تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

القول في تأويل قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.
* * *
وقوله: (مردوا على النفاق) ، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.
* * *
ومنه: "شيطانٌ مارد، ومَرِيد"، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل: "تمرَّد فلان على ربه"، أي: عتَا، ومرنَ على معصيته واعتادها. (1)
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما: -
17119- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.
17120- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، أي لجُّوا فيه، وأبوْا غيرَه. (2)
* * *
= (لا تعلمهم) ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة،
__________
(1) انظر تفسير " مريد " فيما سلف 9: 211، 212، وفي المطبوعة: " أي: عتا ومرد على معصيته. . . "، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 17120 - سيرة ابن هشام 4: 198، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17089.

(14/440)


ولكنا نحن نعلمهم، كما: -
17121- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) ، إلى قوله: (نحن نعلمهم) ، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك! قال نبي الله نوح عليه السلام: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ،، [سورة الشعراء: 112] ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [سورة هود: 86] ، وقال الله لنبيه عليه السلام: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) .
* * *
وقوله: (سنعذبهم مرتين) ، يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين، إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا، ما هي؟
فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17122- حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قول الله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، إلى قوله: (عذاب عظيم) ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق. اخرج، يا فلان، فإنك منافق. فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً

(14/441)


أنه لم يشهد الجمعة، وظنّ أن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، ظنّوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلُّوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر، يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم! فهذا العذاب الأول، حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني، عذاب القبر. (1)
17123- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين، فيعذبهم بلسانه، قال: وعذاب القبر.
* * *
[وقال آخرون: ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا.] (2)
* * *
ذكر من قال ذلك:
17124- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: القتل والسِّبَاء.
17125- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، بالجوع، وعذاب القبر. قال: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يوم القيامة.
17126- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون، والقاسم، ويحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (سنعذبهم مرتين) ، قال: بالجوع والقتل = وقال يحيى: الخوف والقتل. (3)
17127- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: بالجوع والقتل.
__________
(1) الأثر: 17122 - رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 33، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، وهو ضعيف ".
(2) هذه الترجمة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، استظهرتها من سياق الأخبار التالية.
(3) في المطبوعة: " بالجوع. . . "، بالباء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/442)


17128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين) ، قال: بالجوع، وعذاب القبر.
17129- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: الجوع والقتل. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذبهم عذابًا في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
17130- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) ، عذاب الدنيا، وعذاب القبر، (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: "ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة، (2) سِراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا. ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشُدُك الله، أمنهم أنا؟ قال: لا والله، ولا أومِن منها أحدًا بعدك!
17131- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (سنعذبهم مرتين) ، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.
17132- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) ، قال: عذابًا في الدنيا، وعذابًا في القبر.
__________
(1) في المطبوعة: " بالجوع "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " الدبيلة " في اللغة، خراج ودمل كبير، تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالبا، وهي تصغير " دبلة " (بضم الدال وسكون الباء) ، بمثل معناها.

(14/443)


17133- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، = ثم يردّون إلى عذاب النار.
* * *
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم، والمرة الأخرى في جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
17134- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد، وقرأ قول الله: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، [سورة التوبة: 55] ، بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار = (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، قال: النار.
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، الحدود، والأخرى: عذابُ القبر.
ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرتضًى. (1)
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، أخذ الزكاة من أموالهم، والأخرى عذابُ القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم، عن الحسن.
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
17135- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (سنعذبهم مرتين) ، قال: العذاب الذي وعدَهم مرتين، فيما بلغني، غَمُّهم بما هم
__________
(1) في المطبوعة: " غير مرضي ". وأثبت ما في المخطوطة.

(14/444)


فيه من أمر الإسلام، (1) وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة، ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه، عذابُ الآخرة، (2) والخُلْد فيه. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين (4) = وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ. (5) غير أن في قوله جل ثناؤه: (ثم يردّون إلى عذاب عظيم) ، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.
* * *
وقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يقول: ثم يردُّ هؤلاء المنافقون، بعد تعذيب الله إياهم مرتين، إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فيما بلغني عنهم ما هم فيه أمر الإسلام "، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: " ويخلدون فيه "، وفي المخطوطة: " ويخلد فيه "، وصواب قراءتها من سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 17135 - سيرة ابن هشام 4: 198، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17120.
(4) في المطبوعة: " نتوصل به "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " بأي ذلك من بأي، على أن في قوله. . . "، فحرف وبدل وأفسد الكلام إفسادًا.
وانظر القول في " أي ذلك كان من أي " فيما سلف ص: 365، تعليق: 1، والمراجع هناك، فقد مضت أخواتها كثيرًا، وحرفها الناسخ.

(14/445)


وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

القول في تأويل قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ومنهم "آخرون اعترفوا بذنوبهم"، يقول: أقرُّوا بذنوبهم = (خلطوا عملا صالحًا) ، يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ: اعترافهم بذنوبهم، وتوبتهم منها، والآخر السيئ: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج غازيًا، وتركهم الجهادَ مع المسلمين.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، وإنما الكلام: خلطوا عملا صالحًا بآخر سيئ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك، وجائز في العربية أن يكون "بآخر"، (1) كما تقول "استوى الماء والخشبة"، أي: بالخشبة، "وخلطت الماء واللبن".
وأنكر [آخر] أن يكون نظير قولهم (2) "استوى الماء والخشبة". واعتلَّ في ذلك بأن الفعل في "الخلط" عامل في الأول والثاني، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه، وأن تقديم "الخشبة" على "الماء" غير جائز في قولهم: "استوى الماء والخشبة"، وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك "الخلطَ". (3)
__________
(1) لا شك أن الناسخ أسقط شيئًا من كلام أبي جعفر، وهو ظاهر لمن تأمل. وانظر التعليق التالي.
(2) الذي بين القوسين في المطبوعة وحدها، ولكنه كان فيها " آخرون ". أما المخطوطة ففيها: " وأنكر أن يكون نظير قولهم. . . "، وهذا أيضا دال على إسقاط الناسخ بعض الكلام. وانظر التعليق التالي.
(3) في المطبوعة: " دليلا عندهم "، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن الناشر الأول غيره، لما وضع " آخرون " من عند نفسه. انظر التعليق السالف.
هذا، وقد تركت الكلام على حاله، لأني لا شك أن الناسخ تخطأ بعض كلام أبي جعفر.

(14/446)


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أنه بمعنى قولهم: "خلطت الماء واللبن"، بمعنى: خلطته باللبن.
* * *
="عسى الله أن يتوب عليهم"، يقول: لعل الله أن يتوب عليهم= "وعسى" من الله واجب، (1) وإنما معناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت= "إن الله غفور رحيم"، يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه، وساترٌ له عليها = "رحيم"، به أن يعذبه بها. (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية، والسبب الذي من أجله أنزلت فيه.
فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، منهم أبو لبابة، فربط سبعةٌ منهم أنفسهم إلى السّواري عند مَقْدم النبي صلى الله عليه وسلم، توبةً منهم من ذنبهم.
* ذكر من قال ذلك:
17136- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. (3)
__________
(1) انظر تفسير "عسى" فيما سلف: ص 167 تعليق 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "غفور" و "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .
(3) في المطبوعة: "وكان" وأثبت ما في المخطوطة بالفاء.

(14/447)


فلما رآهم قال: "من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، [وحلفوا لا يطلقهم أحد] ، حتى تطلقهم، وتعذرهم. (1) فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! (2) فأنزل الله تبارك وتعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) = و"عسى" من الله واجب. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا ستة، أحدهم أبو لبابة.
* ذكر من قال ذلك:
17137- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله) ، إلى قوله: (إن الله غفور رحيم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكّروا وندموا، وأيقنوا بالهلكة، وقالوا: "نكون في الكِنِّ والطمأنينة مع النساء، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالسّواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرُنا"، فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد، وبقي ثلاثةُ نفرٍ لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم "، سقط بعض الكلام وتمامه في الدر المنثور: " وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم "، وآثرت ما وضعته بين القوسين.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ونحن بالله "، وآثرت ما كتبت.

(14/448)


من غزوته، وكان طريقه في المسجد، فمرَّ عليهم فقال: من هؤلاء الموثقو أنفسهِم بالسواري؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم! فأنزل الله برحمته: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) = و"عسى" من الله واجب = فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذرَهم، وتجاوز عنهم.
* * *
وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية.
* ذكر من قال ذلك:
17138- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) ، قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم كرْدَم، ومرداس، وأبو لبابة.
17139- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال، وأبو لبابة، وكردم، ومرداس، وأبو قيس. (1)
* * *
وقال آخرون: كانوا سبعة.
* ذكر من قال ذلك:
17140- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) هؤلاء خمسة، لم يذكر تمام الثمانية، كما تدل عليه ترجمة الكلام.

(14/449)


قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) ، ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْطٍ تخلفوا عن غزوة تبوك، فأما أربعة فخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا: جدُّ بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وكلهم من الأنصار، وهم الذين قيل فيهم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) ، الآية.
17141- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: هم نفر ممن تخلف عن تبوك، منهم أبو لبابة، ومنهم جد بن قيس، تِيبَ عليهم = قال قتادة: وليسوا بثلاثة.
17142- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: هم سبعة، منهم أبو لبابة، كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك، وليسوا بالثلاثة.
17143- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان قريبًا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: "نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا! " وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة، لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. (1) فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فمرّ في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم، فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم
__________
(1) " بالسواري " زيادة من المخطوطة، ليست في المطبوعة.

(14/450)


ما ترى، وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين! فأنزل الله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى: (عسى الله أن يتوب عليهم) = و"عسى" من الله واجب = فأطلقهم نبيُّ الله وعذرهم.
* * *
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه، (1) ما كان من أمره في بني قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
17144- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: نزلت في أبي لبابة، قال لبني قريظة ما قال.
17145- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: أبو لبابة، إذ قال لقريظة ما قال، أشار إلى حلقه: إن محمدًا ذابحكم إن نزلتم على حُكْم الله.
17146- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فذكر نحوه = إلا أنه قال: إن نزلتم على حكمه.
17147- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية، فقال: لا أحلُّ نفسي حتى يحلني الله ورسوله! قال: فحلَّه النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه أنزلت هذه الآية: (وآخرون اعترفوا
__________
(1) في المطبوعة: " فتيب عليه منه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهي صواب محض.

(14/451)


بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا) ، الآية.
17148- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: نزلت في أبي لبابة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة، بسبب تخلفه عن تبوك.
* ذكر من قال ذلك:
17149- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، فقال: والله لا أحلّ نفسي منها، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى أموت أو يتوب الله عليّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى خرّ مغشيا عليه، قال: ثم تاب الله عليه، ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني! قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
* * *
وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعراب.
* ذكر من قال ذلك:
17150- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: فقال إنهم من الأعراب.
17151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه

(14/452)


الأمة من قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى: (إن إ لله غفور رحيم) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم الجهادَ معه، والخروجَ لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك = وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترفُ بذنبه، الموثقُ نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك [كذلك] ، (2) وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً، عُلِم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد، (3) فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعةَ فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صحَّ ما قلنا في ذلك. وقلنا: "كان منهم أبو لبابة"، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر: 17151 - " حجاج بن أبي زينب السلمي "، " أبو يوسف الواسطي "، " الصيقل "، ضعيف، ليس بقوي ولا حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 373، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 161، وميزان الاعتدال 1: 215. وكان في المطبوعة: " بن أبي ذئب "، وهو خطأ، والمخطوطة برسم المطبوعة غير منقوطة.
و" أبو عثمان "، هو النهدي، " عبد الرحمن بن مل "، ثقة، أسلم على عهد رسول الله ولم يلقه. مضى مرارًا، منها رقم: 13097 - 13100.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 273، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في التوبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(3) في المطبوعة: " أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد "، أساء قراءة المخطوطة، فحرف وزاد من عنده، ما أفسد الكلام وأهلكه.

(14/453)


خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

القول في تأويل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها = (صدقة تطهرهم) ، من دنس ذنوبهم (1) = (وتزكيهم بها) ، يقول: وتنمِّيهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها، إلى منازل أهل الإخلاص (2) = (وصل عليهم) ، يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم، واستغفر لهم منها = (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم (3) = (والله سميع عليم) ، يقول: والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم، ولغير ذلك من كلام خلقه = (عليم) ، بما تطلب بهم بدعائك ربّك لهم، وبغير ذلك من أمور عباده. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17152- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: جاءوا بأموالهم = يعني أبا لبابة وأصحابه = حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا، واستغفر لنا! قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
__________
(1) انظر تفسير " التطهير " فيما سلف 12: 549، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التزكية " فيما سلف من فهارس اللغة (زكا) .
(3) انظر تفسير " الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (صلا) .
= وتفسير " سكن " فيما سلف 11: 557.
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .

(14/454)


وتزكيهم بها) ، يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم.
17153- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّق بها عنا، وصلِّ علينا = يقولون: استغفر لنا = وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آخذ منها شيئًا حتى أومر. فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا من أموالهم، فتصدَّق بها عنهم.
17154- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم قال: لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسَّواري، قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، الآية.
17155- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا عنهم: يا نبيّ الله؛ طهِّر أموالنا! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الآخران مثله، وكان عَمي منهم اثنان، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِي.
17156- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأربعة: جدُّ بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، هم الذين قيل فيهم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، أي وقارٌ لهم، وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدَّقوا.

(14/455)


17157- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، قال: لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه، أتوا نبيّ الله بأموالهم فقالوا: يا نبي الله، خذ من أموالنا فتصدَّق به عنا، وطهَّرنا، وصلِّ علينا! يقولون: استغفر لنا = فقال نبي الله: لا آخذ من أموالكم شيئًا حتى أومر فيها = فأنزل الله عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، من ذنوبهم التي أصابوا = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم. ففعل نبي الله عليه السلام ما أمره الله به.
17158- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (خذ من أموالهم صدقة) ، أبو لبابة وأصحابه = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم، لذنوبهم التي كانوا أصابوا.
17159- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، قال: هؤلاء ناسٌ من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، اعترفوا بالنفاق، وقالوا: يا رسول الله، قد ارتبنا ونافقنا وشككنا، ولكن توبةٌ جديدة، وصدقةٌ نخرجها من أموالنا! فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، بعد ما قال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، [سورة التوبة: 84] .
* * *
واختلف أهل العربية في وجه رفع "تزكيهم".
فقال بعض نحويي البصرة: رفع "تزكيهم بها"، في الابتداء، وإن شئت جعلته من صفة "الصدقة"، ثم جئت بها توكيدًا، وكذلك "تطهرهم".

(14/456)


وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: (تطهرهم) ، للنبي عليه السلام فالاختيار أن تجزم، لأنه لم يعد على "الصدقة" عائد، (1) (وتزكيهم) ، مستأنَفٌ. وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها، جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول، أن قوله: (تطهرهم) ، من صلة "الصدقة"، لأن القرأة مجمعة على رفعها، وذلك دليل على أنه من صلة "الصدقة". وأما قوله: (وتزكيهم بها) ، فخبر مستأنَفٌ، بمعنى: وأنت تزكيهم بها، فلذلك رفع.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إن صلاتك سكن لهم) .
فقال بعضهم: رحمة لهم.
* ذكر من قال ذلك:
17160- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: رحمة لهم.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقارٌ لهم.
* ذكر من قال ذلك:
17161- حدثنا بشر قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إن صلاتك سكن لهم) ، أي: وقارٌ لهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة المدينة: (إِنَّ صَلوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ) بمعنى دعواتك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة " بأنه لم يعد "، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/457)


أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

وقرأ قرأة العراق وبعض المكيين: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، بمعنى: إن دعاءك.
* * *
قال أبو جعفر: وكأنَّ الذين قرأوا ذلك على التوحيد، رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحُّ، لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: (إن صلواتك سكن لهم) ، إذ كانت "الصلوات"، هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد، دون ما هو أكثر من ذلك. والذي قالوا من ذلك، عندنا كما قالوا، وبالتوحيد عندنا القراءةُ لا العلة، لأن ذلك في العدد أكثر من "الصلوات"، (1) ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلواته أنه سكن لهؤلاء القوم، (2) لا الخبر عن العدد. وإذا كان ذلك كذلك، كان التوحيد في "الصلاة" أولى.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره، أخبر به المؤمنين به: أن قبول توبة من تاب من المنافقين، وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها، ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم = وأن نبيَّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه، وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد، وأن محمدًا إنما يفعل ما يفعل من تركٍ وإطلاقٍ
__________
(1) في المطبوعة: " وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد. . . "، غير ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة: " وصلاته "، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/458)


وأخذِ صدقةٍ وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جل ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين، الموثقو أنفسهم بالسواري، القائلون: "لا نُطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا"، السَّائلو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخذَ صدقة أموالهم، أنَّ ذلك ليس إلى محمد، وأن ذلك إلى الله، وأن الله هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده أو يردُّها، ويأخذ صدقة من تصدَّق منهم أو يردُّها عليه دون محمد، فيوجِّهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله، ويقصدوا بذلك قصدَ وجهه دون محمد وغيره، ويخلصوا التوبة له، ويريدوه بصدقتهم، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم؟ = يقول: المراجع لعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه. (1)
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما: -
17162- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال الآخرون = يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء، يعني الذين تابوا، كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون، فما لهم؟ فقال الله: (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) . (2)
17163- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه = قال شعبة: قال العوام بن حوشب: هو قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب = قال: سمعت عبد الله بن السائب = وكان جاره = قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما من عبدٍ تصدق بصدقة إلا وقعت في يد الله، فيكون هو الذي يضعُها في يد السائل. وتلا هذه الآية: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) . (3)
__________
(1) انظر تفسير " التوبة "، " التواب "، " الرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (رحم) .
(2) انظر تفسير " التوبة "، " التواب "، " الرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (رحم) .
(3) الأثر: 17163 - " قتادة "، أو " ابن قتادة "، رجل من محارب. لم أجده هكذا.
ولم أجد أحدًا تكلم في أمره أو ذكره. وصريح هذا الإسناد يدل على أن " قتادة " أو " ابن قتادة " المحاربي، هذا، هو الذي أخبر شعبة، وهو الذي كان يأتي حمادًا، ولم يجلس إليه، وأنه هو الذي سمع من عبد الله بن السائب، وكان جاره، وأن " عبد الله بن السائب " هو الذي سمع من عبد الله ابن مسعود. وهذا إشكال:
فإن " عبد الله بن السائب "، هو " عبد الله بن السائب الكندي "، روى عن أبيه، وزادان الكندي. وعبد الله بن معقل بن مقرن، وعبد الله بن قتادة المحاربي (كما سيأتي في الآثار التالية) . وروى عنه الأعمش، وأبو إسحاق الشيباني، والعوام بن حوشب، وسفيان الثوري. وهو ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 75، ولم يذكروا له رواية عن ابن مسعود كما ترى، بل ذكروا روايته عن " عبد الله بن قتادة المحاربي "، كما سيأتي في الآثار التالية.
فأنا أخشى أن يكون في إسناد هذا الخبر شيء، بدلالة الآثار التي تليه، وهي مستقيمة على ما ذكر في كتب الرجال، وأخشى أن يكون شعبة سمعه عن رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه، عن عبد الله بن السائب، عن قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب = ثم سمعه من العوام بن حوشب، عن عبد الله بن السائب، عن قتادة، أو قتادة، رجل من محارب = وأن يكون الناسخ قد أفسد الإسناد. وانظر الكلام على " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " أو " عبد الله بن قتادة " في التعليق على الآثار التالية.

(14/459)


17164- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي، عن عبد الله بن مسعود قال: ما تصدَّق رجلٌ بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات) . (1)
17165- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن ابن مسعود، بنحوه. (2)
17166- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة قال، قال عبد الله: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (3)
__________
(1) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".
(2) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".
(3) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".

(14/460)


17168- حدثنا أبو كريب [قال، حدثنا وكيع] قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصيرُ مثل أُحُدٍ. وتصديق ذلك في كتاب الله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، (1) و (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، (2) [سورة البقرة: 276]
17169- حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الرَّقى قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه قال: إن الله يقبل الصدقة = ثم ذكر نحوه. (3)
__________
(1) هكذا جاءت الآية في المخطوطة " وهو الذي يقبل التوبة "، كما رواه أحمد في المسند أيضا رقم: 10090، بهذا الإسناد، بمثل هذا الخطأ، فإن التلاوة: " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة. . . "، وقد استظهر أخي السيد أحمد أنه خطأ قديم، كما قال في التعليق على الخبر رقم: 6253 فيما سلف. وأما في المطبوعة، فقد صححها الناشر " أن الله هو يقبل التوبة. . . ".وأثبت ما في المخطوطة ليعلم هذا الخطأ.
(2) الأثر: 17168 - سلف هذا الخبر بهذا الإسناد برقم: 6253، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
(3) الأثر: 17169 - " سليمان بن عمر بن خالد الأقطع الرقي "، مضى برقم: 6254، وكان في المطبوعة " الربى "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وصواب قراءتها " الرقى ".
مضى برقم: 6254، وخرجه أخي السيد أحمد فيما سلف.

