تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
و"الفرقان" في كلام العرب، مصدرٌ من قولهم:
"فرقت بين الشيء والشيء أفرُق بينهما فَرْقًا وفُرْقانًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
مذكِّرَه نعمه عليه: واذكر، يا محمد، إذ يمكر بك الذين كفروا
من مشركي قومك كي يثبتوك. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ليثبتوك".
فقال بعضهم: معناه ليقيِّدوك.
* ذكر من قال ذلك:
15956- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك"، يعني: ليوثقوك.
15957 -............ قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك"، ليوثِقوك.
15958 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، الآية،
يقول: ليشدُّوك
__________
(1) انظر ما سلف 1: 98، 99 \ 3: 448 \ 6: 162، 163.
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33
(13/491)
وَثاقًا. وأرادوا بذلك نبيَّ الله صلى الله
عليه وسلم وهو يومئذ بمكة.
15959 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة ومقسم قالا قالوا: "أوثقوه بالوثاق".
15960 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "ليثبتوك"، قال: الإثبات، هو الحبس
والوَثَاق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه الحبس.
* ذكر من قال ذلك.
15961 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: "ليثبتوك"، قال: يسجنوك=
وقالها عبد الله بن كثير.
15962 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
قالوا: "اسجنوه".
* * *
وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك.
* ذكر من قال ذلك.
15963 - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال،
حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد
بن عمير، عن المطلب بن أبي وَداعة: أن أبا طالب قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني
ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي! قال: نعم
الرب ربك، فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا"! فنزلت: "وإذ
يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"، الآية. (1)
__________
(1) الأثر: 15963 - " محمد بن إسماعيل البصري "، المعروف ب "
الوساوسي " شيخ الطبري، لم أجد النص على أنه "الوساوسي "،
والذي يروى عنه أبو جعفر في تاريخه، في مواضع " محمد بن
إسماعيل الضراري "، وهو " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي
"، صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 190، وذكر
في التهذيب أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري، روى عنه، ولم
يذكر أنه يعرف بالوساوسي.
وترجم ابن أبي حاتم لأخيه: " أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرار
الرازي "، 1 \ 1 \ 41، فوجدت في لباب الأنساب 2: 273: "
الوساوسي، عرف بها " أحمد بن إسماعيل الوساوسي البصري "، فدل
هذا على ترجيح أن يكون " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار " يقال
له " الوساوسي " أيضًا.
و" عبد المجيد بن أبي رواد "، هو " عبد المجيد بن عبد العزيز
بن أبي رواد الأزدي "، روى عن ابن جريح وغيره. وثقه أحمد وابن
معين. وغيرهما. وضعفه أبو حاتم وابن سعد. ومنهم من قال هو ثبت
في حديثه عن ابن جريج، ومنهم من قال: روى عن ابن جريج أحاديث
لا يتابع عليها. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 64.
" وعبيد بن عمير بن قتادة الليثي " ثقة، مضى برقم: 9180، 9181،
9189، 15621.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عبيد بن عمير بن المطلب بن أبي
وداعة "، وهو خطأ لا شك فيه.
و" المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي "، له صحبة - مترجم في
التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 7، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 385، ولم
يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه.
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 4: 46، 47، وقال: " وذكر
أبي طالب في هذا، غريب جدًا، بل منكر لأن هذه الآية مدنية. ثم
إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على
الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وكان
ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين، لما تمكنوا منه
واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره
ويقوم بأعبائه ".
فلو صح ما قاله ابن كثير، كان هذا الخبر من الأخبار التي دعتهم
إلى أن يقولوا في " عبد المجيد ابن أبي رواد " أنه روى عن ابن
جريج أحاديث لا يتابع عليها. ومع ذلك فإن حجاجًا قد روى عنه
مثل رواية عبد المجيد. انظر التعليق على الأثر التالي، فإني
اذهب مذهبًا غير مذهب ابن كثير في الخبر. وانظر أيضًا رقم:
15976، فإن ابن جريج سيقول: إن هذه الآية مكية، لا مدنية.
(13/492)
15964 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال عطاء: سمعت عبيد بن
عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو
يثبتوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟
قال: نعم! قال: فأخبره، قال: من أخبرك؟ قال: ربي! قال: نعم
الرب ربك، استوص به خيرًا! قال: "أنا أستوصي به، أو هو يستوصي
بي؟ (1)
__________
(1) الأثر: 15964 - انظر التعليق على الأثر السالف. سلف ما
قاله ابن كثير في نقد هذا الخبر. والذي دفعه أن يقول ما قال،
من انه كان ليلة الهجرة، ما رواه ابن جرير في الأثر الذي يليه،
والذي ترجم له بقوله: " وكأن معنى مكر قوم رسول الله صلى الله
عليه وسلم به ليثبتوه، كما حدثني ... " وساق خبر ائتمارهم به
ليلة الهجرة.
ولكن جائز أن يكون الخبران الأولان، في شأن آخر، وليلة أخرى،
بل أكاد أقطع أن الخبر الذي رواه ابن جريج، لا علاقة له بأمر
الهجرة، وأن ابن كثير تابع للطبري فيما ظنه ظنًا وذلك أن ابن
إسحاق وغيره، رووا أن أشراف قريش اجتمعوا يوما في الحجر،
فذكروا رسول الله، وزعموا أنهم صبروا منه على أمر عظيم. فبينا
هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم
الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فغمزوه ببعض القول. فعرف
الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم. فلما مر بهم الثانية، غمزوه
بمثلها، ثم مر الثالثة، ففعلوا فعلتهم، فوقف ثم قال: " أتسمعون
يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح ".
فاستكانوا ورفأوه بأحسن القول رهبة ورغبة. فلما كان الغد،
اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض: " ذكرتم ما بلغ منكم وما
بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ". فبينا هم
كذلك، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه
رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: " أنت الذي تقول كذا وكذا؟ "،
لما كان من عيب آلهتهم، فيقول: " نعم، أنا الذي أقول ذلك "،
فأخذ بعضهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: "
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله "! (سيرة ابن هشام 1: 309، 310)
، وانظر الخبر التالي رقم: 15974، والتعليق عليه.
وكان هذا قبل الهجرة بزمان طويل، في حياة أبي طالب. فكأن هذا
الخبر، هو الذي قال عبيد بن عمير في روايته عن المطلب بن أبي
وداعة أنه ائتمار قومه به. فإذا صح ذلك، لم يكن لما قال ابن
كثير وجه، ولصح هذا الخبر لصحة إسناده.
(13/493)
وكأنّ معنى مكر قوم رسول الله صلى الله
عليه وسلم به ليثبتوه، كما:-
15965 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا
محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن
عباس= قال وحدثني الكلبي، عن زاذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس:
أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار
الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، (1) فلما رأوه
قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن
أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. (2) قالوا: أجل، ادخل!
فدخل معهم، فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل، (3) والله
__________
(1) في المخطوطة: " في صورة جليل "، وفوق " جليل " حرف (ط)
دليلا على الخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما في سيرة
ابن هشام.
(2) " لن يعدمكم "، أي: لا يعدوكم ويخطئكم مني رأي ونصح.
(3) في المطبوعة: " في شأن "، وأثبت ما في المخطوطة.
(13/494)
ليوشكن أن يُواثبكم في أموركم بأمره. (1)
قال: فقال قائل: احبسوه في وَثاق، ثم تربصوا به ريبَ المنون،
حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما
هو كأحدهم! قال: فصرخ عدوُّ الله الشيخ النجدي فقال: والله، ما
هذا لكم برأي! (2) والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه،
فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما
آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم! قالوا: فانظروا في غير هذا.
قال: فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا
خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم،
وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم
برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذَ القلوب ما
تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرَض العرب، لتجتمعن
عليكم، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم!
قالوا: صدق والله! فانظروا رأيًا غير هذا! قال: فقال أبو جهل:
والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره!
قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلامًا وَسيطا شابًّا
نَهْدًا، (3) ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربوه
ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن
هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا
رأوا ذلك قبلوا العقل، (4) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال
الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القولُ ما قال الفتى، لا أرى
غيره! قال: فتفرقوا على ذلك وهم مُجْمعون له، قال: فأتى جبريل
النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي
كان يبيت فيه تلك الليلة، وأذِن الله له عند ذلك بالخروج،
وأنزل عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال"، يذكره نعمه عليه،
وبلاءه عنده: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، وأنزل في
قولهم: "تربصوا به ريبَ المنون" حتى يهلك كما هلك من كان قبله
من الشعراء": أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ، [سورة الطور: 30] . وكان يسمى ذلك اليوم: "يوم
الزحمة" للذي اجتمعوا عليه من الرأي. (5)
15966 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى (6) قال، حدثنا محمد بن ثور،
عن معمر، عن قتادة ومقسم، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك" قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا
أصبع فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل
اخرجوه. فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه، فردَّ الله
مكرهم.
15967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عيد الرزاق قال،
أخبرني أبي، عن عكرمة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر إلى الغار، أمر عليَّ بن أبي طالب، فنام في مضجعه،
فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي صلى
الله عليه وسلم فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه
النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعليّ، فقالوا: أين صاحبك؟
قال:
__________
(1) في المطبوعة: " أن يواتيكم في أموركم "، وهو لا معنى له،
وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: " رأي " بغير باء، والصواب من المخطوطة.
(3) " الوسيط ": حسيبًا في قومه، من أكرمهم حسبًا ونسبًا
ومجدًا. وكان في المطبوعة " وسطا ً "، والصواب ما في المخطوطة.
و " غلام نهد ": كريم، ينهض إلى معالي الأمور. واصل " النهد ":
المرتفع.
(4) " العقل "، الدية.
(5) الأثر: 15965 - سيرة ابن هشام 2: 124 - 128، وإسناد هناك "
قال ابن إسحاق، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن
أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "، ثم ساق الخبر بغير هذا
اللفظ.
ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية " سورة الطور "، آية مكية،
نزلت قبل الهجرة بزمان، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر، يوهم
أنها نزلت ليلة الهجرة، أو بعد الهجرة، وهذا لا يكاد يصح.
(6) سقط من المطبوعة: " محمد " وكتب " بن عبد الأعلى "، وهي
ثابتة في المخطوطة.
(13/495)
لا أدري! قال: فركبوا الصعب والذَّلول في
طلبه. (1)
15968 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر قال، أخبرني عثمان الجزريّ: أن مقسمًا مولى ابن عباس
أخبره، عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك"، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح
فأثبتوه بالوثاق= يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال
بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على
ذلك، فبات على رحمه الله على فراش النبي صلى الله عليه وسلم
تلك الليلة، (2) وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق
بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى
الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا
رحمة الله عليه، ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا
أدري! فاقتصُّوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار، رأوا
على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على
بابه! فمكث فيه ثلاثا. (3)
__________
(1) " الصعب " من الإبل، هو الذي لم يركب قط، لأنه لا ينقاد
لراكبه، ونقيضه " الذلول "، وهو السهل المنقاد. مثل لركوب كل
مركب في طلب ما يريده المرء، سهل المركب أو صعب.
(2) في المخطوطة، سقط من الناسخ " الليلة "، وزادتها المطبوعة.
(3) الأثر: 15968 - " عثمان الجزري "، يقال له: " عثمان
المشاهد ". روى عن مقسم، روى عنه معمر، والنعمان بن راشد. قال
أبو حاتم: " لا أعلم روى عنه غير معمر، والنعمان ". وسئل عنه
أحمد فقال: " روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه ". مترجم
في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 174.
وكان في المطبوعة: " عثمان الجريري "، والمخطوطة، كما أثبتها،
غير أنه غير منقوط.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 3251، وقال أخي: " في
إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري، كالإسناد 2562 "، وقد استظهر
هناك أن " عثمان الجزري " هو " عثمان بن ساج "، ولكن ما قاله
ابن أبي حاتم، يرجح أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن ساج
".
وقد وجدت بعد في مجمع الزوائد 7: 27، هذا الخبر، بنحوه ثم قال:
" رواه أحمد والطبراني، وفيه " عثمان بن عمرو الجزري "، وثقه
ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
ولا أزال أشك في أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن عمرو بن
ساج "
(13/497)
15969 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ يمكر بك الذين
كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله
خير الماكرين"، قال: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى
الله عليه وسلم بعد ما أسلمت الأنصار، وفَرِقوا أن يتعالى أمره
إذا وجد ملجأ لجأ إليه. (1) فجاء إبليس في صورة رجل من أهل
نجد، فدخل معهم في دار الندوة، فلما أنكروه قالوا: من أنت؟
فوالله ما كل قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا! قال: أنا رجل من أهل
نجد، أسمع من حديثكم وأشير عليكم! فاستحيَوْا، فخلَّوا عنه.
فقال بعضهم: خذوا محمدًا إذا اضطجع على فراشه، (2) فاجعلوه في
بيت نتربص به ريبَ المنون = و"الريب"، هو الموت، و"المنون"، هو
الدهر = قال إبليس: بئسما قلت! تجعلونه في بيت، فيأتي أصحابه
فيخرجونه، فيكون بينكم قتال! قالوا: صدق الشيخ! قال: أخرجوه من
قريتكم! قال إبليس: بئسما قلت! تخرجونه من قريتكم، وقد أفسد
سفهاءكم، فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم، فيأتيكم بالخيل
والرجال! قالوا: صدق الشيخ! قال أبو جهل= وكان أولاهم بطاعة
إبليس=: بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش، فنخرج منهم رجلا
فنعطيهم السلاح، فيشدُّون على محمد جميعًا فيضربونه ضربة رجل
واحد، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشًا، فليس لهم
إلا الدية! قال إبليس: صدق، وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا!
فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فنام
على الفراش، وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل، انطلق
هو وأبو بكر إلى الغار، ونام علي بن أبي طالب على الفراش، فذلك
حين يقول الله: "ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"= و"الإثبات"،:
هو الحبس والوثاق= وهو قوله: وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
__________
(1) " فرقوا "، خافوا وفزعوا.
(2) في المطبوعة: " إذا اصطبح على فراشه "، لا أدري من أين جاء
بها! .
(13/498)
مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ
إِلا قَلِيلا [سورة الإسراء: 76] ، يقول: يهلكهم.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لقيه عمر
فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي
صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وكذلك كان يُصنع بالأمم،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخِّروا بالقتال".
15970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك أو يقتلوك"، قال:
كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج
من مكة.
15971 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
15972- حدثني ابن وكيع قال: حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد.
15973 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين
كفروا ليثبتوك أو يقتلوك"، الآية، هو النبي صلى الله عليه
وسلم، مكروا به وهو بمكة.
15974 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، إلى آخر الآية، قال:
اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قُتل به!
قالوا: خذوه فاسجنوه، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا: فلا يدعكم
أهل بيته! قالوا: أخرجوه. قالوا: إذًا يستغوي الناس عليكم. (1)
__________
(1) " يستغوي الناس "، أي: يدعوهم إلى التجمع. يقال: " تغاووا
عليه حتى قتلوه "، إذا تجمعوا وتعاونوا في الشر. والأجود عندي:
" يستعوى " (بالعين المهملة) . يقال: " استعوى فلان جماعة "،
إذا نعق بهم على الفتنة. ويقال: " تعاوى بنو فلان على فلان " و
" تغاووا " (بالغين المعجمة) ، إذا تجمعوا عليه. و " استعوى
القوم "، استغاث بهم. وأصله من " العواء "، عواء الكلب،
فتجاوبه كلاب الحي.
(13/499)
قال: وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد،
واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستلم، أن يجتمعوا عليه
فيغمُّوه ويقتلوه، (1) فإنه لا يدري أهله من قتله، فيرضون
بالعقل، فنقتله ونستريح ونعقِله! فلما أن جاء يطوف بالبيت،
اجتمعوا عليه فغمُّوه، فأتى أبو بكر فقيل له ذاك، فأتى فلم يجد
مدخلا. فلما أن لم يجد مدخلا قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
مِنْ رَبِّكُمْ، [سورة غافر: 28] . قال: ثم فرَّجها الله عنه.
فلما أن حطّ الليل، (2) أتاه جبريل عليه السلام فقال، من
أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وفلان. فقال: لا نحن أعلم بهم منك،
(3) يا محمد، هو ناموس ليل! (4) قال: وأخِذ أولئك من مضاجعهم
وهم نيام، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدِّم أحدهم
إلى جبريل، فكحَله ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال:
كُفِيتَه يا نبي الله!
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فيعموه " بالعين المهملة، ولها
وجه ضعيف عندي، وصوابها بالغين المعجمة. يقال: " غم الشيء يغمه
"، إذا علاه وغطاه وستره حتى لا فرجة فيه، ومنه قول النمر بن
تولب، يصف اجتماع المقاتلة العرب في الحرب: زَبَنَتْكَ
أَرْكَانُ العَدُوِّ فأَصْبَحتْ ... أَجَأ وَحَيَّة مِنْ
قَرَارِ ديارها
وَكأَنَّهَا دَقَرَى، تَخَايَلَ نَبْتُها ... أُنُفٌ يَغُمُّ
الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا
ومنه قيل للغمة " غمة "، وقيل: " سحاب أغم "، لا فرجة فيه.
وانظر بعد ذلك صفة اجتماعهم عليه صلى الله عليه وسلم بأبي هو
وأمي، وأن أبا بكر لم يجد مدخلا، وقوله أيضًا: " ثم فرجها الله
عنه ". فكل هذا يدل على صواب قراءتها كما أثبتها. وهذه الصفحة
من المخطوطة، يكاد أكثرها يكون غير منقوط.
(2) في المطبوعة: " فلما أن كان الليل "، غير ما في المخطوطة،
وكان فيها " فلما أن حبط " وصواب قراءتها إن شاء الله ما أثبت.
و " حط الليل "، نزل وأطبق.
(3) في المخطوطة: " فقال: فلان وفلان وفلان، فقال لا. فقال
جبريل عليه السلام: نحن أعلم بهم منك ... "، أخشى أن يكون سقط
من الكلام شيء، والذي في المطبوعة اجتهاد من الناشر، تركه على
حاله.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " هو ناموس ليل "، والسياق يقتضي
ما أثبت.
و" الناموس " دويبة أغبر، كهنة الذرة، تلكع الناس وتلسعهم.
وقولهم: " هم ناموس ليل "، يعني حقارتهم وقلة شأنهم.
(13/500)
ثم قدِّم آخر، فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرة
ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ فقال: كُفِيته يا نبي
الله! ثم أتي بآخر فنقر في ركبته، فقال: ما صورته يا جبريل؟
قال: كفيته! ثم أتي بآخر فسقاه مَذْقة، (1) فقال: ما صورته يا
جبريل؟ قال: كفيته يا نبي الله! وأتي بالخامس، (2) فلما غدا من
بيته، مرّ بنبّال فتعلق مِشْقَص بردائه، (3) فالتوى، فقطع
الأكحل من رجله. (4) وأما الذي كحلت عيناه، فأصبح وقد عمي.
وأما الذي سقي مَذْقةً، فأصبح وقد استسقى بطنه. وأما الذي نقر
فوق رأسه، فأخذته النقبة = و"النقبة"، قرحة عظيمة (5)
= أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته، فأصبح وقد أقعد.
فذلك قول الله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
15975 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، أي: فمكرت لهم بكيدي
المتين، حتى خلّصك منهم. (6)
__________
(1) " المذقة "، الطائفة من اللبن الممزوج بالماء.
(2) لم يذكر ما فعل جبريل عليه السلام بالخامس، وإن كان ذكر ما
آل إليه أمره، فأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.
(3) في المطبوعة " مر " حذف الفاء، وهو صواب، فأثبتها من
المخطوطة. و " المشقص "، نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
(4) " الأكحل "، عرق الحياة، ويقال له: " نهر البدن "، وهو عرق
في اليد ووسط الذراع، وفي كل عضو منه شعبة، لها اسم على حدة،
إذا قطع لم يرقأ الدم.
(5) في المطبوعة: " النقدة "، في الموضعين. وأما المخطوطة،
فالأولى، يوشك أن يكتبها " النقبة " إلا أنه يزيد في رأس
الباء، ثم كتب بعد " النقدة " ولم أجد في القروح ما يقال له: "
نقدة ".
و" النقبة " (بضم فسكون) أول بدء الجرب، ترى الرقعة مثل الكف
بجنب البعير أو وركه أو بمشفرة، ثم تتمشى فيه تشريه كله، أي
تملؤه كله. فلعل هذه هي المرادة هنا.
(6) الأثر: 15975 - سيرة ابن هشام 1: 325، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 15955.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " فمكرت لهم "، وأثبت ما في سيرة
ابن هشام، وهي أجود.
(13/501)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (31)
15976 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: "وإذ يمكر بك
الذين كفروا"، قال: هذه مكية= قال: ابن جريج، قال مجاهد: هذه
مكية. (1)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: واذكر، يا محمد، نعمتي
عندك، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك، بإثباتك أو
قتلك أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض
لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولى عن إجابة ما أرسلتك
به من الدين القيم، ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم، فإن ربّك
خيرُ الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه.
* * *
وقد بينا معنى "المكر" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (2)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا
إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذا تتلى على هؤلاء الذين
كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه (3)
=، قالوا جهلا منهم، وعنادًا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في
قيلهم= "لو نشاء لقلنا مثل هذا"،
__________
(1) الأثر: 15976 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 15964.
كأنه يعني أن هذه الآية، معنى بها أمر من أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو بمكة. والقطع بأن هذه الآية أو اللواتي
تليها آيات نزلت بمكة، أمر صعب، لا يكاد المرء يطمئن إلى
صوابه، والاعتراض على ذلك له وجوه كثيرة لا محل لذكرها هنا.
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33،
491.
(3) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص: 385، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(13/502)
الذي تُلِي علينا= "إن هذا إلا أساطير
الأولين"، يعني: أنهم يقولون: ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم
إلا أساطير الأولين.
و"الأساطير" جمع "أسطر"، وهو جمع الجمع، لأن واحد "الأسطر"
"سطر"، ثم يجمع "السطر"، "أسطر" و"سطور"، ثم يجمع "الأسطر"
"أساطير" و"أساطر". (1)
وقد كان بعضُ أهل العربية يقول: واحد "الأساطير"، "أسطورة".
* * *
وإنما عنى المشركون بقولهم: "إن هذا إلا أساطير الآولين"، إنْ
هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، إلا ما سطَّره الأولون
وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم،
وأنه لم يوحِه الله إليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15977 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قوله: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو
نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا
إلى فارس، فيمرّ بالعِباد وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون.
(2) فجاء مكة، فوجد محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه
وهو يركع ويسجد، فقال النضر: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا!
"، للذي سَمِع من العباد. فنزلت: "وإذا تتلى عليهم آياتنا
قالوا قد
__________
(1) انظر تفسير " الأساطير " فيما سلف 11: 308 - 310.
(2) " العباد "، قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على
النصرانية قبل الإسلام، فأنفوا أن يسموا بالعبيد، فقالوا: "
نحن العباد "، ونزلوا بالحيرة. فنسب إلى " العباد "، ومنهم عدى
بن يزيد العبادي الشاعر.
(13/503)
سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: فقص
ربُّنا ما كانوا قالوا بمكة، وقص قولهم: إذ قالوا: "اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك"، الآية.
15978 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو
بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم.
فلما قدم مكة، سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن،
فقال: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير
الأولين"، يقول: أساجيع أهل الحيرة. (1)
15979 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ من
يوم بدر صبرًا: عقبةَ بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن
الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد:
يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه
كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بقتله، فقال المقداد: أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! " فقال المقداد: هذا الذي
أردت! وفيه نزلت هذه الآية: "وإذا تتلى عليهم آياتنا"، الآية.
15980- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن
سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل يوم بدر
ثلاثة رهط من قريش صبرًا: المطعم بن عديّ، والنضر بن الحارث،
وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن
الأسود: أسيري، يا رسول الله! قال: إنه كان يقول في كتاب الله
وفي رسوله ما كان يقول! قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغْن المقداد من فضلك!
وكان المقداد أسر النضر. (2)
__________
(1) " الأساجيع " جمع " أسجوعة "، ما سجع به الكاهن وغيره.
وانظر ما سلف رقم: 13157.
(2) الأثر: 15980 - هكذا جاء في رواية هذا الخبر " المطعم بن
عدي "، مكان " طعيمة بن عدى "، وكأنه ليس خطأ من الناسخ، لأن
ابن كثير في تفسيره 4: 51، قال: " وهكذا رواه هشيم، عن أبي بشر
جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير أنه قال: المطعم بن عدي،
بدل طعيمة. وهو غلط، لأن المطعم بن عدي لم يكن حيًا يوم بدر،
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان المطعم
بن عدي حيًا، ثم سألني في هؤلاء النتنى، لوهبتهم له! يعني
الأسارى، لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
رجع من الطائف ". وانظر التعليق على رقم: 15981.
(13/504)
وَإِذْ قَالُوا
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالُوا
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا محمد، أيضًا ما حلّ
بمن قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، إذ مكرت بهم، فأتيتهم بعذاب
أليم= (1) وكان ذلك العذاب، قتلُهم بالسيف يوم بدر.
* * *
وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث.
* ذكر من قال ذلك.
15981 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن
سعيد بن جبير، في قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، قال: نزلت في النضر بن
الحارث. (2)
15982 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " مكرت لهم "، وليست بشيء.
(2) الأثر: 15981 - " أبو بشر "، هو " جعفر بن إياس "، " جعفر
بن أبي وحشية "، مضى مرارًا كثيرة. وكان في تعليق ابن كثير،
الذي نقلته في التعليق على الخبر السالف " جعفر بن أبي دحية "،
وهو خطأ محض.
(13/505)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "إن
كان هذا هو الحق من عندك"، قال: قول النضر بن الحارث= (1) أو:
ابن الحارث بن كَلَدة.
15983- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"،
قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، من بني عبد الدار.
15984-......قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو
الحق من عندك"، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة.
15985 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: قال رجل من بني عبد الدار، يقال له
النضر بن كلدة: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فقال الله: ((وَقَالُوا
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ))
[سورة ص: 16] ، وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [سورة الأنعام: 94] ، وقال:
((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) [سورة
المعارج: 1-2] . قال عطاء: لقد نزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب
الله.
15986 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: فقال= يعني النضر بن الحارث =:
اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة
من السماء أو
__________
(1) الأثر: 15982 - في المطبوعة: " النضر بن الحارث بن علقمة
بن كلدة ".
والصواب ما في المخطوطة، لأن الاختلاف في نسبة هكذا: " النضر
بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار " أو: "
النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار "
انظر سيرة ابن هشام 2: 320، 321. وقد غير ما في المخطوطة بلا
حرج ولا ورع.
(13/506)
ائتنا بعذاب أليم! قال الله: ((سَأَلَ
سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) .
15987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن
مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، قال:
((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) .
15988 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية
قال: قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها، (1) فعاد الله
بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. (2)
15989 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم
ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك"، أي: ما جاء به محمد= "فأمطر علينا
حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط = "أو ائتنا بعذاب
أليم"، أي: ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول "هو" في الكلام.
فقال بعض البصريين: نصب "الحق"، لأن "هو" والله أعلم، حُوِّلت
__________
(1) في المطبوعة: " سفهة هذه الأمة "، غير ما في المخطوطة، طرح
الصواب المحض يقال: " سفيه "، والجمع " سفهاء " " وسفاه "
(بكسر السين) و " سفه "، بضم السين وتشديد الفاء المفتوحة.
والذي في كتب اللغة أن " سفاه " و " سفه "، و " سفائه " جمع "
سفيهة ". وسيأتي في المخطوطة بعد قليل " سفهه "، وكأنها جائزة
أيضًا.
(2) هكذا في المخطوطة أيضًا " سفهة "، فتركتها على حالها. انظر
التعليق السالف. وكأنه إتباع لقوله " جهلة "، وهذا من خصائص
العربية.
(3) الأثر: 15989 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تبع الأثر
السالف رقم: 15975.
وكان في المطبوعة: " ثم ذكر غيرة قريش "، وهو لا معنى له،
صوابه من المخطوطة وابن هشام. يعني: اغترارهم بأمرهم، وغفلتهم
عن الحق.
