تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
القول في تأويل قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها،
يقول: علمت من زوجها (1) ="نشوزًا"، يعني: استعلاءً بنفسه عنها
إلى غيرها،
__________
(1) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 4: 550 / ثم تفسيره بمعنى:
العلم فيما سلف 8: 298، 299.
وانظر تفسير"بعل" فيما سلف 4: 526.
(9/267)
أثَرةً عليها، وارتفاعًا بها عنها، إِما
لبغْضة، وإما لكراهة منه بعض أسبابها (1) إِما دَمامتها، وإما
سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها (2) ="أو إعراضًا"، يعني:
انصرافًا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (3)
="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، يقول: فلا حرج
عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها
(4) ="أن يصلحا بينهما صلحًا"، وهو أن تترك له يومها، أو تضعَ
عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطِفه بذلك وتستديم
المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح=
يقول:"والصلح خير"، يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامةً
للحُرْمة، وتماسكًا بعقد النكاح، خيرٌ من طلب الفرقة والطلاق.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10575- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك،
عن خالد بن عرعرة: أن رجلا أتى عليًّا رضي الله عنه يستفتيه في
امرأة خافتْ من بعلها نشوزًا أو إعراضًا، فقال: قد تكون المرأة
عند الرجل فتنبُو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها
أو فقرها، فتكره فراقه. فإن وضعت له من
__________
(1) في المطبوعة: "بعض أشياء بها"، وهو كلام سخيف، لم يحسن فهم
ما في المخطوطة. و"الأسباب" جمع"سبب"، وأصله الحبل، ثم استعير
لكل ما يتوصل به إلى شيء. ثم استعمله أهل القرنين الثاني
والثالث وما بعدهما بمعنى: كل ما يتصل بشيء أو يتعلق به. وقد
مضى في مواضع من كلام أبي جعفر أخشى أن أكون أشرت إليها في
التعليق، ثم غابت عني الآن.
(2) انظر تفسير"النشوز" فيما سلف 3: 475، 476 / 8: 299.
(3) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8:
88، 566.
(4) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف ص: 163، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(9/268)
مهرها شيئًا حَلَّ له، وإن جعلت له من
أيامها شيئًا فلا حرج.
10576- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال: سئل علي رضي الله
عنه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: المرأة الكبيرة، أو
الدميمة، أو لا يحبها زوجها، فيصطلحان.
10577- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة
وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك بن حرب، عن خالد بن
عرعرة، عن علي رضي الله عنه، بنحوه.
10578- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك،
عن خالد بن عرعرة: أن رجلا سأل عليًّا رضي الله عنه عن
قوله:"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: تكون
المرأة عند الرجل دميمة، فتنبو عينُه عنها من دمامتها أو
كبرها، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئًا فلا جناح عليه.
(1)
10579- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن
ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر فسأله عن آية، فكره ذلك وضربه
بالدِّرّة، فسأله آخر عن هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا"، فقال: عن مثل هذا فَسلوا! ثم قال: هذه
المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، (2) فيتزوج المرأة
الشابَّة يلتمس ولدَها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائزٌ.
10580- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال،
حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في
قوله:"وإن امرأة
__________
(1) في المطبوعة: "فليس عليه جناح"، وهما سواء، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "هذه الامرأة" وهو الأصل في إدخال التعريف
على"امرأة"، ولكنه قل في كلامهم، وحكاه أبو علي الفارسي، وهذا
شاهده. ولم أثبته، وتركت ما في المطبوعة، لئلا أغرب على
القارئ!!
و"خلا من سنها"، أي: كبرت ومضى معظم عمرها. من قولهم: "خلا قرن
وزمان" أي: مضى.
(9/269)
خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي
المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوج عليها،
فيتصالحان بينهما صلحًا، (1) على أن لها يومًا، ولهذه يومان أو
ثلاثة. (2)
10581- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران، عن عطاء، عن سعيد، عن
ابن عباس، بنحوه= إلا أنه قال: حتى تلد أو تكبر= وقال أيضًا:
فلا جناح عليهما أن يَصَّالحا على ليلة والأخرى ليلتين.
10582- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن
سعيد بن جبير قال: هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها
وكبرت، فيريد أن يستبدل بها، فتكره أن تفارقه، ويتزوج عليها
فيصالحها على أن يجعل لها أيامًا، (3) وللأخرى الأيام والشهر.
10583- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس،
عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس:"وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن
يفارقها، فتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوج فيقول:"إنّي لا
أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها"، فتصالحه على أن يكون لها
في الأيام يوم، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا
عليه.
10584- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا
فلا جناح عليهما
__________
(1) في المطبوعة: "فيتصالحا"، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 10580 -"عمران بن عيينة بن أبي عمران الهلالي"
أخو"سفيان بن عيينة" قال ابن معين وأبو زرعة: "صالح الحديث"،
وذكره ابن حبان في الثقات، وهو صدوق. وقال أبو حاتم: "لا يحتج
بحديثه لأنه يأتي بالمناكير". مترجم في التهذيب. وقد مضى في
رقم: 4189، بمثل هذا الإسناد.
(3) في المطبوعة: "فيتزوج عليها فيصالحا على أن يجعل ... "،
وأثبت ما في المخطوطة.
(9/270)
أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"، قالت:
هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن يكون يستكبر منها، ولا
يكون لها ولد ويكون لها صحبة، (1) فتقول: لا تطلقني، وأنت في
حِلً من شأني. (2)
10585- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة في
قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قالت: هذا
الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد عجزت، أو هي دميمة وهو لا
يستكثر منها، فتقول: لا تطلِّقني، وأنت في حلِّ من شأني.
10586- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: "فلعله لا يكون تستكثر منها، ولا يكون لها
ولد ولها صحبة"، غير ما في المخطوطة. وأثبت ما في المخطوطة،
لأنه صواب في معناه، قوله: "يستكبر منها" أي: يرى أنها بلغت من
السن والكبر مبلغًا، يحمله على طلب الشواب. وقوله: "ولا يكون
لها ولد يكون لها صحبة"، أي: ولد يدعوه إلى صحبتها وترك
مفارقتها. والذي دعا الناشر أن يصححه هو أن حديث عائشة في
روايات أخرى، تقول: "الرجل عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد
أن يفارقها"، وهو لفظ البخاري، وكما سيأتي في الأثر التالي:
10585. ولكن ذلك ليس داعية إلى مثل هذا التغيير، فإن المعنى
الذي ذكرته، قد جاء عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في
الأثر: 10585، 10588، وهو: "في المرأة إذا دخلت في السن". فلا
معنى لتغيير رواية إلا بعد التحقق من خطأ معناها، أو صواب
روايتها في مكان آخر. وانظر تخريج هذا الأثر في التعاليق
التالية.
(2) الأثر: 10584 - خبر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه
أبو جعفر من ثلاث طرق متتابعة، ومن طريق مفردة رقم: 10588.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 9: 266) من طريق ابن
سلام، عن أبي معاوية، عن هشام. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 8:
199) .
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 8: 199) من طريق محمد بن
مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن هشام عن عائشة وهو إسناد
أبي جعفر رقم: 10586. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 9: 266) من طريق
ابن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام.
ورواه مسلم (18: 157) من طريق أبي كريب، عن أبي أسامة، عن
هشام، ولفظه أقرب إلى اللفظ الذي أقره ناشر المطبوعة الأولى،
وذلك: "نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن لا يستكثر
منها، وتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها" الحديث. وأخرجه
البيهقي في السنن 7: 296 بلفظ آخر.
(9/271)
المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة بنحوه= غير أنه قال: فتقول: أجعلك من شأني في حل! فنزلت
هذه الآية في ذلك. (1)
10587- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فتلك المرأة تكون عند الرجل، لا يرى
منها كبير ما يحبُّ، (2) وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها،
فيؤثرها عليها. فأمره الله إذا كان ذلك، أن يقول لها:"يا هذه،
إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة، فأواسيك وأنفق عليك
فأقيمي، (3) وإن كرهت خلَّيت سبيلك! "، فإن هي رضيت أن تقيم
بعد أن يخيِّرها فلا جناح عليه، وهو قوله:"والصلح خيرٌ"، وهو
التخيير.
10588- حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر قالا حدثنا ابن وهب
قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة قالت: أنزل الله هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السنّ،
(4) فتجعل يومها لامرأة أخرى. قالت ففي ذلك أنزلت:"فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا". (5)
10589- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله:"وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون
مع زوجها، فيريد أن يتزوج
__________
(1) الأثران - 10585، 10586 - هما مكرر الأثر السالف من
طريقين.
(2) في المطبوعة: "كثير ما يحب"، وهي في المخطوطة غير منقوطة،
فرجحت قراءتها كما أثبت.
(3) "المواساة" من"الأسوة"، أصلها الهمزة، فقلبت واوا تخفيفًا.
وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.
(4) قولها: "دخلت في السن"، أي: كبرت وارتفعت سنها.
(5) الأثر: 10588 -"بحر بن نصر بن سابق الخولاني" المصري، ثقة
صدوق. روى عن ابن وهب، والشافعي، وأسد بن موسى. روى عنه أبو
جعفر الطحاوي. مترجم في التهذيب. هذا، والإسناد في المخطوطة،
ليس فيه"بحر بن نصر"، بل هو مفرد بذكر الربيع. ولم أجد الخبر
من هذا الوجه في مكان آخر.
(9/272)
عليها، فتصالحه من يومها على صلح. قال:
فهما على ما اصطلحا عليه. فإن انتقضت به، (1) فعليه أن يعدِل
عليها، أو يفارقها.
10590- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول ذلك.
10591- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن
مجاهد: أنه كان يقول ذلك.
10592- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب،
عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا" إلى آخر الآية، قال: يصالحها على ما رضيت
دون حقها، فله ذلك ما رضيت. فإذا أنكرت، أو قالت:"غِرْت"، فلها
أن يعدل عليها، أو يرضيها، أو يطلِّقها.
10593- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن
محمد قال: سألت عبيدة عن قول الله:"وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هو الرجل تكون له امرأة قدْ خلا من
سنها، (2) فتصالحه عن حقها على شيء، فهو له ما رضيت. فإذا
كرهت، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها من حقها، أو يطلقها.
10594- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين
قال: سألت عبيدة عن قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا"،
فذكر نحو ذلك= إلا أنه قال: فإن سخطت، فله أن يرضيها، أو
يوفيها حقَّها كله، أو يطلقها.
__________
(1) في المطبوعة: "انتقصت به" بالصاد، وأنا في شك لازم منها،
وهي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها كما أثبت، من
قولهم: "نقض الأمر بعد إبرامه، وانتقض وتناقض"، واستعمال"به"
مع"انتقضت" عربي جيد، كأنه يحمل معنى"خاص به"، أي نقضه.
(2) "خلا من سنها"، كبرت ومضى أطيب عمرها.
(9/273)
10595- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن
مغيرة قال، قال إبراهيم: إذا شاءت كانت على حقها، وإن شاءت أبت
فردّت الصلح، فذاك بيدها. فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها على
حقها. (1)
10596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن
إبراهيم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح
عليهما"، قال قال علي: تكون المرأة عند الرجل الزّمان الكثير،
فتخاف أن يطلِّقها، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت= يبيت عندها
في كذا وكذا ليلة، وعند أخرى، ما تراضيا عليه= وأن تكون نفقتها
دون ما كانت. وما صالحته عليه من شيء فهو جائز.
10597- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن عبد الملك، عن أبيه،
عن الحكم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال:
هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يخلِّي سبيلها. فإذا خافت
ذلك منه، فلا جناح عليهما أن يصطلحا بينهما صلحًا، تدع من
أيامها إذا تزوج. (2)
10598- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، إلى قوله:"والصلح خير"، وهو الرجل
تكون تحته المرأة الكبيرة، فينكح عليها المرأة الشابة، فيكره
أن يفارق أم ولده، فيصالحها على عطيَّةٍ من ماله ونفسه فيطيب
له ذلك الصلح.
10599- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) الأثر: 10595 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر: 10597 -"يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية
الخزاعي" أبو زكرياء: ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه: "عبد الملك بن حميد بن أبي غنية" وهو"ابن أبي غنية"،
مضى برقم: 8535.
(9/274)
قتادة قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا"، فقرأ حتى بلغ"فإن الله كان بما تعملون
خبيرًا"، وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خَلا من سنها،
وهان عليه بعض أمرها، فيقول:"إن كنت راضيةً من نفسي ومالي بدون
ما كنت ترضَيْنَ به قبل اليوم! "، (1) فإن اصطلحا من ذلك على
أمر، فقد أحلَّ الله لهما ذلك، وإن أبت، فإنه لا يصلح له أن
يحبسها على الخَسْف. (2)
10600- حدثت عن الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار:
أنّ رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها
شابة، فآثر الشابة عليها. فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك،
فطلقها تطليقة. حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك
وصبرتِ على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك! قالت: بل
راجعني وأصبر على الأثرة! فراجعها، ثم آثر عليها، فلم تصبر على
الأثرة، فطلَّقها أخرى وآثر عليها الشابة. قال: فذلك الصلح
الذي بلغنا أن الله أنزل فيه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا
أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا".
= قال الحسن قال، عبد الرزاق قال، معمر، وأخبرني أيوب، عن ابن
سيرين عن عبيدة، بمثل حديث الزهري= وزاد فيه: فإن أضرَّ بها
الثالثة، فإنّ عليه أن يوفِّيها حقها، أو يطلّقها. (3)
__________
(1) جواب الشرط محذوف، لدلالة الكلام عليه، أي: إن كنت راضية
بذلك، فذلك، وإلا فارقتك.
(2) "على الخسف": أي على النقيصة، وتحميلها ما تكره.
(3) الأثر: 10600 - هذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 2: 308
بهذا اللفظ من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، مرفوعًا
إلى رافع بن خديج. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن 7: 296 من طريق أخرى مطولا، من طريق
أبي اليمان، عن شعيب بن أبي جمرة، عن الزهري.
ورواه مالك في الموطأ: 548"عن ابن شهاب، عن رافع بن خديج: أنه
تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصاري" الحديث، وهو قريب من لفظ
معمر، عن الزهري.
وروى الشافعي خبر رافع بن خديج، مختصرًا من طريق سفيان بن
عيينة، عن الزهري (الأم 5: 171) .
(9/275)
10601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا"، قال: قول الرجل لامرأته:"أنت كبيرة، وأنا
أريد أن أستبدل امرأة شابَّة وضيئة، فقَرِّي على ولدك، فلا
أقسم لك من نفسي شيئًا". فذلك الصلح بينهما، وهو أبو السَّنابل
بن بَعْكك. (1)
10602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح:"من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، ثم ذكر نحوه= قال
شبل: فقلت له: فإن كانت لك امرأة فتقسم لها ولم تقسم لهذه؟
قال: إذا صالحتْ على ذلك، (2) فليس عليه شيء.
10603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر
قال: سألت عامرًا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها،
فتقول:"لا تطلقني، واقسم لي يومًا، وللتي تَزَّوَّج يومين"،
قال: لا بأس به، هو صلح.
10604- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو
إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير"،
قال: المرأة ترى
__________
(1) الأثر: 10601 -"أبو السنابل بن بعكك بن الحارث بن عميلة بن
السباق بن عبد الدار القرشي"، هو صحابي من مسلمة الفتح، أخرج
له الترمذي، والنسائي وابن ماجه.
و"بعكك" (بفتح فسكون ففتح) على وزن"جعفر".
(2) في المطبوعة: "إذا صالحته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/276)
من زوجها بعض الحطّ، (1) وتكون قد كبرت، أو
لا تلد، فيريد زوجها أن ينكح غيرها، فيأتيها فيقول:"إني أريد
أن أنكح امرأة شابة أشبَّ منك، (2) لعلها أن تَلِدَ لي وأوثرها
في الأيام والنفقة"، فإن رضيت بذلك، وإلا طلقها، فيصطلحان على
ما أحبَّا.
10605- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال:
نشوزًا عنها، غَرِضَ بها. (3) الرجل تكون له المرأتان="أو
إعراضًا"، بتركها="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"،
إما أن يرضيها فتحلله، وإما أن ترضِيَه فتعطِفُه على نفسها.
10606- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت
من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، يعني: البغض.
10607- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فهو الرجل تكون تحته
المرأة الكبيرة، فيتزوج عليها المرأة الشابة، فيميل إليها،
وتكون أعجب إليه من الكبيرة، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من
ماله ويقسم لها من نفسه نصيبًا معلومًا.
10608- حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخزم قالا حدثنا أبو داود
قال،
__________
(1) في المطبوعة: "بعض الجفاء"، غير ما في المخطوطة. و"الحط"
الوضع والإنزال. ويريد: بعض البخس من حقها، والفتور في مودتها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنسب منك"، وهو تصحيف، صواب
قراءته ما أثبت.
(3) "غرض بها" (بالغين المفتوحة وكسر الراء) : ضجر بها وملها.
وفي المخطوطة والمطبوعة بالعين المهملة، وهو خطأ صوابه ما
أثبت. ثم قوله بعد ذلك: "الرجل تكون له المرأتان"، يعني: أن
ذلك في الرجل تكون له المرأتان. وهو كلام مبتدأ لا يتعلق
بالفعل الذي قبله.
(9/277)
حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: خشيت سَوْدة أن يطلِّقها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلِّقني على نسائك، ولا تَقسم
لي. ففعل، فنزلت:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا".
(1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أن يصلحا بينهما صلحًا" (2)
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح"الياء"
وتشديد"الصاد"، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحًا، ثم
أدغمت"التاء" في"الصاد"، فَصُيِّرتا"صادًا" مشددة. (3)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا
صُلْحًا) ، بضم"الياء" وتخفيف"الصاد"، بمعنى: أصلح الزوج
والمرأة بينهما.
* * *
__________
(1) الأثر: 10608 -"زيد بن أخزم الطائي النبهاني" الحافظ، روى
عن أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي عامر
العقدي. روى عنه الجماعة، سوى مسلم. قال النسائي: "ثقة". ذبحه
الزنج في الفتنة سنة 257. مترجم في التهذيب.
و"أخزم" بالخاء المعجمة، والزاي. وكانا في المطبوعة: "أخرم"،
وهو خطأ. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
والأثر في مسند أبي داود: 349 رقم: 2683، وفي الترمذي في كتاب
التفسير، والبيهقي في السنن 3: 297، واتفقت روايتهم جميعًا:
" ... فقالَتْ: لا تُطَلِّقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة.
ففعل، فنزلت هذه الآية: وَإن امرأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أو إعراضًا، الآية، فما اصطلحا عليه من شَيءٍ فهو
جائز".
فلا أدري من أين جاء هذا الاختلاف في لفظ الخبر؟ وأرجو أن لا
يكون تصرفًا من ناسخ سابق.
وقال الترمذي بعقب روايته: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يصالحا بينهما" بالألف، وصواب
كتابتها ما أثبت، على رسم المصحف، حتى يحتمل الرسم القراءتين
جميعًا.
(3) هكذا رسم هذه القراءة: (أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا
صُلْحًا) .
(9/278)
قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين في ذلك
إليَّ قراءة من قرأ: (أن يصالحا بينهما صلحا) ، (1)
بفتح"الياء" وتشديد"الصاد"، بمعنى: يتصالحا. لأن"التصالح" في
هذا الموضع أشهر وأوضح معنى، وأفصح وأكثرُ على ألسن العرب
من"الإصلاح". و"الإصلاح" في خلاف"الإفساد" أشهر منه في
معنى"التصالح".
فإن ظن ظان أن في قوله:"صلحًا"، دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك
(يُصْلِحَا) بضم"الياء" أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف
ما ظن. وذلك أن"الصلح" اسم وليس بفعل، فيستدلّ به على أولى
القراءتين بالصواب في قوله:"يصلحا بينهما صلحًا".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من
أنفس أزواجهن وأموالهم. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10609- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن
السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأحضرت الأنفس الشح"،
قال: نصيبها منه.
10610- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد= وحدثنا ابن
وكيع قال،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة معًا: "إلا أن يصالحا"، زاد
الناسخ"إلا" سهوًا، وتابعه الناشر.
(2) في المطبوعة: "وأموالهن"، والصواب من المخطوطة.
(9/279)
حدثنا ابن يمان= قالا جميعًا، حدثنا سفيان،
عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:"وأحضرت الأنفس الشح"،
قال: في الأيَّام.
10611- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في
الأيام والنفقة.
10612- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي وابن يمان، عن
سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: في النفقة.
10613- حدثنا ابن وكيع.. قال، حدثنا روح، عن ابن جريج، عن عطاء
قال: في النفقة. (1)
10614- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن
جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيام. (2)
10615- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وأحضرت
الأنفس الشح"، قال: نفس المرأة على نصيبها من زوجها، من نفسه
وماله.
10616- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر،
عن سعيد بن جبير، بمثله.
10617- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك، قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
10618- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل،
عن سعيد بن جبير: في النفقة.
__________
(1) الأثر: 10613 - أخشى أن يكون صواب إسناده"حدثنا ابن وكيع
قال، حدثنا أبي قال، حدثنا روح" سقط منه"حدثنا أبي قال".
(2) الأثر: 10614 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(9/280)
10619- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن
مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن
جبير قال: في الأيام والنفقة.
10620- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن
الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: في الأيام والنفقة.
10621- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأحضرت الأنفس
الشح"، قال: المرأة تشحُّ على مال زوجها ونفسه.
10622- حدثنا المثنى قال، أخبرنا حبّان بن موسى قال، أخبرنا
ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: جاءت
المرأة حين نزلت هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو
إعراضًا"، قالت:"إني أريد أن تقسم لي من نفسك"! وقد كانت رضيت
أن يدَعها فلا يطلِّقها ولا يأتيها، فأنزل الله:"وأحضرت الأنفس
الشحَّ".
10623- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: تطّلع نفسها
إلى زوجها وإلى نفقته. قال: وزعم أنها نزلت في رسول الله صلى
الله عليه وسلم وفي سودة بنت زمعة: كانت قد كبرت، فأراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يطلِّقها، فاصطلحا على أن يمسكها،
ويجعل يومها لعائشة، فشحَّت بمكانها من رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفسُ كل واحدٍ من الرجل والمرأة،
الشحَّ بحقه قِبَل صاحبه.
*ذكر من قال ذلك:
10624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد
(9/281)
يقول في قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال:
لا تطيب نفسُه أن يعطيها شيئًا، فتحلله= ولا تطيب نفسُها أن
تعطيه شيئًا من مالها، فتعطفه عليها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى
بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحَّ بأنصبائهن من أزواجهن في
الأيام والنفقة.
* * *
و"الشح": الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع:
إفراط حرصِ المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
* * *
فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءَهن، من فرط الحرص على
حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضَرائرهن.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى"الشح" ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول:
10625- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، والشح، هواه
في الشيء يحرِص عليه.
* * *
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، من قول من قال:"عُني بذلك:
وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح"، على ما قاله ابن زيد= لأن
مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جُعْلا على أن تصفح
له عن القسم لها، غير جائزة. وذلك أنه غير معتاض عوضًا من
جُعْله الذي بذله لها. والجُعل لا يصح إلا على عِوض: إما عين،
وإما منفعة. والرجل متى جعل للمرأة جُعْلا على أن تصفح له عن
يومها وليلتها، فلم يملك عليها عينًا ولا منفعة. وإذْ كان ذلك
كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذْ كان ذلك كذلك،
فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال:"عنى بذلك الرجل والمرأة".
(9/282)
فإن ظن ظانّ أن ذلك إذْ كان حقًّا للمرأة،
ولها المطالبة به، فللرجل افتداؤه منها بجُعل، فإن شفعة
المستشفع في حصة من دارٍ اشتراها رجل من شريك له فيها حق، له
المطالبة بها، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداءُ ذلك منه بجُعل.
وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عِوض غيرُ جائز، إذ
كان غير مُعتاض منه المطلوب في الشفعة عينًا ولا نفعًا= ما يدل
على بُطول صلح الرجل امرأته على عوض، على أن تصفح عن مطالبتها
إياه بالقسمة لها.
وإذا فسد ذلك، صَح أن تأويل الآية ما قلنا. وقد أبان الخبر
الذي ذكرناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (1) أنّ
قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية:
نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر
الشابَّة عليها، فأبت الكبيرة أن تَقِرَّ على الأثرة، فطلقها
تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عِدَّتها خيَّرها بين الفراق
والرجعة والصبر على الأثرة، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة.
فراجعها وآثر عليها، فلم تصبر، فطلقها. ففي ذلك دليل واضحٌ على
أن قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، إنما عُني به: وأحضرت أنفس
النساء الشحَّ بحقوقهن من أزواجهن، على ما وصفنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله"وإن تحسنوا وتتقوا"، فإنه يعني: وإن
تحسنوا، أيها الرجال، في أفعالكم إلى نسائكم، (2) إذا كرهتم
منهن دَمامة أو خُلُقًا أو بعضَ ما تكرهون منهن بالصبر عليهن،
وإيفائهن حقوقهن وعشرتهن بالمعروف"وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله
فيهن بترك الجَوْر منكم عليهن فيما يجب لمن كرهتموه منهن
عليكم، من القسمة له، والنفقة، والعشرة بالمعروف (3) ="فإن
الله كان
__________
(1) هو الأثر رقم: 10600.
(2) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/283)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129)
بما تعملون خبيرًا"، يقول: فإن الله كان
بما تعلمون في أمور نسائكم، أيها الرجال، من الإحسان إليهن
والعشرة بالمعروف، والجور عليهن فيما يلزمكم لهنّ
ويجب="خبيرًا"، يعني: عالمًا خابرًا، لا يخفي عليه منه شيء، بل
هو به عالم، وله محصٍ عليكم، حتى يوفِّيكم جزاءَ ذلك: المحسنَ
منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا
بين النساء"، لن تطيقوا، أيها الرجال، أن تسوُّوا بين نسائكم
وأزواجكم في حُبِّهن بقلوبكم حتى تعدِلوا بينهنّ في ذلك، فلا
يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثلُ ما لصواحبها، لأن
ذلك مما لا تملكونه، وليس إليكم="ولو حرصتم"، يقول: ولو حرصتم
في تسويتكم بينهن في ذلك، كما:-
10626 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: واجبٌ، أن لا تستطيعوا
العدل بينهن.
* * *
="فلا تميلوا كلَّ الميل"، يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من
لم تملكوا محبته منهن كلَّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن
تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق: في
القسم لهن، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف (2) =
__________
(1) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الميل" فيما سلف 8: 212.
(9/284)
"فتذروها كالمعلقة" يقول: فتذروا التي هي
سوى التي ملتم بأهوائكم إليها="كالمعلقة"، يعني: كالتي لا هي
ذات زوج، ولا هي أيِّمٌ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ما قلنا في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم".
10627 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه في الحب
والجماع.
10628- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه.
10629- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث وهشام، عن ابن
سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا
بين النساء ولو حرصتم"، فقال: في الجماع
10630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن
سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع.
10631 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن عمرو، عن الحسن: في
الحب.
10632 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن
ابن سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع.
10633- حدثنا الحسن بن يحيى قال، قال أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"ولن
تستطيعوا أن
(9/285)
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: في
المودة، كأنه يعني الحبّ.
10634- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم"، يقول: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما
بينهن ولو حرصت.
10635 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة=
وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة= قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أمَّا
قلبي فلا أملك! وأما سِوَى ذلك، فأرجو أن أعدل!
10636 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
ولو حرصتم"، يعني: في الحب والجماع.
10637- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا
ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن
أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين
نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك، فلا
تَلُمني فيما تَملك ولا أملك. (1)
__________
(1) الأثر: 10637 - هذا الأثر رواه أبو داود في سننه 2: 326
رقم: 2134 من طريق حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله
بن يزيد (الخطمي) ، عن عائشة، وانظر التعليق على الأثر رقم:
10657.
ورواه من هذه الطريق أيضا مرفوعا، النسائي في السنن 7: 63، 64.
وبه أيضًا، ابن ماجه من سننه 1: 634، رقم: 1971.
وبه أيضًا، الترمذي في سننه (باب ما جاء في التسوية بين
الضرائر) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 298.
وسيرويه أبو جعفر بإسنادين آخرين، أحدهما من طريق حماد بن زيد
مرسلا، وهو رقم: 10656، مع اختلاف يسير في اللفظ.
والآخر، من طريق عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد
الله بن يزيد، عن عائشة، مرفوعًا، كما في السنن الأربعة، وهو
رقم: 10657.
وأشار إليه الحافظ في الفتح (9: 274) وقال: "وقد روى الأربعة،
وصححه ابن حبان والحاكم". وقال الترمذي بعقبه: "حديث عائشة،
هكذا رواه غير واحد: عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة،
عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقسم= ورواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي
قلابة، مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم= وهذا أصح
من حديث حماد بن سلمة". وزاد الطبري هنا طريقين في روايته
مرسلا: ابن علية، عن أيوب= وعبد الوهاب، عن أيوب.
ثم قال الترمذي ومعنى قوله: "لا تلمني فيما تملك ولا أملك"=
إنما يعني به الحب والمودة، كذا فسره بعض أهل العلم".
وقال أبو داود في سننه: "يعني القلب".
(9/286)
10638 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن
علي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال:
نزلت هذه الآية في عائشة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء".
10639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن
الضحاك، قال: في الشهوة والجماع.
10640 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن
الضحاك قال: في الجماع.
10641 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال،
قال سفيان في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو
حرصتم"، قال: في الحب والجماع.
10642- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: ما
يكون من بدنه وقلبه، فذلك شيء لا يستطيع يَمْلكه. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فلا تميلوا كلَّ الميل".
10643 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
__________
(1) حذفت"أن"، وسياقه"لا تستطيع أن تملكه". وحذف"أن" قبل
المضارع، جائز صحيح، كثير في كلام العرب، وكثير في كلام
القدماء من العلماء والكتاب.
(9/287)
ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد قال:
قلت لعبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه.
10644- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد،
عن عبيدة، مثله.
10645 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن
سيرين، عن عبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال هشام: أظنه قال:
في الحب والجماع.
10646- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"كل
الميل"، قال: بنفسه.
10647 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال، حدثنا بشر بن بكر قال،
أخبرنا الأوزاعي، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قول
الله:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه. (1)
10648 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن
الحسن:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: في الغشيان والقَسْم. (2)
10649 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، لا
تعمَّدوا الإساءة.
10650 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10651- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج
__________
(1) الأثر: 10647 -"بحر بن نصر الخولاني"، مضى قريبًا برقم:
10588. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر: 10648 -"سهل بن يوسف الأنماطي"، ثقة، من شيوخ أحمد.
مترجم في التهذيب، وقد مضى في الأسانيد: 2966، 3260، 4876،
8765.
(9/288)
قال: بلغني عن مجاهد:"فلا تميلوا كل
الميل"، قال: يتعمد أن يسيء ويظلم. (1)
10652 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن
ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10653- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا
تميلوا كل الميل"، قال: هذا في العمل في مبيته عندها، وفيما
تصيب من خيره.
10654 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تميلوا كل الميل"، يقول: يميل
عليها، فلا ينفق عليها، ولا يقسم لها يومًا.
10655 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: يتعمد
الإساءة، يقول:"لا تميلوا كل الميل"، قال: بلغني أنه الجماع.
10656 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن زيد، عن
أيوب، عن أبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم
بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذه قِسْمتي فيما أملك، فلا
تلمني فيما تملك ولا أملك! (2)
10657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي
قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، بمثله. (3)
__________
(1) الأثر: 10651 -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، ثقة. مضى
برقم: 5438.
(2) الأثر: 10656 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10637.
(3) الأثر: 10657 -"عبد الله بن يزيد" هو: رضيع عائشة. روى عن
عائشة. وعنه أبو قلابة الجرمي. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان
في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن زيد"، وهو خطأ كما سترى.
هذا وقد جاء في سنن أبي داود وحدها"عبد الله بن يزيد الخطمي"،
والآخرون لم يقولوا: "الخطمي"، اقتصروا على اسمه وحده. وهذا هو
الصواب، فإن"عبد الله بن يزيد بن زيد الخطمي"، لم يذكر في
تراجمه أنه روى عن عائشة، ولا أن أبا قلابة الجرمي قد روى عنه.