(14/461)


وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

17170- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيِّب، ويأخذها بيمينه، وإن الرّجل يتصدق بمثل اللقمة، فيربِّيها الله له كما يربِّي أحدكم فصيله أو مُهْره، فتربو في كف الله = أو قال: في يد الله = حتى تكون مثل الجبل. (1)
17171- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "والذي نفس محمد بيده، لا يتصدق رجلٌ بصدقة فتقع في يد السائل، حتى تقع في يد الله!
17172- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (وأن الله هو التواب الرحيم) ، يعني: إن استقاموا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وقل) ، يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك = (اعملوا) ، لله بما يرضيه، من طاعته، وأداء فرائضه = (فسيرى الله عملكم ورسوله) ،
__________
(1) الأثر: 17170 - مضى برقم: 6256، من طريق محمد بن عبد الملك، عن عبد الرزاق، عن معمر، بنحوه. وخرجه أخي السيد أحمد هناك، وأشار إلى رواية الطبري في هذا الموضع، وصحح إسناده هذا.

(14/462)


يقول: فسيرى الله إن عملتم عملكم، ويراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا = (وستردون) ، يوم القيامة، إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركم وظواهرها (1) = (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون، (2) وما منه خالصًا، وما منه رياءً، وما منه طاعةً، وما منه لله معصية، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
* * *
17173- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، قال: هذا وعيدٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) ، (شهد) .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(3) عند هذا الموضع انتهى الجزء الحادي عشر من مخطوطتنا، وفي نهايته ما نصه:
" نجز المجلد الحادي عشر من كتاب البيان، بحمد الله وعونه وحُسْن توفيقه يتلوه في الجزء الثاني عشر، إن شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
وكان الفراغ من نسخه في شهر شعبان المبارك سنة خمس عشرة وسبعمائة. غفر الله لمؤلفه، ولصاحبه، ولكاتبه، ولجميع المسلمين.
آمين، آمين، آمين، آمين "
ثم يتلوه الجزء الثاني عشر، وأوله:
" بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ ".

(14/463)


وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

القول في تأويل قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم حين شخصتم لعدوّكم، أيها المؤمنون، آخرون.
* * *
ورفع قوله: "آخرون"، عطفًا على قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) .
* * *
= (وآخرون مرجون) ، يعني: مُرْجئون لأمر الله وَقضائه.
* * *
يقال منه: "أرجأته أرجئه إرجاء وهو مرجَأ"، بالهمز وترك الهمز، وهما لغتان معناهما واحد. وقد قرأت القرأة بهما جميعا. (1)
* * *
وقيل: عُني بهؤلاء الآخرين، نفرٌ ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فندموا على ما فعلوا، ولم يعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحَّت توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17174- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: وكان ثلاثة منهم = يعني: من المتخلفين عن
__________
(1) انظر تفسير " الإرجاء " فيما سلف 13: 20، 21.

(14/464)


غزوه تبوك = لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، أرجئوا سَبْتَةً، (1) لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم، فأنزل الله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ) ، إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، [سورة التوبة: 117، 118] .
17175- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية = يعني قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) = أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم = يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه = فتصدَّق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا، ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وهم الذين قال الله: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) . فجعل الناس يقولون: هلكوا! إذ لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفرَ لهم! فصاروا مرجئين لأمر الله، حتى نزلت: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) ، الذين خرجوا معه إلى الشام = (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، ثم قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، يعني المرجئين لأمر الله، نزلت عليهم التوبة، فعُمُّوا بها، فقال: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) ، إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .
17176- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
17177- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) قوله: " سبتة "، أي برهة من الدهر.

(14/465)


عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
17178- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج. (1)
17179-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17180- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17181-...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله.
17182- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة = يريد: غير أبي لبابة وأصحابه = ولم ينزل الله عذرهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: "هلكوا"، حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه.
__________
(1) الأثر: 17177 - " مرارة بن ربعي "، هكذا جاء في المخطوطة في هذا الخبر، وفي الذي يليه. وصححه في المطبوعة: " مرارة بن الربيع " ثم جاء في رقم: 17183 في المخطوطة: " مرارة بن ربيعة "، وكلاهما غير المشهور المعروف في كتب تراجم الصحابة، والكتب الصحاح، فهو فيها جميعا " مرارة بن الربيع الأنصاري "، من بني عمرو بن عوف.
وأما " مرارة بن ربعي بن عدي بن يزيد بن جشم "، فلم يذكره غير ابن الكلبي، وقال: " كان أحد البكائين ".
فأثبت ما في مخطوطة الطبري، لاتفاق الاسم بذلك في مواضع، وأخشى أن يكون في اسمه خلاف لم يقع إلي خبره. وانظر ما سيأتي برقم: 17436.
ثم انظر رقم: 17433، وما بعده، وفيها " ابن ربيعة " و " ابن الربيع ".

(14/466)


وتقول فرقة أخرى: "عسى الله أن يعفو عنهم! "، وكانوا مرجئين لأمر الله. ثم أنزل الله رحمته ومغفرته فقال: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ) الآية، وأنزل: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، الآية.
17183- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: كنا نُحدَّث أنهم الثلاثة الذين خُلّفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، رهط من الأنصار. (1)
17184- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلّفوا.
17185- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) ، وهم الثلاثة الذين خلفوا، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، حتى أتتهم توبتهم من الله. (2)
* * *
وأما قوله: (إما يعذبهم) ، فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه، فيعذبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة = (وإما يتوب عليهم) ، يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم، فيغفر لهم = (والله عليم حكيم) ، يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب = (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه، لا يدخل حكمه خَلَلٌ. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 17183 - " مرارة بن ربيعة "، المعروف " مرارة بن الربيع "، ولكن هكذا جاء في المخطوطة، وصححه الناشر في المطبوعة. وانظر رقم: 17177.
(2) الأثر: 17185 - سيرة ابن هشام 4: 198، 199، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17135.
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) و (حكم) .

(14/467)


وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا، وهم، فيما ذكر، اثنا عشر نفسًا من الأنصار.
* ذكر من قال ذلك:
17186- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم = يعني: من تبوك = حتى نزل بذي أوان = بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة والليلة المطِيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ = أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم = ولو قَدْ قَدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلَّينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان، أتاه خبرُ المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي = أو أخاه: عاصم بن عدي = أخا بني العجلان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي! فدخل [إلى] أهله، فأخذ سَعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه، وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه

(14/468)


اثني عشر رجلا خِذَام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، (1) أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق = وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد = ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد = وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد = وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف = وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، وهم من بني ضبيعة = وبَحْزَج، (2) وهو إلى بني ضبيعة = وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة = ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله لمحادّتهم بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويفرِّقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، يقول: وإعدادًا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما، وقاتل رسول الله = (من قبل) ، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب = يعني: حزّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم = فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النَّصْر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار (4) يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه، فيما ذكر عنه، ليصلي فيه، فيما يزعم، إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " خذام بن خالد بن عبيد "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: " وبخدج "، والصواب ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 17186 - سيرة ابن هشام 4: 173، 174.
(4) انظر تفسير " الضرار " فيما سلف 5: 7، 8، 46، 53 / 6: 85 - 91.

(14/469)


رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) .
= (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) ، يقول جل ثناؤه: وليحلفن بانوه: "إن أردنا إلا الحسنى"، ببنائناه، إلا الرفق بالمسلمين، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، (1) وتلك هي الفعلة الحسنة = (والله يشهد إنهم لكاذبون) ، في حلفهم ذلك، وقيلهم: "ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى! "، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السُّوآى، ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لأبي عامر الفاسق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17187- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدُّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه! فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبُّ أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) ، إلى قوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .
17188- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا
__________
(1) في المطبوعة: " ومن عجز عن المسير "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.

(14/470)


ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قُباء، خرج رجالٌ من الأنصار، منهم: بحزج، (1) جدُّ عبد الله بن حنيف، (2) ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبَنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج (3) ويلك! ما أردت إلى ما أرى! فقال: يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى! وهو كاذب، فصدَّقه رسول الله وأراد أن يعذِره، فأنزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، يعني رجلا منهم يقال له "أبو عامر" كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون [إذا قدم] أبو عامر أن يصلي فيه، (4) وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله = (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) .
17189- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ،
__________
(1) في المطبوعة: " بخدج "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام 4: 174، كما سلف في رقم: 17186. ورأيت بعد في المحبر: 47: " بخدج " ولم أتمكن من تصحيحه. ثم انظر جمهرة الأنساب لابن حزم: 316 في نسب " سهل بن حنيف "، و " عثمان بن حنيف "، و " عباد بن حنيف ". وانظر التعليق التالي.
(2) ما أدري قوله: " جد عبد الله بن حنيف "، ولست أدري أهو من كلام ابن عباس أو من كلام غيره، وإن كنت أرجح أنه من كلام غيره، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين " عبد الله بن حنيف "، وجده " بحزج ". والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار: " عباد بن حنيف "، أخو " سهل بن حنيف ". فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء، فاختلط الكلام. وفي نسب " سهل بن حنيف " " عمرو، وهو بحزج، بن حنش بن عوف بن عمرو " (انظر ابن سعد 3 / 2 / 39، ثم: 5: 59) ، وجمهرة الأنساب لابن حزم: 316، ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية، وهو بلا شك غير " بحزج "، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار.
فهذا الذي هنا يحتاج إلى فضل تحقيق، لم أتمكن من بلوغه.
(3) في المطبوعة: " لبخدج "، وانظر التعليقات السالفة.
(4) في المطبوعة، ساق الكلام سياقا واحدا هكذا: " وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه "، وفي المخطوطة: "وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه"، وبين الكلامين بياض، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، وأثبت ما بين القوسين من الدر المنثور 1: 276، وروى الخبر من طريق ابن مردويه، وابن أبي حاتم. وهذا الذي أثبته يطابق في معناه ما سيأتي في الآثار التالية.

(14/471)


قال: أبو عامر الراهب، انطلق إلى قيصر، فقالوا: "إذا جاء يصلي فيه"، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
17190- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال المنافقون = (لمن حارب الله ورسوله) ، لأبي عامر الراهب.
17191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17192-...... قال، حدثنا أبو إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال: نزلت في المنافقين = وقوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال: هو أبو عامر الراهب.
17193- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17194- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم بنو غنم بن عوف.
17195- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم حيّ يقال لهم: "بنو غنم".
17196- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم حي يقال لهم: "بنو غنم" = قال أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ،

(14/472)


أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم، فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
17197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، الآية، عمد ناسٌ من أهل النفاق، فابتنوا مسجدًا بقباء، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلِّي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم، حتى أطلعه الله على ذلك = وأما قوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، فإنه كان رجلا يقال له: "أبو عامر"، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين، فقتلوه بإسلامه. (1) قال: إذا جاء صلى فيه، فأنزل الله: (لا تقم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى) ، الآية.
17198- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، هم ناس من المنافقين، بنوا مسجدًا بقباء يُضارُّون به نبيّ الله والمسلمين = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
17199- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال: مسجد قباء، كانوا يصلون فيه كلهم. وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له: "أبو عامر"، أبو: "حنظلة غسيل الملائكة"،
__________
(1) قوله: " فقتلوه بإسلامه "، كلام صحيح، وإن ظن بعضهم أنه لا يستقيم، وذلك أن أبا عامر الراهب، لما خرج إلى الروم مات هناك سنة تسع أو عشر. (الإصابة في ترجمة ولده: حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر) . فكأنه يقال أيضا أن الروم قتلته بإسلامه، كما جاء في هذا الخبر. وأما قوله بعد: " قال: إذا جاء صلى فيه "، فهو من كلام قتادة. وانظر الأخبار التالية، فإنه يقال إنه تنصر.

(14/473)


لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

و"صيفي"، [واحق] . (1) وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين، فخرج أبو عامر هاربًا هو وابن عبد ياليل، من ثقيف، (2) وعلقمة بن علاثة، من قيس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبد ياليل، (3) فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر، فتنصر وأقام. قال: وبنى ناسٌ من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر، قالوا: "حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه"، وتفريقًا بين المؤمنين، يفرقون به جماعتهم، (4) لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيلُ، فيقطع بيننا وبين الوادي، (5) ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، (6) فإذا ذهب السيل صلينا معهم! قال: وبنوه على النفاق. قال: وانهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وألقى الناس عليه التِّبن والقُمامة، (7) فأنزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، لئلا يصلي في مسجد قباء جميعُ المؤمنين = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، أبي عامر = (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) .
17200- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن أبي جعفر، عن ليث: أن شقيقًا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلُّوا بعدُ! فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بُني على ضرار، وكل مسجد بُنِيَ ضرارًا أو رياءً أو سمعة، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون، ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال: (لمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم) ، أنت = (فيه) .
* * *
يعني بقوله: (أسس على التقوى) ، ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته = (من أول يوم) ، ابتدئ في بنائه = (أحق أن تقوم فيه) ، يقول: أولى أن تقوم فيه مصلِّيًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " وأخيه "، والذي في المخطوطة كما أثبته غير مقروء قراءة ترتضي. وممكن أن تكون " وأخوه "، ولكنه عندئذ خطأ، صوابه أن يكون و " أخيه "، كما أثبته ناشر المطبوعة.
بيد أن السياق يدل على أن ما بين القوسين اسم ثالث، وهو اسم أخي حنظلة، وصيفي، ولم استطع أن أجد خبر ذلك.
وأما " صيفي "، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة " صيفي "، وأنه كان ممن شهد أحدا، ونسب ذلك إلى ابن سعد والطبراني، ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد.
(2) الذي جاء في المخطوطة والمطبوعة: " ابن بالين "، وإن كان في المخطوطة غير منقوط.
وهو خطأ لا شك فيه عندي، وأن صوابه: " وابن عبد ياليل " كما أثبته. فإن ابن عبد البر في الاستيعاب: 105، في ترجمة " حنظلة الغسيل "، ذكر أن أبا عمر الفاسق لما فتحت مكة، لحق بهرقل هاربا إلى الروم، فمات كافرا عند هرقل، وكان معه هناك " كنانة بن عبد ياليل " و " علقمة بن علاثة "، فاختصما في ميراثه إلى هرقل، فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل، وقال لعلقمة: هما من أهل المدر، وأنت من أهل الوبر.
و" كنانة بن عبد ياليل الثقفي "، ترجم له ابن حجر في القسم الرابع، وذكره ابن سلام الجمحي، في طبقات فحول الشعراء ص: 217، في شعراء الطائف، ولم يورد له خبرا بعد ذكره.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وابن بالين "، وفي المخطوطة غير منقوطة. انظر التعليق السالف.
(4) في المطبوعة: " بين جماعتهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " يقطع "، وأثبت ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة: " فنصلي "، وأثبت ما في المخطوطة.
(7) في المطبوعة: " النتن والقامة " والصواب ما في المخطوطة. و " التبن " عصيفة الزرع، فهو الذي يلقى. وأما " النتن " فالرائحة الكريهة، فكأنه ظن أن " النتن " مجاز لمعنى " الأقذار "، لنتن رائحتها! وهو باطل.

(14/474)


وقيل: معنى قوله: (من أول يوم) ، مبدأ أول يوم كما تقول العرب: "لم أره من يوم كذا"، بمعنى: مبدؤه = و"من أول يوم"، يراد به: من أول الأيام، كقول القائل: "لقيت كلَّ رجل"، بمعنى كل الرجال.
* * *
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه بقوله: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) .
فقال بعضهم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17201- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عثمان بن عبيد الله قال: أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر، أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أيّ مسجد هو؟ مسجد المدينة، أو مسجد قباء؟ قال: لا مسجد المدينة. (1)
17202-...... قال، حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي، عن الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله، عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد الرسول. (2)
__________
(1) الأثر: 17201 - " إبراهيم بن طهمان الخراساني "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 3762، 3727، 4931.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مولى سعيد بن العاص. رأى أبا هريرة، وأبا قتادة، وابن عمر، وأبا أسيد، يضفرون لحاهم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 156. وسيأتي في الأثرين التاليين رقم: 17202، 17203.
وأما قوله: " أرسلني محمد بن أبي هريرة "، فإني أرتاب فيه كل الارتياب، وأرجح أنه: " محرر بن أبي هريرة "، ولم أجد لأبي هريرة ولد يقال له " محمد "، بل ولده هم " المحرر بن هريرة "، و " وعبد الرحمن بن أبي هريرة "، و " بلال بن أبي هريرة ". ومضى " المحرر بن أبي هريرة " برقم: 2863، 16368 - 16370.
(2) الأثر: 17202 - " القاسم بن عمرو بن محمد العنقزي "، مولى قريش، سمع أباه. مترجم في الكبير 4 / 1 / 172، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 115، ولم يذكرا فيه جرحا.
" الدراوردي "، هو " عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 10676، 15714.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مضى في الأثر السالف.

(14/476)


17203-...... قال، حدثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال: سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: هو مسجد الرسول. (1)
17204-...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17205-...... قال، حدثنا أبي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد قال: هو مسجد الرسول.
17206- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حميد الخراط المدني قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت: كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال لي: [قال أبي] (2) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيُّ مسجدٍ الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا! = [فقلت] : (3) هكذا سمعت أباك يذكره. (4)
__________
(1) الأثر: 17203 - " ربيعة بن عثمان بن ربيعة التيمي "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 264، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 476.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مضى في الأثرين السالفين.
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من لفظ حديث مسلم. ولو قلت " قال قال أبي "، لكان مطابقا لما في المسند.
(3) في المخطوطة: " ثم هكذا سمعت أباك يذكر "، وفي المطبوعة حذف " ثم " وجعل " يذكر "، " يذكره ". فزدت ما بين القوسين إتماما للسياق. ونص روايته مسلم: " قالت فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره ".
(4) الأثر: 17206 - رواه مسلم في صحيحه 9: 168، 169 من هذه الطريق نفسها، مع اختلاف يسير في بعض لفظه.
ورواه أحمد في مسنده 3: 24، من هذه الطريق، نفسها مع خلاف في بعض لفظه.

(14/477)


17207- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: المسجد الذي أسس على التقوى، هو مسجدُ النبيِّ الأعظمُ.
17208- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، هو مسجد المدينة الأكبر.
17209- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال، قال سعيد بن المسيب، فذكر مثله = إلا أنه قال: الأعظم.
17210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17211- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد = قال: أحسبه عن أبيه = قال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أسس على التقوى.
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قُباء.
* ذكر من قال ذلك:
17212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، يعني مسجد قُباء.
17213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، نحوه.
17214- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، هو مسجد قباء.

(14/478)


17215- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة قال: مسجد قُباء، الذي أسس على التقوى، بناه نبي الله صلى الله عليه وسلم. (1)
17216- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد قباء.
17217- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير: الذين بُني فيهم المسجدُ الذي أسس على التقوى، بنو عمرو بن عوف.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لصحة الخبَر بذلك عن رسول الله. (2)
* ذكر الرواية بذلك.
17218- حدثنا أبو كريب وابن وكيع = قال أبو كريب: حدثنا وكيع = وقال ابن وكيع: حدثنا أبي = عن ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس، رجل من الأنصار، عن سهل بن سعد قال، اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبيّ! وقال الآخر: هو مسجد قباء! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: هو مسجدي هذا = اللفظ لحديث أبي كريب، وحديث سفيان نحوه. (3)
__________
(1) الأثر: 17215 - " صالح بن حيان القرشي "، ضعيف الحديث، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 276، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 398، وميزان الاعتدال 1: 455.
" ابن بريدة "، هو " عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي "، ثقة، مضى برقم: 12523.
(2) يعني الخبر الذي رواه أحمد ومسلم وأبو جعفر آنفا برقم: 17206، وما سيأتي من الأخبار.
(3) الأثر: 17218 - " ربيعة بن عثمان التيمي "، ثقة، مضى برقم: 17203.
و" عمران بن أبي أنس العامري المصري " ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 2 294.
وأما قول أبي جعفر " رجل من الأنصار "، فظني أن ذلك لأنه يقال إنه مولى " أبي خراش السلمي، أو الأسلمي "، قال ابن سعد: " كانوا يزعمون أنهم من بني عامر بن لؤى، والناس يقولون إنهم موالي، ثم انتموا بعد ذلك إلى اليمن ".
ولم أجدهم ذكروا له سماعا من سهل بن سعد الأنصاري، وهو خليق أن يروى عنه، لأن سهل بن سعد مات سنة 88، وعمران مات سنة 117.
و" سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري "، له ولأبيه صحبة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بن كعب، وعاصم بن عدي، وعمرو بن عبسة، ومروان بن الحكم، وهو دونه.
وهذا الخبر تفرد به أحمد من هذه الطريق نفسها، في مسنده 5: 331، ثم رواه في ص: 335، من طريق عبد الله بن عامر، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، وانظر الخبر التالي.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 34، وقال: " رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجالهما رجال الصحيح ".

