌ إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللَّدغة والنَّفْحة. (2)
10509- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية:"ليس
__________
(1) الأثر: 10507 -"الربيع بن زياد بن أنس الحارثي"، روى عن أبي بن كعب، وكعب الأحبار. روى عنه أبو مجلز، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وحفصة بنت سيرين. ولم يذكر ابن أبي حاتم ولا الحافظ ابن حجر رواية قتادة عنه. وذكرها البخاري فقال: "ربيع بن زياد، سمع أبي بن كعب (من يعمل سوءًا يجز به) . قال معاذ بن فضالة، عن هشام، عن قتادة أن الربيع= وقالت حفصة عن الربيع بن زياد: سمع كعبًا".
ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وكان الربيع عامل معاوية على خراسان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 245، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 460.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، والدر المنثور: "زياد بن الربيع"، وهو خطأ، سيأتي على الصواب في الأثر التالي، وتبين ذلك بما رواه البخاري في الكبير أيضًا. فصححته من أجل ذلك.
وهذا الأثر أشار إليه البخاري كما رأيت، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 2: 227، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي.
و"النكبة" هي ما يصيب الرجل إذا ناله حجر اصطدم به. وفي الحديث: "إنه نكبت إصبعه"، أي نالتها الحجارة وأصابتها.
(2) الأثر: 10508 -"الربيع بن زياد"، انظر التعليق على الأثر السالف. وهذا الخبر هو الذي أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، كما ذكرت في التعليق السالف.
و"النفحة" بالحاء المهملة، كأنه من"نفحت الدابة برجلها" إذا رمحت بها، وفي حديث شريح: "إنه أبطل النفح"، أراد نفح الدابة برجلها، وهو الرفس.

(9/236)


بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا. (1)
10510- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني خالد: أنه سمع مجاهدًا يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: يجز به في الدنيا. قال قلت: وما تبلُغ المصيبات؟ قال: ما تكره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءًا من أهل الكفر، يجز به.
*ذكر من قال ذلك:
10511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الكافر، ثم قرأ: (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) [سورة سبأ: 17] ، قال: من الكفار.
__________
(1) الأثر: 10509 -"القاسم بن بشر بن معروف" شيخ للطبري، وستأتي روايته عنه برقم: 10531 وروى عنه مرارًا في التاريخ 1: 12، 23، 28، 29، 32، 106 / 2: 19، وفي هذا الموضع من التاريخ قال: "حدثني القاسم بن بشر بن معروف، عن سليمان بن حرب".
ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 12: 427"القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف، أبو محمد البغدادي"، سمع يحيى بن سليم الطائفي، وسفيان بن عيينة، وأبا داود الطيالسي. روى عنه عبد الله بن أبي سعد الوراق، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري. ثم لم يذكر رواية أبي جعفر الطبري عنه. وأخشى أن يكون هو شيخ الطبري، وأرجو أن يأتي بعد ما يدل على وجه الصواب.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، هنا"القاسم بن بشر بن معرور"، دل على صوابه إسناد أبي جعفر في مخطوطة التفسير فيما سيأتي رقم: 10531، وفي التاريخ.
و"سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي" سكن مكة، وكان قاضيها. روى عن شعبة، ومحمد بن طلحة بن مصرف، والحمادين، وجرير بن حازم. روى عنه البخاري وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن نصر الجهضمي، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و"أبو المهلب" هو"معاوية بن عمرو" أو "عمرو بن معاوية"، مختلف في اسمه، وهو عم أبي قلابة الجرمي، روى عن عمر وعثمان وأبي بن كعب، وغيرهم من الصحابة. مترجم في التهذيب.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308 من طريق سليمان بن حرب، ووضع الذهبي علامة (خ، م) ، أنه على شرط مسلم والبخاري.

(9/237)


10512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن حميد، عن الحسن، مثله.
10513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أنه كان يقول:"من يعمل سوءًا يجز به"، و (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) ، [سورة سبأ: 17] ، يعني بذلك الكفار، لا يعني بذلك أهلَ الصلاة.
10514- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: والله ما جازى الله عبدًا بالخير والشر إلا عذَّبه. (1) قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ، [سورة النجم: 31] . قال: أما والله لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب، إذًا توبقه ذنوبه.
10515- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك= يعني: المشركين.
10516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: إنما ذلك لمن أراد الله هَوَانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) ، [سورة الأحقاف: 16]
10517- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"من يعمل سوءًا يجز به"، يعني بذلك: اليهود والنصارى
__________
(1) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "إلا عدبه" غير منقوطة. وأنا في شك منها. ولكن ربما وجه معناها إلى أن الله تعالى لو جازى العبد المؤمن بالخير، وجازاه بالشر، لكان جزاء الشر مفضيًا إلى طول عذابه، فما من امرئ إلا وله ذنوب، والذنوب توبق أصحابها، وعسى أن لا يقوم لها ما قدم العبد من الخير.