والذي يروي عن عائشة: عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة. وقد نص
الحافظ ابن حجر في ترجمته في التهذيب (6: 80) أنه له عند
الأربعة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك"، فثبت على اليقين، أن
الذي في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود، خطأ محض، وأن الصواب
حذف"الخطمي" من إسنادها. والله الموفق للصواب. كتبه محمود محمد
شاكر.
(9/289)
10658 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهيك،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له
امرأتان يَميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة أحدُ
شِقَّيه ساقط. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فتذروها كالمعلقة".
10659 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتذروها كالمعلقة"،
قال: تذروها لا هي أيّم، ولا هي ذات زوج. (2)
10660- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن
جعفر
__________
(1) الأثر: 10658 - هذا الأثر، رواه أبو داود الطيالسي عن
همام، في مسنده: 322 رقم: 2454، باختلاف يسير في لفظه.
ورواه أبو داود في السنن 2: 326، رقم: 2133، من طريق أبي
الوليد الطيالسي، عن همام، ولفظه: "وشقه مائل".
ورواه النسائي 7: 63، من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن
همام، ولفظه: "أحد شقيه مائل".
ورواه ابن ماجه في سننه 1: 633 رقم: 1969، من طريق أبي بكر بن
أبي شيبة، عن وكيع، بلفظ الطبري.
ورواه الترمذي في السنن، في باب (ما جاء في التسوية بين
الضرائر) ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن همام.
ورواه البيهقي 7: 297 من طرق.
قال الترمذي: "وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى، عن قتادة.
ورواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: "كان يقال". ولا نعرف هذا
الحديث مرفوعًا إلا من حديث همام".
(2) في المطبوعة: "ولا ذات روج"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/290)
، عن سعيد بن جبير:"فتذروها كالمعلقة"،
قال: لا أيِّمًا ولا ذات بعل.
10661 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن
الحسن:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا مطلقة ولا ذات بعل.
10662- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن
الحسن، مثله.
10663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة:"فتذروها كالمعلقة"، أي كالمحبوسة، أو كالمسجونة.
10664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال:
كالمسجونة. (1)
10665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن أبي جعفر،
عن الربيع في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، يقول: لا مطلقة ولا ذات
بعل.
10666- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:"فلا
تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، لا مطلقة ولا ذات بعل. (2)
10667- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج
قال: بلغني عن مجاهد:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيما ولا ذات
بعل.
__________
(1) في المخطوطة، "كالمسجونة، كالمحبوسة"، ووضع فوق الأولى حرف
(ط) وفوق الأخرى (كذا) ، ولا أدري ما الذي أراد باستشكاله هذا.
أما المطبوعة، فقد حذفت"كالمحبوسة" واقتصرت على واحدة، وكأنه
ظن أنه أراد حذف التي عليها (ط) ، وإبقاء الأخرى، ولعله أصاب،
فتركت ما في المطبوعة على حاله.
وأراد بقوله: "المسجونة" و"المحبوسة"، أن زوجها سجنها، أو
حبسها فلم يرسلها، ولم يسرحها بالطلاق.
(2) الأثر: 10666 - عبد الرحمن بن سعد: هو: "عبد الرحمن بن عبد
الله بن سعد بن عثمان الرازي". روى عن أبيه، وأبي خيثمة، وعمرو
بن أبي قيس الرازي، وأبي جعفر الرازي. ثقة. مترجم في التهذيب.
(9/291)
10668 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح:"فتذروها كالمعلقة"، ليست
بأيم ولا ذات زوج.
10669- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو
معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: لا تدعها كأنها ليس لها
زوج.
10670- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيِّمًا
ولا ذات بعل.
10671 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال:"المعلقة"، التي ليست بمُخَلاة
ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي
عند زوجها، ولا مفارقة، فتبتغي لنفسها. فتلك"المعلقة".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله:"فلا تميلوا كل
الميل فتذروها كالمعلقة"، الرجالَ بالعدل بين أزواجهن فيما
استطاعوا فيه العدل بينهن من القسمة بينهن، والنفقة، وترك
الجور في ذلك بإرسال إحداهن على الأخرى فيما فرض عليهم العدلَ
بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عمَا لا يطيقون العدلَ فيه
بينهنّ مما في القلوب من المحبة والهوى.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وإن تصلحوا" أعمالكم، أيها
الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم، وما فرض الله لهن عليكم
من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك="وتتقوا"،
يقول: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم
(9/292)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130)
عنه، بأن تميلوا لإحداهن على الأخرى،
فتظلموها حقها مما أوجبَه الله لها عليكم="فإن الله كان
غفورًا"، يقول: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم
وجوركم عليهن قبل ذلك، بتركه عقوبتكم عليه، ويغطِّي ذلك عليكم
بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل="رحيمًا"، يقول: وكان
رحيمًا بكم، إذ تاب عليكم، فقبل توبَتكم من الذي سلف منكم من
جوركم في ذلك عليهن، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن،
بصفحهن عن حقوقهن لكم من القَسْم على أن لا يطلَّقن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ
كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أبت المرأة التي قد نشز
عليها زوجها= إذ أعرض عنها بالميل منه إلى ضرّتها لجمالها أو
شبابها، أو غير ذلك مما تميل النفوس له إليها (2) = الصلحَ
بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، (3) وطلبت حقَّها منه من
القسم والنفقة، وما أوجب الله لها عليه= وأبى الزوج الأخذَ
عليها بالإحسان الذي ندبه الله إليه بقوله:"وإن تُحسنوا وتتقوا
فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، وإلحاقَها في القسم لها
والنفقة والعشرة بالتي هو إليها مائل، (4) فتفرقا
__________
(1) انظر تفسير"التقوى" و"غفور"، و"رحيم" فيما سلف من فهارس
اللغة.
(2) في المطبوعة: "أو أعرض عنها ... مما تميل النفوس به
إليها"، غير"إذ"، و"له"، وهما نص المخطوطة، وهو الصواب. ويعني:
مما تميل النفوس من أجله إلى هذه المرأة التي وصف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "الصلح لصفحها" والصواب ما أثبت،
وقوله: "الصلح" منصوب، مفعول به لقوله: "فإن أبت المرأة ...
الصلح"، هكذا السياق.
(4) قوله: "وإلحاقها" معطوف في السياق على قوله: "وأبى الزوج
الأخذ عليها بالإحسان ... وإلحاقها ... ".
(9/293)
بطلاق الزوج إياها="يُغْنِ الله كلا من
سعته"، يقول: يغن الله الزوجَ والمرأة المطلقة من سعة فضله.
أما هذه، فبزوج هو أصلح لها من المطلِّق الأول، أو برزق أوسع
وعصمة. وأما هذا، فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة، (1)
أو عفة="وكان الله واسعًا"، يعني: وكان الله واسعًا لهما، في
رزقه إياهما وغيرهما من خلقه (2) ="حكيمًا"، فيما قضى بينه
وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من
الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي غير ذلك من أحكامه
وتدبيره وقضاياه في خلقه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإن يتفرقا يغن الله كلا
من سعته"، قال: الطلاق. (4)
10673 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السعة" فيما سلف ص: 121.
وقوله: "أو عفة" يعني: فبرزق واسع ... أو بعفة.
(2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575 / 6: 517.
(3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة: "قال: الطلاق، يغني الله كلا من سعته"، وليس
ذلك كله في المخطوطة بل سقط منها بقية الخبر. فاقتصرت على ما
جاء في الدر المنثور 2: 234، عن مجاهد وهو: "قال: الطلاق"، كما
أثبته.
(9/294)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ
أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ
أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا
حَمِيدًا (131) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله جميع مُلْك ما حوته
السموات السبع والأرَضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل
ثناؤه ذلك بعقب قوله:"وإن يتفرَّقا يغن الله كلا من سعته"،
تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته،
ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفراق
سَكنه وزوجته= وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها، وأن
من كان له ملك جميع الأشياء، فغير متعذّر عليه أن يغنيَه وكلَّ
ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كلَّ ذي وحشة.
* * *
ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم،
ووعيدِ من فعل ما فعل المرتدّ منهم، فقال (1) "ولقد وصينا
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم"، يقول: ولقد أمرنا أهل
الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل="وإياكم"، يقول: وأمرناكم
وقلنا لكم ولهم:"اتقوا الله"، يقول: احذروا الله أن تعصوه
وتخالفوا أمره ونهيه (2) ="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا
وصيته إياكم، أيها المؤمنون، فتخالفوها="فإنّ لله ما في
السموات وما في الأرض"، يقول: فإنكم لا تضرُّون بخلافكم وصيته
غير أنفسكم، ولا تَعْدُون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثالَ
اليهود والنصارى، في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما
حلَّ بهم إذ بدَّلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغيَّر بهم ما كانوا
فيه من خَفض
__________
(1) انظر تفسير الآيات السالفة، من الآية: 105 - 116.
(2) انظر تفسير"وصى" فيما سلف 3: 93-96: 405 / 8: 30، 68 وانظر
مقالته في"أن" مع"وصى" فيما سلف 3: 94، 95.
(9/295)
العيش وأمن السِّرب، (1) وجعل منهم القردة
والخنازير. وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض، لا
يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه، من إعزاز من أراد
إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله، وغير ذلك من الأمور كلها، لأن
الخلق خلقه، بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قواهم وبقاؤهم،
وهلاكهم وفناؤهم= وهو"الغني" الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء،
ولا فاقة تنزل به تضطرُّه إليكم، أيها الناس، ولا إلى غيركم
(2) ="والحميدُ" الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمدَ بصنائعه
الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة لديكم. (3) فاستديموا ذلك، أيها
الناس، باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم
عنه، كما:
10674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن علي رضي الله عنه:"وكان
الله غنيًّا حميدًا"، قال: غنيًّا عن خلقه="حميدًا"، قال:
مستحمدًا إليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأمن الشرب" بالشين المعجمة، وهو خطأ صرف،
وهو في المخطوطة على الصواب. و"السرب" (بكسر السين وسكون
الراء) : النفس والمال والأهل والولد. يقال: "أصبح فلان آمنًا
في سربه" أي في نفسه وأهله وماله وولده. وتفتح السين، فيقال:
"أصبح آمنًا في سربه"، أي: في مذهبه ووجهه حيث سار وتوجه.
و"خفض العيش": لينه وخصبه.
(2) انظر تفسير"الغني" فيما سلف 5: 521، 570.
(3) انظر تفسير"حميد" فيما سلف 5: 570.
(9/296)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(132)
القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا
(132) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته
السموات والأرض، وهو القيِّم بجمعيه، والحافظ لذلك كله، لا
يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره، كما:-
10675 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عن
عمرو، عن سعيد، عن قتادة:"وكفى بالله وكيلا"، قال: حفيظًا. (1)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله:"ولله ما في السموات وما في
الأرض" في آيتين، إحداهما في إثر الأخرى؟
قيل: كرّر ذلك، لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في
الآيتين. وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين: ذكرُ حاجته إلى
بارئه، وغنى بارئه عنه - وفي الأخرى: حفظ بارئه إياه، وعلمه به
وتدبيره. (2)
فإن قال: أفلا قيل:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، وكفى بالله
وكيلا؟
قيل: إن الذي في الآية التي قال فيها:"وكان الله غنيًّا
حميدًا"، مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغنى وأنه
محمود، ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ
والتدبير. فلذلك كرّر قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566 / 9: 193.
(2) في المطبوعة: "حفظ بارئه إياه به، وعلمه به وتدبيره"،
والصواب كله من المخطوطة.
(9/297)
إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
القول في تأويل قوله: {إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يشأ الله، أيها الناس،
="يذهبكم"، أي: يذهبكم بإهلاككم وإفنائكم="ويأت بآخرين"، يقول:
ويأت بناس آخرين غيركم لمؤازرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
ونصرته="وكان الله على ذلك قديرًا"، يقول: وكان الله على
إهلاككم وإفنائكم واستبدال آخرين غيركم بكم="قديرًا"، يعني: ذا
قدرة على ذلك. (1)
* * *
وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات، الخائنين الذين خانوا الدِّرع
التي وصفنا شأنها، الذين ذكرهم الله في قوله: (وَلا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [سورة النساء: 105] = وحذر أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، وأن يفعلوا فعل
المرتدِّ منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين = وعرَّفهم أن من
فعل فعله منهم، فلن يضر إلا نفسه، ولن يوبق برِدَّته غير نفسه،
لأنه المحتاج -مع جميع ما في السموات وما في الأرض- إلى الله،
والله الغني عنهم. ثم توعَّدهم في قوله:"إن يشأ يذهبكم أيها
الناس ويأت بآخرين"، بالهلاك والاستئصال، إن هم فعلوا فعل ابن
أبيرق طُعْمة المرتدِّ (2) = وباستبدال آخرين غيرهم بهم، لنصرة
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه، كما
قال في الآية الأخرى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) ، [سورة
محمد: 38] .
__________
(1) انظر تفسير"القدير" فيما سلف 1: 361 / 2: 484، 504.
(2) "طعمة" هو اسم"ابن أبيرق" كما سلف في الأثر رقم: 10416.
(9/298)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها
لما نزلت، ضرب بيده على ظهر سَلْمان فقال:"هم قوم هذا"، يعني
عجم الفرس= كذلك:-
10676- حُدِّثت عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح،
عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال قتادة في ذلك بما:-
10677 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة في قوله"إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان
الله على ذلك قديرًا"، قادرٌ واللهِ ربُّنا على ذلك: أن يهلك
من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ
اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"من كان يريد"، ممن أظهرَ
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق، (2) الذين
يستبطنون الكفر
__________
(1) الأثر: 10676 -"عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد
الدراوردي". متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"سهيل بن أبي صالح". متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"أبوه: "ذكوان السمان"، "أبو صالح"، ثقة ثبت في حديثه عن أبي
هريرة. مترجم في التهذيب، مضى برقم: 304، 3226، 5387.
وهذا الأثر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 6: 67، ونسبه لابن
جرير، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن
مردويه.
وسيأتي بأسانيد أخرى في تفسير"سورة محمد"، في آخرها 26: 42
(بولاق) سنتكلم عنها هناك.
(2) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والصواب من
المخطوطة.
(9/299)
وهم مع ذلك يظهرون الإيمان="ثواب الدنيا"،
يعني: عَرَض الدنيا، (1) بإظهارهِ مَا أظهر من الإيمان بلسانه.
(2) ="فعند الله ثواب الدنيا"، يعني: جزاؤه في الدنيا منها
وثوابه فيها، وهو ما يصيبُ من المغنم إذا شَهِد مع النبي
مشهدًا، (3) وأمنُه على نفسه وذريته وماله، وما أشبه ذلك. وأما
ثوابه في الآخرة، فنارُ جهنم.
* * *
فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد
بعمله ثوابَ الدنيا وجزاءَها من عمله، فإن الله مجازيه به
جزاءَه في الدنيا من الدنيا، (4) وجزاءه في الآخرة من الآخرة
من العقاب والنكال. وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك
جميعه، كما قال في الآية الأخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا
النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ) [سورة هود: 15-16] .
* * *
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه: الذين تَتَيَّعُوا في أمر بني أبيرق،
(5) والذين وصفهم في قوله: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ
كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ
مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [سورة النساء: 107، 108] ، ومن
كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ثواب" فيما سلف 2: 458 / 7: 262، 304، 490.
(2) في المطبوعة: "بإظهار" بغير هاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وثوابه فيها هو ... "، وأثبت ما في
المخطوطة.
(4) قوله: "مجازيه به"، كان في المخطوطة: "مجازيه بها"، وفي
المطبوعة، حذف"بها"، والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "الذين سعوا في أمر بني أبيرق"، وفي
المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة. يقال: "تتيع فلان في الأمر
وتتايع": إذا أسرع إليه وتهافت فيه من غير فكر ولا روية. ولا
يكون ذلك إلا في الشر، لا يقال في الخير. والذي في المطبوعة
صواب في المعنى والسياق والخبر، ولكني تبعت رسم المخطوطة، فهو
موافق أيضًا لسياق قصتهم.
(9/300)
وقوله:"وكان الله سميعًا بصيرًا"، يعني:
وكان الله سميعًا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب
الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لَقُوا
المؤمنين، وقولهم لهم:"آمنًا" (1) ="بصيرًا"، يعني: وكان ذا
بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين، (2) فيما يكتمونه ولا
يبدونه لهم من الغش والغِلّ الذي في صدورهم لهم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 6: 363، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 6: 283، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة، حذف"لهم" من آخر هذه الجملة.
(9/301)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا
فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}
وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله
(1) أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه،
وذَبَّهم عنهم، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول
الله لهم:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط"، يقول:
ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط (2) =يعني:
بالعدل="شهداء لله".
* * *
= و"الشهداء" جمع"شهيد". (3)
* * *
__________
(1) يقال: "تقدم إليه في كذا" أي أمره بأمر أو نهي، وأراد هنا
معنى النهي.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 6: 77، 270 / 7: 541.
(3) انظر تفسير"شهيد" و"شهداء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/301)
ونصبت"الشهداء" على القطع مما في
قوله:"قوامين" من ذكر"الذين آمنوا"، (1) ومعناه: قوموا بالقسط
لله عند شهادتكم= أو: حين شهادتكم.
="ولو على أنفسكم"، يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على
والدين لكم أو أقربيكم، (2) فقوموا فيها بالقسط والعدل،
وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها
لغنيٍّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ، فتجوروا.
فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم، أيها
الناس، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل="أولى بهما"،
وأحق منكم، (3) لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما
فيه مصلحة كلّ واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها
منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما
وعليهما="فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا"، يقول: فلا تتبعوا
أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها -لغني على
فقير، أو لفقير على غني- إلا أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق،
ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله
بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط؟
وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ (4)
قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به، فذلك قيام
منه له بالشهادة على نفسه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه
المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق= في سرقتهم
ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا
__________
(1) "القطع"، باب من الحال، انظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(2) في المطبوعة: "أو على والديكم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"أولى" فيما سلف 6: 497.
(4) في المطبوعة: "وهل يشهد الشاهد"، وفي المخطوطة: "وبما
يشهد".
وأرجح أن ما في المطبوعة هو الصواب، لقوله في جوابه"نعم"، وكدت
أقرؤها: "وبم يشهد الشاهد"، لولا أن جواب أبي جعفر دل على غير
ذلك.
(9/302)
ممن ذكرنا قبل (1) = عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم: إذا
قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقولوا فيها بالعدل، (2) ولو
كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا
يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم،
(3) على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق
وكتمانها.
* * *
وقد قيل إنها نزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10678- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله"، قال: نزلت في النبيّ صلى الله عليه
وسلم، واختصم إليه رجلان: غنيٌّ وفقير، وكان ضِلَعه مع الفقير،
يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط
في الغني والفقير فقال:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى
بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، الآية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك نحو قولنا: إنها نزلت في الشهادة، أمرًا من
الله المؤمنين أن يسوُّوا -في قيامهم بشهاداتهم- لمن قاموا
بها، (4) بين الغني والفقير.
__________
(1) في المطبوعة: "وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول
الله ... "، وهو كلام فاسد، غير ما في المخطوطة، وهو كما أثبت،
إلا أنه كتب"من ذكرنا قبل" ووضع فتحة على الميم من"من"، وهو
خطأ في نسخ الناسخ ونقله، إنما هذه الفتحة ميم أخرى في"ممن"
أساء قراءتها، فأساء نقلها. وقد مضى مثل هذا في مثل هذا الحرف،
مرارًا فيما سلف ونبهت إليه.
(2) في المطبوعة: "فقوموا فيها بالعدل"، والذي في المخطوطة
صواب محض.
(3) في المطبوعة"فلا يحملنكم"، والجيد ما أثبت من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لمن قاموا له بها" زاد"له"، وهي مفسدة
للكلام، غمض عليه السياق. وإنما سياق الكلام: أمرًا من الله
المؤمنين ... لمن قاموا بها" أي: لمن قام من المؤمنين
بالشهادة، وذكرها معترضة في كلام آخر، وهو قوله: "في قيامهم
بشهاداتهم".
(9/303)
*ذكر من قال ذلك:
10679- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كونوا قوامين بالقسط شهداء
لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين"، قال: أمر الله
المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو
أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا
لمسكنته، وذلك قوله:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما
فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، فتذروا الحق، فتجوروا.
10680- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي
القرابة قال: كان ذلك فيما مضى من السُّنة في سلف المسلمين،
وكانوا يتأولون في ذلك قول الله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما" الآية، فلم يكن
يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين الصالحُ في شهادة الوالد لولده، ولا
الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ
الناسُ بعد ذلك، (1) فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على
اتهامهم، فتركت شهادةُ من يتهم، إذا كانت من أقربائهم. وصار
ذلك من الولد والوالد، والأخ والزوج والمرأة، لم يتهم إلا
هؤلاء في آخر الزمان. (2)
10681- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى
آخر الآية، قال: لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم
عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد.
__________
(1) "دخل" على وزن"فرح"، يقالك: "دخل أمره دخلا (بفتحتين) ":
أي فسد، و"الدخل" (بفتحتين) : الغش والفساد. و"فلان مدخول
الإسلام"، إذا كان فيه غش وفساد، وهو النفاق.
(2) فليت شعري ما كان يقول ابن شهاب لو أدرك زماننا الذي نحن
فيه!! نسأل السلامة، ونستهديه في القيام بما أمرنا به في
كتابه.
(9/304)
10682- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله" الآية، هذا في الشهادة. فأقم
الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي
قرابتك، أو شَرَفِ قومك. (1) فإنما الشهادة لله وليست للناس،
وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزانُ الله في
الأرض، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على
الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ،
ويكذِّب الكاذبَ، ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه، (2) تعالى ربنا
وتبارك. وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم="إن يكن غنيًّا أو
فقيرًا فالله أولى بهما"، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال:
وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال:"يا ربِّ، أي شيء
وضعت في الأرض أقلّ؟ "، قال:"العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض".
فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن
ذلك عليك من الحق، وقال جل ثناؤه:"فالله أولى بهما".
* * *
وقد قيل:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا"، الآية، أريد: فالله أولى
بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك
قال:"بهما"، ولم يقل"به".
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"بهما"، لأنه قال:"إن يكن غنيًّا أو
فقيرًا"، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهول.
وإذا كان مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أو أشراف قومك"، كأنه ظن"شرفًا" خطأ، وهو
محض صواب، يجمع"شريف" على"أشراف" و"شرفاء" و"شرف" (بفتح الشين
والراء) . كما قالوا: "رجل كريم" و"قوم كرم". ولو قيل: وهو وصف
بالمصدر مثل"عدل" لكان صوابًا.
(2) في المطبوعة: "ويوبخه" والتوبيخ لا معنى له هنا. وفي
المخطوطة غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "رنخ
الرجل": ذلَّله. ولو قرئت"يريخه" بالياء لكان صوابًا، يقال:
"ضربوا فلانًا حتى ريخوه"، أي أوهنوه وأذلوه. هذا وقتادة
السدوسي، كان يكثر في كلامه غريب اللغة.
(3) في المطبوعة: "الرد عليه بالتوحيد ... "، والذي أثبت من
المخطوطة هو محض الصواب.
(9/305)
وذكر قائلو هذا القول، أنه في قراءة أبيّ:
(فالله أولى بهم) .
* * *
وقال آخرون:"أو" بمعنى"الواو" في هذا الموضع. (1)
* * *
وقال آخرون: جاز تثنية قوله:"بهما"، لأنهما قد ذكرا، كما قيل.
(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) [سورة
النساء: 12] .
* * *
وقيل: جاز، لأنه أضمر فيه"مَن"، كأنه قيل: إن يكن مَن خاصم
غنيًّا أو فقيرًا= بمعنى: غنيين أو فقيرين="فالله أولى بهما".
* * *
وتأويل قوله:"فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، أي: عن الحق،
فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه:
فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحق في
إقامة الشهادة بالقسط، لكان وجهًا. (2)
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا= كما يقال:"لا
تتبع هواك لترضيَ ربك"، بمعنى: أنهاك عنه، كما ترضي ربّك
بتركه. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عنى:"وإن تلووا"، أيها الحكام، في الحكم لأحد
الخصمين
__________
(1) انظر "أو" بمعنى"الواو" فيما سلف 1: 336، 337 / 2: 237.
(2) في المطبوعة: "كان وجها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 291.
(9/306)
على الآخر="أو تعرضوا فإن الله كان بما
تعملون خبيرًا".
ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام، على نحو القول
الذي ذكرنا عن السدِّي من قوله: إن الآية نزلت في رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10683- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس بن
أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله:"وإن تلووا أو
تعرضوا"، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيُّ
القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا، أيها الشهداء، في شهاداتكم
فتحرِّفوها ولا تقيموها= أو تعرضوا عنها فتتركوها.
*ذكر من قال ذلك:
10684- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن تلووا أو
تعرضوا"، يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة، أو تعرضوا عنها.
10685- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى قوله:"وإن تلووا أو
تعرضوا"، يقول: تلوي
__________
(1) هو الأثر السالف رقم: 10678.
(2) الأثر: 10683 -"قابوس بن أبي ظبيان الجنبي"، روى عن
أبيه"حصين بن جندب" وآخرين. قال ابن معين: "ثقة، ضعيف الحديث".
وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع
المرسل، وأسند الموقوف. وأبوه ثقة". وانظر ما سلف رقم: 9745.
وأبوه: "أبو ظبيان"، هو: "حصين بن جندب". روى عن عمر، وعلي،
وابن مسعود. ثقة، انظر ما سلف رقم: 9745.
(9/307)
لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم
الشهادة على وجهها. و"الإعراض"، الترك.
10686- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تلووا"، أي
تبدّلوا الشهادة="أو تعرضوا"، قال: تكتموها.
10687- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا"، قال: بتبديل الشهادة،
و"الإعراض" كتمانها.
10688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن تحرفوا أو
تتركوا.
10689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: تلجلجوا، أو تكتموا. وهذا
في الشهادة.
10690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تلووا أو تعرضوا"، أما"تلووا"،
فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها= وأما"تعرضوا" فتعرض عنها
فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة!
10691- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن
تلووا"، فتكتموا الشهادة، يلوى ببعض منها (1) = أو يُعرض عنها
فيكتمها، فيأبى أن يَشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين
أرحَمُه! فيقول: لا أقيم الشهادة عليه. ويقول: هذا غنيٌّ
أبقّيه وأرجو ما قِبَله، فلا أشهد عليه! فذلك قوله:"إن يكن
غنيًّا أو فقيرًا".
__________
(1) في المطبوعة: "تلوى تنقص منها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
صواب جيد. من قولهم: "لوى عنه الخبر"، إذا طواه، أو أخبره به
على غير وجهه.
وكان سياق الكلام في المطبوعة بالتاء على معنى الخطاب،
"تلوى""تعرض" الخ، فأثبت ما هو في المخطوطة منقوطًا كذلك.
(9/308)
10692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن
تلووا"، تحرّفوا="أو تعرضوا"، تتركوا. (1)
10693- حدثنا محمد بن عمارة قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا
فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وإن تلووا"، قال: إن تلجلجوا
في الشهادة فتفسدوها="أو تعرضوا"، قال: تتركوها. (2)
10694- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن
تلووا في الشهادة، أن لا تقيمها على وجهها (3) ="أو تعرضوا"،
قال: تكتموا الشهادة.
10695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن أبي حماد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة: أنه كان يقول:"وإن
تلووا أو تعرضوا"، يعني: تلجلجوا="أو تعرضوا"، قال: تدعها فلا
تشهد.
10696- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تلووا أو
تعرضوا"، أما"تلووا"، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق.
يعني: في الشهادة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من
تأوله، أنه لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك
تحريفه إياها بلسانه، (4) وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته
لمن شهد له، وعمن شهد عليه. (5)
__________
(1) في المخطوطة: "تحرفوا أو تحرفوا" مكررة، لا أظنه تحريفًا.
(2) في المطبوعة: "فتتركوها"، والجيد ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أن لا تقيموها" بالجمع، والذي في المخطوطة
حسن جيد.
(4) في المطبوعة: "لسانه" بغير باء، والصواب من المخطوطة.
(5) انظر تفسير"اللي" فيما سلف 6: 535-537 / 8: 435.
(9/309)
وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءَها
والقيام بها، فلا يشهد بها. (1)
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه
قال:"كونوا قوامين بالقسط شهداء الله"، فأمرهم بالقيام بالعدل
شهداء. وأظهر معاني"الشهداء"، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وإن تلووا".
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة: (وَإِنْ تَلْوُوا)
بواوين، من:"لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني"= وذلك
إذا مطلوه="ليًّا".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وإن تلوا) بواو واحدة.
* * *
ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد همز"الواو" لانضمامها، ثم أسقط
الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه، وبقيت واو واحدة.
كأنه أراد:"تَلْؤُوا" ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه، كان
معناه معنى من قرأ:"وإن تلووا"، بواوين، غير أنه خالف المعروف
من كلام العرب. وذلك أن"الواو" الثانية من قوله:"تلووا" واو
جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها، ثم حذفها بعد همزها، فيبطل
علَم المعنى الذي له أدخلت"الواو" المحذوفة. (2)
والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: أن"تلوا"
من"الولاية"، فيكون معناه: وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا
معنى= إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه= خارج عن
معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى
__________
(1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 268، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) هذا موضع وهم غريب من مثل أبي جعفر، فإن الهمز في"تلؤوا"
على واو الفعل، وهي عين الفعل"لوى"، والحذف بعد طرح الهمزة،
واقع بواو الفعل لا بواو الجماعة، وهي أصل، لم تدخل لمعنى.
فكيف أخطأ أبو جعفر فظنها واو الجماعة!! وانظر معاني القرآن
للفراء 1: 291.
(9/310)
الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب
من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: (وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) ، بمعنى:"اللي" الذي هو مطل.
* * *
فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن
لزمكم القيامُ له بها، فتغيروها وتبدلوا، أو تعرضوا عنها
فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دينَ الرجل فيدافعه
بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، (1) كما قال
الأعشى:
يَلْوِينَني دَيْنِي النَّهارَ، وأَقْتَضِي ... دَيْنِي إذَا
وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، فإنه
أراد:"فإن الله كان بما تعملون"، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم
إياها، وإعراضكم عنها
__________
(1) انظر مراجع تفسير"اللي" فيما سلف ص: 309، تعليق: 5 وفي
المطبوعة"على ما أوجب عليه"، والصواب من المخطوطة.
(2) ديوانه: 151، واللسان (لوى) و (وقذ) ، من أبيات، جياد
أولها فيما قبله: وَأَرَى الغَوَانِي حِينَ شِبْتُ هَجَرْنَنِي
... أَنْ لا أَكُونَ لَهُنّ مِثْلِيَ أَمْرَدَا
إنَّ الغَوَانِي لا يُوَاصِلْنَ امْرَءًا ... فَقَدَ
الشَّبَابَ، وَقَدْ يَصِلْنَ الأَمْرَدَا
بَلْ لَيْتَ شِعْرِي! هَلْ أَعُودَنْ نَاشِئًا ... مِثْلِي
زُمَيْنَ أَحُلُّ بُرْقَةَ أَنْقَدَا
إذْ لِمَّتِي سَوْدَاءُ أَتْبَعُ ظِلَّهَا ... دَدَنًا قُعُودَ
غَوَايَةٍ أَجْرِي دَدَا
يَلْوِينَنِي دَيْنِي............... ... . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
هذا، ورواية الديوان: "وأجتزى ديني"، يقال: "اجتزى دينه" أي:
تقاضاه، ومثله"تجازى دينه". و"وقذه": ضربه حتى استرخى وأشرف
على الموت. و"وقذه النعاس" مجاز منه، أي صاروا كأنهم سكارى قد
استرخوا وهمدوا من النعاس.
