تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله= (سيجزون) ، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منزل، فإنه حرام عليكم= ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم، فإن أكل ذلك"فسق"، يعني: معصية كفر. (2)
* * *
فكنى بقوله:"وإنه"، عن"الأكل"، وإنما ذكر الفعل، (3) كما قال: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) ، [سورة ال عمران: 173] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا، فكنى عن"القول"، وإنما جرى ذكره بفعلٍ. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((كسب)) فيما سلف من فهارس اللغة (كسب)
= وتفسير ((الجزاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزا)
= وتفسير ((اقترف)) فيما سلف ص: 59، 60
(2) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف 11: 370؛ تعليق: 2 والمراجع هناك
(3) ((الفعل)) ، هو المصدر.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 352

(12/76)


= (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . (1)
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس = (إلى أوليائهم) ، من مردة مشركي قريش، يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة. (2)
* ذكر من قال ذلك:
13805- حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: لما نزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا = وكانت أولياءهم في الجاهلية (3) = وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال، وما ذَبح الله (4) = قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب (5) = فهو حرام! ! فأنزل الله هذه الآية: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، قال: الشياطين: فارس، وأولياؤهم قريش. (6)
__________
(1) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) .
(2) في المطبوعة: ((يوحون إليهم زخرف القول ليصل إلى نبي الله وأصحابه في أكل الميتة)) لم يحسن قراءة المخطوطة، فاجتهد اجتهادًا ضرب على الجملة فسادًا لا تعرف له غاية. وكان في المخطوطة: (( ... زخرف القول يحد إلى نبي الله)) ، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها.
(3) يعني: وكانت قريش أولياء فارس وأنصارهم في الجاهلية، وهي جملة معترضة وضعتها بين خطين.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: ((إن ما ذبحت)) ، كأنه خبر، وهو استفهام واستنكار أن تكون ذبيحة الخلق حلالا، وذبيحة الله - فيما يزعمون، وهي الميتة - حرامًا.
(5) ((شمشار)) ، وفي تفسير ابن كثير 3: 389: ((بشمشير)) ، وتفسيره في خبر آخر يدل على أن ((الشمشار)) أو ((الشمشير)) ، هو السكين أو النصل، انظر رقم: 13806، وكأن هذا كان من عقائد المجوس، أن الميتة ذبيحة الله، ذبحها بشمشار من ذهب!! .
(6) الأثر: 13805 - ((عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي النيسابوري)) ثقة، صدوق من شيوخ البخاري وأبي حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 215.
و ((موسى بن عبد العزيز اليماني العدني القنباري)) ، لا بأس به، متكلم فيه. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 292، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 151.
و ((القنباري)) نسبة إلى ((القنبار)) وهي حبال تفتل من ليف شجر النارجيل، الذي يقال له: الجوز الهندي، وتجر بحبال القنبار السفن لقوته.

(12/77)


13806- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار، عن عكرمة: إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس، وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه = للميتة = وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون"! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: (وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون) الآية، ونزلت: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غرورا) . [سورة الأنعام: 112]
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش.
* ذكر من قال ذلك:
13807- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل، وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13808- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش = قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس:"يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير

(12/78)


قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم= (وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون) ، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون، وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال!
13809- حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون، وما قتلتم أنتم تأكلونه! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (1)
13810- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13811- حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ، إلى آخر الأية.
13812- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ،
__________
(1) الأثر: 13809 - ((محمد بن عمار بن الحارث الرازي)) ، أبو جعفر، روى عن إسحاق بن سليمان والسندي بن عبدويه، ومؤمل بن إسماعيل، وكتب عنه ابن أبي حاتم، وقال: ((وهو صدوق ثقة)) . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 43.
((سعيد بن سليمان)) ، لم أعرف من يكون فيمن يسمى بذلك، وأخشى أن يكون صوابه: ((إسحاق بن سليمان الرازي)) ، الذي ذكر ابن حبان أن ((محمد بن عمار يروي عنه)) .

(12/79)


يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ، وما قتله الله حرام! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13814- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه!
13815- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) ، قال: قالوا: يا محمد، أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه، وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه، إنكم إذًا لمشركون.
13816- حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه، وما قتل ربكم لا تأكلونه! فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13817- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، قول المشركين: أما ما ذبح الله = للميتة = فلا تأكلون منه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال!

(12/80)


13818- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه! يعنون"الميتة"، فكانت هذه مجادلتهم إياهم.
13820- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) الآية، يعني عدوّ الله إبليس، أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا:"أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله"! فأنزل الله على نبيه: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر، أو يسجد لغير الله، أو يسمي الذبائح لغير الله.
13821- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، وما ذبح الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون.
13822- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا! فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) .
13823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) إلى قوله:

(12/81)


(ليجادلوكم) ، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه، وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه.
13824- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة، وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم، وحرم عليكم ما ذبح هو لكم؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنزل الله هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، إلى قوله: (لمشركون) .
* * *
وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود.
* ذكر من قال ذلك:
13825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس = قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم = وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم = فقالوا: نأكل ما قتلنا، ولا نأكل ما قتل الله! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم = وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم= وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس= وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية

(12/82)


الأخرى التي يقول فيها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) ، [سورة الأنعام: 112] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس، كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه.
فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها.
* ذكر من قال ذلك:
13826- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. قلت لعطاء: فما قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش.
* * *
وقال آخرون: هي الميتة. (1)
* ذكر من قال ذلك:
13827- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عطاء
__________
(1) هذه الترجمة: ((وقال آخرون: هي الميتة)) ، ليست في المخطوطة، ولكن إثباتها كما في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله.

(12/83)


بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، قال: الميتة.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها.
* ذكر من قال ذلك:
13828- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن، سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى، (1) فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (2)
13829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
13830- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد قال: كنت اجلس إليه في حلقة، فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم، فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون. قال: فجاءه رجل فسأله، فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية:
__________
(1) في المطبوعة: ((بطير كذا)) وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة: ((بطير كدى)) برسم الدال، وهو خطأ لا معنى له. والصواب ما أثبت ((كرى)) (بفتحتين) جمع ((الكروان)) وهو طائر بين الدجاجة والحمامة، حسن الصوت، يؤكل لحمه، ذكر صاحب لسان العرب أنه يدعى الحجل والقبيح، والصحيح أنه ضرب من الطير شبيه به. ويقال له عند صيده ((أطرق كرى، أطرق كرى، إن النعام في القرى)) ، فيجبن ويلتصق بالأرض، فيلقي عليه ثوب فيصاد.
(2) الأثر: 13828 - ((جهير بن يزيد العبدي)) ، حدث عن معاوية بن قرة، وابن سيرين - روى عنه أبو أسامة، وموسى بن إسماعيل، والقعنبي. وثقه يحيى بن معين وابن حبان، وغيرهما. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. مترجم في تعجيل المنفعة: 74، والكبير 1 / 2 / 253، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 547 قال ابن حجر: ((جهير، بصيغة التصغير، وقيل: بوزن عظيم)) .

(12/84)


(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، حتى فرغ منها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته.
وأما من قال:"عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله"، فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده. وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى:"لطيف القول في أحكام شرائع الدين"، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما قوله" (وإنه لفسق) ، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:"الفسق"، في هذا الموضع. (1)
فقال بعضهم: معناه: المعصية.
فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم.
* ذكر من قال ذلك:
13831- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإنه لفسق) ، قال:"الفسق"، المعصية.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر.
* * *
وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم) ، فقد ذكرنا اختلاف
__________
(1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .

(12/85)


المختلفين في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون) ، والصوابَ من القول فيه = وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم، فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول، وإما برسالة، وإما بكتاب.
* * *
وقد بينا معنى:"الوحي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وقد:-
13832- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس، فجاءه رجل من أصحابه، فقال: يا ابن عباس، زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! = يعني المختار بن أبي عبيد = فقال ابن عباس: صدق! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس"صدق"! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد، ووحي الشياطين إلى أوليائهم. ثم قرأ: (وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . (2)
* * *
وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع. (3)
* * *
ويعني بقوله: (ليجادلوكم) ، ليخاصموكم، بالمعنى الذي قد ذكرت قبل. (4)
* * *
وأما قوله: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، فإنه يعني: وإن أطعتموهم
__________
(1) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف 9: 399، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 13832 - ((أبو زميل)) هو: ((سماك بن الوليد الحنفي)) ، روى عن ابن عباس، وابن عمر، ومالك بن مرثد، وعروة بن الزبير. روى عنه شعبة، ومسعر، وعكرمة بن عمار. وهو ثقة مترجم التهذيب، والكبير 2 / 2 /174، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 280.
و ((المختر بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي)) ، كذاب متنبئ خبيث، فقتله الله بيد مصعب بن الزبير وأصحابه سنة 67 من الهجرة، وله خبر طويل فيه كذبه وما فعل، وما فعل الناس به.
(3) انظر تفسير ((الولي)) فيما سلف 10: 497، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير ((الجدال)) فيما سلف من فهارس اللغة (جدل) .

(12/86)


في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:-
13833- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وإن أطعتموهم) ، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه.
13834- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن أطعتموهم) ، فأكلتم الميتة.
* * *
وأما قوله: (إنكم لمشركون) ، يعني: إنكم إذًا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم. (1)
* * *
وروي عن الحسن البصري وعكرمة، ما:-
13835- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [سورة المائدة: 5] .
* * *
__________
(1) انظر ((الناسخ والمنسوخ)) ، لأبي جعفر النحاس صلى الله عليه وسلم: 144، قال: ((وفي هذه السورة = يعني سورة الأنعام = شيء قد ذكره قوم هو عن الناسخ والمنسوخ بمعزل، ولكنا نذكره ليكون الكتاب عام الفائدة ... )) ثم ذكر الآية، وما قيل في ذلك، إلى صلى الله عليه وسلم: 146.

(12/87)


أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن هذه الآية محكمة فيما أنزلت، لم ينسخ منها شيء، وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة. وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت، وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها، يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه، سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه، إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل، أو بعبادة شيء سوى الله، فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا، فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا، يقول: من كان كافرًا؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته، بمنزلة"الميت" الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة= (فأحييناه) ، يقول: فهديناه للإسلام، فأنعشناه، فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سَخَط

(12/88)


الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس (1) = (كمن مثله في الظلمات) ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا، = يعني في ظلمات الكفر. يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن، والآخر كافر.
ثم اختلف أهل التأويل فيهما.
فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك:
13836- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة، عن شعيب السراج، عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه = (كمن مثله في الظلمات) ، قال: أبو جهل بن هشام. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الموت)) ، و ((الإحياء)) فيما سلف من فهارس اللغة (موت) و (حيي) .
(2) الأثر: 13836 - ((سليمان بن أبي هوذة)) ، روى عن حماد بن سلمة، [وأبي هلال الراسبي، وعمرو بن أبي قيس. لم يذكر فيه البخاري جرحًا. وقال أبو زرعة: ((صدوق لا بأس به)) . مترجم في الكبير 2 / 2 / 42، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 148.
وأما ((شعيب السراج)) ، فلم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب

(12/89)


وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك:
13837- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن بشر بن تيم، عن رجل، عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: نزلت في عمار بن ياسر. (1)
13838- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن بشر، عن تيم، عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، عمار بن ياسر = (كمن مثلة في الظلمات) ، أبو جهل بن هشام. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13839- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أو من كان ميتًا فأحييناه) قال: ضالا فهديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في للناس) ، قال: هدى= (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) ، قال: في الضلالة أبدًا.
13840- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) الأثران: 13837، 13838 - ((بشر بن تيم بن مرة)) ، ويقال: ((بشير بن تيم بن مرة)) . وهو في الإسناد الأول، بينه وبين عكرمة ((عن رجل)) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96: ((بشير بن تيم بن مرة)) عن عكرمة، قاله لنا الحميدي، عن ابن عيينه. مرسل، ولم يذكر فيه جرحًا، وجعله ((بشيرًا)) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في ((بشير)) ، كمثل ما قال البخاري، ولم يذكر ((بشرا)) ، ولكنه ترجمه قبل 1 / 1 / 352 في ((بشر بن تيم)) وقال: ((مكي)) ، روى عنه ابن جريج، وابن عيينة. سمعت أبي يقول ذلك. وابن عيينة يقول: ((بشير)) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين ((بشر بن تيم)) ، في رواية ابن عيينة يقول، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة.
(2) الأثران: 13837، 13838 - ((بشر بن تيم بن مرة)) ، ويقال: ((بشير ابن تيم بن مرة)) . وهو في الإسناد الأول، بينه وبين عكرمة ((عن رجل)) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96: ((بشير بن تيم بن مرة)) عن عكرمة، قاله لنا الحميدي، عن ابن عيينه. مرسل، ولم يذكر فيه جرحًا، وجعله ((بشيرًا)) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في ((بشير)) ، كمثل ما قال البخاري، ولم يذكر ((بشرا)) ، ولكنه ترجمة قبل 1 / 1 / 352 في ((بشر بن تيم)) وقال: ((مكي)) ، روى عنه ابن جريج، وابن عيينة. سمعت أبي يقول ذلك. وابن عيينة يقول: ((بشير)) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين ((بشر بن تيم)) ، في رواية ابن عيينة يقول، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة.

(12/90)


ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، هديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات) في الضلالة أبدًا.
13841- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، قال: ضالا فهديناه.
13842- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، يعني: من كان كافرًا فهديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به= (كمن مثله في الظلمات) ، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة.
13843- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يقول: الهدى="يمشي به في الناس"، يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه= (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) .
13844- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي، كتابَ الله = (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع، لا يجد مخرجًا ولا منفذًا.
13845- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام، يقول: هذا كمن هو في الظلمات، يعني: الشرك.

(12/91)


13846- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه = (كمن مثله في الظلمات) ، ليس من أهل الإسلام. وقرأ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ، [سورة البقرة: 257] . قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره، وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، (1) كما يستضيء صاحب هذا السراج. قال: (كمن مثله في الظلمات) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم = أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم = عن الحق، فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب، كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله، ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم، (3) وأنه قد سوَّى بين جميعهم في
__________
(1) في المطبوعة: ((في فوره)) بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير ((التزيين)) فيما سلف: ص: 37، تعليق: ص: 1، والمراجع هناك.
(3) ((التفويض) ، هو زعم القدرية والمعتزلة والإمامية من أهل الفرق، أن الأمر قد فوض إلى العبد، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق أفعاله، والاختيار، ينفون أن تكون أفعال العباد من خلق الله. وانظر ما سلف 1: 162 تعليق: 3 / 11: 340، تعليق: 2، وانظر ما سيأتي ص: 108، تعليق: 1.

(12/92)


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه. وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان، وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان، وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها= يعني أهل الشرك بالله والمعصية له= (ليمكروا فيها) ، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه = (وما يمكرون) : أي ما يحيق مكرهم ذلك، إلا بأنفسهم، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله ="وهم لا يشعرون"، يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه، (1) فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير ((شعر)) فيما سلف: ص: 38، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(12/93)


13847- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أكابر مجرميها) ، قال: عظماءها.
13848- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13849- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أكابر مجرميها) ، قال: عظماءها.
13850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: نزلت في المستهزئين = قال ابن جريج، عن عمرو، عن عطاء، عن عكرمة: (أكابر مجرميها) ، إلى قوله: (بما كانوا يمكرون) ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين.
* * *
والأكابر: جمع"أكبر"، كما"الأفاضل" جمع"أفضل". ولو قيل: هو جمع"كبير"، فجمع"أكابر"، لأنه قد يقال:"أكبر"، كما قيل: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) ، [سورة الكهف: 103] ، واحدهم"الخاسر"، لكان صوابًا. وحكي عن العرب سماعًا "الأكابرة" و"الأصاغرة"، و"الأكابر"، و"الأصاغر"، بغير الهاء، على نية النعت، كما يقال:"هو أفضل منك". وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على" أفعل"، إذا أخرجوها إلى الأسماء، مثل جمعهم"الأحمر" و"الأسود"،"الأحامر" و"الأحامرة"، و"الأساود" و"الأساودة"، ومنه قول الشاعر: (1)
إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثَةَ أَهْلَكَتْ ... مَالِي، وكُنْتُ بِهِنّ قِدْمًا مُولَعًا
__________
(1) هو الأعشى.

(12/94)


وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

الخَمْرُ واللَّحْمُ السِّمِينُ إدَامُهُ ... والزَّعْفَرَانُ، فَلَنْ أرُوحَ مُبَقَّعَا (1)
* * *
وأما"المكر"، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله = (آية) ، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته (2) = قالوا لنبي الله وأصحابه: = (لن نؤمن) ، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به، وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا= (حتى نؤتى) ، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر، وعيسى من إحياء الموتى،
__________
(1) ديوانه 247، 248، وهي في نسختي المصورة من ديوان الأعشى رقم: 29، واللسان (حمر) وهو أول الشعر. وكان في المطبوعة هنا: ((السمين أديمه)) ، و ((فلن أزال مبقعا)) ، وأثبت ما في المخطوطة وفي مخطوطة الأعشى: ((السمين، وأطلى بالزعفران وقد أروح مبقعًا)) .
وهكذا جاء في المخطوطة: ((السمين إدامه)) ، والإدام ما يؤتدم به مع الخبز، أي شيء كان.
وعجيب إضافة الإدام إلى اللحم. ويروى: ((أديمه)) ، ضبطه في اللسان بفتح الألف، وهو غير مرتضى، بل الصواب إن شاء الله ((أديمه)) من ((أدام الشيء)) ، إذا أطال زمانه واستمر به.
ورواية أبي جعفر هنا ((فلن أروح مبقعًا)) ، ورواية مخطوطة ديوانه: ((وقد أروح مبقعًا)) ، وهي أجودهما. و ((المبقع)) الذي فيه لون يخالف لونه، أو لون ما أصابه الماء أو الزعفران أو ما شابههما. يعني أنه يكثر من الزعفران حتى يترك في بشرته لمعا. وأكثر ما كانوا يستعملون الزعفران في أعراسهم، إذا أعرس الرجل تزعفر. فكني بذلك عن كثرة زواجه.
وفي البيت روايات أخرى، راجعها في حواشي ديوانه، في ذيل الديوان.
(2) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .

(12/95)


وإبراء الأكمه والأبرص. (1) يقول تعالى ذكره: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل، (2) وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم، لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته.
* * *
القول في تأويل قوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه:"سيصيب"، يا محمد، (3) الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره = (صغار) ، يعني: ذلة وهوان، كما:-
13851- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله) ، قال:"الصغار"، الذلة.
* * *
وهو مصدر من قول القائل:"صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا"، وهو أشدّ الذلّ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الإيتاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) .
(2) في المطبوعة: ((لم يعطها)) ، وفي المخطوطة: ما أثبت، وهو صواب محض.
(3) انظر تفسير ((الإصابة)) فيما سلف: 11: 170، تعليق 2، والمراجع هناك.

(12/96)


وأما قوله: (صغار عند الله) ، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله، كقول القائل:"سيأتيني رزقي عند الله"، بمعنى: من عند الله، يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله. وغير جائز لمن قال:"سيصيبهم صغار عند الله"، أن يقول:"جئت عند عبد الله"، بمعنى: جئت من عند عبد الله، لأن معنى"سيصيبهم صغارٌ عند الله"، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير:"جئت من عند عبد الله". (1) .
* * *
وقوله: (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) ، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته. (2)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 253 = تفسير ((عند)) فيما سلف 2: 501/7: 490/8: 555.
(2) انظر تفسير ((المكر)) فيما سلف قريبًا ص: 95 * * *
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما يصيب:
((يتلوه القول في تأويل قوله: " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ")) .
وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا، ثم يتلوه ما نصه: ((بسم الله الرحمن الرحيم َرِّب يَسِّر))

(12/97)


فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

القول في تأويل قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ}
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له (1) = (يشرح صدره للإسلام) ، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته، حتى يستنير الإسلام في قلبه، فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-
13852- حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث، عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر قال: لما نزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت. (2)
__________
(1) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(2) الأثر: 13852 - ((عبد الله بن مرة)) ، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير، وأنا أستبعد أن يكون كذلك لأسباب.
الأول - أني أستبعد أن يكون هو ((عبد الله بن مرة الخارفي)) ، الذي يروي عن ابن عمر، ومسروق، وأبي كثف، والذي يروي عنه العمش، ومنصور. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 165، وهو ثقة.
الثاني - أن الخبر رواه أبو جعفر الطبري بأسانيد، هذا ورقم: 13853، 13854، وهي تدور على ((عمرو بن مرة)) .
الثالث - أنه سيتبين بعد مَنْ ((أبو جعفر)) الذي روى هذا الخبر، ومذكور هناك أنه روى عنه ((عمرو بن مرة)) ، ولم يذكر ((عبد الله بن مرة)) .
فمن أجل ذلك أرجح أن صوابه ((أبو عبد الله بن مرة)) ، أو ((أبو عبد الله عمرو بن مرة)) ، فسقط من النساخ.
وأما ((أبو جعفر)) الذي يدور عليه هذا الخبر، فهو موصوف في الخبر رقم 13854: ((رجل يكنى أبا جعفر، كان يسكن المدائن)) ، ثم جاءت صفة أخرى في تخريج السيوطي لهذا الخبر في الدر المنثور، قال: ((رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي)) = يعني الباقر.
وقد وقفت أولا عند ((أبي جعفر)) هذا، وظننت أنه مجهول، لأني لم أجد له ذكرًا في شيء مما بين يدي من الكتب، ولكن لما جئت إلى الخبر رقم: 13856 من رواية ((خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور)) ، تبين لي على وجه القطع، أن ((أبا جعفر)) هذا، الذي كان يسكن المدائن، وكان من بني هاشم، هو نفسه ((عبد الله بن المسور)) ، الذي روى عنه رقم: 13856.
وإذن، فهو ((أبو جعفر)) : ((عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب)) ((أبو جعفر الهاشمي المدائني)) . روى عنه عمرو بن مرة، وخالد بن أبي كريمة. مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 169، وتاريخ بغداد 10: 17، وميزان الاعتدال للذهبي 2: 78، ولسان الميزان 3: 360. قال الخطيب. ((سكن المدائن، وحدث بها عن محمد بن الحنفية) ، وذكر في بعض ما ساقه من أسانيد أخباره: ((عن خالد بن أبي كريمة (وهو الآتي برقم: 13856) ، عن أبي جعفر وهو عبد الله بن المسور، رجل من بني هاشم، كان يسكن المدائن)) .
و ((أبو جعفر)) ، ((عبد الله بن المسور)) ضعيف كذاب. قال جرير بن رقبة: ((كان أبو جعفر الهاشمي المدائني، يضع أحاديث كلام حق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلط بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمله الناس)) . وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: ((قال أبي: أبو جعفر المدائني، اسمه عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب. قال أبي: اضرب على حديثه، كان يضع الحديث ويكذب، وقد تركت أنا حديثه. وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدثنا عنه)) . وقال ابن أبي حاتم: ((سألت أبي عن جعفر الهاشمي فقال: الهاشميون لا يعرفونه، وهو ضعيف الحديث، يحدث بمراسيل لا يوجد لها أصل في أحاديث الثقات)) .
وإذن، فالأخبار من رقم: 13852 - 13854، ورقم: 13856 - أخبار معلولة ضعاف واهية، كما ترى.
وهذه الأخبار الثلاثة: 13852 - 13854، ذكرها ابن كثير في تفسيره 3: 394، 395، وخرجها السيوطي في الدر المنثور 3: 44، ونسب الخبر لابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات.
وقال ابن كثير في تفسيره 3: 395، وذكر هذه الأخبار، وخبر مسعود الذي رواه أبو جعفر برقم: 13855، 13857، ثم قال: ((فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضًا، والله أعلم.
وأخطأ الحافظ جدًا كما ترى، فإن حديث أبي جعفر الهاشمي، أحاديث كذاب وضاع لا تشد شيئًا ولا تحله!! وكتبه محمود محمد شاكر.

(12/98)


13853- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر قال: سئل

(12/99)


النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا. قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال:"الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت.
13854- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن رجل يكنى"أبا جعفر"، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ. قالوا: يا رسول الله، هل له من أمارة يعرف بها؟ = ثم ذكر باقي الحديث مثله. (1)
15855- حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتنحِّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت. (2)
__________
(1) الأثران: 13853، 13854 - حديثان واهيان، كما سلف في التعليق على الخبر السالف.
و ((عمرو بن مرة المرادي)) ، ثقة مأمون. مضى مرارًا، آخرها رقم: 12396.
(2) الأثر: 13855 - ((هلال بن العلاء بن هلال الباهلي الرقى)) ، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 4964، وأنه صدوق، متكلم فيه.
وكأن في المطبوعة: ((محمد بن العلاء)) ، وهو شيء لا أصل له هنا. وفي المخطوطة: ((لعلي ابن العلا)) ، غير منقوطة، كأنها تقرأ (يعلي بن العلا)) ، ولم أجد في شيوخ أبي جعفر، ولا في الرواة، من سمى بذلك. ورأيت ابن كثير في تفسيره 3: 395، نقل عن هذا الموضع من ابن جرير قال: ((حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد)) ، فأيد هذا أن أبا جعفر روى آنفًا عن شيخه ((هلال بن العلاء)) ، أن الذي في المخطوطة تحريف على الأرجح، ولذلك أثبته كم هو في ابن كثير: ((هلال بن العلاء)) .
و ((سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني)) . ضعيف، ضعفه ابن أبي حاتم، والدارقطني، وقال: ((لا يحتج به)) . قال أبو حاتم: ((يتكلمون فيه، يقال إنه أخذ كتبًا لمحمد بن سلمة، فحدث بها. ورأيت فيما حدث أكاذيب، كذب)) . مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 1 / 45، ميزان الاعتدال 1: 387، ولسان الميزان 3: 37.
و ((محمد بن سلمة الحراني)) ، ثقة، مضى برقم: 175.
و ((أبو عبد الرحيم)) ، هو ((خالد بن أبي يزيد الحراني)) ، روى ابن أخته ((محمد بن سلمة الحراني)) ، حسن الحديث متقن. مضى له ذكر في التعليق على الأثر رقم: 8396.
و ((زيد بن أبي أنيسة الجزري)) ، ثقة، مضى برقم: 4964، 8396.
و ((عمرو بن مرة المرادي)) ، مضى آنفًا في رقم: 13853، 13854.
و ((أبو عبيدة)) ، هو ((أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود)) ، مضى مرارًا كثيرة جدًا، وهو لم يسمع من أبيه، كما سلف مرارًا.
زهذا خبر ضعيف أيضًا، لضعف أحاديث ((سعيد بن واقد الحراني، عن ((محمد بن سلمة)) ، كما ذكر أبو حاتم.
ثم لأن أبا عبيدة، لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود. وسيأتي خبر عبد الله بن مسعود برقم: 13857، من طريق أخرى. فالعجب لابن كثير. كيف تكون هذه أحاديث متصلة، ثم كيف تشدها أخبار كذاب وضاع. وانظر ما أسلفت في التعليق على رقم: 13852.

(12/100)


13856- حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت. (1)
__________
(1) الأثر: 13856 - ((خالد بن أبي كريمة الأصبهاني)) و ((أبو عبد الرحمن الاسكاف)) وثقه أحمد وأبو داود، وابو حاتم وابن وابن حبان وقال ((يخطئ)) ، وضعفه ابن معين مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 1 / 154. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 349. قال البخاري ((عن معاوية ابن قرة، وأبي جعفر عبد الله بن مسور المسوري)) ، ولم يذكر فيه جرحًا.
و ((عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي المدائني)) ، سلف برقم: 13852، وأنه هو ((أبو جعفر)) المدائني، وأنه كذاب وضاع. وانظر تخريج الخبر والتعليق عليه هناك.

(12/101)


13857- حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح. قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنالة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت. (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13859- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، أما"يشرح صدره للإسلام"، فيوسع صدره للإسلام. (2)
13860- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، بـ "لا إله إلا الله".
13861- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، بـ" لا إله إلا الله" يجعل لها في صدره متَّسعًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله، ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه، (3) حرجًا. (4)
* * *
و"الحرج"، أشد الضيق، وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه، (5) وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه. وأصله من"الحرج"، و"الحرج" جمع"حَرَجة"، وهي الشجرة الملتف بها
__________
(1) الأثر: 13857 - ((ابن سنان القزاز)) ، شيخ الطبري، هو: ((محمد بن سنان القزاز)) مضى برقم: 157، 1999، 2056، 5419، 6822.
و ((محبوب بن الحسن الهاشمي البصري)) ، ((محبوب)) لقب، وهو به أشهر، واسمه: ((محمد بن الحسن بن هلال بن أبي زينب فيروز القرشي)) ، مولى بني هاشم. ثقة، وضعفوه مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 67، في ((محمد بن الحسن البصري)) ، وابن أبي حاتم في ((محمد ابن الحسن البصري)) 3 / 2 / 228، ثم في ((محبوب بن الحسن بن هلال)) 4 / 1 / 388، ولم يشر إلى أن اسمه ((محمد بن الحسن)) .
و ((يونس)) هو: ((يونس بن عبيد بن دينار العبدي)) ، ثقة، مضى برقم: 2616، 4931، 10574.
و ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة)) ، هذا إشكال شديد، فإن ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود)) ، متأخر جدًا، روى عن أبي إسحاق السبيعي وطبقته ومات سنة 160، أو سنة 165. و ((يونس بن عبيد)) ، أعلى طبقة منه، روى عن إبراهيم التيمي، والحسن البصري، وابن سيرين. ومات سنة 140، فهو في طبقة شيوخه، فلو كان يونس روى عنه، لذكر مثل ذلك في ترجمة ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة)) .
وأنا أرجح أن صواب الإسناد: ((عن يونس، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عتبة)) .
وهو ((عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي)) ، كنيته ((أبو عبد الرحمن)) ، وهو الذي يروي عن عمه ((عبد الله بن مسعود)) ، وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ومات سنة 74. فهو الخليق أن يروي عنه ((يونس بن عبيد)) .
وهذا أيضًا خبر ضعيف، لضعف ((محبوب بن الحسن)) ، وإذن فكل ما قاله الحافظ ابن كثير من أن هذه الأخبار جاءت بأسانيد مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا، قول ينفيه شرح هذه الأسانيد كما رأيت، والله الموفق للصواب، وكتبه محمود محمد شاكر.
(2) تخطيت في الترقيم رقم: 13858: خطأ.
(3) في المطبوعة: ((لشغله بكفره ... يجعل صدره)) ، الأخيرة بغير واو، وفي المخطوطة كما أثبتها، وبغير واو في ((يجعل صدره)) ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) انظر تفسير ((الإضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(5) في المطبوعة: ((لا ينفذ)) ، وأثبت ما في المخطوطة. وهو الصواب.

(12/102)


الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها، (1) كما:-
13862- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار = رجل من أهل اليمن= عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) بنصب الراء. قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضَيِّقًا حَرِجًا". قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا، (2) وليكن مُدْلجيًّا. (3) قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال:"الحرجة" فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء. قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. (4)
13863- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، [سورة الحج:78] ، يقول: ما جعل
__________
(1) انظر تفسير ((الحرج)) فيما سلف 8: 518 / 10: 85.
(2) قوله: ((واجعلوه راعيًا)) ، أي التمسوه، وليكن راعيًا، ليس من معنى ((الجعل)) الذي هو التصيير. وهذا استعمال عربي عريق في ((جعل)) ، ولكنهم لم يذكروه في المعاجم، وهو دائر في كلام العرب، وهذا من شواهده، فليقيد في مكانه من كتب العربية.
(3) ((مدلج)) قبيلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة، وهم القافة المشهورون، ويدل هذا الخبر على أن أرض مرعاهم كانت كثيرة الشجر.
(4) الأثر: 13862 - ((عبد الله بن عمار اليمامي)) ، قال ابن أبي حاتم: ((مجهول)) ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 129.
و ((أبو الصلت الثقفي)) ، روى عن عمر، وروى عنه عبد الله بن عمار اليمامي، هذا الحديث. مترجم في التهذيب، والكني للبخاري: 44، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 394.
وهذا خبر عزيز جدًا. في بيان رواية اللغة وشرحها، وسؤال الأعراب والرعاة عنها.

(12/104)


عليكم في الإسلام من ضيق.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال: بعضهم معناه: شاكًّا.
* ذكر من قال ذلك:
13864- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد، عن مجاهد: (ضيقًا حرجًا) قال: شاكًّا.
13865- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ضيقًا حرجًا) أما"حرجًا"، فشاكًّا.
* * *
وقال آخرون: معناه: ملتبسًا.
* ذكر من قال ذلك:
13866- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، قال: ضيقًا ملتبسًا.
13867- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن، عن قتادة أنه كان يقرأ: (ضَيِّقًا حَرَجًا) ، يقول: ملتبسًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان.
* ذكر من قال ذلك:
13868- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا.
13869- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عطاء الخراساني: (ضيقًا حرجًا) ، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ.

(12/105)


13870- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عطاء الخراساني، مثله.
13871- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: (ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا.
13872- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً في قوله: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا) ، بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (ضَيِّقًا حَرَجًا) بفتح الحاء والراء من (حرجًا) ، وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين، بمعنى جمع"حرجة"، على ما وصفت. (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة:"ضَيِّقًا حَرِجًا"، بفتح الحاء وكسر الراء.
* * *
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه.
فقال بعضهم: هو بمعنى:"الحَرَج". وقالوا:"الحرَج" بفتح الحاء والراء، و"الحرِج" بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد، وهما لغتان مشهورتان، مثل:"الدَّنَف" و"الدَّنِف"، و"الوَحَد" و"الوَحِد"، و"الفَرَد" و"الفَرِد".
* * *
وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم:"فلان آثِمٌ حَرِجٌ"، وذكر عن العرب سماعًا منها:"حَرِجٌ عليك ظُلمي"، بمعنى: ضِيقٌ وإثْم. (2)
__________
(1) انظر ص: 103، 104.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 353، 354.

(12/106)


قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في"الوحَد" و"الفَرَد" بفتح الحاء من"الوحد" والراء من"الفرد"، وكسرهما، بمعنى واحدٍ.
* * *
وأما"الضيِّق"، فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه، خلا بعض المكيين فإنه قرأه:"ضَيْقًا"، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه.
وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان:
أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد، كما قيل:"هَيْنٌ لَيْنٌ"، بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ.
والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم:"ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا"، كما قال رؤبة:
قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ كُلِّ مَأْزِقِ ... ضَيْقٍ بِوَجْهِ الأمْرِ أَوْ مُضَيِّقِ (1)
ومنه قول الله: (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ، [سورة النحل: 127] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ * (2)
__________
(1) ليسا في ديوانه، ولم أجدهما في مكان آخر، ومنها أبيات في الزيادات: 179، 180، ولم يذكرا معها. وكان في المطبوعة: ((وقد علمنا)) بزيادة الواو. وكان فيها: ((أي مضيق)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب إن شاء الله.
(2) ديوانه: 105، والوساطة: 14. ((مأزول)) من ((الأزل)) (بسكون الزاي) ، وهو الضيق والجدب وشدة الزمان، وفي حديث الدجال: ((أنه يحضر الناس ببيت المقدس، فيؤزلون أزلا)) ، أي: يقحطون ويضيق عليهم. ومعنى: ((مأزول)) ، أصابه القحط، يعني مرعى، ومثله قول الراجز: إنَّ لَهَا لَرَاعِيًا جَرِيَّا ... أَبْلا بمَا يَنْفَعُها قَوِيَّا
لَمْ يَرْعَ مَأْزُولا وَلا مَرْعِيَّا ... حَتَّى علاَ سَنَامُهَا عُلِيَّا
و ((شفها)) أنحل جسمها، وأذهب شحمها. و ((اللوح)) (بضم اللام) وهو أعلى اللغتين، و ((اللوح)) (بفتح فسكون) : وهو العطش الذي يلوح الجسم، أي يغيره. وقوله: ((ضيق)) حرك ((الياء)) بالفتح. وعده القاضي الجرجاني في أخطاء رؤبة.