(9/238)


والمجوس وكفار العرب="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا".
* * *
وقال آخرون: معنى"السوء" في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، من يشرك بالله يجزَ بشركه="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا".
*ذكر من قال ذلك:
10518- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، يقول: من يشرك يجز به= وهو"السوء"="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب الله عليه.
10519- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويلُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة: وهو أن كل من عمل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا من مؤمن أو كافر، جوزي به.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية: لعموم الآية كلَّ عامل سوء، من غير أن يُخَصَّ أو يستثني منهم أحد. فهي على عمومها، إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) . [سورة النساء: 31] ؟ وكيف يجوز أن يجازِي على ما قد وعد تكفيره؟

(9/239)


قيل: إنه لم يعد بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، تركَ المجازاة عليها، وإنما وعدَ التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهلَ الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفَى لهم بما وعدهم بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ، [سورة النساء: 122] .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك: تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
10520- حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالوا، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، شقَّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قاربوا وسدِّدوا، ففي كل ما يصابُ به المسلم كفارةٌ، حتى النكبةُ ينْكبها، أو الشَّوكة يُشاكها. (1)
10521- حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 10520 -"نصر بن علي" هو الجهضمي، مضى برقم: 2861، 2376 و"عبد الله بن أبي زياد القطواني" مضى برقم: 5796.
و"ابن محيصن" هو: عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي القرشي، من أهل مكة. وانظر بقية ترجمته ومراجعها في شرح مسند أحمد.
و"محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف"، تابعي ثقة. وانظر شرح المسند. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "محمد بن قيس عن مخرمة" وهو خطأ محض.
وهذا الأثر رواه بهذا الإسناد أحمد في مسنده: 7380، واستوفى أخي السيد أحمد التعليق عليه، وأزيد أن البيهقي خرجه في السنن 3: 373.
"النكبة": هي إصابة الحجر الإصبع، إذا عثر الرجل عثرة، أو ما كانت.

(9/240)


محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر قال: لما نزلت:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نَعْمل نؤاخذ به؟ فقال: يا أبا بكر، أليس يُصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارته. (1)
10522- حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال، حدثني عبد الله بن عمر: أنه سمع أبا بكر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من يعمل سوءًا يجز به" في الدنيا. (2)
10523- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبي الله، كيف الصلاح بعد
__________
(1) الأثر: 10521 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني" سلف في رقم: 10520.
و"أحمد بن منصور الرمادي"، مضت ترجمته رقم: 10260.
و"زيد بن حباب العكلي" مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وكان في المطبوعة: "يزيد بن حيان"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة.
و"عبد الملك بن الحسن بن أبي حكيم الحارثي"، ويقال: "الجاري"، "أبو مروان الأحول". قال أحمد: "لا بأس به"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. و"محمد بن زيد بن قنفذ" هو: "محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي الجدعاني القرشي" رأى ابن عمر رؤية، وابن عمر مات سنة 73، وعائشة أم المؤمنين ماتت سنة 58، فهو لم يرها بلا شك، فحديثه عنها منقطع. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 84، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 255.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير في التفسير 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
(2) الأثر: 10522 -"إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري"، مضى برقم: 3355، 3959.
و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف" مضى برقم: 5429، 5432.
و"زياد بن أبي زياد الجصاص"، ضعيف جدًا، ليس بشيء.
و"علي بن زيد" هو ابن جدعان. ثقة، سيئ الحفظ. مضى برقم: 40، 4897، 6495.
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند: 23، وقال أخي السيد أحمد: "إسناده ضعيف". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 587، مطولا عن أبي بكر بن مردويه، عن محمد بن هشام بن جهيمة، عن يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، ثم قال: "ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء، به مختصرًا".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته للخطيب في المتفق والمفترق.

(9/241)


هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّة آية؟ قال يقول الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، فما عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تُصيبك اللأواء؟ قال: فهو ما تجزون به! (1)
10524- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد= قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي، عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: كيف الصلاح؟ = ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه: ألست تُنْكب؟ (2)
10525- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير: أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح؟ فذكر مثله. (3)
10526- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال، قال أبو بكر: يا رسول الله، فذكر نحوه= إلا أنه قال: فكل سوء عملناه جُزينا به؟ وقال أيضًا: ألست تمرض؟ ألست تَنْصب؟ (4) ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: هو ما تجزون به!
10527- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن
__________
(1) الأثر: 10523 - هذا الأثر وما يليه إلى رقم: 10528، ستة أسانيد لخبر واحد، وسيأتي الكلام عليها في آخرها.
"اللأواء": الشدة وضيق المعيشة والمشقة.
(2) الأثر: 10524 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و"نكب الرجل ينكب" بالبناء للمجهول، أصابه حجر فثلم إصبعه أو ظفره.
(3) في المطبوعة: "فذكر نحوه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "نصب الرجل ينصب نصبًا" (المصدر بفتحات) : أعيى وتعب

(9/242)


أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت هذه الآية:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله؟ قال: يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا مما تجزون به.
10528- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا ابن أبي خالد قال، (1) حدثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر، (2) فذكر مثله. (3)
10529- حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"؟ قال: يا أبا بكر، إنّ المصيبة في الدنيا جزاء. (4)
__________
(1) في المخطوطة: "قال حدثنا أبي عن خالد"، وهو خطأ صوابه ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "فذكر مثل ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الآثار: 10523 -10528 - خبر واحد، "أبو بكر بن أبي زهير الثقفي"، من صغار التابعين، وهو مستور، لم يذكر بجرح ولا تعديل. ولذلك قال أخي السيد أحمد في المسند رقم: 68، "إسناده ضعيف لانقطاعه"، ثم قال: "وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو عجب منهما، فإن انقطاع إسناده بين".
رواه أحمد في المسند: 68 -71، والبيهقي في السنن 3: 373، والحاكم في المستدرك 3: 74، 75، وخرجه ابن كثير في تفسيره: 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن حبان، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) الأثر: 10529 -"أبو معاوية" هو"محمد بن خازم التميمي" أبو معاوية الضرير، مضى برقم: 2783.
و"الأعمش" هو"سليمان بن مهران" مضى: 2918، 3295، 8207، 8208. و"مسلم" هو: "مسلم بن صبيح الهمداني" مضى برقم: 5424، 7216، 8206. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 588 عن ابن مردويه: "حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، قال حدثنا محمد بن عامر السعدي، قال حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال قال أبو بكر"، وساق الحديث بأطول مما هنا، وبغير هذا اللفظ.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 226، 227 بلفظ ابن مردويه، عن مسروق عن أبي بكر، ونسبه لابن جرير، وأبي نعيم في الحلية، وهناد، وسعيد بن منصور.
بيد أن خبر الطبري ليس فيه ذكر"مسروق"، وهو"مسروق بن الأجدع الوداعي الهمداني"، مضى برقم: 242، 7216، فأخشى أن يكون سقط من النساخ ذكر"مسروق" في هذا الإسناد.

(9/243)


10530- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت، قلت: إني لأعلم أيُّ آية في كتاب الله أشدُّ؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ آية؟ فقلت:"من يعمل سوءًا يجز به"! قال:"إن المؤمن ليجازى بأسوإِ عمله في الدنيا"، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنَّصبُ، فكان آخره أنه ذكر النكبة، (1) فقال:"كلُّ ذي يجزى به بعمله، يا عائشة، (2) إنه ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا يعذَّب". فقلت: أليسَ يقول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ، [سورة الانشقاق: 8] ؟ فقال: ذاك عند العرض، إنه من نُوقش الحسابَ عُذِّب (3) = وقال بيده على إصبعه، (4) كأنه يَنْكُته. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "أن ذكر النكبة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"النكبة" كما أسلفت: إصابة الحجر إصبع المرء أو ظفره.
(2) في المطبوعة: "يجزى بعمله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) "ناقشه الحساب مناقشة": استقصى في محاسبته حتى لا يترك منه شيء، من قولهم: "نقش الشوكة": إذا استقصى استخراجها من جسمه.
(4) "قال بيده": أشار بها وأومأ. و"القول" لفظ مستعمل في معاني عدة.
وفي المطبوعة: "كأنه ينكت" بغير هاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما يأتي في التفسير 30: 84 (بولاق) حيث روي هذا الأثر مختصرًا.
(5) الأثر: 10530 -"روح بن عبادة القيسي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: 3015، 3355، 3912.
"أبو عامر الخزاز"، هو: "صالح بن رستم المزني"، مضى برقم: 5458، 6371، 6383، 6384، 6387، 6614. و"الخزاز" بمعجمات، وكان في المطبوعة: "الخراز"، وفي المخطوطة غير منقوطة.
و"ابن أبي مليكة" هو: "عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة" سمع عائشة وغيرها من الصحابة. مضى برقم: 6605، 6610.
وهذا الأثر رجاله جميعًا ثقات. وسيأتي برقم: 10532، من طريق هشيم عن أبي عامر الخزاز، بغير هذا اللفظ مختصرًا.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ من طريق سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة (الفتح 1: 176) .
ثم رواه (الفتح 8: 535) بغير هذا اللفظ من ثلاث طرق: من طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم من طريق يحيى، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
ثم عاد فرواه (الفتح 11: 347، 348) من سبع طرق، واستوفى الحافظ ابن حجر الكلام فيه في هذه المواضع الثلاثة من صحيح البخاري.
ورواه مسلم في صحيحه (17: 208) من أربع طرق: من طريق ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة.
ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، بهذا الإسناد نحوه.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن أبي يونس القشيري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة.
ومن طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، بمثل حديث أبي يونس.
ثم رواه أبو داود في السنن 3: 250 رقم: 3093، بغير هذا اللفظ من طريق عثمان بن عمر، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم رواه الترمذي مختصرًا في (باب ما جاء في العرض) وفي (تفسير سورة الانشقاق) من طريق عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وسيأتي في تفسير أبي جعفر، بعدة طرق في تفسير سورة الانشقاق: 30: 74 (بولاق) وسنتكلم في أسانيدها هناك.
وخرجه مختصرًا ابن كثير في تفسيره 2: 589، والسيوطي في الدر المنثور 2: 227، وقصرا في نسبته، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم، والبيهقي.
وقوله: "ينكته" من قولهم: "نكت الأرض بقضيب أو بإصبع": أي ضرب بطرفه في الأرض حتى يؤثر فيها. وهو إشارة مناقشة الحساب، وهو كما أسلفنا استقصاء الحساب، كأن المحاسب ينقش عن شوكة استخفت تحت الجلد فهو يستخرجها من باطن اللحم. يقول صلى الله عليه وسلم: هكذا يفعل بالمرء إذا نوقش واستقصيت ذنوبه.

(9/244)


10531- حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، [سورة البقرة: 284] ، و"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (1)
__________
(1) في مسند أحمد 6: 218"عنهما"، وهي أجود، ولكن ثبت في المخطوطة: "عنها" بالإفراد ولا بأس بذلك في العربية.