(9/311)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
بكتمانكموها="خبيرًا"، يعني ذا خبرة وعلم
به، يحفظ ذلك منكم عليكم، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة،
المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. يقول: فاتقوا ربكم في
ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى
رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين آمنوا"، بمن
قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند
الله="آمِنوا بالله ورسوله"، يقول: صدّقوا بالله وبمحمد رسوله،
أنه لله رسولٌ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم="والكتاب
الذي نزل على رسوله"، يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من
الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن="والكتاب الذي أنزل
من قبل"، يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب
الذي نزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة والإنجيل.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله
وكتبه، وقد سماهم"مؤمنين"؟
قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم"مؤمنين"، وإنما وصفهم
بأنهم"آمنوا"، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم
كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين
__________
(1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/312)
بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل
والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما= وصنف أهل إنجيل، وهم
مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذِّبون بمحمد صلى الله
عليه وسلم والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم:"يا أيها الذين آمنوا"،
يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل= "آمنوا بالله ورسوله"
محمد صلى الله عليه وسلم= "والكتاب الذي نزل على رسوله"، فإنكم
قد علمتم أن محمدًا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم= وبالكتاب
الذي أنزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن
تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لأن كتابكم يأمركم
بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم
محمدًا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما
أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله:"يا أيها
الذين آمنوا". (1)
* * *
وأما قوله:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر"، فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد
نبوّته فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا.
وإنما قال تعالى ذكره:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر"، ومعناه: ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند
الله (2) = لأن جحود شيء من
__________
(1) كان ينبغي أن يذكر أبو جعفر هنا، اختلاف المختلفين في
قراءة"أَنْزَلَ" و"أُنْزِلَ"= و"نَزَّلّ" و"نُزِّلَ"، وظاهر
أنه نسي أن يذكرها هنا، فأخرها إلى موضع الآتي في ص: 323،
تعليق: 1.
(2) كان في المطبوعة: "ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم
فيجحد نبوته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، لأن جحود شيء من ذلك ... "، أسقط من نص المخطوطة ما
أثبت، لأنه قد وقع في المخطوطة خطأ اضطرب معه الكلام، فلم يحسن
الناشر تصحيحه، فحذف حتى يصل بعض الكلام ببعض، فأساء غاية
الإساءة.
والخطأ الذي كان في المخطوطة هو أنه ساق الجملة كما كتبتها،
إلا أن كتب: "وإنما قال تعالى ذكره: ومن يكفر بالله فهو يكفر
بالله وملائكته وكتبه ورسله" وبين أن"فهو يكفر" سبق قلم من
الناسخ، والصواب إسقاطها فيستقيم الكلام كما أثبته.
وسياق الجملة: "وإنما قال تعالى ذكره كذا وكذا ... ومعناه ...
كذا وكذا، لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه".
(9/313)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ذلك بمعنى جحود جميعه، ولأنه لا يصح إيمان
أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، (1)
والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال:"ومن يكفر بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، بعقب خطابه أهل الكتاب
وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، تهديدًا منه
لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم
الآخر، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.
* * *
وأما قوله:"فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد
السبيل، وجار عن محجَّة الطريق، إلى المهالك= ذهابًا وجورًا
بعيدًا. لأن كفر من كفر بذلك، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه
لعباده. والخروج عن دين الله، الهلاك الذي فيه البوار، والضلال
عن الهدى هو الضلال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا
(137) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم
آمنوا= يعني: النصارى= بعيسى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا
بمحمد="لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا".
__________
(1) لما أدخل الناشر الأول ذلك الحذف على الكلام، اضطر في هذا
الموضع أن يجعل العبارة: "وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق
... " فزاد"ذلك" في الكلام.
(2) انظر تفسير"الضلال البعيد" فيما سلف ص: 206، 207
ومعنى"الضلال" 1: 195 / 2: 495، 496، وغيرهما في فهارس اللغة.
(9/314)
*ذكر من قال ذلك:
10697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم
ازدادوا كفرًا"، وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم
كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه=
ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال
الله:"لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا"، يقول: لم يكن
الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى، وقد كفروا بكتاب الله
وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
10698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا"،
قال: هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى،
ثم قال:"ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، يقول: آمنوا
بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه
وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل النفاق، أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم
آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم
كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في
ذلك من كان مثلهم="ثم ازدادوا كفرًا"، قال: تَمُّوا على كفرهم
حتى ماتوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "على كفرهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "نموا على كفرهم" بالنون، والصواب ما أثبت. و
"تم على الشيء": أقام عليه ولزمه.
(9/315)
10700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثم
ازدادوا كفرًا"، قال: ماتوا. (1)
10701- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال:
حتى ماتوا. (2)
10702- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هؤلاء المنافقون،
آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. (3)
* * *
وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا
في كفرهم فتابوا، فلم تقبل منهم التوبة فيها، مع إقامتهم على
كفرهم.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
10703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي
هند، عن أبي العالية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم
كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، أذنبوا في
شركهم ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم. ولو تابوا من الشرك لقُبِل
منهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال عنى
بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم
إياه، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه
إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد
بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لأن الآية
قبلها في قصص
__________
(1) يعني بقوله: "ماتوا"، أي: ماتوا عليه، وهذا من الاختصار في
الحديث.
(2) في المخطوطة: "حين ماتوا"، أي: حين ماتوا عليه، وهي صواب
أيضًا.
(3) انظر تفسير"ثم ازدادوا كفرًا" فيما سلف 6: 579-582.
(9/316)
أهل الكتابين= أعني قوله:"يا أيها الذين
آمنوا آمنوا بالله ورسوله"= ولا دلالة تدلُّ على أن قوله:"إن
الذين آمنوا ثم كفروا"، منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه
بما قبله أولى، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه.
* * *
وأما قوله:"لم يكن الله ليغفر لهم"، فإنه يعني: لم يكن الله
ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم، بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه
يفضحهم على رؤوس الأشهاد="ولا ليهديهم سبيلا" يقول: ولم يكن
ليسدِّدهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها،
عقوبة لهم على عظيم جُرمهم، وجرأتهم على ربهم.
* * *
وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا، انتزاعًا منهم بهذه
الآية، (1) وخالفهم على ذلك آخرون.
ذكر من قال: يستتاب ثلاثًا.
10704- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن
علي عليه السلام قال: إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ
هذه الآية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا".
10705- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن
عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ:"إن
الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"،.
10706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد
الكريم، عن رجل، عن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا.
* * *
وقال آخرون: يستتابُ كلما ارتدّ.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) يقال: "انتزع معنى آية من كتاب الله"، إذا استنبطه
واستخرجه.
(9/317)
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
10707- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم قال: يستتاب المرتدّ
كلما ارتدّ.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة
الأولى، الدليل الواضح على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن
الإسلام حكمُ المرة الأولى، في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه
حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى
إسلامُه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه
مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثم يكون دمه مباحًا مع وجودها،
إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها، ما
يجب التسليم له من أصل محكمٍ، فيخرج من حكم القياس حينئذ.
* * *
القول في تأويل قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (138) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله (1) جل ثناؤه:"بشر المنافقين"، أخبر
المنافقين.
* * *
وقد بينَّا معنى"التبشير" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
="بأن لهم عذابًا أليمًا"، يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله
على نفاقهم="عذابًا أليمًا"، وهو المُوجع، وذلك عذاب جهنم (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك"، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 / 6: 287، 369، 370،
411.
(3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/318)
الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) }
قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"الذين يتخذون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين"، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه:
يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في
ديني"أولياء"= يعني: أنصارًا وأخِلاء (1) ="من دون المؤمنين"،
يعني: من غير المؤمنين (2) ="أيبتغون عندهم العزة"، يقول:
أيطلبون عندهم المنعة والقوة، (3) باتخاذهم إياهم أولياء من
دون أهل الإيمان بي؟ ="فإن العزة لله جميعًا"، يقول: فإن الذين
اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم، هم الأذلاء
الأقِلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزَّة
والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي
يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء، فيعزُّهم ويمنعهم؟
* * *
وأصل"العزة"، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة،"عَزَاز".
وقيل:"قد استُعِزَّ على المريض"، (4) إذا اشتدَّ مرضه وكاد
يُشفى. ويقال:"تعزز اللحمُ"، إذا اشتد. ومنه قيل:"عزّ عليّ أن
يكون كذا وكذا"، بمعنى: اشتد عليَّ. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف ص: 247، تعليق: 5، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 247، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 202، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(4) "استعز" بالبناء للمجهول، وفي الحديث: "أنه استعز برسول
الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه"، أي: اشتد به
المرض وغلبه وأشرف على الموت.
وقوله: "وكاد يشفى"، أي: يشرف على الهلاك، أشفى يشفى إشفاء.
(5) انظر تفسير"العزة" و"عزيز" فيما سلف 3: 88 / 4: 244 / 6:
168، 271، 476. هذا، ولم يفسر أبو جعفر معنى"العزة" تفسيرًا
مطولا إلا في هذا الموضع، وهذا دليل آخر على طريقته في اختصار
تفسيره هذا.
(9/319)
وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
القول في تأويل قوله: {وَقَدْ نزلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"بشر المنافقين"= الذين
يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ="وقد نزل عليكم في
الكتاب"، يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار
أنصارًا وأولياءَ بعد ما نزل عليهم من القرآن،"أن إذا سمعتم
آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في
حديث غيره"، يعني: بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار
الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها="حتى يخوضوا
في حديث غيره"، يعني بقوله:"يخوضوا"، يتحدثوا حديثًا غيره="بأن
لهم عذابًا أليمًا". (1)
وقوله:"إنكم إذًا مثلهم"، يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم
من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله=
يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم،
لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله
يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد
أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم
في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.
* * *
__________
(1) أراد أبو جعفر بهذه الفقرة أن يبين أن قوله في الآية
الأولى: "بأن لهم عذابًا أليمًا"، مقدم ومعناه التأخير، فلذلك
قال في أول الكلام"بشر المنافقين" ثم استطرد في ذكر الآيتين
بعدها، ثم ختمها بختام الأولى.
(9/320)
وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي
عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند
خوضهم في باطلهم.
* * *
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون، (1) تأوُّلا
منهم هذه الآية أنه مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض
أهله فيه.
*ذكر من قال ذلك:
10708- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن
هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل،
قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكَذب ليُضحك بها
جلساءَه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي،
فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله:"أن إذا سمعتم
آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في
حديث غيره إنكم إذًا مثلهم"؟
10709- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن
عبد العزيز قومًا على شرابٍ فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إنّ
هذا صائم! فتلا"فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم
إذًا مثلُهم".
10710- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن إذا سمعتم
آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها"، وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، [سورة
الأنعام: 153] ، وقوله: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا من القرآن.
قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف
__________
(1) في المطبوعة: "كان جماعة من الأمة الماضية"، والصواب من
المخطوطة.
(9/321)
والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم
بالمِراء والخصومات في دين الله.
* * *
وقوله:"إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا"،
يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة
في النار، فموفِّق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما
اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين، وتوَازرُوا على
التخذيل عن دين الله= وعن الذي ارتضاهُ وأمر به= وأهلِه. (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وقد نزل عليكم في الكتاب".
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم"النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها، على
وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي"، على معنى: وقد
نزل الله عليكم.
* * *
وقرأ بعض المكيين: (وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ) بفتح"النون"،
وتخفيف"الزاي"، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
* * *
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما
يحتمله الكلام. غير أن الذي أختارُ القراءة به، قراءة من قرأ:
(وَقَدْ نُزِّلَ) بضم"النون" وتشديد"الزاي"، على وجه ما لم يسم
فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل، (2) على
معنى:"الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"="وقد نزل
عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها" إلى
قوله:"حديث غيره"="أيبتغون عندهم العزة". فقوله:"فإن العزة لله
جميعًا"، يعني التأخير،
__________
(1) قوله: "وأهله" مجرور معطوف على قوله"عن دين الله" والسياق:
"عن دين الله ... وعن أهله".
(2) انظر ما سلف ص: 320 وتعليق: 1.
(9/322)
فلذلك كان ضم"النون" من قوله:"نزل" أصوب
عندنا في هذا الموضع.
* * *
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (1) "والكتاب الذي نزل على رسوله
والكتاب الذي أنزل من قبل".
فقرأه بفتح (نزلَ) و (أَنزلَ) أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب
الذي نزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، (2) بمعنى
ما لم يسم فاعله.
* * *
وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من
الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله:"آمنوا بالله
ورسوله".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وكذا اختلفوا"، وأثبت ما في المخطوطة. وذكر
هذه القراءة، كان ينبغي أن يكون في موضعه عند آخر تفسير الآية،
كما جرى عليه منهجه في كل ما سلف. وانظر ص: 313 تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "كلاهما"، والصواب في المخطوطة.
(9/323)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين يتربصون بكم"، الذين
ينتظرون، أيها المؤمنون، (1) بكم="فإن كان لكم فتح من الله"،
يعني: فإن فتح الله
__________
(1) انظر تفسير"التربص" فيما سلف 4: 456، 515 / 5: 79.
(9/323)
عليكم فتحًا من عدوكم، فأفاء عليكم فَيْئًا
من المغانم="قالوا" لكم="ألم نكن معكمْ"، نجاهد عدوّكم ونغزوهم
معكم، فأعطونا نصيبًا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال
معكم="وإن كان للكافرين نصيب"، يعني: وإن كان لأعدائكم من
الكافرين حظّ منكم، بإصابتهم منكم (1) ="قالوا"، (2) يعني: قال
هؤلاء المنافقون للكافرين="ألم نستحوذ عليكم"، ألم نغلب عليكم
حتى قهرتم المؤمنين="ونمنعكم" منهم، بتخذيلنا إياهم، حتى
امتنعوا منكم فانصرفوا="فالله يحكم بينكم يوم القيامة"، يعني:
فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم
بالقضاء الفاصل، (3) بإدخال أهل الإيمان جنّته، وأهل النفاق مع
أوليائهم من الكفار ناره="ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا"، يعني: حجة يوم القيامة. (4)
وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من
الجنة، ولا المؤمنين مدخَل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على
المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم، إن أدخلوا مدخلهم: ها أنتم كنتم
في الدنيا أعداءَنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في
النار، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم
تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو"السبيل" الذي وعد الله
المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10711- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"فإن كان لكم فتح من الله". قال: المنافقون
يتربَّصون بالمسلمين="فإن كان لكم فتح"، قال: إن أصاب المسلمون
من عدوهم غنيمة
__________
(1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف ص 212، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة وحدها: "وقالوا ألم نكن معكم"، وهو سهو من
الناشر الأول.
(3) انظر تفسير"الحكم" فيما سلف ص: 175.
(4) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/324)
قال المنافقون:"ألم نكن معكم"، قد كنا معكم
فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون="وإن كان للكافرين نصيب"، يصيبونه
من المسلمين، قال المنافقون للكافرين:"ألم نستحوذ عليكم
ونمنعكم من المؤمنين"، قد كنا نثبِّطهم عنكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ألم نستحوذ عليكم".
فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم.
*ذكر من قال ذلك:
10712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ألم نستحوذ عليكم"، قال: نغلب
عليكم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبيِّن لكم أنّا معكم على ما أنتم
عليه.
*ذكر من قال ذلك:
10713- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"ألم نستحوذ عليكم"، ألم نبين لكم أنّا معكم على ما
أنتم عليه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى. وذلك أن من تأوله
بمعنى:"ألم نبين لكم"، إنما أراد -أن شاء الله-: ألم نغلب
عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم.
* * *
وأصل"الاستحواذ" في كلام العرب، فيما بلغنا، الغلبة، ومنه قول
الله جل ثناؤه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) ، [سورة المجادلة: 19] ، بمعنى:
غلب عليهم. يقال منه:"حاذ عليه واستحاذ، يحيذ ويستحيذ، وأحاذ
(1)
__________
(1) قوله: "أحاذ يحيذ"، لم أجده في معاجم اللغة، وهو صحيح في
العربية، وقالوا مكانه: "أحوذ ثوبه" إذا ضمه، وجاءوا ببيت لبيد
الآتي شاهدا عليه. وانظر ما سيأتي بعد بيت لبيد.
(9/325)
يحيذ". ومن لغة من قال:"حاذ"، قول العجاج
في صفة ثور وكلب:
يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيّ (1)
وقد أنشد بعضهم:
يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِيُّ (2)
وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال"أحاذ"، قول لبيد في صفة
عَيْرٍ وأتُنٍ: (3)
إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا ... وَأَوْرَدَها
عَلَى عُوجٍ طِوَالِ (4)
يعني بقوله:"وأحوذ جانبيها"، غلبها وقهرَها حتى حاذ كلا
جانبيها، فلم يشذّ منها شيء.
وكان القياس في قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ)
أن يأتي:"استحاذ عليهم"، لأن"الواو" إذا كانت عين الفعل وكانت
متحركة بالفتح وما قبلها ساكن، جعلت العرب حركتها في"فاء"
الفعل قبلها، وحوَّلوها"ألفًا"، متبعة حركة ما قبلها،
كقولهم:"استحال هذا الشيء عما كان عليه"، من"حال يحول"=
و"استنار
__________
(1) ديوانه: 71، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 141، واللسان
(حوذ) (حوز) ، ورواية الديوان: يَحُوذُها وَهْوَ لَهَا
حُوذِيُّ ... خَوْفَ الخِلاطِ فَهْوَ أَجْنَبِيُّ
كَمَا يَحُوذُ الفِئَةَ الكَمِيُّ
وفسروا"يحوذها": يسوقها سوقًا شديدًا، ومثله"يحوزها" في
الرواية الآتية.
(2) انظر اللسان (حوذ) و (حوز) .
(3) "العير" حمار الوحش، و"الأتن" جمع"أتان"، وهي أنثاه.
(4) ديوانه: القصيدة: 17، البيت: 39، واللسان (حوذ) ، وقوله:
"إذا اجتمعت" يعني إناث حمار الوحش حين دعاها إلى الماء، فضمها
من جانبيها، يأتيها من هذا الجانب مرة، ومن هذا مرة حتى غلبها
ولم شتاتها، و"العوج الطوال" قوائمه، وبعد البيت: رَفَعْنَ
سُرَادِقًا في يَوْمِ رِيحٍ ... يُصَفَّقُ بين مَيْلٍ
واعْتِدالِ
يعني غبارها، ارتفع كأنه سرادق تصفقه الريح وتميله مرة هكذا
ومرة هكذا، فهو يميل ويعتدل.
(9/326)
فلان بنور الله"، من"النور"= و"استعاذ
بالله" من"عاذ يعوذ". وربما تركوا ذلك على أصله كما قال
لبيد:"وأحوذ"، ولم يقل"وأحاذ"، وبهذه اللغة جاء القرآن في
قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) .
* * *
وأما قوله:"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا"، فلا خلاف بينهم في أن معناه:
ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا.
ذكر الخبر عمن قال ذلك:
10714- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ذَرّ،
عن يُسَيْع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله
عليه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله:"ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، وهم يقاتلوننا فيظهرون
ويقتلون؟ قال له عليّ: ادْنُه، ادْنُهْ! ثم قال:"فالله يحكم
بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا"، يوم القيامة.
10715- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يسيع الكندي في
قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: جاء
رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية:"ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا"؟ فقال علي: ادْنُهْ،"فالله يحكم
بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله"، يوم القيامة،"للكافرين على
المؤمنين سبيلا".
10716- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الحضرمي، عن علي بنحوه.
10717- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن شعبة قال: سمعت
(9/327)
سليمان يحدّث، عن ذر، عن رجل، عن عليّ رضي
الله عنه أنه قال في هذه الآية:"ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا"، قال: في الآخرة. (1)
10718- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن
السدي، عن أبي مالك:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا"، يوم القيامة.
* * *
10719- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: ذاك يوم القيامة.
وأما"السبيل"، في هذا الموضع، فالحجة، (2) كما:-
10720- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا"، قال: حجةً.
* * *
__________
(1) الآثار: 10714 - 10717-"ذر" (بفتح الذال) هو: "ذر بن عبد
الله المرهبي" ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم:
2918.
و"يسيع بن معدان الحضرمي، والكندي"، تابعي ثقة. مضى برقم:
2918. وكان في المطبوعة هنا: "نسيع" بالنون، وهو خطأ صرف.
(2) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف قريبًا ص: 324، تعليق: 4،
والمراجع هناك.
(9/328)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) }
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق
ربه"، ووجه"خداع الله إياهم"، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك. (1)
* * *
فتأويل ذلك: إنّ المنافقين يخادعون الله، بإحرازهم بنفاقهم
دماءهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم
بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم
واعتقادهم الكفرَ، استدراجًا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في
الآخرة، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم، كما:-
10721- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إن المنافقين يخادعون الله وهو
خادعهم"، قال: يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين
كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه،
فيقومون في ظلمتهم، ويُضرب بينهم بالسُّور.
10722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال:
نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان، (2) وفي
المنافقين="يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: مثل قوله
في"البقرة": (يُخَادِعُونَ اللَّهَ
__________
(1) انظر ما سلف 1: 272 - 277، ثم: 301 -306، تضمينًا.
(2) "أبو عامر بن النعمان"، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة،
وأظنه قد أسقط الناسخ من اسمه ما أنا مثبته، فإن المذكور مع
عبد الله بن أبي بن سلول في المنافقين هو: "أبو عامر عبد عمرو
بن صيفي بن النعمان، أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو الذي يقال
له"أبو عامر الراهب"، وهو أبو"حنظلة الغسيل" يوم أحد. وكان أبو
عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان في قومه من الأوس
شريفًا مطاعًا. فلما جاء الله بالإسلام، أبى إلا الكفر والفراق
لقومه الأوس، فخرج مفارقًا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله: "لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا:
الفاسق". انظر سيرة ابن هشام 2: 234، 235.
هذا، ولم أجد أحدًا غيره في المنافقين أو غيرهم يقال له: "أبو
عامر بن النعمان"، فثبت عندي أن ما قلته هو الصواب.
(9/329)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلا أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة: 9] . (1) قال: وأما
قوله:"وهو خادعهم"، فيقول: في النور الذي يعطَى المنافقون مع
المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سُلب، وما ذكر الله
من قوله (2) (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة
الحديد: 13] . قال قوله:"وهو خادعهم".
10723- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن
حسين، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ:"إن المنافقين يخادعون الله
وهو خادعهم"، قال: يُلقَى على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به،
حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ المنافقين، ومضى
المؤمنون بنورهم، فينادونهم: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) إلى قوله: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ)
[سورة الحديد: 13، 14] . قال الحسن: (3) فذلك خديعة الله
إياهم. (4)
* * *
وأما قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"،
فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئًا من الأعمال التي
فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرُّب بها إلى الله، لأنهم
غير موقنين بمعادٍ ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا
__________
(1) في المطبوعة: "وما يخادعون إلا أنفسهم"، وهي إحدى قراءتين،
وأثبت قراءتنا في مصحفنا، وهي أيضًا القراءة التي أوجب لها
الصحة أبو جعفر فيما سلف 1: 277.
(2) في المخطوطة: "وما ذكر منه انظرونا نقتبس من نوركم"، وهو
ناقص، والذي في المطبوعة مقارب للصواب.
(3) في المطبوعة: "فتلك خديعة الله"، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو صواب.
(4) الأثر: 10723 -"سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي"، مضى
برقم: 3471، 3879، 6462.
(9/330)
من الأعمال الظاهرة إبقاءً على أنفسهم، (1)
وحذارًا من المؤمنين عليها أن يُقتلوا أو يُسلبوا أموالهم. فهم
إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى
إليها، رياءً للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم، لأنهم غير
معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى، (2)
كما:-
10724- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى"، قال: والله
لولا الناسُ ما صَلَّى المنافق، ولا يصلِّي إلا رياء وسُمْعة.
10725- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، قال:
هم المنافقون، لولا الرياء ما صلُّوا.
* * *
وأما قوله:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فلعل قائلا أن يقول:
وهل من ذكر الله شيء قليل؟.
قيل له: إن معنى ذلك= بخلاف ما ذهبت=: ولا يذكرون الله إلا ذكر
رياء، (3) ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال،
لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية. فلذلك سماه
الله"قليلا"، لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغًي به التقرّب
إلى الله، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو، وإن كثر، من
وجه نَصَب عامله وذاكره، (4) في معنى السراب الذي له ظاهرٌ
بغير حقيقة ماء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بقاء على أنفسهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الرياء" فيما سلف 5: 521، 522 / 8: 356.
(3) في المطبوعة: "إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما
معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرًا رياء"، وأثبت ما في
المخطوطة، فإنه صواب، وقوله: "بخلاف ما ذهبت" اعتراض في
الكلام، وضعته بين خطين.
(4) "النصب" (بفتحتين) : التعب.
(9/331)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10726- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب
قال: قرأ الحسن:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلَّ
لأنه كان لغير الله.
10727- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلّ ذكر
المنافق، لأن الله لم يقبله. وكل ما رَدَّ الله قليل، وكل ما
قبلَ الله كثير.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى
هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"مذبذبين"، مردّدين.
* * *
وأصل"التذبذب"، التحرك والاضطراب، كما قال النابغة:
أَلم تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ
مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ (1)
* * *
وإنما عنى الله بذلك: أن المنافقين متحيِّرون في دينهم، لا
يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة،
ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارَى بين ذلك، فمثلهم
المثلُ الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-
__________
(1) مضى البيت وتخريجه وشرحه، في 1: 105.
(9/332)
10728- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا
عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ المنافق كمثل الشَّاة
العائرة بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا
تدري أيَّهُما تَتْبع!
10729- وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب،
فَوقفه على ابن عمر، ولم يرفعه قال، حدثنا عبد الوهاب مرتين
كذلك. (1)
10730- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا أبو روح قال، حدثنا ابن
عياش قال، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (2)
* * *
__________
(1) الأثران: 10728، 10729 - إسناده صحيح.
"عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي" ثقة. مضى مرارًا كثيرة.
"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم" ثقة، مضى مرارًا.
وهذا الأثر رواه مسلم 17: 128، من طريق محمد بن المثنى، عن عبد
الوهاب الثقفي، بلفظه، إلا أنه لم يذكر فيه: "لا تدري أيهما
تتبع".
ورواه أيضًا من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن
عبيد الله.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الله.
ورواه أحمد في المسند: 5079، من طريق إسحاق بن يوسف، عن عبيد
الله، مع اختلاف يسير في لفظه.
ورواه أيضًا في المسند: 5790، من طريق محمد بن عبيد، عن عبيد
الله، بمثل لفظ أبي جعفر.
ورواه بمعناه في المسند، الآثار رقم: 472، 5359، 5546، 5610.
واستوفى تخريجه أخي السيد أحمد في شرح المسند، وزاد في تخريجه
الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 611، فراجعه هناك.
وكان في المطبوعة: "لا تدري أيتهما تتبع"، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو مطابق لرواية أحمد في المسند.
"الشاة العائرة": هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع.
من قولهم: "عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عيارًا"، ذهب كأنه
منفلت من صاحبه، فهو يتردد هنا وهنا.
وقوله: "تعير إلى هذه مرة"، أي: تذهب في ترددها إلى هذه مرة،
وإلى هذه مرة.
(2) الأثر: 10730 - مكرر الأثرين السالفين."عمران بن بكار
الكلاعي" شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 2071، وروى عنه الطبري في
مواضع كثيرة سالفة.
و"أبو روح" هو: "الربيع بن روح الحمصي"، أبو روح الحضرمي ثقة.
مضى برقم: 8164.
و"ابن عياش": هو: "إسماعيل بن عياش الحمصي"، مضى برقم 5445،
8164. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن عباس"، وهو خطأ.
وطريق ابن عياش، عن عبيد الله، مرفوعًا، أشار إليها الحافظ ابن
كثير في تفسيره 2: 611.
(9/333)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10731- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى
هؤلاء"، يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين.
10732- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول:
ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرِّحين بالشرك. قال: وذُكر
لنا أن نبيّ الله عليه السلام كان يضرب مَثَلا للمؤمن والمنافق
والكافر، كمثل رَهْط ثلاثة دَفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقَطع،
ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر: أن
هلم إليَّ، فإنيّ أخشى عليك! وناداه المؤمن: أن هلم إليّ، فإن
عندي وعندي! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردَّد بينهما
حتى أتى عليه آذيٌّ فغرَّقه. (1) وإن المنافق لم يزل في شك
وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: مثل المنافق كمثل ثاغِيَة
بين غنمين، (2) رأت غَنمًا على نَشَزٍ
__________
(1) في المطبوعة: "حتى أتى عليه الماء فغرقه"، وفي المخطوطة:
"حتى أتى عليه أذى يغرقه"، وصواب ذلك كله ما أثبت.
"الآذى": الموج الشديد. وقال ابن شميل: "آذى الماء"، الأطباق
التي تراها ترفعها من متنه الريح، دون الموج.
(2) "الثاغية": الشاة."ثغت الشاة تثغو ثغاء": صاحت.
(9/334)
فأتتها فلم تعرف، (1) ثم رأت غنمًا على
نَشَزٍ فأتتها وشامَّتها فلم تعرف. (2)
10733- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"مذبذبين"، قال: المنافقون.
10734- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى
هؤلاء"، يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى
هؤلاء اليهود.
10735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، قوله:"مذبذبين بين ذلك"، قال: لم يخلصوا الإيمان
فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك.
10736- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"مذبذبين بين ذلك"، بين الإسلام والكفر="لا إلى هؤلاء ولا
إلى هؤلاء".
* * *
وأما قوله:"ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا"، فإنه يعني: من
يخذُله الله عن طريق الرشاد، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله
إليه عباده. يقول: من يخذله الله عنه فلم يوفقه له="فلن تجد
له"، يا محمد="سبيلا"، يعني: طريقًا يسلُكه إلى الحق غيره.
وأيّ سبيل يكون له إلى الحق غير الإسلام؟ وقد أخبر الله جل
ثناؤه: أنه من يبتغ غيره دينًا فلن يُقبل منه، ومن أضله الله
عنه فقد غَوَى فلا هادي له غيره. (3)
* * *
__________
(1) "النشز": المتن المرتفع من الأرض أو الوادي، كأنه رابية.
(2) "شامتها": دنت إليها وشمتها لتعرف أهي أخواتها أم غيرها.
ومنه قيل"شاممت فلانًا" إذا قاربته، ابتغاء أن تعرف ما عنده
بالاختبار والكشف. وهو"مفاعلة" من"الشم".
(3) انظر تفسير: "الضلال"، و"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/335)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) }
قال أبو جعفر: وهذا نهي من الله عبادَه المؤمنين أن يتخلَّقوا
بأخلاق المنافقين، الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون
المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة
أعدائه.
يقول لهم جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا
توالوا الكفَّار فتؤازروهم من دون أهل ملَّتكم ودينكم من
المؤمنين، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين. ثم قال جل
ثناؤه: متوعدًا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين،
إن هو لم يرتدع عن موالاته، وينزجر عن مُخَالَّته (1) = أن
يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه
وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابًا أليمًا=:"أتريدون"، أيها
المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ممن قد آمن بي
وبرسولي="أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، يقول: حجة، (2)
باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما
استوجبه أهلُ النفاق الذين وصف لكم صفتهم، وأخبركم بمحلّهم
عنده="مبينًا"، (3) يعني: يبين عن صحتها وحقيقتها. (4) يقول:
لا تعرَّضوا لغضب الله، بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم
على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهلِ الكفر به.
* * *
__________
(1) السياق: "ثم قال جل ثناؤه متوعدًا ... أن يلحقه ... "
(2) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف 7: 279.
(3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص224، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: "عن صحتها وحقيتها"، والصواب من المخطوطة.
وكأن الناشر كان يستنكر أن تكون"الحقيقة" بمعنى أنها حق!!
ولكنها صواب بلا شك، ومن أجل هذا كان الناشر يضع
مكان"حقيقتها""حقيتها" في كثير من المواضع، أشرت إليها فيما
سلف من التعليقات. وانظر ما سيأتي ص: 360، تعليق: 4.
(9/336)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا (145)
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10737- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، قال:
إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرًا مبينًا.
10738- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا
سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو
حجّة.
10739- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سلطانًا مبينًا"، قال:
حُجَّة.
10740- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا (145) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار"، إن المنافقين في الطَّبَق الأسفل من أطباق
جهنم.