(13/507)
زائدة في الكلام صلةَ توكيدٍ، كزيادة "ما"،
ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغني عن خبر، وليس هو بصفة، ل
"هذا"، لأنك لو قلت: "رأيت هذا هو"، لم يكن كلامًا. ولا تكون
هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة المضمرة، نحو
قوله: ((وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)) [سورة الزخرف:
76] و ((خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا
وَأَعْظَمَ أَجْرًا)) [سورة المزمل: 20] .
لأنك تقول: "وجدته هو وإياي"، فتكون "هو" صفة. (1)
وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة، كما
كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما
بعدها، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم، يقولون
في قوله:"إن كان هذا هو الحق من عندك"، "ولكن كانوا هم
الظالمون"، (2) و "تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا" (3)
كما تقول: "كانوا آباؤهم الظالمون"، جعلوا هذا المضمر نحو "هو"
و "هما" و "أنت" زائدًا في هذا المكان، ولم تجعل مواضع الصفة،
لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله،
ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر.
* * *
وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل "هو" التي هى عماد في الكلام،
(4) إلا لمعنى صحيح. وقال: كأنه قال: "زيد قائم"، فقلت أنت:
"بل عمرو هو القائم" ف "هو" لمعهود الاسم، و"الألف واللام"
لمعهود الفعل، (5) [" والألف واللام"] التي هي صلة في الكلام،
(6) مخالفة لمعنى "هو"، لأن دخولها وخروجها واحد
__________
(1) " الصفة "، هو " ضمير الفصل "، وانظر التعليق التالي رقم:
4.
(2) في المطبوعة: " هم الظالمين "، خالف المخطوطة وأساء.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " هو خيرًا "، ولا شاهد فيه،
وصوابه ما أثبت.
(4) " العماد "، اصطلاح الكوفيين، والبصريون يقولون: " ضمير
الفصل "، ويقال له أيضًا: " دعامة " و " صفة ". انظر ما سلف 2:
312، تعليق 2، ثم ص 313، 374 \ ثم 7: 429، تعليق: 2.
(5) " الفعل "، يعني الخبر.
(6) ما بين القوسين، مكانه بياض في المخطوطة، ولكن ناشر
المطبوعة ضم الكلام بعضه إلى بعض. وأثبت ما بين القوسين
استظهارًا، وكأنه الصواب إن شاء الله. وقوله: " صلة "، أي:
زيادة، انظر تفسير ذلك فيما سلف 1: 190، 405، 406، 548 \ 4:
282 \ 5: 460، 462 \ 7: 340، 341.
(13/508)
وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
في الكلام. وليست كذلك "هو". وأما التي
تدخل صلة في الكلام، فتوكيدٌ شبيه بقولهم: "وجدته نفسَه"، تقول
ذلك، وليست بصفة "كالظريف" و"العاقل". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
__________
(1) انظر مبحث ضمير " العماد " في معاني القرآن للفراء 1: 50 -
52، 104، 248، 249، 409، 410.
وما سلف من التفسير 2: 312، 313 \ 7: 429، 430، وغيرها في
فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.
(13/509)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ
إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(34)
القول في تأويل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، أي:
وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبي صلى الله
عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرجَ النبي صلى الله عليه
وسلم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد
خروجه عليه، حين استغفر أولئك بها: "وما كان الله معذِّبهم وهم
يستغفرون". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم،
فعذّب الكفار.
* ذكر من قال ذلك.
15990 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي
المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة،
فأنزل الله عليه:
(13/509)
"وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال:
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله: "وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون". قال: فكان أولئك البقية من
المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون= يعني بمكة= فلما خرجوا
أنزل الله عليه: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد
الحرام وما كانوا أولياء". قال: فأذن الله له في فتح مكة، فهو
العذاب الذي وعدهم.
15991 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي
مالك، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني النبي
صلى الله عليه وسلم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"،
يعني: من بها من المسلمين= "وما لهم ألا يعذبهم الله"، يعني
مكة، وفيهم الكفار. (1)
15992- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم"،
يعني: أهل مكة= "وما كان الله معذبهم"، وفيهم المؤمنون،
يستغفرون، يُغفر لمن فيهم من المسلمين.
15993- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي،
وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى: "وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: بقية من بقي من المسلمين
منهم. فلما خرجوا قال: "وما لهم ألا يعذبهم الله". (2)
15994 -....... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي
مالك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: أهل مكة.
__________
(1) في المطبوعة: " وفيها الكفار "، أما المخطوطة فتقرأ: "
بغير مكة، وفيهم الكفار "، ولعل ما في المطبوعة أولى بالإثبات.
(2) الأثر: 15993 - " إسحاق بن إسماعيل الرازي " هو: " حبويه،
أبو يزيد " سلف مرارًا، آخرها رقم: 15311.
(13/510)
15995 -......وأخبرنا أبي، عن سلمة بن
نبيط، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال:
المؤمنون من أهل مكة= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن
المسجد الحرام"، قال: المشركون من أهل مكة.
15996-......قال: حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: "وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: المؤمنون يستغفرون بين
ظهرانَيْهم.
15997 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون"، يقول: الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة، حتى
أخرجك والذين آمنوا معك.
15998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قال: ابن عباس: لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي
منها والذين آمنوا معه، ويلحقه بحيث أُمِر= "وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون"، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين
فقال: "وما لهم ألا يعذبهم الله".
15999- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: يعني أهل مكة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين
من قريش بمكة وأنت فيهم، يا محمد، حتى أخرجك من بينهم= "وما
كان الله معذبهم"، وهؤلاء المشركون، يقولون: "يا رب غفرانك! "،
وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: "وما
لهم ألا يعذبهم الله"، في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك.
16000 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زميل، عن ابن عباس: إن المشركين
كانوا يطوفون
(13/511)
بالبيت يقولون: "لبيك، لبَّيك، لا شريك
لك"، (1) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَدْ! " (2)
فيقولون: "إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"، (3) ويقولون:
"غفرانك، غفرانك! "، فأنزل الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت
فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". فقال ابن عباس: كان
فيهم أمانان: نبيّ الله، والاستغفار. قال: فذهب النبي صلى الله
عليه وسلم وبقي الاستغفار= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون
عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"،
قال: فهذا عذاب الآخرة. قال: وذاك عذاب الدنيا. (4)
16001 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها
لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك، فأمطر علينا" الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا،
فقالوا: "غفرانك اللهم! "، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون" إلى قوله: "لا يعلمون".
16002 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
كانوا يقولون = يعني المشركين =: والله إن الله لا يعذبنا ونحن
نستغفر، ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من
قولهم، ورسولُ لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. فقال الله
لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم
واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم
لوط. وقال حين نَعى
__________
(1) في المطبوعة: " لبيك، لا شريك لك لبيك "، غير ما في
المخطوطة.
(2) " قد، قد "، أي حسبكم، لا تزيدوا. يقال: " قدك "، أي حسبك،
يراد بها الردع والزجر.
(3) في المطبوعة، زاد زيادة بلا طائل، كتب: " فيقولون: لا شريك
لك، إلا شريك هو لك ".
(4) الأثر: 16000 - " أبو زميل " هو: " سماك بن الوليد الحنفي
اليمامي "، مضى برقم: 13832، 15734.
(13/512)
عليهم سوء أعمالهم: "وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، أي: لقولهم:
["إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا"="وما لهم ألا يعذبهم الله"،
وإن كنت بين أظهرهم] ، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون (1) =
"وهم يصدون عن المسجد الحرام"، أي: من آمن بالله وعبده، أي:
أنت ومن تبعك. (2)
16003 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار.....................
قال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى قال: إنه كان قبلُ أمانان،
قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون" قال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى،
وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. (3)
16004 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس
__________
(1) كانت هذه الجملة هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أي بقولهم،
وإن كانوا يستغفرون كما قال وهم يصدون ... "، أسقط من الكلام
ما لا بد منه وحرف. فأثبت الصواب بين الأقواس، وفي سائر
العبارة، من سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 16003 - سيرة بن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 15989.
(3) الأثر: 16004 - " الحسن بن الصباح البزار "، شيخ الطبري،
مضى برقم: 4442، 9857.
وهذا الإسناد قد سقط منه رواة كثيرون، وكان في المخطوطة " بردة
" فجعلها الناشر " أبو بردة "، وأصاب وهو لا يدري.
وهذا الخبر روى مثله مرفوعًا الترمذي في سننه في تفسير هذه
السورة، وهذا إسناده: " حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن نمير،
عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة
بن أبي موسى، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى لله عليه وسلم:
أنزل الله علي أمانين لأمتي: " وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون "، فإذا مضيت تركت فيهم
الاستغفار إلى يوم القيامة.
ثم قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في
الحديث ".
أما خبر الطبري، فلا شك أنه خبر موقوف على أبي موسى الأشعري.
وكان في المطبوعة: " إنه كان فيكم أمانان "، غير ما في
المخطوطة، وصواب قراءته ما أثبت.
(13/513)
بن أبي إسحاق، عن عامر أبي الخطاب الثوري
قال: سمعت أبا العلاء يقول: كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
أمَنَتَان: فذهبت إحداهما وبقيت الأخرى: "وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم"، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا
محمد، وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي: لو
استغفروا. (2) قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جل ثناؤه إذ
لم يكونوا يستغفرون: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن
المسجد الحرام".
* ذكر من قال ذلك.
16005 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون"، قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو
كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما
أمانان أنزلهما الله: فأما أحدهما فمضى، نبيُّ الله. وأما
الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم، الاستغفارُ والتوبةُ.
16006 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله لرسوله: "وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول:
ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب
لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون؟ وما لهم ألا
يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام؟
16007 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون"، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم.
__________
(1) الأثر: 16005 - " عامر، أبي الخطاب الثوري "، لم أجد له
ذكر، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " أن لو استغفروا "، وكأن الصواب
ما أثبت.
(13/514)
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله
ليعذبهم وهم يُسلمون. قالوا: و"استغفارهم"، كان في هذا الموضع،
إسلامَهم.
* ذكر من قال ذلك.
16008 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن
الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: "وما كان
الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"،
قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم، ولم يكن
ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام.
16009 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وأنت فيهم"، قال: بين
أظهرهم= وقوله: "وهم يستغفرون"، قال: يُسلمون.
16010- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"،
بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم
يسلمون (1) = "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون"، قريش، "عن
المسجد الحرام". (2)
16011- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا محمد بن
عبيد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون"، قال: دخولهم في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول
في الإسلام.
__________
(1) في المخطوطة: " وهم مسلمون "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) (2) كان في المطبوعة: سياق الآية بلا فصل، وهو قوله: "
قريش "، التي أثبتها من المخطوطة. وكان في المخطوطة: " وهم
مسلمون يعذبهم الله "، بياض بين الكلامين وفي الهامش حرف (ط)
دلالة على الخطأ.
(13/515)
* ذكر من قال ذلك.
16012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"،
يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى
يخرجهم. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول:
ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار.
ثم قال: "ومالهم ألا يعذبهم الله"، فعذبهم يوم بدر بالسيف.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون.
* ذكر من قال ذلك.
16013 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون"، يعني: يصلُّون، يعني بهذا أهل مكة.
16014 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين
الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد في قول الله: "وما كان
الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"،
قال: يصلون.
16015 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:
"وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني: أهل مكة. يقول: لم
أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون"، يعني: يؤمنون ويصلون.
16016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يصلون.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم
يستغفرون.
(13/516)
قالوا: ثم نسخ ذلك بقوله: "ومالهم ألا
يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام".
* ذكر من قال ذلك.
16017 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن
واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في
"الأنفال": "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون"، فنسختها الآية التي تليها: "وما لهم ألا
يعذبهم الله"، إلى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"،
فقوتلوا بمكة، وأصابهم فيها الجوع والحَصْر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قولُ من
قال: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وبين
أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنّي لا أهلك قرية
وفيها نبيها= وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، من ذنوبهم
وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرُّون عليه، فهم
للعذاب مستحقون= كما يقال: "ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء
إليّ"، يراد بذلك: لا أحسن إليك، إذا أسأت إليّ، ولو أسأت إليّ
لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك=
ثم قيل: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"،
بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون
الله من كفرهم فيؤمنوا به، (1) وهم يصدون المؤمنين بالله
ورسوله عن المسجد الحرام؟
وإنما قلنا: "هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب"، لأن
القوم = أعني مشركي مكة = كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا:
"اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق، فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فقال الله لنبيه: "ما كنت لأعذبهم
وأنت فيهم، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا،
__________
(1) انظر تفسير " مالك " فيما سلف 5: 301، 302 \ 9: 7.
(13/517)
وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم، وهم يصدون
عن المسجد الحرام؟ ". فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا العذاب
حائق بهم ونازل، (1) وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه
إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذابَ في الآخرة، وهم
مستعجلوه في العاجل، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون.
بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر، الدليلُ الواضحُ على أن
القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول من وجَّه قوله: "وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، إلى أنه عُنى به المؤمنين، وهو
في سياق الخبر عنهم، وعما الله فاعل بهم. ولا دليل على أن
الخبر عنهم قد تقضَّى، وعلى ذلك [كُنِي] به عنهم، (2) وأن لا
خلاف في تأويله من أهله موجودٌ.
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وما لهم
ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، الآية، لأن قوله
جل ثناؤه: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" خبرٌ، والخبر لا
يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم "، وفي
المخطوطة كما أثبته إلا أنه كتب مكان " حائق " " حاق "، وهو
سهو.
(2) في المطبوعة: " وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله
"، وفي المخطوطة، كما أثبته، إلا أنه سقط منه [كني] كما أثبته
بين القوسين. وإن كنت أظن في الكلام سقطًا.
هذا وقد ذكر أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 154، هذا
الرأي، ثم قال: " جعل الضميرين مختلفين، وهو قول حسن، وإن كان
محمد بن جرير قد أنكره، لأنه زعم أنه لم يتقدم للمؤمنين ذكر،
فيكنى عنهم. وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكر المؤمنين في غير موضع
من السورة.
فإن قيل: لم يتقدم ذكرهم في هذا الموضع.
فالجواب: أن في المعنى دليلا على ذكرهم في هذا الموضع. وذلك أن
من قال من الكفار: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر
علينا حجارة من السماء "، إنما قال ذلك مستهزئًا ومتعنتًا. ولو
قصد الحق لقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له =
ولكنه كفر وأنكر أن يكون الله يبعث رسولا بوحي من الله، أي:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأهلك الجماعة من الكفار
والمسلمين. فهذا معنى ذكر المسلمين، فيكون المعنى: كيف يهلك
الله المسلمين؟ فهذا المعنى: " ما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون " يعني المؤمنين = " وما لهم ألا يعذبهم الله "، يعني
الكافرين ".
(13/518)
واختلف أهل العربية في وجه دخول "أن" في
قوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله".
فقال بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا، وقد عملت كما عملت "لا"
وهي زائدة، وجاء في الشعر: (1)
لَوْ لَمْ تَكنْ غَطَفَانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَيَّ، لامَ
ذَوُو أحْسَابِهَا عُمَرَا (2)
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: لم تدخل "أن" إلا
لمعنى صحيح، لأن معنى: "وما لهم"، ما يمنعهم من أن يعذبوا.
قال: فدخلت "أن" لهذا المعنى، وأخرج ب "لا"، ليعلم أنه بمعنى
الجحد، لأن المنع جحد. قال: و"لا" في البيت صحيح معناها، لأن
الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. (3)
وقال: ألا ترى إلى قولك: "ما زيد ليس قائما"، فقد أوجبت
القيام؟ قال: وكذلك "لا" في هذا البيت. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ
أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا
يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء
الله= "إن أولياؤه"، (5) يقول: ما
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) سلف البيت وتخريجه 5: 302، 303، وروايته هناك: " إذن للام
ذود أحسابها "، وقد فسرته هناك، وزعمت أن " الذنوب " بفتح
الذال بمعنى: الحظ والنصيب عن الشرف والحسب والمروءة.
أمَّا رواية البيت كما جاءت هنا، وفي الديوان، توجب أن تكون "
الذنوب " جمع " ذنب ".فهذا فرق ما بين الروايتين والمعنيين.
(3) يعني بقوله: " خبرًا "، أي: إثباتًا.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163 - 166، وما سلف من
التفسير 5: 300 - 305.
(5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(13/519)
أولياء الله= "إلا المتقون"، يعني: الذين
يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. (1)
= "ولكن أكثرهم لا يعلمون" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون
أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
* * *
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16018 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا
المتقون"، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16019 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "إن أولياؤه
إلا المتقون"، مَن كانوا، وحيث كانوا.
16020- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16021 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما
كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، الذين يحرمون حرمته،
(2) ويقيمون الصلاة عنده، أي: أنت= يعني النبي صلى الله عليه
وسلم= ومن آمن بك= يقول: "ولكن أكثرهم لا يعلمون". (3)
* * *
__________
(1) وتفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة مكان: " يحرمون حرمنه "، " يخرجون
منه "، وهذا من عجائب التحريف من طريق الاختصار!! ، والصواب من
سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 16021 - سيرة ابن هشام 2: 325، 326، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16003.
(13/520)
وَمَا كَانَ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ
صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا
يعذبهم الله، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه
ويعبدونه، ولم يكونوا لله أولياء، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن
المسجد الحرام، وهم لا يصلون في المسجد الحرام= "وما كان
صلاتهم عند البيت"، يعني: بيت الله العتيق= "إلا مُكاء"، وهو
الصفير.
يقال منه: "مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً" وقد قيل: إن "المكو": أن
يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح. ويقال منه:
"مَكت است الدابة مُكاء"، إذا نفخت بالريح. ويقال: "إنه لا
يمكو إلا استٌ مكشوفة"، ولذلك قيل للاست "المَكْوة"، سميت
بذلك، (1) ومن ذلك قول عنترة:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلا تَمْكُو فَرِيصَتُهُ
كَشِدْقِ الأعْلَمِ (2)
وقول الطِّرِمَّاح:
__________
(1) وتمام سياقه أن يقول: " سميت بذلك لصفيرها ".
(2) من معلقته المشهورة الغالية. سيرة بن هشام 2: 326،
والمعاني الكبير: 981، واللسان (مكا) وبعد البيت. سَبَقَتْ
يَدَايَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... وَرَشَاشِ نَافِذَةٍ
كَلَونِ العَنْدَمِ
" الحليل "، الزوج، و " الغانية ": البارعة الحسن والجمال،
استغنت بجمالها عن التجمل. " مجدلا "، صريعًا على الجدالة، وهي
الأرض. و " الفريصة "، لحمة عند نغض الكتف، في وسط الجنب، عند
منبض القلب، وهما فريصتان، وهي التي ترعد عند الفزع، فيقال
للفزع: " أرعدت فرائصه "، وإصابة الفريصة مقتل. و " الأعلم "،
الجمل المشقوق الشفة العليا. خرج إليه هذا القتيل، مدلا بقوته
وشبابه، يحفزه أن ينال إعجاب صاحبته الغانية الجميلة به إذا
قتل عنترة، فلم يكد حتى عاجله بالطعنة التي وصف ما وصف من
اتساعها كشدق البعير الأعلم.
(13/521)
فَنَحَا لأُِولاَها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ
تَمْكُو جَوَانِبُهَا مِنَ الإنْهَارِ (1)
بمعنى: تصوِّت.
وأما "التصدية"، فإنها التصفيق، يقال منه: "صدَّى يصدِّي
تصديةً"، و"صفَّق"، و"صفّح"، بمعنى واحد.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن موسى بن قيس، عن
حجر بن عنبس: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير=
و"التصدية"، التصفيق. (2)
16023 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت
إلا مكاء وتصدية"، "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق.
16024 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) ديوانه 149، والمعاني الكبير: 983، وهو بيت من قصيدة مدح
بها خالد بن عبد الله القسري، ولكن هذا البيت، مفرد وحده لا
صلة له بما قبله، وهي قصيدة ناقصة بلا شك. وشرحه ابن قتيبة
فقال: " نحا " انحرف، و " المحفظ "، المغضب. و " تمكو "، تصفر،
وذلك عند سيلانها. و " الإنهار "، سعة الطعنة، ومنه قول قيس بن
الخطيم، يصف طعنة: طَعَنْتُ ابنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ
ثَائِرٍ ... لَهَا نَفَذٌ لَوْلا الشُّعَاعُ أَضَاءَهَا ...
مَلَكْتُ بها كَفِّى فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ
مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
(2) الأثر: 16022 - " موسى بن قيس الحضرمي "، " عصفور الجنة "،
مضى برقم: 16022.
و" حجر بن عنبس الحضرمي "، " أبو العنبس "، ويقال: " أبو السكن
"، قال ابن معين: " شيخ كوفي ثقة مشهور "، تابعي، وكان شرب
الدم في الجاهلية، شهد مع علي الجمل وصفين مترجم في التهذيب،
والكبير 12 \ 68، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 266.
(13/522)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، يقول: كانت
صلاة المشركين عند البيت "مكاء"= يعني الصفير= و"تصدية"، يقول:
التصفيق.
16025 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن
موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية: "وما كان صلاتهم عند البيت
إلا مكاء وتصدية"، قال: التصفيق والصفير.
16026- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن قرة بن خالد، عن
عطية، عن ابن عمر قال: "المكاء"، التصفيق، و"التصدية"، الصفير.
قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب.
16027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن
قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت
إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" و"التصدية"، الصفير والتصفيق.
16028- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، سمعت محمد بن
الحسين يحدث، عن قرة بن خالد، عن عطية العوفي، عن ابن عمر قال:
"المكاء"، الصفير، و"التصدية": التصفيق.
16029 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة،
عن عطية، عن ابن عمر في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا
مكاء وتصدية"، قال، "المكاء" الصفير، و"التصدية"، التصفيق=
وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر، وأمال خده، وصفق
بيديه.
16030 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن
مضر، عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف يقول في قول الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء
وتصدية" قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما صفيرًا، كما
قال له أبو سلمة.
(13/523)
16031 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا
أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن
ابن عباس قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق.
16032- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة بن سابور، عن
عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء
وتصدية"، قال: تصفير وتصفيق. (1)
16033- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن
عطية، عن ابن عمر، مثله.
16034- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب،
عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون
بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون، فأنزل الله: ((قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)) [سورة
الأعراف: 32] ، فأمروا بالثياب.
16035 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه
وسلم في الطواف يستهزئون به، يصفرون به ويصفقون، فنزلت: "وما
كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية".
16036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور،
عن مجاهد: "إلا مكاء"، قال: كانوا ينفخون في أيديهم،
و"التصدية"، التصفيق.
__________
(1) الأثر: 16032 - " سلمة بن سابور "، روى عن عطية العوفي،
وعبد الوارث مولى. روى عنه أبو نعيم، والفضل بن موسى، وغيرهما.
ضعفه ابن معين، وثقه ابن حبان وقال: " كان يحيى القطان يتكلم
فيه، ومن المحال أن يلحق بسلمة ما جنت يدا عطية ". أما البخاري
فاقتصر على قوله: " كان يحيى يتكلم في عطية "، كأنه لا يريد
استضعافه. مترجم في لسان الميزان 3: 68، والكبير 2 \ 2 \ 84،
وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 163، وضعفه، وميزان الاعتدال 1: 406،
واقتصر فقال: " جرحوه ".
(13/524)
16037- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إلا مكاء
وتصدية"، قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية"
التصفيق، يخلِطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه.
16038 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله= إلا أنه لم يقل:
"صلاته".
16039- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم،
و"التصدية"، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار، كانوا يخلطون
بذلك كله على محمد صلاتَه.
16040 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا
مكاء وتصدية"، قال: من بين الأصابع= قال أحمد: سقط عليَّ حرف،
وما أراه إلا الخَذْف (1) = والنفخ والصفير منها، وأراني سعيد
بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. (2)
16041- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا
طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير في قوله: "وما كان صلاتهم عند
البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، كانوا يشبِّكون بين
أصابعهم ويصفرون بها، فذلك "المكاء". قال: وأراني سعيد بن جبير
المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس.
16042- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب
__________
(1) " الخذف " رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الخذف " وقال: " إنه يفقأ
عينًا، ولا ينكي العدو، ولا يحرز صيدًا ".
(2) " أبو قبيس "، اسم الجبل المشرف على بطن مكة.
(13/525)
قال، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة،
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في قوله: "مكاء وتصدية"، قال:
"المكاء" النفخ= وأشار بكفه قِبَل فيه= و"التصدية"، التصفيق.
16043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن
الضحاك قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق.
16044 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
16045 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: كنا
نُحَدَّث أن "المكاء"، التصفيق بالأيدي، و"التصدية"، صياح
كانوا يعارضون به القرآن.
16046 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير،
و"التصدية"، التصفيق.
16047 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء
وتصدية"، و"المكاء"، الصفير، على نحو طير أبيض يقال له
"المكَّاء"، يكون بأرض الحجاز، (1) و"التصدية"، التصفيق.
16048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال:
"المكاء"، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال: وقال في
"المكاء"، أيضًا: صفير في أيديهم ولعب.
* * *
__________
(1) " المكاء " (بضم الميم وتشديد الكاف) ، وجمعه " مكاكي "
طائر نحو القنبرة، إلا أن في جناحيه بلقًا. سمى بذلك، لأنه
يجمع يديه، ثم يصفر فيهما صفيرًا حسنًا.
(13/526)
وقد قيل في "التصدية": إنها "الصد عن بيت
الله الحرام". وذلك قول لا وجه له، لأن "التصدية"، مصدر من قول
القائل: "صدّيت تصدية". وأما "الصدّ" فلا يقال منه: "صدَّيت"،
إنما يقال منه "صدَدْت"، فإن شدَّدت منها الدال على معنى تكرير
الفعل قيل: "صدَّدْتَ تصديدًا". (1) إلا أن يكون صاحب هذا
القول وجَّه "التصدية" إلى أنه من "صَدَّدت"، ثم قلبت إحدى
داليه ياء، كما يقال: "تظنَّيْتُ" من "ظننت"، وكما قال الراجز:
(2)
تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ (3)
يعني: تقضُّض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياء، فيكون ذلك وجهًا
يوجَّه إليه.
* ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل "التصدية".
16049 - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا
مكاء وتصدية"، صدهم عن بيت الله الحرام.
16050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا
طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وتصدية" قال: "التصدية"،
صدّهم الناس عن البيت الحرام.
16051 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "وتصدية"، قال: التصديد، عن سبيل الله، (4) وصدّهم عن
الصلاة وعن دين الله.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " صددت تصدية "، وهو خطأ ظاهر،
صوابه ما أثبت.
(2) هو العجاج.
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2: 157، وسيأتي في التفسير 30:
135 (بولاق) .
(4) في المطبوعة: " التصدية "، وفي المخطوطة توشك أن تقرأ هكذا
وهكذا، ورأيت الأرجح أن تكون " التصديد "، فأثبتها.
(13/527)
16052 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة،
عن ابن إسحاق: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"،
قال: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يُدْرَأ بها عنهم= "إلا
مكاء وتصدية"، وذلك ما لا يرضى الله ولا يحبّ، ولا ما افترض
عليهم، ولا ما أمرهم به. (1)
* * *
وأما قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فإنه يعني
العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين
قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء" الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب= "ذوقوا"،
أي اطعموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحسِّ، ووجود طعم ألمه
بالقلوب. (2) يقول لهم: فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن
الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم، ورسالةَ نبيكم صلى
الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16053 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
"فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، أي: ما أوقع الله بهم يوم
بدر من القتل. (3)
16054 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، قال: هؤلاء أهل
بدر، يوم عذبهم الله.
16055 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون"، يعني أهل بدر، عذبهم الله يوم بدر
بالقتل والأسر.
* * *
__________
(1) الأثر: 16052 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16021
(2) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص 434، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) الأثر: 16053 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 1605.
(13/528)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ (36)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله
ينفقون أموالهم، (1) فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا
بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به،
ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله، (2)
فسينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم= "حسرة"،
يقول: تصير ندامة عليهم، (3) لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما
يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على
كلمة الله، لأن الله مُعْلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى،
ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى
جهنم، فيعذبون فيها، (4) فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم
ومن هلك! أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك
نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. (5) وأما الهالك،
فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها، نعوذ بالله
من غضبه.
وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما
ذُكر، أبا سفيان.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) .
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 12: 559 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف 3: 295 \ 7: 335 \ 11:
325.
(4) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص: 472 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(5) في المطبوعة: " محزونًا مسلوبًا "، والسياق يتقضى ما أثبت.