(9/245)


فقال: يا عائشة، ذاك مَثَابَةُ الله للعبد بما يصيبه من الحمَّى والكِبر، (1) والبِضَاعة يضعها في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في كمه، (2) حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْر الأحمر من الكِير. (3)
10532- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو عامر الخزاز قال، حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إني لأعلم أشدَّ آية في القرآن! فقال: ما هي يا عائشة؟ قلت: هي هذه الآية يا رسول الله:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: هو ما يصيب العبدَ المؤمن، حتى النكبة يُنْكبها. (4)
10533- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الربيع بن صبيح، عن عطاء قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب
__________
(1) في المطبوعة: "مثابة الله العبد" بغير لام في"العبد" وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "مثابة" منقوطة ظاهرة. وقد مضت في الأثر: 6495"متابعة الله العبد"، ومثلها في المسند 6: 218، وفي الطيالسي: 221"معاتبة".
فإن صح ما في المخطوطة، وكأنه صواب جيد. فإن"المثابة" من"ثاب إليه يثوب"، أي: رجع، يقول: فذاك رجوع الله العبد بالمغفرة. وذلك معنى"الثواب"، وهو الجزاء أيضًا. أي: فهذا جزاء الله عبده.
وقد سلف في رقم: 6495، تفسير"المتابعة" و"المعاتبة" فراجعه.
(2) هكذا هنا"فيجدها في كمه" وفي الأثر: 6495، "في ضبنه"، وفي الطيالسي: 221"في جيبه"، وهي قريب من قريب.
وفي سائر الأثر اختلاف في بعض اللفظ.
(3) الأثر: 10531-"القاسم بن بشر بن معروف"، مضى برقم: 10509، وكان هنا في المطبوعة: "بن معرور" بالراء في آخره، كما كان هناك في المخطوطة والمطبوعة، ولكن جاء هنا في المخطوطة على الصواب"بن معروف" بالفاء.
و"سليمان بن حرب" مضى أيضًا برقم: 10509.
وهذا الأثر رواه الطبري آنفًا برقم 6495، من طريق الربيع، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بمثله، مع خلاف يسير في لفظه، وقد خرجه أخي السيد أحمد هناك مستوفى، وشرحت هناك ألفاظه وغريبه.
(4) الأثر: 10532 - سلف تخريج هذا الأثر برقم: 10530. وكان هنا أيضًا في المطبوعة: "الخراز"، بالراء، وصوابه ما أثبت.

(9/246)


من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية؟ قال: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يُصيبك أذًى، فذاك بذاك. (1)
10534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يجد الذي يعمل سوءًا من معاصي الله وخلاف ما أمره به="من دون الله"، يعني: من بعد الله، وسواه (3) ="وليًّا" يلي أمره، (4) ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله (5) ="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نَكاله. (6)
* * *
__________
(1) الأثر: 10533 - هذا أثر مرسل، عطاء بن أبي رباح، لم يسمع أبا بكر."الربيع بن صبيح السعدي"، مضت ترجمته برقم: 6403، 6404، 7482، 7603، وهو ضعيف. وترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 254.
وكان في المطبوعة والمخطوطة"بن صبح"، وهو خطأ محض.
(2) الأثر: 10534 - هذا أثر مرسل. ولم أجده في مكان.
(3) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 211، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) في المخطوطة: "وليا، ولي يلي أمره"، بزيادة"ولي".
(5) انظر تفسير: "ولي" فيما سلف ص: 205، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 18، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(9/247)


وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)

القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين قال لهم:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، يقول الله لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم، وذكور عبادي وإناثهم، وهو مؤمن بي وبرسولي محمدٍ، مصدق بوحدانيتي وبنبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي= لا أنتم أيها المشركون بي، المكذبون رسولي، فلا تطمعوا أن تحلّوا، وأنتم كفار، محلَّ المؤمنين بي، وتدخلوا مداخلهم في القيامة، وأنتم مكذِّبون برسولي، كما:-
10535- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبَى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.
* * *
وأما قوله:"ولا يظلمون نقيرًا"، فإنه يعني: ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثوابِ عملهم، مقدارَ النُّقرة التي تكون في ظهر النَّواة في القلة، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عبادَه أنه لا يبخَسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرًا، ولكن يُوفِّيهم ذلك كما وعدهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"النقير" فيما سلف: 8: 472-475.

(9/248)


وبالذي قلنا في معنى"النقير"، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10536- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ولا يظلمون نقيرًا"، قال: النقير، الذي يكون في ظهر النواة.
10537- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية قال: النقير، الذي في وسط النواة. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: ما وجه دخول:"مِن" في قوله:"ومن يعمل من الصالحات"، ولم يقل:"ومن يعمل الصالحات"؟
قيل: لدخولها وجهان:
أحدهما: أن يكون الله قد علم أن عبادَه المؤمنين لن يُطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات، فأوجب وَعده لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزتْ عن عمله منها قوّته. (2)
والآخر منهما: أن يكون تعالى ذكره أوجب وعدَه لمن اجتنب الكبائر وأدَّى الفرائض، وإن قصر في بعض الواجب له عليه، تفضلا منه على عباده المؤمنين، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الإيمان به أحرَى.
* * *
وقد تقوّل قوم من أهل العربية، (3) أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف،
__________
(1) من أول قوله: "وبالذي قلنا في معنى النقير" إلى آخر هذا الأثر، ساقط من المخطوطة. وهذان الأثران: 10536، 10537، لم يذكرا هناك (8: 472-475) في الآثار التي جاء فيها تفسير"النقير". وهذا أحد ضروب اختصار أبي جعفر تفسيره.
(2) في المخطوطة: "منها قوله"، وفوق"قوله""كذا"، دليلا على أنها كانت كذلك في الأصل الذي نقل الناسخ عنه. وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المطبوعة: "قواه" بالجمع، وهي أيضًا حسنة.
(3) ليس في المخطوطة: "قوم"، وإثباتها لا بأس به، وهذا الذي سيسوقه رأي بعض أهل البصرة، كما أشار إليه مرارًا فيما سلف.