* * *
__________
(1) هذه الآثار في بيان معنى"السلطان"، هنا، دالة على أن أبا
جعفر كان يختصر تفسيره، فإن تفسير"سلطان" بمعنى"حجة" قد سلف 7:
279، فلم يأت كعادته بالأخبار الدالة على تفسيره كذلك هناك.
(9/337)
وكل طبَق من أطباق جهنم:"درك". وفيه
لغتان،"دَرَك"، بفتح"الراء" و"دَرْك" بتسكينها. فمن
فتح"الراء"، جمعه في القلة"أدْرَاك"، وإن شاء جمعه في
الكثرة"الدروك". ومن سكن"الراء" قال:"ثلاثة أدرُك"،
وللكثير"الدروك".
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة (فِي الدَّرَكِ)
بفتح"الراء".
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفة بتسكين"الراء".
قال أبو جعفر: وهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب، لاتفاق معنى ذلك، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في
قرأة الإسلام. غير أني رأيت أهل العلم بالعربيّة يذكرون أن
فتح"الراء" منه في العرب، أشهر من تسكينها. وحكوا سماعًا
منهم:"أعطني دَرَكًا أصل به حبلي"، (1) وذلك إذا سأل ما يصل به
حَبْله الذي قد عجز عن بلوغ الركيَّة. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10741- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن
كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار"، قال: في توابيت من حديد مُبْهَمة عليهم. (3)
10742- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة،
__________
(1) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 142. وعجيب من أبي
جعفر أن يستدل بهذا، ويجعله أشهر في كلام العرب. فإن"الدرك"
هنا بمعنى: الحبل، لأنه يدرك به قعر البئر، وهو عن
معنى"الدرك"، وهو الطبق، بمعزل!!
(2) "الركية": البئر.
(3) "مبهمة": مصمتة مغلقة، لا يهتدي لمكان فتحها، أو إلى مخرج
منها.
(9/338)
عن سلمة، عن خيثمة، عن عبد الله قال: إن
المنافقين في توابيتَ من حديد مقفلةٍ عليهم في النار.
10743- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن
عاصم، عن ذكوان، عن أبي هريرة:"إن المنافقين في الدرك الأسفل
من النار"، قال: في توابيت تُرْتَجُ عليهم. (1)
10744- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، يعني: في أسفل
النار.
10745- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال لي عبد الله بن كثير قوله:"في الدرك الأسفل
من النار"، قال: سمعنا أن جهنم أدْراك، منازل. (2)
10746- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين
في الدرك الأسفل من النار"، قال، توابيت من نار تُطْبَقُ
عليهم.
* * *
وأما قوله:"ولن تجد لهم نصيرًا"، فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء
المنافقين، يا محمد، من الله= إذا جعلهم في الدرك الأسفل من
النار= ناصرًا ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليمَ
عقابه. (3)
* * *
__________
(1) "أرتج الباب يرتجه": أغلقه إغلاقًا وثيقًا.
(2) قوله: "منازل" تفسير"أدراك" جمع"درك".
(3) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 247، تعليق: 6، والمراجع
هناك.
(9/339)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ
يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ
يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) }
قال أبو جعفر: وهذا استثناء من الله جل ثناؤه، استثنى التائبين
من نفاقهم إذا أصلحوا، وأخلصوا الدين لله وحده، وتبرءوا من
الآلهة والأنداد، وصدَّقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرِّين على
نِفاقهم حتى تُوافيهم مناياهم - في الآخرة، (1) وأن يدخلوا
مدَاخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلَّهم مع المؤمنين
محلَّ الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة. (2) ووعدهم من
الجزاء على توبتهم الجزيلَ من العطاء فقال:"وسوف يؤتي الله
المؤمنين أجرًا عظيمًا".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية:"إلا الذين تابوا"، أي: راجعوا
الحق، (3) وآبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما
جاء به من عند ربه من نفاقهم (4) ="وأصلحوا"، يعني: وأصلحوا
أعمالهم، فعملوا بما أمرهم الله به، وأدَّوا فرائضه، وانتهوا
عما نهاهم عنه، وانزجروا عن معاصيه (5) ="واعتصموا بالله"،
يقول: وتمسَّكوا بعهد الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يوفيهم مناياهم"، وهو كلام
بلا معنى."وافته منيته": أتته وأدركته وبلغته، وسياق هذه
الجملة: "أن يكونوا مع المصرين ... في الآخرة".
(2) في المطبوعة: "يسكنهم" بغير واو، وهو سهو من ناسخ أو طابع.
(3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف 1: 547 / 2: 72، 73، وغيرها
من المواضع في فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة: "وأبو إلا الإقرار"، وهو لا شيء، وإنما
الصواب ما أثبت من المخطوطة."آبوا": رجعوا.
(5) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 8: 88، وما سلف من فهارس
اللغة.
(9/340)
وقد دللنا فيما مضى قبل على أن"الاعتصام"
التمسك والتعلق. (1) فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه
الذي عهد في كتابه إلى خلقه، من طاعته وترك معصيته.
* * *
="وأخلصوا دينهم لله"، يقول: وأخلصوا طاعتَهم وأعمالهم التي
يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاءَ الناس، ولا على
شك منهم في دينهم، وامتراءٍ منهم في أن الله محصٍ عليهم ما
عملوا، فمجازي المحسن بإحسانه، (2) والمسيء بإساءته= ولكنهم
عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه، وجزاء المسيء
على إساءته، أو يتفضَّل عليه ربه فيعفو= متقرِّبين بها إلى
الله، مريدين بها وجه الله. فذلك معنى:"إخلاصهم لله دينهم".
= ثم قال جل ثناؤه:"فأولئك مع المؤمنين"، يقول: فهؤلاء الذين
وصف صفتَهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله
وإخلاصهم دينهم= أي: مع المؤمنين في الجنة، (3) لا مع
المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم، الذين أوعدهم الدَرَك
الأسفل من النار.
= ثم قال:"وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا"، يقول: وسوف
يُعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم، (4) على توبتهم وإصلاحهم
واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له، وعلى إيمانهم، (5) ثوابًا
عظيمًا (6) = وذلك: درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على
النِّفاق منازل في النار، وهي السفلى منها. لأن الله جل ثناؤه
وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد
المنافقين على نفاقهم
__________
(1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 8: 62، 63، 70.
(2) في المطبوعة: "فيجازي" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وإخلاصهم له مع المؤمنين.."، وأثبت الصواب
من المخطوطة، ولا معنى لتبديله.
(4) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "على إيمانهم" بغير واو، والصواب
إثباتها.
(6) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 202، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(9/341)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ما ذكر في كتابه.
* * *
وهذا القول هو معنى قول حذيفة بن اليمان، الذي:-
10747- حدثنا به ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن
مغيرة، عن إبراهيم قال، قال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا
منافقين! فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام
فتنحَّى. فلما تفرّقوا، مرَّ به علقمة فدعاه فقال: أمَا إنّ
صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ:"إلا الذين تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف
يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا".
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا (147) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وآمنتم"، ما يصنع الله، أيها المنافقون، بعذابكم، إن
أنتم تُبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم،
فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم
وأولادِكم، بالإنابة إلى توحيده، والاعتصام به، وإخلاصكم
أعمالَكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد صلى
الله عليه وسلم فصدَّقتموه، وأقررتم بما جاءكم به من عنده
فعملتم به؟
يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار، إن
أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما
نهاكم عنه. لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع
عنها ضُرًّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاءٌ منه له على
جرَاءته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه، وكفرانِه شكر نعمه عليه.
فإن
(9/342)
أنتم شكرتم له على نعمه، وأطعتموه في أمره
ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من
طاعةٍ له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم، ولم
تبلغه آمالكم (1) ="وكان الله شاكرا" لكم ولعباده على طاعتهم
إياه، بإجزاله لهم الثوابَ عليها، وإعظامه لهم العِوَض
منها="عليمًا" بما تعملون، أيها المنافقون، وغيركم من خير وشر،
وصالِح وطالح، محصٍ ذلك كله عليكم، محيط بجميعه، حتى يجازيكم
جزاءَكم يوم القيامة، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
وقد:-
10748- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا
عليمًا"، قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلم تبلغه" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.
(9/343)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
القول في تأويل قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ
اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم"الظاء".
* * *
وقرأه بعضهم: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، بفتح"الظاء".
* * *
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم"الظاء" في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أن يجْهر أحدُنا
بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو"الجهر بالسوء إلا من ظلم"،
يقول: إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره
له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك.
(9/343)
*ذكر من قال ذلك:
10749- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول"، يقول: لا يحب الله أن يدعوَ أحدٌ
على أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أرخَص له أن يدعو على
من ظلمه، وذلك قوله:"إلا من ظلم"، وإن صبر فهو خير له.
10750- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول
إلا من ظلم"، فإنه يحب الجهر بالسوء من القول.
10751- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
وكان الله سميعًا عليمًا"، عذر الله المظلوم كما تسمعون: أن
يدْعو.
10752- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا هشيم، عن
يونس، عن الحسن قال: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدْعُ عليه، ولكن
ليقل:"اللهم أعنِّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حُلْ
بينه وبين ما يريد"، (1) ونحوه من الدعاء.
* * *
= فـ"مَنْ"، على قول ابن عباس هذا، في موضع رفع. لأنه وجَّهه
إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه.
فكان معنى الكلام على قوله: لا يحب الله أن يُجْهر بالسوء من
القول، إلا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر به.
وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية. وذلك أن"مَن" لا
يجوز
__________
(1) في المخطوطة: "اللهم حل بيني وبين ما يريد"، وما في
المطبوعة أشبه بالصواب.
(9/344)
أن يكون رفعًا عندهم بـ "الجهر"، لأنها في
صلة"أنْ" ولم ينله الجحد، فلا يجوز العطف عليه. (1) من خطأٍ
عندهم أن يقال: (2) "لا يعجبني أن يقوم إلا زيد".
وقد يحتمل أن تكون"من" نصبًا، على تأويل قول ابن عباس، ويكون
قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، كلامًا تامًّا، ثم
قيل:"إلا من ظلم فلا حرج عليه"، فيكون من استثناء من الفعل،
وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جل
ثناؤه: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى
وَكَفَرَ) ، [سورة الغاشية: 22-23] ، وكقولهم:"إني لأكره
الخصومة والمِراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك"، ولم يذكر
قبله شيء من الأسماء. (3)
* * *
و"مَن"، على قول الحسن هذا، نصبٌ، على أنه مستثنى من معنى
الكلام، لا من الاسم، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس،
إذا وُجِّه"مَن"، إلى النصب، وكقول القائل:"كان من الأمر كذا
وكذا، اللهم إلا أن فلانًا جزاه الله خيرًا فَعَل كذا وكذا".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول،
إلا من ظُلم فيخبر بما نِيلَ منه.
*ذكر من قال ذلك:
10753- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن
إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل
فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده فيقول: أساءَ ضيافتي ولم
يُحسن!
10754- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "لأنها في صلة"أن"، و"أن" لم ينله الجحد"،
بزيادة"أن"، وما في المخطوطة صواب محض.
(2) في المطبوعة: "من الخطأ عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 293، 294.
(9/345)
ابن جريج، عن مجاهد:"إلا من ظلم"، قال: إلا
من أثَر ما قيل له. (1)
10755- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن
مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال:
هو الضيف المحوَّل رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك، الرجلَ ينزل بالرجل فلا يقريه، فينالُ
من الذي لم يقرِه.
*ذكر من قال ذلك:
10756- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا من ظلم"، قال:
إلا من ظلم فانتصر، يجهر بالسوء.
10757- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، مثله.
10758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي
نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد= وعن حميد الأعرج، عن
مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال:
هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص الله له أن يقول
فيه. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "آثر" بمد الهمزة، وهو خطأ."أثر الحديث
يأثره": حكاه ورواه وتحدث به. ومنه: "قول مأثور"، أي: يخبر
الناس به بعضهم بعضًا، وينقله خلف عن سلف.
(2) الأثر: 10758 -"إبراهيم بن أبي بكر المكي الأخنسي"، سمع
طاوسا ومجاهدًا. وروى عنه ابن أبي نجيح وابن جريج مترجم في
التهذيب.
وكان في المخطوطة: "إبراهيم عن أبي بكير"، وفي الإسناد الذي
يليه: 10759: "إبراهيم ابن أبي بكير". وهذا اختلاف مشكل.
ففي الإسناد الأول كما في المخطوطة، لم أعرف من يكون"إبراهيم".
أما "أبو بكير"، ففيهم"أبو بكير مرزوق التيمي الكوفي"، يروي عن
مجاهد، مضى برقم: 4305، وليس هذا فيما أرجح.
وأما "إبراهيم بن أبي بكير" في الإسناد الثاني، فمنهم:
"إبراهيم بن أبي بكير" ذكره البخاري في الكبير 1 / 1 / 277 في
ترجمة"إبراهيم أبو بكير"، وكأنه خطأ من ناسخ حذف"بن"=
و"إبراهيم بن أبي بكير بن إبراهيم" مترجم في ابن أبي حاتم 1 /
1 / 90، وكلاهما لم يذكر لأحد منها رواية عن مجاهد.
فمن أجل هذا صح عندي أنه الذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء
الله؛ لرواية"إبراهيم بن أبي بكر" عن مجاهد، ورواية ابن نجيح
عنه.
(9/346)
10759- وحدثني أحمد بن حماد الدولابي قال،
حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن
مجاهد،"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال:
هو في الضيافة، يأتي الرجل القوم، فينزل عليهم، فلا يضيفونه.
رخَّص الله له أن يقول فيهم. (1)
10760- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله:"لا يحب الله الجهر
بالسوء من القول" الآية، قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤدِّ إليه حق
ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال:"ضفتُ فلانًا فلم يؤدّ حق
ضيافتي"! فذلك جهرٌ بالسوء إلا من ظلم، حين لم يؤدِّ إليه
ضيافته.
10761- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال مجاهد: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بسوء. قال
مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاةٍ من الأرض فلم يضفه،
فنزلت:"إلا من ظلم"، ذكر أنه لم يضفه، لا يزيد على ذلك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، فإن الله
قد أذن له في ذلك.
__________
(1) الأثر: 10759 - كان في المخطوطة: "إبراهيم بن أبي بكير".
وانظر التعليق على الأثر السالف.
(9/347)
*ذكر من قال ذلك:
10762- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا
من ظلم"، يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق،
ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظُلم، فليس عليه جناح.
= فـ"مَن"، على هذه الأقوال التي ذكرناها، سوى قول ابن عباس،
في موضع نصب على انقطاعه من الأول. والعرب من شأنها أن تنصب ما
بعد"إلا" في الاستثناء المنقطع.
* * *
فكان معنى الكلام على هذه الأقوال، سوى قول ابن عباس: لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر
بما نٍيل منه، أو ينتصر ممن ظلمه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون بفتح"الظاء": (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، وتأولوه: لا
يحب الله الجهرَ بالسوء من القول، إلا من ظلم فلا بأس أن
يُجْهر له بالسوء من القول.
*ذكر من قال ذلك:
10763- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان
أبي يقرأ: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال ابن زيد: يقول: إلا من أقام
على ذلك النفاق، فيُجهر له بالسوء حتى ينزع. قال: وهذه مثل:
(وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ) ،
أن تسميه بالفسق= (بَعْدَ الإيمَانِ) ، بعد إذ كان مؤمنًا=
(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) ، من ذلك العمل الذي قيل له=
(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، [سورة الحجرات: 11] ، قال:
هو شرٌّ ممن قال ذلك. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "هو أشر ممن قال ذلك له"، والذي في المخطوطة
صواب محض.
(9/348)
10764- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول
إلا من ظَلم"، فقرأ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) حتى بلغ (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) . ثم قال بعد ما قال: هم في
الدرك الأسفل من النار= (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا) ، (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال: لا يحب الله أن يقول
لهذا:"ألست نافقت؟ ألست المنافق الذي ظلمتَ وفعلت وفعلت؟ "، من
بعد ما تاب="إلا من ظلم"، إلا من أقام على النفاق. قال: وكأن
أبي يقول ذلك له، ويقرأها: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) .
* * *
= فـ"مَنْ" على هذا التأويل نَصْبٌ لتعلقه بـ "الجهر".
* * *
وتأويل الكلام، على قول قائل هذا القول: لا يحب الله أن يجهر
أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول، إلا من ظلم منهم فأقام
على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:
(إِلا مَنْ ظُلِمَ) بضم"الظاء"، لإجماع الحجة من القرأة وأهل
التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح.
* * *
فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فالصواب في تأويل ذلك: لا
يحب الله، أيها الناس، أن يجهر أحدٌ لأحد بالسوء من القول="إلا
من ظلم"، بمعنى: إلا من ظلم، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء
عليه. (1)
وإذا كان ذلك معناه، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ، أو أسيء
قراه، أو نيل بظلم
__________
(1) في المطبوعة: "أسيء إليه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب
لأنه أراد أن يضمن"يسيء"، معنى"يبغي عليه"، فألحق بها حرف
الثانية، كأنه قال: بما أسيء إليه بغيًا عليه.
(9/349)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
في نفسه أو ماله= غيرَه من سائر الناس. (1)
وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم: أن ينصره الله عليه، لأن في
دعائه عليه إعلامًا منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، فـ"مَن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله،
وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قوله: (لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [سورة
الغاشية: 22-23] .
* * *
وأما قوله:"وكان الله سميعًا عليمًا"، فإنه يعني:"وكان الله
سميعًا"، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به، وغير
ذلك من أصواتكم وكلامكم="عليمًا"، بما تخفون من سوء قولكم
وكلامكم لمن تخفون له به فلا تجهرون له به، محص كل ذلك عليكم،
حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءَكم، المسيء بإساءته، والمحسن
بإحسانه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا
قَدِيرًا (149) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (3) "إن تبدوا" أيها
الناس="خيرًا"، يقول: إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن
إليكم، فتظهروا ذلك شكرًا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم
(4) =،"أو تخفوه"، يقول: أو تتركوا إظهار ذلك
__________
(1) في المطبوعة: "عنوة من سائر الناس"، وهو لا معنى له.
والصواب ما في المخطوطة. وقوله: "غيره" منصوب مفعول به
للمصدر"إخبار"، وسياق الكلام: دخل فيه إخبار من لم يقر ...
غيره من سائر الناس"، أي يخبر غيره من سائر الناس بما أصابه
ونيل منه.
(2) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك"، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(4) انظر تفسير"الإبداء" فيما سلف 5: 582.
(9/350)
فلا تبدوه (1) ="أو تعفوا عن سوء"، يقول:
أو تصفحوا لمن أساءَ إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من
القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به="فإن الله كان
عفوًّا"، يقول: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه، يصفح عمن عصَاه وخالف
أمره (2) ="قديرًا"، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم. (3)
وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته
على عقابهم على معصيتهم إيّاه.
يقول: فاعفوا، أنتم أيضًا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلمًا،
ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه،
كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه
وتخالفون أمره.
* * *
وفي قوله جل ثناؤه:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء
فإن الله كان عفوًا قديرًا"، الدلالةُ الواضحةُ على أن تأويل
قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، بخلاف
التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم، (4) في زعمه أن معناه: لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق، إلا من أقام على
نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. وذلك أنه جل
ثناؤه قال عَقِيب ذلك:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن
سوء"، ومعقولٌ أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن
المنافقين على نفاقهم، ولا نهاهم أن يسمُّوا من كان منهم معلنَ
النفاق"منافقًا". بل العفو عن ذلك، مما لا وجه له معقول.
لأن"العفو" المفهوم،
__________
(1) انظر تفسير"الإخفاء" فيما سلف 5: 582.
(2) انظر تفسير"عفا" و"عفو" فيما سلف 2: 503 / 3: 371 / 7:
215، 327 / 8: 426 / 9: 102. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يصفح
لهم عمن عصاه"، والصواب حذف"لهم"، إذ لا مكان لها.
(3) انظر تفسير"قدير" فيما سلف ص: 298، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(4) انظر الأثران رقم: 10763، 10764.
(9/351)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق.
وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قِبَله، فيؤمر بعفوه عنه،
وإنما هو اسم له. وغير مفهوم الأمرُ بالعفو عن تسمية الشيء بما
هو اسمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا
(150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن الذين يكفرون بالله
ورسله"، من اليهود والنصارى="ويريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله"، بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه،
ويزعموا أنهم افتروا على ربهم. (1) وذلك هو معنى إرادتهم
التفريقَ بين الله ورسله، بنِحْلتهم إياهم الكذب والفريةَ على
الله، وادِّعائهم عليهم الأباطيل="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر
ببعض"، يعني (2) أنهم يقولون:"نصدِّق بهذا ونكذِّب بهذا"، كما
فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم،
وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم. وكما فعلت النصارى
من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بعيسى وسائر
الأنبياء قبله بزعمهم="ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"،
يقول: ويريد المفرِّقون بين الله ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون
ببعض ويكفرون ببعض، أن يتخذوا بين أضعاف
__________
(1) في المطبوعة: "ويزعمون أنهم ... " والصواب من المخطوطة.
(2) "ونكفر ببعض" تمام الآية، لم يكن في المخطوطة ولا
المطبوعة، ولكن سياقه يقتضي إثباتها.
(9/352)
قولهم:"نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر
ببعض"="سبيلا"، يعني: طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها،
والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. (1)
فقال جل ثناؤه لعباده، منبهًا لهم على ضلالتهم وكفرهم:"أولئك
هم الكافرون حقًّا"، يقول: أيها الناس، هؤلاء الذين وصفت لكم
صفتهم، هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلود في ناري
حقًّا. فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنَّكم في أمرهم انتحالهم الكذب،
ودعواهم أنهم يقرُّون بما زعموا أنهم به مقرُّون من الكتب
والرسل، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كَذَبَةٌ. وذلك أن
المؤمن بالكتب والرسل، هو المصدّق بجميع ما في الكتاب الذي
يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن.
فأما من صدّق ببعض ذلك وكذَّب ببعض، فهو لنبوة من كذب ببعض ما
جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين
جحدوا نبوة بعض الأنبياء، وزعموا أنهم مصدقون ببعض، مكذبون من
زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم،
فهم بالله وبرسله= الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين
يزعمون أنهم بهم مكذبون= كافرون، (2) فهم الجاحدون وحدانية
الله ونبوّة أنبيائه حق الجحود، المكذبون بذلك حق التكذيب.
فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابًا
مهينًا.
* * *
وأما قوله:"وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، فإنه
يعني:"وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحودَ هؤلاء الذين وصفت
لكم، أيها الناس، أمرَهم من أهل الكتاب، ولغيرهم من سائر أجناس
الكفار (3) ="عذابًا"، في الآخرة="مهينًا"،
__________
(1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) سياق هذه الجملة: "فهم بالله وبرسله ... كافرون"، وما
بينها فصل في صفة هؤلاء الرسل.
(3) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355.
(9/353)
يعني: يهين من عُذِّب به بخلوده فيه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10765- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا
بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن
يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقًّا وأعتدنا
للكافرين عذابًا مهينًا"، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى.
آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وآمنت
النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه
وسلم. فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من
الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رُسله.
10766- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون
أن يفرقوا بين الله ورسله"، يقولون: محمد ليس برسولٍ لله!
وتقول اليهود: عيسى ليس برسولٍ لله! (2) فقد فرَّقوا بين الله
وبين رسله="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، فهؤلاء يؤمنون ببعض
ويكفرون ببعض.
10767- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله" إلى
قوله:"بين ذلك سبيلا"، قال: اليهود والنصارى. آمنت اليهود
بعُزَير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزَير.
وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالآخر="ويريدون أن يتخذوا بين
ذلك سبيلا"، قال: دينًا يدينون به الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف: ص163، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة: "برسول الله"،
والسياق يقتضي ما أثبت.
(9/354)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين صدقوا بوحدانية
الله، وأقرّوا بنبوة رسله أجمعين، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من
عند الله من شرائع دينه="ولم يفرقوا بين أحد منهم"، يقول: ولم
يكذّبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم، ولكنهم أقرُّوا أن كل ما جاءوا
به من عند ربهم حق="أولئك"، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من
المؤمنين بالله ورسله="سوف يؤتيهم"، يقول: سوف يعطيهم (1)
="أجورهم"، يعني: جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد
الله وشرائع دينه، وما جاءت به من عند الله (2) ="وكان الله
غفورًا"، يقول: ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه،
فيستر عليه بعفوه له عنه، وتركه العقوبة عليه، فإنه لم يزل
لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورًا="رحيمًا"، يعني ولم يزل
بهم رحيمًا، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق، وتوفيقه
إياهم لما فيه خلاص رِقابهم من النار. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 341، تعليق: 6، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/355)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ
وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا
مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يسألك" يا محمد="أهل
الكتاب"، يعني بذلك: أهل التوراة من اليهود="أن تنزل عليهم
كتابًا من السماء".
* * *
واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي سألَ اليهودُ محمدًا صلى
الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء.
فقال بعضهم: سألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء مكتوبًا،
كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبةً من عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
10768- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا
من السماء"، قالت اليهود: إن كنت صادقًا أنك رسول الله، فآتنا
كتابًا مكتوبًا من السماء، كما جاء به موسى.
10769- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواحِ من عند
الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك! فأنزل
الله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، إلى
قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا".
* * *
(9/356)
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل عليهم
كتابًا، خاصَّة لهم.
*ذكر من قال ذلك:
10770- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من
السماء"، أي كتابًا، خاصةً="فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا
أرنا الله جهرة".
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبًا
بالأمر بتصديقه واتّباعه.
*ذكر من قال ذلك:
10771- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من
السماء"، وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه
وسلم فقالوا:"لن نتابعك على ما تدعونا إليه، حتى تأتينا بكتاب
من عند الله إلى فلان (1) أنك رسول الله، وإلى فلان بكتاب أنك
رسول الله"! قال الله جل ثناؤه:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل
عليهم كتابًا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا
أرنا الله جهرة".
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل
التوراة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن
ينزل عليهم كتابًا من السماء، آيةً معجزةً جميعَ الخلق عن أن
يأتوا بمثلها، شاهدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق،
آمرة لهم باتباعه.
وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابًا مكتوبًا ينزل عليهم من
السماء إلى جماعتهم= وجائز أن يكون ذلك كتبًا إلى أشخاص
بأعينهم. بل الذي هو أولى
__________
(1) في المخطوطة: "من عبد الله، من الله إلى فلان"، والذي في
المطبوعة هو الصواب، إلا أن يكون الناسخ كتب"من عند الله" ثم،
غيرها"من الله"، ثم لم يضرب على أولاهما.
(9/357)
بظاهر التلاوة، أن تكون مسألتهم إياه ذلك
كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم، (1) لذكر الله
تعالى في خبره عنهم"الكتاب" بلفظ الواحد بقوله:"يسألك أهل
الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، (2) ولم يقل"كتبًا".
* * *
وأما قوله:"فقد سألوا موسى أكبر من ذلك"، فإنه توبيخ من الله
جل ثناؤه سائلي الكتابَ الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ينزله عليهم من السماء، في مسألتهم إياه ذلك= وتقريعٌ
منه لهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا
يعظُمَنَّ عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله وجراءَتهم
عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن
تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله
أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل واتخذوه إلهًا يعبدونه من دون
خالقهم وبارئهم الذي أرَاهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم،
لأنهم لن يعدُوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم.
* * *
ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصَّ، يقول الله:"فقد سألوا
موسى أكبرَ من ذلك"، يعني: فقد سأل أسلافُ هؤلاء اليهود
وأوائلهم موسى عليه السلام، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب
عليهم من السماء، فقالوا له:"أرنا الله جهرة"، أي: عِيانًا
نعاينه وننظر إليه.
* * *
وقد أتينا على معنى"الجهرة"، بما في ذلك من الرواية والشواهد
على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (3)
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك، بما:-
__________
(1) في المطبوعة: "لينزل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يقول: يسألك ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير"جهرة" فيما سلف 2: 80-82.
(9/358)
10772- حدثني به الحارث قال، حدثنا أبو
عبيد قال، حدثنا حجاج، عن هارون بن موسى، عن عبد الرحمن بن
إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ابن عباس في هذه الآية
قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنما قالوا جهرةً:"أرنا الله".
قال: هو مقدّم ومؤخر.
* * *
وكان ابن عباس يتأول ذلك: أن سؤالهم موسى كان جهرة. (1)
* * *
وأما قوله:"فأخذتهم الصاعقة"، فإنه يقول:"فصُعقوا"="بظلمهم"
أنفسهم. وظلمهم أنفسهم، كان مسألَتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة،
لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته.
* * *
وقد بينا معنى:"الصاعقة"، فيما مضى باختلاف المختلفين في
تأويلها، والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب. (2)
* * *
وأما قوله:"ثم اتخذوا العجل"، فإنه يعني: ثم اتخذ= هؤلاء الذين
سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرةً، بعد ما أحياهم الله
فبعثهم من صعقتهم= العجلَ الذي كان السامريُّ نبذ فيه ما نبذ
من القبْضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام= إلهًا
يعبدونه من دون الله. (3)
* * *
وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل، وكيف كان
أمرهم وأمره، فيما مضى بما فيه الكفاية. (4)
* * *
__________
(1) هذا القول الذي نسب إلى ابن عباس، لم يمض مثله في تفسير
آية سورة البقرة 2: 80-82، وهذا أحد الأدلة على اختصار هذا
التفسير.
(2) انظر تفسير"الصاعقة" فيما سلف 2: 82-84.
(3) سياق هذه الفقرة: ثم اتخذ هؤلاء ... العجل ... إلها ... ".
(4) انظر ما سلف 2: 63-68.
(9/359)
وقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني:
من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا، البينات من
الله، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانًا جهارًا.
وإنما عنى بـ "البينات": أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله
في أيام حياتهم في الدنيا جهرة. (1) وكانت تلك الآيات البينات
لهم على أن ذلك كذلك: إصعاقُ الله إياهم عند مسألتهم موسى أن
يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم، مع سائر الآيات
التي أراهم الله دلالةً على ذلك.
* * *
= يقول الله، مقبِّحًا إليهم فعلهم ذلك، وموضحًا لعباده جهلهم
ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرُّوا للعجل بأنه لهم إله، وهم
يرونه عيانًا، وينظرون إليه جِهَارًا، بعد ما أراهم ربهم من
الآيات البينات ما أراهم: أنهم لا يرون ربهم جهرة وعِيانًا في
حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدِّقين بألوهته!!
* * *
وقوله:"فعفونا عن ذلك"، يقول: فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم
إياه، (2) وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم
لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم= عن تصديقهم بذلك،
(3) بالتوبة التي تابوها إلى ربّهم بقتلهم أنفسهم، وصبرهم في
ذلك على أمر ربهم="وآتينا موسى سلطانًا مبينًا"، يقول: وآتينا
موسى حجة تبين عن صدقه، وحقيقة نبوّته، (4) وتلك الحجة هي:
الآيات البينات التي آتاه الله إياها. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 7: 450، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف ص: 351، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) السياق: "فعفونا لعبدة العجل ... عن تصديقهم بذلك".
(4) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، غير ما في المخطوطة عن وجهه،
ظنًا منه أنه خطأ، وقد أشرنا إلى مثل ذلك من فعله فيما سلف ص:
336، تعليق: 4، وما سيأتي بعد قليل ص: 363، تعليق 2.
(5) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 / 9: 336، 337.
وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 336 تعليق: 3، والمراجع هناك.
(9/360)
وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا
فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
القول في تأويل قوله: {وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ورفعنا فوقهم الطور"،
يعني: الجبل، (1) وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة
وقبول ما جاءهم به موسى فيها="بميثاقهم"، يعني: بما أعطوا الله
الميثاق والعهد: لنعملن بما في التوراة (2) ="وقلنا لهم ادخلوا
الباب سجدًا"، يعني"باب حِطّة"، حين أمروا أن يدخلوا منه
سجودًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم (3) ="وقلنا هم لا تعدوا في
السبت"، يعني بقوله:"لا تعدوا في السبت"، لا تتجاوزوا في يوم
السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم، (4) كما:
10773- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا"، قال: كنا نحدّث
أنه باب من أبواب بيت المقدس. (5)
* * *
="وقلنا لهم لا تعدوا في السبت"، أمر القوم أن لا يأكلوا
الحِيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحل لهم ما وراء ذلك. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الطور" فيما سلف 2: 157-159.