(14/479)


17219- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدي هذا. (1)
17220- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثني الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء! وقال آخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: هو مسجدي هذا. (2)
17221- حدثني بحر بن نصر الخولاني قال، قرئ على شعيب بن الليث،
__________
(1) الأثر: 17219 - " عبد الله بن عامر الأسلمي "، ضعيف، ذاهب الحديث، مضى برقم: 15586.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 117، من طريق أبي نعيم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، ومن طريق عبد الله بن الحارث الأسلمي، عن عبد الله بن عامر.
وهذا إسناد ضعيف، لضعف " عبد الله بن عامر الأسلمي ".
(2) الأثر: 17220 - هذا حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب التفسير، ورواه أحمد في مسنده 3: 8، 89، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا عن أبي سعيد من غير هذا الوجه، رواه أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد "، وهو ما سيرويه، أبو جعفر من رقم: 17222 - 17224.

(14/480)


عن أبيه، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري قال: تمارى رجلان، فذكر مثله. (1)
17222- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سَحْبَل بن محمد بن أبي يحيى قال، سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدث، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجدي هذا، وفي كلٍّ خيرٌ. (2)
17223- حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا عبد العزيز، عن أنيس، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (3)
17224- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا صفوان بن عيسى قال، أخبرنا أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن رجلا من بني خُدْرة
__________
(1) الأثر: 17221 - " بحر بن نصر بن سابق الخولاني "، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 10588، 10647.
وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 243، من مسند أحمد قال: " حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد قال: تمارى رجلان ". ولم أستطع أن أستخرجه من المسند في ساعتي هذه، وقال ابن كثير: " تفرد به أحمد ".
(2) الأثر: 17222 - " سحبل بن محمد بن أبي يحيى سمعان الأسلمي "، هو " عبد الله بن محمد بن أبي يحيى "، وقد ينسب إلى جده. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 156.
وفي بعض الكتب غير مضبوط " سحيل " بالياء، وضبطه في التقريب بفتح السين المهملة، وسكون الحاء، بعدها موحدة. وكان في المطبوعة: " سجل "، والصواب ما في المخطوطة.
و" أنيس بن أبي يحيى سمعان الأسلمي "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 43، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 334.
وأبوه " سمعان "، " أبو يحيى، الأسلمي "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 205، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 316.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 23 من طريق: يحيى، عن أنيس بن أبي يحيى، بنحوه.
ثم رواه أيضا 3: 91 من طريق صفوان، عن أنيس، بنحوه (رواه أبو جعفر برقم: 17224) .
وإسناده صحيح. وسيأتي من طرق أخرى بعده.
(3) الأثر: 17223 - مكرر الذي قبله.

(14/481)


ورجلا من بني عمرو بن عوف، امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدريُّ: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العوفي: هو مسجد قباء. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه فقال: هو مسجدي هذا، وفي كلٍّ خيرٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، رجال يحبُّون أن ينظفوا مقاعدَهم بالماء إذا أتوا الغائط، والله يحبّ المتطهّرين بالماء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17225- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال: لما نزل: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الطُّهور الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: يا رسول الله، نغسل أثر الغائط. (2)
__________
(1) الأثر: 17224 - رواه أحمد في مسنده، كما أشرت إليه في التعليق على رقم: 17222.
و" صفوان بن عيسى الزهري "، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 310، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 425.
(2) الأثر: 17225 - حديث شهر بن حوشب المرسل، سيأتي ذكره في التعليق على رقم: 17228، بعده.

(14/482)


17226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قُباء: "إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطُّهور، فما تصنعون؟ " قالوا: إنا نغسل عنَّا أثر الغائط والبوْل.
17227- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ما هذا الطُّهور الذي أثنى الله عليكم فيه؟ قالوا: إنا نَسْتطيب بالماء إذا جئنا من الغائط.
17228- حدثني جابر بن الكردي قال، حدثنا محمد سابق قال، حدثنا مالك بن مغول، عن سيَّارٍ أبي الحكم، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبروني، فإن الله قد أثنى عليكم بالطُّهور خيرًا؟ فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد عندنا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. (1)
__________
(1) الأثر: 17228 - حديث شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، سيأتي من طرق، هذا ثم: 17229 - 17231، 17240.
" جابر بن الكردي بن جابر الواسطي "، شيخ الطبري، ثقة مضى برقم: 7216.
و"محمد بن سابق التميمي"، ثقة، قيل إنه ليس ممن يوصف بالضبط في الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 111، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 283، ولم يذكرا فيه جرحا.
و" مالك بن مغول بن عاصم البجلي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5431، 10872، 14268.
و" سيار، أبو الحكم العنزي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 39.
و" شهر بن حوشب الأشعري "، ثقة، مضى برقم: 1489، 5244، 6650 - 6652، وبعدها كثير.
و" محمد بن عبد الله بن سلام بن الحارث الخزرجي الإسرائيبلي "، له رؤية ورواية محفوظة. مترجم في تعجيل المنفعة: 366، 367، والكبير 1 / 1 / 18، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 297، والاستيعاب: 234، 235، وأسد الغابة 4: 324، والإصابة، في ترجمته.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 6: 6، من طريق " يحيى بن آدم، حدثنا مالك - يعني ابن مغول - قال سمعت سيارا أبا الحكم غير مرة يحدث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله. . . ".
ورواه البخاري في التاريخ الكبير 1 / 1 / 18 من طريق محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، بنحوه، ثم قال: " وقال إسحاق، عن جرير، عن ليث، عن رجل من الأنصار من أهل قباء: لما نزلت، بهذا ". فبين الاختلاف فيه على شهر بن حوشب، وأنه أبهم الرجل من الأنصار.
وأشار إليه الحافظ ابن عبد البر في ترجمته وقال: " حديثه مخرج في التفسير، ويختلف في إسناد حديثه هذا، ومنهم من يجعله مرسلا "، والمرسل هو رواية الطبري السالفة رقم: 17225، وقال ابن حجر في الإصابة: " قال ابن منده: رواه داود بن أبي هند، عن شهر مرسلا، لم يذكر محمد ولا أباه ".
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمته.
وسيأتي في رقم: 17230، قول يحيى بن آدم " ولا أعلم إلا عن أبيه ". فانظر التعليق على الأثر هناك.

(14/483)


17229- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا [يحيى بن رافع] ، عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم غير مرة، يحدث، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قُباء قال: إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا = يعني قوله: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قالوا: إنا نجده مكتوبًا عندنا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. (1)
17230- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا [يحيى بن رافع] ، قال، حدثنا مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام = قال يحيى: ولا أعلمه إلا عن أبيه = قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا! قالوا: إنا نجده
__________
(1) الأثر: 17229 - " يحيى بن رافع "، هكذا جاء في الموضعين في مطبوعة الطبري ومخطوطته، ولا أدري كيف وقع هذا، فليس في هذه الطبقة من الرواة من أعرفه يقال له " يحيى بن رافع "، وأما "يحيى بن رافع الثقفي"، فهذا قديم جدا سمع عثمان وأبا هريرة، ومضى برقم: 5777، ولكنه لما وقع هكذا في الموضعين أثبته على حاله.
أما الذي لا أكاد أشك فيه، فالصواب أنه " يحيى بن آدم "، كما جاء في مسند أحمد، وكما ذكره الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة، والإصابة، وذكر أيضا رواية أبي هشام الرفاعي عن يحيى بن آدم، كما سترى بعد، من طريق البغوي.
وهذا الخبر، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: " أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن قانع، والبغوي ". وانظر التعليق على رقم: 17228، وعلى رقم: 17230.

(14/484)


مكتوبًا علينا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. وفيه نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) . (1)
17231- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري قال، حدثنا أبو أويس المدني، عن شرحبيل بن سعد، عن عويم بن ساعدة، وكان من أهل بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إني أسمع الله قد أثنى عليكم الثَّناء في الطهور، (2) فما هذا الطهور؟ قالوا: يا رسول الله، ما نعلم شيئًا، إلا أن جيرانًا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. (3)
__________
(1) الأثر: 17230 - هكذا " يحيى بن رافع "، والصواب المرجح " يحيى بن آدم " كما سلف في التعليق الماضي.
ومن هذا الطريق ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وتعجيل المنفعة، وفيه زيادة " ولا أعلمه إلا عن أبيه "، ونسبه إلى البغوي في الصحابة، ثم أعقبه بقوله: " قال قال أبو هشام (يعني الرفاعي) ، وكتبته من أصل كتاب يحيى بن آدم، ليس فيه عن أبيه " ثم قال: " وقال البغوي: حدث به الفريابي، عن مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر أباه ".
ثم قال: " روى سلمة بن رجاء، عن مالك بن مغول، فزاد فيه: عن أبيه. وقال أبو زرعة الرازي: الصحيح عندنا عن محمد، ليس فيه: عن أبيه ".
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 212، 213 على محمد بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، ثم قال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه شهر بن حوشب، وقد اختلفوا فيه. ولكنه وثقه أحمد وابن معين، وأبو زرعة، ويعقوب بن أبي شيبة " ثم خرجه عن محمد بن عبد الله بن سلام، ثم قال: " رواه أحمد عن محمد بن عبد الله بن سلام، ولم يقل: عن أبيه، كما قال الطبراني. وفيه شهر أيضا ".
فهذا الذي ذكرته دال، أولا، على أن صواب الاسم " يحيى بن آدم "، لا " يحيى بن رافع " كما وقع في المخطوطة والمطبوعة. ودال أيضا على الاختلاف في هذا الخبر اختلافا يوجب النظر.
ثم بقي شيء آخر، لم أجد من ذكره في الكلام على هذا الخبر، أرجو أن أكون أصبت في ذكره وبيانه.
وذلك أن الثناء من الله على رجال يحبون أن يتطهروا، كانوا يلزمون المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء بلا شك. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سأل هؤلاء عن ثناء الله عليهم. وهؤلاء الرجال هم من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ومنزلهم بقباء. وهم قوم عرب على دينهم في الجاهلية، لم يذكر أحد أنهم كانوا يهودا.
وخبر شهر بن حوشب هذا، عن محمد بن عبد الله بن سلام، ذكر فيه ثناء الله على هؤلاء الرجال، وأن جوابهم كان: " إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة، الاستنجاء بالماء "، فظاهر هذا الخبر يدل على أن دينهم كان اليهودية. وذلك ما لم أجد قائلا قال به.
و" محمد بن عبد الله بن سلام "، وأبوه " عبد الله بن سلام بن الحارث "، من بني قينقاع، من اليهود، من ذرية يوسف النبي عليه السلام، وكان عبد الله بن سلام حليف القواقل من الخزرج، وهم بنو عمرو بن عوف بن الخزرج، وليسوا من " بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس " في شيء، ومنازل هؤلاء غير منازل هؤلاء. وفي إسلام عبد الله بن سلام (سيرة ابن هشام 2: 163) ، أنه قال، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرته: " فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها "، فعبد الله بن سلام، وولده لم يكن منهم أحد بقباء.
فقوله في الخبر رقم: 17228 " قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبروني. . . "، إلى آخر الخبر، مشكل جدا، لأن الخبر خبر محمد بن عبد الله بن سلام، والضمير فيه راجع إليه وإلى قومه أو حلفائه بني عمرو بن عوف بن الخزرج، وهذا لا يصح البتة، بدليل قوله في الذي يليه: أن ذلك كان " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء ".
وهذا الذي ذكرت اضطراب شديد في صلب الخبر، لا يرفعه شيء. ومهما يكن من أمر إسناده، واختلاف المختلفين فيه على شهر بن حوشب، فإن علته في سياقه، أشد من علته في إسناده عندي. والله أعلم من أين أتى هذا الاضطراب؟ والذي لا شك فيه: أنه بعيد جدا أن يكون هذا الجواب من كلام بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأنه أشبه بأن يكون كلام أحد من حلفائهم اليهود.
وأوضح منه ما جاء في خبر عويم بن ساعدة (رقم: 17231) ، وهو: " ما نعلم شيئا، إلا أن جيرانا لنا من اليهود، رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا ". فهذا أبين، وأقرب إلى سياق ما سئلوا عنه، وأدنى إلى رفع الاضطراب. والله تعالى أعلم.
(2) في المسند: " قد أحسن عليكم الثناء "، ولو قرئ ما في المخطوطة: " قد أسنى " بمعنى: رفع، لكان حسنا.
(3) الأثر: 17231 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 11125.
و" إسماعيل بن صبيح اليشكري "، ثقة، مضى برقم: 2996، 8640، 11158.
و" أبو أويس المدني "، هو " عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الصبحي "، صدوق، ليس بحجة، مضى برقم: 8640.
و" شرحبيل بن سعد الخطمي "، قال أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 8396: " الحق أنه ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 2104. وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والكلام في تضعيفه شديد، وذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب، روايته عن عويم بن ساعدة فقال: " وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر، لأن عويما مات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويقال: في خلافة عمر رضي الله عنه ".
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 422 من طريق حسين بن محمد، عن أبي أويس، بنحوه.
وذكره ابن كثير في تفسير 4: 41، ثم قال: " ورواه ابن خزيمة في صحيحه ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 212، وقال: " رواه أحمد، والطبراني في الثلاثة. وفيه شرحبيل بن سعد، ضعفه مالك، وابن معين، وأبو زرعة، وثقه ابن حبان ".

(14/485)


17232- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت يقول: نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
17233- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي ليلى، عن عامر قال: كان ناس من أهل قُباء يستنجون بالماء، فنزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) .
17234- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن مسلم القُرِّيّ قال: قلت لابن عباس: أصبُّ على رأسي؟ = وهو محرم = قال: ألم تسمع الله يقول: (إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين) ؟ (1)
17235- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن داود، وابن أبي ليلى، عن الشعبي، قال، لما نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذا الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: ما منَّا من أحدٍ إلا وهو يستنجي من الخلاء.
17236- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الحميد المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة: ما هذا الذي أثنى الله عليكم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ قال: نوشك أن نغسل الأدبار بالماء! (2)
__________
(1) الأثر: 17234 - " مسلم القري " بضم القاف وتشديد الراء، نسبة إلى بني قرة، من عبد القيس وهو مولاهم = هو: " مسلم بن مخراق العبدي الفريابي "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 271، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 194.
(2) الأثر: 17236 - " عبد الحميد المدني ". ظني أنه " عبد الحميد بن سليمان الخزاعي، أبو عمر المدني الضرير "، روى عن أبي حازم، وأبي الزناد، وروى عنه هشيم، وهو من أقرانه، ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 14.
و" إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري "، ظني أيضا أنه " إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري المدني "، روى عن الزهري وغيره، وهو ضعيف أيضا، كثير الوهم. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 271، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 84.
وفي تفسير ابن كثير 4: 241 " عن إبراهيم بن المعلى الأنصاري "، ولم أجد له ذكرا في كتب الرجال.

(14/487)


17237- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن حصين، عن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: نستنجي بالماء. (1)
17238- حدثني المثنى قال، حدثنا أصبغ بن الفرج قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن أبي الزناد قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عويم بن ساعدة، من بني عمرو بن عوف، ومعن بن عدي، من بني العجلان، وأبي الدحداح = فأما عويم بن ساعدة، فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنِ الذين قال الله فيهم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجال، منهم عويم بن ساعدة = لم يبلغنا أنه سمّى منهم رجلا غير عويم. (2)
__________
(1) الأثر: 17237 - " عبد الرحمن بن سعد "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي "، مضى برقم: 10666، 10855، 17011.
و" أبو جعفر " هو " أبو جعفر الرازي "، مضى مرارا كثيرة.
و" حصين " هو " حصين بن عبد الرحمن السلمي "، مضى مرارا آخرها: 16671.
و" موسى بن أبي كثير الأنصاري "، ثقة، في الحديث: مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 293، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 7.
(2) الأثر: 17238 - " أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الأموي "، الفقيه المصري، ثقة كان وراق ابن وهب، وكان من أجل أصحابه، وكان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 37، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 321.
وهذا الخبر جزء من حديث السقيفة (الفتح 12: 133) ، وعلق عليه الحافظ ابن حجر هناك، وذكر طرقه. وذكره في الإصابة في ترجمة " عويم بن ساعدة "، وذكر هذه الزيادة عن الإسماعيلي قال: " وزاد الإسماعيلي في روايته قال الزهري، فأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما، هما: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، فأما عويم، فهو الذي بلغنا. . . "، بنحوه.
وخبر السقيفة، رواه البخاري (الفتح 12: 128 - 139) من طريق عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس.
ورواه أحمد في مسنده رقم: 391، من طريق مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري. (وفي المسند: " عويمر بن ساعدة "، وهو خطأ، صوابه: عويم بن ساعدة) .
ورواه ابن سعد الطبقات 3 / 2 / 31، مختصرا، وفيه نحو خبر لفظ أبي جعفر، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وفيه " قال ابن شهاب: وأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقومهما، عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي. فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا. . . "، بنحوه.

(14/488)


17239- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن حسان قال، حدثنا الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي ذكركم الله به في أمر الطهور، فأثنى به عليكم؟ قالوا: نغسل أثر الغائِطِ والبول.
17240- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم يحدّث، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة = أو قال: قدم علينا رسول الله = فقال: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا أفلا تخبروني؟ " قالوا: يا رسول الله، إنا نجد علينا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء = قال مالك: يعني قوله: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) . (1)
17241- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طهوركم هذا الذي ذكرَ الله؟
__________
(1) الأثر: 17240 - هذا مكرر الآثار السالفة من رقم: 17225، ثم رقم: 17228 - 17230، فانظر التعليق عليها هناك.

(14/489)


أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

قالوا: يا رسول الله، كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعْه. قال: فلا تدَعوه.
17242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في مسجد قُباء رجال من الأنصار يوضِّئون سَفِلَتهم بالماء، (1) يدخلون النخل والماء يجري فيتوضئون، فأثنى الله بذلك عليهم فقال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، الآية.
17243- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) .
* * *
وقيل: (والله يحب المطهرين) ، وإنما هو: "المتطهِّرين"، ولكن أدغمت التاء في الطاء، فجعلت طاء مشددة، لقرب مخرج إحداهما من الأخرى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: (أفمن أسس بنيانه) .
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: (أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوى مِنَ
__________
(1) قوله: " يوضئون سفلتهم " يعني، يغسلون أدبارهم. و " السفلة " بمعنى المقعدة والدبر، لم تذكر في كتب اللغة، والمذكور بهذا المعنى " السافلة ". وضبطتها " بفتح السين وكسر الفاء " قياسا على قولهم: " سفلة البعير "، وهي قوائمه، لأنها أسفل.
(2) انظر تفسير " المطهر " فيما سلف 4: 384.

(14/490)


اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما.
* * *
وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: "أَفَمَنْ أُسِّس أبُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسِّس بُنْيَانَهُ "، على وصف "من" بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى "من"، إذ كان هو المؤسس، (2) أعجبُ إليّ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أيُّ هؤلاء الذين بنوا المساجد خير، أيها الناس، عندكم: الذين ابتدأوا بناء مسجدهم على اتقاء الله، بطاعتهم في بنائه، وأداء فرائضه ورضًى من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك، وفعلهم ما فعلوه = خيرٌ، أم الذين ابتدأوا بناءَ مسجدهم على شفا جُرفٍ هارٍ؟
يعني بقوله: (على شفا جرف) ، على حرف جُرُف. (3)
* * *
و"الجرف"، من الركايا، ما لم يُبْنَ له جُولٌ (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " على وصف من بناء الفاعل "، وهو خلط في الكلام، صوابه ما في المخطوطة، وهو ما أثبته.
(2) في المطبوعة: " إذا كان من المؤسس" وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب.
(3) انظر تفسير " الشفا " فيما سلف 7: 85، 86.
(4) في المطبوعة: " من الركي "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 269، وهذا نص كلامه.
و" الركايا " جمع " ركية "، وتجمع أيضا على " ركي "، بحذف التاء، وهي البئر. و " الجول " (بضم الجيم) ، هو جانب البئر والقبر إلى أعلاها من أسفلها.
وهذا التفسير الذي ذكره أبو عبيدة، لم أجده في تفسير الكلمة في كتب اللغة، ولكنه جائز صحيح المعنى، إن صحت روايته.