" محروب "، مسلوب المال.
(13/529)
16056- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب
القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: "إن الذين كفروا
ينفقون أموالهم" الآية، "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون"، قال:
نزلت في أبي سفيان بن حرب. استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش
من بني كنانة، (1) فقاتل بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهم
الذين يقول فيهم كعب بن مالك:
وَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَابِيشُ،
مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ (2)
ثَلاثَةُ آلافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلاثُ مِئِينَ إن
كَثُرْنَ، فَأرْبَعُ (3)
16057- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب
القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم
ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد
ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، سوى من
استجاش من العرب. (4)
__________
(1) " الأحابيش "، هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل،
والديش، من بني الهون بن خزيمة، والمطلق، والحيا، من خزاعة.
وسميت " الأحابش "، لاجتماعها وانضمامها محالفة قريش، في قتال
بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. (انظر المحبر: 246، 267)
و (نسب قريش: 9) .
(2) سيرة ابن هشام 3: 141، طبقات فحول الشعراء: 183، نسب قريش:
9 وغيرها.
ويعني بقوله: " فجئنا إلى موج "، جيش الكفار يوم أحد، يموج
موجه. وكان عدة المشركين بأحد ثلاثة آلاف. و " الحاسر "، الذي
لا درع له، ولا بيضة على رأسه. و " المقنع "، الدارع الذي ليس
لبس سلاحه، ووضع البيضة على رأسه.
(3) " نصية "، أي: خيار أشراف، أهل جلد وقتال. يقال: " انتصى
الشيء "، اختار ناصيته، أي أكرم ما فيه. وكان في المطبوعة: "
ونحن نظنه "، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة، كما كتبتها غير
منقوطة.
وهكذا جاء الرواية في المخطوطة: " إن كثرن فأربع "، كأنه يعني
أنهم كانوا ثلاثمئة، فإن كثروا فأربعمئة. وهو لا يصح، لأن عدة
المسلمين يوم أحد كانت سبعمئة. فصواب الرواية ما أنشده ابن
إسحاق وابن سلام.
" إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ "
(4) " استجاش "، طلب منه الجيش وجمعه على عدوه.
(13/530)
16058-......قال، أخبرنا أبي عن خطاب بن
عثمان العصفري، عن الحكم بن عتيبة: "إن الذين كفروا ينفقون
أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان. أنفق
على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية
يومئذ اثنين وأربعين مثقالا. (1)
16059 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"،
الآية، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس
ودعاهم إلى القتال، (2) حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل.
وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان.
وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام
الرابع.
16060 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله فيما كان المشركون، ومنهم
أبو سفيان، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم: "إن الذين
كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، وهو محمد صلى الله
عليه وسلم= "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، يقول: ندامة يوم
القيامة وويلٌ (3) = "ثم يغلبون".
16061 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "ينفقون أموالهم
ليصدوا
__________
(1) الأثر: 16058 - " خطاب بن عثمان العصفري "، لم أجد له
ترجمة في غير ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286، وقال: " خطاب العصفري
" روى عن الشعبي، روى عنه وكيع، ومحمد بن ربيعة، وأبو نعيم.
سمعت أبي يقول ذلك.
وسألته عنه فقال: " شيخ ". ولم يذكر أن اسم أبيه " عثمان ".
(2) في المطبوعة: " أنشد الناس "، وهو لا معنى له. وفي
المخطوطة: " أنسب "، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و "
التأشيب "، التحريش بين القوم، و " التأشيب "، التجميع، يقال:
" تأشب به أصحابه "، أي: اجتمعوا إليه وطافوا به. أراد أنه
جمعهم وحرضهم على القتال.
(3) في المطبوعة: " وويلا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب
أيضًا.
(13/531)
عن سبيل الله"، الآية حتى قوله: "أولئك هم
الخاسرون"، قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
16062- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16063 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن
يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن
بن عمرو بن سعد بن معاذ، (1) [وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث
بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من
الحديث عن يوم أحد، قالوا: أو من قاله منهم: لما أصيب] يوم بدر
من كفار قريش من أصحاب القليب، (2) ورجع فَلُّهم إلى مكة، (3)
ورجع أبو سفيان بعِيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، (4) وعكرمة
بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم
وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له
في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا
قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم، (5) فأعينونا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " الحصين بن عبد الرحمن وعمرو بن
سعد بن معاذ "، وهو خطأ، فقد مضى مرارًا مثله. وصوابه من سيرة
ابن هشام.
(2) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام، وإنما فعلت
ذلك، لأن المطبوعة خالفت المخطوطة لخطأ فيها، فكتب في لمطبوعة:
" قالوا: أما أصابت المسلمين يوم بدر ... "، وكان في المخطوطة:
" قالوا: لما أصيبت قريش، أو من قاله منهم، يوم بدر "، وهو غير
مستقيم، فرجح قوله: " أو من قال منهم "، أن الناسخ قد عجل في
نقل بقية الإسناد، وخلط الكلام فاضطرب. فلذلك أثبته بنصه من
السيرة.
(3) " الفل " (بفتح الفاء) : المنهزمون، الراجعون من جيش قد
هزم.
(4) في المطبوعة: " عبد الله بن ربيعة "، خطأ محض.
(5) " وتر القوم "، أدرك فيهم مكروهًا بقتل أو غيره. و "
الموتور " الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه.
(13/532)
بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه
ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس،
(1) أنزل الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" إلى قوله:
"والذين كفروا إلى جهنم يحشرون". (2)
16064 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إن
الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، إلى قوله:
"يحشرون"، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان
له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) ففعلوا. (4)
16065 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن
أبي أيوب، عن عطاء بن دينار في قول الله: "إن الذين كفروا
ينفقون أموالهم"، الآية، نزلت في أبي سفيان بن حرب. (5)
* * *
وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر.
* ذكر من قال ذلك:
16066 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن
الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" الآية، قال:
هم أهل بدر.
* * *
__________
(1) الذي في سيرة ابن هشام: " قال ابن إسحاق، ففيهم، كما ذكر
لي بعض أهل العلم "، ولم يسند الكلام إلى ابن عباس.
(2) الأثر: 16063 - سيرة ابن هشام 3: 64.
(3) في المطبوعة: " أن يعينوهم "، وفي سيرة ابن هشام: " يقووهم
بها "، بزيادة.
(4) الأثر: 16064 سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف
رقم: 16053.
(5) الأثر: 16065 - " سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري "، مضى
مرارًا آخرها رقم: 13178. وكان في المخطوطة: " سعيد بن أيوب "،
وصححه ناشر المطبوعة.
و" عطاء بن دينار الهذلي المصري "، مضى أيضًا برقم: 160،
13178، بمثل هذا الإسناد.
(13/533)
لِيَمِيزَ اللَّهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ
عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي
جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندي ما قلنا، وهو أن يقال: إن الله أخبرَ عن الذين كفروا به
من مشركي قريش، أنهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله. لم
يخبرنا بأيّ أولئك عَنى، غير أنه عم بالخبر "الذين كفروا".
وجائز أن يكون عَنَى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بأحد= وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم
ذلك ببدر= وجائز أن يكون عنى الفريقين. وإذا كان ذلك كذلك،
فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش.
* * *
القول في تأويل قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا
بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم، ليفرق
بينهم= وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم "الخبيث" = وبين
المؤمنين بالله وبرسوله، وهم "الطيبون"، كما سماهم جل ثناؤه.
فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته،
وأنزل أهل الكفر نارَه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
__________
(1) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف ص: 165، تعليق: 3، 4،
والمراجع هناك.
= وتفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) .
(13/534)
عن علي، عن ابن عباس قوله: "ليميز الله
الخبيث من الطيب" فميَّز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
16068 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر المشركين، وما يصنع بهم يوم
القيامة، فقال: "ليميز الله الخبيث من الطيب"، يقول: يميز
المؤمن من الكاف، فيجعل الخبيث بعضه على بعض.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: "فيجعل الخبيث بعضه على بعض"، فيحمل
الكفار بعضهم فوق بعض = "فيركمه جميعا"، يقول: فيجعلهم ركامًا،
وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا، كما قال جل ثناؤه في
صفة السحاب: ((ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكَامًا)) [سورة النور: 43] ، أي مجتمعًا كثيفًا، وكما:-
16069 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "فيركمه جميعًا"، قال: فيجمعه جميعًا بعضه على بعض.
* * *
وقوله: "فيجعله في جهنم" يقول: فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم=
فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله: "ليميز الله الخبيث"، ثم قال:
"أولئك هم الخاسرون"، فجمع، ولم يقل: "ذلك هو الخاسر"، فردَّه
إلى أول الخبر.
ويعني ب "أولئك"، الذين كفروا، وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون
أموالهم ليصدوا عن سبيل الله "هم الخاسرون"، ويعني بقوله:
"الخاسرون" الذين غُبنت صفقتهم، وخسرت تجارتهم. (1) وذلك أنهم
شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة، وتعجَّلوا بإنفاقهم
إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به، الخزيَ
والذلَّ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 12: 579، تعليق: 2،المراجع
هناك.
(13/535)
قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
"قل"، يا محمد، "للذين كفروا"، من مشركي قومك= "إن ينتهوا"،
عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال
المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان (1) = يغفر الله لهم ما قد خلا
ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة
رسوله بإيمانهم وتوبتهم (2) = "وإن يعودوا"، يقول: وإن يعد
هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر=
فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون
الخالية، (3) إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال
عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل
الذي أحللت بهم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16070- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "فقد مضت سنة الأولين"،
في قريش يوم بدر، وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16071 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف: 455، تعليق: 1 والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " سلف " فيما سلف 6: 14 \ 8: 138، 150 \ 11:
48.
(3) انظر تفسير " سنة " فيما سلف 7: 228 \ 8: 209.
(4) في المطبوعة: " اللذين أحلت بهم "، وفي المخطوطة سيئة
الكتابة، صوابها ما أثبت.
(13/536)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(39)
16072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16073 - حدثني ابن وكيع قال، (1) حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فقد مضت سنة الأولين"، قال: في قريش
وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16074 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في
قوله: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن
يعودوا" لحربك= "فقد مضت سنة الأولين"، أي: من قُتل منهم يوم
بدر. (2)
16075 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن يعودوا"، لقتالك= "فقد مضت سنة
الأولين"، من أهل بدر.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد
هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا
عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا
يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من
الأرض= وهو "الفتنة" (3) = "ويكون الدين
__________
(1) في المطبوعة: " حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن وكيع ... "،
وهو خطأ ظاهر، وصوابه من المخطوطة.
(2) الأثر: 16074 - سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16064.
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف: 486، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(13/537)
كله لله"، يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة
كلها لله خالصةً دون غيره. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16076 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يعني:
حتى لا يكون شرك.
16077 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة"، قال: "الفتنة"، الشرك.
16078 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يقول: قاتلوهم حتى لا يكون
شرك= "ويكون الدين كله لله"، حتى يقال: "لا إله إلا الله"،
عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دَعا.
16079 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى
لا يكون شرك.
16080 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك
بن فضالة، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"،
قال: حتى لا يكون بلاء.
__________
(1) وتفسير " الدين " فيما سلف 1: 155، 156 \ 6:273 - 275،
وغيرها في فهارس اللغة (دين) .
(13/538)
16081 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: "وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله"، أي: لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون
التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد.
(1)
16082 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون كفر=
"ويكون الدين كله لله"، لا يكون مع دينكم كفر.
16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثنا أبي قال،
حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد
الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة:
"سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد،
فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، أن الله أعطاه
النبوة، فنعم النبيُّ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله
خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانَا على ملته، وأماتنا
عليها، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من
الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم
إليه، (2) وكادوا
__________
(1) الأثر: 16081 - هذا نص ابن هشام في سيرته، من روايته عن
ابن إسحاق، فأنا أكاد أقطع أن هذا الخبر ملفق من خبرين:
أولهما هذا الإسناد الأول، سقط نص خبره.
والآخر إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحاق، وهو هذا، حدثنا ابن
حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:.. "، ثم هذا
السياق الذي هنا، وهو نص ما في ابن هشام.
انظر سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 12074.
(2) في المطبوعة: " لم ينفروا منه " غير ما في المخطوطة، وهو
مطابق لما في التاريخ.
(13/539)
يسمعون له، (1) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس
من الطائف من قريش، لهم أموال، أنكر ذلك ناسٌ، واشتدّوا عليه،
(2) وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة
الناس فتركوه، (3) إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك
ما قدّر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه
عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنةً شديدة
الزلزال (4) ، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم. فلما
فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له
"النجاشي"، لا يُظلم أحد بأرضه، (5) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك
[صلاح] ، (6) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها،
ومساكن لتِجَارهم (7) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا
ومَتْجَرًا حسنًا، (8) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم،
فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة، وخاف عليهم الفتن. (9)
ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم.
(10) ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم
ومَنَعتهم. (11) فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (12) وكانت الفتنة الأولى
هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل
أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن
والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم،
تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (13) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن
كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا
يأمنون بها، (14) وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من
الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل
المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت
ذلك قريش ذلك، تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم، (15)
فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت
الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض
الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم
في الخروج إليها= وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل
المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة
سبعون نقيبًا، (16) رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج، فبايعوه
بالعقبة، وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا، (17) وعلى أن
من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا.
فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي
أنزل الله فيها: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله
لله". (18)
16084 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد
الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير: أنه كتب
إلى الوليد: "أما بعد، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وعندي،
__________
(1) في المطبوعة: " وكانوا يسمعون "، غير ما في المخطوطة، وهو
مطابق للتاريخ.
(2) في المطبوعة: " أنكر ذلك عليه ناس "، زاد " عليه "، وفي
التاريخ: " أنكروا ذلك عليه "، ليس فيه " ناس ".
(3) في المطبوعة: " فانعطف عنه "، غير ما في المخطوطة عبثًا،
وهو مطابق لما في التاريخ و " انصفق عنه الناس "، رجعوا
وانصرفوا. و " انصفقوا عليه ": أطبقوا واجتمعوا، أصله من "
الصفقة "، وهو الاجتماع على الشيء. وإنما غير المعنى استعمال
الحرف، في الأول " عنه "، وفي الأخرى " عليه ". وهذا من محاسن
العربية.
(4) في المخطوطة: " شدودة الزلزال "، وهو سهو من الناسخ.
(5) في المخطوطة: " لا يظلم بأرضه "، وصححها لناشر وتصحيحه
مطابق لما في التاريخ.
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري.
(7) قوله: " ومساكن لتجارهم "، ليست في التاريخ، وفي المطبوعة:
" لتجارتهم "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وابن كثير.
(8) في المطبوعة: " رتاعًا من الرزق "، خالف المخطوطة، لأنها
غير منقوطة، وهي مطابقة لما في التاريخ. و " الرفاغ " مصدر "
رفغ " (بفتح فضم) ، وهو قياس العربية، والذي في المعاجم "
رفاغة ". يقال: " إنه لفي رفاغة من العيش "، و " رفاغية " (على
وزن: ثمانية) : سعة من العيش وطيب وخصب. و " عيش رافغ ".
(9) في المطبوعة والمخطوطة: " وخافوا عليهم الفتن "، والجيد ما
أثبته من التاريخ.
(10) في التاريخ: " فمكث بذلك سنوات "، وهي أجود.
(11) إلى هذا الموضع، انتهي ما رواه أبو جعفر في تاريخه 2:
220، 221، إلا أنه لم يذكر في ختام الجملة " ومنعتهم ".
وقوله: " ومنعتهم " (بفتحات) ، جمع " مانع "، مثل " كافر " و "
كفرة "، وهم الذين يمنعون من يرديهم بسوء.
وانظر تخريج الخبر في آخر هذا الأثر.
(12) " الاسترخاء "، السعة والسهولة. " استرخوا عنهم "، أرخوا
عنهم شدة العذاب والفتنة.
(13) في المطبوعة: " تحدث بهذا الاسترخاء عنهم "، وفي المخطوطة
هكذا: " تحددوا استرخائهم عنهم "، وأثبت الصواب من تفسير ابن
كثير.
(14) من أول قوله: " فلما رأوا ذلك استرخوا ... "، إلى هذا
الموضع، لم يذكره أبو جعفر في تاريخه، ثم يروي ما بعده، كما
سأبينه بعد في التعليق.
(15) في المطبوعة والمخطوطة: " توامرت على أن يفتنوهم "، وأثبت
ما في التاريخ. أما ابن كثير في تفسيره فنقل: " توامروا على أن
يفتنوهم ". وفي المطبوعة وحدها: " ويشدوا عليهم "، وأثبت ما في
التاريخ وابن كثير.
و" تذامر القوم "، حرض بعضهم بعضًا وحثه على قتال أو غيره. و "
ذمر حزبه تذميرًا "، شجعه وحثه، مع لوم واستبطاء.
(16) في المطبوعة: " سبعون نفسًا "، وفي المخطوطة؛ " سبعين
نفسًا "، غير منقوطة، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري،
وتفسير ابن كثير.
(17) في المطبوعة والمخطوطة: " وأعطوه على أنا منك.. "، سقط من
الكلام " عهودهم "، أثبتها من التاريخ، وفي تفسير ابن كثير "
وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ".
(18) الأثر: 16083 - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد
العطار "، وقد سلف شرح هذا الإسناد: 15719، 15821، وغيرهما
إسناد صحيح.
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في
تفسيره، وفي تاريخه، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم: 15719،
15821 أما في تاريخه، فقد رواه مفرقًا في مواضع، هذه هي 2:
220، 221، 240، 241، 245، 267 - 269 \ ثم 3: 117، 125، 132،
وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ،
حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا، فهو من أوائل
الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر نفسه، مفرق في موضعين من التاريخ 2: 220، 221 كما
أشرت إليه في ص: 443 تعليق: 1 \ ثم 2: 240، 241.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4: 61، 62.
ثم انظر التعليق على الأثر التالي.
(13/540)
بحمد الله، من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني
عنه، وسأخبرك إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم ذكر
نحوه. (1)
16085- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
قيس، عن الأعمش، عن مجاهد: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال:
"يَسَاف" و"نائلة"، صنمان كانا يعبدان. (2)
* * *
وأما قوله: "فإن انتهوا"، فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة،
وهي الشرك بالله، وصارُوا إلى الدين الحق معكم (3) = "فإن الله
بما يعملون بصير"، يقول: فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من
ترك الكفر والدخول في دين الإسلام، (4) لأنه يبصركم ويبصر
أعمالكم، (5) والأشياء كلها متجلية له، لا تغيب عنه، ولا
__________
(1) الأثر: 16084 - " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، هو " عبد
الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان "، مضى برقم: 1695، 9225، وقال
أخي السيد أحمد أنه ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة. ثم قال: وقد
وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن 3: 59: "
هو ثقة حافظ ".
وممن ضعف " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ابن معين قال: " ليس
ممن يحتج به أصحاب الحديث،ليس بشيء ". وقال أحمد: " مضطرب
الحديث "، وقال ابن المديني " كان عند أصحابنا ضعيفًا "، وقال
ابن المديني: " ما حدث به بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد
أفسده البغداديون ". وقال ابن سعد: " كان كثير الحديث، وكان
يضعف لروايته عن أبيه ".
وأبوه " عبد الله بن ذكوان "، أبو الزناد، ثقة، روى له
الجماعة.
وقد روى " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، أن الذي كتب إليه عروة،
هو " الوليد بن عبد الملك ابن مروان "، والإسناد السالف أصح
واوثق، أنه كتب إلى " عبد الملك بن مروان "، فأنا أخشى أن يكون
هذا الخبر مما اضطربت فيه رواية " ابن أبي الزناد "، عن أبيه.
(2) " إساف " (بكسر اللف وفتحها) و " يساف " (بكسر الياء
وفتحها) ، واحد. وقد مضى ذلك في الخبر: 10433، والتعليق عليه
9: 208، تعليق: 1.
وكان في المخطوطة هنا: " ساف ونافلة "، وهو خطأ محض.
(3) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف ص: 536، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .
(5) في المطبوعة: " يبصركم "، والصواب من المخطوطة.
(13/543)
وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في
الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك، فإن انتهوا عن القتال.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب، لأن المشركين
وإن انتهوا عن القتال، فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى
يسلموا.
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
(40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما
دعوتموهم إليه، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله، وترك
قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم،
فقاتلوهم، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم (1) = "نعم
المولى"، هو لكم، يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه (2) = "ونعم
النصير"، وهو الناصر. (3)
* * *
16086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وإن
تولوا"، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، فإن الله هو مولاكم
الذي أعزكم
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف (9: 141) تعليق: ... ،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(3) انظر تفسير " النصير " فيما سلف 10: 481، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(13/544)
ونصركم عليهم يوم بدر، في كثرة عددهم وقلة
عددكم= "نعم المولى ونعم النصير". (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18086 - سيرة ابن هشام 2: 327، مع اختلاف يسير في
سياقه، وهو تابع الأثريين السالفين: 16074، 16081، وانظر
التعليق على هذا الأثر الأخير، وما استظهرته هناك.
(13/545)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ
بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ
غنائمهم إذا غنموها.
يقول تعالى ذكره: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ما غنمتم من
غنيمة.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى "الغنيمة" و"الفيء".
فقال بعضهم: فيهما معنيان، كل واحد منهما غير صاحبه.
* ذكر من قال ذلك:
16087 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن
الحسن بن صالح قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية:
"واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، وهذه الآية: ((مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [سورة الحشر: 7] ، قال قلت:
ما "الفيء"، وما "الغنيمة"؟ قال: إذا ظهر المسلمون على
المشركين وعلى أرضهم، وأخذوهم عنوةً، فما أخذوا من مال ظهروا
عليه فهو "غنيمة"، وأما الأرض فهو في سوادنا هذا "فيء". (1)
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة"، ما أخذ عنوة، و"الفيء"، ما كان عن صلح.
* ذكر من قال ذلك:
16088 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان الثوري قال:
__________
(1) في المطبوعة: " فهي في سوادنا "، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو مستقيم.
(13/545)
"الغنيمة"، ما أصاب المسلمون عنوة بقتال،
فيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن شهدها. و"الفيء"، ما صولحوا عليه
بغير قتال، وليس فيه خمس، هو لمن سمَّى الله.
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة" و"الفيء"، بمعنى واحد. وقالوا: هذه
الآية التي في "الأنفال"، ناسخة قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ)) الآية، [سورة الحشر: 7] .
* ذكر من قال ذلك:
16089 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة في قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ،
قال: كان الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في "سورة الأنفال"، فقال:
"واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فنسخت هذه ما كان قبلها في
"سورة الأنفال"، (1) وجعل الخمس لمن كان له الفيء في "سورة
الحشر"، وسائر ذلك لمن قاتل عليه. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى "الغنيمة"، وأنها المال يوصل إليه من مال من
خوّل الله مالَه أهلَ دينه، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. (3)
* * *
فأما "الفيء"، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل
الشرك، وهو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " ما كان قبلها في سورة الحشر "،
وسيأتي على الصواب كما أثبته في تفسير " سورة الحشر " 28: 25
(بولاق) ، ويعني بذلك أنها نسخت قوله في أول سورة الأنفال: "
يسألونك عن الأنفال ".
(2) الأثر: 16089 - سيأتي هذا الخبر مطولا في تفسير " سورة
الحشر " 28: 25، 26 (بولاق) .
(3) انظر تفسير " الغنيمة " فيما سلف في تفسير " النفل " ص:
361 - 385.
(13/546)
ما ردّه عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل
ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم
ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم "فيئًا"، لأن "الفيء"، إنما هو
مصدر من قول القائل: "فاء الشيء يفيء فيئًا"، إذا رجع= و"أفاءه
الله"، إذا ردّه. (1)
غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في "سورة الحشر"،
(2) إنما هو ما وصفت صفته من الفيء، دون ما أوجف عليه منه
بالخيل والركاب، لعلل قد بينتها في كتاب: (كتاب لطيف القول، في
أحكام شرائع الدين) ، وسنبينه أيضًا في تفسير "سورة الحشر"،
إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. (3)
* * *
وأما قول من قال: الآية التي في "سورة الأنفال"، ناسخةٌ الآيةَ
التي في "سورة الحشر"، فلا معنى له، إذ كان لا معنى في إحدى
الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى "النسخ"، وهو نفي حكم
قد ثبت بحكمٍ خلافه، في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (4)
* * *
وأما قوله: "من شيء"، فإنه مرادٌ به: كل ما وقع عليه اسم
"شيء"، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من
المشركين، مما وقع فيه القَسْم، حتى الخيط والمِخْيط، (5)
كما:-
16090 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " فاء " فيما سلف 4: 465، 466.
(2) في المطبوعة: " ... الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه
في سورة الحشر "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا
تامًا.
(3) انظر ما سيأتي 28: 24 - 27 (بولاق) .
(4) انظر مقالته في " النسخ " في فهارس النحو والعربية
وغيرهما، وفي مواضع فيها مراجع ذلك كله في كتابه هذا.
(5) " المخيط "، الإبرة، وهو ما خيط به.
(13/547)
سفيان، عن ليث، عن مجاهد قوله: "واعلموا
أنما غنمتم من شيء"، قال: المخيط من "الشيء".
16091- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن
مجاهد بمثله.
16092- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل قال، حدثنا
سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم قوله: "فأن لله خمسه"، مفتاحُ كلامٍ، (1) ولله
الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فإن للرسول
خمسه.
* ذكر من قال ذلك:
16093 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا
أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: هذا مفتاح
كلامٍ، لله الدنيا والآخرة.
16094- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن
مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة.
(2)
__________
(1) يعني أنه افتتاح بذكر الله تعالى ذكره، وانظر ما سلف 6:
272، تعليق: 5.
(2) الأثران: 16093، 16094 - " الحسن بن محمد "، هو " الحسن بن
محمد بن علي بن أبي طالب "، وهو " الحسن بن محمد بن الحنيفة "،
وهو الذي يروي عنه " قيس بن مسلم "، لا يعني " الحسن البصري ".
وهذا الخبر رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: 14،
326، 330، رقم: 39، 836، 846 وسيأتي مطولا برقم: 16121.
(13/548)
16095- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن
يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن
ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية
فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ:
"واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول". قال:
وقوله: "فأن لله خمسه"، مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في
الأرض، فجعل الله سهم الله وسهم الرسول واحدًا. (1)
16096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:
"فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء.
16097 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء، وخُمس لله ورسوله، ويقسم
ما سوى ذلك على أربعة أسهم.
16098 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قال: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة
أخماس لمن قاتل
__________
(1) الأثر: 16095 - " أحمد بن يونس "، هو " أحمد بن عبد الله
بن يونس التميمي "، مضى برقم: 2144، 2362، 5080.
و" أبو شهاب "، هو " عبد ربه بن نافع الكناني "، الحناط، ثقة،
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 42.
و" ورقاء "، هو " ورقاء بن عمرو اليشكري "، مضى برقم: 6534.
و" نهشل "، هو " نهشل بن سعيد بن وردان النيسابوري "، ليس
بثقة، وقال أبو حاتم: " ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث
"، وقال ابن حبان: " يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا
يحل كتب حديثه إلا على التعجب ".
وقال البخاري: " أحاديثه مناكير، قال إسحاق بن إبراهيم: ككان
نهشل كذابًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 115، وابن
أبي حاتم 4 \ 1 \ 496، وميزان الاعتدال 3: 243.
وانظر الخبر رقم: 16120.
وكان في المطبوعة: " فجعل سهم الله "، غير ما في المخطوطة
وحذف، فأثبت ما في المخطوطة.
(13/549)
عليها، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس،
فخمس لله والرسول.
16099 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا
أبان، عن الحسن قال: أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله،
وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه.
16100 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد
الملك، عن عطاء: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
وللرسول"، قال: خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي صلى الله
عليه وسلم يحمل منه ويضع فيه ما شاء. (1)
16101- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة،
عن المغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم: "واعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه"، قال: كل شيء لله، الخمس للرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول.
* ذكر من قال ذلك:
16102 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن الجراح، عن أبي
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤتَى بالغنيمة، فيقسمها
على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب
بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة، وهو سهم
الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم
__________
(1) في المطبوعة: " ويصنع فيه "، وأثبت ما في المخطوطة. وقد
قرأت في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، في خبر آخر: "
يحمل منه ويعطي، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء " ص 14، 326،
رقم: 40، 837.