(2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 41، 44، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة" فيما سلف 2:
103-109.
(4) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2:
166-174.
(5) هذا الأثر لم يذكر في تفسير"الباب" فيما سلف 2: 103-109،
وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، ومنهجه في
الاختصار.
(6) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2:
166-174.
(9/361)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام: (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)
، بتخفيف"العين" من قول القائل:"عدوت في الأمر"، إذا تجاوزت
الحق فيه،"أعدُ وعَدْوًا وعُدُوًّا وعدوانًا وعَدَاءً". (1)
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا
تَعْدُّوا) بتسكين"العين" وتشديد"الدال"، والجمع بين ساكنين،
بمعنى: تعتدوا، ثم تدغم"التاء" في"الدال" فتصير"دالا" مشددة
مضمومة، كما قرأ من قرأ (أَمْ مَنْ لا يَهْدِّي) [سورة يونس:
35] ، بتسكين"الهاء".
* * *
وقوله:"وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا"، يعني: عهدًا مؤكدًا
شديدًا، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم
الله عنه، مما ذكر في هذه الآية، ومما في التوراة. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى، السببَ الذي من أجله كانوا أمروا بدخول
الباب سجدًا، وما كان من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم= وقصة
السبت، وما كان اعتداؤهم فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عدا" فيما سلف 2: 142، 167، 307 / 3: 573، 582
/ 7: 117، والمراجع هناك.
وقد أسقط في المطبوعة هنا"وعدوا" (بضم العين والدال مشددة
الواو) ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص361، التعليق رقم: 2.
وتفسير"غليظ" فيما سلف 8: 127.
(3) انظر التعليقين السالفين ص: 361، تعليق: 3، 4.
(9/362)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلًا (155)
القول في تأويل قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلا قَلِيلا (155) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم
من أهل الكتاب="ميثاقهم"، يعني: عهودهم التي عاهدوا الله أن
يعملوا بما في التوراة (1) ="وكفرهم بآيات الله"، يقول:
وجحودهم="بآيات الله"، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها
عليهم في صدق أنبيائه ورسله (2) وحقيقة ما جاءوهم به من عنده
(3) ="وقتلهم الأنبياء بغير حق"، يقول: وبقتلهم الأنبياء بعد
قيام الحجة عليهم بنبوّتهم="بغير حق"، يعني: بغير استحقاق منهم
ذلك لكبيرة أتوها، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها (4)
="وقولهم قلوبنا غلف"، يعني: وبقولهم"قلوبنا غلف"، يعني:
يقولون: عليها غِشاوة وأغطِية عما تدعونا إليه، فلا نفقَه ما
تقول ولا نعقله.
* * *
وقد بينا معنى:"الغلف"، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى
قبل. (5)
* * *
="بل طبع الله عليها بكفرهم"، يقول جل ثناؤه: كذبوا في
قولهم:"قلوبنا غلف"، ما هي بغلف، ولا عليها أغطية، ولكن الله
جل ثناؤه جعل عليها طابعًا بكفرهم بالله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" آنفًا ص: 362، تعليق: 2.
(2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أيي) .
(3) في المطبوعة: "وحقية ما جاؤوهم به"، بدل ما في المخطوطة.
وانظر التعليق السالف ص: 360، تعليق: 2.
(4) انظر تفسير"قتل الأنبياء بغير حق" فيما سلف 7: 116، 117،
446.
(5) انظر تفسير"غلف" فيما سلف 2: 324-328.
(9/363)
وقد بينا صفة"الطبع على القلب"، فيما مضى،
بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يؤمن -هؤلاء الذين وصف
الله صفتهم، لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم
به من عند الله- إلا إيمانًا قليلا يعني: تصديقًا قليلا وإنما
صار"قليلا"، (2) لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن
صدَّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب، وكذبوا ببعض. فكان تصديقهم
بما صدَّقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به
مكذبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذَّبوا به من
الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله، ورسلُ الله يصدِّق بعضهم
بعضًا. وبذلك أمر كل نبي أمته. وكذلك كتب الله يصدق بعضها
بعضًا، ويحقق بعض بعضًا. فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها، من جهة
جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقرّ بصحته. فلذلك صار إيمانهم بما
آمنوا من ذلك قليلا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10774- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"، يقول: فبنقضهم ميثاقهم
لعنَّاهم="وقولهم قلوبنا غلف"، أي لا نفقه=،"بل طبع الله عليها
بكفرهم"، ولعنهم حين فعلوا ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف 1: 258. ولم يمض ذكر"الطبع"
بهذا اللفظ في آية قبل هذه الآية، ولكنه نسي، إنما الذي مضى ما
هو في معناه وهو"ختم الله على قلوبهم"، و"الختم" هو"الطبع".
(2) انظر تفسير"قليل" فيما سلف 2: 329-331 / 8: 439، 577.
(3) تفسير"قليل" فيما سلف من الآيات التي أشرنا إليها، فهو
أجود مما هنا.
(9/364)
واختلف في معنى قوله:"فبما نقضهم"، الآية،
هل هو مواصلٌ لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه. (1)
فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم،
وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا
غلف، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10775- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فلا يؤمنون إلا قليلا"، لما ترك القوم أمرَ الله،
وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم،
طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.
* * *
وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله. قالوا: ومعنى الكلام:
فأخذتهم الصاعقة بظلمهم= فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله،
وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا:
فتبع الكلام بعضه بعضًا، ومعناه: مردود إلى أوله.
وتفسير"ظلمهم"، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله، بما فسر به تعالى
ذكره، من نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بيَّن من
أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن قوله:"فبما نقضهم
ميثاقهم" وما بعده، منفصل معناه من معنى ما قبله، وأن معنى
الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا،
لعناهم وغضبنا عليهم= فترك ذكر"لعناهم "،
__________
(1) وانظر زيادة"ما" في قوله"فبما نقضهم ميثاقهم" فيما سلف 7:
340. وترك أبي جعفر بيان ذلك هنا، أحد الأدلة على منهاجه في
اختصار هذا التفسير.
(2) في المطبوعة: "بل طبع الله عليها" كنص الآية، وهو لا
يستقيم، والصواب ما في المخطوطة.
(9/365)
وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
لدلالة قوله:"بل طبع الله عليها بكفرهم"،
على معنى ذلك. إذ كان من طبع على قلبه، فقد لُعِن وسُخِط عليه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة، إنما
كانوا على عهد موسى= والذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم
بالبهتان العظيم، وقالوا:"قتلنا المسيح"، كانوا بعد موسى بدهر
طويل. ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى،
ولا من صُعق من قومه.
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنّ الذين أخذتهم الصاعقة، لم تأخذهم
عقوبةً لرميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم:"إنا قتلنا
المسيح عيسى ابن مريم". وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن القوم
الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذ كان
ذلك كذلك، كان بيِّنًا انفصال معنى قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"،
من معنى قوله:"فأخذتهم الصاعقة بظلمهم".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف
صفتهم="وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: بفريتهم عليها،
ورميهم إياها بالزنا، وهو"البهتان العظيم"، لأنهم رموها بذلك،
وهي مما رموها به بغير ثَبَتٍ ولا برهان بريئة، فبهتوها
بالباطل من القول. (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124 / 9، 197.
(9/366)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
10776- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: أنهم رموها
بالزنا.
10777- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"،
حين قذفوها بالزنا.
10778- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن
عُبَيد، عن جويبر في قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"،
قال: قالوا:"زنت".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم إنا قتلنا المسيح
عيسى ابن مريم رسول الله. ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال:"وما
قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، يعني: وما قتلوا عيسى وما
صلبوه ولكن شبه لهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر
عيسى.
فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم وهم لا
يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة
عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره
منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم
يحسبونه عيسى.
*ذكر من قال ذلك:
(9/367)
10779- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب
القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أُتِي عيسى
ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم. فلما دخلوا
عليهم صوَّرهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا!
لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا! فقال عيسى لأصحابه: من
يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا! فخرج
إليهم، فقال: أنا عيسى= وقد صوّره الله على صورة عيسى، فأخذوه
فقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبِّه لهم، وظنوا أنهم قد قتلوا
عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه
ذلك.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:-
10780- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل
بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا
يقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج
من الدنيا، جزع من الموت وشقَّ عليه، فدعا الحواريِّين فصنع
لهم طعامًا، (1) فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة.
فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا
من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضِّئهم بيده، ويمسح أيديهم
بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا مَن ردَّ علي شيئًا
الليلة مما أصنع، فليس مني ولا أنا منه! فأقرُّوه، حتى إذا فرغ
من ذلك قال: أمَّا ما صنعت بكم الليلة، مما خدمتكم على الطعام
وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنّي خيركم،
فلا يتعظَّم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت
نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله
وتجتهدون في الدعاء: أن يؤخِّر أجلي. فلما نَصَبوا أنفسهم
للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى
__________
(1) في المطبوعة: "وصنع" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ
الطبري.
(9/368)
لم يستطيعوا دعاءً. فجعل يوقظهم ويقول:
سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! (1) قالوا:
والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السَّمَر، وما نطيق
الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال:
يُذْهَب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَى
به نفسه. ثم قال: الحقَّ، ليكفرنَّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك
ثلاث مرات، وليبيعنِّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني!
فخرجوا فتفرقوا، (2) وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد
الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه! فجحد وقال: ما أنا بصاحبه!
فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه،
فلما أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي
إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها
ودلَّهم عليه. وكان شبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا
منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي
الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجّي نفسك من
هذا الحبل؟! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به
الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا
ما شبِّه لهم، فمكث سبعًا.
= ثم إنّ أمَّه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من
الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، (3) فجاءهما عيسى فقال:
علام تبكيان؟ قالتا: عليك! فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم
يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبِّه لهم،
__________
(1) في المطبوعة: "أما تصبرون"، وأثبت ما في التاريخ
والمخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وتفرقوا" بالواو، وأثبت ما في التاريخ
والمخطوطة.
(3) في المطبوعة"حيث كان المصلوب"، وفي التاريخ: "عند
المصلوب"، وفي المخطوطة "حيث" غير منقوطة، وعليها حرف (ط) ،
كأن الناسخ عدها خطأ، لقلة إضافة"حيث" إلى الاسم المفرد، لأنها
تضاف إلى الجملة الفعلية والجملة الإسمية، ولكن لإضافتها إلى
المفرد شواهد كثيرة، منها قول الشاعر: وَنَحْنُ سَقَيْنَا
المَوْتَ بِالسَّيْفِ مَعْقِلا ... وقَدْ كانَ مِنْهُمْ حَيْثُ
ليُّ العَمَائِمِ
(9/369)
فأْمُرَا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا
وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقَد الذي كان باعه
ودلَّ عليه اليهود، (1) فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على
ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تابَ لتابَ الله عليه! ثم
سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يُحَنَّى (2) فقال: هو معكم،
فانطلقوا، فإنه سيصبح كلّ إنسان منكم يحدِّث بلغة قوم،
فلينذِرْهم وَلْيدعهم. (3)
* * *
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على
بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبهه، فقتل ذلك
الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام.
*ذكر من قال ذلك:
10781- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما
قتلوه وما صلبوه" إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، أولئك
أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله، (4)
وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم
قال لأصحابه: أيكم يُقْذف عليه شبهي، فإنه مقتول؟ فقال رجل من
أصحابه: أنا، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه
ورفعه إليه.
10782- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه
لهم"، قال: ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل. وكان عيسى
ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه، وله
الجنة؟ فقال رجل: عليَّ.
__________
(1) "فقده" و"افتقده": لم يجده، فسأل عنه.
(2) في التاريخ: "يقال له يحيى".
(3) الأثر: 10780 - رواه أبو جعفر في التاريخ 2: 22، 23.
(4) في المطبوعة: "اشتهروا بقتل عيسى"، ولا معنى لها هنا، وهي
في المخطوطة غير بينة الحروف، وصواب قراءتها ما أثبت.
(9/370)
10783- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن بني إسرائيل
حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى
لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم،
وصُعِد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة
عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعِد به إلى السماء،
فجعلوا يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدَة، ويرون
صورة عيسى فيهم، فشكّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون
أنه عيسى وصلبوه. فذلك قول الله تبارك وتعالى:"وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم"، إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا".
10784- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بزة: أن عيسى ابن مريم قال:
أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا
رسول الله! فألقي عليه شبهه فقتلوه. فذلك قوله:"وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم".
10785- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان
اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله، رجلا منهم يقال
له داود. فلما أجمعوا لذلك منه، لم يَفْظَعْ عبدٌ من عباد الله
بالموت= فيما ذكر لي= فظَعَه، (1) ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع
الله في صرفه عنه دعاءَه، حتى إنه ليقول، فيما يزعمون:"اللهم
إن كنت صارفًا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني! "، وحتى
إن جلده من كَرْب ذلك ليتفصَّد دمًا. فدخل المدخل الذي أجمعوا
أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى.
فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين (2) =
وكانوا اثني عشر رجلا
__________
(1) "فظع بالأمر يفظع فظعًا (مثل فرح، يفرح، فرحا) : كرهه
واستبشعه ورآه فظيعًا.
(2) قول المسيح لأصحابه من الحواريين، سيأتي في الفقرة التي
تلي الفقرة الآتية، وذلك قوله: "يا معشر الحواريين، أيكم يحب
أن يكون رفيقي في الجنة". وما بين الكلامين، فصل فيه ذكر عدة
الحواريين.
(9/371)
فطرس، (1) ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو
يعقوب، وأندراييس، (2) وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب
بن حلفيا، (3) وتداوسيس، وقنانيا، (4) ويودس زكريا يوطا. (5)
= قال ابن حميد، قال سلمة، قال ابن إسحاق: وكان فيهم، فيما ذكر
لي، رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، جحدتْه
النصارى، وذلك أنه هو الذي شبِّه لليهود مكان عيسى. قال: فلا
أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين
أقرُّوا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا
المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر،
فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر.
= حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني
رجل كان نصرانيًّا فأسلم: أن عيسى حين جاءَه من الله:"إني
رافعك إليَّ" قال: يا معشر الحواريين، أيُّكم يحبّ أن يكون
رفيقي في الجنة، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟
(6) فقال سرجس: أنا، يا روح الله! قال: فاجلس في مجلسي.
__________
(1) في المطبوعة: "بطرس"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أندراوس"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "حلقيا"، وفي المخطوطة بالفاء.
(4) في المطبوعة: "فتاتيا"، والمخطوطة أشبه بأن تكون كما
نقطتها.
(5) سأذكر هذه الأسماء، كما هي في كتب القوم، من الإصحاح
العاشر من إنجيل متى، على تتابعها هنا، وهي كما يلي: (بطرس) ،
و (يعقوب بن زبدي) ، و (يوحنَّا) أخو يعقوب، و (أندارَاوس) -
أخو بطرس -، و (فيلبس) ، و (برثولماوس) ، و (متى) ، و (توما) ،
و (يعقوب بن حلفي) و (لباوس) ، الملقب (تدَّاوس) ، و (سمعان
القانوي) ، و (يهوذا الأسخريوطي) .
(6) في المطبوعة: "حتى يشبه للقوم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/372)
فجلس فيه، ورُفع عيسى صلوات الله عليه.
فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم
به. وكانت عِدّتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم وأحصوا
عدّتهم. (1) فلما دخلوا عليه ليأخذوه، وجدوا عيسى فيما يُرَوْن
وأصحابه، وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا
لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهمًا على
أن يدلَّهم عليه ويعرِّفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه،
فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل، فخذوه. فلما دخلوا عليه وقد
رُفع عيسى، رأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكِّك أنه هو عيسى،
(2) فأكبَّ عليه فقبَّله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا
يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه. وهو ملعون في
النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم
أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول:"إني لست
بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه"! والله أعلم أيُّ ذلك كان.
10786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيُّكم
ينتدب فيُلقَى عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا
نبي الله. فألقي عليه شبهه فقتل، ورفع الله نبيّه إليه.
10787- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"شبه لهم"، قال:
صلبوا رجلا غير عيسى، يحسبونه إيّاه.
10788- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن شبه لهم"، فذكر نحوه. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فأحصوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فلم يشك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فذكر مثله".
(9/373)
10789- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صلبوا رجلا
شبَّهوه بعيسى، يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، أحدُ القولين اللذين
ذكرناهما عن وهب بن منبه: (1) من أن شَبَه عيسى ألقي على جميع
من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى
إياهم ذلك. ولكن ليخزي الله بذلك اليهود، وينقذ به نبيه عليه
السلام من مكروهِ ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد
ابتلاءه من عباده في قِيله في عيسى، وصدق الخبر عن أمره. = أو:
القول الذي رواه عبد الصمد عنه. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب، لأن الذين شهدوا عيسى من
الحواريين، لو كانوا في حال ما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على من
ألقي عليه شَبَهه، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم، (3)
وأثبتوا الذي ألقي عليه شبهه، وعاينوه متحوِّلا في صورته بعد
الذي كان به من صورة نفسه بمحضَرٍ منهم، لم يخفَ ذلك من أمر
عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كله، ولم
يلتبس ولم يشكل عليهم، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من
اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من
بينهم حيًّا.
وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم، وقد سمعوا من عيسى
مقالته:"من يلقى عليه شبهي، ويكون رفيقي في الجنة"، إن كان قال
لهم ذلك، وسمعوا
__________
(1) هو الأثر رقم: 10779.
(2) هو الأثر رقم: 10780، وكان في المخطوطة"الذي رواه عبد
العزيز عنه"، وليس في الرواة عن ابن منبه فيما سلف"عبد العزيز"
بل"عبد الصمد بن معقل"، وكأنه سهو من الناسخ، وعجلة أخذته.
(3) في المطبوعة: "عاينوا عيسى وهو يرفع" بالزيادة، وأثبت ما
في المخطوطة، فهو مستقيم.
(9/374)
جواب مُجيبه منهم:"أنا"، وعاينوا تحوُّل
المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه؟ ولكن ذلك كان= إن شاء الله=
على نحو ما وصف وهب بن منبه: إما أن يكون القوم الذين كانوا مع
عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه، حوَّلهم الله جميعًا في
صورة عيسى حين أراد الله رفعه، فلم يثبتوا عيسى معرفةً بعينه
من غيره لتشابه صور جميعهم، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم
يُرَونه بصورة عيسى، ويحسبونه إياه، لأنهم كانوا به عارفين قبل
ذلك. وظنّ الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود،
لأنهم لم يميِّزوا شخصَ عيسى من شخص غيره، لتشابه شخصه وشخص
غيره ممن كان معه في البيت. فاتفقوا جميعهم= يعني: اليهود
والنصارى (1) = من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن
به، ولكنه شُبِّه لهم، كما قال الله جل ثناؤه:"وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم".
= أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل،
عن وهب بن منبه: أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت،
تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وألقي شبهه
على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم
غيرَ عيسى، وغيرَ الذي ألقي عليه شَبهه. ورفع عيسى، فقتل الذي
تحوّل في صورة عيسى من أصحابه، وظن أصحابُه واليهود أن الذي
قتل وصلب هو عيسى، لما رأوا من شبهه به، وخفاء أمر عيسى عليهم.
لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته، كان بعد تفرق أصحابه عنه،
وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعَى نفسه، ويحزن لما قد ظنَّ
أنه نازل به من الموت، فحكوا ما كان عندهم حقًّا، والأمر عند
الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا. فلم يستحق الذين حكوا ذلك من
حواريّيه أن يكونوا كذبة، إذ حكوا ما كان حقًّا عندهم في
الظاهر، (2)
__________
(1) في المطبوعة: "أعني"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أو حكوا"، وفي المخطوطة: "إذا حكوا"،
والصواب ما أثبت.
(9/375)
وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة
بخلاف الذي حكوا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإنّ الذين اختلفوا فيه"،
اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك
أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم، فيما ذكر.
فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدًا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم
بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من
قتلوا على شك منهم في أمر عيسى.
وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع
ودخل عليهم اليهود.
* * *
وأما تأويله على قول من قال: تفرَّقوا عنه من الليل، فإنه:"وإن
الذين اختلفوا"، في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد
خروج من خرج منهم من العدَّة التي كانت فيه، أم لا؟ ="لفي شك
منه"، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا
البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه: هل
هو عيسى أم لا؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا
أحصوه، ولكنهم قالوا:"قتلنا عيسى"، لمشابهة المقتول عيسى في
الصورة. يقول الله جل ثناؤه:"ما لهم به من علم"، يعني: أنهم
قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلافٍ، هل هو عيسى أم هو
غيره؟ من غير أن يكون لهم
__________
(1) في المخطوطة: "وإن كان الأمر عند الله"، حذف"كان" الثانية،
وقد أثبتها ناسخ المخطوطة في هامش النسخة.
(9/376)
بمن قتلوه علم، من هو؟ هو عيسى أم هو غيره؟
="إلا اتباع الظن"، يعني جل ثناؤه: ما كان لهم بمن قتلوه من
علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه، ظنًّا منهم أنه عيسى، وأنه
الذي يريدون قتله، ولم يكن به="وما قتلوه يقينًا"، يقول: وما
قتلوا -هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه
عيسى- يقينًا أنه عيسى ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ
وشبهةٍ.
* * *
وهذا كقول الرجل للرجل:"ما قتلت هذا الأمر علمًا، وما قتلته
يقينًا"، إذا تكلَّم فيه بالظن على غير يقين علم. فـ"الهاء" في
قوله:"وما قتلوه"، عائدة على"الظن". (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
10790- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما
قتلوه يقينًا"، قال: يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا.
10791- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن
عبيد، عن جويبر في قوله:"وما قتلوه يقينًا"، قال: ما قتلوا
ظنهم يقينًا.
* * *
وقال السدي في ذلك ما:-
10792- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وما قتلوه يقينًا"، وما قتلوا أمره
يقينًا أن الرجل هو عيسى،"بل رفعه الله إليه".
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 294.
(9/377)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
القول في تأويل قوله: {بَلْ رَفَعَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) }
قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"بل رفعه الله إليه"، فإنه
يعني: بل رفع الله المسيح إليه. يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه،
ولكن الله رفعه إليه فطهَّره من الذين كفروا.
* * *
وقد بيّنا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى، وذكرنا اختلاف
المختلفين في ذلك، والصحيحَ من القول فيه بالأدلة الشاهدة على
صحته، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، فإنه يعني: ولم يزل الله
منتقمًا من أعدائه، (2) كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة
بظلمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم
وكفرهم بآيات الله"="حكيمًا"، يقول: ذا حكمة في تدبيره وتصريفه
خلقَه في قضائه. (3) يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدًا أن
ينزل عليكم كتابًا من السماء، من حلول عقوبتي بكم، كما حل
بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على
أوليائي، وقد:-
10793- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة
الرُّؤَاسيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس في قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، قال: معنى ذلك: أنه
كذلك. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6: 455 - 460.
(2) انظر تفسير"عزيز" و"عزة" فيما سلف ص: 319، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) الأثر: 10793 -"محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي"، لم
أعرف له ترجمة، ولا وجدت له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب،
وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف. وقول ابن عباس في تفسير
الآية"معنى ذلك أنه كذلك"، يريد أن الله كان ولم يزل عزيزًا
حكيمًا.
وعند هذا الموضع انتهى الجزء السابع من مخطوطتنا وفي آخرها ما
نصه:
"نَجَز الجزء السابع من كتاب البيان، بحمد الله وعونه وحُسن
توفيقه، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله ربّ العالمين
يتلوه في أول الثامن إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله:
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ)
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة.
غفر الله لمؤلفه ولصاحبه، ولكاتبه، ولمن طالعَ فيه ودعا لهم
بالمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين.
آمين، ياربّ العالمين".
(9/378)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(161)
(1) القول في تأويل قوله: {وَإِنْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به"،
يعني: بعيسى="قبل موته"، يعني: قبل موت عيسى= يوجِّه ذلك إلى
أنّ جميعهم يصدِّقون به إذا نزل لقتل الدجّال، فتصير الملل
كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفيّة، دين إبراهيم صلى الله
عليه وسلم.
__________
(1) هذا بدء الجزء الثامن من المخطوطة، وأوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"رَبِّ يَسِّر برَحْمَتِك يا كَرِيم".
(9/379)
*ذكر من قال ذلك:
10794- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى ابن مريم.
10795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى.
10796- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
حصين، عن أبي مالك في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: ذلك
عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا
ليؤمننّ به. (1)
10797- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال، حدثنا
حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال:"قبل موته"، قال: قبل أن
يموت عيسى ابن مريم.
10798- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن
الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"،
قال: قبل موت عيسى. والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا
نزل آمنوا به أجمعون.
10799- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"،
يقول: قبل موت عيسى.
10800- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته"، قال: قبل موت عيسى. (2)
__________
(1) الأثر: 10796 - في المخطوطة، هذا الأثر مبتور، مع جريانه
في سياق الكتابة.
(2) الأثر: 10800 - هذا الأثر مكرر الذي يليه مختصرًا، وليس في
المخطوطة، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ، كتب، ثم وقف، ثم أعاد
الكتابة.
(9/380)
10801- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به
الأديان كلها.
10802- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن
الربيع بن أنس، عن الحسن قال: قبل موت عيسى.
10803- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن
الحسن:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال عيسى، ولم يمت بعدُ.
10804- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن
أبي مالك قال: لا يبقى أحدٌ منهم عند نزول عيسى إلا آمن به.
10805- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن
أبي مالك قال: قبل موت عيسى.
10806- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: إذا
نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال، لم يبق يهوديٌّ في الأرض إلا
آمن به. قال: فذلك حين لا ينفعهم الإيمان. (1)
10807- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمنن به قبل موته"، يعني: أنه سيدرك أناسٌ من أهل الكتاب حين
يبعث عيسى، فيؤمنون به،"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا".
10808- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه
الآية:"وإن من أهل
__________
(1) في المطبوعة: "وذلك حين.."، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/381)
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"= قال أبو
جعفر: أظنه إنما قال: إذا خرج عيسى آمنت به اليهود.
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى،
قبل موت الكتابي. يوجِّه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من
الباطل، (1) لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسُه حتى يتبين
له الحق من الباطل في دينه.
[ذكر من قال ذلك] : (2)
10809- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن
بعيسى.
10810- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور،
عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا
تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردَّى من حائط، أو أيّ
ميتة كانت.
10811- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل
موته"، كل صاحب كتاب ليؤمنن به، بعيسى، قبل موته، موتِ صاحب
الكتاب. (3)
10812- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليؤمنن به"، كل صاحب كتاب، يؤمن بعيسى
=
__________
(1) في المطبوعة: "ذكر من كان يوجه ذلك ... "، وأثبت ما في
المخطوطة، وانظر التعليق التالي.
(2) زدت هذه الزيادة بين القوسين، على نهج أبي جعفر في سائر
تفسيره.
(3) في المخطوطة: "قبل موته صاحب صاحب كتاب"، اجتهد الناشر
الأول، ولو كتب"قبل موت كل صاحب كتاب"، لكان صوابًا أيضًا.
(9/382)
"قبل موته"، قبل موت صاحب الكتاب= قال ابن
عباس: لو ضُربت عنقه، لم تخرج نفسُه حتى يؤمن بعيسى.
10813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال،
حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أنّ عيسى عبد الله ورسوله، ولو
عُجِّل عليه بالسِّلاح.
10814- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا
عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: هي في قراءة أبيّ:
(قبل موتهم) ، ليس يهودي يموت أبدًا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن
عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهُوِيِّ.
(1) فقيل: أرأيت إن ضربَ عنق أحد منهم؟ (2) قال: يُلجلج بها
لسانُهُ. (3)
10815- حدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال،
حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن
بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضُرب بالسيف، يتكلم به. قال: وإن
هوى، يتكلم به وهو يَهْوِي. (4)
10816- وحدثني ابن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا
__________
(1) "الهوي" (بضم الهاء، وكسر الواو، والياء المشددة) ،
مصدر"هوى يهوي"، إذا سقط من فوق إلى أسفل.
(2) في المطبوعة: "إن ضربت عنقه"، و"العنق" يذكر ويؤنث، وأثبت
ما في المخطوطة.
(3) "لجلج" أي تردد بها وأدارها على لسانه. وفي المطبوعة:
"يتلجلج" بزيادة التاء، وهي بمعناها.
(4) في المطبوعة، غير ما في المخطوطة وزاد فيها، وجعل ذلك
سؤالا وجوابًا، وكتب: "قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: يتكلم به.
قيل: وإن هوى؟ قال: يتكلم به وهو يهوي"، وأجود ذلك ما في
المخطوطة.
(9/383)
شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن
ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
به قبل موته"، قال: لو أن يهوديًّا وقع من فوق هذا البيت، لم
يمت حتى يؤمن به= يعني: بعيسى. (1)
10817- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا
شعبة، عن مولى لقريش قال: سمعت عكرمة يقول: لو وقع يهوديٌّ من
فوق القَصر، لم يبلغ إلى الأرض حتى يؤمن بعيسى.
10818- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن أبي هاشم الرماني، عن مجاهد:"ليؤمنن به قبل موته"،
قال: وإن وقع من فوق البيت، لا يموت حتى يؤمن به. (2)
10819- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس،
عن منصور، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته". قال: لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به، وإن غرق،
أو تردَّى، أو مات بشيء.
10820- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ليث،
عن مجاهد في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"،
قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن به.
__________
(1) الأثر: 10816 -"أبو هارون الغنوي"، هو: "إبراهيم بن
العلاء". روى عن عكرمة، وأبي مجلز، وحطان بن العلاء. وروى عنه
شعبة، وحماد بن سلمة، ويزيد بن إبراهيم، ويزيد بن زريع، وابن
المبارك، مترجم في الكبير 1 / 1 / 307، وابن أبي حاتم 1 / 1 /
120، ولم يذكرا فيه جرحًا. وأشار إليه الحافظ ابن حجر في باب
الكنى من تهذيب التهذيب، وقال: "تقدم"، ولم أجده في الأعلام،
فكأن في التهذيب نقصًا.
(2) الأثر: 10818 -"أبو هاشم الرماني الواسطي"، قيل اسمه:
"يحيى بن دينار" وقيل: "ابن الأسود"، وقيل: "ابن أبي الأسود"،
وقيل: "ابن نافع". رأى أنسًا، وروي عن أبي وائل، وأبي مجلز،
وأبي العالية، وعكرمة، وغيرهم. كان فقيهًا صدوقًا، ثقة. مترجم
في التهذيب.
(9/384)
10821- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن
سفيان، عن خصيف، عن عكرمة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته"، قال: لا يموت أحدهم حتى يؤمن به= يعني: بعيسى= وإن
خَرَّ من فوق بيت، يؤمن به وهو يهوِي.
10822- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر،
عن الضحاك قال: ليس أحدٌ من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن
بعيسى.
10823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن فرات
القزاز، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته"، قال: لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله
عليه وسلم قبل أن يموت= [يعني: اليهود والنصارى] . (1)
10824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا إسرائيل، عن فرات، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب
إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن
بعيسى قبل أن يموت. (2)
10825- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا الحكم
بن عطية، عن محمد بن سيرين:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته"، قال: موتِ الرجل من أهل الكتاب. (3)
10826- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته"، قال: قال ابن عباس: ليس من يهودي [يموت] حتى يؤمن بعيسى
ابن مريم. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "حتى يؤمن بعيسى، يعني اليهود والنصارى"،
وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ليس فيها: "يعني اليهود والنصارى"،
فتركتها على حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين.
(2) الأثر: 10824 - هذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) الأثر: 10825 -"الحكم بن عطية العيشي". متكلم فيه، روى عن
عاصم الأحول، والحسن، وابن سيرين، وروى عنه ابن المبارك، وعبد
الرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة: "ليس من يهودي ولا نصراني يموت حتى يؤمن"،
وفي المخطوطة: " ليس من يهودي ولا نصراني حتى يؤمن"، وضرب
الناسخ على"ولا نصراني"، وليس في المخطوطة"يموت"، فتركتها على
حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين.