(14/491)


(هار) ، يعني متهوِّر. وإنما هو "هائر"، ولكنه قلب، فأخرت ياؤها فقيل: "هارٍ"، كما قيل: "هو شاكي السلاح"، (1) و"شائك"، وأصله من "هار يهور فهو هائر"، وقيل: "هو من هارَ يهار"، إذا انهدم. ومن جعله من هذه اللغة قال: "هِرْت يا جرف"، ومن جعله "من هار يهور"، قال: "هُرْت يا جرف".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا مَثَلٌ. يقول تعالى ذكره: أيّ هذين الفريقين خير؟ وأيّ هذين البناءين أثبت؟ أمَن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله، وعلمٍ منه بأن بناءه لله طاعة، والله به راضٍ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه، فيهدمه، كما يأتي البناءُ على جرف ركيَّةٍ لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه، ثَرِيّةِ التراب متناثرة، (2) لا تُلْبِثه السيول أن تهدمه وتنثره؟
= يقول الله جل ثناؤه: (فانهار به في نار جهنم) ، يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما:-
17244- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فانهار به) ، يعني قواعده = (في نار جهنم) . (3)
17245- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فانهار به) ، يقول: فخرَّ به.
17246- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) ، إلى قوله: (فانهار به في نار جهنم) ،
__________
(1) في المطبوعة: " شاك السلاح "، والصواب ما في المخطوطة بالياء في آخره.
(2) في المطبوعة: " ترى به التراب متناثرا "، غير ما في المخطوطة، إذ كانت غير منقوطة، ويقال: " أرض ثرية "، إذا كانت ذات ثرى وندى. و " ثريت الأرض فهي ثرية "، إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس.
(3) في المطبوعة، أسقط " يعني ".

(14/492)


قال: والله ما تناهَى أنْ وقع في النار. ذكر لنا أنه تحفَّرت بقعة منها، (1) فرُؤي منها الدخان.
17247- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بنو عمرو بن عوف. استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بنيانه، فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال: وانهار يوم الاثنين. قال: وكان قد استنظرهم ثلاثًا، السبت والأحد والاثنين = (فانهار به في نار جهنم) ، مسجد المنافقين، انهار فلم يتناهَ دون أن وقع في النار = قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه، فأبصروا الدخان يخرج منه.
17248- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، عن طلق بن حبيب، عن جابر قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
17249- حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال، حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج قال، حدثني طلق العنزي،
__________
(1) في المطبوعة: " أنه حفرت بقعة منه "، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله " تحفرت " أي: صارت فيها حفرة، وكأنه غيرها لأنها لم تذكر في كتب اللغة، ولكنها قياس عربي عريق.
وقوله " منها " أي: من أرض مسجد الضرار.
(2) الأثر: 17248 - " عبد العزيز بن المختار الأنصاري، الدباغ "، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 1685.
و" عبد الله الداناج "، هو " عبد الله بن فيروز " و " دانا " بالفارسية، العالم. ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 136.
و" طلق بن حبيب العنزي "، ثقة، سمع جابرا. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 360، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 490.
وهذا خبر صحيح الإسناد، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 279، وقال: " أخرجه مسدد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه ". وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.

(14/493)


لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

عن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار. (1)
17250- حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان = يعني: زمان بني أمية = فمررنا بالمدينة، فرأيت مسجد القبلتين = يعني مسجد الرسول = وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر، قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة! فهذا البناءُ الذي ترون، جرى على يَدِ عبد الصمد بن علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن، وفيه حجر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مَزْبَلة. (2)
* * *
قوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: والله لا يوفق للرشاد في أفعاله، من كان بانيًا بناءه في غير حقه وموضعه، ومن كان منافقًا مخالفًا بفعله أمرَ الله وأمرَ رسوله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا = (ريبة) ، يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه = (ريبة في قلوبهم) ،
__________
(1) الأثر: 17249 - هو مكرر لأثر السالف.
" محمد بن مرزوق "، هو " محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي ". شيخ الطبري، مضى برقم 28: 8224.
و" أبو سلمة "، هو: " موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي "، ثقة. مضى برقم: 15202.
(2) الأثر: 17250 - "سلام بن سالم الخزاعي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 252، 6529.
و" خلف بن ياسين الكوفي "، مضى برقم: 252، ورواية " سلام بن سالم الخراعي " عنه. وذكر أخي السيد أحمد هناك أنه قد يكون " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات "، وهو كذاب. والظاهر أنه هو هو، لأن خلفا يروي في هذا الخبر عن أبيه، وأبوه " ياسين بن معاذ الزيات "، وهو أيضا ضعيف متروك الحديث، وكان من كبار فقهاء الكوفة، روى عن الزهري، ومكحول، وحماد بن أبي سليمان، وهو مترجم في لسان الميزان 6: 238، والكبير 4 / 2 / 429، وقال: " يتكلمون فيه، منكر الحديث "، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 312، وذكر أنه قد روى عنه ابنه خلف، ولكنه لم يترجم " خلف بن ياسين بن معاذ ". وهذا الخبر الشاهد بأن " ياسين " أبا "خلف"، كان على عهد بني أمية، ورواية خلف ابنه عنه، وشيوخ "ياسين" الذين روى عنهم، كل ذلك دال على صواب ما ذهب إليه أخي، من أن " خلف بن ياسين الكوفي "، هو " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات ".

(14/494)


يعني: شكًّا ونفاقًا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحْسنين (1) = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني: إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا = (والله عليم) ، بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار، من شكهم في دينهم، وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه، وما إليه صائرٌ أمرهم في الآخرة، وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم = (حكيم) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17251- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، يعني شكًّا = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني الموت.
17252- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ريبة في قلوبهم) ، قال: شكًّا في قلوبهم = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، إلا أن يموتوا.
17253- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) ، يقول: حتى يموتوا.
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف ص: 275، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .

(14/495)


17254- حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: إلا أن يموتوا. (1)
17255- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17256- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17257- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17258-...... قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة والحسن: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قالا شكًّا في قلوبهم.
17259- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي قال، حدثنا أبو سنان، عن حبيب: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال: غيظًا في قلوبهم.
17260-...... قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17261-...... قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن حبيب: (إلا أن تقطع قلوبهم) ،: إلا أن يموتوا.
17262-...... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن السدي: (ريبة في قلوبهم) ، قال: كفر. قلت: أكفر مجمّع بن جارية؟ قال: لا ولكنها حَزَازة.
__________
(1) الأثر: 17254 - " مطر بن محمد الضبي "، انظر ما سلف رقم: 12198، 14610.

(14/496)


17263- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال: حزازة في قلوبهم.
17264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا، كما حُبِّب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) ، [سورة البقرة: 93] قال: حبَّه = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا = يعني المنافقين.
17265- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن السدي، عن إبراهيم: (ريبة في قلوبهم) ، قال شكًّا. قال قلت: يا أبا عمران، تقول هذا وقد قرأت القرآن؟ قال: إنما هي حَزَازة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إلا أن تقطع قلوبهم) .
فقرأ ذلك بعض قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: (إِلا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) ، بضم التاء من "تقطع"، على أنه لم يسمَّ فاعله، وبمعنى: إلا أن يُقَطِّع الله قلوبهم.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) ، بفتح التاء من "تقطع"، على أن الفعل للقلوب. بمعنى: إلا أن تنقطّع قلوبهم، ثم حذفت إحدى التاءين.
* * *
وذكر أن الحسن كان يقرأ: " إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ "، بمعنى: حتى تتقطع قلوبهم. (1)
* * *
وذكر أنها في قراءة عبد الله: (وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وعلى الاعتبار بذلك
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 452.

(14/497)


إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قرأ من قرأ ذلك: (إلا أَنْ تُقَطَّع) ، بضم التاء.
* * *
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت، إلا بتقطيع الله إياها، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
وأما قراءة ذلك: (إلَى أَنْ تَقَطَّعَ) ، فقراءةٌ لمصاحف المسلمين مخالفةٌ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة = (وعدًا عليه حقًّا) = يقول: وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنزلة: التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه، فقَتَلوا وقُتِلوا = (ومن أوفى بعهده من الله) ، يقول جل ثناؤه: ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله = (فاستبشروا) ، يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا، أيها المؤمنون، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا، ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به، فإن ذلك هو الفوز العظيم، (1) كما:-
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(14/498)


17266- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بَيْعة، وَفى بها أو مات عليها، في قول الله: (إن الله اشترى من المؤمنين) ، إلى قوله: (وذلك هو الفوز العظيم) ، ثم حَلاهم فقال: (التائبون العابدون) ، إلى: (وبشر المؤمنين) .
17267- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، يعني بالجنة.
17268-...... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة: أنه تلا هذه الآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) ، قال: ثامَنَهُم الله، فأغلى لهم الثمن. (1)
17269- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، قال: بايعهم فأغلى لهم الثمن.
17270- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت! قال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟ قال: الجنة! قالوا: ربح البيعُ، لا نُقيل ولا نستقيل! (2) فنزلت: (إن الله اشترى من المؤمنين) ، الآية.
__________
(1) " ثامنت الرجل في المبيع "، إذا قاولته في ثمنه وفاوضته، وساومته على بيعه واشترائه.
(2) " أقاله البيع يقيله إقالة "، و " تقايلا البيعان "، إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما. وتكون " الإقالة " في البيعة والعهد. و " استقاله " طلب إليه أن يقيله.

(14/499)


17271-...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبيد بن طفيل العبسي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، الآية، قال الرجل: ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل؟ قال: ويلك! أين الشرط؟ (التائبون العابدون) . (1)
__________
(1) الأثر: 17271 - " عبيد بن طفيل العبسي "، هو " الغطفاني "، " أبو سيدان "، و " عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان "، ولكنه في كتب الرجال " الغطفاني ". وقد مضى برقم: 2547.

(14/500)


التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

القول في تأويل قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم = ولكنه رفع، إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك، وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: 18] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
ومعنى: "التائبون"، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه، (2) كما:-
17272- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله: (التائبون) ، قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها. (3)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 330، 331.
(2) انظر تفسير " تائب " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(3) الأثر: 17272 - " ثعلبة بن سهيل الطهوي "، ثقة، مضى برقم: 12273. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 175، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 464.

(14/500)


17273- حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثني أبي، عن أبي الأشهب، عن الحسن: أنه قرأ (التائبون العابدون) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17274- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن: (التائبون العابدون) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17275- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: التائبون من الشرك.
17276- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: (التائبون العابدون) ، قال الحسن: تابوا والله من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17277- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (التائبون) ، قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
17278- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (التائبون) ، قال: الذين تابوا من الذنوب، ثم لم يعودوا فيها.
* * *
وأما قوله: (العابدون) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له، فجدُّوا في خدمته، (1) كما:-
17279- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (العابدون) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
17280- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) انظر تفسير " العابد " فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) .

(14/501)


قال، قال الحسن في قول الله (العابدون) ، قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.
17281- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (العابدون) ، قال: العابدون لربهم.
* * *
وأما قوله: (الحامدون) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر، (1) كما:-
17282- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (الحامدون) ، قوم حمدوا الله على كل حال.
17283- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة قال، قال الحسن: (الحامدون) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السرّاء والضرّاء.
17284- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الحامدون) ، قال: الحامدون على الإسلام.
* * *
وأما قوله: (السائحون) ، فإنهم الصائمون، كما:-
17285- حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عبيد بن عمير =
17286- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث، عن عمرو، عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن "السائحين" فقال: هم الصائمون. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحمد " فيما سلف 1: 135 - 141 / 11: 249.
(2) الأثر: 17286 - قال ابن كثير في تفسيره 4: 249: " هذا مرسل جيد "، وذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 281، من طريق عبيد بن عمير، عن أبي هريرة، ونسبه إلى الفريابي، ومسدد في مسنده، وابن جرير، والبيهقي في شعب الإيمان. بيد أن ابن جرير لم يرفعه من هذه الطريق إلى أبي هريرة كما ترى.

(14/502)


17287- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حكيم بن حزام قال، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السائحون" هم الصائمون.
17288- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: (السائحون) ، الصائمون. (1)
17289- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (السائحون) ، الصائمون. (2)
17290-...... قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني عاصم، عن زر، عن عبد الله، بمثله.
17291- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال: السياحةُ: الصيام.
17292- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (السائحون) ،: الصائمون.
17293- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أشعث = عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (السائحون) ، الصائمون.
17294- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير قال: (السائحون) ، الصائمون.
__________
(1) الأثران: 17287، 17288 - أولهما مرفوع، والآخر موقوف على أبي هريرة، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 281، ونسبه إلى ابن جرير وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، مرفوعا، وذكره السيوطي في تفسيره 4: 248، وقال: " وهذا الموقوف أصح ".
(2) الأثر: 17289 - خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 34، 35، عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: " رواه الطبراني، وفيه عاصم بن بهدلة. وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح ".

(14/503)


17295- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
17296- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17297-...... قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن إسحاق، عن عبد الرحمن قال: (السائحون) ، هم الصائمون.
17298- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (السائحون) ، قال: يعني بالسائحين، الصائمين.
17299- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (السائحون) ، هم الصائمون.
17300- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (السائحون) ، الصائمون.
17301-...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة، هم الصائمون. (1)
17302-...... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن أبي عمرو العبدي قال: (السائحون) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.
17303- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن: (السائحون) ، الصائمون.
17304- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن
__________
(1) في المطبوعة، حذف " ذكر " من قوله: " ذكر السياحة ". والعبارة مضطربة بعض الاضطراب. وانظر أجود منها في رقم: 17306.

(14/504)


هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: (السائحون) ، الصائمون شهر رمضان.
17305- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: (السائحون) ، الصائمون.
17306-...... قال، حدثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن (السائحون) ، فإنه الصائمون.
17307- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: (السائحون) ، الصائمون.
17308- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (السائحون) ، يعني الصائمين.
17309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، ويعلى، وأبو أسامة، عن عبد الملك، عن عطاء قال: (السائحون) ، الصائمون.
17310- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله.
17311-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ابن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة، فلم ير شيئًا، فقال: أي ربِّ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فَأرِي ما رَأى السائحون قبله = قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء، فهو السائح.
17312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (السائحون) ، قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله.
17313- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا

(14/505)


إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام. (1)
* * *
وقوله: (الراكعون الساجدون) ، يعني المصلين، الراكعين في صلاتهم، الساجدين فيها، (2) كما:-
17314- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الراكعون الساجدون) ، قال: الصلاة المفروضة.
* * *
وأما قوله: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم، واتباع الرشد والهدى، والعمل (3) = وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه. (4)
* * *
وقد روي عن الحسن في ذلك ما:-
17315- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الآمرون بالمعروف) ، لا إله إلا الله = (والناهون عن المنكر) ، عن الشرك.
17316- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) الأثر: 17313 - " إبراهيم بن يزيد الخوزي "، متروك الحديث، مضى برقم: 7484، 16259.
و" الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، ثقة، مضى برقم: 16259، ولم يدرك أن يروي عن عائشة، فهو مرسل عن عائشة.
فهذا خبر ضعيف الإسناد جدا.
(2) انظر تفسير " الركوع "، و " السجود " فيما سلف من فهارس اللغة (ركع) ، (سجد) .
(3) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص: 347، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المنكر" فيما سلف ص: 347، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(14/506)


قال، قال الحسن في قوله: (الآمرون بالمعروف) ، قال: أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها = (والناهون عن المنكر) ، قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.
17317- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كل ما ذكر في القرآن "الأمر بالمعروف"، و"النهي عن المنكر"، فالأمر بالمعروف، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام = والنهي عن المنكر، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا: من أن "الأمر بالمعروف" هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم، و"النهي عن المنكر"، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم، ولا خبر عن الرسول، ولا في فطرة عقلٍ، فالعموم بها أولى، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.
* * *
وأما قوله: (والحافظون لحدود الله) ، فإنه يعني: المؤدّون فرائض الله، المنتهون إلى أمره ونهيه، الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه، (1) كالذي:-
17318- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) ، يعني: القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا الله بشرطه، وفى لهم بشرطهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحفظ " فيما سلف 5: 167 / 8: 295 / 10: 562 / 11: 532.
= وتفسير " الحدود " فيما سلف: ص: 429، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " إذا وفوا الله بشرطه، وفى لهم شرطهم "، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/507)


17319- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) ، قال: القائمون على طاعة الله.
17320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قوله: (والحافظون لحدود الله) ، قال: القائمون على أمر الله.
17321- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (والحافظون لحدود الله) ، قال: لفرائض الله.
* * *
وأما قوله: (وبشر المؤمنين) ، فإنه يعني: وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة، (1) كما:-
17322- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا عوف، عن الحسن: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، حتى ختم الآية، قال الذين وفوا ببيعتهم = (التائبون العابدون الحامدون) ، حتى ختم الآية، فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء، ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.
* * *
وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال = يعني قوله: (التائبون العابدون) ، إلى آخر الآية = وإن لم يغزوا.
* ذكر من قال ذلك:
17323- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (وبشر المؤمنين) ، قال: الذين لم يغزوا.
__________
(1) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 174، تعليق 1، والمراجع هناك.

(14/508)


مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)

القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به= "أن يستغفروا"، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم= "أولي قربى"، ذوي قرابة لهم= "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه، وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمرَه عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه.
فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17324- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(14/509)


أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنزلت: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، ونزلت: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، [القصص: 56] .
17325- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني يونس، عن الزهري قال، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: "هو على ملة عبد المطلب"، وأبى أن يقول: "لا إله إلا الله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، الآية. (1)
17326- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 17325 - هذا حديث صحيح. رواه البخاري وصححه (الفتح 3: 176، 177) من طريق إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي صالح، عن ابن شهاب الزهري، ورواه أيضا (الفتح 8: 258) من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، ثم رواه أيضا (الفتح: 8: 389) من طريق أبي اليمان، عن شعيب عن الزهري.
ورواه مسلم في صحيحه 1: 213 - 216، من طرق، أولها هذه الطريق التي رواها منه أبو جعفر.
ورواه أحمد في مسنده 5: 433، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
وكلها أسانيد صحاح.
وسيأتي برقم: 17328، عن سعيد بن المسيب، لم يرفعه عن أبيه، بغير هذا اللفظ.

(14/510)


عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، قال: يقول المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا؟ فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه"، الآية.
17327- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" إلى قوله: "تبرأ منه".
17328- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاةُ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا، ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة، قل: لا إله إلا الله = ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17329- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل، عن عطية قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس، رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها، حتى نزلت:

(14/511)


"ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى"، إلى قوله: "تبرأ منه".
17330-..... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ = قال: وأكثر ظني أنه قال: قَبْرٍ (1) = فجلس إليه، فجعل يخاطبُ، ثم قام مُسْتَعْبِرًا، (2) فقلت: يا رسول الله، إنّا رأينا ما صنعت! قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ. (3)
17331- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا"، إلى: "أنهم أصحاب الجحيم"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه، فنهاه الله عن ذلك، فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم"، إلى "لأواه حليم".
__________
(1) في المطبوعة: " أتى رسما - وأكبر ظني أنه قال: قبرا "، غير ما في المخطوطة، والصواب ما فيها لأنه ذكر المضاف " أتى رسم " ثم فصل وقال: " قبر "، فيما رجح من ظنه، يعني: " رسم قبر "، على الإضافة.
(2) في المخطوطة: " ثم قام مستغفرا "، والصواب ما في المطبوعة، وتفسير ابن كثير 4: 250، نقلا عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر.
(3) الأثر: 17330 - " علقمة بن مرثد الحضرمي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11330.
و" سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي "، ثقة، روى عن أبيه، ثقة، مضى برقم: 11330.
وأبوه "بريدة بن الحصيب الأسلمي "، صحابي، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها. فهذا خبر صحيح الإسناد وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 35، بهذا اللفظ.
ورواه أحمد في مسنده 5: 359، من طريق حسين بن محمد، عن خلف عن خليفة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بغير هذا اللفظ مطولا.
ورواه من طريق محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه (5: 355) ، ثم من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي بريدة، عن أبيه (5: 356) .