(9/249)


وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)

ويتأوّله: ومن يعمل الصالحاتِ من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. (1)
وذلك عندي غير جائز، لأن دخولها لمعنًى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
قال أبو جعفر: وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلِها، يقول الله:"ومن أحسن دينًا" أيها الناس، وأصوبُ طريقًا، وأهدى سبيلا="ممن أسلم وجهه لله"، يقول: ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة، مصدقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه (2) ="وهو محسن"، يعني: وهو عاملٌ بما أمره به ربه، محرِّم حرامه ومحلِّل حلاله (3) ="واتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا"، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به (4) ="حنيفًا"، يعني: مستقيمًا على منهاجه وسبيله.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى"الحنيف"، والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
__________
(1) انظر زيادة"من" في الجحد والإثبات فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551 / 7: 489.
(2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510 -512 / 6: 280.
(3) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"ملة" فيما سلف 2: 563 / 3: 104.
(5) انظر تفسير"حنيف" فيما سلف 3: 104-108 / 6: 494.

(9/250)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
وممن قال ذلك أيضًا الضحاك.
10538- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: فضّل الله الإسلام على كل دين فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، وليس يقبل فيه عملٌ غير الإسلام، وهي الحنيفيّة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم وليًّا.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى"الخُلَّة" التي أعطِيها إبراهيم؟
قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام: العداوةُ في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحب فيه، على ما يعرف من معاني"الخلة". وأما من الله لإبراهيم، فنُصرته على من حاوله بسوءٍ، كالذي فعل به إذْ أراده نمرود بما أرادَه به من الإحراق بالنار فأنقذَه منها، أو على حجته عليه إذ حاجّه= وكما فعل بملك مصر إذ أراده عن أهله (1) = وتمكينه مما أحب= وتصييره إمامًا لمن بعدَه من عباده، وقدوةً لمن خلفه في طاعته وعبادته. فذلك معنى مُخَالَّته إياه.
وقد قيل: سماه الله"خليلا"، من أجل أنه أصابَ أهلَ ناحيته جدْبٌ، فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل= وقال بعضهم: من أهل مصر= في امتيار طعام لأهله من قِبله، فلم يصب عنده حاجته. فلما قرَب من أهله مرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل، (2) لئلا أغُمَّ أهلي برجوعي إليهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ملك مصر" بغير باء، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) "الغرائر" جمع"غرارة" (بكسر الغين) : وهي الجوالق الذي يوضع في التبن والقمح وغيرهما.

(9/251)


وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

بغير مِيرَة، وليظنوا أنّي قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك، فتحوَّل ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام. وقام أهله، ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا، فعجنوا منه وخبزوا. فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك! فعلم، فقال: نعم! هو من خليلي الله! قالوا: فسماه الله بذلك"خليلا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، لطاعته ربَّه، وإخلاصه العبادة له، والمسارعةِ إلى رضاه ومحبته، لا من حاجةٍ به إليه وإلى خُلَّته. وكيف يحتاج إليه وإلى خلَّته، وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير مِلْكًا، والمالك الذي إليه حاجة مُلْكه، دون حاجته إليه؟ يقول: (2) فكذلك حاجة إبراهيم إليه، لا حاجته إليه فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضايَ ومحبتي لأتخذكم لي أولياء="وكان الله بكل شيء محيطًا"، ولم يزل الله محصيًا لكل ما هو فاعله عبادُه من خير وشرّ، عالمًا بذلك، لا يخفى عليه شيء منه، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرَّة. (3)
* * *
__________
(1) هذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره في مواضع، كما قيل في ترجمته. فلولا الاختصار، لساق أخبار إبراهيم عليه وعلى نبينا صلى الله عليهما السلام. وقد سلفت أخبار إبراهيم في مواضع متفرقة من التفسير.
(2) قوله: "يقول" ليست في المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف في فهارس اللغة (كون) = وتفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف ص: 193، تعليق: 1. والمراجع هناك.