(12/107)


بمعنى: ضيّق. وحكي عن الكسائي أنه كان يقول:"الضيِّقُ"، بالكسر: في المعاش والموضع، وفي الأمر"الضَّيْق".
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية، وأن كلا السببين من عند الله. (1) وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام، ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء. ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له، وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق، ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه، إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما= أعني من التضييق والشرح = إلى ما يُوصَل به إلى الآخر. ولو كان ذلك كذلك، وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله. وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون، غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون، وأن كِلا السببين من عند الله وبيده، لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو
__________
(1) هذا رد على المعتزلة، وانظر ما سلف ص: 92، تعليق: 3، وهو من أجود الردود على دعوى المعتزلة.

(12/108)


الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته، ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}
قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13873- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عطاء الخراساني: (كأنما يصعد في السماء) ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء.
13874- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عطاء الخراساني، مثله.
13875- وبه قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً:"يجعل صدره ضيقًا حرجًا"، بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله،"كأنما يصعد في السماء"، من شدّة ذلك عليه.
13876- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، مثله.
13877- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كأنما يصعد في السماء) ، من ضيق صدره.
* * *

(12/109)


واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ) ، بمعنى:"يتصعَّد"، فأدغموا التاء في الصاد، فلذلك شدَّدوا الصاد.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين:"يَصَّاعَدُ"، بمعنى:"يتصاعد"، فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين:"كَأَنَّمَا يَصْعَدُ"، من"صَعِد يصعَد".
* * *
وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب، غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ) ، بتشديد الصاد بغير ألف، بمعنى:"يتصعد"، لكثرة القرأة بها، (1) ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح".
* * *
القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا، كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك، كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الصعود)) فيما سلف 7: 299 - 302.

(12/110)


وقد اختلف أهل التأويل في معنى"الرجس".
فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه.
* ذكر من قال ذلك:
13878- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الرجس"، ما لا خير فيه.
13879- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد: (يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) ، قال: ما لا خير فيه.
* * *
وقال آخرون:"الرجس"، العذاب.
* ذكر من قال ذلك:
13880- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) ، قال: الرجس عذابُ الله.
* * *
وقال آخرون:"الرجس"، الشيطان.
* ذكر من قال ذلك:
13881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (الرجس) ، قال: الشيطان.
* * *
وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول:"الرِّجْس"،"والنِّجْس" لغتان. ويحكى عن العرب أنها تقول:"ما كان رِجْسًا، ولقد رَجُس رَجَاسة" و"نَجُس نَجَاسة".

(12/111)


وكان بعض نحويي البصريين يقول:"الرجس" و"الرِّجز"، سواء، وهما العذاب. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس، ومَنْ قال إن"الرجس" و"النجس" واحد، للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء:"اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم". (2)
13882- حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3)
* * *
وقد بيَّن هذا الخبر أن"الرِّجْس" هو"النِّجْس"، القذر الذي لا خير فيه، وأنه من صفة الشيطان.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 206، فهذا قوله.
(2) قال أبو عبيد: ((الخبيث)) ذو الخبث في نفسه، و ((المخبث)) (بكسر الباء) : الذي أصحابه وأعوانه خبثاء = وهو مثل قولهم: ((فلان ضعيف مضعف، وقوي مقو)) ، فالقوي في بدنه، والمقوى الذي تكون دابته قوية = يريد هو الذي يعلمهم الخبث ويوقعهم فيه.
(3) الأثر: 13882 - ((عبد الرحمن بن البختري الطائي)) ، شيخ أبي جعفر، لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب؛ وأخشى أن يكون في اسمه خطأ.
و ((عبد الرحمن بن محمد المحاربي)) ، سلف مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 10339.
و ((إسماعيل بن مسلم المكي البصري)) ، مضى برقم: 5417، 8811.
وهذا إسناد صحيح، ولكني لم أجد هذا الخبر في حديث أنس، في المسند أو غيره، ووجدته بهذا اللفظ في حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف، من طريق يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، رواه ابن ماجه في سننه ص: 109 رقم: 299. قال ابن حبان: ((إذا اجتمع في إسناد خبر، عبيد الله بن زحر، وعلى بن يزيد، عن القاسم، فذاك مما عملته أيديهم!)) .

(12/112)


وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

القول في تأويل قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن= هو صراطُ ربك، يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. (1) فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك، فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته (2) ="لقوم يذكرون"، يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها. (3) وخص بها"الذين يتذكرون"، لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل= وقيل:"يذَّكرون"...................... (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13883- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وهذا صراط ربك مستقيمًا) ، يعني به الإسلام.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: ((الصراط المستقيم)) فيما سلف 10: 146، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((فصل)) فيما سلف ص: 69، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
(3) انظر تفسير ((التذكر)) فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر.
(4) في المطبوعة ((فقيل يذكرون)) ، وفي المخطوطة: ((وقيل يذكرون)) كأنه أراد أن يكتب شيئًا، ثم قطعه. ولعله أراد أن يبين إدغام التاء في الذال من ((يتذكرون)) ، ثم سقط منه أو من الناسخ، فوضعت نقطًا لذلك، وإن كان إسقاطها لا يضر شيئًا.

(12/113)


لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

القول في تأويل قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لهم"، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك.
* * *
وأما"دار السلام"، فهي دار الله التي أعدَّها لأولياته في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته. و"السلام"، اسم من أسماء الله تعالى، (1) كما قال السدي:-
13884- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لهم دار السلام عند ربهم) ، الله هو السلام، والدار الجنة.
* * *
وأما قوله: (وهو وليُّهم) ، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله (2) = (بما كانوا يعملون) ، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله، ويتبعون رضوانه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((السلام)) فيما سلف 10: 145 / 11: 392.
(2) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .

(12/114)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ويوم يحشرهم جميعًا) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين، فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة (1) = يقول للجن: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، وحذف"يقول للجن" من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه.
* * *
وعنى بقوله: (قد استكثرتم من الإنس) ، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم، كما:-
13885- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، يعني: أضللتم منهم كثيرًا.
13886- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس.
13887- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قد استكثرتم من الإنس) ، قال: كثُر من أغويتم.
__________
(1) انظر تفسير ((الحشر)) فيما سلف ص: 50، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(12/115)


13888- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13889- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن: (قد استكثرتم من الإنس) ، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون:"ربنا استمتع بعضنا ببعض" في الدنيا. (1) فأما استمتاع الإنس بالجن، فكان كما:-
13890- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ربنا استمتع بعضنا ببعض) ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول:"أعوذ بكبير هذا الوادي"، فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة.
* * *
= وأما استمتاع الجن بالإنس، فإنه كان، فيما ذكر، ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم، فيقولون:"قد سدنا الجِنّ والحِنّ" (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الاستمتاع)) فيما سلف 8: 175، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: ((قد سدنا الجن والإنس)) ، غير ما في المخطوطة، لم يحسن قراءتها لأنها غير منقوطة. وأثبت ما في المخطوطة. و ((الحن)) (بكسر الحاء) ، حي من أحياء الجن، وقد سلف بيان ذلك في الجزء 1: 455، تعليق: 1، فراجعه هناك. انظر معاني القرآن للفراء 1: 354، والذي هناك مطابق لما في المطبوعة.

(12/116)


القول في تأويل قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا. (1) وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا. كما:-
13891- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا) ، فالموت.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن، فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه، فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: (النار مثواكم) ، يعني نار جهنم ="مثواكم"، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه.
* * *
و"المثوى" هو"المَفْعَل" من قولهم:"ثَوَى فلان بمكان كذا"، إذا أقام فيه. (2)
__________
(1) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: 11: 259، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((المثوى)) فيما سلف 7: 279.

(12/117)


وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

= (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها (1) = (إلا ما شاء الله) ، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار = (إن ربك حكيم) ، في تدبيره في خلقه، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله = (عليم) ، بعواقب تدبيره إياهم، (2) وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر. (3)
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته.
13892- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) ، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينزلهم جنَّةً ولا نارًا. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل (نُوَلّي) .
فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله.
__________
(1) انظر تفسير ((الخلود)) فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(2) انظر تفسير ((حكيم)) و ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) و (علم) .
(3) في المطبوعة: ((صائر)) بغير تاء في آخره، والصواب ما في المخطوطة. ((صائرة)) مثل ((عاقبة)) لفظًا ومعنى، ومنه قبل: ((الصائرة، ما يصير إليه النبات من اليبس)) .
(4) في المطبوعة: ((أن لا ينزلهم)) فزاد ((أن)) ، فأفسد المعنى إفسادًا حتى ناقض بعضه بعضًا. وإنما قوله: ((لا ينزلهم جنة ولا نارًا)) ، نهى للناس أن يقول: ((فلان في الجنة)) و ((فلان في النار)) . ((ينزلهم)) مجزومة اللام بالناهية.

(12/118)


* ذكر من قال ذلك:
13893- حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون) ، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان. ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي.
* * *
وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار= من"الموالاة"، وهو المتابعة بين الشيء والشيء، من قول القائل:"واليت بين كذا وكذا"، إذا تابعت بينهما.
* ذكر من قال ذلك:
13894- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا) ، في النار، يتبع بعضهم بعضًا. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض.
* ذكر من قال ذلك:
13895- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا) ، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس. وقرأ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ، [سورة الزخرف: 36] . قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .

(12/119)


يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء. لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين، فقال جل ثناؤه: (وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض) ، وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم، فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور ="بما كانوا يكسبون"، من معاصي الله ويعملونه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) ، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي، وتصديق أنبيائي، والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي = (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) ، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي، فتنتهوا عن معاصيَّ. (2)
وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم
__________
(1) انظر تفسير ((الكسب)) فيما سلف: 11: 448، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((الإنذار)) فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) .

(12/120)


عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين، فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الجن"، هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟
فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ.
* ذكر من قال ذلك:
13896- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي) ، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى!
* * *
وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ، ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل، وإنما الرسل من الإنس خاصَّة، فأما من الجن فالنُّذُر. قالوا: وإنما قال الله: (ألم يأتكم رسل منكم) ، والرسل من أحد الفريقين، كما قال: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) ، [سورة الرحمن: 19] ، ثم قال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، [سورة الرحمن: 22] ، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما. (1) قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ:"إن في هذه الدُّور لشرًّا"، وإن كان الشر في واحدة منهن، فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن، وكما يقال:"أكلت خبزًا ولبنًا"، إذا اختلطا، ولو قيل:"أكلت لبنًا"، كان
__________
(1) هذه مقالة الفراء، انظر معاني القرآن 1: 354، وظاهر أن الذي بعده من كلام الفراء أيضا من موضع آخر غير هذا الموضع.

(12/121)


الكلام خطأً، لأن اللبن يشرب ولا يؤكل.
* ذكر من قال ذلك:
13897- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ، قال: جمعهم كما جمع قوله: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) ، [سورة فاطر: 12] ، ولا يخرج من الأنهار حلية = قال ابن جريج، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم، وهم رسل إلى قومهم.
* * *
فعلى قول ابن عباس هذا، أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم = فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم، وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين. (1)
* * *
وأما الذين قالوا بقول الضحاك، فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم، كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم. قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ. (2) قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره.
* * *
__________
(1) اقرأ آيات سورة الأحقاف: 29 - 32.
(2) يعني بهذا أن المنذرين الذين ذهبوا إلى قومهم، لو جاز أن يسموا ((رسلا)) أرسلهم الإنس إلى الجن، جاز أن يسمى ((رسل الإنس)) = وهم رسل الله إلى الإنس والجن = ((رسل الجن)) ، أرسلهم الجن إلى الإنس. وهذا ظاهر البطلان.

(12/122)


القول في تأويل قوله: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: (ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا) ، أنهم يقولونه................ (1) = (شهدنا على أنفسنا) ، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا، فكذبناها وجحدنا رسالتها، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها.
قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن (2) = (الحياة الدنيا) ، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله، فاستكبروا وكانوا قومًا عالين. فاكتفى بذكر"الحياة الدنيا" من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها، إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره = يقول الله تعالى ذكره: (وشهدوا على أنفسهم) ، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة = أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله، لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: ((أنهم يقولون: شهدنا على أنفسنا)) ، وصل الكلام، وفي المخطوطة بياض، جعلت مكانه هذه النقط، وأمام البياض في المخطوطة حرف (ط) دلالة على أنه خطأ، وأنه كان هكذا في النسخة التي نقل عنها.
(2) انظر تفسير ((الغرور)) فيما سلف ص: 56، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(12/123)


ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه، وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ، من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم.
* * *
وقد يتَّجه من التأويل في قوله:"بظلم"، وجهان:
أحدهما: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: بشرك مَنْ أشرك، وكفر مَنْ كفر من أهلها، كما قال لقمان: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، [سورة لقمان: 13] = (وأهلها غافلون) ، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا:"ما جاءنا من بَشِيٍر ولا نذير".
* * *
والآخر: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلامٍ لعبيده. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، عقيب قوله:
__________
(1) في المطبوعة: ((للعبيد)) ، وأثبت ما في المخطوطة.

(12/124)


(ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي) ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه. (1)
* * *
وأما قوله: (ذلك) ، فإنه يجوز أن يكون نصبًا، بمعنى: فعلنا ذلك = ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء، كأنه قال: ذلك كذلك.
* * *
وأما"أنْ"، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى= فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب. (2)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 355، فهذا رد على الفراء، وهو صاحب القول الثاني.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 355.

(12/125)


وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

القول في تأويل قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا (1) = (وما ربك بغافل عما يعملون) ، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((درجة)) فيما سلف: 11: 505، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(12/125)


وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)

القول في تأويل قوله: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"وربك"، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية="الغني"، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى، وعن أعمالهم وعبادتهم إياه، وهم المحتاجون إليه، لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. (1) يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه، لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم، ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا، فإني ذو الرَّأفة والرحمة. (2)
* * *
وأما قوله: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه = (يذهبكم) ، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم (3) = (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض ="من بعدكم"، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم = (كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الغنى)) فيما سلف 5: 521، 570 / 9: 296.
(2) انظر تفسير ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .
(3) انظر تفسير ((الإذهاب)) فيما سلف 9: 298.

(12/126)


ومعنى"مِنْ" في هذا الموضع التعقيب، كما يقال في الكلام:"أعطيتك من دينارك ثوبًا"، بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا، لا أن الثوب من الدينار بعضٌ، كذلك الذين خوطبوا بقوله: (كما أنشأكم) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين، ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم.
* * *
و"الذرية""الفُعْليّة"، من قول القائل:"ذرأ الله الخلق"، بمعنى خلقهم،"فهو يذرؤهم"، ثم ترك الهمزة فقيل:"ذرا الله"، ثم أخرج"الفُعْليّة" بغير همز، على مثال"العُبِّيَّة". (1)
* * *
وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ:"مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" على مثال"فُعِّيلة". (2)
* * *
وعن آخر أنه كان يقرأ:"وَمِنْ ذِرِّيَّةِ"، على مثال"عِلِّيَّة".
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: (ذُرِّيَّةِ) ، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال"عُبِّية". (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: ((العلية)) ، وهو خطأ، لأن هذه بكسر العين. وفي المخطوطة: ((العلمه)) ، غير منقوطة، واجتهدت قراءتها كذلك. وفي الحديث: ((إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وتعظمها بآبائها)) ، و ((العبية)) فخر الجاهلية وكبرها ونخوتها. يقال إنها من ((التعبية)) ، وقالوا بعضهم: هي ((فعولة)) ، وجائز أن تكون ((فعلية)) ، كما قال هذا القائل في ((ذرية)) ، وانظر مادة (عبب) في لسان العرب.
(2) كان في المخطوطة: ((من ذرية)) ، كما هي التلاوة السالفة، ولكن ظاهر أن الذي في المطبوعة هو الصواب. لأن ((ذرية)) أصلها ((ذريئة)) ، من ((ذرأ الله الخلق)) ، فكان ينبغي أن تكون مهموزة، فكثرت، فأسقط الهمز، وتركت العرب همزها. وانظر لسان العرب (ذرأ) .
(3) انظر التعليق السالف رقم: 1، وكان في المطبوعة هنا أيضًا ((علية)) ، ومثلها في المخطوطة، والصواب الراجح ما أثبته.

(12/127)


إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)

وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأصل"الإنشاء"، الإحداث. يقال:"قد أنشأ فلان يحدِّث القوم"، بمعنى ابتدأ وأخذ فيه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ، إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم = (وما أنتم بمعجزين) ، يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه، لأنكم حيث كنتم في قبضته، وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نزول البلاء بكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر=: (اعملوا على مكانتكم) ، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم. كما:-
__________
(1) انظر تفسير ((الذرية)) فيما سلف 3: 19، 73 / 5: 543 / 6: 327، ولم يفسرها في هذه المواضع، ثم فسرها في 6: 362 / 8: 19 / 11: 507.
(2) انظر تفسير ((الإنشاء)) فيما سلف: 11: 263، 264، 562.

(12/128)


قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

13898- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (يا قوم اعملوا على مكانتكم) ، يعني: على ناحيتكم.
* * *
يقال منه:"هو يعمل على مكانته، ومَكِينته".
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين:"عَلَى مَكَانَاتِكُمْ"، على جمع"المكانة".
* * *
قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ) ، على التوحيد.
* * *
= (إني عامل) ، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون، فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي = (فسوف تعلمون) ، يقول: فسوف تعلمون عند نزول نقمة الله بكم، أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد، أنا أم أنتم.
وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: (يا قوم اعملوا على مكانتكم) ، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم، لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (من تكون له عاقبة الدار) ، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ، مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. (1) يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر
__________
(1) انظر تفسير ((العاقبة)) فيما سلف 11: 272، 273.

