تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)

سورة يونس
القول في تأويل قوله تعالى: {الر}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى.
* ذكر من قال ذلك:
17518- حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله: (الر) ، أنا الله أرى. (1)
17519- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: (الر) ، قال: أنا الله أرى.
* * *
وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو "الرحمن".
*ذكر من قال ذلك:
17520- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن
__________
(1) الأثر: 17518 - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 4451، 11545.

(15/589)


الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (الر) و (حم) و (نون) حروف "الرَّحمن" مقطعةً.
17521- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: (الر) و (حم) و (نون) ، فقال: اسم "الرحمن" مقطع = ثم قال: "الرحمن".
17522- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: (الر) و (حم) و (نون) ، هو اسم "الرحمن".
17523- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر: أنه سئل عن: (الر) و (حم) و (ص) ، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
17524- حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الر) ، اسم من أسماء القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف الناس، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول "سورة البقرة"، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا، قوله في (الم) ، فأما
__________
(1) انظر ما سلف 1: 205 - 224.

(15/10)


الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك، مكتفًي عن الإعادة ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) }
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تلك آيات التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
17525- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: (تلك آيات الكتاب الحكيم) ، قال: التوراة والإنجيل.
17526-. . . . قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: (تلك آيات الكتاب) ، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: "هذه آيات القرآن"، ووجّه معنى (تلك) إلى معنى "هذه"، وقد بينا وجه توجيه (تلك) إلى هذا المعنى في "سورة البقرة"، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
و (الآيات) ، الأعلام= و (الكتاب) ، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ومكتفيًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(2) انظر ما سلف 1: 225 - 228.
(3) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أي) .
وتفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) .

(15/11)


أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)

وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم.
* * *
ومعنى (الحكيم) ، في هذا الموضع، "المحكم"، صرف "مُفْعَل" إلى "فعيل"، كما قيل: (عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، بمعنى مؤلم، (1) وكما قال الشاعر: (2)
*أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* (3)
وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. (4)
فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: 1]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) .
(2) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.
(3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 283.
(4) انظر ما سلف 1: 283، 284، وغيره من المواضع في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.

(15/12)


من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد! فأنزل الله تعالى: (أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم) ، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا) [سورة يوسف: 109] .
17528- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) [سورة الأعراف: 65] ، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) ، [سورة الأعراف: 73] ، قال الله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) ، [سورة الأعراف: 69] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: (أن لهم قدم صدق) ، عطفٌ على (أنذر) .
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " و " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) ، (نذر) .

(15/13)


واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (قدم صدق) ، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
17529- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: ثواب صِدق.
17530-. . . . قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: الأعمال الصالحة.
17531- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم.
17532- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. (1)
17533- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق) ، قال: خير.
17534- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق) ، مثله.
17535- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج،
__________
(1) الأثر: 17532 - " زيد بن حباب التميمي "، مضى مرارًا، آخرها رقم: 11490. وكان في المطبوعة: " يزيد بن حبان "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فتصرف أسوأ التصرف.
و" إبراهيم بن يزيد الخوزي "، ضعيف، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17313.
و" الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، ثقة، مضى برقم: 16259، 17313.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الوليد بن عبد الله، عن أبي مغيث "، وهو خطأ محض.

(15/14)


عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17536-. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: (قدم صدق) ، ثواب صدق = (عند ربهم) .
17537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
17538- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق) ، قال: "القدم الصدق"، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال.
* * *
وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
* ذكر من قال ذلك:
17539- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق.
* ذكر من قال ذلك:
17540- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة = أو الحسن =: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. (1)
17541- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) الأثر: 17540 - " فضيل بن عمرو بن الجون "، لم أجد له ترجمة. ولا أدري أهو " فضيل بن عمرو الفقيمي "، أو غيره! .