(9/252)


وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

القول في تأويل قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ويستفتونك في النساء"، ويسألك، يا محمد، أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن= فاكتفى بذكر"النساء" من ذكر"شأنهن"، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه.
="قل الله يفتيكم فيهن"، قل لهم: يا محمد، الله يفتيكم فيهن، يعني: في النساء="وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب".
فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما يتلى عليكم"، قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم. قالوا: والذي يتلى عليهم، هو آيات الفرائض التي في أول هذه السورة.
*ذكر من قال ذلك:
10539- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون المولود حتى يكبر، ولا يورِّثون المرأة. فلما كان الإسلام، قال:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول

(9/253)


السورة في الفرائض= اللاتي لا تؤتونهن ما كتب الله لهن. (1)
10540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل، لعلها أن تكون شريكتَه في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضُلها لمالها، ولا يُنكحها غيره كراهيةَ أن يشركه أحد في مالها. (2)
10541- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كانوا لا يورِّثون في الجاهلية النساءَ والفتى حتى يحتلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء"، في أول"سورة النساء" من الفرائض. (3)
10542- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة قال: كانوا في الجاهلية لا يورِّثون اليتيمة، ولا ينكحونها ويَعْضلونها، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" إلى آخر الآية.
10543- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني الحجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في
__________
(1) الأثر: 10539 -"عمرو بن أبي قيس الرازي" الأزرق، مضى برقم 6887، وفي الأسانيد: 8611، 9346.
و"عطاء"، هو"عطاء بن السائب"، مضى مرارًا.
وسيأتي هذا الأثر من طريق أخرى رقم: 10541.
(2) الأثر: 10540 - حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، روي من وجوه. رواه البخاري (الفتح 8: 179، 199) ، ومضى مثله في التفسير رقم: 8457.
(3) الأثر: 10541 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308، مرفوعًا إلى ابن عباس بغير هذا اللفظ، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وكان في المطبوعة: "النساء والصبي"، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في الأثر التالي: "الرجل الصغير"، وهو الفتى.

(9/254)


يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتِب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، الآية، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة. فلما نزلت آية المواريث في"سورة النساء"، شَقَّ ذلك على الناس وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حَدَثٌ من السماء، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حَدَث قالوا: لئن تمَّ هذا، إنه لواجبٌ ما منه بدٌّ! ثم قالوا: سَلُوا. فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول السورة="في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قال سعيد بن جبير: وكان الوليّ إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحها. (1)
10544- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمةً دميمةً لم يعطوها ميراثَها، وحبسوها عن التزويج حتى تموت، فيرثوها. فأنزل الله هذا.
10545- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدَّمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه، ولها مال. قال: فلا يتزوَّجها ولا يزوِّجها، حتى تموت فيرثها. قال: فنهاهم الله عن ذلك.
10546- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل،
__________
(1) الأثر: 10543 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 231، وزاد نسبته لابن المنذر.

(9/255)


عن السدي، عن أبي مالك:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها، حبسها إن لم يتزوجها، ولم يدع أحدًا يتزوَّجها.
10547- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان شيئًا، كانوا يقولون: لا يغزُون ولا يغنَمون خيرًا! ففرض الله لهن الميراث حقًّا واجبًا ليتنافس= أو: لِيَنْفس= الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة. (1)
10548- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
10549- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، يعني: الفرائض التي افترض في أمر النساء="اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حِجْر الرجل فيرغبُ أن ينكحها أو يجامعها، (2) ولا يعطيها مالها، رجاءَ أن تموت فيرثها. وإن ماتَ لها حَمِيمٌ لم تعط من الميراث شيئًا. (3) وكان ذلك في الجاهلية، فبيَّن الله لهم ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "إن تكن حسنة"، أسقط"لم" ففسد الكلام، وهي ثابتة في المخطوطة. قوله: "ليتنافس في مال يتيمته"، كأنه استعمل"يتنافس" لازمًا على وجه المفرد. وهو صواب في العربية. والمنافسة والتنافس: الرغبة في الشيء للانفراد به، على وجه المغالبة.
وأما "لينفس الرجل في مال يتيمته" فهو من قولهم: "نفس بالشيء" إذا ضن به واستأثر، و"نفس فيه": رغب في الاستئثار به. ويقال: "هذا أمر منفوس فيه"، أي: مرغوب فيه.
(2) قوله: "يرغب أن ينكحها"، هو على حذف"عن" أي: يرغب عن أن ينكحها."رغب عن الشيء"، تركه متعمدًا، وزهد فيه، وكرهه ولم يرده. وحذف حرف الجر، هنا جائز، لدلالة الكلام عليه.
(3) "الحميم": القريب الداني القرابة.

(9/256)


10550- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" حتى بلغ"وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دَمَامة، ولها مال، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها، ويحبسها لمالِها، فأنزل الله فيه ما تسمعون.
10551- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة، فيرغب عنها أن ينكحها، ولا يُنكحها رغبةً في مالها.
10552- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، إلى قوله:"بالقسط"، قال: كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السُّلَمي له ابنة عَمّ عمياء، وكانت دميمة، وكانت قد ورثت عن أبيها مالا فكان جابرٌ يرغب عن نكاحها، ولا يُنكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك= وكان ناس في حجورهم جوارٍ أيضًا مثل ذلك= فجعل جابر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أترثُ الجارية إذا كانت قبيحة عمياء؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نعم!! فأنزل الله فيهن هذا. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، في آخر"سورة النساء"، وذلك قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلى آخر السورة [سورة النساء: 176] .
__________
(1) الأثر: 10552 - انظر خبر جابر بن عبد الله وابنة عمه، على غير هذا الوجه، فيما سلف، الأثر رقم: 4939.