(13/550)
للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى،
وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
16103- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس، عن أبي العالية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء
فأن لله خمسه"، إلى آخر الآية، قال: فكان يُجَاء بالغنيمة
فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم، فيجعل
أربعة بين الناس، ويأخذ سهمًا، ثم يضرب بيده في جميع ذلك
السهم، فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سُمِّي
لله، ويقول: "لا تجعلوا لله نصيبًا، فإن لله الدنيا والآخرة،
ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم،
وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن
السبيل. (1)
* * *
وقال آخرون: ما سُمِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك،
فإنما هو مرادٌ به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
* ذكر من قال ذلك:
16104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس،
فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع
لله والرسول ولذي القربى = يعني قرابة النبي صلى الله عليه
وسلم = فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه
وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا.
والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع
لابن السبيل. (2)
* * *
__________
(1) الأثران: 16102، 16013 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في
كتاب الأموال، من طريق حجاج، عن أبي جعفر الرازي، بمثل لفظ
الأول. كتاب الأموال: 14، 325، رقم 400، 835.
(2) الأثر: 16104 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، بهذا
الإسناد نفسه، وبلفظه، في كتاب الأموال ص: 13، 325، رقم: 37،
834، وفي آخره تفسير " ابن السبيل "، قال: " وهو الضعيف الفقير
الذي ينزل بالمسلمين ".
وانظر ما سيأتي رقم: 16124، 16129.
(13/551)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك
بالصواب، قولُ من قال: قوله: "فأن لله خمسه"، "افتتاح كلام"،
وذلك لإجماع الحجة على أنّ الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم،
ولو كان لله فيه سهم، كما قال أبو العالية، لوجب أن يكون خمس
الغنيمة مقسومًا على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه
على خمسة فما دونها، فأما على أكثر من ذلك، فما لا نعلم قائلا
قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية. وفي إجماع من
ذكرت، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما اخترنا.
* * *
فأما من قال: "سهم الرسول لذوي القربى"، فقد أوجب للرسول
سهمًا، وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته، فلم
يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم، وقد:-
16105 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"،
الآية، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة
جعلت أخماسًا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي.
وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى
واليتامى وللمساكين وابن السبيل (1) فكان هذا الخمس خمسة
أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى، وخمس
للمساكين. وخمس لابن السبيل.
__________
(1) في المخطوطة خطأ، أسقط " لرسوله " الثانية، والكلام
يقتضيها كما في المطبوعة، وعلى هامش المخطوطة حرف " أ " عليها
ثلاث نقط، دلالة على موضع السقط.
(13/552)
16106 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت يحيى
بن الجزار عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو خُمْس
الخمس. (1)
16107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، وجرير عن موسى بن
أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
16108 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
16109 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس،
والخمس الباقي لله والرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسه لذوي
القربى، وخمسه لليتامى، وخمسة للمساكين، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وأما قوله: "ولذي القربى"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني
هاشم.
* ذكر من قال ذلك:
16110 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شريك، عن خصيف، عن
مجاهد قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم
الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس.
16111- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم
وأهلُ
__________
(1) الأثر: 16106 - " موسى بن أبي عائشة المخزومي "، روى له
الجماعة، مضى برقم: 11408.
و" يحيى بن الجزار العرفي "، ثقة، مضى برقم: 5425.
وكان في المخطوطة: " يحيى الجزار "، والصواب ما في المطبوعة،
ولكنه يأتي في الذي يليه في المخطوطة على الصواب.
ورواه أبو عبيد في الأموال ص: 13، رقم: 34، 35، وص: 324، رقم:
831، 832.
(13/553)
بيته لا يأكلون الصدقة، فجعل لهم خمس
الخمس.
16112 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد
السلام، عن خصيف، عن مجاهد قال: قد علم الله أنّ في بني هاشم
الفقراء، فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة.
16113 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا إسماعيل بن أبان قال،
حدثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال،
قال علي بن الحسين، رحمة الله عليه، لرجل من أهل الشأم: أما
قرأت في "الأنفال": "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
وللرسول" الآية؟ قال: نعم! قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم! (1)
16114 - حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد قال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة.
16115 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو
معاوية، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن نَجْدة كتب إليه
يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه كتابًا: "نزعم أنا نحن هم،
فأبى ذلك علينا قومنا". (2)
__________
(1) الأثر: 16113 - " إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي "، ثقة،
صدوق في الرواية، قال البزار: " إنما كان عيبه شدة تشيعه، لا
أنه غير عليه في السماع "، وإما "إسماعيل بن أبان الغنوي "،
فهو كذاب، ومضى إسماعيل الوراق برقم: 14550.
وأمَّا " صباح بن يحيى المزني "، فهو شيعي أيضُا، متروك، بل
متهم، هكذا قال الحافظ ابن حجر والذهبي. وذكره البخاري، فقال:
" فيه نظر "، وقال أبو حاتم: " شيخ ". مترجم في لسان الميزان
3: 160، والكبير 2 \ 2 \ 315، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 442،
وميزان الاعتدال 1: 462.
وأمَّا " أبو الديلم "، فلم أعرف من يكون، وهكذا أثبته من
المخطوطة، وهو في لمطبوعة: " عن ابن الديلمي "، يعني " عبد
الله بن فيروز الديلمي "، التابعي الثقة، ولا أظن أنه يروي عن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وهذا إسناد هالك كما ترى.
(2) الأثر: 16115 - " نجدة ابن عويمر الحروري "، من رؤوس
الخوارج.
وكتاب ابن عباس إلى نجدة، رواه أبو عبيدة في كتاب الأموال من
طرق ص: 332 - 335، رقم: 850 - 852، وانظر ما سيأتي رقم: 16117.
(13/554)
16116- ... قال: حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر
البأس، والخمس الباقي لله، وللرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسٌ
لذوي القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وقال آخرون: بل هم قريش كلها.
* ذكر من قال ذلك:
16117 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني عبد الله بن
نافع، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى ابن
عباس يسأله عن ذي القربى قال: فكتب إليه ابن عباس: "قد كنا
نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو
قربى". (1)
* * *
وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده.
* ذكر من قال ذلك:
16118- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طُعْمة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، (2) فلما توفي جُعل
لوليّ الأمر من بعده.
* * *
وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب
خاصةً.
__________
(1) الأثر: 11617 - انظر التعليق السالف، من طريق أبي معشر،
رواه أبو عبيد رقم: 850، مطولا، بنحوه.
(2) " الطعمة " (بضم الطاء) : الرزق والمأكلة، يعني به الفيء.
(13/555)
وممن قال ذلك الشافعي، وكانت علته في ذلك
ما:
16119 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
محمد بن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير
بن مطعم قال: لما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي
القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن
عفان رحمة الله عليه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو
هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت
إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك
بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام،
إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله صلى
الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من
قال: "سهم ذي القربى، كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب"، لأنّ حليف القوم منهم،
ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين= أعني سهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى= بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فقال بعضهم: يُصرفان في معونة الإسلام وأهله.
* ذكر من قال ذلك:
16120 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا
أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:
جُعل
__________
(1) الأثر: 16119 - رواه الشافعي في الأم من طرق، منها طريق
محمد بن إسحاق، انظر الأم: 4: 71، ورواه أبو داود في سننه 3:
201، رقم: 2980، وأبو عبيد القاسم ابن سلام في الأموال: 331،
رقم: 842.
(13/556)
سهم الله وسهم الرسول واحدًا، ولذي القربى،
فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح. وجعل سهم اليتامى
والمساكين وابن السبيل، لا يُعْطَى غيرَهم. (1)
16121- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا
أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى"، قال:
هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين
السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قائلون:
سهم النبي صلى الله عليه وسلم، لقرابة النبي صلى الله عليه
وسلم = وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة= واجتمع رأيهم
أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا
على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
16122 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد، فذكر نحوه.
(2)
16123 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن
إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم
النبي صلى الله عليه وسلم في الكُرَاع والسلاح. (3) فقلت
لإبراهيم: ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليٌّ
أشدَّهم فيه.
16124 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء
فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين" الآية،
قال ابن عباس: فكانت
__________
(1) الأثر: 16120 - هذا مطول الأثر السالف ومختصره رقم: 16095،
وقد شرحت إسناده هناك.
(2) الأثران: 16121، 16122 - " الحسن بن محمد بن الحنفية "،
وقد سلف شرح إسناد هذا الخبر، كما سلف مختصرًا برقم: 16093،
16094.
(3) " الكراع " (بضم الكاف) . اسم يجمع الخيل والسلاح.
(13/557)
الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: أربعة بين من
قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: لله وللرسول ولذي
القربى= يعني: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم = فما كان لله
وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. فلما قبض الله رسوله صلى
الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في
المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله، لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقا. (1)
16125- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلما تُوُفي، حمل عليه أبو بكر وعمر في
سبيل الله، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ولي أمر
المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
16126 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
عمرو بن ثابت، عن عمران بن ظبيان، عن حُكَيم بن سعد، عن علي
رضي الله عنه قال: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس، ويلي الإمام
سهم الله ورسوله. (3)
__________
(1) الأثر: 16124 - مضى قبل صدره برقم: 16104، ومضى تخريجه
هناك، وانظر أيضًا من تمامه رقم: 16129.
(2) الأثر: 16125 - انظر ما سلف رقم: 16118، وما سيأتي 16127.
(3) الأثر: 16126 - " عمران بن ظبيان الحنفي "، فيه نظر، كان
يميل إلى التشيع، وضعفه العقيلي، وابن عدي، مترجم في التهذيب،
وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 300، مضى برقم: 12100.
و" حكيم بن سعد الحنفي "، " أبو تحيى "، محله الصدق. مترجم في
التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 87، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286.
و" حكيم "، بضم الحاء، مصغرًا. و " تحيي " بكسر التاء.
(13/558)
16127 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذوي القربى
فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا،
فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. (1)
* * *
وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس،
والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن
السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
16128 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد
الغفار قال، حدثنا المنهال بن عمرو قال: سألت عبد الله بن محمد
بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي: إن
الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فقالا يتامانَا
ومساكيننا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس، والخمس مقسوم على
أربعة أسهم، على ما روي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى
سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجبَ الخمس
لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد
أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حق أهل
الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما
غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في
كتابه بفقد بعض من يستحقه، إلى غير أهل السهمان الأخَر.
* * *
__________
(1) الأثر: 16127 - مضى بلفظه، برقم: 16118، وانظر ما سلف:
16125.
(13/559)
وأما "اليتامى"، فهم أطفال المسلمين الذين
قد هلك آباؤهم. (1)
و"المساكين"، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. (2)
و"ابن السبيل"، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به، (3) كما:-
16129 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الخمس الرابع لابن السبيل،
وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ
وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون، أنما
غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته، وصدِّقوا به إن كنتم
أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله
عليه وسلم يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر، (5) فأبان فَلَج
المؤمنين وظهورَهم على عدوهم، وذلك "يوم التقى الجمعان"، جمعُ
المؤمنين وجمعُ المشركين، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم
بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء = "قدير"، لا يمتنع
عليه شيء أراده. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف 7: 541، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف 10: 544، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف 8: 346، 347، تعليق:
1، والمراجع هناك.
وقوله: " انقطع به " بالبناء للمجهول، وهو إذا عجز عن سفره من
نفقة ذهبت، أو عطبت راحلته، أو فنى زاده.
(4) الأثر: 16129 - انظر ما سلف رقم: 16104، 16124، والتعليق
عليهما.
(5) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ص: 487، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) .
(13/560)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان"، يعني: ب"الفرقان"،
يوم بدر، فرَق الله فيه بين الحق والباطل.
16131 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1)
16132 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث
قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير= وإسحاق قال،
حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير=
يزيد أحدهما على صاحبه= في قوله: "يوم الفرقان"، يوم فرق الله
بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة،
فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا
والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين،
وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
16132م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن مقسم: "يوم الفرقان"، قال: يوم بدر، فرق الله بين
الحق والباطل.
16133- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم في قوله: "يوم
الفرقان"، قال: يوم
__________
(1) الأثر: 16131 - انظر هذا الخبر بنصه فيما سلف رقم: 125.
(13/561)
بدر، فرق الله بين الحق والباطل. (1)
16134 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان" يوم بدر، و"بدر"، بين المدينة ومكة.
16135 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثني
يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي،
عن أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب قال: قال الحسن بن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة "الفرقان يوم التقى
الجمعان"، لسبع عشرة من شهر رمضان. (2)
16136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: "يوم التقى الجمعان"، قال ابن جريج، قال
ابن كثير: يوم بدر.
16137 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما
أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان"، أي: يوم
فرقت بين الحق والباطل بقدرتي، (3) يوم التقى الجمعان منكم
ومنهم. (4)
__________
(1) (1) الأثر: 16133 " عثمان الجزري "، مضى برقم: 15968، وأنه
غير " عثمان ابن عمرو بن ساج ". وأحاديثه مناكير.
(2) الأثر: 16135 - " يحيى بن يعقوب بن مدرك الأنصاري "، أبو
طالب القاص، مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 312، وابن أبي حاتم 4 \ 2
\ 198، ولسان الميزان 6: 282، وميزان الاعتدال 3: 306، قال
البخاري: " منكر الحديث "، وقال أبو حاتم: " محله الصدق، لم
يرو شيئا منكرًا، وهو ثقة في الحديث، أدخله البخاري في كتاب
الضعفاء "، قال ابن أبي حاتم: " فسمعت أبي يقول: يحول من هناك
".
و" أبو عون "، " محمد بن عبيد الله الثقفي "، مضى مرارًا آخرها
رقم: 15925، وكان في المطبوعة: " عن ابن عون، عن محمد بن عبد
الله الثقفي "، فأفسد الإسناد كل الإفساد، وكان في المخطوطة: "
عن ابن عون، محمد بن عبيد الله الثقفي "، وهو خطأ هين، صوابه
ما أثبت.
(3) في المطبوعة: " أي: يوم فرق بين الحق والباطل ببدر، أي:
يوم التقى الجمعان "، لعب بما في المخطوطة لعبًا، فأساء وجانب
الأمانة. ولم يكن في المخطوطة من خطأ إلا أنه كتب " فرق " مكان
" فرقت ". والذي أثبته نص المخطوطة، وسيرة ابن هشام.
(4) الأثر: 16137 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16086.
(13/562)
إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى
وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ
اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
16138 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان"،
وذاكم يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا، أيها المؤمنون،
واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم، إن كنتم آمنتم
بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحق والباطل من
نصر رسوله= "إذ أنتم"، حينئذ، "بالعدوة الدنيا"، يقول: بشفير
الوادي الأدنى إلى المدينة (1) = "وهم بالعدوة القصوى"، يقول:
وعدوكم من المشركين نزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة=
"والركب أسفل منكم"، يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في
موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16139 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا"، قال: شفير الوادي
الأدنى، وهم بشفير الوادي الأقصى= "والركب أسفل منكم"، قال:
أبو سفيان وأصحابه، أسفلَ منهم.
__________
(1) " شفير الوادي ": ناحية من أعلاه، وهو حده وحرفه.
(13/563)
16140- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم
بالعدوة القصوى"، وهما شفير الوادي. كان نبيُّ الله بأعلى
الوادي، والمشركون أسفلَه = "والركب أسفل منكم"، يعني: أبا
سفيان، [انحدر بالعير على حوزته] ، (1) حتى قدم بها مكة.
16141 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ
أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، من الوادي إلى مكة=
"والركب أسفل منكم"، أي: عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها
وخرجوا ليمنعوها، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. (2)
16142 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "والركب أسفل منكم"،
قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشأم تجارًا، لم يشعروا
بأصحاب بدر، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش، ولا
كفار قريش بمحمد وأصحابه، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم
كلهم. (3) فاقتتلوا، (4) فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فأسروهم.
16143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
16144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) هكذا كتب هذه الجملة بين القوسين ناشر المطبوعة، ولا أدري
ما هو. والذي في المخطوطة: " انخدم بالعير على حورمة " هكذا،
ولم أستطع أن أجد لقراءتها وجهًا اطمئن غليه، ولم أجد الخبر في
مكان آخر.
(2) الأثر: 16141 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16137.
(3) (3) في المطبوعة: " حتى التقيا "، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " فاقتتلوا "، مكررة في المخطوطة مرتين، وأنا في ريب من
هذه الجملة كلها.
(13/564)
16145 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر منازل
القوم والعير فقال: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة
القصوى"، والركب: هو أبو سفيان (1) = "أسفل منكم"، على شاطئ
البحر.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ أنتم بالعدوة".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين: (بِالعُدْوَةِ) ، بضم
العين.
* * *
وقرأه بعض المكيين والبصريين: (بِالعِدْوَةِ) ، بكسر العين.
* * *
قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيبٌ، يُنْشَد بيت الراعي:
وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا كَمَا نَظَرَ العِدْوَةَ
الجُؤْذَرُ (2)
بكسر العين من "العدوة"، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر:
وَفَارِس لَوْ تَحُلُّ الخَيْلُ عِدْوَتَهُ وَلَّوْا سِرَاعًا،
وَمَا هَمُّوا بِإقْبَالِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ
فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولا}
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع
الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن
ميعاد منكم ومنهم، = "لاختلفتم في الميعاد"، لكثرة عدد عدوكم،
وقلة عددكم، ولكن الله جمعكم
__________
(1) في المطبوعة: " أبو سفيان وعيره "، زاد ما ليس في
المخطوطة.
(2) لم أجد البيت في مكان آخر، وللراعي أبيات كثيرة مفرقة على
هذا الوزن، كأنه منها.
(3) من قصيدته في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي، والبيت في منتهى
الطلب، وليس في ديوانه، يقول قبله: أمْ مَلِعَادِيَةٍ تردِي
مُلَمْلَمَةٍ ... كأنَّهَا عَارِضٌ في هَضْبِ أوْعالِ
لَهَا لَمَّا رأوك عَلَى نَهْدٍ مَرَاكِلُهُ ... يَسْعَى
بِبزِّ كَمِيٍّ غَيْرِ مِعْزَالِ
وَفَارِسٍ لا يَحُلُّ القَوْمُ عُدْوَتَهُ ... . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
وهذه أجود من روايته " لو تحل "، فالنفي هنا حق الكلام.
(13/565)
على غير ميعاد بينكم وبينهم (1) = "ليقضي
الله أمرًا كان مفعولا"، وذلك القضاء من الله، (2) كان نصره
أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر
بالقتل والأسر، كما:-
16146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولو
تواعدتم لاختلفتم في الميعاد"، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم
ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم= "ولكن
ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته،
من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، عن غير مَلأ
منكم، (3) ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. (4)
16147 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:،أخبرني يونس بن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله
بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك
يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون يريدون عِيَر قريش،
__________
(1) انظر تفسير " الميعاد " فيما سلف 6: 222
(2) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف 11: 267، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " عن غير بلاء "، وفي سيرة ابن هشام، في أصل
المطبوعة مثله، وهو كلام فاسد جدًا. وفي مخطوطة الطبري،
ومخطوطات ابن هشام ومطبوعة أوربا،: " عن غير ملأ "، كما
أثبتها.
يقال: " ما كان هذا الأمر عن ملأ منا "، أي: عن تشاور واجتماع.
وفي حديث عمر حين طعن: " أكان هذا عن ملأ منكم؟ "، أي: عن
مشاورة من أشرافكم وجماعتكم.
ثم غير ناشر المطبوعة الكلمة التي بعدها، كتب " فعل "، مكان "
ففعل ". وكل هذا عبث وذهاب ورع.
(4) الأثر: 16146 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16141.
(13/566)
حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير
ميعاد. (1)
16148 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمير
بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل
ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا
ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت
السُّقَاة. قال: ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 16147 - " " عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك
الأنصاري "، ثقة، روى عن أبيه. وروى عنه الزهري. كان أعلم قومه
وأوعاهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 249.
و" عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، كان قائد أبيه
حين عمى، روى عن أبيه. روى. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وروى عنه
الزهري. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 142.
وكان في المخطوطة: " إنما يخرج رسول الله "، وهو جيد عربي.
ولكنه في المراجع " إنما خرج "، فأثبته كما في المطبوعة.
وهذا الخبر جزء من خبر كعب بن مالك، الطويل في امر غزوة تبوك،
وما كان من تخلفه حتى تاب الله عليه.
ورواه أحمد في مسنده 3: 456، 457، 459 \ 6: 387.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86) .
ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق 17: 87.
(2) الأثر: 16148 - " ابن عون "، هو " عبد الله بن عون المزني
"، مضى مرارًا.
و" عمير بن إسحاق القرشي "، لم يرو عنه غير ابن عون، متكلم
فيه. مضى برقم: 7776.
وكان في المطبوعة: " عمر بن إسحاق "، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وقوله: " نهد الناس بعضهم لبعض "، نهضوا إلى القتال. يقال: "
نهد القوم إلى عدوهم، ولعدوهم "، أي: صمدوا له وشرعوا في
قتاله. و " نهدوا يسألونه "، أي: شرعوا ونهضوا.
وكأن ناشر المطبوعة لم يفهمها أو لم يحسن قراءتها، فكتب مكان "
نهد ": " نظر الناس ... "، وهذا من طول عبثه بهذا النص الجليل،
حتى ألف العبث واستمر عليه واستمرأه.
(13/567)
القول في تأويل قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك، ليقضي
أمرًا كان مفعولا= "ليهلك من هلك عن بينة".
* * *
وهذه اللام في قوله: "ليهلك" مكررة على "اللام" في قوله:
"ليقضي"، كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعكم.
* * *
ويعني بقوله: "ليهلك من هلك عن بينة"، ليموت من مات من خلقه،
(1) عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها
(2) = "ويحيا من حي عن بينة"، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة
لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمعنا بينكم وبين عدوكم
هنالك.
* * *
وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
16149 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليهلك
من هلك عن بينة"، [أي ليكفر من كفر بعد الحجة] ، (3) لما رأى
من الآية والعبرة، (4) ويؤمن من آمن على مثل ذلك. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هلك " فيما سلف ص: 149، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " بينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، أضفتها من سيرة ابن
هشام.
(4) في المطبوعة: " من الآيات والعبر "، وفي المخطوطة: " من
الآيات والعبرة "، وأثبت الصواب من سيرة ابن هشام.
(5) الأثر: 16149 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16146.
(13/568)
إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
وأما قوله: "وإن الله لسميع عليم"، فإن
معناه: "وإن الله"، أيها المؤمنون، = "لسميع"، لقولكم وقول
غيركم، حين يُري الله نبيه في منامه ويريكم، عدوكم في أعينكم
قليلا وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلا= "عليم"، بما
تضمره نفوسكم، وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. (1)
يقول جل ثناؤه لهم ولعباده: فاتقوا ربكم، (2) أيها الناس، في
منطقكم: أن تنطقوا بغير حق، وفي قلوبكم: أن تعتقدوا فيها غيرَ
الرُّشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما
يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدوك وعدوهم "في
منامك قليلا"، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك، حتى
قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم= ولو أراك ربك عدوك
وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك، فجبنوا وخاموا، (3) ولم يقدروا
على حرب القوم، (4) ولتنازعوا في ذلك، (5) ولكن الله
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة
(سمع) ، (علم) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " واتقوا " بالواو، و " والفاء "،
هنا حق الكلام.
(3) في المطبوعة: " فجبنوا وخافوا "، غير ما في المخطوطة.
يقال: " خام في القتال "، إذا جبن، فنكل ونكص وتراجع.
(4) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7: 168، 289.
(5) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف 7: 289 \ 8: 504.
(13/569)
سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا،
إنه عليم بما تُجنُّه الصدور، (1) لا يخفى عليه شيء مما تضمره
القلوب. (2)
* * *
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"،
أي: في عينك التي تنام بها= فصيّر "المنام"، هو العين، كأنه
أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16150 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إذ يريكهم الله في منامك
قليلا"، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم.
16151- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
16152-....وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16153 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ
يريكهم الله في منامك قليلا"، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك
نعمةً من نعمه عليهم، شجعهم بها على عدوهم، وكفَّ بها ما
تُخُوِّف عليهم من
__________
(1) في المطبوعة: " بما تخفيه الصدور "، غير ما في المخطوطة
بلا طائل، وهما بمعنى.
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7: 155، 325 \ 10: 94.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 247.
(13/570)
ضعفهم، (1) لعلمه بما فيهم. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ولكن الله سلم".
فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم
على عدوهم.
* ذكر من قال ذلك:
16154 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ولكن الله سلم"، يقول:
سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم.
* ذكر من قال ذلك:
16155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،
حدثنا معمر، عن قتادة: "ولكن الله سلم"، قال: سلم أمره فيهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن
عباس، وهو أن الله سلم القومَ = بما أرى نبيه صلى الله عليه
وسلم في منامه = من الفشل
__________
(1) في المطبوعة: و " كفاهم بها ما تخوف ... "، وفي المخطوطة:
" وكعها عنهم ما تخوف "، وصل الكلام، وأثبت نص ابن هشام. وضبطه
الخشني بالبناء للمجهول.
وفي السيرة، بعد تمام الكلام،: " قال ابن هشام: (تخوف) ، مبدلة
من كلمة ذكرها ابن إسحاق، ولم أذكرها ". فجاء أبو ذر الخشني في
تعليقه على السيرة فقال: " يقال الكلمة: (تخوف) ، بفتح التاء
والخاء والواو، وقيل: كانت (تخوفت) وأصلح ذلك ابن هشام، لشناعة
اللفظ في حق الله عز وجل ".
وهذا لا يقال، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها، فأبدل
منها غيرها، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان.
(2) الأثر: 16153 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16149.
(13/571)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ
إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ
فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
والتنازع، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على
حرب عدوهم. وذلك أن قوله: "ولكن الله سلم" عَقِيب قوله: "ولو
أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر"، فالذي هو أولى
بالخبر عنه، أنه سلمهم منه جل ثناؤه، ما كان مخوفًا منه لو لم
يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وإن الله لسميع عليم" = إذ
يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله
المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم، ويقلل
المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على
المؤمنين شوكتهم، كما:-
16156 - حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور،
عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد
قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم
سبعين؟ قال: أراهم مئة قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟
قال: ألفًا. (1)
16157- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بنحوه.
__________
(1) الأثر: 16156 - " ابن بزيع البغدادي "، هو " محمد بن عبد
الله بن بزيع البغدادي "، من شيوخ مسلم، مضى برقم: 2451، 3130،
10239.
وكان في المطبوعة: " كنا ألفًا "، زاد " كنا "، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو صواب محض.
(13/572)
16158 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "وإذ يريكموهم إذ التقيتم
في أعينكم قليلا"، قال ابن مسعود: قللوا في أعيننا، حتى قلت
لرجل: أتُرَاهم يكونون مئة؟
16159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد
انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه!
فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح،
ولكن خذوهم أخذًا، فاربطوهم بالحبال! = يقوله من القدرة في
نفسه.
* * *
وقوله: "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم
أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا
حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم،
أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم، لتكون
كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان
الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:-
16160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليقضي
الله أمرا كان مفعولا"، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن
أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من
أهل ولايته. (1)
* * *
= "وإلى الله ترجع الأمور"، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها
إليه في الآخرة، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ
بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
* * *
__________
(1) الأثر: 16160 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16153.
(13/573)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) }
قال أبو جعفر: وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به،
السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به، والأفعالَ التي
يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم.
ثم يقول لهم جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا الله
ورسوله = إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال،
(1) فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار
هاربين، إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم= "واذكروا
الله كثيرًا"، يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم،
وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره= "لعلكم تفلحون"، يقول: كيما
تنجحوا فتظفروا بعدوكم، ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم، (2)
كما:-
16161 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"، افترضَ الله ذكره عند أشغل
ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف.
16162 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: "يا
أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة"، يقاتلونكم في سبيل الله=
"فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا"، اذكروا الله الذي بذلتم له
أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم= "لعلكم تفلحون". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: 455، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 169، تعليق 2، والمراجع
هناك.
(3) الأثر: 16162 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 1616.
(13/574)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها
المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا
تخالفوهما في شيء = "ولا تنازعوا فتفشلوا"، يقول: ولا تختلفوا
فتفرقوا وتختلف قلوبكم (1) = "فتفشلوا"، يقول: فتضعفوا
وتجبنوا، (2) = "وتذهب ريحكم".