(15/15)


قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم.
17542- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ.
* * *
وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: "هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام" أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: "له عندي قدم صِدْق، وقدم سوء"، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت:
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَحَلْفُنَا ... لأَوّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (1)
وقول ذي الرمة:
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الحَسَبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 13: 209، وروايته هناك: " لنا القدم الأولى ".
(2) ديوانه 272، من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، يقول بعده: خِلاَلَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى عِنْدَ رَبِّهِ ... وَعُثْمَانَ وَالفَارُوقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرِ
ورواية ديوانه: " طمت على الفخر ".

(15/16)


القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به= يعنون القرآن= لسحر مبين.
* * *
وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير، وجماعة من قراء الكوفيين: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) .
* * *
وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. (1)
والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: (قال الكافرون إن هذا لسحر مبين) ، و "لساحر مبين". (2)
وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه "ساحر"، ووصفهم ما جاءهم به أنه "سحر" يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين.
* * *
وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وهو: "فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي"= قال الكافرون: إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى
__________
(1) في المطبوعة: " نزل الموصوف "، وفي المخطوطة: " ترك "، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 11: 216، 217.

(15/17)


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)

رجل منهم: أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي: يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. (2) = (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) ، يقول: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة (3) " = (ذلكم الله ربكم) ، يقول جل جلاله: هذا الذي هذه صفته، سيِّدكم ومولاكم، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان = (فاعبدوه) ،
__________
(1) انظر تفسير " السحر " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (سحر) ، (بين) .
(2) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف 1: 428 - 431 / 12: 483 = وتفسير " العرش " فيما سلف 12: 482 / 14: 587.
(3) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف 12: 481، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإذن " فيما سلف 14: 112، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/18)


يقول: فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهية والربوبية، بالذلة منكم له، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة = (أفلا تذكرون) ، يقول: أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج، (1) فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17543- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر) ، قال: يقضيه وحدَه.
17544- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) ، قال: يقضيه وحده.
17545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر) قال: يقضيه وحده.
17546-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17547- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف 12: 493، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/19)


إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه، معادُكم، أيها الناس، يوم القيامة جميعًا. (1) (وعد الله حقا) = فأخرج (وعد الله) مصدَّرًا من قوله: (إليه مرجعكم) ، لأنه فيه معنى "الوعد"، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب (وعد الله حقا) = (إنه يبدأ لخلق ثم يعيده) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده = (ثم يعيده) ، يقول: ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه، بعد فنائه وبَلائِه. (2) كما:-
17548- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده) ، قال: يحييه ثم يميته= قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: "ثم يحييه".
17549- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده) ، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه.
17550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف 12: 287، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " البدء " و " العود " فيما سلف 12: 382 - 388.

(15/20)


ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) ،: يحييه، ثم يميته، ثم يبدؤه، ثم يحييه.
17551-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
* * *
وقرأت قراء الأمصار ذلك: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ) ، بكسر الألف من (إنه) ، على الاستئناف.
* * *
وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه (أَنَّهُ) بفتح الألف من (أنه) .
* * *
= كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف "أنّ" حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: (1)
أحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ زَائِرًا ... رُبَى جَنَّة إِلا عَلَيَّ رَقِيبُ (2)
* * *
وقوله: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) ، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره= (ليجزي الذين آمنوا) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال، واجتنبوا ما نهاهم عنه، على أعمالهم الحسنة (3) = (بالقسط) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب، والصالحَ من الجزاء في الآخرة= وذلك هو "القسط"، و"القسط" العدلُ والإنصاف، (4) كما:-
17552- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) في المطبوعة: " أبا حبة إلا على رقيب "، وهو تحريف لما في المخطوطة، وهو فيها هكذا، غير منقوط: " رباحه "، وصواب قراءته ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
(4) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 12: 379، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/21)


ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بالقسط) ، بالعدل.
* * *
وقوله: (والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم) ، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم، كفارهم ومؤمنيهم، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ، ابتدأ الخبر، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله= (لهم شراب) في جهنم (من حميم) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) ، [سورة الكهف: 29] .
* * *
وأصله: "مفعول" صرف إلى "فعيل"، وإنما هو "محموم": أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، (1)
ومنه قول المرقش:
وَكُلُّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (2)
يعني ب "الحميم"، الماء المسخَّن.
* * *
وقوله: (عذاب أليم) ، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، (3) سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حميم " فيما سلف 11: 448، 449.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 11: 448، وروايته هناك: " في كل ممسي ".
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .

(15/22)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض= (هو الذي جعل الشمس ضياء) ، بالنهار= (والقمر نورًا) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر= (وقدّره منازل) ، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. (1)
* * *
وقال: (وقدّره منازل) ، فوحّده، وقد ذكر "الشمس" و"القمر"، فإن في ذلك وجهين:
أحدهما: أن تكون "الهاء" في قوله: (وقدره) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين، لا بالشمس.
والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، [سورة التوبة: 62] ، وكما قال الشاعر: (2)
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيًّا، وَمِنْ جُولِ الطَّوِيِّ رَمَانِي (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقدير " فيما سلف 11: 560.
(2) هو ابن أحمر، أو: الأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 458، اللسان (جول) ، وغيرهما. وكانت بينه وبين رجل حكومة في بئر، فقال خصمه: " إنه لص ابن لص "، فقال هذا الشعر، وبعده: دَعَانِي لِصًّا فِي لُصُوصٍ، ومَا دَعَا ... بِهَا وَالِدِي فِيمَا مَضَى رَجُلاَن
ورواية البيت على الصواب: " ومن أجل الطوى "، و " الطوى ": البئر. و " الجول " و " الجال " ناحية من نواحي البئر إلى أعلاها من أسفلها.

(15/23)


إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

وقوله: (لتعلموا عدد السنين والحساب) ، يقول: وقدّر ذلك منازل = (لتعلموا) ، أنتم أيها الناس = (عدد السنين) ، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها، وحسابها= يقول: وحساب أوقات السنين، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها= (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) ، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك= (يفصل الآيات) يقول: يبين الحجج والأدلة (1) = (لقوم يعلمون) ، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، من خلع الأنداد، والبراءة من الأوثان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ، واعتقاب النهار الليلَ،. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، (2) وفيما خلق الله في السموات من الشمس والقمر والنجوم، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء= (لآيات) ، يقول: لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً= (لقوم يتقون) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف: 14: 152، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير "الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
(2) وتفسير " اختلاف الليل والنهار " فيما سلف 3: 272، 273.

(15/24)


فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض على صانعه، إلا لمن اتقى الله؟
قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
* * *

(15/25)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين (1) = والذين هم عن آيات الله = وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده، في إخلاص العبادة له = (غافلون) ، معرضون عنها لاهون، (2) لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون= (أولئك مأواهم النار) ، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم = (مأواهم) ، مصيرها إلى النار نار
__________
(1) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 13: 418، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف 13: 281، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/25)


جهنم في الآخرة (1) = (بما كانوا يكسبون) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. (2)
* * *
والعرب تقول: "فلان لا يرجو فلانًا": إذا كان لا يخافه.
ومنه قول الله جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) . [سورة نوح: 13] ، (3) ومنه قول أبي ذؤيب:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْج لَسْعَهَا ... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوب عَوَاسِلِ (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17553- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واطمأنوا بها) ، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) .
17554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) [سورة هود: 15] .
17555- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17556- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن
__________
(1) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 14: 425، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .
(3) انظر تفسير "الرجاء" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .
(4) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 9: 174.

(15/26)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

آياتنا غافلون) ، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى.
17557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله= (وعملوا الصالحات) ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره (1) = (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:-
17558- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة (2)
__________
(1) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(2) في المطبوعة: " وبشارة "، والصواب ما أثبته من المخطوطة.