(9/257)


*ذكر من قال ذلك:
10553- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الولدان حتى يحتلموا، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء"، إلى قوله"فإن الله كان به عليمًا". قال: ونزلت هذه الآية: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، [سورة النساء: 176] ، الآية كلها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب= يعني: في أول هذه السورة، وذلك قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [سورة النساء: 3]
*ذكر من قال ذلك:
10554- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال، أخبرني عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وَلِيِّها، (2) تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليُّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنَّ، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق. وأمروا
__________
(1) الأثر 10553 -"الحارث" هو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، مضى برقم: 10295، وما بعده.
و"عبد العزيز"، هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" مضى أيضًا رقم: 10295، وما بعده. وكان في المخطوطة: "كان أهل الجاهلية الولدان" وفي هامشها (ط) ، دلالة على الخطأ، وقد أحسن ناشر المطبوعة الأولى فيما زاد.
(2) في المطبوعة: "في حجر وليها"، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كانت (الرجل) غير موجودة في هذا الأثر حيث رواه أبو جعفر برقم: 8457.

(9/258)


أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قالت: والذي ذكر الله أنه يُتلى في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . (1)
10555- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها،"ما" التي في قوله:"وما يتلى عليكم"، في موضع خفض بمعنى العطف على"الهاء والنون" التي في قوله:"يفتيكم فيهن". فكأنهم وجَّهوا تأويل الآية: قل الله يفتيكم، أيها الناس، في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب. (3)
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه، سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه، وفيما تركوا المسألة عنه.
ذكر من قال ذلك:
10556- حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع= قال سفيان، حدثنا عبد الأعلى= وقال ابن المثنى، حدثني عبد الأعلى= قال، حدثنا داود، عن
__________
(1) الأثر: 10554 - رواه أبو جعفر مختصرًا فيما سلف برقم: 8457، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
(2) الأثر: 10555 - مضى برقم: 8459، إحالة على الأثر السالف.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 290.

(9/259)


محمد بن أبي موسى في هذه الآية:"ويستفتونك في النساء"، قال: استفتوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت:"قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال:"والمستضعفين من الولدان"، قال: كانوا يورِّثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر. ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه فقال:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"= ولفظ الحديث لابن المثنى. (1)
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول:"الذي يتلى علينا في الكتاب"، الذي قال الله جل ثناؤه:"قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم":"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية. والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء: اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من الميراث عمَّن ورثته عنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال: معنى قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وما يتلى عليكم من آيات الفرائضِ في أول هذه السورة وآخرها.
__________
(1) الأثر: 10556 -"محمد بن أبي موسى" ترجم البخاري في الكبير 1 / 1 / 236، لرجل بهذا الاسم، ظاهر أنه قد روى عنه داود بن أبي هند. وقال: "قال لنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس. وقال في التهذيب"محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس قوله ... وعنه أبو سعيد البقال"قلت [القائل ابن حجر] : في طبقته: محمد بن أبي موسى، روى عن زياد الأنصاري، عن أبي بن كعب. وعنه داود بن أبي هند". كأنهما عنده رجلان.

(9/260)


وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الصَّداق ليس مما كُتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَل أحد. وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحدٍ، لم يكن مما كتب لها. وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل: (1) عنى بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، الإقساطَ في صدقات يتامى النساء (2) = وَجْهٌ. لأن الله قال في سياق الآية، مبيِّنًا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء، أمرُ اليتيمة المَحُولِ بينها وبين ما كتب الله لها. (3) والصداق قبل عقد النكاح، ليس مما كتب الله لها على أحد. فكان معلومًا بذلك أن التي عنيت بهذه الآية، هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه.
* * *
فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، (4) فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، هو:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا". وإذا وجِّه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله، صار الكلام مبتدأ من قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، ترجمةً بذلك عن قوله:"فيهن"، (5) ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن، في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن= ولا دلالة
__________
(1) سقط من المخطوطة، بين كلامين، كان فيها: "فما لم تنكح فلا صداق لها قبل أحد، وإذا لم يكن ذلك لها لم يكن لقول قائل ... "، فتركت ما في المطبوعة على حاله.
(2) سياق الجملة: " لم يكن لقول قائل ... وجه".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "المحولة بينها"، والصواب ما أثبت، يعني: التي قد حيل بينهما وبين ما كتب الله لها.
(4) يعني الأثر السالف رقم: 10556.
(5) "الترجمة"، البدل والبيان والتفسير.

(9/261)


في الآية على ما قاله، ولا أثر عمن يُعلم بقوله صحةُ ذلك، وإذ كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى، ما وُجِد إليه سبيل. فإذ كان الأمر على ما وصفنا، فقوله:"في يتامى النساء"، بأن يكون صلةً لقوله:"وما يتلى عليكم"، أولى من أن يكون ترجمة عن قوله:"قل الله يفتيكم فيهن"، لقربه من قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وانقطاعه عن قوله:"يفتيكم فيهن".
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما كتب لهن= يعني: ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه، (1) كما:-
10557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورِّثونهن.
10558- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: من الميراث. قال: كانوا لا يورِّثون النساء="وترغبون أن تنكحوهن".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وترغبون أن تنكحوهن".
فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم.
10559- حدثنا حميد بن مسعدة السَّامي قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبيد الله بن عون، عن الحسن:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون عنهن. (2)
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 8: 548، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 10559 -"حميد بن مسعدة السامي"، نسبه إلى"سامة بن لؤي" بالسين، مضى برقم: 196، 5842. وكان في المطبوعة بالشين"الشامي" وهو خطأ. وهذه النسبة ليست في المخطوطة.
و"عبد الله بن عون بن أرطبان" مضى برقم: 4003، 7776، وكان في المطبوعة: "عبيد الله"، والصواب من المخطوطة.