(14/512)


وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17332- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية. فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه"، الآية.
17333- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، الآية، ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى! والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال: فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" حتى بلغ: "الجحيم"، ثم عذر الله إبراهيم فقال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"،. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني، ووَقَرْنَ في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له، ومن أمسك فهو شرٌّ له، ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ". (1)
__________
(1) " الكفاف " (بفتح الكاف) ، وهو من الرزق على قدر حاجة المرء، لا يفضل منه شيء.
وإذا لم يكن عند المرء فضل عن قوته، لم يلمه الله تعالى ذكره، على أن لا يعطي أحدا. وانظر مثل هذا المعنى فيما سلف رقم: 4173.

(14/513)


واختلف أهل العربية في معنى قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار = وكذلك معنى قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) ، وما كان لنفس الإيمان = (إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، [يونس: 100] .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت "أن" مع "كان"، فكلها بتأويل: ينبغي، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) [آل عمران: 161] ما كان ينبغي له، ليس هذا من أخلاقه. قال: فلذلك إذا دخلت "أن" لتدل على الاستقبال، (1) لأن "ينبغي" تطلب الاستقبال.
* * *
وأما قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه"، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه.
فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47] .
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره، وسنذكر عمن لم نذكره.
17334- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " تدل " بغير لام، والسياق يقتضي إثباتها.

(14/514)


فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم" إلى "تبرأ منه". (1)
17335- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي: أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان، حتى نزلت: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه"، إلى قوله: "تبرأ منه". (2)
وقيل: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة"، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: "ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا"، بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: "إلا عن موعدة"، من أجل موعدة وبعدها. (3)
* * *
وقد تأوّل قوم قولَ الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى"، الآية، أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم". وقالوا: ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره، وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
__________
(1) الأثر: 17334 - " أبو الخليل "، هو " عبد الله بن أبي الخليل الهمداني "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 45، وابن سعد في الطبقات 6: 169، وقال: " روى عن علي ثلاثة أحاديث، من حديث ابن أبي إسحاق ". وفرق بينه وبين " عبد الله بن الخليل الحضرمي " (الطبقات 6: 170) ، وكذلك فعل ابن أبي حاتم وغيره.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 1085 من طريق وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عنه، ورواه قبله رقم: 771، من طريق يحيى بن آدم، عن سفيان. وانظر الخبر التالي.
(2) الأثر: 17335 - رواه أحمد في المسند رقم: 771، من طريق يحيى بن آدم أيضا، ولكن بغير هذا اللفظ، وأن المستغفر رجل من المسلمين، كالذي سلف. وانظر بيانه في شرح أخي السيد أحمد.
(3) انظر تفسير " عن " بمعنى " بعد " فيما سلف 10: 313.

(14/515)


* ذكر من قال ذلك:
17336- حدثنا سليمان بن عمر الرقي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات، وكله إلى شانه! ثم قال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، لم يدعُ. (1)
17337- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل، عن ضرار بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له؟ (2) ثم تلا "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعداها إياه"، الآية. (3)
* * *
وتأوّل آخرون "الاستغفارَ"، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة. (4)
* ذكر من قال ذلك:
17338- حدثني المثني قال، ثنى إسحاق قال، حدثنا كثير
__________
(1) الأثر: 17336 - " الشيباني " هو " ضرار بن مرة "، " أبو سنان الشيباني " الأكبر، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 340، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 465. ومضى له ذكر في رقم: 10238، للتفريق بينه وبين " أبي سنان الشيباني " الأصغر، وهو " سعيد بن سنان البرجمي ".
وسيأتي في الخبر التالي، التصريح باسمه.
(2) " أجنه "، واراه في قبره.
(3) الأثر: 17337 - " ضرار بن مرة "، هو الشيباني، سلف في التعليق قبله. وفي لفظ هذا الخبر اضطراب ظاهر، فإن الخبر الأول قبله عن الشيباني، دال على النهي عن الاستغفار له بعد موته، وفي هذا الخبر، إذن بالاستغفار له بعد موته. ولا أدري من أين جاء هذا الاختلاف على الشيباني في لفظه.
(4) في المخطوطة: " بمعنى الصلاح "، والصواب في المطبوعة، كما دل عليه الأثر التالي.

(14/516)


بن هشام، عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا، لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين، يقول الله: "ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين".
* * *
وتأوّله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
* ذكر من قال ذلك:
17339- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى "الاستغفار": مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، (2) لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا، لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.
* * *
__________
(1) الأثر: 17339 - " عصمة بن زامل الطائي "، مترجم في الكبير 4 / 1 / 63، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 20، ولسان الميزان 4: 168، 169، وقال: " روى عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعنه وكيع، وجميل بن حماد الطائي. قال البرقاني: قلت للدارقطني: جميل بن حماد، عن عصمة بن زامل، فذكر هذا الإسناد. فقال: إسناد بدوي، يخرج اعتبارا ".
وكان في المطبوعة: " عصمة بن راشد "، غير ما في المخطوطة كأنه بحث فلم يجده، فظنه تحريفا.
وأبوه: " زامل بن أوس الطائي " مترجم في الكبير 2 / 1 / 405، وابن حاتم 1 / 2 / 617، ولسان الميزان 2: 469، وقال الدارقطني: إسناد يروى، يخرج اعتبارا. وذكره ابن حبان في الثقات.
(2) انظر تفسير الاستغفار، فيما سلف من فهارس اللغة (غفر)

(14/517)


وأما قوله: "من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم"، فإن معناه: ما قد بيَّنتُ، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.
* * *
وقيل: "أصحاب الجحيم"، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: "هؤلاء أصحاب هذه الدار"، بمعنى: سكانها. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17340- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرازق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، قال: تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.
17341- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: "تبيَّن له" حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه = يعني في قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم".
17342- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية، يقول: إذا ماتوا مشركين، يقول الله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ، (2) الآية، [المائدة: 72] .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه".
قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركًا بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " وغيرها فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " ومن يشرك "، وهو سهو، والتلاوة ما أثبت.

(14/518)


17343- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات = "فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه".
17344- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات = فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.
17345- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات لم يستغفر له.
17346- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، يعني: استغفر له ما كان حيًا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
17347- حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة، قالا حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: لما مات.
17348- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
17349- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فلما تبين له أنه عدو لله"، قال: موته وهو كافر.
17350- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شعبة. عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

(14/519)


17351-...... قال، حدثنا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: حين مات ولم يؤمن. (1)
17352- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: "فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه"،: موته وهو كافر.
17353-..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: لما مات.
17354- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، لما مات على شركه = "تبرأ منه".
17355- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه"، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًا، فلما مات على شركه تبرّأ منه.
17356- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: موته وهو كافر.
17357- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
__________
(1) الأثر: 17351 - " ابن أبي غنية "، هو " يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي "، مضى مرارا، آخرها رقم: 11085.
وأبوه: " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية "، يروى عن " الحكم بن عتيبة "، مضى أيضا رقم: 10597، 11085.
وكان في المطبوعة: " حدثنا البراء بن عتبة "، غير ما في المخطوطة، لأن الناسخ أساء نقطه، وصوابه ما أثبت.

(14/520)


ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فلم يستغفر له. (1)
17358-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، أبو إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "فلما تبين له أنه عدو لله"، قال: فلما مات.
* * *
وقال آخرون: معناه: فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه، حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتةٌ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع، فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ. (2)
* ذكر من قال ذلك:
17359- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة: "ربِّ والدي، رَبِّ والدي"! فإذا كان الثالثة، أخذ بيده، فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ، (3) فيتبرأ منه.
17360- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيد بن عمير، قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعكم الداعي، وينفُذُكم البصر. قال: فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع
__________
(1) الأثر: 17357 - " أحمد بن إسحاق الأهوازي "، شيخ أبي جعفر، مضى مرارا كثيرة، وهو إسناد دائر في التفسير. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: " محمد بن إسحاق " وهو خطأ محض.
(2) في المطبوعة: " فخلى عنه وتبرأ منه "، والصواب ما في المخطوطة.
(3) " الضبعان " (بكسر فسكون) ، وذكر الضباع، لا يكون بالألف والنون إلا للمذكر.
والأنثى " الضبع " (بفتح فضم) ، ويقال للذكر أيضا " ضبع ". وبالتذكير جاء في كلام الطبري آنفا وسيأتي في الذي يلي هذا الخبر.

(14/521)


لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال: فحسبته يقول: نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف، (1) دحْضِ مَزِلَّةٍ، (2) وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال، (3) والملائكة يقولون: "ربّ سلِّمْ سلِّم"، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ، ومكدوسٌ في النار، (4) يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخُذْ بحقْوي! (5) فيأخذ بِضَبْعَيْه، (6) فيمسخ ضَبُعًا، فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه. (7)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فيضرب الصراط على جسر جهنم "، زاد " جسر "، وليست في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " وحضر من له "، وهو كلام خلو من كل معنى. وفي المخطوطة " دحصر مزله "، غير منقوطة، وعلى الصاد مثل الألف (أ) ، ومثلها على هاء " مزله "، وهو شك من الكاتب، ولو قرأها قارئ: " وخطر مزلة " لكان له شبه معنى، ولكن واو العطف فساد في الكلام. والصواب ما قرأته إن شاء الله، ويؤيده ما جاء في حديث أبي ذر: " إن خليلي صلى الله عليه وسلم قال: إن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ". و " الدحض " (بفتح الدال وسكون الحاء) الزلق. و " المزلة " (بفتح الزاي أو كسرها) الموضع الذي تزل فيه الأقدام. ويقال: " مزلة مدحاض ".
ثم وجدت صواب ما قرأت في المستدرك للحاكم 4: 583، كما سترى بعد.
(3) وقوله: " وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال "، " الأجاويد " جمع " أجواد "، وهي جمع " جواد "، وهو الفرس السابق الجيد، ثم يقال: " فرس جواد الشد "، إذا كان يجود بحضره وجريه جودا متتابعا، لا يكل. و " الركاب ": الإبل التي يسار عليها، واحدتها " راحلة "، ولا واحد لها من لفظها. وأما " الرجال "، فظني أنه جمع " رجيل "، و " الرجيل " من الخيل، الموطوء الركوب الذي لا يعرق. أو يكون جمع " رجل "، يعني الرجال العدائين، لأنه أتى في مجمع الزوائد: " كجري الفرس، ثم كسعي الرجل ".
بيد أن رواية اللسان في مادة (جود) قال: " وفي حديث الصراط: ومنهم من يمر كأجاويد الخيل "، ورواية الحاكم في المستدرك: " وكأجاويد الخيل والمراكب ".
(4) " مكدوس "، مدفوع فيها، من " الكدس "، وهو الصرع والإلقاء، " كدس به الأرض "، صرعه، وألصقه بها. و " كدسه ": طرده من ورائه وساقه. وهذه التي هنا هي إحدى الروايتين. والرواية الأخرى " مكردس ". و " المكردس " الذي جمعت يداه ورجلاه وأوثق، ثم ألقي على الأرض، كما يفعل بالأسير. وهذه رواية الحاكم في المستدرك.
(5) " الحقو " (بفتح الحاء وكسرها وسكون القاف) : مشد الإزار من الجنب
(6) " الضبع " (بفتح فسكون) : من الإنسان وغيره، وسط العضد بلحمه.
(7) الأثر: 17360 - حديث الصراط، رواه الحاكم في المستدرك 4: 582 - 584 من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن المسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، مطولا، وقال: " حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة "، وليس فيه ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام.
ومن حديث الصراط ما خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 358، 359، من حديث عائشة، "ورواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد وثق. وبقية رجاله رجال الصحيح ". وفي هذا الخبر ذكر ما أشرت إليه في التعليق ص: 522، " من قوله: " كأجاويد الخيل والركاب " وخرجه الهيثمي أيضا (10: 359، 360) ، عن عبد الله بن مسعود، خبرًا فيه " كجري الفرس، ثم كسعي الرجل " كما أشرت إليه في التعليق رقم: 2، ص: 522.

(14/522)


وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ الله، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ، يبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك، وهو حالُ موته على شركه.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في "الأوّاه".
فقال بعضهم: هو الدعَّاء. (1)
* ذكر من قال ذلك:
17361- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله قال: "الأوّاه"، الدعّاء.
17362- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: "الأوّاه"، الدعّاء.
17363- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش قال: سألت عبد الله عن "الأواه"، فقال: هو الدعّاء.
__________
(1) " الدعاء " (بتشديد العين) : الكثير الدعاء.

(14/523)


17364- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17365-..... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الكريم عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "الأوّاه": الدعّاء.
17366-..... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17367- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله. (1)
17368- حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند، قال: نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير، قال: "الأوّاه": الدعاء.
17369- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا داود، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه قال: "الأوّاه": الدعّاء.
* * *
وقال آخرون: بل هو الرحيم.
* ذكر من قال ذلك:
17370- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العُبَيْدَيْنِ، قال: سئل عبد الله عن "الأوّاه"، فقال: الرحيم. (2)
__________
(1) الآثار: 17363 - 17367 - حديث زر، عن عبد الله بن مسعود، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 35، وقال: " رواه الطبراني، وفيه عاصم - يعني عاصم بن أبي النجود - وهو ثقة وقد ضعف ".
(2) الأثر: 17370 - خبر أبي العبيدين، عن عبد الله، رواه الطبري من رقم: 17370، 17378، 17386.
" سلمة "، هو " سلمة بن كهيل الحضرمي " ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 14503.
و" مسلم البطين "، هو " مسلم بن عمران ". ثقة. مضى برقم: 14503 - 14056.
و" أبو العبيدين "، هو " معاوية بن سبرة بن حصين السوائي العامري الأعمى "، ثقة، كان ابن مسعود يدنيه ويقربه، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 329، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 387.
وهذا الخبر، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 35، مطولا وقال: " رواه كله الطبراني بأسانيد، ورجال الروايتين الأوليين، ثقات ".

(14/524)


17371- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجلٍ ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن "الأواه"، فقال: الرحيم. (1)
17372- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي = وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل = جميعًا، عن المسعوديّ، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود، فقال: ما "الأواه"؟ قال: = الرحيم.
17373- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم،
__________
(1) الأثر: 17371 - " يحيى بن الجزار العرني "، ثقة، مضى برقم: 5425، 16406، 16405، 16408.

(14/525)


عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين: أنه جاء إلى عبد الله = وكان ضرير البصر = فقال: يا أبا عبد الرحمن، من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، قال: أخبرني عن "الأوّاه"، قال: الرحيم.
17374- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سألت عبد الله عن "الأواه"، فقال: هو الرحيم.
17375- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما "الأواه"؟ قال: الرحيم.
17376-..... قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، رجل من بني سَوَاءَة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن "الأوّاه"، فقال له عبد الله: الرحيم.
17377- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد الله قال: "الأواه"، الرحيم.
17378- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بين نمير = قال يعقوب: كان ضريرَ البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوفَ البصر = سأل ابن مسعود فقال: ما "الأواه"؟ قال: الرحيم.
17379- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: "الأواه": الرحيم.
17380-..... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.
17381- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.
17382- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: هو الرحيم.
17383- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّث أن "الأواه" الرحيم.
17384- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "إن إبراهيم لأواه"، قال: رحيم.
* * *
قال عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود مثل ذلك.

(14/526)


17385- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "الأواه": الرحيم.
17386- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن "الأواه"، فقال الرحيم.
17387-...... قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل قال: "الأواه": الرحيم.
17388- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: "الأواه": الرحيم بعباد الله.
17389-..... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، قال: "الأواه": الرحيم بلحن الحبشة.
* * *
وقال آخرون: بل هو الموقن. (1)
* ذكر من قال ذلك:
17390- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "الأواه": الموقن.
17391- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الأواه"، الموقن، بلسان الحبشة.
17392-..... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن
__________
(1) في المخطوطة في هذا الموضع، وفي أكثر المواضع التالية " الموفق "، وفي بعضها " الموقن "، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، فتركته على حاله، حتى أجد ما يرجحه.

(14/527)


مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال، "الأواه"، الموقن، بلسانه الحبشة.
17393- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، قال: سمعت سفيان يقول: "الأواه"، الموقن = وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
17394- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء، قال: "الأواه"، الموقن، بلسان الحبشة.
17395- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.
17396-..... قال، حدثنا ابن نمير، عن الثوري، عن مجالد، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: "الأواه"، الموقن.
17397- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مسلم، عن مجاهد قال: "الأواه"، الموقن.
17398-.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "الأواه"، الموقن.
17399- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أواه"، موقن.
17400- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أواه"، قال: مؤتمن موقن.
17401- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم"، قال: "الأواه": الموقن.
* * *
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها: المؤمن.
* ذكر من قال ذلك:

(14/528)


17402- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "لأواه حليم"، قال: "الأواه"، هو المؤمن بالحبشية. (1)
17403- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إن إبراهيم لأواه"، يعني: المؤمن التواب.
17404- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "الأواه": المؤمن.
17405- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "الأواه"، المؤمن بالحبشية. (2)
* * *
وقال آخرون: هو المسبِّح، الكثير الذكر لله.
* ذكر من قال ذلك:
17406- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: "الأواه": المسبِّح.
17407- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق: أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه أوَّاه.
17408- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: "الأواه"، الكثير الذكر لله.
* * *
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " بالحبشة "، والصواب ما أثبت، كما سيأتي في المخطوطة في التالية.
(2) في المطبوعة فقط: " بالحبشة "، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/529)


* ذكر من قال ذلك:
17409- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا، فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهًا! = يعني: تلاءً للقرآن. (1)
* * *
وقال آخرون: هو من التأوُّه.
* ذكر من قال ذلك:
17410- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي يونس القشيري، عن قاصّ كان بمكة: أن رجلا كان في الطواف، فجعل يقول: أوّه! (2) قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه إنه أوَّاه!
17411- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا، يحدّث عن أبي ذر، قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: "أوَّه! أوّه"، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أوَّاه! = زاد أبو كريب في حديثه، قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. (3)
17412- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا عمران، عن عبيد الله بن رباح، عن كعب، قال: "الأواه":
__________
(1) " تلاء " على وزن " فعال " بتشديد العين، من " التلاوة "، يعني كثير التلاوة للقرآن.
(2) " أوه " بتشديد الواو، وفيها لغات أخرى.
(3) الأثران: 17410، 17411 - " أبو يونس القشيري "، أو " الباهلي "، هو " حاتم بن أبي صغيرة "، ثقة، مضى برقم: 15180.

(14/530)


إذا ذكر النار قال: أوّه.
17413- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّه. (1)
17414- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعبًا يقول: "إن إبراهيم لأواه"، قال: إذا ذكر النار قال: "أوّهْ من النار".
* * *
وقال آخرون: معناه أنه فقيهٌ.
* ذكر من قال ذلك:
17415- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "إن إبراهيم لأوّاه"، قال: فقيه.
* * *
وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
* ذكر من قال ذلك:
17416- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، قال رجل: يا رسول الله، ما
__________
(1) الأثر: 17413 - " عبد العزيز بن عبد الصمد العمي " ثقة، مضى برقم: 3302.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، " عبد العزيز، عن عبد الصمد العمي "، وهو خطأ محض، وكان في المطبوعة وحدها " القمي "، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.
و" أبو عمران الجوني "، هو " عبد الملك بن حبيب الأزدي "، ثقة، مضى برقم: 80، 13042.
و"عبد الله بن رباح الأنصاري"، ثقة، مضى برقم: 48، 13042.
و" كعب "، هو " كعب الأحبار " المشهور.

(14/531)


"الأوَّاه"، قال: المتضرع، قال: "إن إبراهيم لأوّاه حليم".
17417- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن عبد الحميد، عن شهر، عن عبد الله بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأوّاه": الخاشعُ المتضرِّع". (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زرٌّ: أنه الدعَّاء. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه"، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعَّاء لربه، شاكٍ له، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاءَ الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه، وتهدُّده له بالشتم، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ، فقال له صلوات الله عليه، (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) ، [مريم: 46-48] . فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبيَّن له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه، حليم عمن سَفِه عليه.
* * *
__________
(1) الأثران: 17416، 17417 - " عبد الحميد بن بهرام الفزاري "، ثقة، متكلم في روايته عن شهر بن حوشب. مضى مرارا. انظر رقم: 1605، 4221، 6650 - 6652.
و" شهر بن حوشب "، ثقة، متكلم فيه، مضى مرارا.
و" عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5088. وهذا مرسل.
(2) انظر ما سلف من رقم 17361 - 17368.