(15/27)


فيقول: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار.
17559- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به.
17560- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله.
17561-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17562- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله= وقال ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) . والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم.
* ذكر من قال ذلك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) في المطبوعة: " ويلاده"؛ بالدال، وأثبت في المخطوطة. " لازه يلازه ملازاة ولزازًا" قارنه ولزمه ولصق به

(15/28)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
* * *
وقوله: (تجري من تحتهم الأنهار) ، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، أنهار الجنة= (في جنات النعيم) ، يقول في بساتين النعيم، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. (2)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (تجري من تحتهم الأنهار) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [سورة مريم: 24] . ومعلوم أنه لم يجعل "السري" تحتها وهي عليه قاعدة= إذ كان "السري" هو الجدول= وإنما عني به: جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) ، [سورة الزخرف: 51] ، بمعنى: من دوني، بين يديّ.
* * *
__________
(1) لم يذكر شيئًا بعد قوله: " ذكر من قال ذلك "، وفي هامش المخطوطة " كذا "، وهو دليل على أنه سقط قديم.
(2) انظر تفسير " جنات النعيم " فيما سلف 10: 461، 462.

(15/29)


وأما قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، فإن معناه: دعاؤهم فيها: سبحانك اللهم، (1) كما:-
17563- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه (2)
قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: (وتحيتهم فيها سلام) . قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) .
17564- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، يقول: ذلك قولهم فيها= (وتحيتهم فيها سلام) .
17565- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) ، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: "اللهم"، فيأتيهم ما دَعَوا به.
* * *
وأما قوله: (سبحانك اللهم) ، فإن معناه: تنزيها لك، يا رب، مما أضاف إليك أهل الشرك بك، من الكذب عليك والفِرْية. (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17566- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي.
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف 12: 303، 304.
(2) في المطبوعة: " فيشتهونه " بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 14، 213، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/30)


عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: "سبحان الله" تنزيهٌ لله.
17567- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "سبحان الله"، قال: إبراء الله عن السوء.
17568- حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن "سبحان الله"، قال: كلمة رضيها الله لنفسه.
17569- حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "سبحان الله"، فقال: تنزيهًا لله عن السوء. (1)
17570- حدثني علي بن عيسى البزار قال، حدثنا عبيد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال، حدثني حفص بن سليمان قال، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير "سبحان الله"، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء. (2)
__________
(1) الأثر: 17567، 17569 - " سفيان " بن سعيد، هو الثوري الإمام المشهور.
و" عثمان بن عبد الله بن وهب التيمي "، مولى آل طلحة ينسب إلى جده يقال: " عثمان بن وهب " تابعي ثقة، روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأم سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 155.
و" موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة، روى عن أبيه وغيره من الصحابة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 286، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 147.
وهو خبر مرسل، وسيأتي موصولا في الذي يليه، ولكنها أخبار لا يقوم إسنادها.
(2) الأثر: 17570 - " علي بن عيسى البزار "، شيخ الطبري، هو " علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي، ثقة، مضى برقم: 2168.
و" عبيد الله بن محمد بن حفص التميمي، العيشي "، من ولد عائشة بنت طلحة، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 335.
و" عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله "، منكر الحديث، لا يحتج به.
مترجم في لسان الميزان 3: 412، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 226، ومي زان الاعتدال 2: 102.
و" حفص بن سليمان الأسدي البزار "، ضعيف الحديث، مضى برقم: 5753، 11458.
و" طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، وثقه ابن معين وغيره، وقال البخاري: " منكر الحديث "، وقال في كتاب الضعفاء الصغير ص: 46: " وليس بالقوي "، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 477.
وأبوه: " يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 283، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 160.
وهذا خبر هالك الإسناد، كما رأيت.