(12/129)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

منها، (1) بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها.
ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: (إنه لا يفلح الظالمون) ، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا (2) = وذلك معنى:"ظلم الظالم"، في هذا الموضع. (3)
* * *
وفي"من" التي في قوله: (من تكون) ، له وجهان من الإعراب:
= الرفع على الابتداء.
= والنصبُ بقوله: (تعلمون) ، ولإعمال"العلم" فيه.
والرفع فيه أجود، لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في"من"، أصحُّ وأفصح من إعمال"العلم" فيه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم = (مما ذرأ) خالقهم، يعني: مما خلق من الحرث والأنعام.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: ((من الذي يعقب دنياه)) ، والذي في المخطوطة هو الصواب.
(2) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف 11: 296، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 355.

(12/130)


يقال منه:"ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا"، (1) إذا خَلَقهم.
* * *
="نصيبًا"، يعني قسمًا وجزءًا. (2)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان.
فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، (3) وجزءًا آخر لهذا.
* ذكر من قال ذلك:
13899- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة عن ابن عباس (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) ، الآية، قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: (سَاءَ ما يحكمون) .
13900- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) ، قال: جعلوا
__________
(1) في المخطوطة أيضًا ((وذروا)) ، كأنه يعني تسهيل الهمزة، ولم أجد ذكر ذلك في مصادر هذا الفعل، ولا أظنه أراد: ((وذروءًا)) ، فإن أحدًا لم يذكر ذلك.
(2) انظر تفسير ((نصيب)) فيما سلف 9: 324، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: ((يقرونه)) ، وفي المخطوطة: ((يفررون)) غير تامة النقط، وصواب قراءتها ما أثبت. ((فرزت الشيء)) و ((أفرزته)) ، إذا عزلته عن غيره، ومزته. و ((الفِرْز)) (بكسر فسكون) : النصيب المفروز لصاحبه، واحدًا كل أو اثنين.

(12/131)


لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، (1) وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء. وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ) ، [سورة المائدة: 103] .
13901- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم) ، الآية، وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن، قالوا:"هذا فقير"! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن. وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، الآية.
13902- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم
__________
(1) ((السقي)) (بكسر السين وسكون القاف) : والشرب (بكسر فسكون) ، وهو مورد الماء كالجدول، يسقى به الزرع.

(12/132)


جزءًا، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا:"الله عن هذا غنيّ"! و"الأنعام" السائبة والبحيرة التي سمُّوا.
13903- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
13904- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، الآية، عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّؤوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم. وكانوا إذا خالط شيء مما جزّؤوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزؤوا لشركائهم فيما جزؤوا لله ردّوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزؤوا لله، وأقرُّوا ما جزؤوا لشركائهم، قال الله: (ساء ما يحكمون) .
13905- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا، فيقولون:"هذا لله، وهذا للأصنام"، التي يعبدون. فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، (1) فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه. وإن أصابتهم سنة، أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال الله: (ساء ما يحكمون) .
13906- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) إلى (يحكمون) ، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله، ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله، ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها، وما خرج
__________
(1) في المطبوعة: ((فإذا ذهب مما جعلوا)) غير ما كان في المخطوطة لغير طائل.

(12/133)


لله تصدقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا:"ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة"، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم، قالوا:"لو شاء أزكى الذي له"! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة. قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني. فذلك حين يقول: (ساء ما يحكمون) .
* * *
وقال آخرون:"النصيب" الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة، وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه.
* ذكر من قال ذلك:
13907- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) حتى بلغ: (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) ، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، (1) لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: (ساء ما يحكمون) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا، فقالوا:"هذا لله" وجعلوا مثله لشركائهم، وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه، فقالوا:"هذا لشركائنا" = وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله، بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله، وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم. فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية، كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم
__________
(1) ((الذبح)) (بكسر فسكون) ، هو ((الذبيح)) ، و ((المذبوح)) ، وهو كل ما أعد للذبح من الأضاحي، وغيرها من الحيوان.

(12/134)


وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت، وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة، جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض.
* * *
وأما قوله: (ساء ما يحكمون) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، (1) إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم، حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم، من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم، وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم، وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم=
__________
(1) انظر تفسير ((ساء)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) = وتفسير ((يحكم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) .

(12/135)


(كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم) ، من الشياطين، فحسنوا لهم وأد البنات (1) = (ليردوهم) ، يقول: ليهلكوهم= (وليلبسوا عليهم دينهم) ، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس، فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم (2) = ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه، بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد، فكانوا لا يقتلونهم، ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم.
يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها:"هذا لله وهذا لشركائنا"، وفي قتلهم أولادهم="ذرهم"، يا محمد، (3) "وما يفترون"، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور، (4) فإني لهم بالمرصاد، ومن ورائهم العذاب والعقاب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13908- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) ، زينوا لهم، من قَتْل أولادهم.
13909- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قتل أولادهم شركاؤهم) ، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة. (5)
__________
(1) انظر تفسير ((زين)) فيما سلف ص: 92، تعليق: 2 والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((اللبس)) فيما سلف: 11: 492، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير ذر فيما سلف: 72، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: 57، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) ((العيلة)) (بفتح فسكون) ، الفقر وشدة الحاجة.

(12/136)


13910- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
13911- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) الآية، قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك = (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) .
13912- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ، قال: شياطينهم التي عبدوها، زينوا لهم قتلَ أولادهم.
13913- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) ، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وأمَّا (ليردوهم) ، فيهلكوهم. وأما (ليلبسوا عليهم دينهم) ، فيخلطوا عليهم دينهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة الحجاز والعراق: (وَكَذَلِكَ زَيَّن) ، بفتح الزاي من"زين"، (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) ، بنصب"القتل"، (شُرَكَاؤُهُمْ) ، بالرفع = بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم= فيرفعون"الشركاء" بفعلهم، وينصبون"القتل"، لأنه مفعول به.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام:"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ" بضم الزاي"لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ" بالرفع"أَوْلادَهُمْ" بالنصب"شُرَكَائِهِمْ" بالخفض= بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح. وقد

(12/137)


روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام، رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه، وذلك قول قائلهم:
فَزَجَجْتُهُ مُتَمَكِّنًا ... زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزَادَهْ (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) ، بفتح الزاي من"زين"، ونصب"القتل" بوقوع"زين" عليه، وخفض"أولادهم" بإضافة"القتل" إليهم، ورفع"الشركاء" بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل.
وإنما قلت:"لا أستجيز القراءة بغيرها"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد، ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة.
* * *
ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ:"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ"، بضم الزاي من"زين"، ورفع"القتل"، وخفض"الأولاد" و"الشركاء"، على
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 358، الإنصاف: 179، الخزانة 2: 251، والعيني (بهامش الخزانة) 3: 468، وغيرها كثير. ((زج)) : دفع بالزج، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح. و ((القلوص)) الناقة الفتية، و ((أبو مزادة)) اسم رجل. وهذا البيت شاهد على ما ذهب إليه الكوفيون من جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض، لضرورة الشعر. والتقدير: زج أبي مزادة القلوص، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص، وهو مفعول، وليس بظرف ولا حرف خفض. وهذا وإن كان مقالة الكوفيين، فإن الفراء قد رده في معاني القرآن 1: 358، وقال هو ليس بشيء.

(12/138)


أن "الشركاء" مخفوضون بالردّ على"الأولاد"، بأنّ"الأولاد" شركاء آبائهم في النسب والميراث = كان جائزًا. (1)
* * *
ولو قرأه كذلك قارئ، غير أنه رفع"الشركاء" وخفض"الأولاد"، كما يقال:"ضُرِبَ عبدُ الله أخوك"، فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله= كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 357.

(12/139)


وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرمون ويحللون من قِبَل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين، جهلا منهم، لأنعام لهم وحرث: هذه أنعامٌ وهذا حرث حجر= يعني بـ"الأنعام" و"الحرث" ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم، التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه.
* * *
وقيل: إن"الأنعام"، السائبة والوصيلة والبحيرة التي سمَّوا. (1)
13914- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأنعام"، السائبة والبحيرة التي سمُّوا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الأنعام)) فيما سلف 6: 257 / 9: 457
= وتفسير ((الحرث)) فيما سلف 4: 240 - 243، 397 /6: 257 / 7: 134.

(12/139)


و"الحِجْر" في كلام العرب، الحرام. (1) يقال:"حَجَرت على فلان كذا"، أي حرَّمت عليه، ومنه قول الله: (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) ، [سورة الفرقان: 22] ، ومنه قول المتلمس:
حَنَّتْ إلَى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: ... حِجْرٌ حَرَامٌ، أَلا ثَمَّ الدَّهَارِيسُ (2)
__________
(1) المخطوطة، ليس فيها ((الحرام)) ، وزيادتها في المطبوعة هي الصواب الموافق لما في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 207.
(2) ديوانه قصيدة 4، ومختارات ابن الشجري: 32، ومجاز القرآن 1: 207، وسيأتي في التفسير 19: 302 (بولاق) ، اللسان (دهرس) ، ومعجم، استعجم: 1304، ومعكم ياقوت (نخلة القصوى، ونسبه لجرير وهو المتلمس، جرير بن عبد المسيح، من قصيدته التي قالها في مهربه إلى الشام من عمرو بن هند، وقصة المتلمس وطرفة، وعمرو بن هند، مشهورة. وهكذا جاء هنا ((النخلة القصوى)) ، وهي رواية، والرواية الأخرى ((نخلة القصوى)) بغير تعريف كما سيأتي براوية أبي جعفر في التفسير 19: 302 (بولاق) . وقد ذكروا أن ((نخلة القصوى)) المذكورة هنا، هي: ((نخلة اليمانية)) ، وهو واد ينصب من بطن قرن المنازل، وهو طريق اليمن إلى مكة. وظاهر هذا الشعر، فيما أداني إليه اجتهادي، يدل على أن ((نخلة القصوى)) بأرض العراق، مفضيًا إلى الحيرة، ديار عمرو بن هند، فإنه قال هذا الشعر، وقد حرم عليه عمرو بن هند أرض العراق، فحنت ناقته إلى ديارها بالعراق، فقال لها: أنِّى طَرِبْتِ وَلَمْ تُلْحَيْ عَلَى طَرَبٍ، ... ودُونَ إلْفِكِ أَمْرَاتٌ أَمَا لِيسُ
يقول: كيف تشتاقين إلى أرض فيها هلاكي؟ ثم عاد يقول: ولست ألومك على الشوق الذي أثار حنينك، فإنه لا بد لمن حالت بينه وبين إلفه الفلوات، أن يحن. ثم بين العلة في استنكاره حنينها فقال لها: وكأنه يخاطب نفسه، ويعتذر إليها من ملامة هذه البائسة! . حَنَّتْ إلَى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: ... بَسْلٌ عَلَيْكِ، أَلا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ
((بسل عليك)) : حرام عليك، وهذه رواية أخرى. و ((الدهاريس)) ، الدواهي. يقول: ما ألومها على الحنين إلى إلفها، ولكني ألومها على الحنين إلى الأرض فيها هلاكي. وقال لها: إن نخلة القصوى التي تحنين إليها، حرام عليك، فإن فيها الدواهي والغوائل. فتبين بهذا أنه يعني ديار عمرو بن هند الذي فر منه، ثم قال لها بعد ذلك: أُمِّي شَآمِيةً، إِذْ لا عِرَاقَ لَنَا، ... قَوْمًا نَوَدُّهُمُ إذْ قَوْمُنَا شُوسُ.
يقول: اقصدي نخلة الشآمية، فإن العراق قد حرم علينا، وفي الشام أحبابنا، وأهل مودتنا، وأما قومنا بالعراق فإنهم ينظرون إلينا بأعين شوس من البغضاء. فثبت بقوله: ((إذ لا عراق لنا)) أن ((نخلة القصوى)) من أرض العراق. وفي هذا كفاية في تحقيق الموضع إن شاء الله.

(12/140)


وقول رؤبة، [العجاج] : (1)
* وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ * (2)
يعني المحرّمَ، ومنه قول الآخر: (3)
فَبِتُّ مُرْتَفِقًا، والعَيْنُ سَاهِرَةٌ ... كَأَنَّ نَوْمِي عَلَيَّ اللَّيْلَ مَحْجُورُ (4)
أي حرام. يقال:"حِجْر" و"حُجْر"، بكسر الحاء وضمها.
* * *
وبضمها كان يقرأ، فيما ذُكر، الحسنُ وقتادة. (5)
13915- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي [قال، حدثني عمي] قال، حدثني أبي، عن الحسين، عن قتادة أنه: كان يقرؤها:"وَحَرْثٌ حُجْرٌ"، يقول: حرام، مضمومة الحاء. (6)
* * *
__________
(1) هكذا نسبة هنا إلى ((رؤبة)) والصواب أنه ((العجاج)) أبوه، بلا شك في ذلك، ولذلك وضعته بين الأقواس، وكأنه سهو من الناسخ، أو من أبي جعفر.
(2) ديوان العجاج: 68، واللسان (حجر) من رجز له طويل مشهور، ذكر فيه نفسه بالعفاف والصيانة فقال: إِنّي امْرُؤٌ عَنْ جَارَتِي كَفِىُّ ... عَنِ الأذَى، إنَّ الأذَى مَقْلِيُّ
وَعَنْ تَبغِّي سِرِّهَا غَنِيُّ
ثم قال بعد أبيات: وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ ... ومَحْرُمَاتٌ هَتْكُهَا بُجْرِيُّ
وفسره صاحب اللسان فقال: ((لها خاصة)) .
(3) ينسب إلى أعشى باهلة نسبه ابن بري في اللسان (رفق) ، ولم أجده في مكان آخر.
(4) اللسان (رفق) . ((مرتفقًا)) ، أي: متكئًا على مرفق يده.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: ((الحسين)) ، وهو خطأ، صوابه ((الحسن)) ، وهو البصري.
(6) الأثر: 13915 - هذا إسناد فيه إشكال.
((عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث سعيد بن ذكوان التميمي العنبري)) ، مضى مرارًا، وهو يروي عن أبيه: ((عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان)) وأبوه: ((عبد الصمد ابن عبد الوارث)) ، يروي عن أبيه: ((عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان)) ، و ((عبد الوارث بن سعيد ابن ذكوان)) ، يروي عن ((حسين المعلم)) ، وهو ((حسين بن ذكوان العوذي)) ، و ((حسين المعلم)) ، يروي عن ((قتادة)) ، فالأرجح إذن أن يكون الإسناد هكذا:
((حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال حدثني أبي، قال حدثني أبي، عن الحسين، عن قتادة)) بإسقاط ((قال حدثني عمي)) ، التي وضعتها بين قوسين، وبذلك يكون الإسناد مستقيمًا، فإني لم أجد ((عبد الصمد بن عبد الوارث)) يروي عن ((عمه)) ، ولم أجد له عما يروى عنه. وأيضًا فإن قوله: ((حدثني عمي)) يقتضي أن يكون ((سعيد بن ذكوان)) جدهم، هو الراوي عن ((حسين المعلم)) ، ولم تذكر قط رواية عن ((سعيد بن ذكوان)) ، ولا له ذكر في كتب الرجال. فصح بذلك أن الصواب إسقاط ما وضعته بين القوسين، هذا وأذكر أن هذا الإسناد قد مر قبل كما أثبته، ولكني لم أستطع أن أعثر عليه بعد. والزيادة إن شاء الله خطأ من الناسخ، واختلط عليه إسناد ((محمد بن سعد عن أبه، عن عمه ... )) رقم: 305. فعجل وزاد: ((قال حدثني عمي)) .

(12/141)


وأما القرأة من الحجاز والعراق والشام، فعلى كسرها. وهي القراءة التي لا أستجيز خلافها، لإجماع الحجة من القرأة عليها، وأنها اللغة الجُودَى من لغات العرب. (1)
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وَحَرْثٌ حِرْجٌ"، بالراء قبل الجيم.
13916- حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها كذلك.
* * *
وهي لغة ثالثة، معناها ومعنى"الحجر" واحد. وهذا كما قالوا:"جذب" و"جبذ"، و"ناء" و"نأى".
ففي"الحجر"، إذًا، لغات ثلاث:"حجر" بكسر الحاء، والجيم قبل الراء="وحُجر" بضم الحاء، والجيم قبل الراء= و"حِرْج"، بكسر الحاء، والراء قبل الجيم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل الحجر قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ((الجودي)) ، تأنيث ((الأجود)) ، وهي قليلة الاستعمال فيما بعد طبعة أبي جعفر، كما أسلفت في التعليق على أول استعمال لها فيما مضى 6: 437، تعليق: 1، وهذه هي المرة الثانية التي استعملها فيها أبو جعفر.

(12/142)


13917- حدثني عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد وأبي عمرو: (وحرث حجر) ، يقول: حرام.
13918- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وحرث حجر) ، فالحجر. ما حرّموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا.
13919- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وحرث حجر) ، قال: حرام.
13920- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) الآية، تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد. وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله.
13921- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) ، فيقولون: حرام، أن نطعم إلا من شئنا.
13922- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) ، نحتجرها على مَنْ نريد وعمن نريد، لا يطعمها إلا مَنْ نشاء، بزعمهم. قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم، وقالوا: لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) ، قالوا: نحتجرها عن النساء، ونجعلها للرجال.
13923- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أنعام وحرث حجر) ، أما"حجر"، يقول: محرَّم. وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها، كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها، ويعزلون من حرثهم شيئًا معلومًا لآلهتهم، ويقولون: لا يحل لنا ما سمّينا لآلهتنا.
13924- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(12/143)


ابن جريج، عن مجاهد: (أنعام وحرث حجر) ، ما جعلوه لله ولشركائهم.
13925- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين ظهورَ بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برِسْلِها ونِتَاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب. (1) وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر، فلا يحجُّون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحالٍ، ولا إن حلبوها، ولا إن حمَلوا عليها.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13926- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما"أنعام لا يذكرون اسم الله عليها"؟ قال: قلت: لا! قال: أنعام لا يحجون عليها.
13927- حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، حدثنا شاذان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما قوله: (حرمت
__________
(1) ((الرسل)) (بكسر فسكون) : اللبن. و ((النتاج)) (بكسر النون) : ما تضع من أولادها.