(14/532)


وأصله من "التأوّه"، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق، كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) = وكما روى عقبة بن عامر، الخبَرَ الذي حدَّثنيه:-
17418- يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له "ذو البجادين": "إنه أواه"! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء، ويرفَعُ صوته. (2)
__________
(1) انظر رقم: 171416، 1717.
(2) الأثر: 17418 - " يحيى بن عثمان بن صالح القرشي السهمي، المصري " شيخ الطبري طعن عليه؛ لأنه كان يحدث من غير كتبه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 175.
وأبوه: " عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري "، ثقة، متكلم فيه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 154 قال أبو حاتم: " كان شيخا صالحا سليم الناحية، قيل: كان يلقن؟ قال: لا ".
و" ابن لهيعة " مضى مرارا، وذكر الكلام فيه.
و" الحارث بن زبيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 283. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 93.
و" علي بن رباح بن قصير اللخمي المصري "، ثقة، مضى برقم: 4747، 10341.
و" عقبة بن عامر الجهني "، صحابي، ولي إمرة مصر.
و" ذو البجادين "، هو " عبد الله بن عبد نهم المزني "، وهو مترجم في الإصابة، في اسمه هذا، وفي الاستيعاب: 349، في " عبد الله ذو البجادين المزني "، وفي مثله في أسد الغابة 3: 123.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 159، من هذه الطريق نفسها، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 369، وقال: " رواه أحمد، والطبراني، وإسنادهما حسن ". وخرجه الحافظ بن حجر في الإصابة قال: " وأخرجه أحمد، وجعفر بن محمد الغريابي في كتاب الذكر، من طريق ابن لهيعة. . . " وساق الإسناد والخبر.
وفي أمر " عبد الله ذي البجادين "، إشكال هذا موضع عرضه مختصرا، وذلك أن صاحب الإصابة، ذكر في ترجمته أنه كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، وذكر خبرا، رواه الهجري في نوادره (مخطوط) قال:
" قال عبد الله بن ذي البجادين المزني، وساق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ساندا في الغَائر من الرَّكوبة، من الأبيض، جبل العرج في مُهاجَره: تَعَرَّضِي مَدَارِجًا وَسُومِي ... تَعَرُّضَ الجوْزاء لِلنُّجُومِ
هذَا أبُو القاسمِ فاسْتَقِيمي
وذكر الحافظ هذا الشعر في خبره، وذكر صاحب لسان العرب خبر دلالته لنبينا صلى الله عليه وسلم في مادة (بجد) ، وذكر الشعر في مادة (درج) ، و (عرض) ، وفيه خبر الهجري، و (سوم) .
والرجز يقوله لناقته، يقول لها: " تعرضي "، أي: خذي يمنة ويسرة، وتنكبي الثنايا الغلاظ بين الجبال، وهي " المدارج " - و " سومي " من السوم، وهو سرعة المر، مع قصد الصوب في السير - " تعرض الجوزاء "؛ لأن الجوزاء تمر على جنب معارضة، ليست بمستقيمة في السماء.
ويقال في سبب تسميته " ذا البجادين " أنه حين أراد المسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجادا باثنين، فاتزر بواحد، وارتدى بالآخر. ويقال إنه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله لأبيه: " دعني أدله على الطريق "! فأبى، ونزع ثيابه عنه وتركه عريانا. فاتخذ بجادا من شعر وطرحه على عورته، ثم لحقهم، وأخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشأ يرتجز، بما ذكرناه من رجزه.
والذي رأيناه في السير، أن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره هو: " عبد الله بن أريقط الليثي "، و " عبد الله " هذا لم يكن مسلما، ولا وجد من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك، وكان مستأجرا.
(ابن هشام 2: 136 / الروض الأنف 2: 28، ثم ترجمته في الإصابة وغيرها) . وهو بلا شك غير ذي البجادين، لأن ذا البجادين، مزني؛ ولأنه مات في تبوك، ولأنهم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل في قبر أحد، إلا خمسة، منهم عبد الله المزني، ذو البجادين.
فإذا عرف هذا تباعد الإشكال الموهم أنهما رجل واحد، واحتاج أمر دلالة ذي البجادين، إلى إيضاح لم تذكره كتب السير.

(14/533)


ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: "لا تتأوه"، (1) كما قال المُثَقِّب العَبْدي:
إذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ (2)
ومنه قول الجَعْديَ:
ضَرُوحٍ مَرُوحٍ تُتْبِعُ الْوُرْقَ بَعْدَما ... يُعَرِّسْنَ شَكْوَى، آهَةً وَتَنَمَّرَا (3)
__________
(1) في المطبوعة: " لم تتأوه "، فعل ذلك لأن كاتب المخطوطة خلط في كتابه " لا "، فاجتهد الناشر، والصواب ما أثبت.
(2) ديوانه: 29، المفضليات: 586، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 270 طبقات فحول الشعراء: 231، واللسان (أوه) ، ومر ذكره هذا البيت، في التعليق على بيت من القصيدة فيما سلف 2: 548 تعليق: 1. وعنى بذلك ناقته، تحن إلى ديارها وأوطانها.
(3) ديوانه: 33، 52، وجمهرة أشعار العرب: 146، والمعاني الكبير: 315، من قصيدة النابغة، التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، فلما بلغ قوله: بَلَغْنا السَّمَاءَ مَجْدُنا وجُدُودُنا ... وَإنا لَنَبْغِي بَعْدَ ذَلكَ مَظْهَرا
فقال له: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة! قال: أجل، إن شاء الله ثم أنشده ما فيها من الحكمة قال: " لا يفضض الله فاك "، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا، كلما سقطت سن عادت أخرى، وكان النابغة معمرا.
وقوله: " ضروح "، أي تضرح برجلها، رمحت بها، أراد نشاطها وإبعادها في سيرها. ويروى " خنوف " و " طروح " = و " مروح " شديدة النشاط، من المرح. وقوله " تتبع الورق "، هكذا في المخطوطة، ورواية ديوانه " تبعث الورق "، و " تعجل الورق "، وذلك أن تذعرها، فتجعلها عن التعريس، وهما روايتان واضحتا المعنى. وأما رواية التفسير، فإن صحت، فقد أراد أنها تتبع الشكوى والتأوه، فتنزعج فتذعر. و " الورق " عني بها القطا. و " القطا " ورق الألوان. وكان في المطبوعة " الودق " وهو خطأ. وقوله: " وتنمرا "، كان في المطبوعة: " وتشمرا "، وهو خطأ لا شك فيه، والمخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. و " التنمر " الغضب. ورواية الديوان وغيره " وتذمرا "، وهي أوضح وأبين. وقوله: " آهة "، أي تأوهًا.
ورواية العجز في الديوان: " يعرس تشكوا آهة وتذمرا "، والذي في المخطوطة مطابق لما في المعاني الكبير لابن قتيبة " شكوى ".

(14/534)


ولا تكاد العرب تنطق منه: بـ "فعل يفعل"، وإنما تقول فيه: "تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل"، مثل: "تأوّه يتأوه"، "وأوّه يؤوِّه".
كما قال الراجز:
فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه (1)
وقالوا أيضًا: "أوْهِ منك! "، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده:
فَأَوْهِ مِنَ الذِّكْرَى إذَا مَا ذَكَرْتُها ... وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ (2)
قال: وربما أنشدنا: (فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى) ، بغيرها. ولو جاء "فعل" منه على الأصل لكان: "آه، يَئوهُ أوْهًا".
* * *
= ولأن معنى ذلك: "توجَّع، وتحزّن، وتضرع"، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال: معناه "الرحمة": أن ذلك كان
__________
(1) لم أعرف قائله. " ضوضى "، ضجت وصاحت. وفي الحديث حين ذكر رؤيته صلى الله عليه وسلم النار، أعاذنا الله من عذابها: " أنه رأى فيها قوما إذا أتاهم لهبها ضوضوا "، أي أحدثوا ضوضاء من صياحهم وجلبتهم.
(2) لسان العرب (أوه) ، لم أعرف قائله، وذكر اختلاف روايته هناك.

(14/535)


وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)

من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربِّه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله أحد الذي أنزله عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.
= وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ، وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه، الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه، ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله: "إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه = "إن الله بكل شيء عليم"، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين، من الجزع على ما سلف منكم

(14/536)


من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها، فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
17419- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته، فافعلوا أو ذَرُوا.
17420- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: بيانُ الله للمؤمنين: أن لا يستغفروا للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَرُوا.
17421-..... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17422- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته، فافعلوا أو ذروا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(14/537)


إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه، بيده حياتهم وموتهم، يحيي من يشاء منهم، ويميت من يشاء منهم، فلا تجزعوا، أيها المؤمنون، من قتال من كفر بي من الملوك، ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة، أو غيرهم، واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي، فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم، والمذلُّ من أشاء.
وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك، وإغراءٌ منه لهم بحربهم.
وقوله: (وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير) ، يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه، يستنقذكم من عقابه = (ولا نصير) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول: فبالله فثقوا، وإياه فارهبوا، وجاهدوا في سبيله من كفر به، فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة، تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(14/538)


لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)

القول في تأويل قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله (1) = الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء (2) = (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) ، يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه ويرتاب، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه (3) = (ثم تاب عليهم) ، يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم = (إنه بهم رءوف رحيم) ، يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم = (رحيم) ، أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المهاجر " فيما سلف ص: 434، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " العسرة " فيما سلف 6: 28، 29.
(3) انظر تفسير " الزيغ " فيما سلف 6: 183، 184.
= وتفسير " فريق " فيما سلف 12: 388، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " رؤوف " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (رأف) ، (رحم) .

(14/539)


عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (في ساعة العسرة) ، في غزوة تبوك.
17424- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: (في ساعة العسرة) ، قال: خرجوا في غزوةٍ، (1) الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، ويشربون ماءه، (2) وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الظهر، وعسرة من النفقة. (3)
17425- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ساعة العسرة) ، قال: غزوة تبوك، قال: "العسرة"، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء.
17426- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) ، قال: غزوة تبوك.
17427-...... قال، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن مبارك، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) ، قال: عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء. (4)
__________
(1) في المطبوعة: " في غزوة تبوك "، زاد من عنده، وليست في المخطوطة، وهي بلا شك غزوة تبوك.
(2) في المطبوعة: " ماءها "، والذي في المخطوطة صواب أيضا.
(3) الأثر: 17424 - " عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي "، منكر الحديث ليس بمتقن، لا يحتجون بحديثه من جهة حفظه. مضى برقم: 487، وانظر الخبر رقم: 17427.
(4) الأثر: 17427 - " زكريا بن عدي بن زريق التميمي "، ثقة، مضى برقم: 1566، 15446، 16945. وكان في المطبوعة: " زكريا بن علي "، والصواب ما في المخطوطة، ولكن لم يحسن قراءته.
" عبد الله بن محمد بن عقيل "، سلف برقم: 17424.

(14/540)


17428- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة) ، الآية، الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد، حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
17429- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فَرْثه فيشربه، (1) ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا! قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء، فأظلّت، ثم سكبت، (2) فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها، (3)
__________
(1) " الفرث "، سرجين الكرش ما دام في الكرش.
(2) " قالت السماء "، أي: أقبلت بالسحاب، وكان في المطبوعة: "مالت " وأثبت ما في المخطوطة. وهو مطابق لما في مجمع الزوائد، وفي ابن كثير، وغيره " سالت " وليست بشيء. وهذا تعبير عزيز جيد.
وقوله: " فأظلت "، أي: جاء السحاب بالظل، وفي ابن كثير وغيره " فأهطلت "، وليست بشيء. وفي مجمع الزوائد: " فأطلت "، وكأنه تصحيف.
(3) في المطبوعة: " ثم رجعنا ننظر فلم نجدها، جاوزت العسكر "، غير ما كان في المخطوطة، وهو صواب مطابق لما في المراجع. وقوله: " ذهبنا ننظر "، العرب تضع " ذهب " في الكلام ظرفا للفعل، انظر ما سلف 11: 128، تعليق: 1، ثم ص: 250، في كلام أبي جعفر، والتعليق: 1، ثم رقم: 16206.

(14/541)


جاوزت العسكر. (1)
17430- حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، حدثنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 17429 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري ". ثقة متقن، مضى مرارا، آخرها رقم: 13570، 16732.
و" سعيد بن أبي هلال الليثي المصري "، ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 13570.
و" عتبة بن أبي عتبة ". هو " عتبة بن مسلم التيمي "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 374.
و" نافع بن جبير بن مطعم ". تابعي ثقة، أحد الأئمة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 82، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 451.
ورجال إسناد هذا الخبر ثقات.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 194، 195، وقال: " رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 286، ونسبه إلى ابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في الدلائل.
وهو في دلائل النبوة لأبي نعيم ص: 190 في باب " ذكر ما كان في غزوة تبوك ".، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 257، 258، والبغوي بهامشه.
(2) الأثر: 17430 - " إسحاق بن زياد العطار "، شيخ الطبري، مضى برقم: 14146، ولم نجد له ذكرا، وقد مضى هناك: " إسحاق بن زياد العطار النصري " بغير تاء في " زياد " في المطبوعة والمخطوطة. وغير ممكن فصل القول في ذلك، ما لم نجد له ترجمة تهدي إلى الصواب.

(14/542)


وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

القول في تأويل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }

(14/542)


قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار) = (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قيل، هم الآخرون الذين قال جل ثناؤه: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) [سورة التوبة: 106] ، فتاب عليهم عز ذكره وتفضل عليهم.
وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفهم الله عن التوبة، فأرجأهم عمَّن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-
17431- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع عكرمة في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: خُلِّفوا عن التوبة.
17432- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما قوله: (خلفوا) ، فخلِّفوا عن التوبة.
* * *
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) ، يقول: بسعتها، (2) غمًّا وندمًا على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم = (وضاقت عليهم أنفسهم) ، بما نالهم من الوَجْد والكرْب بذلك = (وظنوا أن لا ملجأ) ، يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجأون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء، (3)
__________
(1) انظر ما سلف ص: 464 - 467.
(2) انظر تفسير " رحب " فيما سلف. ص: 179.
(3) انظر تفسير " الظن " فيما سلف 2: 17 - 20، 265 / 5: 352.
= وتفسير " الملجأ " فيما سبق ص: 298.

(14/543)


بتخلفهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب الله، إلا الله، ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه، ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه = (إن الله هو التواب الرحيم) ، يقول: إن الله هو الوهّاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفقُ من أحبَّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه = (الرحيم) ، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبةَ والإنابةَ ولا يتوب عليه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17433- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار. (2)
17434- حدثني عبيد بن محمد الوراق قال، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بنحوه = إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع، أو: ابن ربيعة، شكّ أبو أسامة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " التواب "، " والرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (ثوب) ، (رحم) .
(2) الأثر: 17433 - " مرارة بن ربيعة "، المشهور: " مرارة بن الربيع "، ولكنه هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة هنا. ثم جاء في الأخبار التالية " الربيع ". وقد مضى مثل هذا الاختلاف وأشد منه فيما سلف في التعليق على رقم 17177، 17178، 17183. وذكر ابن كثير في تفسيره 4: 264، وذكر هذا الخبر فقال: " وكذا في مسلم: ربيعة، في بعض نسخه، وفي بعضها: مرارة بن الربيع ".
(3) الأثر: 17434 - " عبيد بن محمد الوراق "، هو " عبيد بن محمد بن القاسم بن سليمان بن أبي مريم "، " أبو محمد الوراق النيسابوري "، سكن بغداد، وحدث بها عن موسى بن هلال العبدي وأبي النضر هاشم بن القاسم، والحسن بن موسى الأشيب، ويعقوب بن محمد الزهري، وبشر بن الحارث. كان ثقة، مات سنة 255، ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 11: 97، وروى عنه الطبري في موضعين من تاريخه 2: 202، 250، روى عن روح بن عبادة.
وكان في المطبوعة: " عبيد بن الوراق "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتب " عبيد بن محمد " كلمة واحدة مشتبكة الحروف.
وأما " مرارة بن الربيع " أو " ابن ربيعة "، فانظر التعليق السالف.

(14/544)


17435- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: أرْجئوا، في أوسط "براءة".
17436- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: الذين أرجئوا في أوسط "براءة"، قوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ) ، [سورة التوبة: 106] هلال بن أمية، ومرارة بن رِبْعيّ، وكعب بن مالك. (1)
17437- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، الذين أرجئوا في وسط "براءة".
17438- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك.
17439-...... قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: الذين أرجئوا.
17440-...... قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: (الثلاثة الذين خلفوا) ، كعب بن مالك وكان شاعرا، ومرارة بن الربيع، وهلال ابن أمية، وكلهم أنصاريّ. (2)
17441-...... قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك.
__________
(1) الأثر: 17436 - " مرارة بن ربعي "، هكذا في المخطوطة كما أثبته، وفي المطبوعة " ابن ربيعة " ولكن هكذا، جاء هنا، كالذي مضى في رقم: 17177، 17178، فانظر التعليق هناك.
(2) في المطبوعة: " أنصار "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.

(14/545)


17442- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هاشم، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كلهم من الأنصار.
17443- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، إلى قوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) ، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية، فقال: لا أطلقها = أو لا أطلق نفسي (1) = حتى يُطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: والله لا أطلقه حتى يطلقه ربُّه إن شاء! وأما الآخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك، (2) فجعله صدقة في سبيل الله، وقال: والله لا أطعمه! وأما الآخر فركب المفاوز يتبع رسول الله، ترفعه أرض وتَضَعه أخرى، وقدماه تَشَلْشَلان دمًا. (3)
17444- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: (الثلاثة الذين خلفوا) ، هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة.
17445-...... قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سلام أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: هلال بن أمية، ومرارة، وكعب بن مالك.
17446- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،
__________
(1) في المطبوعة: " لا أطلقها، أو لا أطلق نفسي "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " الحائط "، هو البستان من النخيل، إذا كان عليه حائط، وهو الجدار. ويقال لها أيضا " حديقة "، لإحداق سوره بها. فإذا لم يكن عليها حائط، فهي " ضاحية "، لبروزها للعين. و " أدرك الثمر "، أي بلغ نضجه.
(3) " تشلشلان "، " تتشلشلان "، على حذف إحدى التائين. " تشلشل الماء والدم "، إذا تبع قطران بعضه بعضا في سيلانه متفرقا.

(14/546)


عن عمر بن كثير بن أفلح قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغَزاة! قال كعب بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: "أتجهز غدًا ثم ألحقه"، فأخذت في جَهازي، فأمسيت ولم أفرغ. فلما كان اليوم الثالث، أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات! سار الناس ثلاثًا! فأقمت. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الناس يعتذرون إليه، فجئت حتى قمت بين يديه، فقلت: ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة! فأعرض عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس أن ألا يكلمونا، وأمِرَتْ نساؤنا أن يتحوَّلن عنَّا. قال: فتسوَّرت حائطا ذات يوم، فإذا أنا بجابر بن عبد الله، فقلت: أيْ جابر! نشدتك بالله، هل علمتَني غششت الله ورسوله يومًا قطُّ؟ فسكت عني فجعل لا يكلمني. (1) فبينا أنا ذات يوم، إذ سمعت رجلا على الثنيَّة يقول: كعب! كعب! حتى دنا مني، فقال: بشِّروا كعبًا. (2)
17447- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وفد أذْرُح ووفد أيلة، فصَالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة) ، الآية،
__________
(1) انظر " جعل "، وأنها من حروف الاستعانة فيما سلف 11: 250، في كلام الطبري، والتعليق هناك رقم: 1، والتعليق على الأثر رقم: 13862.
(2) الأثر: 17446 - " عمر بن كثير بن أفلح المدني "، مولى أبي أيوب الأنصاري، ثقة، ذكره ابن حبان في أتباع التابعين، وكأنه لم يصح عنده لقيه للصحابة. وذكر غيره أنه روى عن كعب بن مالك. وابن عمر، وسفينة. ومضى برقم: 12223.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 454، 455، من هذه الطريق نفسها بنحوه.

(14/547)


والثلاثة الذين خلفوا: رَهْطٌ منهم: كعب بن مالك، وهو أحد بني سَلِمة، ومرارة بن ربيعة، وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف، وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلا. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صَدَقه أولئك حديثهم، واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسهم إلا العذر، فقبل منهم رسول الله وبايعهم، ووكَلَهم في سرائرهم إلى الله، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خُلِّفوا، وقال لهم حين حدَّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: قد صدقتم، فقوموا حتى يقضى الله فيكم. فلما أنزل الله القرآن، تاب على الثلاثة، وقال للآخرين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) ، حتى بلغ: (لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [سورة التوبة: 95، 96] .
= قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك = وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عَمي = قال: سمعت كعب بن مالك يحدِّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب: لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتبْ أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكرَ في الناس منها. (1)
= فكان من خبري حين تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،
__________
(1) قوله: " أذكر " أي أشهر ذكرا.