(15/31)


17571- حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال، حدثنا سليمان بن أيوب قال: حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، قول "سبحان الله"؟ قال: تنزيه الله عن السوء. (1)
* * *
= (وتحيتهم) ، يقول: وتحية بعضهم بعضًا= (فيها سلام) ، أي: سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. (2)
* * *
والعرب تسمي الملك "التحية"، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي (3)
__________
(1) الأثر: 17571 - " محمد بن عمرو بن تمام الكلبي، المصري "، أبو الكروس، شيخ الطبري، مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 34.
و" سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة " روى نسخة عن أبيه عن آبائه عامة، أحاديثه لا يتابع عليها، وروى أحاديث مناكير. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم من التهذيب وابن أبي حاتم 2 / 1 / 101.
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضًا.
(2) انظر تفسير " التحية " فيما سلف 8: 586 - 590.
(3) من قصيدة طويلة له، رواها أبو علي القالي في أماليه 3: 147 - 150، واللسان (حيا) ، مع اختلاف في الرواية.

(15/32)


وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ومنه قول زهير بن جناب الكلبي:
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلا التَّحِيَّهْ
* * *
وقوله: (وآخر دعواهم) ، يقول: وآخر دعائهم (1) = (أن الحمد لله رب العالمين) ، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين"، ولذلك خففت "أن" ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال= (استعجالهم بالخير) ، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به= (لقضي إليهم أجلهم) ، يقول: لهلكوا، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. (2)
* * *
وعني بقوله: (لقضي) ، لفرغ إليهم من أجلهم، (3) ونُبذ إليهم، (4) كما قال أبو ذؤيب:
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ص: 30، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 13: 290، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 13: 290، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " وتبدى لهم "، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته.

(15/33)


وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ، أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ (1)
* * *
= (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول:
فندع الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، (2) = (في طغيانهم) ، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، (3) (يعمهون) يعني: يترددون. (4)
وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17572- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: "لا باركَ الله فيه ولعنه"!
17573- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"!
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2: 542.
(2) انظر تفسير " يذر " فيما سلف من فهارس اللغة (وذر) .
= وتفسير " الرجاء " فيما سلف ص: 26، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " العمه " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/34)


فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
17574- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه" = (لقضي إليهم أجلهم) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته.
17575- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"! قال الله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.
17576- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
17577- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلكناهم. وقرأ: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) ، [سورة فاطر: 45] . قال: يهلكهم كلهم.
* * *
ونصب قوله: (استعجالهم) ، بوقوع (يعجل) عليه، كقول القائل: "قمت اليوم قيامَك" بمعنى: قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من (يعجل) ، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول "الكاف" = أعني كاف التشبيه = فيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 458.

(15/35)


وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)

واختلفت القراء في قراءة قوله: (لقضي إليهم أجلهم) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله، بضم القاف من "قضي"، ورفع "الأجل".
* * *
وقرأ عامة أهل الشأم: (لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ) ، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (1) = (دعانا لجنبه) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه = (لجنبه) ، يعني مضطجعًا لجنبه. = (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به = (فلما كشفنا عنه ضره) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (2) = (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، (3) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف 14: 64، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11: 354 / 13: 73.
(3) انظر تفسير " مر " فيما سلف 13: 304، 305.

(15/36)


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه، (1) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، (2) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17578- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (دعانا لجنبه) ، قال: مضطجعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم (3) = (لما ظلموا) ، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه (4) = (وجاءتهم رسلهم) من عند الله، (بالبينات) ، وهي الآيات والحجج
__________
(1) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 14: 245، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 12: 458، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " القرون " فيما سلف 11: 263.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .

(15/37)


ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. (1)
ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق = (وما كانوا ليؤمنوا) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له = (وكذلك نجزي المجرمين) ، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم، أيها المشركون، بظلمهم أنفسَهم، وتكذيبهم رسلهم، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا، وأوردُه النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) }
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم (2) (لننظر كيف تعملون) ، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:-
17579- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير " البينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(2) انظر تفسير " الخلائف " فيما سلف 13: 122، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/38)