(9/385)
فقال له رجل من أصحابه: كيف، والرجل يغرق،
أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السَّبُع؟ فقال: لا
تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى.
10827- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحد من
اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله= صلى الله عليه وسلم.
10828- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن
جويبر في قوله:"ليؤمنن به قبل موته"، قال: في قراءة أبيّ: (قبل
موتهم) . (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى
الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي.
*ذكر من قال ذلك:
10829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد، عن حميد قال، قال عكرمة: لا يموت النصراني واليهوديُّ
حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم= يعني في قوله:"وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة والصواب، قول من قال:
تأويل ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل
ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل
الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه،
__________
(1) الأثر: 10828 - انظر الأثر السالف رقم: 10814.
(9/386)
وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو
كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ
إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من
أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له
ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال
المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في
الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. (1) لأن من مات مؤمنًا بعيسى،
فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله
عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم،
فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله
ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله
ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أنّ معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في
قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما هو
إقراره بأنه لله نبيٌّ مبعوث، دون تصديقه بجميع ما أتى به من
عند الله= فقد ظن خطأ.
وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبًا إلى الإقرار بنبوّة نبي، من
كان له مكذبًا في بعض ما جاء به من وحْي الله وتنزيله. بل غير
جائز أن يكون منسوبًا إلا الإقرار بنبوة أحد من أنبياء الله،
لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله.
فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمّته من عند الله،
مكذِّب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عبادَ
الله. وإذْ كان ذلك كذلك= وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين
على أن كلَّ كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله
__________
(1) قوله: "وتقبيره" أي دفنه حيث يدفن، وكأنه من ألفاظ الفقهاء
على عهد أبي جعفر، والذي في اللغة"قبره يقبره" دفنه، و"أقبره"
جعل له قبرًا. أما "قبر يقبر تقبيرًا" بهذا المعنى، فلم أجدها
في معاجم اللغة.
(9/387)
عليه وما جاء به من عند الله، (1) محكوم له
بحكم الملّة التي كان عليها أيام حياته، (2) غيرُ منقولٍ شيء
من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته، عما كان
عليه في حياته= دلَّ الدليل على أن معنى قول الله: (3) "وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما معناه: إلا ليؤمنن
بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصٍ من أهل الكتاب، ومعنيٌّ
به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن
ذلك كائن عند نزوله، كالذي:-
10830- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثني يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة: أن نبيَّ الله صلى
الله عليه وسلم قال: الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، أمهاتهم شتى
ودينهم واحدٌ. وإنيّ أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن
بيني وبينه نبيٌّ. وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل
مربُوع الخَلق، إلى الحمرة والبياض، سَبْط الشعر، كأن رأسه
يقطر وإن لم يصبه بَلل، بين ممصَّرتين، فيدُقّ الصليب، ويقتل
الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام
حتى يهلك الله في زمانه الملل كلَّها غير الإسلام، ويهلك الله
في زمانه مسيحَ الضلالة الكذابَ الدجال، وتقع الأمَنَة في
الأرض في زمانه، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر،
والذئاب مع الغنم، وتلعب الغِلمان= أو: الصبيان= بالحيات، لا
يضرُّ بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله= وربما قال:
أربعين سنة= ثم يتوفَّى،
__________
(1) في المطبوعة: "وإذ كان ذلك كذلك كان في إجماع الجميع من
أهل الإسلام على أن كل كتابي.." غير ما في المخطوطة، ليصلح
الخطأ الذي وقع فيها. كما سترى في التعليق: 3.
(2) في المطبوعة: "بحكم المسألة التي كان عليها ... "، والصواب
من المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "أدل الدليل على معنى قول الله"،
والصواب يقتضي ما أثبت. وسياق العبارة: "وإذ كان ذلك كذلك،
وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين ... دل الدليل على أن معنى
قول الله ... إنما معناه ... ". فهذا هو السياق الذي يدل على
صواب ما صححته في المطبوعة والمخطوطة.
(9/388)
ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. (1)
* * *
وأما الذي قال: عنى بقوله:"ليؤمنن به قبل موته"، ليؤمنن بمحمد
صلى الله عليه وسلم قبلَ موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم،
لأنه= مع فساده من الوجه الذي دَللنا على فساد قول من قال:"عنى
به: ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي"= يزيده فسادًا أنه لم يجر
لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبلَ ذلك ذكر، فيجوز
صرف"الهاء" التي في قوله:"ليؤمنن به"، إلى أنها من ذكره. وإنما
قوله:"ليؤمنن به"، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز
صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم
لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة.
فأما الدَّعاوى، فلا تتعذر على أحد.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية= إذْ كان الأمر على ما وصفنا (2)
=: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى، قبل موت عيسى=
وحذف"مَن" بعد"إلا"، لدلالة الكلام عليه، فاستغنى بدلالته عن
إظهاره، كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان
عنها.
* * *
__________
(1) الأثر: 10830 - هذا الحديث، مضى برقم: 7145، من طريق ابن
حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة،
بمثله، إلا بعض اختلاف يسير جدًا في لفظه. وهو حديث صحيح، خرجه
أخي السيد أحمد في موضعه هناك، وأشار إلى طريق الطبري هذه في
هذا الموضع، فراجعه هناك.
(2) في المطبوعة: "ما وصفت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/389)
القول في تأويل قوله: {وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويوم القيامة يكون عيسى على
أهل الكتاب"شهيدًا"، يعني: شاهدًا عليهم بتكذيب من كذَّبه
منهم، وتصديق من صدقه منهم، فيما أتاهم به من عند الله،
وبإبلاغه رسالة ربه، (1) كالذي:-
10831- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، أنه قد أبلغهم
ما أُرسل به إليهم. (2)
10832- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، يقول: يكون عليهم
شهيدًا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقرّ
بالعبوديّة على نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فحرَّمنا على اليهود الذين
نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا
أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في
كتابه= طيباتٍ من المآكل وغيرها، كانت لهم
__________
(1) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "أرسله به"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/390)
حلالا عقوبة لهم بظلمهم، الذي أخبر الله
عنهم في كتابه، (1) كما:-
10833- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم"
الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه، حرمت عليهم
أشياء ببغيهم وبظلمهم.
* * *
وقوله:"وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا"، يعني: وبصدّهم عبادَ
الله عن دينه وسبله التي شرعَها لعباده، صدًّا كثيرًا. (2)
وكان صدُّهم عن سبيل الله: بقولهم على الله الباطل، وادعائهم
أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريف معانيه عن وجوهه.
وكان من عظيم ذلك: جحودهم نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه
وسلم، وتركهم بيانَ ما قد علِموا من أمره لمن جَهِل أمره من
الناس. (3)
* * *
وبنحو ذلك كان مجاهد يقول:
10834- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم قال، حدثني
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وبصدّهم عن سبيل
الله كثيرًا"، قال: أنفسَهم وغيرَهم عن الحق.
10835- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله:"وأخذهم الربا"، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم،
لفضل تأخير في الأجل بعد مَحِلِّها، وقد بينت معنى"الربا" فيما
مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143، 507، 508.
وتفسير"الطيبات" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 6: 361 / 7: 424 /
8: 409.
(2) في المطبوعة: "التي شرحها لعبادة" وهو خطأ ظاهر.
(3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482، 513
وتفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الربا" فيما سلف 6: 7، 8، 13، 15، 22.
(9/391)
="وقد نهوا عنه" يعني: عن أخذ الربا.
* * *
وقوله:"وأكلهم أموالَ الناس بالباطل"، يعني ما كانوا يأخذون من
الرُّشَى على الحكم، كما وصفهم الله به في قوله: (وَتَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[سورة المائدة: 62] . وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل، ما
كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم
يقولون:"هذا من عند الله"، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة
الخبيثة. فعاقبهم الله على جميع ذلك، بتحريمه ما حرَّم عليهم
من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك.
وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك
بالباطل، (1) لأنهم أكلوه بغير استحقاق، (2) وأخذوا أموالهم
منهم بغير استيجاب.
* * *
وقوله:"وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا"، (3) يعني:
وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من
هؤلاء اليهود، (4) العذاب الأليم= وهو الموجع (5) = من عذاب
جهنم عنده، (6) يصلونها في الآخرة، إذا وردوا على ربهم،
فيعاقبهم بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548 / 7:
528، 578 / 8: 216.
(2) في المطبوعة: "بأنهم أكلوه ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فقوله: ... "، والصواب من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355 / 9: 353.
(5) انظر تفسير"الأليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة: "من عذاب جهنم عدة يصلونها ... " والصواب من
المخطوطة.
(9/392)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) }
قال أبو جعفر: هذا من الله جل ثناؤه استثناء، استثنَى من أهل
الكتاب من اليهود الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات التي مضت، من
قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تُنزل عليهم كتابًا من السماء".
ثم قال جل ثناؤه لعباده، مبينًا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم
ووفقه لرشده: ما كلُّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت
لكم،"لكن الراسخون في العلم منهم"، وهم الذين قد رَسخوا في
العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا
حقيقته.
* * *
وقد بينا معنى"الرسوخ في العلم"، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (1)
* * *
="والمؤمنون" يعني: والمؤمنون بالله ورسله، هم يؤمنون بالقرآن
الذي أنزل الله إليك، يا محمد، وبالكتب التي أنزلها على من
قبلك من الأنبياء والرسل، ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة
منهم: (2) أن تنزل عليهم كتابًا من السماء، لأنهم قد علموا بما
قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول، واجبٌ
عليهم اتباعك، لا يَسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك
آية معجزة ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ
في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم
__________
(1) انظر تفسير"الراسخون في العلم" فيما سلف 6: 201 - 208.
(2) في المطبوعة: "كما سأل هؤلاء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/393)
بذلك، وبما أعطيتك من الأدلّة على نبوتك،
فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه، يؤمنون بك وبما أنزل إليك من
الكتاب، وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب، كما:-
10836- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، استثنى الله أُثْبِيَّةً من أهل
الكتاب، (1) وكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم، وما أنزل
على نبي الله، يؤمنون به ويصدّقون، ويعلمون أنه الحق من ربهم.
* * *
ثم اختلف في"المقيمين الصلاة"، أهم الراسخون في العلم، أم هم
غيرهم؟.
فقال بعضهم: هم هم.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب"الراسخون في
العلم" وهما من صفة نوع من الناس.
فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، (2) وإنما هو: لكن الراسخون في
العلم منهم والمقيمون الصلاة.
*ذكر من قال ذلك:
10837- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد بن سلمة، عن الزبير قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان: ما
شأنها كتبت:
__________
(1) في المطبوعة: "ثنية"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة كما
كتبتها، ولكن أخطأ في نقطها، ووضع الألف قبلها مضطربة، كأنه شك
في قراءة الكلمة.
و"الأثبية" (بضم الألف وسكون الثاء، وكسر الباء، بعدها ياء
مفتوحة مشددة) و"الثبة" (بضم الثاء، وفتح الباء) : الجماعة من
الناس، وجمع الأولى"أثابي" (بتشديد الياء) ، وجمع
الثانية"ثبات" (بضم الثاء) و"ثبون" (بضم الثاء وكسرها) .
(2) انظر رد أبي جعفر هذه المقالة فيما سيأتي ص: 397، 398، وهو
من أحكم الردود التي احتكم فيها إلى حسن التمييز.
(9/394)
"لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة"؟
قال: إن الكاتب لما كتب:"لكن الراسخون في العلم منهم"، حتى إذا
بلغ قال: ما أكتب؟ قيل له: اكتب:"والمقيمين الصلاة"، فكتب ما
قيلَ له.
10838- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن
عروة، عن أبيه: أنه سأل عائشة عن قوله:"والمقيمين الصلاة"، وعن
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئُونَ) [سورة المائدة: 69] ، وعن قوله: (إِنَّ
هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) [سورة طه: 63] ، فقالت: يا ابن أختي،
هذا عمل الكاتب، (1) أخطئوا في الكتاب.
* * *
وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة) .
* * *
وقال آخرون، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة:"والمقيمون
الصلاة"، من صفة"الراسخين في العلم"، ولكن الكلام لما تطاول،
واعترض بين"الراسخين في العلم"،"والمقيمين الصلاة" ما اعترض من
الكلام فطال، نصب"المقيمين" على وجه المدح. قالوا: والعرب تفعل
ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته، إذا تطاولت بمدح أو ذم، خالفوا
بين إعراب أوله وأوسطه أحيانًا، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب
أوله. وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه. وربما أجروا
ذلك على نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات
التي ذكرتها في قوله: (2) (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا
عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) (3)
[سورة البقرة: 177] .
__________
(1) في المطبوعة: "عمل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
صواب محض.
(2) في المطبوعة: "بالآيات التي ذكرناها"، وهو خطأ محض،
والصواب من المخطوطة، ومن مراجعة المرجع الذي أشار إليه.
(3) انظر ما سلف 3: 352-354. ثم انظر معاني القرآن الفراء 1:
105-108.
(9/395)
وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة" من صفة
غير"الراسخين في العلم" في هذا الموضع، وإن كان"الراسخون في
العلم" من"المقيمين الصلاة".
* * *
وقال قائلو هذه المقالة جميعًا: موضع"المقيمين" في الإعراب،
خفض.
فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على"ما" التي في قوله:"يؤمنون
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.
* * *
ثم اختلف متأوّلو ذلك هذا التأويل في معنى الكلام. (1)
فقال بعضهم: معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك"، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله:"والمؤتون
الزكاة"، عطفًا على ما في"يؤمنون" من ذكر"المؤمنين"، كأنه قيل:
والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، هم والمؤتون الزكاة.
* * *
وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة"، الملائكة. قالوا: وإقامتهم
الصلاة، تسبيحهم ربَّهم، واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا:
ومعنى الكلام:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك"، وبالملائكة.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون
الزكاة، كما قال جل ثناؤه: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 61] .
* * *
وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون:"المقيمين" منصوبًا على
المدح. وقالوا: إنما تنصب العربُ على المدح من نعت من ذكرته
بعد تمام خبره. قالوا: وخبر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "متأولو ذلك في هذا التأويل"،
و"في" زائدة من الناسخ بلا شك عندي.
(9/396)
"الراسخين في العلم" قوله:"أولئك سنؤتيهم
أجرًا عظيمًا". قال: فغير جائز نصب"المقيمين" على المدح، وهو
في وسط الكلام، ولمّا يتمَّ خبر الابتداء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن
المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع"المقيمين"، خفض.
* * *
وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، وإلى
المقيمين الصلاة.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله، منكرٌ عند العرب، ولا
تكاد العرب تعطف بظاهر على مكنيٍّ في حال الخفض، (1) وإن كان
ذلك قد جاء في بعض أشعارها. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون"المقيمين"
في موضع خفض، نسَقًا على"ما"، التي في قوله:"بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك"= وأن يوجه معنى"المقيمين الصلاة"، إلى الملائكة.
فيكون تأويل الكلام:"والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك"، يا
محمد، من الكتاب="وبما أنزل من قبلك"، من كتبي، وبالملائكة
الذين يقيمون الصلاة. ثم يرجع إلى صفة"الراسخين في العلم"،
فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون
الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر.
* * *
وإنما اخترنا هذا على غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ
بن كعب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، وكذلك هو في مصحفه، فيما
ذكروا. فلو كان ذلك خطأ من الكاتب، لكان الواجب أن يكون في كل
المصاحف= غير مصحفنا الذي
__________
(1) في المطبوعة: "لظاهر" باللام، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 7: 519، 520.
(9/397)
كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه= بخلاف
ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك، ما يدل
على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان
خطأ من جهة الخطِّ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من
المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنوه الأمة
تعليمًا على وجه الصواب. (1)
وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً، على ما هو به في الخط
مرسومًا، أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك
للكاتب. (2)
* * *
وأما من وجَّه ذلك إلى النصب على وجه المدح لـ"الراسخين في
العلم"، = وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعدٍ من كلام العرب، لما
قد ذكرت قبل من العلة، (3) وهو أن العرب لا تعدِل عن إعراب
الاسم المنعوت بنعت في نَعْته إلا بعد تمام خبره. وكلام الله
جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو
[أولى] به من الفصاحة. (4)
* * *
وأما توجيه من وجّه ذلك إلى العطف به على"الهاء" و"الميم" في
قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم"= أو: إلى العطف به
على"الكاف" من قوله:"بما أنزل إليك"= أو: إلى"الكاف" من
قوله:"وما أنزل من قبلك"، فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على
المدح، لما قد ذكرت قبل من قُبْح ردِّ الظاهر على المكنيّ في
الخفض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولقنوه للأمة" باللام، وهو تغيير سيء قبيح.
(2) هذه الحجة التي ساقها إمامنا أبو جعفر رضي الله عنه، هي
حجة فقيه بمعاني الكلام، ووجوه الرأي. وهي حجة رجل عالم محيط
بأساليب العلم، عارف بما توجبه شواهد النقل، وأدلة العقل. وقد
تناول ذلك جمهور من أئمتنا، ولكن لا تزال حجة أبي جعفر أقوم
حجة في رد هذه الرواية التي نسبت إلى عائشة أم المؤمنين.
(3) في المطبوعة: "لما قد ذكرنا ... "؛ وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الزيادة بين القوسين، يستوجبها السياق.
(9/398)
وأما توجيه من وجه"المقيمين" إلى"الإقامة"،
فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل، ولا خبر تثبت
حجته. وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان.
* * *
وأما قوله:"والمؤتون الزكاة"، فإنه معطوف به على
قوله:"والمؤمنون يؤمنون"، وهو من صفتهم.
* * *
وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم مَن جعلها الله له وصرفها
إليه="والمؤمنون بالله واليوم الآخر"، يعني: والمصدّقون
بوحدانية الله وألوهته، (1) والبعث بعد الممات، والثواب
والعقاب="أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا"، يقول: هؤلاء الذين هذه
صفتهم="سنؤتيهم"، يقول: سنعطيهم="أجرًا عظيمًا"، يعني: جزاءً
على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، وثوابًا عظيمًا،
وذلك الجنة. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وألوهيته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الإيتاء" و"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/399)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (163)
القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا (163) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح"، إنا أرسلنا إليك، يا محمد، بالنبوة كما
أرسلنا إلى نوح، وإلى سائر الأنبياء الذين سَمَّيتهم لك من
بعده، والذين لم أسمِّهم لك، (1) كما:-
__________
(1) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف 6: 405، 406.
(9/399)
10839- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن
الأعمش، عن منذرٍ الثوري، عن الربيع بن خُثَيم في قوله:"إنا
أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده"، قال: أوحى
إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله. (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن
بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات التي أنزلها على رسوله صلى
الله عليه وسلم= وذلك من قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم
كتابًا من السماء"= فتلا ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى"! فأنزل
الله هذه الآيات، تكذْيبًا لهم، وأخبر نبيَّه والمؤمنين به أنه
قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية، وعلى آخرين
لم يسمِّهم، كما:-
10840- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن
حميد قال، حدثنا سلمة= عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن
أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير= أو عكرمة،
عن ابن عباس قال، قال سُكَين وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم
الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنزل الله في ذلك من
قولهما:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده"
إلى آخر الآيات. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10839 -"منذر الثوري" هو"منذر بن يعلى الثوري" أبو
يعلى. روى عن محمد بن علي بن أبي طالب، والربيع بن خثيم، وسعيد
بن جبير، وغيرهم. روى عنه ابنه الربيع بن المنذر، والأعمش،
وفطر بن خليفة وغيرهم. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 10840 - سيرة ابن هشام 2: 211، وهو تابع الآثار
التي آخرها قديمًا: 9792 وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عدي بن
ثابت"، وهو خطأ بلا شك، ففي سيرة ابن هشام وغيرها"عدي بن زيد"،
ولم أجد في أسماء الأعداء من يهود"عدي بن ثابت".
و"سكين بن أبي سكين"، و"عدي بن زيد" من بني قينقاع، ذكرهم ابن
هشام في السيرة في الأعداء من يهود 2: 161.
(9/400)
وقال آخرون: بل قالوا= لما أنزل الله
الآيات التي قبل هذه في ذكرهم=:"ما أنزل الله على بشر من شيء،
ولا على موسى، ولا على عيسى"! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ
اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، [سورة الأنعام: 91] ، ولا
على موسى ولا على عيسى.
*ذكر من قال ذلك:
10841- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله:"يسألك أهل الكتاب
أن تنزل عليهم كتابًا من السماء" إلى قوله:"وقولهم على مريم
بهتانًا عظيمًا"، فلما تلاها عليهم= يعني: على اليهود= وأخبرهم
بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله، وقالوا:"ما أنزل
الله على بشر من شيء، ولا على موسى ولا على عيسى!! وما أنزل
الله على نبي من شيء"! قال: فحلَّ حُبْوَته وقال: (1) ولا على
أحد!! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ) [سورة الأنعام: 91]
* * *
وأما قوله:"وآتينا داود زبورًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام، غير نفر من قرأة الكوفة:
(وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي" على التوحيد،
بمعنى: وآتينا داود الكتاب المسمى"زبورًا".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا) ،
بضم"الزاي" جمع"زَبْرٍ".
كأنهم وجهوا تأويله: وآتينا داود كتبًا وصحفًا مَزْبورة.
* * *
__________
(1) "الحبوة" (بضم الحاء وفتحها، وسكون الباء) : الثوب الذي
يحتبى به. و"الاحتباء": أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب
يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. وقد يكون"الاحتباء" باليدين
عوض الثوب.
(9/401)
وَرُسُلًا قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164)
= من قولهم:"زَبَرت الكتاب أزْبُره
زَبْرًا" و"ذَبُرته أذْبُره ذَبْرًا"، إذا كتبته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من
قرأ: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي"، على أنه
اسم الكتاب الذي أوتيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتيه
موسى"التوراة"، والذي أوتيه عيسى"الإنجيل"، والذي أوتيه
محمد"الفرقان"، لأن ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود.
وإنما تقول العرب:"زَبُور داود"، بذلك تعرف كتابَه سائرُ
الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنا أوحينا إليك، كما
أوحينا إلى نوح وإلى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم
عليك.
* * *
فلعل قائلا يقول: فإذ كان ذلك معناه، فما بال قوله:"ورسلا"
منصوبًا غير مخفوض؟ قيل: نصب ذلك إذ لم تعد عليه"إلى" التي
خفضت الأسماء قبله، وكانت الأسماء قبلها، وإن كانت مخفوضة،
فإنها في معنى النصب. لأن معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولا كما
أرسلنا نوحًا والنبيين من بعده، فعُطفت"الرسل" على معنى
الأسماء قبلها في الإعراب، لانقطاعها عنها دون ألفاظها، إذ لم
يعد عليها ما خفضها، كما قال الشاعر. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الزبور" فيما سلف 7: 450، 451، وبين هنا ما
أجمله هناك، وهذا من ضروب اختصاره التفسير.
(2) لم أعرف قائله.
(9/402)
لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ مُنَشَّرَا
... وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا والسُّكَّرَا ... لَمْ
يُرْضِهِ ذلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا (1)
* * *
وقد يحتمل أن يكون نصب"الرسل"، لتعلق"الواو" بالفعل، بمعنى:
وقصصنا رسلا عليك من قبل، كما قال جل ثناؤه: (يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا) [سورة الإنسان: 31] . (2)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ (ورسل قد قصصناهم عليك من قبل
ورسل لم نقصصهم عليك) ، فرفعُ ذلك، إذ قرئ كذلك، بعائد الذكر
في قوله:"قصصناهم عليك". (3)
* * *
وأما قوله:"وكلم الله موسى تكليمًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه:
وخاطب الله بكلامه موسى خطابًا، وقد:-
10842- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا نوح
بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليمًا؟ فقال: مشافهة.
(4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "لو جيت لنا بالخير مبشرًا"، وهو فاسد جدًا،
والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "منشرًا" أي مبسوطًا بسطًا،
كما يبسط الثوب، كأنه يعني الرقاق بعضه على بعض.
(2) قد بين أبو جعفر ذلك في تفسير"سورة الإنسان" 29: 140
(بولاق) فقال: و"نصب (الظالمين) لأن الواو ظرف ل"أعد".
والمعنى: وأعد للظالمين عذابًا أليمًا".
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 295.
(4) الأثر: 10842 -"نوح بن أبي مريم"، أبو عصمة القرشي، قاضي
مرو. كان أبوه مجوسيًا ويقال له: "نوح الجامع"، وسمي"الجامع"،
لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج
بن أرطاة وطبقته، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن ابن
إسحاق، وكان مع ذلك عالمًا بأمور الدنيا. وكان شديدًا على
الجهمية والرد عليهم، تعلم منه نعيم بن حماد الرد على الجهمية.
ولكنه كان مع ذلك كله ذاهب الحديث، ليس بثقة، لا يجوز الاحتجاج
به. وقال ابن حبان: "نوح الجامع: جمع كل شيء إلا الصدق"!!
مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 111، وابن أبي حاتم 4 / 1 /
484.
وفي المخطوطة إشكال، وذلك أن فيها: "نوح بن أبي هند"، واضحة
الكتابة جدًا، ولكني لم أجد"نوح بن أبي هند"، ولم أستطع أن أجد
له تصحيفًا أو تحريفًا. فأبقيت ما في المطبوعة على حاله، وأثبت
هذا الذي في المخطوطة، عسى أن أوفق بعد إلى الصواب في هذا
الإسناد.
(9/403)
وقد:-
10843- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن مبارك، عن
معمر ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن
هشام قال، أخبرني جزى بن جابر الخثعمي قال: سمعت كعبًا يقول:
إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى، كلمه بالألسنة كلها قبل كلامه=
يعني: كلام موسى= فجعل يقول: يا رب، لا أفهم! حتى كلمه بلسانه
آخر الألسنة، فقال: يا رب هكذا كلامك؟ قال: لا ولو سمعت كلامي=
أي: على وجهه= لم تك شيئًا!
= قال ابن وكيع: قال أبو أسامة (!!) : وزادني أبو بكر الصغاني
في هذا الحديث أن موسى قال: يا رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟
قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما تسمع الناسُ من
الصواعق. (1)
__________
(1) الأثر: 10843 -"أبو أسامة"، هو: "حماد بن زيد بن أسامة"
مضى برقم: 5265، والاختلاف في اسمه. و"أبو بكر بن عبد الرحمن
بن الحارث بن هشام"، مضت ترجمته رقم: 2351، 7820.
و"جزى بن جابر الخثعمي"، ترجم له البخاري في الكبير 1 / 2 /
254، 255، باسم"جرز بن جابر الخثعمي" وقال: "قاله أبو اليمان،
عن شعيب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن". ثم قال: "وقال عبد
الرزاق، عن معمر: جريز بن جابر الخثعمي" [قلت: الصواب"جزى"،
كما في مخطوطة الطبري، وكما نص عليه ابن أبي حاتم كما سيأتي] .
ثم قال البخاري: "وقال يونس وابن أخي الزهري والزبيدي: جزء".
ثم قال أيضًا: "وقال إسماعيل، عن أخيه سليمان عن ابن أبي عتيق:
جرو بن جابر" [قلت: وهو الإسناد الآتي رقم: 10846] .
أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 546، 547، فقد
ترجم له باسم: "جزء بن جابر الخثعمي"، وقال: "في رواية شعيب بن
أبي حمزة، عن الزهري"، فدل هذا على أن ترجمة البخاري له، جائز
أن تكون باسم"جزء بن جابر"، بل أرجح أن ذلك هو الصواب إن شاء
الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: "وفي رواية معمر: جزى بن جابر، وهو وهم
تابعه عليه الزبيدي"، فوافق البخاري في رواية معمر، وخالفه في
متابعة الزبيدي، فإن البخاري قال عنه في روايته"جزء". ثم قال
أيضًا: "ويقال: حزن بن جابر" سمعت أبي يقول ذلك"، وأخشى أن
يكون في نسخة ابن أبي حاتم تحريف، وأن يكون صوابها كما في
البخاري: "جرو" بالراء، أو "جزو" بالزاي. وكل هذا مشكل لا
يهتدي فيه إلى اليقين، إنما هو النقل. ثم انظر الآثار من رقم:
10845 - 10847.
وكان في المطبوعة: "جزء من جابر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
الصواب الذي يدل عليه كلام البخاري وابن أبي حاتم، لأن هذه هي
رواية معمر.
ثم يأتي إشكال آخر، ففي المخطوطة: "قال ابن كعب، قال أبو
أسامة، وزادني أبو بكر الصغاني ... ".
أما "ابن كعب"، فخطأ ظاهر لا شك فيه، إنما هو كما في المطبوعة:
"ابن وكيع"، وسها الناسخ، لذكر"كعب الأحبار" في الخبر، فضللته
الكافات في"وكيع" و"كعب" حتى نسي فكتب"ابن كعب".
وأما الإشكال، فإن"أبا بكر الصغاني"، هو"محمد بن إسحاق بن
جعفر" الحافظ الرحلة، وهو شيخ الطبري، مضت روايته عنه في
مواضع، انظر رقم: 4074، وفيها ترجمته، ورقم: 4330 وروى عنه في
المنتخب من ذيل المذيل (الملحق بتاريخه) ص: 104، كما أشرت
إليه. ولا شك في أن"أبا أسامة حماد بن زيد"، لم يرو عنه قط.
فواضح أن القائل: "وزادني أبو بكر الصغاني" هو أبو جعفر محمد
بن جرير نفسه.
وإذن، فما قوله: "قال ابن وكيع، قال أبو أسامة"؟ لا أدري على
التحقيق، فإما أن يكون سقط من الناسخ شيء. وإما أن يكون المملي
(أبو جعفر، أو غيره) ، أراد أن ينتقل إلى الإسناد التالي رقم:
10844، فأملى صدر الإسناد، ثم عاد لما فاته من تتمة كلام أبي
جعفر في الخبر 10843، وهو قوله: "وزادني أبو بكر الصغاني"، ولم
ينتبه الكاتب عنه لما وقع فيه المملي من التردد. هذا غاية ما
أجد من تفسير ذلك. هذا، والمخطوطة لا يعتمد عليها في هذا
الموضع كل الاعتماد، لأن فيها خرمًا أو حذفًا كما سترى في
الأسانيد: 10845 - 10847، ولله وحده العلم. وكتبه: محمود محمد
شاكر.
وقد كان في المطبوعة: "أشد ما تسمع"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/404)
10844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو
أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر قال، سمعت محمد بن
كعب القرظي يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال
موسى: الرعد الساكب. (1)
10845- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الله بن وهب
__________
(1) الأثر: 10844 -"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب"، مضى برقم: 7819. وقد كان في المخطوطة: " ... عبد الله
بن عمرو"، وهو خطأ بين.
وقوله: "الرعد الساكب"، هكذا قرأتها، وفي المخطوطة والمطبوعة:
"الرعد الساكن" بالنون في آخره، ولست أجد لها معنى يعقل. أما
"الساكب"، فإنه الوصف المعقول في صفة شدة صوت الرعد، وذلك
تتابعه وانسياحه. وفي الحديث: "فإذا سكب المؤذن بالأولى من
صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين"، وذلك صفة المؤذن إذا
أذن، فأطال في أذانه وردده ورجعه، وأصله من"سكب الماء"، ثم
استعير"السكب" للإفاضة في الكلام أو غيره من الأصوات، كما
يقال: "أفرغ في أذني حديثًا"، أي: ألقى وصب.
(9/405)
قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني
أبو بكر بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي قال:
لما كلّم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق يقول: والله
يا رب، ما أفقه هذا!! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته،
فقال موسى: يا ربِّ هذا كلامك؟ قال: لا. قال: هل في خلقك شيء
يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشد ما يسمع
الناس من الصواعق. (1)
10846- حدثني أبو يونس المكي قال، حدثنا ابن أبي أويس قال،
أخبرني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنه أخبره جزء بن
جابر الخثعمي: أنه سمع [كعب] الأحبار يقول: لما كلم الله موسى
بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى يقول: أي رب، والله ما
أفقه هذا!! حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته، فقال موسى:
أي رب، أهكذا كلامك؟ فقال: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال:
أي رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ فقال: لا وأقرب خلقي شبهًا
بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق. (2)
__________
(1) الأثر: 10845 -"جزء بن جابر الخثعمي"، هذا هو الصواب، لأنه
رواية يونس عن ابن شهاب الزهري، التي أشار إليها البخاري، كما
أثبته في التعليق على الأثر رقم: 10843.