(14/548)


أني لم أكن قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطُّ حتى جمعْتُهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوِزَ، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبُوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظٌ = يريد بذلك: الديوان = قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيّب إلا يظنَّ أن ذلك سيخفى، ما لم ينزل فيه وَحْيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعَرُ. (1) فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، [فأرجع ولم أقض شيئًا، وأقول في نفسي: "أنا قادر على ذلك إذا أردت! "، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمرّ بالناس الجدُّ. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه] ، (2) ولم أقض من جَهازي شيئًا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل ذلك يتمادى [بي] ، (3) حتى أسرعوا وتفارط الغزْوُ، (4) وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يُقْدَر ذلك لي. فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أنّي لا أرى لي أسوةً إلا رجلا مغموصًا عليه في النفاق، (5) أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سَلِمَة: يا رسول الله، حبسه بُرْداه، والنظر في عِطْفيْه! (6) [فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا] ! (7) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو على ذلك، رأى رجلا مُبَيِّضًا يزول به السرابُ، (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر، فلمزه المنافقون. (9)
= قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلا من تبوك، حضرني بثِّي، (10) فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: "بم أخرج من سَخَطه غدًا"؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلّ قادمًا! "، زاح عني الباطل، (11) حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، (12) وصَبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، (13) وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا
__________
(1) " أصعر "، أي: أميل، على وزن " أفعل " التفضيل، وأصله من " الصعر " (بفتحتين) ، وهو ميل في الوجه، كأنه يلتفت إليه شوقا.
(2) الذي بين القوسين ساقط من المخطوطة، وأثبته من رواية مسلم في صحيحه. وكان في المطبوعة: ". . . لكي أتجهز معهم، فلم أقضي من جهازي شيئا "، أما المخطوطة، فكان فيها ما يدل على أن الناسخ قد أسقط من الكلام: ". . . لكي أتجهز معهم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ".
(3) الزيادة بين القوسين، من صحيح مسلم.
(4) " تفارط الغزو "، أي فات وقته، ومثله " تفرط "، وفي الحديث: " أنه نام عن العشاء حتى تفرطت "، أي: فات وقتها.
(5) " أسوة "، أي: قدوة ومثلا. و " المغموص عليه "، من قولهم " غمص عليه قولا قاله "، أي: عابه عليه، وطعن به عليه. ويعني: مطعونا في دينه، متهما بالنفاق.
(6) " النظر في عطفيه "، كناية عن إعجابه بنفسه، واختياله بحسن لباسه. و " العطفان "، الجانبان، فهو يتلفت من شدة خيلائه.
(7) الزيادة بين القوسين، من صحيح مسلم. وظاهر أن الناسخ أسقطها في نسخه.
(8) " المبيض " (بتشديد الباء وكسرها) ، هو لا بس البياض. و " يزول به السراب "، أي: يرفعه ويخفضه، وإنما يحرك خياله.
(9) " لمزه "، عابه وحقره.
(10) في المطبوعة: " حضرني همي "، لم يحسن قراءة المخطوطة، والذي فيها مطابق لرواية مسلم في صحيحه. و " البث "، أشد الحزن. وذلك أنه إذا اشتد حزن المرء، احتاج أن يفضي بغمه وحزنه إلى صاحب له يواسيه، أو يسليه، أو يتوجع له.
(11) " أظل قادما "، أي: أقبل ودنا قدومه، كأنه ألقى على المدينة ظله. وقوله: " زاح عني الباطل "، أي: زال وذهب وتباعد.
(12) " أجمعت صدقه "، أي: عزمت على ذلك كل العزم، " أجمع صدقه " و " أجمع على صدقه "، سواء.
(13) في المطبوعة: " وأصبح "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم.

(14/549)


بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئتُ، فلما سلمت تبسم تبسُّم المغْضَب، ثم قال: تعالَ! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سَخَطه بعذرٍ، لقد أعطيتُ جدلا (1) ولكني والله لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يُسْخِطَك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدْق تَجدُ عليّ فيه، (2) إني لأرجو فيه عفوَ الله، (3) والله ما كان لي عُذْر! والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا هذا فقد صَدَق، قم حتى يقضي الله فيك! فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا! لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، (4) فقد كان كافِيَك ذنبك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك! قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّبَ نفسي! قال: ثم قلت لهم: هل لَقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثلَ ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيع العامري، (5) وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة. (6) قال: فمضيت حين ذكروهما لي. (7)
= ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة، (8) من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: "هل حرك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ "، ثم أصلي معه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوَّرت جدار حائط أبي قتادة = وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليّ = فسلمت عليه، فوالله ما ردّ علي السلام! فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت. قال: فعُدْت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار.
= فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطيّ من نَبَط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون
__________
(1) " الجدل "، اللدد في الخصومة، والقدرة عليها، وعلى مقابلة الحجة بالحجة.
(2) " تجد " من " الوجد "، وهو الغضب والسخط.
(3) هكذا في المخطوطة: " عفو الله " ومثله في مسند أحمد 3: 460 وفي صحيح مسلم " عقبى الله "، أي: أن يعقبني خيرا، وأن يثبتني عليه.
(4) في المطبوعة حذف " في " من قوله: " لقد عجزت في أن لا تكون "، وهي ثابتة في المخطوطة، وهي مطابقة لما في صحيح مسلم. وأما الذي في المطبوعة، فهو مطابق لما في البخاري من رواية غيره.
(5) في المطبوعة: " ابن الربيع "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر روايته في مسلم " مرارة بن ربيعة "، وما قالوا في اختلاف رواه مسلم. وما قالوه أيضا في روايته " العامري "، وأن صوابها " العمري " نسبة إلى بني عمرو بن عوف.
(6) في المطبوعة: " لي فيهما أسوة "، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة، ولا في صحيح مسلم. وإنما هو من رواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(7) " مضيت "، أي: أنفذت ما رأيت. من قولهم: " مضى في الأمر مضاء "، نفذ، و " أمضاه " أنفذه.
(8) قوله: " أيها الثلاثة "، أي: خصصنا بذلك دون سائر المعتذرين. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب، تقول: " أما أنا فأفعل هذا، أيها الرجل "، يعني نفسه. انظر ما سلف 3: 147، تعليق: 1، في الخبر رقم: 2182.

(14/551)


له، حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا، فقرأته، فإذا فيه: "أما بعدُ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالحق بنا نُوَاسِك".
= قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضًا من البلاء!! فتأمَّمتُ به التنُّور فسجرته به. (1) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، (2) إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. (3)
= قال: فجاءت امرأة هلالٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدُمَه؟ فقال: لا ولكن لا يقرَبَنْكِ! قالت فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله
__________
(1) " فتأممت "، وهكذا في المخطوطة أيضا، وفي رواية البخاري " فتيممت ". وأما في صحيح مسلم، " فتياممت "، وقال النووي: " هكذا هو في حميع النسخ ببلادنا، وهي لغة في: تيممت، ومعناها: قصدت ". وأما القاضي عياض، فقال في مشارق الأنوار (أمم) : " ومثله: فتيممت بها التنور، كذا رواه البخاري. ولمسلم: فتأممت، وكلاهما بمعنى، سهل الهمزة في رواية، وحققها في أخرى = أي: قصدت ".
ثم انظر تفسير " الأم " و " التأمم " في تفسير أبي جعفر فيما سلف 5: 558 / 8: 407 / 9: 471.
وفي المطبوعة: " فتأممت به "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في مسلم والبخاري، إلا أن في مسلم " فسجرتها بها "، وفي البخاري: " فسجرته بها ". وأنث " بها "، إرادة لمعنى الصحيفة، وهي الكتاب، ثم رجع بالضمير إلى " الكتاب ".
" والتنور "، الكانون الذي يخبز فيه.
و" سجر التنور "، أوقده وأحماه وأشبع وقوده، وأراد: أنه زاد التنور التهابا، بإلقائه الصحيفة في ناره. وهذا كلام معجب، أراد به أن يسخر من رسالة ملك غسان إليه.
(2) " استلبث "، أي: أبطأ وتأخر.
(3) في المطبوعة: " تكوني عندهم "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم. وفي البخاري بغير هذا الإسناد: " فتكوني ".

(14/553)


ما زال يبكي مُنْذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدُمه؟ قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابٌّ!
= فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. (1) قال: ثم صليت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا، (2) قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعتُ صوت صارخٍ أوْفى على جبل سَلْع، (3) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ. قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، (4) فذهب الناس يبشروننا، (5) فذهب قِبَلَ صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَم قِبَلي وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرعَ من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6)
__________
(1) في صحيح مسلم " حين نهي عن كلامنا "، وضبط " نهي " بالبناء للمجهول، ورواية أبي جعفر، تصحح ضبطه بالبناء للمعلوم أيضا.
(2) في المطبوعة: " التي ذكر الله عنا "، غير ما في المخطوطة، هو مطابق لما في صحيح مسلم، وهو العربي العريق.
(3) " أوفى عليه "، صعده وارتفع عليه، فأشرف على الوادي منه واطلع.
(4) " آذن " أعلم الناس بها. ورواية مسلم: " فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس "، والذي هنا مطابق لرواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(5) " ذهب "، سلف ما كتبته عن الاستعانة بقولهم: " ذهب " و " جعل ". انظر رقم: 17429، ص: 541، تعليق 3، والمراجع هناك.
(6) انظر ص: 553، تعليق: 1.

(14/554)


فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك! (1) حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهَرول حتى صافحني، وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره = قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة (2) = قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرُقُ وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك! فقلت: أمن عندك، يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأن وجه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
= قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك، فهو خيرٌ لك! قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت! قال: فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صِدْق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، أحسن مما ابتلاني، (4)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " لتهنك "، وهي كذلك في رواية البخاري بغير هذا الإسناد، وفي صحيح مسلم المطبوع: " لتهنئك "، وذكره القاضي عياض في مشارق الأنوار (هنأ) فقال: " ولتهنك توبة الله، يهمز، ويسهل ". وقد ذكر صاحب لسان العرب (هنأ) أن العرب تقول: " ليهنئك الفارس " بجزم الهمزة، و " ليهنيك الفارس " بياء ساكنة، ولا يجوز " ليهنك " كما تقول العامة "، والذي قاله ونسبه للعامة، صواب لا شك فيه عندي.
(2) قال الحافظ في الفتح: " قالوا: سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة، لما آخى بين المهاجرين والأنصار. والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير، لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين، فهو أخو أخيه ".
(3) " انخلع من ماله "، أي: خرج من جميع ماله، وتعرى منه كما يتعرى إنسان إذا خلع ثوبه. وأراد: إخراجه متصدقا به.
(4) " أبلاه " أي: أنعم عليه.

(14/555)


والله ما تعمَّدت كِذْبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله: (لقد تابَ الله على النبي) ، حتى بلغ: (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، إلى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
= قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ قطُّ بعد أن هَدَاني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، (1) فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شَرَّ ما قال لأحدٍ: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله: (لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ، [سورة التوبة: 95، 96] .
= قال كعب: خُلِّفنا، أيها الثلاثة، (2) عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حَلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا عن الغزو، (3) إنما هو تخليفه إيّانا، (4) وإرجاؤه أمرَنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. (5)
__________
(1) " أن لا أكون "، " لا " زائدة، كالتي في قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة: الأعراف: 12] . انظر ما سلف في تفسير الآية 12: 323 - 325.
(2) في المطبوعة: " خلفنا " دون " كنا "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وما أثبته مطابق لرواية مسلم في صحيحه.
(3) في صحيح مسلم: " مما خلفنا، تخلفنا عن الغزو "، والذي هنا وفي المخطوطة، مطابق لما فيه رواية البخاري بغير هذا الإسناد.
(4) في المطبوعة: " ختم الجملة بقوله: " فقبل منهم " بالجمع، خالف ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم والبخاري.
(5) الأثر: 17447 - حديث كعب بن مالك، سيرويه أبو جعفر من طرق سأبينها بعد. أما روايته هذه من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، فهو إسناد مسلم في صحيحه 17: 87، 98، وانظر التعليق على الأخبار التالية. وانظر الأثرين السالفين رقم: 16147، 17091، والتعليق عليهما.

(14/556)


17448- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك = وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي = قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فذكر نحوه. (1)
17449- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة غَزاها إلا بدرًا، ولم يعاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه. (2)
17450- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السلمي، عن أبيه، أن أباه عبد الله بن كعب، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره = قال: سمعت أبي كعبَ بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه، قال: ما تخلفت عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 17448 - من هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86 - 93) ، وأحمد في مسنده 3: 459، 460، الحديث بطوله.
(2) الأثر: 17449 - من هذه الطريق، طريق معمر، رواه أحمد في مسنده 6: 387 - 390. وانظر أيضا ما رواه أحمد في مسنده 3: 456، روايته من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، الحديث بطوله، وصحيح مسلم 17: 98 - 100.
(3) الأثر: 17450 - سيرة ابن هشام 4: 175 - 181، الحديث بطوله.

(14/557)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين، معرِّفَهم سبيل النجاة من عقابه، والخلاصِ من أليم عذابه: (يا أيها الذين آمنوا) ، بالله ورسوله = (اتقوا الله) ، وراقبوه بأداء فرائضه، وتجنب حدوده = (وكونوا) ، في الدنيا، من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة = (مع الصادقين) ، في الجنة. يعني: مع من صَدَق اللهَ الإيمانَ به، فحقَّق قوله بفعله، ولم يكن من أهل النفاق فيه، الذين يكذِّب قيلَهم فعلُهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جل ثناؤه: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) [سورة النساء: 69] .
* * *
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غيرُ نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم، إن لم يكن عاملا عملهم. وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم، كان وجْهُ الكلام أن يقال: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، (1) ولتوجيه الكلام إلى ما وجَّهنا من تأويله، فسَّر ذلك من فسَّره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو: مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين رحمة الله عليهم.
* * *
* ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:
__________
(1) في المطبوعة: " كان لا وجه في الكلام أن يقال "، غير ما في المخطوطة، والذي فيها ما أثبته، وهو مستقيم صحيح. والذي جاء به من عنده مفسد للكلام.

(14/558)


17451- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
17452- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع قال: قيل للثلاثة الذين خُلِّفوا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، محمدٍ وأصحابه.
17453- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما، رحمةُ الله عليهم.
17454-...... قال، حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرمّاني، عن سعيد بن جبير في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر، رحمة الله عليهما. (1)
17455- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع المهاجرين الصادقين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: (وَكُونُوا مِن الصَّادِقينَ) ، ويتأوّله: أنّ ذلك نَهْىٌ من الله عن الكذب.
* ذكر الرواية عنه بذلك:
17456- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الأثر: 17454 - " أبو هاشم الرماني " ثقة، روى له الجماعة. مختلف في اسمه، مضى برقم: 10818.

(14/559)


عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحلُّ منه جدٌّ ولا هزلٌ، اقرءوا إن شئتم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) ، قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: (من الصادقين) ، فهل ترون في الكذب رُخْصَة؟
17457-...... قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد الله، نحوه.
17458-...... قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدِّث عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جدٌّ ولا هزل، اقرءوا إن شئتم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) = وهي كذلك في قراءه عبد الله = فهل ترون من رخصة في الكذب؟
17459- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله قال: لا يصلح الكذب في هزلٍ ولا جدٍّ. ثم تلا عبد الله: (اتقوا الله وكونوا) ، ما أدري أقال: (من الصادقين) أو (مع الصادقين) ، وهو في كتابي: (مع الصادقين) .
17460-...... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، مثله.
17461-...... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصحيح من التأويل في ذلك، هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك. وذلك أنّ رسوم المصاحف كلّها مجمعة على: (وكونوا مع الصادقين) ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحدٍ القراءةَ بخلافها.
* * *

(14/560)


مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)

وتأويل عبد الله، رحمة الله عليه، في ذلك على قراءته، تأويلٌ صحيح، غير أن القراءة بخلافها.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم = (ومن حولهم من الأعراب) ، سُكّان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارٍ لهم، (1) ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه، ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. (2) يقول: إنه لم يكن لهم هذا = (بأنهم) ، من أجل أنهم، وبسبب أنهم = (لا يصيبهم) ، في سفرهم إذا كانوا معه = (ظمأ) ، وهو العطش = (ولا نصب) ، يقول: ولا تعب = (ولا مخمصة في سبيل الله) ، يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدْم مَنَار الكفر (3) = (ولا يطئون موطئًا) ، يعني: أرضًا، يقول: ولا يطأون أرضًا =
__________
(1) في المطبوعة: " ولا دارهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " رغب " فيما سلف 3: 89.
(3) انظر تفسير " المخمصة " فيما سيأتي ص: 564، تعليق: 1.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .

(14/561)


(يغيظ الكفار) ، وطؤهم إياها (1) = (ولا ينالون من عدوّ نيلا) ، يقول: ولا يصيبون من عدوّ الله وعَدُوّهم شيئًا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم = إلا كتب الله لهم بذلك كله، ثوابَ عمل صالح قد ارتضاه (2) = (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، يقول: إن الله لا يدع محسنًا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، أن يجازيه على إحسانه، ويثيبه على صالح عمله. (3) فلذلك كتبَ لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية، الثوابَ على كلّ ما فعل، فلم يضيِّع له أجرَ فعله ذلك.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية.
* * *
فقال بعضهم: هي محكمة، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لم يكن لأحدٍ أن يتخلف إذا غزا خِلافَه فيقعد عنه، إلا من كان ذا عُذْرٍ. فأما غيره من الأئمة والولاة، فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلَّف خلافه، إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.
* ذكر من قال ذلك:
17462- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) ، هذا إذا غزا نبيُّ الله بنفسه، فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشقَّ على أمتي ما تخلَّفت خلف سريّة تغزو في سبيل الله، لكني لا أجد سَعةً، فأنطلق بهم معي، ويشقّ علي = أو: أكره = أن أدعهم بعدي.
17463- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت
__________
(1) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7: 215 / 114: 16.
(2) انظر تفسير " كتب " فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(3) انظر تفسير " المحسن " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .

(14/562)


الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والفزاري، والسبيعي، وابن جابر، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، إلى آخر الآية، إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون هذه الآية: نزلت وفي أهل الإسلام قلة، فلما كثروا نسخها الله، وأباح التخلف لمن شاء، فقال: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [سورة التوبة: 122]
* ذكر من قال ذلك:
17464- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، فقرأ حتى بلغ: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ، قال: هذا حين كان الإسلام قليلا فلما كثر الإسلام بعدُ قال: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، إلى آخر الآية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن الله عنى بها الذين وصفهم بقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ، [سورة التوبة: 90] . ثم قال جل ثناؤه: (ما كان لأهل المدينة) ، الذين تخلفوا عن رسول الله، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه، أن يتخلفوا خِلافَه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلَّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص، إلا من أذن له، أو أمره بالمقام بعده. فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلُّف. فعدّد جل ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاقَ من كان تخلُّفه منهم نفاقًا، وعذر من كان تخلفه لعُذْرٍ، وتاب على من كان تخلُّفه تفريطًا من غير شك ولا ارتياب

(14/563)


في أمر الله، إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه، فلم يكن محظورًا، إذا لم يكن عن كراهةٍ منه صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم. فليس بفرضٍ على جميعهم النهوضُ معه، إلا في حال حاجته إليهم، لما لا بُدَّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم، فيلزمهم حينئذ طاعته.
وإذا كان ذلك معنى الآية، لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخةً للأخرى، إذ لم تكن إحداهما نافيةً حكم الأخرى من كل وجوهه، ولا جاء خبر يوجِّه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
* * *
وقد بينا معنى "المخمصة"، وأنها المجاعة بشواهده، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضعٍ غير هذا، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما "النيل"، فهو مصدر من قول القائل: "نالني ينالني"، و"نلت الشيء فهو مَنيل". وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من "التناول". وذلك أن "التناول" من "النوال"، يقال منه: "نُلْتُ له، أنول له"، من العطيّة.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: "النيل" مصدر من قول القائل: "نالني بخير ينولني نوالا"، و"أنالني خيرًا إنالةً". وقال: كأن "النيل" من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب، بل من شأن العرب أن تصحِّح الواو من ذوات الواو، إذا سكنت وانفتح ما قبلها، كقولهم: "القَوْل"، و"العَوْل"، و"الحول"، ولو جاز ما قال، لجاز "القَيْل". (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المخمصة " فيما سلف 9: 532 - 534.
(2) انظر تفسير " النيل " فيما سلف 3: 20 / 6: 587 / 12: 408، 469 / 13: 133 ولم يفسر " النيل " فيما سلف بمثل هذا البيان في هذا الموضع. وهذه ملاحظة نافعة في استخراج المنهج الذي ألف به أبو جعفر تفسيره هذا.