* * *
وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به (3)
"الريح مقبلةٌ عليه"، يعني بذلك: ما يحبه، ومن ذلك قول عبيد بن
الأبرص:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْلُ
لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ (4)
__________
(1) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف ص: 569، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفشل " ص: 569، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " مقبلا عليه ما يحبه "، زاد " عليه "، وليست
في المخطوطة.
(4) ديوانه: 49، من أبيات قبله، يقول: دَعَا مَعَاشِرَ
فَاسْتَكَّتْ مَسَامِعُهُمْ ... يَا لَهْفَ نَفْسِي لَوْ
تَدْعُو بَني أَسَدٍ
لا يَدَّعُونَ إذَا خَامَ الكُمَاةُ ولا ... إذَا السُّيُوفُ
بِأَيْدِي القَوْمِ كالْوَقْدِ
لَوْ هُمْ حُمَاتُكَ بالمحْمَى حَمَوْكَ وَلَمْ ... تُتْرَكْ
لِيَوْمٍ أقَامَ النَّاسَ في كَبَدِ
كَمَا حَمَيْنَاكَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . .
. . . . .. . . . .
والبيت الثاني من هذه الأبيات جاء في مخطوطة الديوان: " لا
يدَّعوا إذا حام الكماة ولا إذا.. "، فصححه الناشر المستشرق "
تدعوا إذن حامي الكماة لا كسلا "، فجاء بالغثاثة كلها في شطر
واحد. فيصحح كما أثبته. ويعني بقوله: " لا يدعون إذا خام
الكماة "، أي: لا يتنادون بترك الفرار، و " خام " نكص، كما قال
الآخر: تَنَادَوْا: يَا آلَ عَمْروٍ لا تَفِرُّوا! ...
فَقُلْنَا: لا فِرَارَ ولا صُدُودَا
و" النعف "، ما انحدر من حزونة الجبل. و " شطب " جبل في ديار
بني أسد.
(13/575)
يعني: من البأس والكثرة. (1)
* * *
وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا
ويدخلكم الوهن والخلل.
* * *
="واصبروا"، يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند
لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه = "إن الله مع الصابرين"،
يقول: اصبروا فإني معكم. (2)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16163- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وتذهب ريحكم"، قال:
نصركم. قال: وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، (3)
حين نازعوه يوم أحد.
16164- حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
"وتذهب ريحكم"، فذكر نحوه.
16165- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، نحوه= إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين
تركوه يوم أحد.
16166 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"،
قال:
__________
(1) في المخطوطة: " من الناس "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: 455، تعليق: 4، المراجع
هناك.
(3) في المطبوعة: " أصحاب رسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
(13/576)
حَدُّكم وجِدُّكم. (1)
16167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
"وتذهب ريحكم"، قال: ريح الحرب.
16168 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: "الريح"، النصر، لم يكن نصر قط إلا
بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم
قِوَام.
16169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولا
تنازعوا فتفشلوا"، أي: لا تختلفوا فيتفرق أمركم= "وتذهب
ريحكم"، فيذهب حَدُّكم (2) = "واصبروا إن الله مع الصابرين"،
أي: إني معكم إذا فعلتم ذلك. (3)
16170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، قال: الفشل، الضعف عن جهاد عدوه
والانكسار لهم، فذلك "الفشل".
__________
(1) في المطبوعة: " حربكم وجدكم "، وهي في المخطوطة توشك أن
تقرأ كما قرأها، ولكن الكتابة تدل على أنه أراد " حدكم "، و "
الحد " بأس الرجل ونفاذه في نجدته. يقال: " فلان ذو حد "، أي
بأس ونجدة. ولو قرئت: " وحدتكم "، كان صوابًا، " الحد "، و "
الحدة " (بكسر الحاء) ، واحد. وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة: " جدكم "، بالجيم، والصواب ما في سيرة ابن
هشام، وفيها " حدتكم "، وفي مخطوطاتها " حدكم "، وهما بمعنى،
كما أسلفت في التعليق قبله.
(3) الأثر: 16169 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16162.
(13/577)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(47) }
قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به
وبرسوله، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا
رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ
رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، (1) وقيل لهم: "انصرفوا فقد سلمت
العير التي جئتم لنصرتها! "، فأبوا وقالوا: "نأتي بدرًا فنشرب
بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها"، (2)
فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، كما-
16171 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال،
حدثنا أبان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: كانت قريش
قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قد جاءهم
راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم، وأن
ارجعوا. (3) فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون
قريشًا بالرجعة بالجُحفة، فقالوا: "والله لا نرجع حتى ننزل
بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ، ويرانا من غَشِينا من أهل
الحجاز، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا". وهم
الذين قال الله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"،
والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله،
وأخزى أئمة الكفر،
__________
(1) في المخطوطة: " بقرب العير "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: " وتتحدث بنا العرب لمكاننا فيها "، زاد ما
ليس في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " فارجعوا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
مطابق لما في التاريخ.
(13/578)
وشفى صدور المؤمنين منهم. (1)
16172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
= في حديث ذكره = قال، حدثني محمد بن مسلم، وعاصم بن عمر، (2)
وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير
وغيره من علمائنا، عن ابن عباس قال: لما رأى أبو سفيان أنه
أحرز عِيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم
ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا! فقال أبو جهل بن
هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا = وكان "بدر" موسمًا من
مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام = فنقيم عليه ثلاثًا،
وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا
القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا.
(3)
16173 - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: "ولا
تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، أي: لا
تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: "لا نرجع حتى نأتي
بدرًا، وننحر الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان،
وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا"، أي: لا يكونن أمركم
رياءً ولا سمعة، ولا التماس ما عند الناسَ، وأخلصوا لله النية
والحِسْبة في نصر دينكم، وموازرة نبيكم، أي: لا تعملوا إلا
لله، ولا تطلبوا غيره. (4)
16174 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن
موسى قال، أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا
أبو أحمد قال،
__________
(1) الأثر: 16171 - هذا من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك
بن مروان، الذي خرجته آنفًا من تاريخ الطبري مجموعًا برقم:
16083. وهذا القسم في تاريخ الطبري 2: 269.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " عاصم بن عمرو "، وهو خطأ، إنما
هو " عاصم بن عمر بن قتادة) ، سلف مرارًا، وانظر سيرة ابن هشام
2: 257.
(3) الأثر: 16172 - سيرة ابن هشام 2: 270، وتاريخ الطبري 2:
276، من أثر طويل.
(4) الأثر: 16173 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16169. وفي لفظه اختلاف يسير.
(13/579)
حدثنا إسرائيل= عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
"الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: أصحاب بدر.
16175- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "بطرًا ورئاء الناس"،
قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
16176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد مثله= قال ابن جريج، وقال عبد الله بن
كثير: هم مشركو قريش، وذلك خروجهم إلى بدر.
16177 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من
ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، يعني: المشركين الذي قاتلوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
16178 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: "خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: هم
قريش وأبو جهل وأصحابه، الذين خرجوا يوم بدر.
16179 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون
عن سبيل الله والله بما يعملون محيط"، قال: كان مشركو قريش
الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد
قيل لهم يومئذ: "ارجعوا، فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم". قالوا:
"لا والله، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! ". قال: وذكر
لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "اللهم إنّ
قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك"!
16180 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(13/580)
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر المشركين
وما يُطعِمُون على المياه فقال: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من
ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".
16181 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا"، قال: هم المشركون، خرجوا
إلى بدر أشرًا وبطرًا.
16182 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى
بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: "ولا تكونوا كالذين
خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله
بما يعملون محيط".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولا تكونوا، أيها المؤمنون
بالله ورسوله، في العمل بالرياء والسمعة، وترك إخلاص العمل
لله، واحتساب الأجر فيه، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله
الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم
وكثرة عددهم وشدة بطانتهم (1) = "ويصدون عن سبيل الله"، يقول:
ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام، بقتالهم إياهم،
وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله (2) = "والله بما
يعملون"، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله، وغير ذلك من
أفعالهم= "محيط"، يقول: عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه منه شيء،
وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية، لا يعزب عنه منها شيء، فهو
لهم بها معاقب، وعليها معذِّب. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الرئاء " فيما سلف 5: 521، 522 8: 356 / 9:
331.
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص: 529، تعليق 2، والمراجع
هناك.
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 9: 252، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(13/581)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذ زين لهم الشيطان
أعمالهم) ، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك
لهم، (1) كما:-
16183- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: جاء إبليس يوم
بدر في جُنْد من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني
مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، (2) فقال
الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم)
. فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من
التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولَّوا مدبرين. وأقبل
جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين،
انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا
سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف
الله والله شديد العقاب) ، وذلك حين رأى الملائكة.
__________
(1) انظر تفسير " زين " فيما سلف 12: 136، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة، حذف قوله: " والشيطان "، وساق الكلام سياقًا
واحدًا.
(13/7)
16184- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا،
أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى المشركين
إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ الشاعر، ثم
المدلجي، فجاء على فرس، فقال للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من
الناس) ! فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة، وهؤلاء كنانة
قد أتوكم!
16185- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق،
حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش
المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر =يعني من الحرب= فكاد
ذلك أن يثنيهم، (1) فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك]
بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: "أنا جار
لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم بشيء] تكرهونه"! فخرجوا
سراعا. (2)
16186- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق في
قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من
الناس وإني جار لكم) ، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه
بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، (3) حين ذكروا ما بينهم وبين بني
بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، (4) يقول
الله: (فلما تراءت الفئتان) ، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من
الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم = (نكص
على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، وصدق عدوّ
الله، إنه رأى ما لا يرون= وقال: (إني أخاف الله والله شديد
العقاب) ، فأوردهم ثم أسلمهم.
__________
(1) في المطبوعة: " أن يثبطهم "، غير ما في المخطوطة، وهو
مطابق لما في السيرة.
(2) الأثر: 16185 - سيرة ابن هشام 2: 263، والزيادة بين
الأقواس منها.
(3) في المطبوعة، حذف " لهم "، وهي ثابتة في المخطوطة وسيرة
ابن هشام.
(4) في المطبوعة: " من الحرب "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق
لما في سيرة ابن هشام. والناشر كما تعلم وترى، كثير العبث
بكلام أهل العلم.
(13/8)
قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل
في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم
بدر والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص: "الحارث بن هشام"
أو: "عمير بن وهب الجمحي"، فذُكر أحدهما، فقال: أينَ، أيْ
سُرَاقَ! "، (1) ومثَل عدوُّ الله فذهب. (2)
16187- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، إلى قوله:
(شديد العقاب) ، قال: ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه
الملائكة، فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة، وقال:
(إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) ، وكذب والله عدو الله، ما
به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة
عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، (3) حتى إذا التقى الحق
والباطل أسلمهم شر مُسْلَم، (4) وتبرأ منهم عند ذلك.
16188- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)
الآية، قال: لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع
المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني
جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص
على عقبيه =قال: رجع مدبرًا= وقال: (إني أرى ما لا ترون) ،
الآية.
16189- حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد
العزيز
__________
(1) هذه الجملة والتي تليها غيرها الناشر كل التغير، فكتب: "
فقال: أين سراقة! أسلمنا عدو الله وذهب ". والذي في المخطوطة
مطابق لما في سيرة ابن هشام ". وقوله: " مثل "، أي: انتصب
ونهض.
(2) الأثر: 16186 - سيرة ابن هشام 2: 318، 319، وأخر صدر الخبر
فجعله في آخره. وهذا الخبر لم يروه ابن هشام في سياق تفسير هذه
الآيات في سيرته 2: 329، تابعًا للأثر السالف رقم: 16173، بل
ذكر الآية ثم قال: " وقد مضى تفسير هذه الآية ".
(3) في المطبوعة: " واستعاذ به "، غير ما في المخطوطة بسوء
أمانته ورأيه. و " استقاد له "، انقاد له وأطاعه.
(4) " مسلم " (بضم فسكون ففتح) مصدر ميمي، بمعنى " الإسلام ".
(13/9)
بن الماجشون قال، حدثنا مالك، عن إبراهيم
بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يومًا هو فيه أصغرُ، ولا
أحقرُ، ولا أدحرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من
تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يا
رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: "أما إنه رأى جبريل يَزَعُ
الملائكة. (1)
16190- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا
سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن الحسن في قوله: (إني
أرى ما لا ترون) قال: رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ، (2) يمشي بين
يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام، ما رَكبَ.
16191- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا
سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قال الحسن، وتلا هذه
الآية: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: سار إبليس
مع المشركين ببدر برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن
أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين
__________
(1) الأثر: 16189 - رواه مالك في الموطأ: 422، بنحو هذا اللفظ،
وانظر التقصي لابن عبد البر: 12، 13.
" أحمد بن الفرج بن سليمان الحمصي "، شيخ الطبري، مضى برقم:
6899، 15377. و " عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون التيمي
"، فقيه المدينة ومفتيها في زمانه، وهو فقيه ابن فقيه، وهو
ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 358.
و" إبراهيم بن أبي عبلة الرملي "، مضى برقم: 11014.
و" طلحة بن عبيد الله بن كريز بن جابر الكعبي "، كان قليل
الحديث، مضى برقم: 15585.
هذا خبر مرسل.
وقوله: " يزع الملائكة "، أي: يرتبهم ويسويهم، ويصفهم للحرب،
فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار، و " الوازع "، هو المقدم على
الجيش، الموكل بالصفوف وتدبير أمرهم، وترتيبهم في قتال العدو.
من قولهم: " وزعه "، أي: كفه وحبسه عن فعل أو غيره.
(2) " الاعتجار "، هو لف العمامة على استدارة الرأس، من غير
إدارة تحت الحنك. وإدارتها تحت الحنك هو " التلحي " (بتشديد
الحاء) .
(13/10)
آبائكم، (1) ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا
نكص على عقبيه =يقول: رجع مدبرًا= وقال: (إني بريء منكم إني
أرى ما لا ترون) ، يعني الملائكة.
16192- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
معشر، عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا:
إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك
بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر، ولا غالب لكم اليوم من
الناس.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه
الأحوال =وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون،
لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب
لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا = (وإني جار لكم) ، من
كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم، (2) أجيركم وأمنعكم منهم،
فلا تخافوهم، واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه (3) =
(فلما تراءت الفئتان) ، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من
المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض= (نكص
على عقبيه) ، يقول: رجع القهقري على قفاه هاربًا. (4)
* * *
يقال منه: "نكص ينكُص وينكِص نكوصًا"، ومنه قول زهير:
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا
يَنْكُصُون، إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا (5)
__________
(1) في المطبوعة: " لن يغلبكم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " فيغيركم "، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة،
وهذا صواب قراءتها بعد إصلاح فسادها.
(3) في المطبوعة: " جدكم " بالجيم، وانظر ما سلف ج 13 ص: 577،
تعليق: 1.
(4) انظر تفسير " العقب " فيما سلف 3: 163 \ 11: 450.
(5) ديوانه: 159، من قصيدته في هرم بن سنان، وهي من جياد شعره.
و " حبيك البيض "، طرائق حديده. و " البيض " جمع " بيضة "، هي
الخوذة من سلاح المحارب، على شكل بيضة النعام، يلبسها الفارس
على رأسه لتقيه ضرب السيوف والرماح. و " استلحم الرجل "
(بالبناء للمجهول) : إذا نشب في ملحمة القتال، فلم يجد مخلصًا.
وقوله: " وحموا "، من قولهم: " حمى من الشيء حمية ومحمية "،
إذا فارت نفسه وغلت، وأنف أن يقبل ما يراد به من ضيم، ومنه: "
أنف حمى ".
(13/11)
إِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ
هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
وقال للمشركين: (إني بريء منكم إني أرى ما
لا ترون) ، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددًا
للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم (1) = إني أخاف عقاب الله، وكذب
عدوُّ الله= (والله شديد العقاب) . (2)
القول في تأويل قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإن الله لسميع عليم) ، في
هذه الأحوال = (وإذ يقول المنافقون) ، وكرّ بقوله: (إذ يقول
المنافقون) ، على قوله: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) =
(والذين في قلوبهم مرض) ، يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ
يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم (3) = (غر هؤلاء دينهم) ،
يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم من أنفسهم، دينُهم (4) = وذلك الإسلام.
* * *
وذُكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم
بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.
__________
(1) انظر تفسير " بريء " فيما سلف من فهارس اللغة (برأ) .
(2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (عقب)
.
(3) انظر تفسير " مرض " فيما سلف 1: 278 - 281 \ 10: 404.
(4) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف 12: 475، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(13/12)
* ذكر من قال ذلك:
16193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عامر في هذه الآية: (إذ يقول المنافقون والذين في
قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا
بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين
قالوا: (غر هؤلاء دينهم) .
16194- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن
عامر، مثله. (1)
16195- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن
زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (إذ يقول المنافقون
والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم) ، قال: فئة من قريش:
أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، (2) وأبو قيس بن الفاكه بن
المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية
بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم
على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم قالوا: (غرّ هؤلاء دينهم) ، حتى قدموا على
ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرَّد بهم من
خلفهم. (3)
16196- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) الأثر: 16194 - " إسحاق بن شاهين الواسطي "، شيخ الطبري
مضى برقم: 7211، 9788. وكان في المخطوطة " أبو إسحاق بن شاهين
"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة. وكنيته " أبو بشر ".
(2) مكان " أبو قيس بن "، بياض في المخطوطة، وفوق البياض حرف
(ط) دلالة على الخطأ، وبعدها " الوليد بن المغيرة "، فكتب ناشر
المطبوعة: " قيس بن الوليد بن المغيرة "، وأخطأ، إنما هو " أبو
قيس بن الوليد "، وهو الذي شهد بدرًا، وقتله حمزة بن عبد
المطلب. فأثبته. والظاهر أن البياض لا يراد به إلا هذا الذي
أثبته، لا زيادة عليه.
(3) في المطبوعة، حذف " فشرد بهم من خلفهم "، وهي ثابتة في
المخطوطة.
(13/13)
معمر، عن الحسن: (إذ يقول المنافقون والذين
في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال
يوم بدر، فسموا "منافقين" =قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا
أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما
رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم) .
16197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) إلى قوله:
(فإن الله عزيز حكيم) ، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت
لأمر الله. (1) وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على
محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: "والله لا يُعبد الله
بعد اليوم! "، قسوة وعُتُوًّا.
16198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم
مرض) ، قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر، وهم
يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا.
16199- ... قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (إذ يقول
المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال: لما دنا القوم بعضهم
من بعض، فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلَّل
المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: (غر هؤلاء دينهم) ،
وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا
يشكون في ذلك، فقال الله: (ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز
حكيم) .
* * *
وأما قوله: (ومن يتوكل على الله) ، فإن معناه: ومن يسلم أمره
إلى الله،
__________
(1) في المطبوعة: " تشددت "، وفي المخطوطة: " تسردت "، وكأن
صواب قراءتها ما أثبت، " تشرد في الأرض " هرب ونفر، وكأنه يعني
هجرتهم إلى الله ورسوله. هكذا اجتهدت، والله أعلم.
(13/14)
وَلَوْ تَرَى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
(50)
ويثق به، ويرض بقضائه، فإن الله حافظه
وناصره (1) =لأنه "عزيز"، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجارُه
منيع، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ. (2)
وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله
وغيرهم، أن يفوِّضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم
أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم، لأنه "عزيز" غير مغلوب، فجاره
غير مقهور = "حكيم"، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا
يدخل تدبيره خلل. (3)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار،
فتنزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم:
ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 13: 385، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: ". . . عليه يكفه "، غير ما في المخطوطة، وهو
محض الصواب.
(3) انظر تفسير " عزيز "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة
(عزز) ، (حكم) .
(4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 13: 35، تعليق 5، والمراجع
هناك.
وتفسير " الأدبار " فيما سلف 13: 435، تعليق 2، والمراجع هناك.
وتفسير " الذوق " فيما سلف 13: 528، تعليق 2، والمراجع هناك.
وتفسير " الحريق " فيما سلف 7: 446، 447.
(13/15)
16200- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذ
يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال:
يوم بدر.
16201- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن
كثير، عن مجاهد: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: وأستاههم،
ولكن الله كريم يَكْنِي. (1)
16202- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن أبي
هاشم، عن مجاهد، في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال:
وأستاههم، ولكنه كريم يَكْنِي. (2)
16203- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال،
أخبرنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله:
(يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: إن الله كنى، ولو شاء لقال:
"أستاههم"، وإنما عنى ب "أدبارهم"، أستاههم.
16204- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: أستاههم، يوم بدر =قال ابن جريج، قال
ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا
وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
16205- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
عباد بن راشد، عن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت
بظهر
__________
(1) الأثر: 16201 - " يحيى بن سليم الطائفي "، ثقة، مضى برقم:
4894، 9788، وكان في المطبوعة: " يحيى بن أسلم "، وهو خطأ محض،
والمخطوطة مضطربة الكتابة. و " إسماعيل بن كثير الحجازي "،
ثقة، مضى برقم: 8929.
(2) في المطبوعة: " ولكن الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
(13/16)
ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (51)
أبي جهل مثل الشراك! (1) قال: ما ذاك؟ قال:
ضربُ الملائكة.
16206- حدثنا محمد قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل،
عن منصور، عن مجاهد: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه، (2) فنَدرَ رأسُه؟
(3) فقال: سبقك إليه الملك.
16207- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: حدثني حرملة: أنه
سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: (يضربون وجوههم
وأدبارهم) ، فإنما يريد: أستاههم. (4)
* * *
قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من
ذكره، وهو قوله: "ويقولون"، (ذوقوا عذاب الحريق) ، حذفت
"يقولون"، كما حذفت من قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 21] ، بمعنى:
يقولون: ربنا أبصرنا. (5)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء
المشركين الذين قتلوا ببدر، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم
وأدبارهم: "ذوقوا عذاب
__________
(1) " الشراك "، سير النعل الذي يكون على ظهرها.
(2) انظر ما أسلفت في تفسير " ذهب يفعل "، فيما سلف 11: 128،
تعليق: 1، ثم 11: 250، 251، وص 250 تعليق: 1.
(3) " ندر الشيء " سقط. يقال: " ضرب يده بالسيف فأندرها "، أي
قطعها فسقطت.
(4) الأثر: 16207 - " حرملة بن عمران التجيبي "، ثقة، مضى
برقم: 6890، 13240. و " عمر، مولى غفرة "، هو " عمر بن عبد
الله المدني "، أبو حفص، ليس به بأس، كان صاحب مرسلات ورقائق.
مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 119.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413.
(13/17)
كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
الله الذي يحرقكم"، هذا العذاب لكم = (بما
قدمت أيديكم) ، أي: بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار،
واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، (1) فذوقوا اليوم
العذابَ، وفي معادكم عذابَ الحريق; وذلك لكم بأن الله (ليس
بظلام للعبيد) ، لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه، ولا
يعذبه إلا بمعصيته إياه، لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه.
وفي فتح "أن" من قوله: (وأن الله) ، وجهان من الإعراب:
أحدهما: النصبُ، وهو للعطف على "ما" التي في قوله: (بما قدمت)
، بمعنى: (ذلك بما قدمت أيديكم) ، وبأن الله ليس بظلام للعبيد،
في قول بعضهم، والخفض، في قول بعضٍ.
والآخر: الرفع، على (ذلك بما قدمت) ، وذلك أن الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش
الذين قتلوا ببدر، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من
كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم، (3) ففعلنا بهم
كفعلنا بأولئك.
__________
(1) انظر تفسير " قدمت أيديكم " فيما سلف 2: 368 \ 7: 447 \ 8:
514 \ 10: 497.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413.
(3) انظر تفسير " آل " فيما سلف 2: 37 \ 6: 326.
(13/18)
وقد بينا فيما مضى أن "الدأب"، هو الشأن
والعادة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
16208- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا شيبان،
عن جابر، عن عامر ومجاهد وعطاء: (كدأب آل فرعون) كفعل آل
فرعون، كسُنَنِ آل فرعون.
* * *
وقوله: (فأخذهم الله بذننوبهم) ، يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم
حججه ورسله، ومعصيتهم ربهم، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين
قبلهم = (إن الله قوي) ، لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه رادٌّ،
يُنْفِذ أمره، ويُمضي قضاءه في خلقه =شديد عقابه لمن كفر
بآياته وجحد حُججه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف 6: 223 - 225.
(13/19)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا
بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، (1) وفعلنا ذلك بهم،
بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم
وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم
إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في
الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأخذ " فيما سلف من فهارس اللغة (أخذ) .
(14/19)
كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16209- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً
أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، يقول: "نعمة الله"،
محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم به على قريش، وكفروا، فنقله إلى
الأنصار.
* * *
وقوله: (وأن الله سميع عليم) ، يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام
خلقه، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ = (عليم) ،
بما تضمره صدورهم، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون،
إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: غير هؤلاء المشركون بالله،
المقتولون ببدر، نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم، بابتعاثه
محمدًا منهم وبين أظهرهم، داعيًا لهم إلى الهدى، بتكذيبهم
إياه، وحربهم له = (كدأب آل فرعون) ، كسنة آل فرعون وعادتهم
وفعلهم بموسى نبي الله، (2) في تكذيبهم إياه، وقصدهم لحربه،
(3) وعادة
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة
(سمع) ، (علم) .
(2) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف ص: 19، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
وتفسير " آل " فيما سلف ص: 18، تعليق 3، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " وتصديهم لحربه "، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو صواب محض.
(14/20)
إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا
يَتَّقُونَ (56)
من قبلهم من الأمم المكذبة رسلَها وصنيعهم
= (فأهلكناهم بذنوبهم) ، بعضًا بالرجفة، وبعضًا بالخسف، وبعضا
بالريح = (وأغرقنا آل فرعون) ، في اليم = (وكل كانوا ظالمين) ،
يقول: كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن
لهم فعله، من تكذيبهم رسلَ الله والجحود لآياته، فكذلك أهلكنا
هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر، إذ غيروا نعمة الله عندهم، بالقتل
بالسيف، وأذللنا بعضهم بالإسار والسِّبَاء.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن شر ما دبّ على الأرض عند
الله، (1) الذين كفروا بربهم، فجحدوا وحدانيته، وعبدوا غيره =
(فهم لا يؤمنون) ، يقول: فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا
يقرُّون بوحيه وتنزيله.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا
يَتَّقُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن شر الدواب عند الله الذين
كفروا) ، (الذين عاهدت منهم) ، يا محمد، يقول: أخذت عهودهم
ومواثيقهم أن لا يحاربوك، (2) ولا يظاهروا عليك محاربًا لك،
كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد
__________
(1) انظر تفسير " الداية " فيما سلف 3: 274، 275 \ 11: 344 \
13: 459.
(2) انظر تفسير " العهد " فيما سلف 13: 72، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(14/21)
فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
وعقد = (ثم ينقضون) ، عهودهم ومواثيقهم
كلما عاهدوك وواثقوك، (1) حاربوك وظاهروا عليك، (2) وهم لا
يتقون الله، ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم
وتهلكهم، كالذي:-
16210- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الذين عاهدت منهم ثم
ينقضون عهدهم) ، قال: قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق
أعداءه.
16211- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
(57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة
بعد مرة من قريظة، فتأسرهم، (3) = (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول:
فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك
وبينه عهد وعقد.
* * *
و"التشريد"، التطريد والتبديد والتفريق.
* * *
وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل
بالناقض العهد بينه
__________
(1) في المطبوعة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وفي
المخطوطة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وكأن الصواب ما
أثبت.
(2) انظر تفسير " النقض " فيما سلف 9: 363 \ 10: 125.
(3) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3: 564 \ 7: 110.
(14/22)
وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن
وراءهم، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد،
حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله
صفتهم في هذه الآية من نقض العهد.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16212- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإما تثقفنهم في
الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يعني: نكّل بهم من بعدهم.
16213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال:
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول:
نكل بهم من وراءهم.
16214- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ،
يقول: عظْ بهم من سواهم من الناس.
16215- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال:
حدثنا أسباط، عن السدي: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من
خلفهم) ، يقول: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ، لعلهم
يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك.
16216- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (فشرد بهم من خلفهم) ، قال:
أنذر بهم من خلفهم.