(9/262)


10560- حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، مثله.
10561- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة قال: قالت عائشة في قول الله:"وترغبون أن تنكحوهن"، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينكحوا من رَغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ. (1)
10562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله= يعني ابن صالح= قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب قال، قال عروة، قالت عائشة، فذكر مثله. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم.
10563- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، عن عبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: وترغبون فيهن.
__________
(1) الأثر: 10561 - هذا تتمة الأثر السالف: 8457، ثم نظيره رقم: 10554، وقد رواه البخاري بعقبه بإسناده (الفتح 8: 179، 180) .
(2) الأثر: 10562 - هو الأثر السالف: 8459، ثم نظيره رقم: 10555.

(9/263)


10564- حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون فيهن.
10565- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبَه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدًا. فإن كانت جميلة وهَوِيها، تزوّجها وأكل مالها. وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدًا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها. فحرَّم الله ذلك ونهى عنه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك،"وترغبون عن أن تنكحوهن". لأن حبسهم أموالهن عنهن مع عضّلهم إياهن، إنما كان ليرثوا أموالهن، دون زوج إن تزوجن. ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن، إنما حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن، لم يكن للحبس عنهن وجهٌ معروف، لأنهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع، فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها، ليتّخذ حبسها عنها سببًا إلى إنكاحها نفسها منه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن= وفيما يتلى عليكم في الكتاب= وفي المستضعفين من الولدان= وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذين
__________
(1) الأثر: 10565 - انظر خبر ابن عباس فيما سلف، بمثل هذا الإسناد رقم: 8882.

(9/264)


أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث، (1) لأنهم كانوا لا يورِّثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم، فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه، كما:-
10566- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"والمستضعفين من الولدان"، كانوا لا يورّثون جارية ولا غلامًا صغيرًا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. و"القسط": أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرًا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير.
10567- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورّثوهن مالا="وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث، ونسخت المواريث ذلك الأول.
10568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، أمروا لليتامى بالقسط، بالعدل.
10569- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10570- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر.
10571- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الولدان"، فكانوا في الجاهلية
__________
(1) في المطبوعة: "والذي أفتاهم في أمر المستضعفين"، والصواب من المخطوطة.

(9/265)


لا يورّثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11، 176] ، صغيرًا كان أو كبيرًا.
10572- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئًا، فأمر الله أن يعطَى نصيبه من الميراث.
10573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليُّ اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوِّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك. وإذا كانت بها دمامة ولا مال لها، قال: تزوجها فأنت أحق بها!
10574- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد، عن الحسين بن الفرج قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، ما أمري وما أمرُ يتيمتي؟ قال: في أيّ بالكما؟ (1) قال: ثم قال علي: أمتزوّجها أنت غنيةً جميلةً؟ قال: نعم، والإله! قال: فتزوّجها دميمة لا مال لها! ثم قال علي: خِرْ لها (2) فإن كان غيرك خيرًا لها فألحقها بالخير. (3)
__________
(1) "البال": الشأن والأمر والحال، ومنه الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر"، و"أمر ذو بال" أي: ذو شأن، شريف يحتفل له ويهتم به.
(2) في المطبوعة: "ثم قال علي: تزوجها إن كنت خيرًا لها"، لم يفهم ما في المخطوطة فغيره وبدله، وبئس ما فعل! وقوله: "خر لها" من قولهم: "خار له"، أي اختار له خير الأمرين، ومنه قولهم: "خار الله لك"، أي: أعطاك ما هو خير لك.
(3) الأثر: 10574 -"يونس بن عبيد بن دينار العبدي"، مضى برقم: 2616، 4931، 8047.
أما "الحسين بن الفرج" فلم أجد في طبقته من الرواة من يقال له: "الحسين بن الفرج"، وكان في المطبوعة مكانه"الحسن"، يعني الحسن البصري. وأظنه تصرفًا من ناسخ أو ناشر. ونعم، يروي يونس بن عبيد عن الحسن البصري، ولكن أرجح ذلك عندي أن في اسمه تصحيفًا، وأخشى أن يكون هو:
"الحصين بن أبي الحر"، وهو"الحصين بن مالك بن الخشخاش العنبري"، روى عنه يونس بن عبيد. مترجم في التهذيب. ونرجو أن يأتي في التفسير ما يدل على الصواب من ذلك.

(9/266)


قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامى بالقسط، كانَ العدلَ فيما أمرَ الله فيهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومهما يكن منكم، (1) أيها المؤمنون، من عدل في أموال اليتامى، التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك وفي غيره وإلى طاعته=" فإن الله كان به عليمًا"، لم يزل عالمًا بما هو كائن منكم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حافظ له، حتى يجازيكم به جزاءكم يوم القيامة. (2)
* * *
__________
(1) انظر"ما" بمعنى"مهما" فيما سلف 6: 551.
(2) انظر تفسير"كان" و"عليم" فيما سلف في فهارس اللغة.

(9/267)