(14/564)


وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

القول في تأويل قوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ"، وسائر ما ذكر = (ولا ينالون من عدوٍّ نيلا) = (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، في سبيل الله (1) = (ولا يقطعون) ، مع رسول الله في غزوه = (واديًا) إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك، جزاءً لهم عليه، كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم، كما:-
17465- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بُعْدًا إلا ازدادوا من الله قربًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعًا. (2)
* * *
وقد بينا معنى "الكافة" بشواهده، وأقوال أهل التأويل فيه، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة: " ولا كبيرة "، وزدتها لأنها حق الكلام.
(2) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 8: 536 / 14: 254، 399.
(3) انظر تفسير " الكافة " فيما سلف 4: 257، 258 / 14: 242.

(14/565)


ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية، وما "النفر"، الذي كرهه لجميع المؤمنين؟
فقال بعضهم: وهو نَفْرٌ كان من قوم كانوا بالبادية، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، انصرفوا عن البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه، وممن عُنِي بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، وكره انصرافَ جميعهم من البادية إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
17466- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، قال: ناسٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفًا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودَعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا! فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجًا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يبتغون الخير = (ليتفقهوا) ، وليسمعوا ما في الناس، وما أنزل الله بعدهم = (ولينذروا قومهم) ، الناس كلهم = (إذا رجعوا اللهم لعلهم يحذرون) .
17467- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه قال في حديثه: فقال الله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، خرج بعض، وقعد بعضٌ يبتغون الخير.
17468-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحو حديثه عن أبي حذيفة.

(14/566)


17469- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة = غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم! وقال: (ليتفقهوا) ، ليسمعوا ما في الناس.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا إلى عدوّهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده، كما:-
17470- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قال: ليذهبوا كلهم = فلولا نفر من كل حي وقبيلة طائفة، وتخلف طائفة = (ليتفقهوا في الدين) ، ليتفقه المتخلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين = ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17471- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده = (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: "إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه". فيمكث السرايا يتعلَّمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، [ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين) ، يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه] ، (1) ويعلموا السرايا إذا رجعت
__________
(1) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة، وزاده ناشر المطبوعة من الدر المنثور 3: 292، فيما أرجح.

(14/567)


إليهم لعلهم يحذرون. (1)
17472- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، قال: هذا إذا بعث نبيُّ الله الجيوشَ، أمرهم أن لا يُعَرُّوا نبيه، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
17473- حدثنا الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، الآية، كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحلَّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل العذر. وكان إذا أقام فأسرت السرايا، لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن، تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه. فإذا رجعت السرية، قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا"، فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول: إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم = (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني بذلك: أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعًا ونبيُّ الله قاعد، ولكن إذا قعد نبيُّ الله، تسرَّت السرايا، وقعد معه عُظْمُ الناس.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم، ولكنهم منافقون. ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون، لنفر بعضٌ ليتفقه في الدين، ولينذر قومه إذا رجع إليهم.
__________
(1) كان في المطبوعة: " ويعلمونه "، وفي الدر: " ويعلموه "، وفي المخطوطة: " ويعلموا " عطفا على قوله: " ليفقهوا ".

(14/568)


* ذكر من قال ذلك:
17474- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضَر بالسِّنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقْبل بأسرها حتى يحلُّوا بالمدينة من الجهْد، ويعتلُّوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيَّقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين، فردّهم رسول الله عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) .
* * *
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول ثالثٌ، وهو ما:-
17475- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، قال: كان ينطلق من كل حيّ من العرب عصابةٌ، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونه عما يريدونه من دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله: ما تأمرنا أن نفعله، وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم؟ قال: فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: "إن من أسلم فهو منَّا"، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليعرِّف أباه وأمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم. (1) فإذا رجعوا إليهم، يدعونهم إلى الإسلام، وينذرونهم النار، ويبشرونهم بالجنة.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت هذه الجملة في المخطوطة والمطبوعة، وهي جملة غريبة التركيب، أخشى أن يكون سقط منها شيء

(14/569)


وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزرَوْا بأعراب المسلمين وغيرهم، (1) في تخلُّفهم خِلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف.
* ذكر من قال ذلك:
17476- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ، إلى: (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف! فنزلت: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى: (لعلهم يحذرون) ، ونزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) ، الآية [سورة الشورى: 16] .
17477- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا سليمان الأحول، عن عكرمة، قال: سمعته يقول: لما نزلت: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) [سورة التوبة: 39] ، و (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ) ، إلى قوله: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه! وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو، إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، ونزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) ، الآية.
* * *
واختلف الذين قالوا: "عُنى بذلك النهيُ عن نَفْر الجميع في السرية، وترك
__________
(1) في المطبوعة: " بأعراب المسلمين وعزروهم "، والصواب ما في المخطوطة.

(14/570)


النبيّ عليه السلام وحده" في المعنيِّين بقوله: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) .
فقال بعضهم: عُنى به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد، ليتفقه المتخلفون في الدين، ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم؟ وذلك قول قتاده، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه، من رواية سعيد بن أبي عروبة، (1) وقد:-
17478- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الآية، قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله = (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، يقول: لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.
17479- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن وقتادة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قالا كافة، ويَدَعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة، وتحذر النافرةُ المتخلفةَ.
* ذكر من قال ذلك:
17480- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، قال: ليتفقه الذين خرجوا، بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 17472.

(14/571)


قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويلُه: وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهادٍ وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدًا. ولكن عليهم إذا سَرَّى رسول الله سرية أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب = وهي الفرقة (1) = (طائفة) ، وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، (2) كما قال الله جل ثناؤه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يقول: فهلا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة؟ (3) وهذا إلى هاهنا، على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك وقتادة.
وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأعراب، لغير عذر يُعذرون به، إذا خرج رسول الله لغزوٍ وجهادِ عدوٍّ قبل هذه الآية بقوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فكان معلومًا بذلك = إذْ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازمَ لهم من فرض النَّفْر، والمباحَ لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خِلافه إلا لعذر، بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم = أن يكون عَقِيب تعريفهم ذلك، تعريفُهم الواجبَ عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته،
__________
(1) انظر تفسير " الفريق " و " الفرقة " فيما سلف: ص: 539، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف: ص: 403، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " لولا " فيما سلف 11: 356، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(14/572)


وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداءُ بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
* * *
وأما قوله: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، (1) فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك = إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم = (لعلهم يحذرون) ، (2) يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرًا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبِروا خبرَهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه، (3) لأن "النفر" قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقًا بغير صلة بشيء، أنَّ الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو. (4) فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، علم أن قوله: (ليتفقهوا) ، إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذْ كان يليه دون غيره من الكلام.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلِّفون في الدين؟
قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نَفْر الطائفة النافرة، لو كان سببًا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببًا لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن
__________
(1) انظر تفسير " التفقه " فيما سلف ص: 413، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الحذر " فيما سلف 10: 575 / 14: 331.
(3) انظر ما سلف رقم: 17480.
(4) انظر ما سلف ص: 251 - 256.

(14/573)


مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببًا لمنعهم من التفقه.
* * *
وبعدُ، فإنه قال جل ثناؤه: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، عطفًا به على قوله: (ليتفقهوا في الدين) ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدّم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نَفرتْ، فما وجْهُ إنذار الطائفة المتخلفة الطائفةَ النافرةَ، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائزٌ أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقَّهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به، ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا، من أنها تنذر من حَيِّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نُظَرائه من أهل الشرك.
* * *

(14/574)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم. (1) يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .

(14/574)


أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يدٌ على من سواهم.
* * *
ولصحة كون ذلك كذلك، تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من الأعداء.
* ذكر الرواية بذلك:
17481- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن شبيب بن غرقدة البارقي، عن رجل من بني تميم قال، سألت ابن عمر عن قتال الديلم قال: عليك بالروم! (1)
17482- حدثنا ابن بشار، وأحمد بن إسحاق، وسفيان بن وكيع قالوا، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: الديلم.
17483- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) .
17484- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا عمران أخي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ فقال:
__________
(1) الأثر: 17481 - " شبيب بن غرقدة البارقي "، والمشهور " السلمي "، مضى برقم: 3008، 3009، وهو تابعي ثقة. وهكذا جاء في المخطوطة كما أثبته، ولكن ناشر المطبوعة كتبه هكذا " عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي، عن رجل من بني تميم "، وهو لا يصح أبدا، لأن " عروة البارقي "، هو: " عروة بن أبي الجعد البارقي "، وهو صحابي معروف، مضى أيضا برقم: 3008. والذي حدث هناك أيضا أنه زاد في الإسناد " عروة "، واستظهر أخي أنه زيادة في الإسناد، وهو الصواب، ويؤيده ما حدث في هذا الموضع، من ناسخ أو ناشر. وعذره فيما أظن شهرة " شبيب بن غرقدة " أنه " السلمي "، وأنه يروي عن " عروة البارقي "، فلما رأى " شبيب بن غرقدة البارقي "، ظن أنه خطأ في الإسناد فأضاف " عن عروة " بين " غرقدة "، و " البارقي ".

(14/575)


قاتلوهم ورابطوهم، فإنهم من الذين قال الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) . (1)
17485- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن الربيع، عن الحسن: أنه سئل عن الشأم والديلم، فقال: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، الديلم.
17486- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم وحصونهم، ويتأوَّلان قول الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) .
17487- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: كان الذين يلونهم من الكفار العربُ، فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، حتى بلغ، (وَهُمْ صَاغِرُونَ) ، [سورة التوبة: 29] . قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله.
* * *
وأما قوله: (وليجدوا فيكم غلظة) ، فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم = (فيكم) ، أي: منكم شدةً عليهم (2) = (واعلموا أن الله مع المتقين) ، يقول: وأيقنوا، عند قتالكم إياهم، أن الله معكم، وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
* * *
__________
(1) الأثر: 17484 - " يعقوب بن عبد الله القمي "، مضى مرارا، آخرها رقم: 16960.
وهو يروي عن أخويه: " عبد الرحمن، وعمران "، ولم أجد لأخيه " عمران " ترجمة.
(2) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7: 341 / 14: 360.

(14/576)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس، أيكم زادته هذه السورة إيمانًا؟ يقول: تصديقًا بالله وبآياته. يقول الله: (فأما الذين آمنوا) ، من الذين قيل لهم ذلك = (فزادتهم) ، السورة التي أنزلت = (إيمانا) ، وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين. (1)
* * *
فإن قال قائل: أو ليس "الإيمان"، في كلام العرب، التصديق والإقرارُ؟ (2) قيل: بلى!
فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقًا وإقرارًا؟
قيل: زادتهم إيمانًا حين نزلت، لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرضُ الإقرار بها والعمل بها بعينها، إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقٌّ. فلما أنزل الله السورة، لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " استبشر " فيما سلف 7: 396.
(2) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف من فهارس اللغة (أمن) .

(14/577)


وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17488- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) ، قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها، فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا، وكانوا يستبشرون.
17489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فزادتهم إيمانًا) ، قال: خشيةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأما الذين في قلوبهم مرض) ، نفاق وشك في دين الله، (1) فإن السورة التي أنزلت = (زادتهم رجسًا إلى رجسهم) ، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا، فكان ذلك زيادة شكٍّ حادثةٍ في تنزيل الله، لزمهم الإيمان به عليهم، بل ارتابوا بذلك، فكان ذلك زيادة نَتْنٍ من أفعالهم، إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق. وذلك معنى قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (2) = (وماتوا) ، يعني: هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا = (وهم كافرون) ، يعني: وهم كافرون بالله وآياته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المرض " فيما سلف 1: 278 - 281 / 10: 404 / 14: 12.
(2) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف ص: 425، تعليق: 5، والمراجع هناك

(14/578)


أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

القول في تأويل قوله: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءه قوله: (أولا يرون) .
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (أو لا يرون) ، بالياء، بمعنى: أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرضُ النفاق؟
وقرأ ذلك حمزة: (أَوَ لا تَرَوْنَ) ، بالتاء، بمعنى: أو لا ترون أنتم، أيها المؤمنون، أنهم يفتنون؟
قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القراءة في ذلك، الياءُ، على وجه التوبيخ من الله لهم، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه، وصحة معناه.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنَّ الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرة، وفي بعضها مرتين (1) = (ثم لا يتوبون) ، يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم؟
واختلف أهل التأويل في معنى "الفتنة" التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها.
فقال بعضهم: ذلك اختبارُ الله إياهم بالقحط والشدة.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 286، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(14/579)


17490- حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسَّنة والجوع.
17491- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (يفتنون) ، قال: يبتلون = (في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
17492- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين.
17493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بالغزو والجهاد.
* ذكر من قال ذلك:
17494- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين.
17495- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يُشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض.

(14/580)


* ذكر من قال ذلك:
17496- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة: (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئامٌ من الناس كثير.
17497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة، قال: كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
* * *
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجَّب عبادَه المؤمنين من هؤلاء المنافقين، ووبَّخ المنافقين في أنفسهم بقلّة تذكرهم، وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائزٌ أن تكون تلك المواعظُ الشدائدَ التي ينزلها بهم من الجوع والقحط = وجائزٌ أن تكون ما يريهم من نُصرة رسوله على أهل الكفر به، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم = وجائزٌ أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم، بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه = ولا خبر يوجب صحةَ بعض ذلك دون بعض، من الوجه الذي يجب التسليم له. ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين، بما يكون زاجرًا لهم، ثم لا ينزجرون ولا يتعظون؟

(14/581)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإذا ما أنزلت سورة) ، من القرآن، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم = (نظر بعضهم إلى بعض) ، فتناظروا = (هل يراكم من أحد) ، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: (صرف الله قلوبهم) ، فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين (1) = (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه، استكبارًا، ونفاقا. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في الجالب حرفَ الاستفهام.
فقال بعض نحويي البصرة، قال: (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، كأنه قال: "قال بعضهم لبعض"، لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وشبيهًا به، (3) والله أعلم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟
__________
(1) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 3: 194 / 11: 286 / 13: 112.
(2) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف ص: 573، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة " وتنبيها به "، وصواب قراءته ما أثبت.

(14/582)


وقال آخر منهم: هذا "النظر" ليس معناه "القول"، ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام، كقول العرب: "تناظروا أيهم أعلم"، و"اجتمعوا أيهم أفقه"، أي: اجتمعوا لينظروا = فهذا الذي يجلب الاستفهام.
* * *
17498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: "قد قضينا الصلاة".
17499-...... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمير بن تميم الثعلبي، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم. (1)
17500-...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: "قد قضينا الصلاة".
17501-...... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) ، الآية، قال: هم المنافقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-
17502- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، ممن
__________
(1) الأثر: 17499 - " عمير بن تميم الثعلبي "، هكذا في المخطوطة أيضا، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل 3 / 1 / 378 في " عمير بن قميم الثعلبي " بالقاف. وقال المعلق إنه في إحدى النسخ " عمير بن قثم التغلبي ". وفي الثقات والكنى للدولابي " بن تميم ". وقال ابن أبي حاتم: (قال يحيى بن سعيد، وأبو نعيم، هو " أبو هلال الطائي "، وقال وكيع: هو " أبو تهلل ". روى عن ابن عباس، روى عنه أبو إسحاق الهمداني، ويونس بن أبي إسحاق، سمعت أبي يقول ذلك) .

(14/583)


لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)

سمع خبرَكم، رآكم أحدٌ أخبره؟ (1) إذا نزل شيء يخبر عن كلامهم. قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: (وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) ، حتى بلغ: (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) أخبره بهذا؟ أكان معكم أحد؟ سمع كلامكم أحد يخبره بهذا؟
17503- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: لا تقل: "انصرفنا من الصلاة"، فإن الله عيَّر قومًا فقال: (انصرفوا صرف الله قلوبهم) ، ولكن قل: "قد صلَّينا".
* * *
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للعرب: (لقد جاءكم) ، أيها القوم، رسول الله إليكم = (من أنفسكم) ، تعرفونه، لا من غيركم، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم (2) = (عزيز عليه ما عنتم) ، أي: عزيز عليه عنتكم، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى (3) = (حريص عليكم) ، يقول: حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق (4) = (بالمؤمنين رءوف) ،: أي رفيق = (رحيم) . (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: " من يسمع خبركم ولكم أحد أخبره "، وما في المطبوعة مطابق لما في الدر المنثور 3: 293، وهو شبيه بالصواب إن شاء الله.
(2) انظر تفسير " من أنفسهم " فيما سلف 7: 369.
(3) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)
= وتفسير " العنت " فيما سلف 4: 360 / 7: 140 - 144 / 8: 206.
(4) انظر تفسير " الحرص " فيما سلف 9: 284.
(5) انظر تفسير " رؤوف " فيما سلف 3: 171: 251 / 14: 539.
= وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .

(14/584)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
17505- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاح.
17506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، بنحوه.
17507- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: جعله الله من أنفسهم، فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. (1)
* * *
وأما قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم.
* ذكر من قال ذلك:
17508- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، قال: ما ضللتم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ولا يحسدونه " بالواو، والسياق يقتضي ما أثبت.

(14/585)


وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
* ذكر من قال ذلك:
17509- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (عزيز عليه ما عنتم) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه، ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفارَهم، ويسبي ذراريَّهم، ويسلبهم أموالهم؟
قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم، لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
* * *
وأما "ما" التي في قوله: (ما عنتم) ، فإنه رفع بقوله: (عزيز عليه) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت: عزيز عليه عنتكم.
* * *
وأما قوله: (حريص عليكم) ، فإن معناه: ما قد بيَّنت، وهو قول أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة، بياض بين " كما "، و " الله به " بقدر كلمتين، وفي المطبوعة أتم الكلام هكذا: " كما وصفه الله به، عزيزا عليه "، والزيادة بين القوسين استظهار مني، وسائره كنص المخطوطة.

(14/586)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

17510- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (حريص عليكم) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (حريص عليكم) ، قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى (1) = (فقل حسبي الله) ، يكفيني ربي (2) = (لا إله إلا هو) ، لا معبود سواه = (عليه توكلت) ، وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس (3) = (وهو رب العرش العظيم) ، الذي يملك كلَّ ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. (4)
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم، الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن "العرش العظيم"، إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه "ذو العرش" دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(2) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 340، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 291، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12: 482.

(14/587)


17511- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) ، يعني الكفار، تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه في المؤمنين.
17512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عبيد بن عمير قال: كان عمر رحمة الله عليه لا يُثْبت آيةً في المصحف حتى يَشْهَدَ رجلان، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) ، فقال عمر: لا أسألك عليهما بيّنةً أبدًا، كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
17513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رحيم يحبّ كل رحيم، يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله، إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا = قال: وأراه قال: وأزواجنا =؟ قال: ليس كذلك، ولكن كونوا كما قال الله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) . أراهُ قرأ هذه الآية كلها. (1)
17514- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآية.
__________
(1) الأثر: 17513 - " أحمد بن عبد الله بن يونس التيمي "، ثقة، مضى مرارا آخرها رقم: 16095.
و" زهير "، هو " زهير بن معاوية بن حديج الجعفي "، ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 12794.
و" أبو صالح الحنفي " تابعي ثقة، مضى برقم: 3226، 13291 - 13293 وهذا خبر مرسل.

(14/588)


17515- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبيّ قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، الآية. (1)
17516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن أبيّ قال: أحدثُ القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآيتين. (2)
17517- حدثني أبو كريب قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبي بن كعب قال: أحدث القرآن عهدًا بالله، الآيتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، إلى آخر السورة. (3)
* * *
آخر تفسير سورة التوبة (4) تم الجزء الرابع عشر من تفسير الطبري
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله:
تفسير السورة التي يذكر فيها يونس
__________
(1) الأثران: 17514، 17515 - " علي بن زيد بن جدعان "، سيئ الحفظ، مضى مرارا آخرها رقم: 13493، 16736.
و" يوسف بن مهران البصري "، ثقة، مضى مرارا، آخرها: 13495. وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه 5: 117، من طريق محمد بن أبي بكر، عن بشر بن عمر، عن شعبة، بمثله.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 36، وقال: " رواه عبد الله بن أحمد، والطبراني، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات ".
(2) الأثر: 17516 - مكرر الذي قبله، ولكنه مرسل عن أبي.
(3) الأثر: 17517 - مرسل، قتادة لم يرو عن أبي بن كعب.
(4) بعد هذا في المخطوطة ما نصه: " والحمد لله رب العالمين يتلوه إن شاء الله تعالى تفسير السورة التي يذكر فيها يونس ".

(14/589)