(12/144)


ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ؟ قال: قلت: لا! قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها. (1)
13928- حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا محمد بن سعيد الشهيد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، قال: لا يحجون عليها. (2)
13929- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي أما: (أنعام حرمت ظهورها) ، فهي البحيرة والسائبة والحام= وأما"الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها"، قال: إذا أولدوها، (3) ولا إن نحروها.
13930- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، قال: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها، ولا إن حلبوا، ولا إن حملوا، ولا إن منحوا، ولا إن عملوا شيئًا.
13931- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأنعام حرمت ظهورها) ، قال: لا يركبها أحد= (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) .
* * *
__________
(1) الأثر: 13927 - ((محمد بن عباد بن موسى الختلي)) ، مضى برقم: 11318، ونقلت هناك عن ابن أبي حاتم 4 / 1 / 15، أنه روى عن هشام بن محمد الكلبي، والوليد بن صالح، وروى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. ثم توقفت في هذه الترجمة المختصرة التي ذكرها ابن أبي حاتم، وشككت في صحة ما فيها، فإن أبا بكر بن أبي الدنيا، إنما يروي عن أبيه ((عباد بن موسى الختلي)) . ولا أدري أروى عن ولده ((محمد بن عباد)) أم لم يرو عنه، فإنهم لم يذكروا ذلك في ترجمة أبي بكر ابن أبي الدنيا.
و ((شاذان)) هو: ((الأسود بن عامر)) ، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 13928 - ((أحمد بن عمرو البصري)) ، مضى ما قلت فيه برقم: 9875. و ((محمد بن سعيد الشهيد)) ، لم أعرف من هو، ولم أجد له ذكرًا.
(3) لعل الصواب: ((لا إن أولدوها)) .

(12/145)


وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

وأما قوله: (افتراء على الله) ، فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبًا على الله، وتخرّصًا الباطلَ عليه; لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أنّ الله هو الذي حرّمه، فنفى الله ذلك عن نفسه، وأكذبهم، وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدّعون. (1)
* * *
ثم قال عز ذكره: (سيجزيهم) ، يقول: سيثيبهم ربُّهم بما كانوا يفترونَ على الله الكذبَ ثوابَهم، ويجزيهم بذلك جزاءهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: (ما في بطون هذ الأنعام) .
فقال بعضهم: عنى بذلك اللَّبن.
* ذكر من قال ذلك:
13932- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن ابن عباس: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا) ، قال: اللبن. (3)
__________
(1) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: ص: 136، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((الجزاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
(3) الأثر: 13932 - ((عبد الله بن أبي الهذيل العنزي)) ، ((أبو المغيرة)) ، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 196، وفيه ((العنبري)) ، ولا أدري ما الصواب منهما.

(12/146)


13933- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي الهذيل، عن ابن عباس، مثله.
13934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) ، ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم.
13935- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) ، قال: ما في بطون البحائر، يعني ألبانها، كانوا يجعلونه للرجال، دون النساء.
13936- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن زكريا، عن عامر قال:"البحيرة" لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء.
13937- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا) الآية، فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركب لم تذبح. وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء. فنهى الله عن ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة.
* ذكر من قال ذلك:
13938- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل

(12/147)


قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، فهذه الأنعام، ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء. وأما ما ولد من ميت، فيأكله الرجال والنساء.
13939- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا) ، السائبة والبحيرة.
13940- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها:"ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا"، واللبن ما في بطونها، وكذلك أجنتها. ولم يخصُص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا: بعضُ ذلك حرام عليهن دون بعض.
وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يقال إنهم قالوا: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم = خالصة دون إناثهم، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتًا، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء.
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت"الخالصة".
فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين: أنثت لتحقيق"الخلوص"، كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة، فجرى مجرى"راوية" و"نسابة".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: أنثت لتأنيث"الأنعام"، لأن"ما في بطونها"، مثلها، فأنثت لتأنيثها. ومن ذكّره فلتذكير"ما". قال: وهي في قراءة عبد الله:

(12/148)


"خَالِصٌ". قال: وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرًا، كما تقول:"العافية" و"العاقبة"، وهو مثل قوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) [سورة ص: 46] . (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 358، 359.

(12/149)


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرَّموا ما في بطونها على أزواجهم، لذكورهم دون إناثهم، (1) كما فعل ذلك"بالراوية" و"النسابة" و"العلامة"، إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته، كما يقال:"فلان خالصة فلان، وخُلصانه". (2)
* * *
وأما قوله: (ومحرم على أزواجنا) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بـ"الأزواج".
فقال بعضهم: عنى بها النساء.
* ذكر من قال ذلك:
13941- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومحرم على أزواجنا) ، قال: النساء.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بالأزواج البنات.
* ذكر من قال ذلك:
13942- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ومحرم على أزواجنا) ، قال:"الأزواج"، البنات. وقالوا: ليس للبنات منه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام= يعني أنعامهم=:"هذا محرم على أزواجنا"، و"الأزواج"، إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. (3)
وفي قول الله عز وجل: (ومحرم على أزواجنا) ، الدليلُ الواضح على أن تأنيث" الخالصة"، كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: و"محرمة على أزواجنا"، ولكن لما كان التأنيث في"الخالصة" لما ذكرت، ثم لم يقصد في"المحرم" ما قصد في"الخالصة" من المبالغة، رجع فيها إلى تذكير"ما"، واستعمال ما هو أولى به من صفته.
* * *
وأما قوله: (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه يزيد بن القعقاع، وطلحة بن مصرِّف، في آخرين:"وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ" بالتاء في"تكن"، ورفع"ميتة"، غير أن يزيد كان يشدّد الياء من"مَيِّتَةٌ" ويخففها طلحة.
13943- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى، عن طلحة بن مصرف.
13944- وحدثنا أحمد بن يوسف، عن القاسم، وإسماعيل بن جعفر، عن يزيد.
* * *
وقرأ ذلك بعض قَرَأة المدينة والكوفة والبصرة: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) ، بالياء،
__________
(1) السياق: ((في خلوص ما في بطون الأنعام ... لذكورهم دون إناثهم)) .
(2) انظر تفسير ((الخالصة)) فيما سلف 2: 365، 366. انظر تمام حجة أبي جعفر في ذلك فيما سيلي بعد أسطر قليلة.
(3) انظر تفسير ((الزوج)) فيما سلف 1: 514 /2: 446.

(12/150)


و"ميتة"، بالنصب، وتخفيف الياء.
* * *
وكأنّ من قرأ: (وإن يكن) ، بالياء (ميتة) بالنصب، أراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام= فذكر"يكن" لتذكير"ما" ونصب"الميتة"، لأنه خبر"يكن".
وأما من قرأه:"وإن تكن ميتة"، فإنه إن شاء الله أراد: وإن تكن ما في بطونها ميتة، فأنث"تكن" لتأنيث"ميتة".
* * *
وقوله: (فهم فيه شركاء) ، فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله، لا يحرمونه على أحد منهم، كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-
13945- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، قال: تأكل النساء مع الرجال، إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة، فهم فيه شركاء، وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبًا، وإن شئنا لم نجعل.
* * *
قال أبو جعفر: وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوَّله ابن زيد، لأن ظاهرها يدل على أنهم قالوا: "إن يكن ما في بطونها ميتة، فنحن فيه شركاء"= بغير شرط مشيئة. وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم.
* * *

(12/151)


القول في تأويل قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"سيجزي"، أي: سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله، وتحليلهم ما لم يحلله الله، وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله (1) = وقوله: (وصفهم) ، يعني بـ"وصفهم"، الكذبَ على الله، وذلك كما قال جلَّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ، [سورة النحل: 62] . (2)
* * *
و"الوصف" و"الصفة" في كلام العرب واحد، وهما مصدران مثل"الوزن" و"الزنة".
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"الوصف" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13946- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (سيجزيهم وصفهم) ، قال: قولهم الكذب في ذلك.
13947- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13948- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (سيجزيهم وصفهم) قال: كذبهم.
13949- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (سيجزيهم وصفهم) ، أي كذبهم.
__________
(1) انظر تفسير "الجزاء" فيما سلف ص 146، تعليق 2، والمراجع هناك
(2) انظر تفسير ((الوصف)) فيما سلف صلى الله عليه وسلم: 10، 11.

(12/152)


قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

وأما قوله: (إنه حكيم عليم) ، فإنه يقول جل ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه="حكيم"، في سائر تدبيره في خلقه="عليم"، بما يصلحهم، وبغير ذلك من أمورهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذبَ، (2) العادلون به الأوثانَ والأصنام، الذين زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم، وتحريم [ما أنعمت به] عليهم من أموالهم، (3) فقتلوا طاعة لها أولادهم، وحرّموا ما أحل الله لهم وجعله لهم رزقًا من أنعامهم ="سفها"، منهم. يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلكَ جهالة منهم بما لهم وعليهم، ونقصَ عقول، وضعفَ أحلام منهم، وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم (4) = (افتراء على الله) ، يقول: تكذّبًا على الله وتخرصًا عليه الباطل (5) = (قد ضلوا) ، يقول: قد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك، وزالوا عن سواء السبيل (6) = (وما كانوا مهتدين) ،
__________
(1) انظر تفسير ((حكيم)) و ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) و (علم) .
(2) انظر تفسير ((الخسار)) فيما سلف 11: 324، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: ((وتحريم ما حرمت عليهم من أموالهم)) ، وهو لا يطابق تفسير الآية بل يناقضه، ورجحت الصواب ما أثبت بين القوسين.
(4) انظر تفسير ((السفه)) فيما سلف 1: 293 - 295 / 3: 90، 129 / 6: 57
(5) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: ص: 146، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: ((تكذيبًا)) ، والصواب ما في المخطوطة.
(6) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة ((ضلل))

(12/153)


يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدًى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك، ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له. (1)
* * *
ونزلت هذه الآية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الآيات من قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) الذين كانوا يبحرون البحائر، ويسيِّبون السوائب، ويئدون البنات، كما:-
13950- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة، قوله: (الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) ، قال: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومُضَر، كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، (2) وقال لها:"أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها"، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا، (3) وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها، (4) حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها، ثم سوّت عليها التراب.
13951- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله) .
13952- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) ، فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية.
__________
(1) انظر تفسير ((الاهتداء)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدي) .
(2) في المطبوعة: ((فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل ... )) ، وفي المخطوطة: ((فإذا كانت الجارية التي تئيد عبد الرجل أو راح من عند امرأته)) ، والصواب ما أثبت. معنى ذلك: أنه إذا ولدت المرأة الجارية التي شرط عليها أن تئدها غدا أو راح وقال ...
(3) ((خد في الأرض خدا)) : شق في الأرض شقًا.
(4) هكذا في المطبوعة: ((ثم يتداولنها)) ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة، وممكن أن تقرأ كما هي في المطبوعة.

(12/154)


وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السِّباء والفاقة، ويغذو كلبه = وقوله: (وحرموا ما رزقهم الله) ، الآية، وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرةً وسائبة ووصيلةً وحاميًا، تحكمًا من الشياطين في أموالهم.
13953- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا يغير علم) ، الآية.
* * *
وكان أبو رزين يتأوّل قوله: (قد ضلوا) ، أنه معنيٌّ به: قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال = من قتل الأولاد، وتحريم الرزق الذي رزقهم الله = بأمور غير ذلك.
13954- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبى رزين في قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) ، إلى قوله: (قد ضلوا) ، قال: قد ضلوا قبل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}
قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله، وتنبيهٌ منه لهم على موضع إحسانه، وتعريفٌ منه لهم ما أحلَّ وحرَّم وقسم في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقًّا.
يقول تعالى ذكره: وربكم، أيها الناس = (أنشأ) ، أي أحدث وابتدع خلقًا، لا

(12/155)


الآلهة والأصنام (1) = (جنات) ، يعني: بساتين (2) = (معروشات) ، وهي ما عَرَش الناس من الكروم= (وغير معروشات) ، غير مرفوعات مبنيَّات، لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينمِّيه، (3) كما:-
13955- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (معروشات) ، يقول: مسموكات.
13956- وبه عن ابن عباس: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) ، فـ"المعروشات"، ما عرش الناس="وغير معروشات"، ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
13957- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"جنات"، فالبساتين= وأما" المعروشات"، فما عرش كهيئة الكَرْم.
13958- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) ، قال: ما يُعرَش من الكروم = (وغير معروشات) ، قال: ما لا يعرش من الكرم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((أنشأ)) فيما سلف ص: 128، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((الجنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) .
(3) انظر تفسير ((عرش)) فيما سلف 5: 445.

(12/156)


القول في تأويل قوله: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله= يعني بـ"الأكل"، (1) الثمر. يقول: وخلق النخل والزرع مختلفًا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب ="والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه"، في الطعم، (2) منه الحلو، والحامض، والمزّ، (3) كما:-
13959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (متشابهًا وغير متشابه) ، قال:"متشابهًا"، في المنظر="وغير متشابه"، في الطعم.
* * *
وأما قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبًا ثمره، كما:-
13960- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، قال: من رطبه وعنبه.
13961- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، قال: من رطبه وعنبه. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((الأكل)) فيما سلف 5: 538.
(2) انظر تفسير ((متشابه)) فيما سلف 1: 389 - 394 / 2: 210، 211 / 6: 173 / 11: 578.
(3) ((المز)) (بضم الميم) : ما كان طعمه بين الحلو والحامض، يقال: ((شراب مز)) .
(4) الأثران: 13960، 13961 - ((أبو همام الأهوازي)) في الأثر الأول، هو ((محمد بن الزبرقان)) ، في الأثر الثاني. ثقة. مضت ترجمته برقم: 877.

(12/157)


القول في تأويل قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبِّ.
* ذكر من قال ذلك:
13962- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة.
13963- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا يزيد بن درهم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة المفروضة.
13964- حدثنا عمرو قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر.
13965- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن محمد بن عبيد الله، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر. (1)
13966- حدثنا عمرو بن علي وابن وكيع وابن بشار قالوا، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إبراهيم بن نافع المكي، عن ابن عباس، عن أبيه، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. (2)
__________
(1) الأثر: 13965 - ((هانئ بن سعيد النخعي)) ، مضى برقم: 13159. ((حجاج)) هو ((حجاج بن أرطأة)) ، مضى مرارًا. ((محمد بن عبيد الله بن سعيد)) هو ((أبو عون الثقفي)) ، مضى برقم: 7595.
(2) الأثر: 13966 - ((إبراهيم بن نافع المكي المخزومي)) ، مضى برقم: 4305. وأما ((ابن عباس، عن أبيه)) ، فلا أدري ما هو، وهو بلا شك ليس ((عبد الله بن عباس)) حبر الأمة.
وأخشى أن يكون الصواب: ((عن ابن طاوس، عن أبيه)) .

(12/158)


13967- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو هلال، عن حيان الأعرج، عن جابر بن زيد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. (1)
13968- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي الصدقة = قال: ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: هي الصدقة من الحبّ والثمار.
13969- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، عن عمرو بن سليمان وغيره، عن سعيد بن المسيب أنه قال: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الصدقة المفروضة.
13970- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي الصدقة من الحب والثمار.
13971- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يعني بحقه، زكاته المفروضة، يوم يُكال أو يُعلم كيله.
13972- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ،
__________
(1) الأثر: 13967 - ((عبد الرحمن)) ، هو ((عبد الرحمن بن مهدي)) ، مضى مرارًا و ((أبو هلال)) هو: ((محمد بن سليم الراسبي البصري)) ، ثقة، مضى برقم: 2996، 4681. و ((حيان الأعرج)) الجوفي، البصري. ثقة من أتباع التابعين. روى عن جابر بن زيد. روى عنه قتادة، وابن جرجيج، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 246.

(12/159)


وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده، وهو أن يعلم ما كيله وحقّه، فيخرج من كل عشرة واحدًا، وما يَلْقُط الناس من سنبله. (1)
13973- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، و"حقه يوم حصاده"، الصدقة المفروضة= ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ فيما سقت السماء أو العين السائحة، أو سقاه الطل = و"الطل"، الندى = أو كان بَعْلا العشرَ كاملا. (2) وإن سقي برشاء: نصفَ العشر = قال قتادة: وهذا فيما يكال من الثمرة. وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسةُ أوسقٍ، (3) وذلك ثلثمئة صاع، فقد حق فيها الزكاة. وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك.
13974- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وطاوس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا هو الزكاة.
13975- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن محمد بن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر أو نصف العشر. (4)
13976- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم المكي، عن محمد ابن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر، ونصف العشر.
13977- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
__________
(1) في المطبوعة: ((وما يلتقط)) ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) ((البعل)) ، من النبات، ما شرب بعروقه من الأرض، بغير سقي من سماء ولا غيرها.
(3) ((الأوسق)) جمع ((وسق)) ، وهو ستون صاعًا، كما فسره بعد، على اختلافهم في مقدار الصاع.
(4) الأثر: 13975 - ((سالم المكي)) ، هو ((سالم بن عبد الله الخياط)) ، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 116، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 184.

(12/160)


عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، وعن قتادة: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا الزكاة.
13978- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر.
13979- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن عباس، مثله.
13980- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يعني: يوم كيله، ما كان من برّ أو تمر أو زبيب. و"حقه"، زكاته.
13981- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كلوا من ثمرة إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كُلْ منه، وإذا حصدته فآت حقه، و"حقه"، عشوره.
13982- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن أنه قال في هذه الآية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة إذا كِلْتَه.
13983- حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة.
13984- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، فقلت له: هو العشور؟ قال: نعم! فقلت له: عن أبيك؟ قال: عن أبي وغيره.
* * *

(12/161)


وقال آخرون: بل ذلك حقٌّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال، غيرُ الصدقة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
13985- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن أبيه: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب = قال: وكان في كتابه:"عن علي بن الحسين".
13986- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: القبضة من الطعام.
13987- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: من النخل والعنب والحب كله.
13988- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت ما حصدتُ من الفواكه؟ قال: ومنها أيضًا تؤتي. وقال: من كل شيء حصدتَ تؤتي منه حقه يوم حصاده، من نخل أو عنب أو حب أو فواكه أو خضر أو قصب، من كل شيء من ذلك. قلت لعطاء: أواجب على الناس ذلك كله؟ قال: نعم! ثم تلا (وآتوا حقه يوم حصاده) . قال: قلت لعطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ،هل في ذلك شيء مُؤَقّت معلوم؟ قال: لا.
13989- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يعطي من حُضورِ يومئذ ما تيسر، (1) وليس بالزكاة.
__________
(1) في المطبوعة: ((يعطي من حصاده يومئذ)) ، وليس صوابًا، وفي المخطوطة: ((يعطي من حصول يومئذ)) ، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر الأثر التالي. ويعني: مَنْ حضره من الناس والمساكين.