(2) الأثر: 10846 -"أبو يونس المكي" شيخ الطبري، لم أعرفه، ولم
أجده، ولم تمر بي قبل ذلك له رواية عنه.
و"ابن أبي أويس" هو: "إسماعيل عبد الله بن أويس بن مالك
الأصبحي" مضت ترجمته برقم: 45.
و"أخوه" هو: "أبو بكر: عبد الرحمن بن عبد الله بن أويس"، مضى
أيضًا برقم: 45.
و"سليمان"، هو: "سليمان بن بلال التيمي القرشي". مضى برقم:
4333، 4923.
و"ابن أبي عتيق" أو "محمد بن أبي عتيق"، هو: "محمد بن عبد الله
بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، مضت ترجمته برقم:
4923، 10317.
وهذا هو الإسناد الذي أشار إليه البخاري، كما ذكرت في التعليق
على الأثر رقم: 10843، وأن روايته فيه"جرو بن جابر"، وذكره ابن
أبي حاتم أيضًا، فانظر ما قلت فيه هناك.
وكان في المطبوعة هنا: "أنه سمع الأحبار تقول"، ولكن تدل
الروايات السالفة والآتية، وما أشار إليه البخاري وابن أبي
حاتم، أن صواب ذلك"كعب الأحبار"، فزدت"كعب" بين القوسين، وهو
الصواب المحض إن شاء الله.
(9/406)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(165)
10847- حدثنا ابن عبد الرحيم قال، حدثنا
عمرو قال، حدثنا زهير، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جزء بن جابر: أنه سمع كعبًا
يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة قبل لسانه، طفق موسى يقول:
أي رب، إني لا أفقه هذا!! حتى كلمه الله آخر الألسنة بمثل
لسانه، فقال موسى: أي رب، هذا كلامك؟ قال الله: لو كلمتك
بكلامي لم تكن شيئًا! قال، يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟
قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما يسمع من الصواعق.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إنا أوحينا إليك كما أوحينا
إلى نوح والنبيين من بعده، ومن ذكر من الرسل (2) ="رسلا"،
فنصب"الرسل" على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم
(3) ="مبشرين"، يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي، مبشرين
بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي، ومنذرين
__________
(1) الأثر: 10847 - هذا إسناد لم يشر إليه البخاري، ولا ابن
أبي حاتم. هذا، والأخبار الثلاثة الأخيرة من رقم: 10845 -
10847، ليست في المخطوطة. فكأن الناسخ قد اختصر في كتابه.
ومهما يكن من أمر هذا الخبر، فإن صفة ربنا تعالى وتقدست
أسماؤه، مما لا يؤخذ عن كعب الأحبار وأشباهه، بل الأمر فيها
لله وحده، هو كما يثني على نفسه، وكما بلغ عنه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لا كعب الأحبار ومن لف لفه.
(2) في المخطوطة: "ومن ذكر الرسل"، بإسقاط"من"، والصواب ما في
المطبوعة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فنصب به الرسل"، بزيادة"به"،
والصواب حذفها. انظر معنى"القطع" فيما سلف من فهارس المصطلحات.
(9/407)
عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي="لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، يقول: أرسلت رسلي إلى
عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من
دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه: (لَوْلا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) [سورة طه: 134] . فقطع حجة كلّ
مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة
عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم
وعلى جميع خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10849- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل"، فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا.
* * *
="وكان الله عزيزًا حكيمًا"، يقول: ولم يزل الله ذا عِزة في
انتقامه ممن انتقم [منه] من خلقه، (1) على كفره به، ومعصيته
إياه، بعد تثبيته حجَّتَه عليه برسله وأدلَّتَه="حكيمًا"، في
تدبيره فيهم ما دبّره. (2)
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(2) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف: ص408، تعليق: 2، والمراجع
هناك= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/408)
لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166)
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يكفر بالذي أوحينا إليك،
يا محمد، اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابًا من السماء،
وقالوا لك:"ما أنزل الله على بشر من شيء" فكذبوك، فقد كذبوا.
ما الأمر كما قالوا: لكن الله يشهد بتنزيله إليك ما أنزل من
كتابه ووحيه، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه،
وصفِيُّه من عباده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيبُ
من كذَّبك، وخلافُ من خالفك="وكفى بالله شهيدًا"، يقول: وحسبك
بالله شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك
بالصدق ربك، لم يَضِرْك تكذيب من كذَّبك.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، دعاهم النبي صلى
الله عليه وسلم إلى اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته،
فجحدوا نبوَّته وأنكروا معرفته.
ذكر الخبر بذلك:
10850- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس، عن محمد بن إسحاق قال،
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن
جبير= أو عكرمة= عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم: إني والله أعلم إنكم
لتعلمون أنيّ رسول الله! فقالوا: ما نعلم ذلك! فأنزل الله:"لكن
الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى
بالله شهيدًا".
10851- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عِصابة من
اليهود، ثم ذكر نحوه. (1)
__________
(1) الأثران: 10850، 10851 - سيرة ابن هشام 2: 211 مع اختلاف
في لفظه، وهو تابع الأثر السالف رقم: 10840.
(9/409)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
10852- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله
بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا"، شهودٌ والله غير
مُتَّهمة.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا، يا محمد،
نبوتك بعد علمهم بها، من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم،
وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه أوحى إليك كتابه="وصدوا عن سبيل
الله"، يعني: عن الدين الذي بعثَك الله به إلى خلقه، وهو
الإسلام. وكان صدهم عنه، قِيلُهم للناس الذين يسألونهم عن محمد
من أهل الشرك:"ما نجد صفة محمد في كتابنا! "، وادعاءهم أنهم
عُهِد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية
داود، وما أشبه ذلك من الأمور التي كانوا يثبِّطون الناس بها
عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق به وبما جاء
به من عند الله.
* * *
وقوله:"قد ضلُّوا ضلالا بعيدًا"، يعني: قد جاروا عن قصد الطريق
جورًا شديدًا، وزالوا عن المحجّة. (1)
وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة وضلالهم عنها، إخطاءَهم
دين الله الذي ارتضاه لعباده، وابتعث به رسله. يقول: من جحد
رسالة محمد صلى الله
__________
(1) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 391، تعليق: 3، والمراجع
هناك. وانظر تفسير"سبيل الله" في فهارس اللغة.
(9/410)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا (169)
عليه وسلم، وصدَّ عما بُعث به من الملة من
قَبِل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث
به أنبياءه، ضلالا بعيدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم، فكفروا بالله بجحود ذلك، وظلموا بمُقامهم
على الكفر على علم منهم، بظلمهم عبادَ الله، وحسدًا للعرب،
وبغيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="لم يكن الله ليغفر
لهم"، يعني: لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها،
ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها (2) ="ولا ليهديهم
طريقًا"، يقول: ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين
كفروا وظلموا، الذين وصفنا صفتهم، فيوفقهم لطريق من الطرق التي
ينالون بها ثوابَ الله، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة، ولكنه
يخذلهم عن ذلك، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كنى بذكر"الطريق"
عن الدين. وإنما معنى الكلام: لم يكن الله ليوفقهم للإسلام،
ولكنه يخذلهم عنه إلى"طريق جهنم"، وهو الكفر، يعني: حتى يكفروا
بالله ورسله، فيدخلوا جهنم="خالدين فيها أبدًا"، يقول: مقيمين
فيها أبدًا="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يقول: وكان تخليدُ
هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم،
__________
(1) انظر تفسير"ضل ضلالا بعيدًا" فيما سلف ص: 314، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "إياهم عليهم"، والصواب من المخطوطة.
(9/411)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (170)
على الله يسيرًا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك
به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه، ولا يستصعب عليه
ما أراد فعله به من ذلك، وكان ذلك على الله يسيرًا، لأن الخلق
خلقُه، والأمرَ أمرُه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ
الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا
لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
(170) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا أيها الناس"، مشركي
العرب، وسائرَ أصناف الكفر="قد جاءكم الرسول"، يعني: محمدًا
صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم="بالحق من ربكم"، يقول: بالإسلام
الذي ارتضاه الله لعباده دينًا، يقول:="من ربكم"، يعني: من عند
ربكم (1) ="فآمنوا خيرًا لكم"، يقول: فصدِّقوه وصدّقوا بما
جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيمان بذلك خير لكم من
الكفر به="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به
وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به، لن
يضرَّ غيركم، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم، دون الذي أمركم
بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، (2) وذلك
أن لله ما في السموات والأرض، ملكًا وخلقًا، لا ينقص كفركم بما
كفرتم به من أمره، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه، من ملكه
وسلطانه شيئًا (3) ="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول:"وكان
الله عليمًا"، بما
__________
(1) انظر تفسير"من ربكم" بمثله، فيما سلف 6: 440.
(2) في المطبوعة: "دون الله الذي أمركم ... "، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) السياق: لا ينقص كفركم ... من ملكه وسلطانه شيئًا".
(9/412)
أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به
وفيما نهاكم عنه، ومعصيته في ذلك، على علم منه بذلك منكم،
أمركم ونهاكم (1) ="حكيمًا" يعني: حكيمًا في أمره إياكم بما
أمركم به، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من
تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله:"خيرًا
لكم".
فقال بعض نحويي الكوفة: نصب"خيرًا" على الخروج مما قبله من
الكلام، (3) لأن ما قبله من الكلام قد تمَّ، وذلك
قوله:"فآمنوا". وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان
تامًّا، ثم اتصل به كلام بعد تمامه، على نحو اتصال"خير" بما
قبله. فتقول:"لتقومن خيرًا لك" و"لو فعلت ذلك خيرًا لك"، و"اتق
الله خيرًا لك". قال: وأما إذا كان الكلام ناقصًا، فلا يكون
إلا بالرفع، كقولك:"إن تتق الله خير لك"، و (وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النساء: 25] .
* * *
وقال آخر منهم: جاء النصب في"خير"، لأن أصل الكلام: فآمنوا هو
خيرٌ لكم، فلما سقط"هو"، الذي [هو كناية] ومصدرٌ، (4) اتّصل
الكلام بما قبله، والذي قبله معرفة، و"خير" نكرة، فانتصب
لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل"قم فالقيام خير لك"،
(5) و"لا تقم فترك القيام خير لك". فلما سقط اتصل
__________
(1) في المطبوعة: "وعلى علم ... " بزيادة الواو، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر"الخروج" فيما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) في المطبوعة: "الذي هو مصدر"، وفي المخطوطة"الذي مصدر"،
ورجحت أن الصواب ما أثبت، لأن تأويل الكلام، على مذهبه هذا:
فالإيمان خير لكم، فالضمير"هو" كناية عن"الإيمان"، وهو مصدر.
(5) أخشى أن يكون سقط قبل قوله: "لأن الإضمار من الفعل: "قم
فالقيام خير لك ... " إلى آخر الكلام، ما يصلح أن يكون هذا
تابعًا له، كأنه ضرب مثلين هما: "قم خير لك" و"لا تقم خير لك".
ومع ذلك فقد تركت الكلام على حاله، ووضعت بينه نقطًا للدلالة
على ذلك....
(9/413)
بالأول. وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن
الأمر تصلح قبل الخبر، فتقول للرجل:"اتق الله هو خير لك"، أي:
الاتقاء خير لك. وقال: ليس نصبه على إضمار"يكن"، لأن ذلك يأتي
بقياس يُبْطل هذا. ألا ترى أنك تقول:"اتق الله تكن محسنًا"،
ولا يجوز أن تقول:"اتق الله محسنًا"، وأنت تضمر"كان"، ولا يصلح
أن تقول:"انصرنا أخانا"، وأنت تريد:"تكن أخانا"؟ (1) وزعم قائل
هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في"أفعل" خاصة، (2) فتقول:"افعل
هذا خيرًا لك"، و"لا تفعل هذا خيرًا لك"، و"أفضل لك".، ولا
تقول:"صلاحًا لك". وزعم أنه إنما قيل مع"أفعل"، لأن"أفعل" يدل
على أن هذا أصلح من ذلك.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: نصب"خيرًا"، لأنه حين قال لهم:"آمنوا"،
أمرهم بما هو خيرٌ لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرًا لكم، وكذلك:
(انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: 171] . قال: وهذا
إنما يكون في الأمر والنهي خاصة، ولا يكون في الخبر= لا
تقول:"أن أنتهي خيرًا لي"؟ (3) ولكن يرفع على كلامين، لأن
الأمر والنهي يضمر فيهما= فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء، لأنك
حين قلت له:"انته"، (4) كأنك قلت له:"اخرج من ذا، وادخل في
آخر"، (5) واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
__________
(1) من أول قوله: "ألا ترى أنك ترى الكناية ... " إلى هذا
الموضع، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 295، 296. فظاهر
إذن أن هذه مقالة الفراء، ما قبل هذا، وما بعده. إلا أني لم
أجده في هذا الموضع من معاني القرآن، فلعل أبا جعفر جمعه من
كتابه في مواضع أخر، عسى أن أهتدي إليها فأشير إليها بعد.
(2) في المخطوطة: "أفعال خاصة"، وهو خطأ ظاهر.
(3) في المطبوعة: "أنا أنتهي" والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "اتقه" بالقاف، والصواب"انته"، لأن
المثال قبله: "أن أنتهي خيرًا لي".
(5) في المخطوطة"وأخرج في آخر"، خطأ ظاهر.
وهذا القول الذي ذكره هو قول سيبويه في الكتاب 1: 143، وبسط
القول فيه، واختصره أبو جعفر.
(9/414)
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أوِ
الرُّبَى بَيْنَهُمَا أَسْهَلا (1)
كما تقول:"واعديه خيرًا لك". قال: وقد سمعت نصبَ هذا في الخبر،
تقول العرب:"آتي البيت خيرًا لي، وأتركه خيرًا لي"، وهو على ما
فسرت لك في الأمر والنهي. (2)
وقال آخر منهم: نصب"خيرًا"، بفعل مضمر، واكتفى من ذلك المضمر
بقوله: (3) "لا تفعل هذا" أو"افعل الخير"، وأجازه في
غير"أفعل"، فقال:"لا تفعل ذاك صلاحًا لك".
* * *
وقال آخر منهم: نصب"خيرًا" على ضمير جواب"يكن خيرًا لكم". (4)
وقال: كذلك كل أمر ونهي. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه: 131، سيبويه 1: 143، الخزانة 1: 280 وغيرها كثير،
وبعد البيت: وَلْيِأْتِ إِنْ جَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ ... إِنِّي
أَخَافُ الْمُهْرَ أَنْ يَصْهَلا!
وقوله: "أسهلا"، أي: ائت أسهل الأمرين عليك. هذا تفسيره على
مقالة سيبويه.
(2) هذا تمام كلام سيبويه، ولكن أعياني أن أجد مكانه في
الكتاب.
(3) في المطبوعة: "كقوله: لا تفعل هذا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) قوله: "ضمير" هو، الإضمار، مصدر - لا بمعنى مضمر في اصطلاح
سائر النحاة. وانظر ما سلف 1: 427، تعليق: 1 / 2: 107، تعليق:
1 / 8: 273، تعليق: 1.
(5) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 143.
(9/415)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا
تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل
الإنجيل من النصارى="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تجاوزوا
الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن
قيلكم في عيسى إنه ابن الله، قول منكم
(9/415)
على الله غير الحق. لأن الله لم يتخذ ولدًا
فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنًا="ولا تقولوا على الله إلا
الحق".
* * *
وأصل"الغلو"، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في
الدين:"قد غلا فهو يغلو غلوًّا"، و"غَلا بالجارية عظمها
ولحمها"، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِدَاتها="يغلو بها
غُلُوًّا، وغَلاءً"، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي:
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها ... رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلا
بِهَا عَظْمُ (1)
* * *
وقد:-
10853- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر،
__________
(1) الأغاني 9: 226، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 143، اللسان
(غلا) . وفي الأغاني"علا" بالعين المهملة، وهو خطأ يصحح.
وقد مضى بيت من هذه القصيدة في 1: 116، تعليق: 3، وذكرت خبرها
هناك، وهو من أبيات يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه
وأيامها: إِذْ وُدُّهَا صَافٍ، وَرُؤْيَتُهَا ... أُمْنِيّةٌ،
وَكَلامُهَا غُنْمُ
لَفَّاءُ مَمْلُوءُ مُخَلْخَلُهَا ... عَجْزاءُ لَيْسَ
لِعَظْمِهَا حَجْمُ
خُمْصَانَةٌ................ ... . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وَكَأَنَّ غَالِيَةً تُبَاشِرُها ... تَحْتَ الثِّيَابِ، إِذَا
صَغَا النَّجْمُ
وهو شعر جيد، وصفة حسنة للمرأة."لفاء"، ملتفة الفخذين، مكتنز
لحمها، وهو حسن في النساء، قبيح في الرجال."مملوء مخلخلها"،
موضع خلخالها، خفيت عظامها تحت اللحم، وهو صفة حسنة، لم تظهر
عظامها كأنها دقت بالمسامير."عجزاء": حسنة العجيزة."خمصانة"
(بفتح الخاء وضمها) : ضامرة البطن."قلق موشحها"، قد استوى
خلقها، فالوشاح يجول عليها من ضمورها، لم يمتلئ لحمًا يجعلها
لحمة واحدة!! "رؤد الشباب": شابة حسنة تهتز من النعمة وإشراق
اللون. و"الغالية": ضرب من الطيب."صغا النجم": مال للمغيب،
وذلك في مطلع الفجر، حين تتغير أفواه البشر وأبدانهم، وتظهر
لها رائحة لا تستحب. وقل في الناس من يكون بهذه الصفة!!
(9/416)
عن أبيه، عن الربيع قال: صاروا فريقين:
فريق غلَوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه،
وفريق منهم قصَّروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يعني ثناؤه بقوله:"إنما المسيح عيسى ابن مريم"،
ما المسيح، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب، بابن الله،
كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم، دون غيرها من الخلق، لا نسب
له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال: هو
رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه.
* * *
وأصل"المسيح"،"الممسوح"، صرف من"مفعول" إلى"فعيل". وسماه الله
بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل: مُسِح من الذنوب والأدناس
التي تكون في الآدميين، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون
فيه، فيطهر منه. ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله:"المسيح"،
الصدّيق. (1)
* * *
وقد زعم بعض الناس أنّ أصل هذه الكلمة عبرانية أو
سريانية"مشيحا"، فعربت فقيل:"المسيح"، كما عرب سائر أسماء
الأنبياء التي في القرآن مثل:
__________
(1) انظر ما سلف 6: 414، فهناك تجد قول مجاهد هذا. وقد علقت
هناك، وأشرت إلى اختصار أبي جعفر، ورجحت ما في الكلام نقص.
وهذا الموضع من كلامه يدل على أن أبا جعفر نفسه هو الذي اختصر
الكلام اختصارًا هناك، من النسيان فيما أرجح، أو لأنه ألف
تفسيره على فترات تباعدت عليه. ولولا ذلك لأشار هنا -كعادته-
إلى الموضع السالف الذي فسر فيه معنى"المسيح".
(9/417)
"إسماعيل" و"إسحاق" و"موسى" و"عيسى".
* * *
قال أبو جعفر: وليس ما مثَل به من ذلك لـ"المسيح" بنظير. وذلك
أن"إسماعيل" و"إسحاق" وما أشبه ذلك، أسماء لا صفات، و"المسيح"
صفة. وغير جائز أن تخاطب العرب، وغيرها من أجناس الخلق، في صفة
شيء إلا بمثل ما تفهم عمَّن خاطبها. ولو كان"المسيح" من غير
كلام العرب، ولم تكن العرب تعقل معناه، ما خوطبت به. وقد أتينا
من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته.
(1)
* * *
وأما"المسيح الدجال"، فإنه أيضًا بمعنى: الممسوح العين، صرف
من"مفعول" إلى"فعيل". فمعنى:"المسيح" في عيسى صلى الله عليه
وسلم: الممسوح البدن من الأدناس والآثام= ومعنى:"المسيح" في
الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى، كالذي روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. (2)
* * *
وأما قوله:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، فإنه يعني: بـ "الكلمة"،
الرسالة التي
__________
(1) انظر ما سلف 1: 13-24.
(2) هو ما جاء في الأحاديث الصحاح عن جماعة من الصحابة في صفة
المسيح الدجال، أعاذنا الله من فتنته. من ذلك حديث حذيفة (مسلم
18: 60) قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدَجَّالُ أعورُ العَيْنِ
اليُسْرَى، جُفَال الشَّعَرَ، معهُ جنَّةٌ ونارٌ، فَنَارُهُ
جَنَّةٌ، وجَنَّتُه نارٌ) .
وحديث ابن عمر:
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الدجّال بين
ظَهْرَانَي الناس فقال: إِنَّ الله ليسَ بأَعْور، أَلا وإنَّ
المسيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العين اليُمْنَى، كأَن عينه
عِنَبَةٌ طَافيةٌ) .
وأحاديث الدجال كثيرة، مختلفة الألفاظ، مختصرة ومطولة. فاللهم
إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا
والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
(9/418)
أمرَ الله ملائكته أن تأتي مريم بها،
بشارةً من الله لها، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (إِذْ
قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [سورة آل عمران: 45] ، يعني: برسالة منه،
وبشارة من عنده.
* * *
وقد قال قتادة في ذلك ما:-
10854- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، قال: هو
قوله:"كن"، فكان.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى،
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"ألقاها إلى مريم"، يعني: أعلمها بها وأخبرها، كما
يقال:"ألقيت إليك كلمة حسنة"، بمعنى: أخبرتك بها وكلّمتك بها.
(2)
* * *
وأما قوله:"وروح منه"، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"وروح منه"، ونفخة منه، لأنه حدث عن
نفخة جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك،
(3) فنسب إلى أنه"روح من الله"، لأنه بأمره كان. قال: وإنما
سمي النفخ"روحًا"، لأنها ريح تخرج من الرُّوح، واستشهدوا على
ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها:
__________
(1) انظر تفسير"الكلمة" فيما سلف 6: 411، 412.
(2) هذا معنى يقيد في كتب اللغة، فإنك قلما تصيبه فيها، وهو
بيان واضح جدًا.
(3) "درع المرأة": قميصها الذي يحميها أعين الفساق، كما تحمي
الدرع لابسها. وبعيد أن يسمى شيء من لباس المرأة اليوم"درعًا"،
فإنها لا تدرع من شيء، والرجل لا يتورع عن شيء!! والله
المستعان.
(9/419)
فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُها، وَهْيَ
طِفْلَةٌ ... بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلا شِبْرَا
(1)
__________
(1) ديوانه: 176، واللسان (روح) ، والمزهر 1: 556، وغيرها.
هذا، وليس في المخطوطة غير الأبيات الثلاثة الأولى، وزادت
المطبوعة، بيتًا رابعًا، لكن قبله في شعر ذي الرمة بيت، فزدته
من ديوانه، ووضعته بين قوسين، لأنه من تمام معنى الأبيات.
وقبل هذه الأبيات، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند
بالقدح، فلما اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله:
"فلما بدت"، أي بدا سقط النار من الزند الأعلى عند القدح،
"كفنها" ضمنها خرقة وسخة، لم تبلغ ذراعًا ولا شبرًا، وهي التي
سماها"طلساء"، لسوادها من وسخها. وكانت"طفلة" لأنها سقطت من
أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها لها كفنًا. وإنما
جعلها"كفنًا": لها، لأن السقط يسقط من الزند يزهر ويضيء حيًا،
فإذا وقع في قلب القطنة، لم تر له ضوءًا، فكأنه السقط قد مات.
ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه:
"ارفعها إليك"، أي خذها بيدك، وارفعها إلى فمك، ثم"أحيها
بروحك"، أي انفخ لها نفخًا يسيرًا، "واقتته لها قيتة قدرًا"،
يأمره بالرفق والنفح القليل شيئًا فشيئًا، كأنه جعل النفخ
قوتًا لهذا الوليد، يقدر له تقديرًا، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل.
ثم لما فرغ من ذلك، ونمت النار بعض النمو، قال له: "ظاهر لها
من يابس الشخت"، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض،
وأطعم هذا الوليد= و"الشخت": الدقيق من كل شيء، = وذلك لتكون
النار فيه أسرع. ثم يقول له: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك
لها نماء، "واجعل يديك لها سترًا"، أي: ليسترها من النواحي
الأخرى حتى تضربها الصبا، فلا تموت مرة أخرى.
ثم عاد فوصف نموها يقول: "ولما تنمت" وارتفعت، "تأكل الرم"،
تأكل ما يبس من أعواد الشجر، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر
مما ظلوا يجمعونه لها، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا
النار تجري بعد ذلك في"الجزل" - وهو ما غلظ من الحطب ويبس -
كأن ضوءها سنا البرق، رفعوا أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق
النار.
وهذا شعر جيد مستقيم على النهج.
ومما يقيد هنا، ما رواه السيوطي في المزهر، عن أبي عبيد في
الغريب المصنف أن الأصمعي قال: أخبرني عيسى بن عمر، قال:
أنشدني ذو الرمة: وَظَاهِرْ لَهَا من يَابِس الشَّخْتِ
ثم أنشد بعد هذا: مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ
قال أبو عبيد: فقلت له: إنك أنشدتني"من يابس الشخت"؟ فقال:
اليبس من البؤس. قال السيوطي: وذلك إسناد متصل صحيح، فإن أبا
عبيد سمعه من الأصمعي.
وكان في المطبوعة: "جرت للجزل" و"لخالقها"، وأثبت رواية
الديوان.
(9/420)
وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ،
وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ، وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا
... وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِس الشَّخْتِ، وَاسْتَعِنْ ...
عَلَيْهَا الصَّبَا، وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا ...
[وَلَمَّا تَنَمَّتْ تَأْكُلُ الرِّمَّ لَمْ تَدَعْ ...
ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ ولا خُضْرَا] ... فَلَمَّا
جَرَتْ في الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا البَرْقِ،
أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا
وقالوا: يعني بقوله:"أحيها بروحك"، أي: أحيها بنفخك.
* * *
وقال بعضهم يعني بقوله:"وروح منه" إنه كان إنسانًا بإحياء الله
له بقوله:"كن". قالوا: وإنما معنى قوله:"وروح منه"، وحياة منه،
بمعنى إحياءِ الله إياه بتكوينه.
* * *
وقال آخرون: (1) معنى قوله:"وروح منه"، ورحمة منه، كما قال جل
ثناؤه في موضع آخر: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [سورة
المجادلة: 22] . قالوا: ومعناه في هذا الموضع: ورحمة منه. (2)
قالوا: فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدّقه،
لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها
إلى مريم فدخلت في فيها، فصيَّرها الله تعالى روحَ عيسى عليه
السلام.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
10855- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن عبد الله بن سعد قال، أخبرني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي
العالية، عن أبيّ بن كعب في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، [سورة
الأعراف: 172] ، قال: أخذهم فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "وقال بعضهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "قال" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/421)
استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح
التي أخِذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم،
فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام.
(1)
* * *
وقال آخرون: معنى"الروح" ههنا، جبريل عليه السلام. قالوا:
ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها أيضًا إليها
روح من الله. قالوا: فـ"الروح" معطوف به على ما في
قوله:"ألقاها" من ذكر الله، بمعنى: أنّ إلقاء الكلمة إلى مريم
كان من الله، ثم من جبريل عليه السلام.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيدٍ من
الصواب.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا
تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فآمنوا بالله ورسله"،
فصدِّقوا، يا أهل الكتاب، بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد
له، وصدِّقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وفيما أخبرتكم
به أن الله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، لا ولد له ="ولا
تقولوا ثلاثة"، يعني: ولا تقولوا: الأربابُ ثلاثة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فحملت، والذي خاطبها هو روح عيسى ... " حذف،
الواو من آخر الجملة، وأثبتها في أولها، فرددته إلى أصله في
المخطوطة، وهو الصواب. ويعني قوله تعالى في سورة مريم 24:
(فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ
رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) .
وهذا الأثر لم يرد في تفسير آية الأعراف في موضعه هناك، وهو
أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، وأحد وجوه منهجه في
الاختصار.
(9/422)
ورفعت"الثلاثة"، بمحذوف دلّ عليه الظاهر،
وهو"هم". ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنما جاز ذلك،
لأن"القول" حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله:
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، [سورة
الكهف: 22] . وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد"القول" لا رافع
معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
* * *
ثم قال لهم جل ثناؤه: متوعدًا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه
في الله:"انتهوا"، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عما تقولون
من الزور والشرك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله،
لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قِيلكم ذلك، إن
أقمتم عليه، ولم تُنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه=
والآجلِ في معادكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا
(171) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"إنما الله إله واحد"، ما الله، أيها
القائلون: الله ثالث ثلاثة، كما تقولون، لأن من كان له ولد،
فليس بإله. وكذلك من كان له صاحبة، فغير جائز أن يكون إلهًا
معبودًا. ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة، إله واحد معبود،
لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك.
ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظَّمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه
الكَفرة به فقال:"سبحانه أن يكون له ولد"، يقول: علا الله وجل
وعز وتعظمَّ وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. (2)
__________
(1) قوله: "والآجل في معادكم" معطوف على قوله: "من العقاب
العاجل لكم ... "
(2) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474-476، 495 / 2: 537.
(9/423)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده: أن عيسى وأمَّه
ومن في السموات ومن في الأرض، عبيدُه وإماؤه وخلقه، (1) وأنه
رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه= احتجاجًا منه بذلك
على من ادّعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا، لم
يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدًا مملوكًا، فقال:"له ما في
السموات وما في الأرض"، يعني: لله ما في السموات وما في الأرض
من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا، وهو يرزقهم ويَقُوتهم
ويدبِّرهم، فكيف يكون المسيح ابنًا لله، وهو في الأرض أو في
السموات، غيرُ خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن؟
وقوله:"وكفى بالله وكيلا"، يقول: وحسب ما في السموات وما في
الأرض بالله قَيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى
غيره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}
يعني جل ثناؤه بقوله:"لن يستنكف المسيح"، لن يأنف ولن يستكبر
المسيح="أن يكون عبدًا لله"، يعني: من أن يكون عبدًا لله،
كما:-
10856- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة
المقربون"، لن يحتشم المسيح أن يكون عبدًا الله ولا الملائكة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وملكه وخلقه"، وفي المخطوطة: "وإماله وخلقه"
فرجحت قراءتها كما أثبتها.
(2) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف: ص: 297، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(9/424)
وأما قوله:"ولا الملائكة المقربون"، فإنه
يعني: ولن يستنكف أيضًا من الإقرار لله بالعبودة والإذعان له
بذلك، رسلُه"المقربون"، الذين قرَّبهم الله ورفع منازلهم على
غيرهم من خلقه.
* * *
وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك، ما:-
10857- حدثني به جعفر بن محمد البزوري قال، حدثنا يعلى بن
عبيد، عن الأجلح قال: قلت للضحاك: ما"المقربون"؟ قال: أقربهم
إلى السماء الثانية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ومن يتعظّم عن عبادة ربه،
ويأنفْ من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم، ويستكبر
عن ذلك="فسيحشرهم إليه جميعًا"، يقول: فسيبعثهم يوم القيامة
جميعًا، فيجمعهم لموعدهم عنده. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10857 -"جعفر بن محمد البزوري" لم أجده بهذه
النسبة، والذي وجدته في تهذيب التهذيب، ممن يروى عن يعلى بن
عبيد"جعفر بن محمد الواسطي الوراق"، نزيل بغداد مات سنة 265،
وهو خليق أن يروي عنه أبو جعفر. ثم راجع تاريخ بغداد، ففي"جعفر
بن محمد" كثرة، ولكن لم أجد بينهم"البزوري". وعسى أن تكشف
الأسانيد الآتية عن الذي يعنيه أبو جعفر.