16217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
(14/23)
عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن
عباس قال: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم =قال ابن جريج، قال
عبد الله بن كثير: نكل بهم مَنْ وراءهم.
16218- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإما
تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) ، أي: نكل
بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (1)
16219- حُدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:
(فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من بعدهم.
16220- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال:
أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (2) [الأنفال: 60]
* * *
وأما قوله: (لعلهم يذكرون) ، فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت
بهؤلاء الذين وصفت صفتهم، (3) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك
وبينهم خوفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
* * *
__________
(1) الأثر: 16218 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16173، ثم هو في الحقيقة تابع الأثر السالف رقم:
16186، سيرة ابن هشام 2: 318، 319.
(2) الأثر: 16220 - انظر الأثر التالي رقم: 16242، والتعليق
عليه.
(3) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) .
(14/24)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
القول في تأويل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإما تخافن) ، يا محمد، من
عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر
بك =وذلك هو "الخيانة" والغدر (1) = (فانبذ إليهم على سواء) ،
يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت
العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة
منهم، (2) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم
محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر = (إن الله لا يحب
الخائنين) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن
يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه
العقد.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و"الخوف"
ظنٌّ = لا يقين؟ (3)
قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت
أمارُ الخيانة من عدوك، (4) وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد
السَّلم وآذنهم بالحرب. (5) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ
أجابوا أبا سفيان ومن معه من
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 13: 480، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النبذ " فيما سلف 2: 401، 402 \ 7: 459. وفي
المطبوعة: " آثار الغدر "، وأثبت ما في المخطوطة، و " الأمار "
و " الأمارة "، العلامة، ويقال: " أمار " جمع " أمارة ".
(3) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 11: 373، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " آثار الخيانة "، وأثبت ما في المخطوطة،
وانظر التعليق السالف رقم: 2.
(5) في المخطوطة: " وأد "، وبعدها بياض، صوابه ما في المطبوعة.
(14/25)
المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم، (1) بعد العهد الذي كانوا
عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة، ولن
يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. (2) فكانت إجابتهم
إياه إلى ذلك، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر
به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين، ظهر
لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها، فحقٌّ على إمام
المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء، ويؤذنهم بالحرب.
* * *
ومعنى قوله: (على سواء) ، أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل
فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (3)
* * *
وقيل: نزلت الآية في قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
16221- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانبذ إليهم على سواء) ،
قال: قريظة.
* * *
وقد كان بعضهم يقول: "السواء"، في هذا الموضع، المَهَل. (4)
* ذكر من قال ذلك:
16222- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: إنه
مما تبين لنا أن قوله: (فانبذ إليهم على سواء) ، أنه: على مهل
=كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله: (بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ
__________
(1) في المطبوعة: " ومحاربتهم معه "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: " ولم يقاتلوا "، وما في المطبوعة شبيه
بالصواب.
(3) انظر تفسير " السواء " فيما سلف 10: 488، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " وقد قال بعضهم "، غير الجملة كلها بلا شيء.
(14/26)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، [التوبة: 1-2]
* * *
وأما أهل العلم بكلام العرب، فإنهم في معناه مختلفون.
فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عدل =يعني: حتى يعتدل
علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا
لقولهم ذلك بقول الراجز: (1)
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوكَ إلَى
السَّوَاءِ (2)
يعني: إلى العدل.
* * *
وكان آخرون يقولون: معناه: الوسَط، من قول حسان:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ ورَهْطِهِ بَعْدَ الُمغيَّبِ
فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ (3)
بمعنى: في وسط اللَّحْد.
* * *
وكذلك هذه المعاني متقاربة، لأن "العدل"، وسط لا يعلو فوق الحق
ولا يقصّر عنه، وكذلك "الوسط" عدل، واستواء علم الفريقين فيما
عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، (4) عدل من الفعل ووسط. وأما
الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه: "المهل"، فما لا أعلم
له وجهًا في كلام العرب.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) كان في المطبوعة: " الغدر للأعداء ". وهو خطأ، صوابه من
المخطوطة و " الغدر " (بضمتين) ، جمع " غدور "، مثل " صبور "،
وهو الغادر المستمرئ للغدر.
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى 2: 496، تعليق 2.
(4) في المطبوعة: " واستواء الفريقين "، وفي المخطوطة "
واستواء على الفريقين ". وصواب قراءتها ما أثبت، وهو حق
المعنى.
(14/27)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: " وَلا تحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من
"إنهم"، وبالتاء في "تحسبن" =بمعنى: ولا تحسبن، يا محمد، الذين
كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله
عليهم فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد
تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ، بالياء في "يحسبن"، وكسر الألف من
(إِنَّهُمْ) .
* * *
وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، (1) أحدهما خروجها من قراءة
القرأة وشذوذها عنها =والآخر: بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك
أن "يحسب" يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره، كقوله: "عبد الله
يحسب أخاك قائمًا" و"يقوم" و"قام". فقارئ هذه القراءة أصحب
"يحسب" خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي: (2)
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا =فلم يفكر في
صواب مخرج الكلام وسُقمه، واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر
له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ
بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: " وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) هذه القراءة التي ردها أبو جعفر، هي قراءتنا اليوم.
(2) في المطبوعة: " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن "، فأتى بعجب
لا معنى له. وقول الطبري: " ظني "، يقول كما نقول اليوم: "
فيما أظن ".
(14/28)
أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا
يُعْجِزُونَ "، وهذا فصيح صحيح، إذا أدخلت "أنهم" في الكلام،
لأن "يحسبن" عاملة في "أنهم"، وإذا لم يكن في الكلام "أنهم"
كانت خالية من اسم تعمل فيه.
وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا
بعيدين من فصيح كلامهم:
أحدهما: أن يكون أريد به: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، أو:
أنهم سبقوا =ثم حذف "أن" و"أنهم"، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْ
آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، [الروم:
24] . بمعنى: أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة:
أَظُنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُتَيْبَةُ ذَاهِبًا بِعَادِيَّتِي
تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ (1)
__________
(1) ديوانه 473، من قصيدة ذكر فيها " المهاجر بن عبد الله
الكلابي " والي اليمامة، وكان للمهاجر عريف من السعاة بالبادية
يقال له: " رومي "، فاختلف ذو الرمة، وعتيبة بن طرثوث في بئر
عادية، فخاصم ذو الرمة إلى رومي، فقضى رومي لابن طرثوث قبل فصل
الخصومة، وكتب له بذلك سجلا، فقال ذو الرمة من قصيدته تلك،
برواية ديوانه: أقُولُ لِنَفْسِي، لا أُعَاتِبُ غَيْرَهَا ...
وَذُو اللُّبِّ مَهْمَا كَانَ، لِلنَّفْسِ قائِلُهْ
لَعَلَّ ابْنَ طُرْثُوثٍ عَتَيْبَةُ ذَاهِبٌ ... بِعَادِيَّتِي
تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ
بِقَاعٍ، مَنَعْنَاهُ ثَمَانينَ حِجَّةً ... وَبِضْعًا، لَنَا
أَحْرَاجُه وَمَسَايِلُهْ
ثم ذكر المهاجر بالذكر الجميل، ثم قال: يَعِزُّ، ابْنَ عَبْدِ
اللهِ، مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌ ... وَلا يَنْصُرُ الرَّحْمَنُ
مَنْ أنْتَ خَاذِلُهْ
إذَا خَافَ قَلْبِي جَوْرَ سَاعٍ وَظُلْمَهُ ... ذَكَرْتُكَ
أُخْرَى فَاطْمَأَنَّتْ بَلابِلُهْ
تَرَى اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ سَرِيرَةٌ ... لِعَبْدٍ، ولا
أَسْبَابُ أَمْرٍ يُحَاوِلهْ
لَقَدْ خَطَّ رُومِيٌّ، وَلا زَعَمَاتِهِ، ... لِعُتْبَةَ
خَطًّا لَمْ تُطَبَّقْ مَفَاصِلُهْ
بِغَيْرِ كتابٍ وَاضِحٍ مِنْ مُهَاجِرٍ ... وَلا مُقْعَدٍ
مِنِّي بخَصْمٍ أُجَادِلهْ
هذه قصة حية. وكان في المطبوعة: " عيينة "، والصواب من
الديوان، ومما يدل عليه الشعر السالف إذ سماه " عتبة "، ثم
صغره. و " العادية "، البئر القديمة، كأنها من زمن " عاد ". و
" التكذاب "، مصدر مثل " الكذب ". و " الجعائل "، الرشي، تجعل
للعامل المرتشي.
(14/29)
بمعنى: أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي
تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء، يوجه "سبقوا"
إلى "سابقين" على هذا المعنى. (1)
والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ "يحسب"، كأنه قال:
ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا =ثم حذف "أنهم" وأضمر. (2)
وقد وجه بعضهم معنى قوله: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ، [سورة آل عمران: 175] : إنما ذلكم
الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله:
"يخوف"، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الشأم: "وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
" بالتاء من "تحسبن" = (سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ،
بفتح الألف من "أنهم"، بمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا
يعجزون.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد
القارئ بـ "لا" التي في "يعجزون"، "لا" التي تدخل في الكلام
حشوًا وصلة، (4) فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبن الذين
كفروا سبقوا أنهم يعجزون =ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى
التطويل، (5) بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ:
__________
(1) انظر هذا في معاني القرآن للفراء 1: 414 - 416.
(2) كان في المطبوعة: " ثم حذف الهمز وأضمر "، وهو كلام لا
تفلته الخساسة. وصواب قراءة المخطوطة: " أنهم " كما أثبتها،
وهو واضح جدًا.
(3) انظر ما سلف 7: 417، تفسير هذه الآية.
(4) " الصلة "، الزيادة، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات
فيما سلف.
(5) " التطويل "، الزيادة أيضًا. انظر ما سلف 1: 118، 224،
405، 406، 440، 441، وهو هناك " التطول ".
(14/30)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ
مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(لا تَحْسَبَنَّ) ، بالتاء (الَّذِينَ
كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ) ، بكسر الألف من "إنهم"، (لا
يُعْجِزُونَ) ، بمعنى: ولا تحسبن أنت، يا محمد، الذين جحدوا
حجج الله وكذبوا بها، سبقونا بأنفسهم ففاتونا، إنهم لا
يعجزوننا =أي: يفوتوننا بأنفسهم، ولا يقدرون على الهرب منا،
(1) كما:-
16223- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا
يعجزون) ، يقول: لا يفوتون.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأعدوا) ، لهؤلاء الذين كفروا
بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها
المؤمنون بالله ورسوله = (ما استطعتم من قوة) ، يقول: ما أطقتم
أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، (2) من
السلاح والخيل= (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، يقول: تخيفون
بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16224- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أسامة
بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل من جهينة، يرفع الحديث إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)
، ألا إنَّ الرمي هو القوة، ألا إنّ الرمي هو القوة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " أعجز " فيما سلف 12: 128.
(2) انظر تفسير " الاستطاعة "، فيما سلف 4: 315 \ 9: 284.
(3) الأثر: 16224 - " ابن إدريس "، وهو " عبد الله بن إدريس
الأودي " الإمام، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "
أبو إدريس " وهو خطأ صرف.
و" أسامة بن زيد الليثي "، ثقة، مضى برقم: 2867، 3354.
و" صالح بن كيسان المدني "، روى له الجماعة، مضى برقم: 1020،
5321.
وسيأتي هذا الخبر من طرق أخرى رقم: 16226 - 16228، وسأذكرها
عند كل واحد منها، وانظر تخريج الخبر التالي.
(14/31)
16225- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سعيد بن
شرحبيل قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد
الكريم بن الحارث، عن أبي علي الهمداني: أنه سمع عقبة بن عامر
على المنبر يقول: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن
رباط الخيل) ، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول على المنبر: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ،
ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ثلاثا. (1)
__________
(1) الأثر: 16225 - " سعيد بن شرحبيل الكندي "، روى عنه
البخاري، وروى له النسائي وابن ماجه بالواسطة. ثقة. مترجم في
التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 442، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 33.
و" ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ومضى الكلام في أمر توثيقه.
و" يزيد بن أبي حبيب الأزدي المصري "، ثقة، روى له الجماعة،
مضى مرارًا آخرها: 11871.
و" عبد الكريم بن الحارث بن يزيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم
في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 60.
و" أبو علي الهمداني "، هو " ثمامة بن شفي الهمداني " المصري،
ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 177، وابن أبي حاتم 1
\ 1 \ 466.
وهذا إسناد فيه ضعف لمن ضعف ابن لهيعة، والطبري نفسه سيقول في
ص: 37، تعليق: 2، أنه سند فيه وهاء ".
بيد أن هذا الخبر روي من طرق صحيحة جدا:
رواه مسلم في صحيحه 13: 64، من طريق هارون بن معروف، عن ابن
وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثمامة بن شفي، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه 3: 20، رقم: 2514، من طريق سعيد بن
منصور، عن ابن وهب، بمثله.
ورواه ابن ماجه في سننه: 940 رقم: 2813، من طريق يونس بن عبد
الأعلى، عن ابن وهب بمثله.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 328، من طريق سعيد بن ابي أيوب،
عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، وقال: " هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين. ولك يخرجه البخاري، لأن صالح بن كيسان
أوقفه " ووافقه الذهبي.
(14/32)
16226- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محبوب،
وجعفر بن عون، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم=، عن أسامة بن
زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر الجهني قال:
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: (وأعدوا لهم ما
استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، فقال: "ألا إن القوة الرمي،
ألا إن القوة، الرمي" ثلاث مرات. (1)
16227- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن
صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر، فذكر نحوه. (2)
16228- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، عن النبي
صلى الله عليه وسلم، نحوه. (3)
16229- حدثنا أحمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
موسى بن عبيدة، عن أخيه، محمد بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن
عبيدة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، "ألا إن القوة الرمي. (4)
__________
(1) الأثر: 16226 - " محبوب "، هو " محبوب بن محرز القواريري
"، وثقه ابن حبان، وضعفه الدارقطني. مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 4 \ 1 \ 388.
و" جعفر بن عون المخزومي "، ثقة، أخرج له الجماعة، مضى برقم:
9506.
وهذا الخبر رواه الترمذي من طريق وكيع عن أسامة بن زيد، ثم
قال: " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أسامة بن زيد، عن صالح بن
كيسان، عن عقبة بن عامر، وحديث وكيع أصح، وصالح بن كيسان لم
يدرك عقبة بن عامر، وأدرك ابن عمر ". وانظر الخبر رقم: 16228.
(2) الأثر: 16227 - هو مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه، رواه
من هذه الطريق، الترمذي في سننه، كما سلف.
(3) الأثر: 16228 - هذا هو الحديث الذي أشار إليه الترمذي،
وقال فيه: " صالح بن كيسان، لم يدرك عقبة بن عامر ". انظر ما
سلف: 16226.
(4) الأثر: 16229 - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف
بمرة، لا تحل الرواية عنه. سلف مرارًا، آخرها رقم: 11811،
14045، روى عن أخويه " عبد الله " و " محمد " وأخوه " محمد بن
عبيدة بن نشيط الربذي "، لم أجد له ترجمة، وهو مذكور في ترجمة
أخيه " موسى "، وترجمة أخيه " عبد الله "، وأنه روى عنه. وكان
أكبر من أخيه موسى بثمانين سنة. وأخوه " عبد الله بن عبيدة بن
نشيط الربذي "، روى عن جماعة من الصحابة، وثقه بعضهم، وضعفه
آخرون، وقال أحمد: " موسى بن عبيدة وأخوه، لا يشتغل بهما ".
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 101.
(14/33)
16230- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
سفيان، عن شعبة بن دينار، عن عكرمة في قوله: (وأعدوا لهم ما
استطعتم من قوة) ، قال: الحصون = (ومن رباط الخيل) ، قال:
الإناث. (1)
16231- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن رجاء بن
أبي سلمة قال: لقي رجل مجاهدًا بمكة، ومع مجاهد جُوَالَق،، (2)
قال: فقال مجاهد: هذا من القوة! =ومجاهد يتجهز للغزو.
16232- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، من
سلاح.
* * *
وأما قوله: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) =
= فقال ابن وكيع:
16233- حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن
مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، قال: تخزون
به عدو الله وعدوكم.
16234- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
إسرائيل، عن عثمان، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
16235- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس:
(ترهبون به عدو الله
__________
(1) الأثر: 16230 - " شعبة بن دينار الكوفي "، روى عن مكرمة،
وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ثقة. مترجم في التهذيب،
والكبير 2 \ 2 \ 245، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 368.
(2) " الجوالق " (بضم الجيم، وفتح اللام أو كسرها) ، وعاء من
الأوعية، هو الذي نسميه اليوم في مصر محرفا " الشوال ".
(14/34)
وعدوكم) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم.
وكذا كان يقرؤها: (تُخْزُونَ) . (1)
16237- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، وخصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس:
(ترهبون به) ، تخزون به. (2)
16238- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
* * *
يقال منه: "أرهبت العدو، ورهَّبته، فأنا أرهبه وأرهِّبه،
إرهابًا وترهيبًا، وهو الرَّهَب والرُّهْب"، ومنه قول طفيل
الغنوي:
وَيْلُ أُمِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ بَنِي كِلابٍ
غَدَاة الرُّعْبِ والرَّهَبِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هؤلاء "الآخرين"، من هم،
وما هم؟
فقال بعضهم: هم بنو قريظة.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وكذا كان يقرؤها: ترهبون "،
والصواب الذي لا شك فيه هنا، هو " تخزون "، كما أثبتها، وقد
ذكر قراءة ابن عباس هذه، ابن خالويه في القراءات الشاذة: 50
(وفي المطبوعة خطأ، كتب: يجرون به عدو الله، والصواب ما أثبت)
، وقال أبو حيان في تفسيره 4: 512: " وقرأ ابن عباس، وعكرمة،
ومجاهد: " تخزون به "، مكان: ترهبون به = وذكرها الطبري على
وجه التفسير لا على وجه القراءة، وهو الذي ينبغي، لأنه مخالف
لسواد المصحف ".
قلت: وقد رأيت بعد أن الطبري ذكرها أيضًا على جهة القراءة، ولا
يستقيم نصه إلا بما أثبت.
(2) سقط من الترقيم: 16236، سهوًا.
(3) ديوانه: 56، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 249 يمدح بها بني
جعفر بن كلاب، من أبيات ثلاثة، مفردة.
(14/35)
16239- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا
ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين
من دونهم) ، يعني: من بني قريظة.
16240- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، قال:
قريظة.
* * *
وقال آخرون: من فارس.
* ذكر من قال ذلك:
16241- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله
يعلمهم) ، هؤلاء أهل فارس.
* * *
وقال آخرون: هم كل عدو للمسلمين، غير الذي أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
16242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال:
أخفهم بهم، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وآخرين من دونهم لا
تعلمونهم الله يعلمهم) . (1)
16243- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، قال: هؤلاء
المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم، يقولون: لا إله إلا الله،
ويغزون معكم.
* * *
__________
(1) الأثر: 16242 - هذا مكرر الأثر السالف رقم 16220، ولا أدري
فيم جاء به هنا مفردًا، وأما الأثر الذي عناه، فهو الذي يليه،
والظاهر أنه خطأ من الطبري نفسه في النقل. ولفظ هذا الخبر،
يخالف لفظ الخبر السالف قليلا.
(14/36)
وقال آخرون: هم قوم من الجنّ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر
المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد
عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط
الخيل =ولا وجه لأن يقال: عني بـ "القوة"، معنى دون معنى من
معاني "القوة"، وقد عمَّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن
ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إن القوة الرمي"؟ (1)
قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ
على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم،
فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن
القوة الرمي"، ولم يقل: "دون غيرها"، ومن "القوة" أيضًا السيف
والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين، كمعونة
الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء
سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وأما قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، فإن قول من قال:
عنى به الجن، أقربُ وأشبهُ بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل
بقوله: (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، الأمرَ
بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم، ولا شك
أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم، لعلمهم
بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم
لهم
__________
(1) انظر الآثار السالفة رقم: 16224 - 16229.
(2) هذه مرة أخرى تختلف فيها كتابة المخطوطة، فههنا: " وهاء "،
كما أثبتها، وكان في المطبوعة: " وهي "، وانظر ما كتبته ما سلف
9: 531، تعليق: 2.
ثم انظر ما قلته في تخريج الخبر السالف رقم: 16225، وما ذكرته
من الطريق الصحيحة في رواية هذا الخبر.
(14/37)
أعداءً: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ،
ولكن معنى ذلك إن شاء الله: ترهبون بارتباطكم، أيها المؤمنون،
الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم
لكم، لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني
آدم، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم، لأن بني
آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجن، وأن الجن لا
تقرب دارًا فيها فرس. (1)
* * *
فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه
المنافقون، فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون؟
قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم،
وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا
يستسرُّون من الكفر، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب
العدو، فأما من لم يرهبه ذلك، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد
ذلك له المؤمنون. وقيل: "لا تعلمونهم"، فاكتفي لـ "العلم"،
بمنصوب واحد في هذا الموضع، لأنه أريد: لا تعرفونهم، كما قال
الشاعر: (2)
__________
(1) ذكر ابن كثير في تفسيره خبرين، أحدهما رواه ابن أبي حاتم،
عن زيد بن عبد الله بن عريب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: هم الجن، في هذه الآية ثم قال رواه
الطبراني، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبل
بيت فيه عتيق الخيل "، (انظر الإصابة: ترجمة عريب) ، ثم قال
ابن كثير: " هذا الحديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه ". وانظر
القرطبي 8: 38.
وهذا الذي قاله الطبري، رده العلماء من قوله، وحق لهم. وقد رجح
ابن كثير وأبو حبان (4: 513) ، أن المعنى بذلك هم المنافقون،
وهو القول الذي رده أبو جعفر فيما يلي، ورد أبي جعفر رد محكم.
فإن كان لنا أن نختار، فإني أختار أن يكون عني بذلك، من خفي
على المؤمنين أمره من أهل الشرك، كنصارى الشأم وغيرهم، ممن لم
ينظر المؤمنون عدواتهم بعد، وهي آتية سوف يرونها عيانًا بعد
قليل. وفي الكلام فضل بحث ليس هذا مكانه، والآية عامة لا أدري
كيف يخصصها أبو جعفر، بخبر لا حجة فيه.
(2) هو النمر بن تولب العكلي.
(14/38)
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا
وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلانا (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
(60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم، أيها المؤمنون، من
نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من
النفقات، (2) في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم
في الدنيا، ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفِّيكموها
يوم القيامة (3) (وأنتم لا تظلمون) ، يقول: يفعل ذلك بكم ربكم،
فلا يضيع أجوركم عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الاقتضاب: 303، المفصل الزمخشري: 88. وكان النمر بن تولب،
نازع رجلا يقال له " وهب "، من قومه، في بئر تدعى " الدحول "
(بالحاء المهملة) ، في أرض عكل، نميرة الماء، يقول فيها من هذه
الأبيات: ولكنَّ الدَّحُولَ إذَا أتَاهَا ... عِجَافُ المَالِ
تتْرُكُهُ سِمَانَا
وكان النمر سقاه منها، فلم يشكر له، وخان الأمانة ونازعه فيها
فقال: يُريدُ خِيَانَتِي وَهْبٌ، وأَرْجُو ... مِنَ اللهِ
البراءَةَ وَالأمَانَا
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا ... وَيَعْلَمُ أَنْ
سَيَلقَاهُ كِلانَا
وَإنَّ بَنِي رَبِيعَةَ بَعْدَ وَهْبٍ ... كَرَاعِي البَيْتِ
يَحْفَظُهُ فخانَا
وكان البيت في المطبوعة والمخطوطة: فإن اللهَ يعلمني ... وأَنا
سوف يلقاهُ كلانا
(2) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) .
(3) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 12: 224، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(14/39)
وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
16244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق، (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم
لا تظلمون) ، أي لا يضيع لكم عند الله أجرُه في الآخرة، وعاجل
خَلَفه في الدنيا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم
بالحرب = (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، وإن مالوا إلى مسالمتك
ومتاركتك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية،
وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (2) = (فاجنح
لها) ، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك
وسألوكه.
* * *
يقال منه: "جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا"، وهي لتميم
وقيس، فيما ذكر عنها، تقول: "يجنُح"، بضم النون، وآخرون:
يقولون: "يَجْنِح" بكسر النون، وذلك إذا مال، ومنه قول نابغة
بني ذبيان:
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إذَا مَا التَقَى
الجمْعانِ أَوَّلُ غَالِبِ (3)
جوانح: موائل.
* * *
__________
(1) الأثر: 16244 - سيرة ابن هشام 2: 329، 330، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16218.
(2) انظر تفسير " السلم " فيما سلف 4: 251 - 255.
(3) ديوانه: 43، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج،
حين هرب إلى الشأم، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة،
وقبله، ذكر فيها غارة جيشه، والنسور التي تتبع الجيش: إذَا مَا
غَزَوْا بِالجَيْشِ، حَلَّقَ فَوْقَهُمْ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ
تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
يُصَاحبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهم ... مِنَ
الضَّارِيَاتِ بالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ
تَرَاهُنَّ خَلْفَ القومِ خُزْرًا عُيُونهَا ... جُلُوسَ
الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ
جَوانِحَ قَدْ أيْقَنَّ. . . . . . . ... . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وهذا من جيد الشعر وخالصه.
(14/40)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16245- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة
التوبة: 5]
16246- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إلى الصلح= (فاجنح لها) ، قال:
وكانت هذه قبل "براءة"، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم
يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ
ذلك بعد في "براءة" فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقال: (قاتلوا المشركين كافة) ، [سورة
التوبة: 36] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى
يقولوا "لا إله إلا الله" ويسلموا، وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك.
وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها، وكل صلح يصالح به
المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن "براءة" جاءت بنسخ ذلك،
فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: "لا إله إلا الله".
16247- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا (وإن جنحوا للسلم فاجنح
لها) ، نسختها الآية التي في "براءة" قوله: (قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)
، إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29]
(14/41)
16248- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها) ، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.
16249- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها) ، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام=
فصالحهم عليه. (1)
16250- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، قال: فصالحهم. قال: وهذا
قد نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه
الآية منسوخة، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة
عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا
يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف
ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (2)
وقول الله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. (وإن جنحوا
للسلم فاجنح لها) ، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إنما عني به
بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه
للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية
منهم.
وأما قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان،
الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى
__________
(1) الأثر: 16249 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16244، وفي السيرة: " إلى السلم على الإسلام ".
(2) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف 11: 209، وما بعده وما
قبله في فهارس الكتاب، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها.
(14/42)
الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما
محكمة فيما أنزلت فيه.
16251- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم) ، قال:
قريظة.
* * *
وأما قوله: (وتوكل على الله) ، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد،
أمرك، واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (1) كالذي:-
16252- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتوكل
على الله) ، إن الله كافيك. (2)
* * *
وقوله: (إنه هو السميع العليم) ، يعني بذلك: إن الله الذي
تتوكل عليه، "سميع"، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ
من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، وما يشترط كل
فريق منكم على صاحبه من الشروط (3) ="العليم"، بما يضمره كل
فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمر
ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 15 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) الأثر: 16252 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16249.
(3) في المطبوعة: " ويشرط كل فريق. . . "، وفي المخطوطة: "
ويشترط. . . "، والصواب بينهما ما أثبت.
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة
(سمع) ، (علم) .
(14/43)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن يرد، يا محمد، هؤلاء الذين
أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة، وبمسالمتهم
إن جنحوا للسلم، خداعَك والمكرَ بك (1) = (فإن حسبك الله) ،
يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك، (2) لأنه متكفل
بإظهار دينك على الأديان، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا
وكلمة أعدائه السفلى = (هو الذي أيدك بنصره) ، يقول: الله الذي
قواك بنصره إياك على أعدائه (3) = (وبالمؤمنين) ، يعني
بالأنصار.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16253- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، (وإن يريدوا أن يخدعوك) ،
قال: قريظة.
16254- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن
يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) ، هو من وراء ذلك. (4)
16255- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (هو الذي أيدك بنصره) ، قال: بالأنصار.
__________
(1) انظر تفسير " الخداع " فيما سلف 1: 273 - 277، 302 \ 9:
329.
(2) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف 11: 137، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 13: 377، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(4) الأثر: 16254 - سيرة ابن هشام، 2: 331، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16252.