(12/162)


13990- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الملك، عن عطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: ليس بالزكاة، ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصِيده. (1)
13991- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن حماد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون رُطبًا.
13992- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وإذا أنقيته وأخذت في كيله حَثَوْت لهم منه. (2) وإذا علمتَ كيله عزلتَ زكاته. وإذا أخذت في جَدَاد النخل طَرَحت لهم من الثفاريق. (3) وإذا أخذت في كيله حثَوْت لهم منه. وإذا علمت كيله عزلت زكاته.
13993- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: سوى الفريضة.
13994- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يلقي إلى السؤَّال عند الحصاد من السنبل، (4) فإذا طِينَ = أو طُيِّن، الشك من أبي جعفر (5) = ألقى إليهم. فإذا
__________
(1) في المطبوعة: ((حصده)) ، وأثبت ما في المخطوطة. ((الحصاد)) و ((الحصيد)) ، ((الحصد)) (بفتح الحاء والصاد) ، هو من الزرع، المحصود بعد ما يحصد.
(2) ((حثا له يحثو حثوا)) أعطاه شيئًا منه ملء الكف.
(3) في المطبوعة: ((جذاذ الأرض)) (بالذال) ، وهو خطأ محض. ((جداد النخل)) (بفتح الجيم، وبكسرها) : أوان صرامه، وهو قطع ثمره.
و ((الثفاريق)) جمع ((ثفروق)) ، وهو قمع البسرة والتمرة التي تلزق بها. ولم يرد هذا مجاهد، بل أراد: العناقيد، يخرط ما عليها، فتبقى عليها الثمرة والثمرتان والثلاث، يخطئها المخلب الذي تخرط به، فتلقى للمساكين. فكني بالثفاريق عن القليل الباقي في عنقوده وشمراخه.
(4) ((السؤال)) جمع ((سائل)) مثل ((جاهل)) و ((جهال)) .
(5) في المخطوطة: ((فإذا طبن أو طبن)) ، غير منقوطة، وفي المطبوعة: ((فإذا طبن، أو طين)) الأولى لاباء، والثانية بالياء، ولا معنى لهما. وأخشى أن يكون الصواب ما أثبت، يعني به ما يكون مع البر والقمح من الطين. ولا أدري ذلك. وفوق كل ذي علم عليم. ولم أجد الخبر في مكان آخر. وانظر رقم: 14000، وقوله: ((وإذا أدخله البيدر)) ، فكأنه يعني هذا.

(12/163)


حمله فأراد أن يجعله كُدْسًا ألقى إليهم. (1) وإذا داس أطعمَ منه، وإذا فرغ وعلم كم كيله، عزل زكاته. وقال: في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ. (2) فإذا كان عند كيله أطعم من التمر. فإذا فرغ عزل زكاته.
13995- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حصد الزرع ألقى من السنبل، وإذا جَدَّ النخل ألقى من الشماريخ. (3) فإذا كاله زكّاه.
13996- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: عند الحصاد، وعند الدِّياس، وعند الصِّرام، يقبض لهم منه، فإذا كاله عزل زكاته.
13997- وبه، عن سفيان، عن مجاهد مثله= إلا أنه قال: سوى الزكاة.
13998- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: شيء سوى الزكاة، في الحصاد والجَدَاد، إذا حَصَدوا وإذاحَزَرُوا. (4)
13999- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، في قول الله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: واجب، حين يصرم.
__________
(1) ((الكدس)) (بضم فسكون) ، هو كومة البر إذا جمع.
(2) في المطبوعة: ((الجذاذ)) بالذال، وانظر التعليق السالف ص: 163، تعليق: 3.
(3) ((جد النخل يجده جدادًا)) ، صرمه وقطعه. وهي في المطبوعة بالذال، كما سلف في التعليق السالف. وسأصححه بعد بغير إشارة إلى الخطأ.
(4) في المطبوعة: ((وإذا جذوا)) ويعني ((وإذا جدوا)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صحيح المهنى. ((حزر الطعام والنخل وغيره)) : إذا قدره بالحدس، والحازر، هو الخارص أيضًا، ((خرصه)) : قدره بالحدس.

(12/164)


14000- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حصد أطعم، وإذا أدخله البَيْدَر، (1) وإذا داسه أطعم منه.
14001- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أشعث، عن ابن عمر، قال: يطعم المعترَّ، (2) سوى ما يعطي من العشرو نصف العشر.
14002- وبه، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: قبضة عند الحصاد، وقبضة عند الجَدَاد.
14003- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: كانوا يعطون مَنْ اعترَّ بهم الشيءَ.
14004- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: الضِّغث. (3)
14005- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: يعطي مثل الضِّغث.
14006- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: مثل هذا من الضغث = ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السَّبّابة.
14007- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: نحو الضِّغث.
__________
(1) ((البيدر)) : الموضع الذي يداس فيه الطعام.
(2) ((المعتر)) : الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سألك أو سكت عن السؤال. ((عره يعره)) و ((اعتره)) و ((اعتر به)) ، أتاه يطلب معروفه.
(3) ((الضغث)) (بكسر فسكون) : ملء اليد من الحشيش المختلط، وما أشبهه من البقول.

(12/165)


14008- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر= وعن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قالا يعطي ضغثًا. (1)
14009- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم قال، كان النخل إذا صُرِم يجيء الرجل بالعِذْق من نخله، فيعلِّقه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربُه بعصاه، فإذا تناثر أكلَ منه. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حَسن أو حسين، فتناول تمرةً، فانتزعها من فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصَّدقة، ولا أهلُ بيته. فذلك قوله: (وآتوا حقَّه يوم حصاده) .
14010- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصم قالا كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعِذْق فيضعونه في المسجد، ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه، فيسقط منه، وهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) .
14011- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر،
__________
(1) كان هذا الإسناد في المطبوعة كما هو هنا إلا أنه كتب ... ((عن أبي جعفر، عن سفيان)) بغير ((واو العطف)) . وكان فيها أيضًا ((قال)) بالإفراد وهو تغيير لما في المخطوطة. أما في المخطوطة، فكان بعد قوله فيها الإسناد السالف ((الضعث)) ، بياض أمامه حرف (ط) دلالة على أن الخطأ، ثم بعد البياض: ((قال حدثنا أبي، عن إسرائيل)) وسائر الإسناد كما كان في المطبوعة، بغير واو عطف قبل ((عن سفيان)) ، ولكن كان فيها ((قالا)) بالتثنية. وهذا إسناد مضطرب.
وزيادة ((حدثنا ابن وكيع)) مكان البياض، صواب لا شك فيه، كما كان في المطبوعة، ولكن الخطأ في إسقاط الواو قبل ((عن سفيان)) . فهما إسنادان كما بينتهما.
و ((إسرائيل)) هو ((إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق)) ، يروي، عن ((جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي)) ، و ((أبو جعفر)) هو ((أبو جعفر الباقر)) فيما أرجح.
أما الإسناد الثاني، فهو من حديث ابن وكيع، عن أبيه، عن سفيان ...
وكأن هذا هو الصواب إن شاء الله.

(12/166)


عن يزيد وميمون، (1) في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا كان الرجل إذا جدَّ النخلَ يجيء بالعِذْق فيعلقه في جانب المسجد، فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه، فيأكل ما يتناثر منه.
14012- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: لَقَطُ السُّنبل. (2)
14013- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد قال: كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصِّرام، فيأكل منه الضعيف.
14014- وبه، عن معمر قال، قال مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يطعم الشيءَ عند صِرَامه.
14015- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الضغث، وما يقع من السنبل.
14016- وبه، عن سالم، عن سعيد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العلَف.
14017- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين، القبضةُ والضِّغث لعلف دابته.
14018- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا محمد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: ((عن زيد)) ، والصواب أنه ((يزيد بن الأصم)) المذكور في الإسنادين السالفين.
(2) ((اللقط)) (بفتح اللام والقاف) ، و ((لقاط السنبل)) (بضم اللام، وبفتحها) : هو الذي تخطئه المناجل فيلتقطه الناس، أهو نثارة السنبل.

(12/167)


بن رفاعة، عن محمد بن كعب في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: ما قلّ منه أو كثر. (1)
14019- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: عند الزرع يعطي القبضَ، وعند الصِّرام يعطي القبض، (2) ويتركهم فيتتبعون آثار الصِّرام.
* * *
وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة. ثم نسخته الصدقة المعلومة، فلا فرض في مال كائنًا ما كان زرعًا كان أو غرسًا، إلا الصدقة التي فرضها الله فيه.
* ذكر من قال ذلك:
14020- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر.
14021- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر.
14022- وبه، عن حجاج، عن سالم، عن ابن الحنفية قال: نسخها العُشْر، ونصف العشر.
14023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هذا قبل الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسختها، فكانوا يعطون الضِّغْث.
14024- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة،
__________
(1) الأثر: 14018 - ((محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي)) ، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 82، وابن أبي حاتم 3 /2 / 254.
(2) لعله ((يعطي القبضة)) ، فإنه هو الذي تدل عليه اللغة، ولكن هكذا جاء في الموضعين، وهو جائز على ضعف.

(12/168)


عن شباك، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يفعلون ذلك، حتى سُنَّ العُشر ونصف العشر. فلما سُنّ العشر ونصف العشر، تُرك. (1)
14025- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي منسوخة، نسختها العُشر ونصف العشر. (2)
14026- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: نسختها العشر ونصف العشر.
14027- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر.
14028- وبه، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: نسختها الزكاة.
14029- وبه، عن سفيان، عن السدى قال: نسختها الزكاة: (وآتوا حقه يوم حصاده) .
14030- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هذه السورة مكية، نسختها العشر ونصف العشر. قلت: عمّن؟ قال: عن العلماء.
14031- وبه، عن سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر.
14032- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) الأثر: 14024 - 14025 - ((شباك الضبي)) الكوفي الأعمى. روى عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وأبي الضحى. روى عنه مغيرة بن مقسم، وفضيل بن غزوان، ونهشل بن مجمع. قال أحمد: ((شيخ ثقة)) . مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 270، وانظر أيضًا رقم: 14027، 14030، 14031.
(2) الأثر: 14024 - 14025 - ((شباك الضبي)) الكوفي الأعمى. روى عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وأبي الضحى. روى عنه مغيرة بن مقسم، وفضيل بن غزوان، ونهشل بن مجمع. قال أحمد: ((شيخ ثقة)) . مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 270، وانظر أيضًا رقم: 14027، 14030، 14031.

(12/169)


حدثنا أسباط، عن السدي: أما (وآتوا حقه يوم حصاده) ، فكانوا إذا مرّ بهم أحدٌ يوم الحصاد أو الجدَادِ، أطعموه منه، فنسخها الله عنهم بالزكاة، وكان فيما أنبتتِ الأرضُ، العشرُ ونصف العشر.
14033- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: كانوا يَرْضَخون لقرَابتهم من المشركين. (1)
14034- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: نسخه العشر ونصف العشر. كانوا يعطون إذا حصَدوا وإذا ذَرَّوا، فنسختها العشر ونصف العشر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة، والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الإجزاز. (2)
فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله جل ثناؤه: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، ينبئ عن أنه أمرٌ من الله جل ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده، وكان يوم حصاده هو يوم جَدِّه وقطعه، والحبُّ لا شك أنه في ذلك اليوم في سنبله، والتَّمر وإن كان ثمر نخل أو كَرْم غيرُ مستحكم جُفوفه ويبسه، وكانت الصدقة من الحبِّ إنما تؤخذ بعد دِياسه وتذريته وتنقيته كيلا والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام
__________
(1) ((رضخ له من ماله رضيخة)) ، إذا أعطاه منه العطية المقاربة، القليلة.
(2) في المطبوعة: ((إلا بعد الجفاف)) غير ما في المخطوطة كل التغيير، وكان فيها: ((إلا بعد الأحرار)) غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال ((جز النخل والتمر)) و ((أجز النخل والتمر)) ، يبس تمره، وحان أن يجز، أي: أن يقطع ثمره ويصرم.

(12/170)


يبسه وجفوفه كَيْلا= علم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حَصْده، غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حَصاده.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابًا من الله في المال حقًّا سوى الصدقة المفروضة؟
قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلا.
فإن يكن فرضًا واجبًا، فقد وجب أن يكون سبيلُه سبيلَ الصدقات المفروضات التي من فرَّط في أدائها إلى أهلها كان بربِّه آثمًا، ولأمره مخالفًا. (1) وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجبُ وجوبَ الزكاة سوى ما يجبُ من النفقة لمن يلزم المرءَ نفقته، ما ينبئ عن أنّ ذلك ليس كذلك.
=أو يكون ذلك نَفْلا. فإن يكن ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر. وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك، ما ينبئ عن أن ذلك ليسَ كذلك.
وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب، وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت، علم أنها منسوخة.
ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلا على صحته، أنه جل ثناؤه أتبع قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، ومعلوم أنّ من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدرِ، أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك، والآخذ مُجْبِرٌ، وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير قوله: ((بربه آثمًا)) فيما سلف 4: 530، تعليق: 3 / 6: 92، تعليق: 2 / 11: 180، تعليق 3 / 11: 328، تعليق: 2.

(12/171)


فإن ظن ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوز إلى أخذ ما لم يُبَحْ له أخذه، فإن آخر الآية وهو قوله: (ولا تسرفوا) ، معطوف على أوله، وهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) . فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك، فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه، (1) المنهيَّ عن الإسراف فيه، وهو السلطان.
وذلك قول إن قاله قائل، كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، وآتوا حقه يوم كيله، لا يوم قصله وقطعه، (2) ولا يوم جداده وقطافه؟ فقد علمتَ مَنْ قال ذلك من أهل التأويل؟ وذلك ما:-
14035- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله.
14036- وحدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن محمد بن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر ونصف العشر. (3)
* * *
= مع آخرين قد ذكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك؟ (4)
__________
(1) في المطبوعة: ((بإتيانه)) ، وهو خطأ محض، وهو في المخطوطة غير منقوط، وذلك بيان لقوله: ((وآتوا حقه يوم حصاده)) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((يوم فصله)) بالفاء، والصواب بالقاف. ((قصل النبات يقصله قصلا، واقتصله)) ، قطعه وهو أخضر.
(3) الأثر: 14036 - انظر ما سلف رقم: 13975.
(4) انظر الآثار السالفة من أول تفسير الآية.

(12/172)


قيل: لأن يوم كيله غير يوم حصاده. ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى"الحصاد"، إلى معنى"الكيل"، فذلك ما لا يعقل في كلام العرب، لأن"الحصاد" و"الحصد" في كلامهم: الجدّ والقطع، لا الكيل = أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه، فذلك خلاف ظاهر التنزيل. وذلك أن الأمر في ظاهر التنزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده. ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، بعد يوم حصاده= وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده، لأنهما جميعًا قائلان قولا دليلُ ظاهر التنزيل بخلافه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الإسراف"، الذي نهى الله عنه بهذه الآية، ومن المنهيّ عنه.
فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر= و"السرف" الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطِيّة إلى ما يجحف برب المال. (1)
* ذكر من قال ذلك:
14037- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا عاصم، عن أبي العالية في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا) ، الآية، قال:
__________
(1) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف 7: 272، 579 /10، 579 / 10: 242.

(12/173)


كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، (1) فأنزل الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .
14038- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا سوى الزكاة، ثم تبارَوْا فيه، أسرفوا، (2) فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .
14039- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تسارفوا، فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .
14040- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحدٌ إلا أطعمته! فأطعم، حتى أمسى وليست له ثمرة، فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .
14041- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: (ولا تسرفوا) ، يقول: لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد، أم في كل شيء؟ قال: بلى! في كل شيء، ينهى عن السرف. (3) قال: ثم عاودته بعد حين، فقلت: ما قوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ؟ قال: ينهى عن السرف في كل شيء. ثم تلا (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) ، [سورة الفرقان: 67] .
14042- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا
__________
(1) ((تسارفوا)) ، أي بالغوا في الإسراف وتباروا فيه، وهذا من اشتقاق اللغة الذي لا تكاد تجده في المعاجم، فقيده في مكانه.
(2) في المطبوعة: ((وأسرفوا)) بواو العطف، وأثبت ما في المخطوطة، هو صواب جيد.
(3) ((بلى)) انظر استعمال ((بلى)) في غير حجد سبقها، فيما سلف 10: 253، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(12/174)


سفيان بن حسين، عن أبي بشر قال: أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة، فسألوه: ما السَّرَف؟ فقال: ما دون أمرِ الله فهو سَرَف. (1)
14043- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تسرفوا) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء.
* * *
وقال آخرون:"الإسراف" الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربَّ المال بإيتائه أهلَه بقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) .
* ذكر من قال ذلك:
14044- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم وغيره، عن سعيد بن المسيب في قوله: (ولا تسرفوا) ، قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. (2)
14045- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، والسرف، أن لا يعطي في حق. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: ((ما تجاوز أمر الله فهو سرف)) ، وهو مخالف لما في المخطوطة، وكان فيها: ((ما وزه أمر الله فهو سرف)) ، والهاء مشبوكة في الزاي، وفوق الكلمة حرف (ط) دلالة على الخطأ والشك. والذي روى عن إياس بن معاوية هذا اللفظ أنه قال: ((الإسراف ما قصر به عن حق الله)) (اللسان: سرف) ، فصح عندي أن ((ما وزه)) هي ((ما دون أمر الله)) ، ليطابق ما نقل عن إياس اللفظ الآخر. وإن كان أبو حيان في تفسيره 4: 238، قد كتب: ((كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف)) ، وكذلك القرطبي في تفسيره 7: 110. وروى هذا كما أثبته أو بمعناه، عن معاوية رضي الله عنه.
(2) الأثر: 14044 - ((أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري)) القاضي الفقيه، وهو متروك، قال أحمد: ((كان يضع الحديث ويكذب)) . قال له ابن جريج: ((اكتب لي أحاديث من أحاديثك)) فكتب له. قال الواقدي: ((فرأيت ابن جريج قد أدخل منها في كتبه. وكان كثير الحديث، وليس بحجة)) . مترجم في التهذيب، وميزان الاعتدال 3: 348. و ((عمرو بن سليم بن خلدة الأنصاري الزرقي)) ، تابعي ثقة، كان قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 14045 - ((موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي)) ، ضعيف لا يكتب حديثه. مضى مرارًا كثيرة آخرها: 11134. وكان في الإسناد هنا: ((محمد بن عبيدة)) ، في المخطوطة والمطبوعة، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الذي يروي عنه ((محمد بن الزبرقان)) ، ويروي هو عن ((محمد بن كعب القرظي)) ، وهو ((موسى بن عبيدة)) ، وهو الصواب المحض - وقد مر مرارًا كتابة الناسخ ((محمد)) مكان ((موسى)) في غير هذا من الأسماء.