و"الأجلح"، هو"الأجلح بن عبد الله بن حجية الكندي"، "أبو
حجية"، قيل اسمه"يحيى" و"الأجلح" لقب. سمع عبد الله بن الهذيل،
وابن بريدة والشعبي، وعكرمة. روى عنه الثوري، وابن المبارك.
مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 68.
(2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 / 6: 229.
(9/425)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
(173)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا
(173) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأما المؤمنون المقرّون
بوحدانية الله، الخاضعون له بالطاعة، المتذلِّلون له
بالعبودية، والعاملون الصالحات من الأعمال، وذلك: أن يَرِدُوا
على ربهم قد آمنوا به وبرسله، وعملوا بما أتاهم به رسله من عند
ربهم، من فعل ما أمرهم به، واجتناب ما أمرهم
باجتنابه="فيوفِّيهم أجورهم"، يقول: فيؤتيهم جزاءَ أعمالهم
الصالحة وافيًا تامًّا (1) ="ويزيدهم من فضله"، يعني جل ثناؤه:
ويزيدهم على ما وعدهم من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب
عليها، من الفضل والزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه، (2) ولم يحدّ
لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عباده المؤمنين
بالحسنة الواحدة عشرَ أمثالها من الثواب والجزاء. فذلك هو أجر
كلِّ عامل على عمله الصالح من أهل الإيمان المحدود مبلغه،
والزيادة على ذلك تفضُّل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من
فضله على عباده. غيرَ أن الذي وعد عبادَه المؤمنين أن يُوفيهم
فلا ينقصهم من الثواب على أعمالهم الصالحة، هو ما حَدُّ مبلغه
من العَشْر، والزيادة على ذلك غير محدود مبلغها، فيزيد من شاء
من خلقه على ذلك قدر ما يشاء، لا حدّ لقَدْره يوقف عليه.
* * *
وقد قال بعضهم: الزيادة إلى سبعمائة ضعف.
وقال آخرون: إلى ألفين.
__________
(1) انظر تفسير"يوفيهم أجورهم" فيما سلف 6: 465 / 7: 364.
(2) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/426)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في ذلك فيما مضى
قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"وأما الذين استنكفوا واستكبروا"، فإنه يعني: وأما الذين
تعظَّموا عن الإقرار لله بالعبودة، والإذعان له بالطاعة،
واستكبروا عن التذلّل لألوهته وعبادته، وتسليم الربوبيّة
والوحدانية له="فيعذبهم عذابًا أليمًا"، يعني: عذابًا
موجعًا="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، يقول:
ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها، إذا عذبهم
الله الأليم من عذابه، سوى الله لأنفسهم وليًّا ينجيهم من
عذابه وينقذهم منه="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصرهم
فيستنقذهم من ربهم، ويدفع عنهم بقوّته ما أحلَّ بهم من نقمته،
كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنيا في
الدنيا بسوء، من نصرتهم والمدافعة عنهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ
بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا
مُبِينًا (174) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الناس قد جاءكم
برهان من ربكم"، يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودِها
ونصاراها ومشركيها، الذين قص الله جل ثناؤه قَصَصهم في هذه
السورة="قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: قد جاءتكم حجة من الله
تبرهن لكم بُطُولَ ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، (3)
وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله عليكم حجة قطع
بها
__________
(1) انظر ما سلف 5: 512-516.
(2) انظر تفسير"ولي" و"نصير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"البرهان" فيما سلف 2: 509.
(9/427)
عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله
إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوته، وتحقيق رسالته="وأنزلنا
إليكم نورًا مبينًا"، يقول: وأنزلنا إليكم معه"نورًا مبينًا"،
يعني: يبين لكم المحجَّة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه
لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه، إن سلكتموها واستنرتم
بضوئه. (1)
وذلك"النور المبين"، هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى
الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10858- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"برهان من ربكم"،
قال: حجة.
10859- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10860- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم"، أي: بينة
من ربكم="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، وهو هذا القرآن.
10861- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: حجة.
10862- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"برهان"، قال: بينة="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"،
قال: القرآن.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 360، تعليق: 5، والمراجع
هناك.
(9/428)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (175)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (175) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدَّقوا الله
وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من
أهل الملل="واعتصموا به"، يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي
أنزله إلى نبيه، (1) كما:-
10863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج:"واعتصموا به"، قال: بالقرآن.
* * *
="فسيدخلهم في رحمة منه وفضل"، يقول: فسوف تنالهم رحمته التي
تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، (2) ويلحَقهم
من فضله ما لَحِق أهل الإيمان به والتصديق برسله (3) ="ويهديهم
إليه صراطًا مستقيمًا"، يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل
به على أوليائه، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل
طاعته، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو"الصراط
المستقيم"، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام. (4)
* * *
ونصب"الصراط المستقيم" على القطع من"الهاء" التي في
قوله:"إليه". (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 7: 62، 70 / 9: 341.
(2) قوله: "وجنته" ليست في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ما ألحق أهل الإيمان"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(4) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170- 177 / 3:
140، 141 / 6: 441 / 8: 529.
(5) "القطع" الحال، أو باب منه، انظر ما سلف من فهارس
المصطلحات.
(9/429)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
القول في تأويل قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
يعني تعالى ذكره بقوله:"يستفتونك"، يسألونك، يا محمد، أن
تفتيهم في الكلالة. (1)
* * *
وقد بينا معنى:"الكلالة" فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته،
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه، فأغنى ذلك عن إعادته، وبيّنا
أن"الكلالة" عندنا: ما عدا الولد والوالد. (2)
* * *
="إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، يعني
بقوله:"إن امرؤ هلك"، إن إنسان من الناس مات، (3) كما:-
10864- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"إن امرؤ هلك"، يقول: مات.
* * *
="ليس له ولد" ذكر ولا أنثى="وله أخت"، يعني: وللميت أخت لأبيه
وأمه، أو لأبيه="فلها نصف ما ترك"، يقول: فلأخته التي تركها
بعده بالصفة التي وَصَفنا، نصف تركته ميراثًا عنه، دون سائر
عصبته. وما بقي فلعصبته.
* * *
وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَّمهم شأن
الكلالة، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الآية.
__________
(1) انظر تفسير"يستفتي" فيما سلف ص: 253.
(2) انظر ما سلف في"الكلالة" 8: 53-61.
(3) انظر تفسير"المرء" فيما سلف 2: 446.
(9/430)
*ذكر من قال ذلك:
10865- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، فسألوا عنها
نبيَّ الله، فأنزل الله في ذلك القرآن:"إن امرؤ هلك ليس له
ولد"، فقرأ حتى بلغ:"والله بكل شيء عليم". قال: وذكر لنا أنّ
أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إنّ الآية التي
أنزل الله في أول"سورة النساء" في شأن الفرائض، أنزلها الله في
الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة
والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها"سورة النساء"، أنزلها في
الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها"سورة
الأنفال"، أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب
الله مما جرَّت الرحِم من العَصَبة. (1)
10866- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عمرو
بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمر بن الخطاب النبيَّ صلى
الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: أليس قد بيَّن الله ذلك؟
قال: فنزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
10867- حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام قال، حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن
عبد الله قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي= أو: سبْع، أنا أشكّ
(3) = فدخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي،
فأفقت وقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ (4)
قال: أحسن! قلت: الشطر؟ قال: أحسن! ثم خرج وتركني، ثم رجع إليّ
فقال:
__________
(1) الأثر: 10865- هذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 31،
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 42، والدر المنثور 2: 251.
(2) الأثر: 10866- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 42، ولم ينسبه
لغير ابن جرير.
(3) في المطبوعة: "أبو جعفر الذي يشك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "بالثلث"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق
لرواية البيهقي، أما رواية أبي داود في سننه، فهي التي أثبتت
في المطبوعة.
(9/431)
يا جابر، إنِّي لا أُرَاك ميتًا من وجعك
هذا، (1) وإن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين.
قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ:"يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة". (2)
10868- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام=
يعني الدستوائي= عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثله. (3)
10869- حدثني المثنى قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن
المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: مرضت، فأتاني النبي صلى
الله عليه وسلم يعودُني هو وأبو بكر وهما ماشيان، فوجدوني قد
أغمي عليّ، (4) فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صبَّ
عليّ من وَضوئه، فأفقت فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي=
أو: كيف أصنع في مالي؟ وكان له تسع أخوات، ولم يكن له والد ولا
ولد.
__________
(1) "لا أراك" بالبناء للمجهول (بضم الهمزة) : أي لا أظنك.
(2) الأثر: 10867-"مؤمل بن هشام اليشكري"، هو"أبو هشام". روى
عن إسمعيل بن علية، وكان صهره. روى عنه البخاري وأبو داود
والنسائي وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و"إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" هو"ابن علية" سلف مرارًا
كثيرة و"أبو الزبير" المكي، هو: "محمد بن مسلم بن تدرس
الأسدي"، مضى برقم: 2029، 3581، 8205.
وهذا الأثر رواه أبو داود في السنن 3: 164 من طريق كثير بن
هشام، عن هشام الدستوائي بلفظه.
ورواه البيهقي في السنن 6: 231 من طرق، مطولا مختصرًا.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 240، مختصرًا وفيه"الثلثين"
كما في مخطوطة الطبري.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن سعد
والنسائي.
(3) الأثر: 10868- هو مكرر الأثر السالف، من طريق ابن أبي عدي،
عن هشام.
وهذا الخبر رواه الواحدي في أسباب النزول: 139، وساق لفظه، مع
اختلاف يسير عن لفظ الأثر السالف.
(4) قوله: "فوجدوني" هكذا ثبت في المطبوعة والمخطوطة، وهي في
ألفاظ أخر"فوجدني". والذي في المخطوطة والمطبوعة صواب، لأنه
يعني أبا بكر ورسول الله، ومن كان معهما، أو من كان في البيت.
ولو حمله على الجمع وهو مثنى، لكان له وجه في العربية.
(9/432)
قال: فلم يجبني شيئًا حتى نزلت آية
الميراث:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" إلى آخر السورة=
قال ابن المنكدر: قال جابر: إنما أنزلت هذه الآية فيّ. (1)
* * *
وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه
الآية هي آخر آية نزلت من القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
10870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: سمعته
يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة". (2)
__________
(1) الأثر: 10869- خبر"محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله"،
روي من طرق كثيرة، مضى من طريق شعبة، عن محمد بن المنكدر،
مختصرًا برقم: 8730، ثم من طريق ابن جريج، عن محمد بن المنكدر
رقم: 8731، بغير هذا اللفظ، مختصرًا، وانظر تخريجهما هناك. أما
هذا، فرواه البخاري (الفتح 12: 2) بمثله، مع خلاف يسير في
لفظه، وقد بين الحافظ ابن حجر في شرحه، ما فيه من الاختلاف.
ورواه مسلم من طرق كثيرة، منها طريق سفيان، في صحيحه 11:
54-56.
ورواه أبو داود في سننه 3: 164 من طريق أحمد بن حنبل، عن
سفيان.
ورواه الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث
حسن صحيح، رواه غير واحد، عن محمد بن المنكدر". ثم ساقه من
طريق"الفضل بن صباح البغدادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن
المنكدر"، ثم قال: "وفي حديث الفضل بن صباح كلام أكثر من هذا".
وحديث الفضل بن صباح، رواه الترمذي قبل ذلك في (كتاب الفرائض)
مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح".
ورواه البيهقي في السنن 6: 223، 224، ثم قال البيهقي: "وجابر
بن عبد الله الذي نزلت فيه آية الكلالة، لم يكن له ولد ولا
والد، لأن أباه قتل يوم أحد. وهذه الآية نزلت بعده".
وذكره ابن كثير في تفسيره 2: 41، والسيوطي في الدر 2: 249،
وزاد نسبته لابن سعد. وابن ماجه، وابن المنذر.
(2) الأثر: 10870- يأتي برقم: 10871، 10873، من طريق أبي إسحق،
عن البراء.
(9/433)
10871- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر آية نزلت من
القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (1)
10872- حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا عبد الصمد بن النعمان
قال، حدثنا مالك بن مغول، عن أبي السفر، عن البراء قال: آخر
آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
10873- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن
المقدام قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر
سورة نزلت كاملة"براءة"، وآخر آية، نزلت خاتمة"سورة
النساء":"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 10871- رواه مسلم في صحيحه 11: 58 عن علي بن خشرم،
عن وكيع، بمثله. ثم ساقه من طرق أخرى، عن أبي إسحق عن البراء.
والبيهقي في السنن 6: 224.
(2) الأثر: 10872-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ
الطبري، مضى برقم: 126، 6534.
و"عبد الصمد بن النعمان البزاز". ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/51،
52 وقال، "سئل أبي عنه فقال: صالح الحديث صدوق".
و"مالك بن مغول"، ثقة، مضى برقم: 5431.
و"أبو السفر" هو: "سعيد بن يحمد الثوري" أو "سعيد بن أحمد"،
مضى برقم: 3010. والخبر رواه مسلم 11: 59 من طريق عمرو الناقد،
عن أبي أحمد الزبيري، عن مالك بن مغول.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن أبي
نعيم، عن مالك بن مغول، وقال: "هذا حديث حسن".
(3) الأثر: 10873- مكرر الأثرين السالفين: 10870، 10871.
"هرون بن إسحق الهمداني" شيخ الطبري، مضى برقم: 3001.
و"مصعب بن المقدام الخثعمي"، مضى برقم: 1291، 3001.
وهذا الأثر من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، رواه البخاري في
صحيحه (الفتح 12: 22) . وفي المخطوطة هنا"خاتم سورة البقرة"،
والصواب ما في المطبوعة.
(9/434)
واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية.
فقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة. وقد ذكرت الرواية
بذلك عنه فيما مضى، بعضها في أول السورة عند فاتحة آية
المواريث، وبعضها في مبتدإ الأخبار عن السبب الذي نزلت فيه هذه
الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت في مسيرٍ كان فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
10874- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن
أيوب، عن ابن سيرين قال: نزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة"، والنبيّ في مسير له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان،
فبلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم حُذيفة، وبلّغها حذيفة عمر
بن الخطاب وهو يسير خلفه. فلما استُخلف عمر سأل عنها حذيفة،
ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن
ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدِّثك فيها بما لم أحدِّثك يومئذ!
فقال عمر: لم أرِد هذا، رحمك الله!
10875- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين بنحوه= إلا أنه قال في
حديثه: فقال له حذيفة: والله إنك لأحمق إن ظننتَ.
10876- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسير، ورأسُ راحلة
حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ورأس
راحلة عمر عند رِدْف
__________
(1) يعني ما سلف رقم: 8730، 8731، ثم ما سلف قريبًا من: 10867-
10869.
(2) "ردف الراحلة": كفل الدابة.
(9/435)
راحلة حذيفة. قال: ونزلت:"يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة"، فلقَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
حذيفة، فلقّاها حذيفة عمر. فلما كان بعد ذلك، سأل عمرُ عنها
حذيفةَ فقال: والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانيها رسول
الله فلقَّيْتُكها كما لقَّانيها، (1) والله لا أزيدك عليها
شيئًا أبدًا! قال: وكان عمر يقول: اللهم مَن كنتَ بيّنتها له،
(2) فإنها لم تُبَيَّن لي. (3)
* * *
واختلف عن عمر في الكلالة، فروي عنه أنه قال فيها عند
وفاته:"هو من لا ولد له ولا والد". وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك
فيما مضى في أول هذه السورة في آية الميراث. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلقنتكها" من"التلقين"، وهو صواب في المعنى،
ولكن السياق يقتضي ما أثبته من المخطوطة، وهي فيها منقوطة.
و"لقاه الآية": علمه الآية، ولقنه إياها.
(2) في المطبوعة وابن كثير"إن كنت"، وأثبت ما في المخطوطة
والدر المنثور، وهي صواب محض، وانظرها كذلك في الأثر الآتي
رقم: 10892.
(3) الآثار: 10874- 10876، ذكر الأثر الأخير منها ابن كثير في
تفسيره 3: 44، ثم قال: "كذا رواه ابن جرير، ورواه أيضًا عن
الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن
سيرين، كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة. وقد قال
الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا يوسف بن
حماد المعنى، ومحمد بن مرزوق، قالا، حدثنا عبد الأعلى بن عبد
الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة
بن حذيفة، عن أبيه قال: نزلت آية الكلالة.." وساق الخبر، ثم
قال: "قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا حذيفة،
ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام
إلا عبد الأعلى". قال ابن كثير: "وكذا رواه ابن مردويه".
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 13، وقال: "رواه البزار،
ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبيدة بن حذيفة، ووثقه ابن حبان".
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250 قال: "أخرج العدني
والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن
حذيفة" ثم ذكر الخبر.
وعاد فخرجه في 2: 251، ونسبه لابن جرير، وعبد الرزاق، وابن
المنذر، عن ابن سيرين، منقطعًا.
(4) انظر رقم: 8745-8748، 8767
(9/436)
وروي عنه أنه قال قبل وفاته: هو ما خلا
الأب. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10877- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا شعبة،
عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري
قال، قال عمر بن الخطاب: ما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم= أو: ما نازعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما
نازعته في آية الكلالة، حتى ضرب صَدري وقال: يكفيك منها آية
الصيف التي أنزلت في آخر"سورة النساء": (2) "يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة"، وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا
يقرأ، هو ما خلا الأب= كذا أحسب قال ابن عرفة= قال شبابة: الشك
من شعبة. (3)
* * *
وروي عنه أنه قال:"إني لأستحيي أن أخالف فيه أبا بكر"، وكان
أبو بكر يقول:"هو ما خلا الولد والوالد". وقد ذكرنا الرواية
بذلك عنه فيما مضى في أول السورة (4)
* * *
وروي عنه أنه قال عند وفاته:"قد كنت كتبت في الكلالة كتابًا،
__________
(1) انظر رقم: 8745-8748، 8767.
(2) قوله: "التي أنزلت في آخر سورة النساء" غير ثابت في
المخطوطة، وهو ثابت في روايات الحديث التي ستأتي في التخريج.
(3) الأثر: 10877- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر
سيرويه أبو جعفر من أربع طرق أخرى فيما سيأتي من رقم: 10884-
10887.
وروى هذا الخبر من طريق شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة،
مسلم في صحيحه 11: 57، إشارة.
ورواه البيهقي في السنن 6: 224 بلفظه، وقال: "رواه مسلم عن
زهير بن حرب". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم
ينسبه لغير ابن جرير، فقصر في نسبته. وانظر تخريج الآثار
التالية التي أشرت إليها.
(4) انظر ما سلف رقم: 8745-8749.
(9/437)
وكنت أستخير الله فيه، وقد رأيت أن أترككم
على ما كنتم عليه"، وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها
علم.
*ذكر من قال ذلك:
10878- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري، عن
معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في
الجدّ والكلالة كتابًا، فمكث يستخير الله فيه يقول:"اللهم إن
علمت فيه خيرًا فأمضه"، حتى إذا طُعِن، دعا بكتاب فَمُحي، (1)
فلم يدر أحدٌ ما كتب فيه، فقال:"إني كنت كتبت في الجدّ
والكلالة كتابًا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على
ما كنتم عليه". (2)
10879- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، بنحوه.
(3)
10880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، حدثنا
عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني قال، قال عمر: ثلاث لأن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنهن لنا، أحبُّ إليّ من الدنيا
وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "بالكتاب فمحي"؛ بالتعريف، وهو كذلك في الدر
المنثور، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لرواية ابن كثير في
تفسيره.
(2) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا
الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250،
ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري
بنحوه في الأثر التالي: 10879.
(3) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا
الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250،
ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري
بنحوه في الأثر التالي: 10879.
(4) الأثر: 10880- رواه أبو داود الطيالسي من طريق شعبة، عن
عمرو بن مرة، مع اختلاف يسير في لفظه، مطولا.
ورواه البيهقي في السنن من طريق أبي داود الطيالسي 6: 225.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 304 من طريق سفيان، عن عمرو بن
مرة، بلفظ الطبري، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45، ولم ينسبه لغير الحاكم.
وخرجه السيوطي في الدر 2: 251، 252، وزاد نسبته لعبد الرزاق،
والعدني، وابن ماجه، والساجي.
وقوله: "أبواب الربا"، أي: وجوه الربا وطرقه، وهذا اللفظ ليس
فيما ذكرت من المراجع، فيها جميعًا"والربا". وانظر الأثر
الآتي: 10883، والتعليق عليه.
(9/438)
10881- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام
قال، حدثنا الأعمش قال: سمعتهم يذكرون، ولا أرى إبراهيم إلا
فيهم، عن عمر قال: لأن أكون أعلم الكلالة، أحبُّ إليّ من أن
يكون لي مثل جزية قصور الروم. (1)
10882- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش، عن
قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أخذ عمر كتِفًا وجمع أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاءً
تحدَّثُ به النساء في خدورهن! فخرجت حينئذ حيَّة من البيت،
فتفرَّقوا، فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمَّه. (2)
10883- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
أبو حيان قال، حدثني الشعبي، عن ابن عمر قال: سمعت عمر بن
الخطاب يخطب على منبر المدينة، فقال: أيها الناس، ثلاثٌ ودِدت
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارِقنا حتى يعهد إلينا
فيهن عهدًا يُنتهى إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب الربا. (3)
__________
(1) الأثر: 10881- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم
ينسبه لغير ابن جرير، وفيه"قصور الشأم"، وهما سواء في المعنى،
ولكن العجب أنه نقله عن هذا الموضع من التفسير، وكتب
مكان"الروم""الشأم".
(2) الأثر: 10882- رواه البيهقي في السنن 6: 245، من طريق جرير
عن الأعمش. مع اختلاف في لفظه.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 44، 45، ثم قال: "وهذا إسناد
صحيح".
وخرجه السيوطي 2: 250، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
وفي المخطوطة: "النساء في خدورها"، وهما سواء.
(3) الأثر: 10883-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد التيمي"، مضى
برقم: 5382، 5383، 6318، 8155.
وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 10: 39-43) من طريق يحيى
بن سعيد القطان عن أبي حيان التيمي.
ورواه مسلم في صحيحه 18: 165 من أربع طرق، من طريق علي بن
مسهر، عن أبي حيان، ومن طريق ابن إدريس عن أبي حيان، ومن طريق
ابن علية عن أبي حيان، ومن طريق عيسى بن يونس عن أبي حيان.
ورواه البيهقي في السنن 6: 245/8: 289.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 249، وزاد نسبته لعبد
الرزاق، وابن المنذر. وفي جميع المراجع: "وأبواب من أبواب
الربا"، وانظر شرح ذلك في التعليق على الأثر: 10880
(9/439)
10884- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية،
عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن
معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب قال: ما سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألت عن الكلالة، حتى
طَعَن بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر"سورة
النساء". (1)
10885- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الله بن
بكر السهمي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن
معدان، عن عمر قال: لن أدع شيئًا أهمَّ عندي من أمر الكلالة،
فما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي
فيها، حتى طعن بإصبعه في صدري= أو قال: في جنبي= فقال: تكفيك
الآية التي أنزلت في آخر"النساء". (2)
__________
(1) الأثر: 10884- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، مضى برقم:
10877 من طريق شعبة عن قتادة. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 57
من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
ورواه أحمد في المسند رقم: 341 من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد
بن أبي عروبة، عن قتادة مطولا.
ورواه أيضًا مطولا رقم: 89 من طريق عفان، عن همام بن يحيى، عن
قتادة.
ورواه مختصرًا رقم: 179 من طريق إسمعيل، عن سعيد بن أبي عروبة.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 241 من هذه الأخيرة من مسند أحمد،
ولم يذكر شيئًا عن الطرق الأخرى، بل قال: "هكذا رواه مختصرًا،
وأخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا"، مع أن أحمد أخرجه في مواضع
مطولا كما ترى، وكما سيأتي في التعليق على رقم: 10887.
(2) الأثر: 10885-"إبراهيم بن سعيد الجوهري"، شيخ الطبري، ثقة،
مضى برقم: 3355، 3959.
و"عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي"، ثقة صدوق مأمون، من شيوخ
أحمد. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: 8284، وهذا طريق
آخر للأثر السالف.
وفي المطبوعة: "لم أدع"، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/440)
10886- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن
أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان
بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال:
إنيّ والله ما أدع بعدي شيئًا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة،
وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أغلظ لي في
شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال:"تكفيك آية الصيف
التي أنزلت في آخر سورة النساء"، وإن أعِش أقض فيها بقضية لا
يختلف فيها أحدٌ قرأ القرآن. (1)
10887- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة،
عن عمر بن الخطاب بنحوه. (2)
10888- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي
يقول، أخبرنا أبو حمزة، عن جابر، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه
قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي وَرِث كلالة،
فقال: الكلالة، الكلالة، الكلالة!! وأخذ بلحيته، ثم قال: والله
لأن أعلمَها أحبَّ إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شيء،
سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تسمع الآية
التي أنزلت في الصيف؟ فأعادها ثلاث مرات. (3)
__________
(1) الأثر: 10886- هذه طريق أخرى للأثرين السالفين، طريق سعيد
بن أبي عروبة.
(2) الأثر: 10887- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 11: 56.
ورواه أحمد مطولا في المسند برقم: 186، وانظر التعليق على
الآثار السالفة.
(3) الأثر: 10888-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى
برقم: 1591، 2575.
وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى أيضًا برقم: 1591،
1909.
و"أبو حمزة" هو السكري: "محمد بن ميمون" ثقة إمام، مضى برقم:
1591.
و"جابر" هو"جابر الجعفي": جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، مضى
برقم: 764، 858، 2340، ومواضع أخرى كثيرة. وهو ضعيف جدًا، رمي
بالكذب.
أما "الحسن بن مسروق"، فلم أجد في الرواة من يسمى بهذا الاسم،
وأما أبوه فكأنه يعني: "مسروق بن الأجدع الهمداني الوداعي".
أحد المقرئين والمفتين.. روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من
الصحابة. وليس في الرواة عن مسروق من اسمه"الحسن"، ولا وجدت له
ولدًا يقال"الحسن له ابن مسروق".
ففي هذا الإسناد ما فيه من البلاء.
وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 251، عن الحسن بن
مسروق، عن أبيه كما هنا، ونسبه للطبري وحده.
(9/441)
10889- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو
أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع
الآية التي أنزلت في الصيف: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً) إلى آخر الآية؟ (1)
10890- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن عيسى قال، حدثنا
ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير: أن رجلا سأل
عُقبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألني عن
الكلالة، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما
أعضلت بهم الكلالة! (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10889-"أبو أسامة" هو: "حماد بن أسامة بن زيد
الكوفي"، مضى برقم: 29، 51، 223، 2995، 5265.
و"زكريا" هو: "زكريا بن أبي زائدة" مضى برقم: 112، 1219.
و"أبو إسحق" هو السبيعي.
و"أبو سلمة" هو: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى
برقم: 8، 67، 3015، 8394.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 224، من طريق يحيى بن
آدم، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
وقال: "حديث أبي إسحق عن أبي سلمة منقطع، وليس بمعروف".
(2) الأثر: 10890-"إسحق بن عيسى بن نجيح" هو أبو يعقوب، ابن
الطباع، مضى برقم: 2836.
و"ابن لهيعة" مضى مرارًا.
و"يزيد بن أبي حبيب المصري" ثقة مضى برقم: 4348، 5493.
و"أبو الخير" هو: "مرثد بن عبد الله اليزني" الفقيه المصري،
روى عن عقبة بن عامر الجهني، وكان لا يفارقه، وعمرو بن العاص،
وعبد الله بن عمرو، وغيرهم من الصحابة. تابعي ثقة، مترجم في
التهذيب.
وهذا الأثر رواه الدارمي في سننه 2: 366، من طريق عبد الله بن
يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. وفي النسخة
المطبوعة من الدارمي خطأ قال فيها"عن يزيد بن عبد الله
اليزني"، والصواب"مرثد بن عبد الله"، وهو أبو الخير، كما سلف.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن أبي
شيبة.
"أعضل الأمر" و"أعضل به الأمر": ضاق وأشكل، وضاق به ذرعًا
لإشكاله.
(9/442)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله
جل ثناؤه:"وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"،
ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة= ما خلا ابن عباس وابن الزبير
رحمة الله عليهما= على أن الميت لو ترك ابنةً وأختًا، أن
لابنته النصف، وما بقي فلأختِه، إذا كانت أخته لأبيه وأمه، أو
لأبيه؟ وأين ذلك من قوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها
نصف ما ترك"، وقد ورَّثوها النصف مع الولد؟
قيل: إنّ الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه. إنما جعل الله جل
ثناؤه بقوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما
ترك"، إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وكان موروثًا كلالة،
النصفَ من تركته فريضةً لها مسمَّاة. فأما إذا كان للميت ولد
أنثى، فهي معها عصبة، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها، لو
لم تكن. وذلك غير محدود بحدٍّ، ولا مفروض لها فرضَ سهام أهل
الميراث بميراثهم عن ميِّتهم. ولم يقل الله في كتابه:"فإن كان
له ولد فلا شيء لأخته معه"، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن
الزبير في ذلك وجهٌ يوجَّه إليه. وإنما بيَّن جل ثناؤه، مبلغ
حقِّها إذا وُرث الميت كلالةً، وترك بيان ما لها من حق إذا لم
يورث كلالةً في كتابه، وبيَّنه بوحيه على لسان رسوله صلى الله
عليه
(9/443)
وسلم، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت. وذلك
معنًى غير معنى وراثتها الميت، إذا كان موروثًا كلالةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهَا وَلَدٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأخو المرأة يرثها إن ماتت
قبله، إذا وُرِثت كلالة، (1) ولم يكن لها ولد ولا والد.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كانتا اثنتين"، فإن
كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه="اثنتين" فلهما
ثلثا ما ترك أخوهما الميت، إذا لم يكن له ولد، وورث كلالة="وإن
كانوا إخوة"، يعني: وإن كان المتروكون من إخوته="رجالا ونساء
فللذكر" منهم بميراثهم عنه من تركته="مثل حظ الأنثيين"، يعني:
مثل نصيب اثنتين من أخواته. (2) وذلك إذا ورث كلالةً، والإخوة
والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه، أو: لأبيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا ورث كلالة"، والصواب ما أثبت من
المخطوطة.
(2) انظر تفسير"مثل حظ الأنثيين" فيما سلف: 8: 30-34.
(9/444)
القول في تأويل قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يبين الله لكم قسمة
مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم="أن تضلوا"، بمعنى: لئلا
تضلوا في أمر المواريث وقسمتها، أي: لئلا تجوروا عن الحق في
ذلك وتخطئوا الحكم فيه، فتضلّوا عن قصد السبيل، (1) كما:-
10891- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"، قال: في شأن
المواريث.
10892- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري=
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق= قالا جميعًا،
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان عمر إذا
قرأ:"يبين الله لكم أن تضلوا" قال: اللهم مَنْ بَيَّنت له
الكلالة، فلم تُبَيَّن لي. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وموضع"أن" في قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"،
نصبٌ، في قول بعض أهل العربية، لاتصالها بالفعل.
* * *
وفي قول بعضهم: خفضٌ، بمعنى: يبين الله لكم بأن لا تضلوا،
ولئلا تضلوا= وأسقطت"لا" من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى،
لدلالة الكلام عليها. والعرب تفعل ذلك، تقول:"جئتك أن تلومني"،
بمعنى: جئتك أن لا تلومني، كما قال القطامي في صفة ناقة:
__________
(1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 10892- انظر الأثر السالف رقم: 10876.
(9/445)
رَأَيْنَا مَا يَرَى البُصَراءُ فِيهَا ...
فَآلَيْنَا عَلَيْها أَنْ تُبَاعَا (1)
بمعنى: أن لا تباع.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بكل شيء" من مصالح
عباده في قسمة مواريثهم وغيرها، وجميع الأشياء="عليم"، يقول:
هو بذلك كله ذو علم. (2)
* * *
(آخر تفسير سورة النساء) والحمد الله رب العالمين وصلى الله
على محمد وآله وسلم
* * *
__________
(1) ديوانه 43، وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 1: 116/7:
557، يصف ناقته لما بلغت مبلغها واستوت كما وصفها، فيقول: لما
رأينا كرمها وحسنها حلفنا عليها أن لا تباع، لنفاستها علينا.
(2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/446)
|