(14/44)
وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
القول في تأويل قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) }
قال أبو جعفر: يريد جل ثناؤه بقوله: (وألف بين قلوبهم) ، وجمع
بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، على
دينه الحق، فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا، وإخوانًا
بعد أن كانوا أعداء.
وقوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ،
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت، يا
محمد، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض، ما جمعت أنت
بين قلوبهم بحيْلك، (1) ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت
واجتمعت، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول
جل ثناؤه: والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا
وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ
منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه، فثق به وامض لأمره، وتوكل
عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16256- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وألف بين قلوبهم) ، قال: هؤلاء
الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم. (2)
__________
(1) " الحيل " (بفتح فسكون) ، القوة، مثل " الحول "، يقال: "
إنه لشديد الحيل "، وفي الحديث: " اللهم ذا الحيل الشديد ".
وهو لا يزال يستعمل كذلك في عامية مصر.
(2) ما بين " من بعد حرب " و " فيما كان بينهم "، بياض في
المخطوطة، فيه معقوفة بالحمرة، لا أدري أهو بياض تركه لسقط، أم
هو سهو من الناسخ ملأه بالحمرة.
(14/45)
16257- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا
محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن بشير بن ثابت، رجل من
الأنصار: أنه قال في هذه الآية: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا
ما ألفت بين قلوبهم) ، يعني: الأنصار (1)
16258- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وألف
بين قلوبهم) ، على الهدى الذي بعثك به إليهم = (لو أنفقت ما في
الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) ، بدينه
الذي جمعهم عليه =يعني الأوس والخزرج. (2)
16259- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن إبراهيم
الخوزيّ، عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى
المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد: بمصافحةٍ يغفر
لهما؟ (3) فقال مجاهد: أما سمعته يقول: (لو أنفقت ما في الأرض
جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم
مني. (4)
16260- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد، عن
أبي عمرو قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد، ولقيته وأخذ
بيدي فقال: إذا تراءى المتحابَّان في الله، (5) فأخذ أحدهما
بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتّت
__________
(1) الأثر: 16257 - " بشير بن ثابت الأنصاري "، مولى النعمان "
بن بشير "، ذكره ابن حبان في الثقات. روى عنه شعبة. مترجم في
التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 97، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 372.
(2) الأثر: 16258 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16254.
(3) في المخطوطة: " يغفر الله له " والذي في المطبوعة أجود.
(4) الأثر: 16259 - " إبراهيم الخوزي "، هو: " إبراهيم بن يزيد
الخوزي الأموي "، مولى عمر بن عبد العزيز، ضعيف، مضى برقم:
7484، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " إبراهيم الجزري "، وهو
خطأ محض.
و" الوليد بن أبي مغيث "، نسب إلى جده، ولم أجده منسوبًا إليه
في غير هذا المكان، وإنما هو: " الوليد بن عبد الله بن أبي
مغيث "، مولى بني عبد الدار، ثقة. روى عن يوسف بن ماهك، ومحمد
بن الحنفية. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 146، وابن أبي
حاتم 4 \ 2 \ 9.
(5) " تراءى الرجلان "، رأى أحدهما الآخر.
(14/46)
خطاياهما كما يتحاتُّ ورق الشجر. (1) قال
عبدة: فقلت له: إنّ هذا ليسير! قال: لا تقل ذلك، فإن الله
يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ! قال
عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. (2)
16261- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال،
حدثنا فضيل بن غزوان قال، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت (3)
أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك = حدثني
أبو الأحوص، عن عبد الله، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في
الله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) . (4)
16262- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،
__________
(1) " تحات ورق الشجر "، تساقط من غصنه إذا ذبل، ثم انتثر.
(2) الأثر: 16260 - " عبد الكريم بن أبي عمير "، شيخ الطبري،
سلف برقم: 7578، 11368، 12867.
و" الوليد "، هو " الوليد بن مسلم "، سلف مرارًا.
و" أبو عمرو "، هو الأوزاعي الإمام.
و" عبدة بن أبي لبابة الأسدي "، مضى برقم: 5859.
وانظر الخبر الآتي رقم: 16263.
(3) في المستدرك: " لقيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره ".
(4) الأثر: 16261 - " أبو إسحاق " هو: السبيعي.
و" أبو الأحوص "، هو " عوف بن مالك بن نضلة "، تابعي ثقة، مضى
مرارًا.
و" عبد الله "، هو " عبد الله بن مسعود ".
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 329، من طريق يعلي بن
عبيد، عن فضيل، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم
يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 27، 28، من طريق أخرى، وقال:
" رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير جنادة بن مسلم، وهو
ثقة ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 199، وزاد نسبته إلى ابن
المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان،
والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي
في شعب الإيمان.
وسيأتي من طريق أخرى رقم: 16264.
(14/47)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (64)
عن عمير بن إسحاق قال: كنا نُحدَّث أن أوّل
ما يرفع من الناس =أو قال: عن الناس= الألفة. (1)
16263- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب
بن سويد، عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبى لبابة، عن مجاهد
=ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم، عن الوليد. (2)
16264- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، وابن نمير، وحفص
بن غياث=، عن فضيل بن غزوان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال:
سمعت عبد الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم) ، الآية، قال: هم المتحابون في الله. (3)
* * *
وقوله: (إنه عزيز حكيم) ، يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب
الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما، وجعلهم لك أنصارًا
= (عزيز) ، لا يقهره شيء، ولا يردّ قضاءه رادٌّ، ولكنه ينفذ في
خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل، وبه فثق= (حكيم) ، في تدبير
خلقه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ
اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
(يا أيها النبي حسبك الله) ، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله.
يقول لهم جل ثناؤه: ناهضوا
__________
(1) الأثر: 16262 - " عمير بن إسحاق "، مضى قريبًا برقم:
16148.
(2) الأثر: 16263 - انظر ما سلف رقم: 16260، والتعليق عليه.
(3) الأثر: 16264 - طريق أخرى للأثر السالف رقم: 16261.
(4) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة
(عزز) ، (حكم) .
(14/48)
عدوكم، فإن الله كافيكم أمرهم، ولا يهولنكم
كثرة عددهم وقلة عددكم، فإن الله مؤيدكم بنصره. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16265- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال،
حدثنا سفيان، عن شوذب أبي معاذ، عن الشعبي في قوله: (يا أيها
النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك الله وحسب
من اتبعك من المؤمنين، الله. (2)
16266- حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال، حدثنا عبيد
الله بن موسى قال، أخبرنا سفيان، عن شوذب، عن الشعبي في قوله:
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك
الله، وحسب من معك.
16267- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن
شوذب، عن عامر، بنحوه =إلا أنه قال: حسبك الله، وحسب من شهد
معك.
16268- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: يا
أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، إنّ حسبك
أنت وهم، الله.
* * *
فـ "منْ" قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين) ، على هذا التأويل
الذي
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 44، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) الأثر: 16265 - " شوذب، أبو معاذ "، ويقال: " أبو عثمان "،
مولى البراء بن عازب. قال سفيان، عن شوذب: " كنت تياسًا،
فنهاني البراء بن عازب عن عسب الفحل " روى عنه سفيان الثوري،
وشعبة. مترجم في الكبير 2 \ 2 \ 261، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \
377، وكان في المطبوعة: "شوذب بن معاذ" وهو خطأ، صوابه في
المخطوطة.
وسيأتي في الإسنادين التاليين.
(14/49)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
(66)
ذكرناه عن الشعبي، نصب، عطفا على معنى
"الكاف" في قوله: (حسبك الله) لا على لفظه، لأنها في محل خفض
في الظاهر، وفي محل نصب في المعنى، لأن معنى الكلام: يكفيك
الله، ويكفي من اتبعك من المؤمنين.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية في "من"، أنها في موضع رفع على العطف
على اسم "الله"، كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو
من المؤمنين، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك
بقوله: (حرض المؤمنين على القتال) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، حُثَّ متبعيك
ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن
الحق من المشركين (2) = (إن يكن منكم عشرون) رجلا= (صابرون) ،
عند لقاء العدو، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 417.
(2) انظر تفسير " التحريض " فيما سلف 8: 579.
(14/50)
لعدوهم = (يغلبوا مئتين) ، من عدوهم
ويقهروهم = (وإن يكن منكم مئة) ، عند ذلك (يغلبوا) ، منهم
(ألفا) = (بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول: من أجل أن المشركين
قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب،
لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود
الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون
إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم. (1) ثم
خفف تعالى ذكره عن المؤمنين، إذ علم ضعفهم فقال لهم: (الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، يعني: أن في الواحد منهم عن
لقاء العشرة من عدوهم ضعفًا = (فإن يكن منكم مئة صابرة) ، عند
لقائهم للثبات لهم = (يغلبوا مئتين) منهم = (وإن يكن منكم ألف
يغلبوا ألفين) منهم = (بإذن الله) يعني: بتخلية الله إياهم
لغلبتهم، ومعونته إياهم (2) = (والله مع الصابرين) ، لعدوهم
وعدو الله، احتسابًا في صبره، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه،
بالعون منه له، والنصر عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16269- حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا
سفيان، عن ليث، عن عطاء في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مئتين) ، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين;
لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. (3)
16270- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن
جريج،
__________
(1) انظر تفسير " فقه " فيما سلف 13: 278، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 11: 215، تعليق: 2.
والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16269 - " محمد بن محبب بن إسحاق القرشي "، ثقة،
مضى برقم: 6320.
(14/51)
عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: جعل
على المسلمين على الرجل عشر من الكفار، فقال: (إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فخفف ذلك عنهم، فجعل على الرجل
رجلان. قال ابن عباس: فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم.
16271- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال: قال محمد بن
إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن عطاء بن أبي
رباح، عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية، ثقلت على
المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفا، فخفف الله
عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن
فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم
ألف يغلبوا ألفين) ، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم
لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم
أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. (1)
16272- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مئتين) ، قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي
له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنزل الله: (الآن خفف الله
عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين)
، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فنسخ الأمر
الأول =وقال مرة أخرى في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مئتين) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من
الكفار، فشق ذلك على المؤمنين، ورحمهم الله، فقال: (إن يكن
منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين
بإذن الله والله مع الصابرين) ،
__________
(1) الأثر: 16271 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر
التالي رقم: 16285، قدم الطبري وأخر في هذا الموضع، فاختلف
ترتيب نقله من تفسير ابن إسحاق في سيرته.
(14/52)
فأمر الله الرجلَ من المؤمنين أن يقاتل
رجلين من الكفار.
16273- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي حرض
المؤمنين على القتال) ، إلى قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ،
وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو
يؤشِّبهم =يعني: يغريهم (1) = بذلك، ليوطنوا أنفسهم على الغزو،
وأن الله ناصرهم على العدو، ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا
أوجبه، ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه، ثم خفف عنهم
فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، فجعل على كل
رجلٍ رجلين بعد ذلك، تخفيفا، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم،
فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا، ولو كان عليهم واجبًا كفّروا
إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [نكل] عمن لقي من الكفار إذا كانوا
أكثر منهم فلم يقاتلوهم. (2) فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ! فإني قد
سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى
يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم
بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة
ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن
يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ
اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [سورة البقرة: 207] ،
وقال الله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا
نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النساء: 84] ، فهو
التحريض الذي أنزل الله
__________
(1) " التأشيب " التحريش بين القوم بالشر، ومثله " التأشيب "
بمعنى الإغراء بالعدو، انظر كما سلف في التعليق على رقم:
16059، ج 13: 531، تعليق رقم: 2، وكتب اللغة مقصرة في بيان
معنى هذا الحرف من العربية.
(2) في المطبوعة: " ولو كان عليهم واجبًا الغزو إذا بعد كل رجل
من المسلمين عمن لقي من الكفار "، جاء بكلام لا معنى له. وكان
في المخطوطة: " ولو كان عليهم واجبًا كفروا إذا كل رجل من
المسلمين عمن لقي من الكفار "، وصواب الجملة ما أثبت، ولكن
الناسخ أسقط، والله أعلم، [نكل] التي وضعها بين القوسين. و "
نكل عن عدوه "، نكص.
(14/53)
عليهم في "الأنفال"، فلا تعجزنَّ، قاتلْ،
قد سقطت بين ظَهْرَيْ أناس كما شاء الله أن يكونوا. (1)
16274- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحصين، عن
زيد، عن عكرمة والحسن قالا قال في "سورة الأنفال" = (إن يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا
من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، ثم نسخ فقال: (الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، إلى قوله: (والله مع الصابرين)
.
16275- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة،
في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، قال: واحد من المسلمين
وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من
رجلين.
16276- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن يكن منكم عشرون
صابرون) ، إلى قوله: (وإن يكن منكم مئة) ، قال: هذا لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل على الرجل منهم عشرة من
الكفار، (2) فضجوا من ذلك، فجعل على الرجل قتال رجلين، تخفيفا
من الله.
16277- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، وأبي معبد عن ابن عباس
قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة، والعشرة لمئة إذ
المسلمون قليل، فلما كثر
__________
(1) في المطبوعة: " فلا يعجزك قائل قد سقطت "، وهو بلا معنى،
صوابه ما في المخطوطة كما أثبته، وهو فيها غير منقوط، وهذا
صواب قراءة. وقوله: " فلا تعجزن "، يعني لا تقعد عن القتال
عجزًا، ولكن قاتل، فإنك قد وقعت بين عدد من العدو، كما شاء
الله أن يكون عددهم، قلوا أو كثروا.
(2) في المطبوعة في الموضعين حذف " قتال "، لأنها في المخطوطة:
" فقال "، وصواب قراءتها ما أثبت.
(14/54)
المسلمون، خفف الله عنهم. فأمر الرجل أن
يصبر لرجلين، والعشرة للعشرين، والمئة للمئتين.
16278- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن ابن أبي نجيح: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا،
فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا، ثم خفف الله عنهم وقال: (إن يكن
منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ،
فيقول: لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم
غلبوهم.
16279- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة
صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، جعل الله
على كل رجل رجلين، بعد ما كان على كل رجل عشرة = وهذا الحديث
عن ابن عباس.
16280- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن
حازم، عن الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة، عن ابن عباس: كان
فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين.
قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم
مئة يغلبوا ألفا) ، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله التخفيف، فجعل
على الرجل أن يقاتل الرجلين، قوله: (إن يكن منكم مئة صابرة
يغلبوا مئتين) ، فخفف الله عنهم، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك.
(1)
16281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مئتين) ، يقول: يقاتلوا مئتين، فكانوا أضعف من ذلك، فنسخها
الله عنهم. فخفف
__________
(1) في المطبوعة: " ونقصوا من الصبر "، زاد " واوًا "، وغير "
النصر "، فأفسد الكلام. غفر الله له.
(14/55)
فقال: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا
مئتين) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة، ثم جعل الرجل لاثنين.
16282- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي
عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف
الله عنهم فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن
منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) ، فيقول: لا ينبغي أن يفرّ
ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
16283- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
الثوري، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان هذا واجبًا أن لا يفر
واحد من عشرة.
16284- وبه قال: أخبرنا الثوري، عن الليث، عن عطاء، مثل ذلك.
* * *
وأما قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، فقد بينّا تأويله. (1)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
16285- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
(بأنهم قوم لا يفقهون) ، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ
فيه، ولا معرفة بخير ولا شر. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية =أعني قوله: (إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مئتين) ، = وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن
معناها الأمر. يدلّ على
__________
(1) انظر ما سلف ص: 51.
(2) الأثر: 16285 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16257، وقد أخره أبو جعفر عن موضعه إلى هذا
الموضع، وقدم عليه الخبر رقم: 16271، وهو تال له في تفسير
السورة في سيرة ابن هشام.
كان في المطبوعة. " ولا معرفة لخير "، وأثبت ما في المخطوطة
والسيرة.
(14/56)
ذلك قوله: (الآن خفف الله عنكم) ، فلم يكن
التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من
عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف، وكان ندبًا، لم يكن
للتخفيف وجه، لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من
المسلمين الثبوتَ للعشرة من العدو. وإذا لم يكن التشديد قد كان
له متقدِّمًا، لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص
إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله:
(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، ناسخ لحكم قوله: (إن
يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا
ألفا من الذين كفروا) . وقد بينا في كتابنا "البيان عن أصول
الأحكام"، (1) أن كل خبرٍ من الله وعد فيه عباده على عملٍ
ثوابًا وجزاء، وعلى تركه عقابًا وعذابًا، وإن لم يكن خارجًا
ظاهرُه مخرج الأمر، ففي معنى الأمر= بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وعلم أن فيكم ضعفًا) .
فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضُعْفًا) ، بضم "الضاد" في جميع القرآن، وتنوين "الضعف" على
المصدر من: "ضَعُف الرجل ضُعْفًا".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا) ، بفتح "الضاد"، على المصدر أيضًا من "ضَعُف".
* * *
وقرأه بعض المدنيين: (ضُعَفَاء) ، على تقدير "فعلاء"، جمع
"ضعيف" على "ضعفاء"، كما يجمع "الشريك"، "شركاء"، و"الرحيم"،
"رحماء".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه:
(وَعَلِمَ
__________
(1) في المطبوعة: " كتاب لطيف البيان "، وأثبت ما في المخطوطة،
والكتاب هو هو.
(14/57)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) ، و (ضُعْفًا) ،
بفتح الضاد أو ضمها، لأنهما القراءتان المعروفتان، وهما لغتان
مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ
القارئ فهو مصيبٌ الصوابَ.
* * *
فأما قراءة من قرأ ذلك: "ضعفاء"، فإنها عن قراءة القرأة شاذة،
وإن كان لها في الصحة مخرج، فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا
قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ.
* * *
و"الأسر" في كلام العرب: الحبس، يقال منه: "مأسورٌ"، يراد به:
محبوس. ومسموع منهم: "أبَاله الله أسْرًا". (1)
* * *
وإنما قال الله جل ثناؤه [ذلك] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم
بدر ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم
وإطلاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأسير " فيما سلف 2: 311، 312.
وأما قوله: " أباله الله أسرا "، فإن " الأسر " " بضم الألف
وسكون السين "، وهو احتباس البول، يقال: " أخذه الأسر ". وهذه
الجملة كانت في المخطوطة: " أبي الله أسرًا "، وفي لسان العرب،
كما في المطبوعة " أناله بالنون "، وفي أساس البلاغة: " وفي
أدعيتهم: أبي لك الله أسرا ".
والذي في المخطوطة وأساس البلاغة يرجح صواب ما قرأته بالباء.
(14/58)
وقوله: (حتى يثخن في الأرض) ، يقول: حتى
يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرًا.
* * *
يقال منه: "أثخن فلان في هذا الأمر"، إذا بالغ فيه. وحكي:
"أثخنته معرفةً"، بمعنى: قتلته معرفةً.
* * *
= (تريدون) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (تريدون) ، أيها المؤمنون، (عرض الدنيا) ، بأسركم
المشركين =وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. (1) يقول:
تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها =
(والله يريد الآخرة) ، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما
أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في
الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، (2) لا
ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها =
(والله عزيز) ، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبكم عدوّ
لكم، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب = وأنه (حكيم) (3) في
تدبيره أمرَ خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16286- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ما كان لنبي أن يكون له
أسرى حتى يثخن في الأرض) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل،
فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في
الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ، [سورة
محمد: 4] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى
بالخيار، إن
__________
(1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف 9: 71 \ 13: 211.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " واطلبوا "، والسياق للفاء لا
للواو.
(3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة
(عزز) ، (حكم) .
(14/59)
شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن
شاءوا فادَوْهم.
16287- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون
عرض الدنيا) ، الآية، قال: أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم يوم بدر الفداءَ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. (1)
ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان
أول قتال قاتله المشركين.
16288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن حبيب بن أبي
عمرة، عن مجاهد قال: "الإثخان"، القتل. (2)
16289- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شريك،
عن الأعمش، عن سعيد بن جبير في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له
أسرى حتى يثخن في الأرض) ، قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى
تثخنوا فيهم القتلَ.
16290- ... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن
خصيف، عن مجاهد: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، الآية، نزلت
الرخصة بعدُ، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد.
16291- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ما كان لنبي
أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، يعني: الذين أسروا ببدر.
16292- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ما كان
لنبي أن يكون له أسرى) ، من عدوه = (حتى يثخن في الأرض) ، أي:
__________
(1) في المطبوعة حذف " أربعة آلاف "، الثانية، كأنها لم تعجبه،
غفر الله له! ! .
(2) الأثر: 16288 - " حبيب بن أبي عمرة "، القصاب، أو: اللحام،
" أبو عبد الله الحماني "، ثقة قليل الحديث سلف برقم: 10224.
(14/60)
يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض = (تريدون
عرض الدنيا) ، أي: المتاع والفداء بأخذ الرجال = (والله يريد
الآخرة) ، بقتلهم، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه، الذي به
تدرك الآخرة. (1)
16293- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا
الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما
كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك
وأهلك، استبقهم واستأنهم، (2) لعل الله أن يتوب عليهم. وقال
عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال
عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب
فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. قال: فقال له العباس:
قُطِعتْ رَحِمُك! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم
يجبهم، ثم دخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ
بقول عُمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّ الله ليلين
قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوبَ رجال
حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم،
قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم: 36] ، ومثلك يا أبا
بكر مثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)
، الآية [سورة المائدة: 118] .
__________
(1) الأثر: 16292 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16271. وفي لفظ سيرة ابن هشام بعض الاختلاف، وأشك
في قوله هناك: " أي: قتلهم لظهور الدين الذي يريد إظهاره،
والذي تدرك به الآخرة ".
(2) كان في المطبوعة: " واستأن بهم "، وهو نص الخبر في مسند
أحمد وغيره، من " الأناة ". يقال: " استأنى بالشيء "، ترفق به،
وأخره وانتظر به، وتربص به. ونقل صاحب أساس البلاغة: "
واستأنيت فلانًا ": لم أعجله، وأنشد لابن مقبل: وَقَوْمٌ
بأَيدِيهِمْ رِمَاحُ رُدَينَةٍ ... شَوَارِعَ تَسْتأني دَمًا
أو تسَلَّفُ
قال: " تنظره أو تتعجله ".
ورواية " واستأنهم " هذه هي الثابتة في تاريخ أبي جعفر، في
رواية هذا الخبر.
(14/61)
ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: (رَبِّ لا
تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة
نوح: 26] ، ومثلك كمثل موسى قال: (1) (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) [سورة يونس: 88] . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة، (2) فلا
ينفلتّنَ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن
مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُني في يوم أخوفَ أن تقع
عليَّ الحجارة من السماء، مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء. قال: فأنزل الله: (ما
كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى آخر الثلاث
الآيات. (3)
16294- حدثنا ابن بشار قال، [حدثنا عمر بن يونس اليمامي] قال،
حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا أبو زميل قال، حدثني عبد الله
بن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في
الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة،
وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن
يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا
ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى
أبو بكر، يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليًّا
من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني
من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر
وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر
ولم يهوَ ما قلت. (4) قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان،
فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك، فإن
وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد
عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى قوله: (حلالا طيبا) ،
وأحلّ الله الغنيمة لهم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ومثلك يا بن أبي رواحة كمثل موسى "، زاد من
عنده ما ليس في المخطوطة، وهو اجتراء قبيح بلا علم، فإن الحديث
ليس فيه هذه الزيادة، والقول فيه موجه إلى عمر، ولم يذكر فيه
عن ابن رواحة مثل، كما في جميع المراجع، بل في بعضها: " وإن
مثلك يا عمر كمثل موسى ". فهذه زيادة لا تحل لأحد.
وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل لعبد الله بن
رواحة، والله أعلم، لما في مشورته من النكال الشديد، فإنه لا
يعذب بالنار إلا رب النار سبحانه وتعالى، وأعاذنا من عذاب جهنم
بفضله ورحمته ومنه على كل عاص من عباده.
(2) " العالة ": الفقراء ذوي الفاقة، جمع " عائل ". و " عال
الرجل "، احتاج وافتقر.
(3) الأثر: 16293 - إسناده منقطع، لأن "أبا عبيدة بن عبد الله
بن مسعود"، لم يسمع من أبيه.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من هذه الطريق نفسها رقم: 3632
- 3634،
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 21، 22، من طريق جرير بن عبد
الحميد، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه
"، وقال الذهبي: " صحيح، سمعه جرير بن عبد الحميد ".
ورواه الطبري في تاريخه 2: 259، بلفظه وإسناده.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 86، 87، وفصل الكلام فيه،
وقال: " رواه أحمد. . . ورواه الطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم
يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات ".
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 178.
وأما قوله: " إلا سهيل بن بيضاء "، فهو خطأ من بعض الرواة،
وإنما هو " سهل بن بيضاء " أخو " سهيل " لأبيه وأمه، قال ابن
سعد: " أسلم بمكة وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر،
فشهد بدرًا مع المشركين، فأسر يومئذ. فشهد له عبد الله بن
مسعود أنه رآه يصلي بمكة، فخلى عنه. والذي روى القصة في سهيل
بن بيضاء قد أخطأ، سهيل بن بيضاء أسلم قبل عبد الله بن مسعود،
ولم يستخف بإسلامه، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا، لا شك فيه. فخلط من روى ذلك
الحديث ما بينه وبين أخيه، لأن سهيلا أشهر من أخيه سهل، والقصة
في سهل "، ابن سعد 4 \ 1 \ 156.
(4) هذا الخبر عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، كما سترى في
التخريج.
(5) الأثر: 16294 - " أبو زميل "، هو " سماك بن الوليد الحنفي
"، سلف أخيرًا برقم: 15734، 1600، وسائر رجال الإسناد قد مضوا
جميعًا.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا ابن بشار قال حدثنا عكرمة
بن عمار "، وهو إسناد مختل، والظاهر أن الناسخ كتب " ابن بشار
" في آخر الصفحة، كما هو في مخطوطتنا، ثم لما انتقل إلى أول
الصفحة التالية كتب: " حدثنا عكرمة بن عمار "، فأسقط من
الإسناد ما أثبته بين القوسين، واستظهرته من رواية صدر هذا
الخبر نفسه في الترمذي، في كتاب التفسير، حيث رواه مختصرًا،
قال: " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عمر بن يونس اليمامي، حدثنا
عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني
عمر بن الخطاب ".
وقد مضى مختصرًا كما في الترمذي، برقم: 15734، وقد بينت تخريج
الخبر هناك.
وهذا الخبر مطولا رواه أحمد في مسنده رقم: 208، 221، من طريق
أبي نوح قراد، عن عكرمة بن عمار.
ورواه مسلم في صحيحه مطولا 12: 84 - 87، من طريق هناد بن
السري، عن ابن المبارك، عن عكرمة، ثم من طريق زهير بن حرب، عن
عمر بن يونس الحنفي (اليمامي) ، عن عكرمة.
ورواه أبو جعفر في التاريخ 2: 294، مطولا، من طريق أحمد بن
منصور، عن عاصم بن علي، عن عكرمة.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 179.
وهو حديث صحيح، لا يعرف إلا من طريق عكرمة بن عمار، كما سلف.
وخرجه ابن كثير في تفسير 45: 18، 19.
(14/62)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(68)
القول في تأويل قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من
الأسرى الفداء: (لولا كتاب من الله سبق) ، يقول: لولا قضاء من
الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم
الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ
هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، (1) وأنه لا يعذب أحدًا شهد
المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسولا الله صلى الله عليه وسلم
ناصرًا دينَ الله = لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء،
عذاب عظيم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كتاب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(2) انظر تفسير " المس " فيما سلف 13: 333، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(14/64)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16295- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا
عوف، عن الحسن في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، قال:
إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ، وإنهم أخذوا الفداء
من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم، ثم
أحله الله.
16296- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن
المفضل عن عوف، عن الحسن في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق)
الآية، وذلك يوم بدر، وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى
قد كتب في أم الكتاب: "المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته"،
ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل
أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: (لولا كتاب من الله سبق) ،
يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم = (لمسكم
فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16297- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا كتاب من الله
سبق) الآية، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه
وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله
عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي
وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون
منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه
عليهم تحريمًا شديدًا، فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه
وسلم. وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال،
فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: (لولا كتاب من
الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16298- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عروة، عن
(14/65)
الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) قال: إن
الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ، وفعلوا الذي فعلوا قبل
أن تُحَلّ الغنيمة.