(12/175)


وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان. نُهِى أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله.
* ذكر من قال ذلك.
14046- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: (ولا تسرفوا) ، قال: قال للسلطان:"لا تسرفوا"، لا تأخذوا بغير حق، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس= يعني قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: (ولا تسرفوا) ، عن جميع معاني"الإسراف"، ولم يخصص منها معنًى دون معنى.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان "الإسراف" في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حدّه في الزيادة، وإما بتقصير عن حدّه الواجب (1) = كان معلومًا أن المفرِّق مالَه مباراةً، والباذلَهُ للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرفٌ بتجاوزه حدَّ الله إلى ما [ليس له] . (2) وكذلك المقصِّر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهلَ سُهْمَان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها. وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون
__________
(1) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف 7: 272، 579 / 10: 242
(2) في المطبوعة: ((بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له)) ، ومثلها في المخطوطة، غير المنقوطة، ولا معنى لهما، فطرحت هذه العبارة، وكتبت ما بين القوسين ما يستقيم به الكلام بعض الاستقامة.

(12/176)


في معنى مَنْ أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: (ولا تسرفوا) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم= إذ كان ما قبله من الكلام أمرًا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإنّ الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاصّ من الأمور، والحكم بها على العامّ، بل عامّة آي القرآن كذلك. فكذلك قوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .
ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى "الإسراف" أنه على ما قلنا، قول الشاعر: (1)
أَعْطَوا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ ... مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلا سَرَفُ (2)
يعني بـ"السرف": الخطأ في العطيّة. (3)
__________
(1) هو جرير.
(2) مضى البيت الأول وتخريجه وشرحه فيما سلف 7: 579.
(3) عند هذا الموضع، انتهى الجزء التاسع من مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
((نجز الجزء التاسع بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه ومنّة. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. يتلوه في العاشر إن شاء الله: القول في تأويل قوله: " وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا " وكان الفراغ من كتابته في جمادى الأول سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسن الله تقضِّيها وخاتمتها في خير وعافية. والله المعين على تكملة جميع الكتاب إن شاء الله تعالى.
غفر الله لمؤلفه، ولصاحبه، ولكاتبه، ولمن نظر فيه ودعا لهم بالمغفرة ورضا الله والجنة، ولجميع المسلمين. الحمد لله ربِّ العالمين))
ثم يتلوه في أول الجزء العاشر:
((بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّرْ))

(12/177)


وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، مع ما أنشأ من الجنات المعروشات وغير المعروشات.
* * *
و"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل وغيرها.
و"الفرش"، صغار الإبل التي لم تدرك أن يُحْمَل عليها.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"الحمولة"، ما حمل عليه من كبار الإبل ومسانّها= و"الفرش"، صغارها التي لا يحمل عليها لصغرها.
* ذكر من قال ذلك:
14047- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، الكبار من الإبل="وفرشًا"، الصغار من الإبل.
14048-. . . . وقال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس:"الحمولة"، هي الكبار، و"الفرش"، الصغار من الإبل.
14049- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال:"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، ما لم يحمل.

(12/178)


14050- وبه عن إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد:"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، ما لم يحمل.
14051- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وفرشًا) ، قال: صغار الإبل.
14052- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، الكبار، و"الفرش"، الصغار.
14053- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود في قوله: (حمولة وفرشًا) ،"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، هنّ الصغار.
14054- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل، و"الفرش"، الصغار = قال ابن المثنى، قال محمد، قال شعبة: إنما كان حدثني سفيان، عن أبي إسحاق.
14055- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن:"الحمولة"، من الإبل والبقر.
* * *
وقال بعضهم:"الحمولة"، من الإبل، وما لم يكن من"الحمولة"، فهو"الفرش".
14056- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، ما حمل عليه،

(12/179)


و"الفرش"، حواشيها، يعني صغارها.
14057- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، فـ"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، صغار الإبل، الفصيل وما دون ذلك مما لا يحمل.
* * *
ويقال:"الحمولة"، من البقر والإبل = و"الفرش"، الغنم.
* * *
وقال آخرون:"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك، و"الفرش"، الغنم.
* ذكر من قال ذلك:
14058- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، فأما"الحمولة"، فالإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما"الفرش"، فالغنم.
14059- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس:"الحمولة"، من الإبل والبقر= و"فرشًا". المعز والضأن.
14060- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، قال: أما"الحمولة"، فالإبل والبقر. قال: وأما"الفرش"، فالغنم.
14061- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، كان غير الحسن يقول:"الحمولة"، الإبل والبقر، و"الفرش"، الغنم.
14062- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،

(12/180)


حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، أما"الحمولة"، فالإبل. وأما"الفرش"، فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم. (1) وما حمل عليه فهو"حمولة".
14063- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (حمولة وفرشًا) ،"الحمولة"، الإبل، و"الفرش"، الغنم.
14064- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: (وفرشًا) ، قال:"الفرش"، الغنم.
14065- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حمولة وفرشًا) قال:"الحمولة"، ما تركبون، و"الفرش"، ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها، وتتخذون من أصوافها لحافًا وفرشًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن"الحمولة"، هي ما حمل من الأنعام، لأن ذلك من صفتها إذا حملت، لا أنه اسم لها، كالإبل والخيل والبغال، فإذا كانت إنما سميت"حمولة" لأنها تحمل، فالواجب أن يكون كل ما حَمَل على ظهره من الأنعام فحمولة. وهي جمع لا واحد لها من لفظها، كالرَّكوبة، و"الجزورة". وكذلك"الفرش"، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه، ويقال له:"الفرش". وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض، وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس.
فأما"الحمولة"، بضم"الحاء"، فإنها الأحمال، وهي"الحمول" أيضًا بضم الحاء.
* * *
__________
(1) ((العجاجيل)) جمع ((عجول)) (بكسر العين، وتشديد الجيم وفتحها، وسكون الواو) وهو ((العجل)) ولد البقر.

(12/181)


القول في تأويل قوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: كلوا مما رزقكم الله، أيها المؤمنون، فأحلّ لكم ثمرات حروثكم وغروسكم، ولحوم أنعامكم، إذ حرّم بعض ذلك على أنفسهم المشركون بالله، فجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وللشيطان مثله، فقالوا:"هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا" = (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، كما اتبعها باحرُو البحيرة، ومسيِّبو السوائب، فتحرموا على أنفسكم من طيب رزق الله الذي رزقكم ما حرموه، فتطيعوا بذلك الشيطان، وتعصوا به الرحمن، كما:-
14066- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، لا تتبعوا طاعته، هي ذنوب لكم، وهي طاعة للخبيث.
* * *
= إن الشيطان لكم عدو يبغي هلاككم وصدكم عن سبيل ربكم= (مبين) ، قد أبان لكم عدواته، (1) بمناصبته أباكم بالعداوة، حتى أخرجه من الجنة بكيده، وخدَعه حسدًا منه له، (2) وبغيًا عليه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: ((أبان لكم عدوانه)) ، وصوابها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: ((وحسدًا منه)) بالواو، والصواب ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير ((خطوات الشيطان)) فيما سلف 2: 300 - 302 / 4: 258.

(12/182)


ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)

القول في تأويل قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) }
قال أبو جعفر: وهذا تقريعٌ من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل= وتعليم منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، الحجةَ عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك. فقال للمؤمنين به وبرسوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشًا. ثم بين جل ثناؤه"الحمولة" و"الفرش"، فقال: (ثمانية أزواج) .
* * *
وإنما نصب"الثمانية"، لأنها ترجمة عن"الحمولة" و"الفرش"، وبدل منها. كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج= فلما قدّم قبل"الثمانية""الحمولة" و"الفرش" بيّن ذلك بعد فقال: (ثمانية أزواج) ، على ذلك المعنى.
* * *
(من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، فذلك أربعة، لأن كل واحد من الأنثيين من الضأن زوج، فالأنثى منه زوج الذكر، والذكر منه زوج الأنثى، وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان. فلذلك قال جل ثناؤه: (ثمانية أزواج) ، كما قال: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، [سورة الذاريات: 49] ، لأن الذَّكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ، [سورة الأعراف: 189] ، وكما قال: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، [سورة الأحزاب: 37] ، وكما:-
14067- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن

(12/183)


الضحاك: (من الضان اثنين) ، ذكر وأنثى، (ومن البقر اثنين) ، ذكر وأنثى= (ومن الإبل اثنين) ، ذكر وأنثى.
* * *
ويقال للاثنين:"هما زوج"، (1) كما قال لبيد:
مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُهَا (2)
* * *
ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم، واركبوا هذه الحمولة، أيها المؤمنون، فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك.
= قل، يا محمد، لهؤلاء الذين حرّموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعًا للشيطان، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك=: آلذكرين حرم ربكم، أيها الكذبة على الله، من الضأن والمعز؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقرّوا به، كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم. لأنهم إذا قالوا:"يحرم الذكرين من ذلك"، أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها. وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم = (أم الأنثيين) ، فإنهم إن قالوا:"حرم ربنا الأنثيين"، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها. وفي ذلك أيضًا تكذيب لهم، ودحض دعواهم أنّ ربهم حرم ذلك عليهم، إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره = (أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، يقول: أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز،
__________
(1) انظر تفسير ((الزوج)) فيما سلف 1: 514 / 2: 446 / 7: 515 / 12: 150.
(2) من قصيدته العجيبة المعلقة، وهذا البي في أوائل الشعر، يصف هوادج ظعن الحي. و ((المحفوف)) ، يعني الهودج، حف بالثياب والأنماط. و ((العصى)) ، خشب الهودج، تظلله وتستره الثياب والأنماط. و ((الكلة)) الستر الرقيق. و ((الرقام)) ستر فيه رقم ونقوش وتماثيل.

(12/184)


فلذلك قال:"أرحام الأنثيين"، وفي ذلك أيضًا لو أقرُّوا به فقالوا:"حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين"، بُطولُ قولهم وبيان كذبهم، لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أنّ الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها، وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها.
* * *
و"ما" التي في قوله: (أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، نصب عطفًا بها على"الأنثيين". (1)
* * *
= (نبئوني بعلم) ، يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته: أيَّ ذلك حرم ربكم عليكم، وكيف حرم؟ (2) = (إن كنتم صادقين) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم، وتضيفونه إليه من تحريمكم.
* * *
وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه أنّ كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله، فهو كذب على الله، وأنه لم يحرم شيئًا من ذلك، وأنهم إنما اتّبعوا في ذلك خطوات الشيطان، وخالفوا أمره.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14068- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) الآية، إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرًا، ذكرًا ولا أنثى.
14069- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، قال: سلهم: (آلذكرين
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 360.
(2) انظر تفسير ((النبأ)) ، فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .

(12/185)


حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، أي: لم أحرم من هذا شيئًا = (بعلم إن كنتم صادقين) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك.
14070- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ثمانية أزواج) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة.
14071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ثمانية أزواج) ، قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسُّيَّب = قال ابن جريج يقول: من أين حرمت هذا؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون.
14072- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين، يقول: أنزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت، ذكر وأنثى، فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية. إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام.
14073- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن: (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، قال: ما حملت الرَّحم.
14074- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، قال: هذا لقولهم: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) . قال: وقال ابن زيد في

(12/186)


قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، قال:"الأنعام"، هي الإبل والبقر والضأن والمعز، هذه"الأنعام" التي قال الله: "ثمانية أزواج". قال: وقال في قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) ، نحتجرها على من نريد، وعمن نريد. وقوله: (وأنعام حرمت ظهورها) ، قال: لا يركبها أحد= (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، فقال: (آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء؟ أي: أن تكون لهؤلاء حِلا وعلى هؤلاء حرامًا.
14075- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى؟ فهل يحرمون بعضًا ويحلون بعضًا؟ .
14076- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، فهذه أربعة أزواج= (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك = (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) ، يقول: كله حلال.
* * *
و"الضأن" جمع لا واحد له من لفظه، وقد يجمع"الضأن"،"الضَّئين والضِّئين"، مثل"الشَّعير" و"الشِّعير"، كما يجمع"العبد" على"عَبيد، وعِبيد". (1) وأما الواحد من ذكوره فـ"ضائن"، والأنثى"ضائنة"، وجمع"الضائنة""ضوائن".
__________
(1) كل ذلك بفتح الضاد، والشين، والعين = ثم بكسر الضاد، والشين، والعين. وقد نصوا على ذلك في ((الضئين)) و ((الشعير)) ، ولم أوفق إلى العثور على ذلك في ((العبيد)) ، وهو موجود إن شاء الله فيما أذكر. وقالوا: إن كسر ((الضاد)) لغة تميمية.

(12/187)


وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

وكذلك"المعز"، جمع على غير واحد، وكذلك"المعزى"، وأما"الماعز"، فجمعه"مواعز".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) }
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، نحو تأويل قوله: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، وهذه أربعة أزواج، على نحو ما بيّنا من الأزواج الأربعة قبلُ من الضأن والمعز، فذلك ثمانية أزواج، كما وصف جل ثناؤه.
* * *
وأما قوله: (أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم) ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قص قصصهم في هذه الآيات التي مضَت. يقول له عز ذكره: قل لهم، يا محمد، أيَّ هذه سألتكم عن تحريمه حرم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك، فقل لهم: أخبرًا قلتم:"إن الله حرم هذا عليكم"، أخبركم به رسول عن ربكم، أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصَّاكم بهذا الذي تقولون وتزوّرون على الله؟ (1) فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون،
__________
(1) في المطبوعة: ((وتردون على الله)) ، وفي المخطوطة: ((وتررون)) ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(12/188)


لا يعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه، أو بسماع منه، فبأي هذين الوجهين علمتم أنّ الله حرم ذلك كذلك، برسول أرسله إليكم، فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين؟ أم شهدتم ربكم فأوصَاكم بذلك، وقال لكم:"حرمت ذلك عليكم"، فسمعتم تحريمه منه، وعهدَه إليكم بذلك؟ (1) فإنه لم يكن واحدٌ من هذين الأمرين. يقول جل ثناؤه: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ، يقول: فمن أشد ظلمًا لنفسه، وأبعد عن الحق ممن تخرَّص على الله قيلَ الكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، وتحليل ما لم يحلل (2) = (ليضل الناس بغير علم) ، يقول: ليصدّهم عن سبيله (3) = (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: لا يوفّق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزُّور والكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، كفرًا بالله، وجحودًا لنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، (4) كالذي:-
14077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) ، الذي تقولون.
14078- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كانوا يقولون = يعني الذين كانوا يتّخذون البحائر والسوائب =: إن الله أمر بهذا. فقال الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((شهداء)) فيما سلف من فهارس اللغة (شهد)
= وتفسير ((وصى)) فيما سلف 9: 295، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف ص: 153، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(4) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
= وتفسير ((الظلم)) فيما سلف منها (ظلم) .

(12/189)


قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله ممّا ذَرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله = والقائلين هذه أنعام وحرث حجرٌ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم= والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورَها= والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها= والمحرِّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلِّيه لذكورهم، المحرّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله، وإضافةً منهم ما يحرمون من ذلك إلى أنَّ الله هو الذي حرّمه عليهم=: أجاءكم من الله رسولٌ بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصَّاكم الله بتحريمه مشاهدةً منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم= فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله، (1) شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريمَ ما حَرّم عليكم منها بزعمكم (2) ="إلا أن يكون ميتة"، قد ماتت بغير تذكية ="أو دمًا مسفوحًا"، وهو المُنْصَبّ = أو إلا أن يكون لحم خنزير = (فإنه رجس أو فسقًا) ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابحٌ من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر
__________
(1) انظر تفسير ((الوحي) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) .
(2) انظر تفسير ((طعم)) فيما سلف 5: 342 / 10: 576.