16299- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر قال، قال الأعمش في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال:
سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.
16300- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي
ليلى، عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة،
قال: قرأ هذه الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم
عذاب عظيم) ، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ
الغنائم، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (1)
16301- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، وأبو معاوية
بنحوه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس
من قبلكم، كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها، حتى كان يوم بدر،
فوقع الناس في الغنائم، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق
لمسكم) ، حتى بلغ، (حلالا طيبًا) .
16302- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه =
قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (2)
__________
(1) الأثر: 16300 - " بشير بن ميمون الخراساني الواسطي "، أبو
صيفي، ضعيف، منكر الحديث، متهم بالوضع. وقال أبو حاتم: " ضعيف
الحديث، وعامة روايته مناكير ". وأجمعوا على طرح حديثه، مترجم
في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 105، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 379،
وميزان الاعتدال 1: 153، 154.
و" سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري ".
(2) الأثران: 16301، 16302 - حديث صحيح الإسناد، إلا ما كان من
أمر " جابر بن نوح الحماني "، ليس حديثه بشيء، ضعيف، قال يحيى
بن معين: " جابر بن نوح، إمام مسجد بني حمان، ولم يكن بثقة،
كان ضعيفًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 210، وابن
أبي حاتم 1 \ 1 \ 500، وميزان الاعتدال 1: 176، وأبو كريب رواه
عن جابر، وعن أبي معاوية، فحديث أبي معاوية هو الصحيح.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد،
عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث حسن
صحيح ".
ورواه البيهقي في السنن 6: 290 من طريق محاضر، عن الأعمش، ومن
طريق أبي معاوية، عن الأعمش.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 203، وزاد نسبته إلى
النسائي، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ،
وابن مردويه.
(14/66)
16303- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن
فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: أسر
المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به
على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو تقتلوهم! فقالوا:
بل نأخذ الفدية منهم، وقُتل منهم سبعون، قال عبيدة، وطلبوا
الخيرتين كلتيهما. (1)
16304- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عبيدة
قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية، و"الأوقية" أربعون درهمًا،
ومن الدنانير ستة دنانير. (2)
16305- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية
قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى
بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن
شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى، (3)
نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم.
__________
(1) " الخيرة " (بكسر الخاء وسكون الياء، أو فتح الياء) ، هو
ما يختار ويصطفى من الخير.
(2) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم: 16058.
(3) انظر مجيء " بلى " في غير جحد، فيما سلف في الأثر رقم: 781
ج 1: 554 \ ثم 2: 280، 510 \ 10: 98، تعليق: 4 \ ثم 10: 253،
تعليق: 3 \ ثم 12: 174، تعليق: 3.
(14/67)
16306- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال،
حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال،
حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال:
أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى، فأنزل الله: (لولا كتاب
من الله سبق لمسكم فيما أخذت عذاب عظيم) . (1)
16307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا كتاب من
الله سبق) ، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته،
وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان
سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في
بطونهم.
16308- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله:
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، قال: كان في علم الله أن تحلّ
لهم الغنائم، فقال: (لولا كتاب من الله سبق) ، بأنه أحل لكم
الغنائم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا
يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم.
* ذكر من قال ذلك:
16309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن شريك،
عن سالم، عن سعيد: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: لأهل بدر،
من السعادة.
16310- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
__________
(1) الأثر: 16306 - " همام بن يحيى بن دينار الأزدي "، ثقة،
مضى برقم: 10190، 11725.
وهذا خبر صحيح إسناده.
(14/68)
أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله
سبق) ، لأهل بدر مَشْهدَهم.
16311- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: سبق من الله
خيرٌ لأهل بدر.
16312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ،
كان سبق لهم من الله خير، وأحلّ لهم الغنائم.
16313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد
الوارث بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (لولا كتاب من
الله سبق) ، قال: (سبق) ، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر.
16314- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ،
لأهل بدر، ومشهدَهم إياه.
16315- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ،
لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال:
سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب
المؤمنين، لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (لولا كتاب من الله سبق) ، أن لا يؤاخذ
أحدًا بفعل أتاه على جهالة = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
* ذكر من قال ذلك:
16316- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(14/69)
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لولا كتاب من
الله سبق) ، لأهل بدر ومشهدَهم إياه، قال: كتاب سبق لقوله:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [سورة التوبة: 115] ،
سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة = (لمسكم
فيما أخذتم) ، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فيما أخذتم) ، مما
أسرتم. ثم قال بعد: (فكلوا مما غنمتم) .
16317- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء
يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (1)
16318- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني
أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي
الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم،
ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمسٌ لم
يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي = قال محمد (2) فقال: (ما كان
لنبي) ، أي: قبلك = (أن يكون له أسرى) إلى قوله: (لولا كتاب من
الله سبق لمسكم فيما أخذتم) ، أي: من الأسارى والمغانم = (عذاب
عظيم) ، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم
أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً
ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه
قبلُ. وذلك أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، خبر عامٌّ غير
محصور على معنى دون
__________
(1) الأثر: 16317 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو سابق الأثر
السالف رقم: 16292 في ترتيب السيرة.
(2) قوله: " محمد "، يعني محمد بن إسحاق، لا " محمد بن علي ".
(3) الأثر: 16318 - سيرة ابن هشام 2: 332، وصدره تابع الأثر
السالف رقم: 16317، وسابق للأثر رقم: 16292، ثم روى صدرًا من
الأثر رقم: 16292، وأتبعه بما يليه في السيرة.
(14/70)
فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن
ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه
الأمة، وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة، وإحلال الغنيمة،
والمغفرة لأهل بدر، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك،
فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى، وقد عم الله الخبر بكل
ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
16319- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم
يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن
الخطاب، جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله،
ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو عذبنا في هذا الأمر يا
عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ
لكم.
16320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق:
لما نزلت: (لولا كتاب من الله سبق) ، الآية، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد
بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي
من استبقاء الرجال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا
طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(69) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: (فكلوا) ،
أيها المؤمنون = (مما غنمتم) ، من أموال المشركين = (حلالا) ،
بإحلاله لكم = (طيبا واتقوا الله) ، يقول: وخافوا الله أن
تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه
__________
(1) الأثر: 16320 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام، فيما
أقدر.
(14/71)
من قبل أن يُعْهَد فيه إليكم، كما فعلتم في
أخذ الفداء وأكل الغنيمة، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم = (إن
الله غفور رحيم) . (1)
* * *
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وتأويل الكلام: (فكلوا مما
غنمتم حلالا طيبا) ، (إن الله غفور رحيم) ، (واتقوا الله) .
* * *
ويعني بقوله: (إن الله غفور) ، لذنوب أهل الإيمان من عباده =
(رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(14/72)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (70)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
يا أيها النبي، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى
المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: (إن يعلم الله في
قلوبكم خيرا) ، يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا = (يؤتكم
خيرًا مما أخذ منكم) ، من الفداء = (ويغفر لكم) ، يقول: ويصفح
لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه
وكفركم بالله = (والله غفور) ، لذنوب عباده إذا تابوا = (رحيم)
، بهم، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(14/72)
وذكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول:
فيّ نزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
16321- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال العباس: فيّ
نزلت: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ،
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني
بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى، فأبدلني الله بها عشرين
عبدًا، كلهم تاجر، مالي في يديه. (1)
* * *
وقد:-
16322- حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال
محمد، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد
الله بن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله
نزلت، حين ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي = ثم
ذكر نحو حديث ابن وكيع. (2)
16323- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، قال: ذكر لنا أن
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مالُ البحرين
ثمانون ألفًا، وقد توضأ لصلاة الظهر،
__________
(1) الأثر: 16321 - في المطبوعة: " أبي إسحاق "، والصواب من
المخطوطة، وانظر التعليق التالي.
(2) الأثر: 16322 - هذا الخبر والذي قبله، ذكرهما الهيثمي في
مجمع الزوائد 7: 8، مطولا، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط
والكبير باختصار، ورجال الأوسط رجال الصحيح، غير ابن إسحاق،
وقد صرح بالسماع ".
وظاهر أنه يعني إسنادًا غير هذين الإسنادين، فإن الأول لم يصرح
فيه السماع، والثاني فيه " الكلبي ".
وذكره الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، مطولا: 180، 181.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " جابر بن عبد الله بن رباب "،
وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(14/73)
فما أعطى يومئذ شاكيًا ولا حرم سائلا وما
صلى يومئذ حتى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ.
قال: وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة.
16324- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في
أيديكم من الأسرى) الآية، وكان العباس أسر يوم بدر، فافتدى
نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية:
لقد أعطاني الله خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت
يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبدًا، وأنا
أرجو المغفرة التي وعدنا الله.
16325- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن
في أيديكم من الأسرى) إلى قوله: (والله غفور رحيم) ، يعني
بذلك: من أسر يوم بدر. يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي،
آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم، وغفرت لكم.
16326- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس: (يا أيها النبي قل
لمن في أيديكم من الأسرى) ، عباس وأصحابه، قال: قالوا للنبي
صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله،
لننصحن لك على قومنا. فنزل: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا
يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، إيمانًا وتصديقًا، يخلف لكم خيرًا
مما أصيب منكم = (ويغفر لكم) ، الشرك الذي كنتم عليه. قال:
فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي
الدنيا، لقد قال: (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) فقد أعطاني خيرًا
مما أخذ مني مئة ضعف، وقال: (ويغفر لكم) ، وأرجو أن يكون قد
غُفِر لي.
(14/74)
وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ
مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
16327- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت
أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، يعني
العباسَ وأصحابه، أسروا يوم بدر. يقول الله: إن عملتم بطاعتي
ونصحتم لي ولرسولي، أعطيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم.
وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين، ما
شيء هو أفضل منهما: عشرين عبدًا. وأما الثانية: فنحن في موعود
الصادق ننتظر المغفرة من الله سبحانه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ
خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى
الذين في أيديكم = (خيانتك) ، أي الغدر بك والمكرَ والخداع،
بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم (1) = (فقد خانوا الله
من قبل) ، يقول: فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر، وأمكن
منهم ببدر المؤمنين (2) = (والله عليم) ، بما يقولون بألسنتهم
ويضمرونه في نفوسهم = (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه
سواهم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16328- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف ص: 25، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " أمكن " فيما سلف 11: 263 \ 12: 315.
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة
(علم) ، (حكم) .
(14/75)
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:
(وإن يريدوا خيانتك) ، يعني: العباس وأصحابه في قولهم: آمنا
بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا"، يقول:
إن كان قولهم خيانة = (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ،
يقول: قد كفروا وقاتلوك، فأمكنك الله منهم.
16329- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب
لنبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين
بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك
رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما
كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا
عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، (1) وابن
خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح.
فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة =
فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي
الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا
سيفه، فأطاف به، (2) وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي
نذرك! (3) فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ!
(4) فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. (5)
16330- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) في المطبوعة: " بن ضبابة "، وهو خطأ محض.
(2) يقال: " طاف بالقوم، وأطاف بهم "، إذا استدار، وجاء من
نواحيهم وهو يحوم حولهم.
(3) " تلوم في الأمر " و " تلوم به "، انتظر وتلبث وتأنى،
وتعدية مثل هذا الفعل من صريح العربية.
(4) " أومض إليه "، أشار إشارة خفية، من " إيماض البرق "، إذا
لمع لمعًا خفيًا، ثم يخفى.
(5) الأثر: 16329 - انظر مسند أحمد 3: 151، حديث أنس، بغير هذا
اللفظ.
(14/76)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن يريدوا خيانتك
فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول: قد كفروا بالله
ونقضوا عهده، فأمكن منهم ببدر.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله =
"وهاجروا"، يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم
وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم (1) = (وجاهدوا في سبيل
الله) ، يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء
الله من الكفار (2) = (في سبيل الله) ، يقول: في دين الله الذي
جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه (3) = (والذين آووا
ونصروا) ، يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه، يعني:
أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول:
أسكنوهم، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من
منازلهم (4) = (ونصروا) ، يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء
الله من المشركين = (أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يقول: هاتان
الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان
على من سواهم من
__________
(1) انظر تفسير " المهاجرة " فيما سلف 4: 317، 318 \ 7: 490 \
9: 100، 122.
(2) انظر تفسير " المجاهدة " فيما سلف 4: 318 \ 10: 292، 423.
(3) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(4) انظر تفسير " آوى "، و " المأوى " فيما سلف 13: 477،
تعليق: 2، والمراجع هناك.
(14/77)
المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله،
وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. (1)
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله
ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة، دون القرابة والأرحام،
وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، [سورة الأنفال: 75 \
وسورة الأحزاب: 6] .
* ذكر من قال ذلك:
16331- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم
أولياء بعض) ، يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين
والأنصار دون ذوي الأرحام، قال الله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا) ، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا
يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية: (وَأُولُو الأرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة
الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6] ، في الميراث، فنسخت التي
قلبها، وصار الميراث لذوي الأرحام.
16332- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول: لا
هجرة بعد الفتح، إنما هو الشهادة بعد ذلك = (والذين آووا
ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، إلى قوله: (حتى يهاجروا) .
وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة،
خرج إلى
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(14/78)
قوم مؤمنين في ديارهم وعَقارهم وأموالهم =
و (آووا ونصروا) ، (1) وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا
السيوف على من كذّب وجحد، فهذان مؤمنان، جعل الله بعضهم أولياء
بعض، فكانوا يتوارثون بينهم، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه
الأنصاري بالولاية في الدين. وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث
من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرَّأ الله المؤمنين المهاجرين
من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله: (ما لكم من ولايتهم من
شيء حتى يهاجروا) . وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا
إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا، إلا أن يستنصروا
على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر
لهم عليهم، إلا على العدوِّ الذين لا ميثاق لهم. ثم أنزل الله
بعد ذلك أن ألحقْ كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا
والذين آمنوا ولم يهاجروا. فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا
مفروضًا بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) [سورة الأنفال: 75] ، وبقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة
التوبة: 71] .
16333- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الثلاث الآيات خواتيم
الأنفال، فيهن ذكر ما كان والىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك
آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
16334- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا
وجاهدوا) ، إلى قوله: (بما تعملون بصير) ، قال: بلغنا أنها
كانت في الميراث، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا، والمؤمنون
الذين لم يهاجروا. قال: ثم نزل بعد: (وَأُولُو
__________
(1) في المطبوعة: " وفي قوله: آووا ونصروا ". زاد ما ليس في
المطبوعة.
(14/79)
الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ،
فتوارثوا ولم يهاجروا = قال ابن جريج، قال مجاهد: خواتيم
"الأنفال" الثلاث الآيات، فيهن ذكر ما كان واليَ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في
الميراث، ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) .
16335- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ،
إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال: لبث
المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من
المهاجر شيئًا، فنسخ ذلك بعد ذلك، فألحق الله (1) (وَأُولُو
الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا
إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) ، [سورة الأحزاب: 6] ، أي:
من أهل الشرك، فأجيزت الوصية، (2) ولا ميراث لهم، وصارت
المواريث بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين
والمؤمنين، ولا يرث أهل ملتين.
16336- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن، عن
يزيد، عن عكرمة والحسن قالا (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
في سبيل الله) ، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى
يهاجروا) ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر،
فنسخها فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) .
16337- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) في المطبوعة: " قول الله "، مكان " فألحق الله "، وأثبت ما
في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) في المخطوطة: " حرت الوصية "، هكذا غير منقوط، وكأن الصواب
ما في المطبوعة.
ولو قرئت: " خيرت الوصية " (بالبناء للمجهول) ، لكان وجها.
(14/80)
حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا
ونصروا أولئك بعهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا
ولم يهاجروا) ، وهؤلاء الأعراب = (ما لكم من ولايتهم من شيء) ،
في الميراث = (وإن استنصروكم في الدين) يقول: بأنهم مسلمون =
(فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين كفروا
بعضهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا من بعد
وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) ، ثم نسختها الفرائض
والمواريث، = "وأولوا الأرحام". الذين توارثوا على الهجرة =
(بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فتوارث الأعرابُ والمهاجرون.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا
مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (والذين آمنوا) . الذين
صدقوا بالله ورسوله = (ولم يهاجروا) . قومهم الكفار، ولم
يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (ما لكم) ، أيها
المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب
(2) = (من ولايتهم) ، يعني: من نصرتهم وميراثهم.
* * *
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: " فأولئك منكم، والذين
توارثوا على الهجرة في كتاب الله، ثم نسختها الفرائض
والمواريث، فتوارث الأعراب والمهاجرون " قدم وأخر فيما كان في
المخطوطة، وهو: " فأولئك منكم، ثم نسختها الفرائض والمواريث "
الذي توارثوا على الهجرة في كتاب الله، فتوارث الأعراب
والمهاجرون. واستظهرت الصواب.
(2) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص 77، تعليق:، والمراجع
هناك.
(14/81)
وقد ذكرت قول بعض من قال: "معنى الولاية،
ههنا الميراث"، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعدُ.
* * *
= (من شيء حتى يهاجروا) ، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار
الإسلام = (وإن استنصروكم في الدين) ، يقول: إن استنصركم هؤلاء
الذين آمنوا ولم يهاجروا = (في الدين) ، يعني: بأنهم من أهل
دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، "فعليكم"، أيها
المؤمنون من المهاجرين والأنصار، (النصر) = (إلا) أن يستنصروكم
= (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ، يعني: عهد قد وثَّق به بعضكم
على بعض أن لا يحاربه (1) = (والله بما تعملون بصير) ، يقول:
والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا،
أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم
إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي
فرضها عليكم = (بصير) ، يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا
من غيره شيء. (2)
16338- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ،
قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وآخى النبي صلى الله عليه
وسلم بينهم، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل
يسلم ولا يهاجر، لا يرث أخاه، فنسخ ذلك قوله: (وَأُولُو
الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [سورة الأحزاب: 6] .
16339- حدثنا محمد قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في
الإسلام فقال:
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 13، 315، تعليق: والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .
(14/82)
تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت،
وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت حرب. (1)
16340- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: (وإن استنصروكم في الدين) ، يعني:
إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على
عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
16341- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم
الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار،
وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وسلم
نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، (2) وإن استنصر النبي صلى الله
عليه وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: (وإن
استنصروكم في الدين فعليكم النصر) = والرابعة: التابعون
بإحسان.
16342- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين
آمنوا وهاجروا) ، إلى آخر السورة، قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل (3) مؤمن مهاجر.
ومسلم أعرابي، والذين آووا ونصروا، والتابعون بإحسان.
* * *
__________
(1) يعني بذلك: أن يبعد منزله عن منزل المشرك " حتى لا يرى
ناره " نهى منه صلى الله عليه وسلم عن جوار لمشرك.
(2) في المطبوعة: " فهو إذن له " ثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " قال رسول الله " وذلك أن كاتب المخطوطة وصل
لام "قال" بألف "إن"، ووصل ألف "إن" بنونها.
(14/83)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين كفروا) ، بالله ورسوله
= (بعضهم أولياء بعض) ، يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحق
به من المؤمنين بالله ورسوله. (1)
* * *
وقد ذكرنا قول من قال: "عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من
قرابتهم من المؤمنين"، (2) وسنذكر بقية من حضرنا ذكره.
16343- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال، قال رجل: نورّث أرحامنا من
المشركين! فنزلت: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، الآية.
16344- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين كفروا بعضهم
أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، نزلت
في مواريث مشركي أهل العهد.
16345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى
يهاجروا) ، إلى قوله: (وفساد كبير) ، قال: كان المؤمن المهاجر
والمؤمن الذي ليس بمهاجر، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين.
قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي)
(2) في المطبوعة: " عنى بيان أن بعضهم "، وهو سياق فاسد. وفي
المخطوطة: " عنى بيان بعضهم "، غير منقوط، مضطرب أيضا فاسد.
والصواب ما أثبت.
(14/84)
قليلا حتى كان يوم الفتح، فلما كان يوم
الفتح، وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام. وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، وقرأ:
(وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض = وإنه لا
يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. (1)
* ذكر من قال ذلك:
16346- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قال: كان ينزل الرجل
بين المسلمين والمشركين، فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن
ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك، وأنزل الله في ذلك،
فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك، (2) إلا صاحب جزية مُقِرّ
بالخراج.
16347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حض
الله المؤمنين على التواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية
في الدين دون سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. (3)
* * *
وأما قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، فإن
أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا، أيها المؤمنون، ما أمرتم به من
موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة، والأنصار
بالإيمان، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار = (تكن
فتنة) ، يقول: يحدث بلاء في الأرض
__________
(1) في المطبوعة: " ولم " بزيادة الواو.
(2) قوله: " لا تراءى نار مسلم ومشرك "، أسند الترائي إلى
النار، كناية عن الجوار، وانظر التعليق السالف ص: 83، رقم: 1.
(3) الأثر: 16347 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16318.
(14/85)
بسبب ذلك (1) = (وفساد كبير) ، يعني:
ومعاصٍ لله. (2)
* ذكر من قال ذلك:
16348- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا تفعلوا
هذا، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون = (تكن فتنة في
الأرض وفساد كبير) . قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلا
بالهجرة. (3)
16349- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (والذين كفروا بعضهم
أولياء بعض) ، يعني في الميراث = (إلا تفعلوه) ، يقول: إلا
تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد
كبير) ،
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تَناصروا، أيها المؤمنون، في الدين،
تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
* ذكر من قال ذلك:
16350- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم،
وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: (إلا تفعلوه تكن فتنة
في الأرض وفساد كبير) ، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون
الكافر، وإن كان ذا رحم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ،
أي: شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض، بتولّي
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 13: 537، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 13: 36، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(3) في المخطوطة: " ولا يجعلونهم مقيم "، والصواب ما في
المطبوعة.
(14/86)
المؤمن الكافرَ دون المؤمن. (1) ثم رد
المواريث إلى الأرحام. (2)
16351- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)
، قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين = (تكن فتنة في الأرض
وفساد كبير) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: (والذين كفروا
بعضهم أولياء بعض) ، قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض
دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ
في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى
"الوليّ"، أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب. (3) فأما
الوارث فغير معروف ذلك من معانيه، إلا بمعنى أنه يليه في
القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله
الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر، أولى من
توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله: (إلا
تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، تأويلُ من قال: إلا
تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة
في الأرض = إذْ كان مبتدأ الآية من قوله: (إن الذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) . بالحث على
الموالاة على الدين والتناصر جاء، فكذلك (4) الواجب أن يكون
خاتمتها به.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة بعد قوله " فساد كبير " ما نصه: " إن يتول
المؤمن الكافر دون المؤمن، ثم رد المواريث إلى الأرحام "،
ومثلها في المخطوطة إلا أنه كتب " إن يتولى ". وهو كلام مضطرب،
سببه أن " المؤمن " ذكر في الكلام مرات، فأسقط ما بين " المؤمن
" في قوله " إلا يوال المؤمن المؤمن "، إلى قوله بعد: " بتولي
المؤمن الكافر "، فاضطراب الكلام، وسقته على الصواب من سيرة
ابن هشام.
(2) الأثر: 16350 - سيرة ابن هشام 2: 332، 333، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16347، وفيه جزء منه.
(3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(4) في المطبوعة والمخطوطة " وكذلك " بالواو، والفاء حق
السياق.
(14/87)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، آوَوْا رسول الله صلى الله
عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم، ونصروا دين الله، أولئك هم
أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا، لا من آمن ولم يهاجر دارَ
الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم
(1) = (لهم مغفرة) ، يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم، بعفوه
لهم عنها (2) = (ورزق كريم) ، يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب
هنيٌّ كريم، (3) لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا، (4) ولكنه
يصير رشحًا كرشح المسك (5)
* * *
وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا: أن معنى قول الله: (بعضهم
أولياء بعض) في هذه الآية، وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء)
، إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب
ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده، دون
من لم يهاجر بقوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
__________
(1) انظر تفسير " هاجر " و " جاهد "، و " آوى " فيما سلف قريبا
ص 77، تعليق: 1 - 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة " غفر ".
(3) انظر تفسير " رزق كريم " فيما سلف وكان في المطبوعة هنا "
طعم ومشرب "، والصواب من المخطوطة.
(4) " النجو "، ما يخرج من البطن.
(5) روى مسلم وأبو داود من حديث جابر: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا
ويَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا
يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ. قِيلَ: فَمَا بَالُ
الطَّعَامِ؟ قال: جُشاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك، يُلهمون
التسبيح والتحميد كما تُلهمُونَ النَّفَس "
(صحيح مسلم 17: 173) .
(14/88)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(75)
في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، الآية،
ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك، الدلالةُ على حكم ميراثهم، لم
يكن عَقِيبَ ذلك إلا الحثّ على إمضاء الميراث على ما أمر. (1)
وفي صحة ذلك كذلك، الدليلُ الواضح على أن لا ناسخ في هذه
الآيات لشيء، ولا منسوخ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "والذين آمنوا"، بالله ورسوله،
من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم
بعضًا، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر =
(وهاجروا) ، دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (وجاهدوا معكم) ،
أيها المؤمنون = (فأولئك منكم) ، في الولاية، يجب عليكم لهم من
الحق والنصرة في الدين والموارثة، مثل الذي يجب لكم عليهم،
ولبعضكم على بعض، (2) كما:-
16352- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم
ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين
والأنصار دونهم، إلى الأرحام التي بينهم، (3) فقال: (والذين
آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، أي: بالميراث (4) = (إن الله
بكل شيء عليم) . (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " إلا الحث على مضى "، وفي المخطوطة: "على
أمضى"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير " هاجر "، و " جاهد " فيما سلف ص: 88، تعليق:
1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ثم المواريث إلى الأرحام التي
بينهم "، أسقط من الكلام تمام الكلام الذي أثبته من سيرة ابن
هشام، وسبب ذلك كما فعل في رقم: 16350، هو ذكر " الأرحام "
مرتين، فاختلط عليه بصره فنقل ما نقل.
(4) في المطبوعة: " أي: في الميراث "، وهو خطأ، صوابه في
المخطوطة والسيرة.
(5) الأثر: 16352 - سيرة ابن هشام 2: 333، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 16350.
(14/89)
القول في تأويل قوله: {وَأُولُو الأرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام = (بعضهم
أولى ببعض) ، في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه
نصيبًا وحظًّا، من الحليف والولي = (في كتاب الله) ، يقول: في
حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء (1) =
(إن الله بكل شيء عليم) ، يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده،
في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، دون الحلف بالعقد،
وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16353- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان
قال، حدثنا أبي، قال، حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث
الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنزل الله: (وأولوا الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله) .
16354- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال،
حدثنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث: أن أخاه شريح بن الحارث
كانت له سُرِّيَّة، فولدت منه جارية، فلما شبت الجارية
زُوِّجت، فولدت غلامًا، ثم ماتت السرِّية، واختصم شريح بن
الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها، فجعل شريح بن
الحارث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله! قال: فقضى شريح
بالميراث للغلام. قال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله) ، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير، فأخبره بقضاء
شريح وقوله، فكتب ابن
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف ص: 64، تعليق 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(14/90)
الزبير إلى شريح: "إن ميسرة أخبرني أنك
قضيت بكذا وكذا"، وقلت: (وأولوا الأرحام بعضهم أؤلى ببعض في
كتاب الله) ، وإنه ليس كذلك، إنما نزلت هذه الآية: أنّ الرجل
كان يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فنزلت: (وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . فجاء بالكتاب إلى شريح، فقال
شريح: أعتقها حيتان بطنها! (1) وأبى أن يرجع عن قضائه. (2)
16355- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن
عون قال، حدثني عيسى بن الحارث قال: كانت لشريح بن الحارث
سُرِّية، فذكر نحوه = إلا إنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد
الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فلما نزلت تُرِك ذلك. (3)
آخر تفسير "سورة الأنفال"
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) في المطبوعة: " جنين "، غير ما في المخطوطة. وفي أخبار
القضاة لوكيع " جنان بطنها "، والذي هنا، وفي أخبار القضاة،
مشكل، فأثبته حتى أعرف صوابه، أو يعرفه غيري.
(2) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320،
321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن
ابن عون، بنحوه.
(3) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320،
321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن
ابن عون، بنحوه.
(14/91)
|