(12/190)


عليه اسم وثنه، فإن ذلك الذبح فسقٌ نهى الله عنه وحرّمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك، لأنه ميتة.
* * *
وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيَّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله، وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله، وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14079- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرمًا) قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون أشياء ويحلِّون أشياء، فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرمون وتستحلُّون إلا هذا: (إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به) .
14080- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّمًا) الآية، قال: كان أهل الجاهلية يستحلّون أشياء ويحرّمون أشياء، فقال الله لنبيه: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا مما كنتم تستحلون إلا هذا = وكانت أشياء يحرِّمونها، فهي حرام الآن.
14081- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه) ، قال: ما يؤكل. قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم! وكذلك كان يقول: (إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا) = قال ابن جريج: وأخبرني

(12/191)


إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا) ، قال: مما كان في الجاهلية يأكلون، لا أجد محرمًا من ذلك على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا.
* * *
وأما قوله: (أو دمًا مسفوحًا) ، فإن معناه: أو دمًا مُسَالا مُهَرَاقًا. يقال منه:"سفحت دمه"، إذا أرقته، أسفحه سَفْحًا، فهو دم مسفوح"، كما قال طرفة بن العبد:
إِنِّي وَجدِّكَ مَا هَجَوْتُكَ وَالْ ... أَنْصَابِ يَسْفَحُ فَوْقَهُنَّ دَمُ (1)
وكما قال عَبِيد بن الأبرص:
إذَا مَا عَادَهُ مِنْهَا نِسَاءٌ ... سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بَعْدِ الرَّنِينِ (2)
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين: 347، من ثلاثة أبيات يعتذر بها إلى عمرو بن هند، حين بلغه أنه هجاه، فتوعده، يقول بعده: وَلَقَدْ هَمَمْتُ بِذَاكَ، إِذْ حُبِسَتْ ... وَأُمِرَّ دُونَ عَبِيدةَ الوَذَمُ
أَخْشَى عِقَابَكَ إِنْ قَدَرْتَ، وَلَمْ ... أَغْدِرْ فَيُؤْثَرَ بَيْنَنَا الكلِمُ
(2) ديوانه: 45، وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((منا نساء)) ، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما في الديوان، وهو من قصيدته التي لام فيها امرأته لما أعرضت عنه لما كبر وشاب، ومطت له حاجبيها استهزاء به، فذكرها به، فذكرها بما كان من ماضيه في اللهو والصبا والحرب، فكان مما ذكرها به من ذلك شأنه في الحرب، فقال: وَأَسْمَرَ قد نَصَبْتُ لِذي سَناءِ ... يَرَى مِنّي مُخَالَطَةَ اليَقِينِ
يُحَاوِلُ أَنْ يَقُومَ، وقَدْ مَضَتْهُ ... مغابنةٌ بِذِي خُرْصٍ قَتِينِ
إذَا مَا عَادَهُ مِنْهَا نِسَاءٌ ... سَفَحْنَ الدَّمْعَ من بعد الرَّنِينِ
((أسمر)) يعني رمحًا، طعن به فارسًا ذا سناء وشرف، فخالطه به مخالطة اليقين. فلما طعنه حاول أن يقوم، وقد ((مضته)) ، أي: نفذت فيه طعنة ((مغابنة)) ، تخيط لحمه وتغبنه كما يغبن الثوب، برمح ((ذي خرص)) أي سنان، ((قتين)) ، أي: محدد الرأس. فإذا عاده النساء من هذه الطعنة، صحن صياح الحزن، وذلك هو ((الرنين)) ، من هول ما رأين من أثر الطعنة، ثم سفحن الدمع لما يئسن ومن شفائه.

(12/192)


يعني: صببن، وأسلنَ الدمع.
* * *
وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره، الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا، فحلال غير نجس. (1) وذلك كالذي:-
14082- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة: (أو دما مسفوحًا) ، قال: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود.
14083- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة بنحوه = إلا أنه قال: لا تَّبَع المسلمون.
14084- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، بنحوه.
14085- حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في القِدْر يعلوها الحمرة من الدم. قال: إنما حرم الله الدمَ المسفوحَ.
14086- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: سألته عن الدم وما يتلطَّخ بالمذْبح من الرأس، وعن القدر يرى فيها الحُمرة؟ قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح.
14087- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أو دمًا مسفوحًا) ، قال: حُرِّم الدم ما كان مسفوحًا; وأما لحم خالطه دم، فلا بأس به.
__________
(1) السياق: ((وفي اشتراطه ... المسفوح منه ... الدليل الواضح)) .

(12/193)


14088- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا) ، يعني: مُهَراقًا.
14089- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، أخبرني ابن دينار، عن عكرمة: (أو دمًا مسفوحًا) ، قال: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود.
14090- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا، والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا، وقرأت هذه الآية: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه) ... الآية. (1)
14091- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، قال حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة قالت، وذكرت هذه الآية: (أو دمًا مسفوحًا) ، قلت: وإن البرمة ليرى في مائها [من] الصفرة. (2)
* * *
وقد بينا معنى"الرجس"، فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه النجس والنتن، وما يُعْصى الله به، بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
__________
(1) الأثر: 14090 - قال ابن كثير في تفسيره 3: 415، وذكر هذا الأثر، ((صحيح غريب)) .
(2) الأثر: 14091 - هذا أثر مبتور لا شك في ذلك، يبينه الذي قبله، فهو إسناد آخر له. وكان في المطبوعة: ((ليرى في مائها الصفرة)) ، حذف ((ما)) التي قبل ((في مائها)) ، وهي ثابتة في المخطوطة، وزدت ما بين القوسين، لتستقيم العبارة. ولم أجد الخبر في مكان آخر بلفظه هذا.
(3) انظر تفسير ((الرجس)) فيما سلف 10: 564، 565 / 12: 110 - 112.

(12/194)


وكذلك القول في معنى"الفسق" = وفي قوله: (أهل لغير الله به) ، قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفِّق لفهمه، عن تكراره وإعادته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إلا أنْ يكون ميتة) .
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: (إِلا أَنْ يَكُونَ) ، بالياء (مَيْتَةً) مخففة الياء منصوبة، = على أن في"يكون" مجهولا و"الميتة" فعل له، (2) فنصبت على أنها فعل"يكون"، وذكروا"يكون"، لتذكير المضمر في"يكون".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل مكة والكوفة:"إلا أَنْ تَكُونَ"، بالتاء"مَيْتَةً"، بتخفيف الياء من"الميتة" ونصبها = وكأن معنى نصبهم"الميتة" معنى الأولين، وأنثوا"تكون" لتأنيث الميتة، كما يقال:"إنها قائمة جَارِيتُك"، و"إنه قائم جاريتك"، فيذكر المجهول مرة ويؤنث أخرى، لتأنيث الاسم الذي بعده.
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين:"إلا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ"، بالتاء في"تكون"، وتشديد الياء من"ميتة" ورفعها= فجعل"الميتة" اسم"تكون"، وأنث"تكون" لتأنيث"الميتة"، وجعل"تكون" مكتفية بالاسم دون الفعل، لأن قوله:"إلا أن تكون ميتة" استثناء، والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال، فيقولون:"قام الناس إلا أن يكون أخاك"، و"إلا أن يكون أخوك"، فلا تأتي لـ"يكون"، بفعل، وتجعلها مستغنية بالاسم، كما يقال:"قام القوم إلا أخاك"
__________
(1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف ص: 76، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير ((أهل لغير الله به)) فيما سلف 3: 319 - 321 / 9: 493.
(2) ((الفعل)) هنا، خبر المبتدأ، وهو اصطلاح قديم كما ترى، وتفسيره أن خبر المبتدأ كأنه فعل له. تقول: ((محمد قائم)) ، تفسيره أن محمدا فعل القيام، وهو اصطلاح كوفي.

(12/195)


و"إلا أخوك"، (1) فلا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: (إِلا أَنْ يَكُونَ) بـ"الياء" (مَيْتَةً) ، بتخفيف الياء ونصب"الميتة"، لأن الذي في"يكون" من المكنى من ذكر المذكر (3) = وإنما هو: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ذلك ميتةً أو دمًا مسفوحًا.
* * *
فأما قراءة"ميتة" بالرفع، فإنه، وإن كان في العربية غير خطأ، فإنه في القراءة في هذا الموضع غيرُ صواب. لأن الله يقول: (أو دمًا مسفوحًا) ، فلا خلاف بين الجميع في قراءة "الدم" بالنصب، وكذلك هو في مصاحف المسلمين، وهو عطف على"الميتة". فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن"الميتة" لو كانت مرفوعة، لكان"الدم"، وقوله"أو فسقًا"، مرفوعين، ولكنها منصوبة، فيعطف بهما عليها بالنصب.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 360 - 363، وقد استوفى هذا الباب هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فلا يعتد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء نفلا)) و ((نفلا)) في المخطوطة غير منقوطة، وهذه عبارة لا معنى لها، صوابها إن شاء الله ما أثبت. ((افتقد الشيء)) تطلبه وقوله: ((فعلا)) هو ((خبر المبتدأ)) ، كما فسرته في التعليق السالف صلى الله عليه وسلم: 195، تعليق 2، واستظهرت صواب قراءتها كذلك من كلام الفراء إذ يقول في معاني القرآن 1: 361: ((ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لها، اكتفى بيكون بلا فعل. وكذلك (يكون) في كل الاستثناء لا تحتاج إلى فعل ... )) فقوله: ((لا تحتاج إلى فعل)) ، هو معنى ما أثبته ((لا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا)) .
(3) انظر تفسير ((الميتة)) فيما سلف، وتخفيف يائها وتشديدها فيما سلف 3: 318، 319 / 6: 310 / 9: 492.

(12/196)


القول في تأويل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) }
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) ، والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا، في"سورة" البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) = وأن معناه: فمن اضطر إلى أكلِ ما حرَّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو ما أهل لغير الله به، غير باغ في أكله إيّاه تلذذًا، لا لضرورة حالة من الجوع، ولا عادٍ في أكله بتجاوزه ما حدَّه الله وأباحه له من أكله، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك، لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه، فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك = (فإنّ الله غفور) ، فيما فعل من ذلك، فساتر عليه بتركه عقوبته عليه، ولو شاء عاقبه عليه = (رحيم) ، بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه، ولو شاء حرَّمه عليه ومنعه منه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ذلك فيما سلف 3: 321 - 327، وتفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(12/197)


وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

القول في تأويل قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود (1) ="كل ذي ظفر"، وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14092- حدثني المثنى، وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، وهو البعير والنعامة.
14093- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ.
4094- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع.
14095- حدثني علي بن الحسين الأزدي قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: كل شيء متفرق الأصابع، ومنه الديك. (2)
__________
(1) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف 10: 476، تعليق: 1 والمراجع هناك.
(2) قوله: ((كل شيء متفرق الأصابع، ومنه الديك)) ، هكذا هو في المخطوطة، والذي تبادر إلى ذهن من نشر التفسير قبل، أن صوابه ((غير متفرق الأصابع)) ، ليطابق ما قبله وما بعده. ولكني وجدت ابن كثير في تفسيره 3: 417، يقول: ((وفي رواية عنه: ((كل متفرق الأصابع، ومنه الديك)) ، فلذلك رجحت صواب ما في المخطوطة والمطبوعة.

(12/198)


14096- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (كل ذي ظفر) ، النعامة والبعير.
14097- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مثله.
14098- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان.
14098- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (كل ذي ظفر) ، قال: الإبل والنعام، ظفر يد البعير ورجله، والنعام أيضًا كذلك، وحرم عليهم أيضًا من الطير البط وشبهه، وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع.
14099- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أما كل ذي ظفر"، فالإبل والنعام.
14100- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا، قال قلت:"ما شقًّا شقًّا"؟ قال: كل ما لم تفرج قوائمه لم يأكله اليهود، البعيرُ والنعامة. والدجاج والعصافير تأكلها اليهود، لأنها قد فُرِجت.
14101- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (كل ذي ظفر) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: ما"شقًّا شقًّا"؟ قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم. قال: وما انفرج أكلته اليهود. قال: انفرجت قوائم الدجاج

(12/199)


والعصافير، فيهود تأكلها. قال: ولم تنفرج قائمة البعير، خفّه، ولا خف النعامة، ولا قائمة الوَزِّينة، (1) فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزِّين، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته، وكذلك لا تأكل حمار وحش.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:-
14102- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، الإبل قطْ. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر، فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان النعام وكل ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلا في ظاهر التنزيل، وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر، إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخلٍ في الآية، خبرٌ عن الله ولا عن رسوله، وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل.
* * *
__________
(1) ((الوزينة)) (بفتح الواو، وتشديد الزاي مكسورة) ، هي الإوزة، وجمعها ((الوزين)) ، مثلها في الوزن بغير هاء.
(2) في المطبوعة: ((فقط)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب. يقال: ((ماله إلى عشرة قط)) (بفتح وسكون الطاء) و ((قط)) (بتشديد الطاء وكسرها) ، بمعنى: أي، ولا يزيد على ذلك، بمعنى ((حسب)) .

(12/200)


القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الشحوم" التي أخبر الله تعالى ذكره: أنه حرمها على اليهود من البقر والغنم.
فقال بعضهم: هي شحوم الثُّروب خاصة. (1)
* ذكر من قال ذلك:
14103- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) ، الثروب. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها! (2)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك كان كل شحم لم يكن مختلطًا بعظم ولا على عظم.
* ذكر من قال ذلك:
14104- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: إنما حرم عليهم الثرب، وكل شحم كان كذلك ليس في عظم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك شحم الثرب والكُلَى.
* ذكر من قال ذلك:
14105- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
__________
(1) ((الثروب)) جمع ((ثرب)) (بفتح فسكون) ، وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء.
(2) الأثر: 14103 - الخبر الذي رواه قتادة مرسلا، رواه البخاري بإسناده مرفوعًا (الفتح 4: 344، 345) . بنحوه، ورواه الجماعة. انظر التعليق التالي.

(12/201)


حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: الثرب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول: إنما حرَّمه إسرائيل، فنحن نحرّمه.
14106- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: إنما حرم عليهم الثروب والكليتين = هكذا هو في كتابي عن يونس، وأنا أحسب أنه:"الكُلَى".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحَوَايا أو ما اختلط بعظم. فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم، فإنه كان محرمًا عليهم.
وبنحو ذلك من القول تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله:"قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها". (1)
* * *
وأما قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) ، فإنه يعني: إلا شحوم الجَنْب وما علق بالظهر، فإنها لم تحرَّم عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14107- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (إلا ما حملت ظهورهما) ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم.
14108- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
__________
(1) رواه الجماعة، انظر (الفتح 4: 344، 345) ز و ((جمل الشحم)) : أذابه واستخرج ودكه. و ((الجميل)) الشحم المذاب.

(12/202)


حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"ما حملت ظهورهما"، فالألْيات.
14108م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: الألية، مما حملت ظهورهما.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوِ الْحَوَايَا}
قال أبو جعفر: و"الحوايا" جمع، واحدها"حاوِياء"، و"حاوية"، و"حَوِيَّة"، وهي ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي"المباعر"، وتسمى"المرابض"، وفيها الأمعاء. (1)
* * *
ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا = فـ"الحوايا"، رفع، عطفًا على"الظهور"، و"ما" التي بعد"إلا"، نصبٌ على الاستثناء من"الشحوم". (2)
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14109- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (أو الحوايا) ، وهي المبعر.
14110- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أو الحوايا) ، قال: المبعر.
__________
(1) ((الربض)) (بفتحتين) و ((المربض)) (بفتح الميم، وفتح الباء أو كسرها) ، و ((الربيض)) مجتمع الحوايا، أو ما تحوى من مصارين البطن. و ((بنات اللبن)) : ما صغر من الأمعاء. وانظر الأثر التالي رقم: 14121.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 363.

(12/203)


14111- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الحوايا"، المبعر والمرْبَض.
14112- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو الحوايا) ، قال: المبعر.
14113- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (أو الحوايا) ، قال: المباعر.
14114- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (أو الحوايا) ، قال: المباعر.
14115- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو الحوايا) ، قال: المبعر.
14116- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أو الحوايا) ، قال: المبعر.
14117- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: المبعر.
14118- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أو الحوايا) ، يعني: البطون غير الثروب.
14119- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو الحوايا) ، هو المبعر.
14120- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أو الحوايا) ، قال: المباعر.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما:-

(12/204)


14121- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أو الحوايا) ، قال:"الحوايا"، المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها، وهي"بنات اللبن"، وهي في كلام العرب تدعى"المرابض".
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرمنا على الذين هادوا شحومهما، سوى ما حملت ظهورهما، أو ما حملت حواياهما، فإنا أحللنا ذلك لهم، وإلا ما اختلط بعظم، فهو لهم أيضًا حلال.
* * *
فردّ قوله: (أو ما اختلط بعظم) ، على قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) فـ"ما" التي في قوله: (أو ما اختلط بعظم) ، في موضع نصب عطفًا على"ما" التي في قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) . (1)
* * *
وعنى بقوله: (أو ما اختلط بعظم) ، شحم الألية والجنب، وما أشبه ذلك، كما:-
14122- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (أو ما اختلط بعظم) ، قال: شحم الألية بالعُصْعُص، (2) فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم، فهو حلال.
14123- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أو ما اختلط بعظم) ، مما كان من شحم على عظم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 363.
(2) ((العصعص)) ، وهو عظم عجب الذنب.

(12/205)


القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير، ذوات الأظافير غير المنفرجة، ومن البقر والغنم، ما حرمنا عليهم من شحومهما، الذي ذكرنا في هذه الآية، حرمناه عليهم عقوبة منّا لهم، وثوابًا على أعمالهم السيئة، وبغيهم على ربهم، (1) كما:-
14124- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) ، إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم.
14125- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ذلك جزيناهم ببنيهم) ، فعلنا ذلك بهم ببغيهم.
* * *
وقوله: (وإنا لصادقون) ، يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنّا حرمنا عليهم، وفي غير ذلك من أخبارنا، وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((جزى)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
= وتفسير ((البغي)) فيما سلف 2: 342 / 4: 281 / 6: 276.

(12/206)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، (1) هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه
__________
(1) في المطبوعة: ((كذبوك)) والصواب من المخطوطة.

(12/206)


الآية="فقل ربكم ذو رحمة"، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، ويغيرهم من خلقه="واسعة"، تسع جميع خلقه، (1) المحسنَ والمسيء، لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة، ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله، رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه= وذلك سطوته وعذابه (2) = لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء = و"المجرمون" هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14126- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فإن كذبوك) ، اليهود.
14127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فإن كذبوك) ، اليهود= (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) .
14128- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل = يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين = فنحن نحرمه، فذلك قوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((واسع)) فيما سلف 11: 489، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((البأس)) فيما سلف 11: 357، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير ((المجرم)) فيما سلف ص: 93.

(12/207)