عن قتادة قوله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار، والسر والعلانية.
17580- حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1)
ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، (2)
ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال: يا عوف، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: " ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع"، قال: أمّا إحداهن، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل.
وأما قوله: "فإني لا أخاف في الله لومة لائم" فما شاء الله.
وأما قوله: "فإني شهيد" فأنَّى لعمر الشهادة، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال: إن الله على ما يشاء قدير. (3)
* * *
__________
(1) " انتشط " (بالبناء للمجهول) ، أي: انتزع، جذب إلى السماء ورفع إليها، من قولهم: " نشط الدلو من البئر "، إذا نزعها وجذبها من البئر صعدا بغير بكرة.
(2) "ذرع الناس"، أي: قدر ما بينهم وبين المنبر بالذراع. يقال: "ذرع الثوب "، إذا قدره بالذراع.
(3) الأثر: 17580 - " زيد بن عوف القطعي "، " أبو ربيعة "، " فهد "، متروك، وقد مضى برقم: 5623، 14215، 14218، 14221. وكان في المطبوعة هنا: " يزيد بن عوف، أبو ربيعة، بهذا "، ومثله في تفسير ابن كثير 4: 287، وهو اتفاق غريب على الخطأ! .
وهذا الخبر، رواه ابن سعد بغير هذا اللفظ، بإسناد حسن في كتاب الطبقات الكبير 3 / 1 / 239.

(15/39)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلنَاه إليك، يا محمد (1) = (بينات) ، واضحات، على الحق دالاتٍ (2) = (قال الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالمعاد إلينا، ولا يصدّقون بالبعث، (3) لك = (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) ، يقول: أو غيِّره (4) = (قل) لهم، يا محمد = (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) ، أي: من عندي. (5)
* * *
والتبديل الذي سألوه، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع.
* * *
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) ، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم
__________
(1) انظر تفسير " تلا " فيما سلف 13: 502، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف ص: 34، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " التبديل " فيما سلف 11: 335 / 12: 62، وفهارس اللغة (بدل) .
(5) انظر تفسير " تلقاء " فيما سلف 12: 466.

(15/40)


قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)

به أيها القوم، وأنهاكم عنه، إلا ما ينزله إليّ ربي، ويأمرني به (1) = (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) ، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره، وغيَّرت أحكام كتابه، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) = (قل) لهم، يا محمد = (لو شاء الله ما تلوته عليكم) ، أي: ما تلوت هذا القرآن عليكم، أيها الناس، بأن كان لا ينزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم (3) = (ولا أدراكم به) ، يقول: ولا أعلمكم به= (فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله) يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي = (أفلا تعقلون) ، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم، مندوحةٌ عن معاداتكم، ومتّسَعٌ، في الحال التي كنت بها
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) .
(2) هذا تضمين لآية سورة الحج: 2.
(3) انظر تفسير " تلا " فيما سلف ص: 40، رقم: 1.

(15/41)


منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17581- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم.
17582- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه.
17583- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول: ما حذَّرتكم به.
17584- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون) ، لبث أربعين سنة.
17585- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم به.
17586- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ) ، يقول: ما أعلمتكم به. (1)
17587- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول،
__________
(1) في المخطوطة: " ولا أدرأكم "، وفي المطبوعة: " ولا أدراتكم "، بغير همز، والصواب ما أثبت، كما نص عليه ابن خالويه في شواذ القراءات ص: 56: " بالهز والتاء "، ومعاني القرآن للفراء.

(15/42)


أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ولا أدراكم به) ، يقول: ولا أشعركم الله به.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن، عند أهل العربية غلطٌ.
* * *
وكان الفرّاء يقول في ذلك: قد ذكر عن الحسن أنه قال: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ) . قال: فإن يكن فيها لغة سوى "دريت" و "أدريت"، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من "دريت" أو "أدريت" فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف، مثل "قضيت" و"دعوت". ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع "درأت الحد"، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: "رثَأْتُ زوجي بأبيات"، ويقولون: " لبّأتُ بالحجّ" و"حلأت السويق"، فيغلطون، لأن "حلأت"، قد يقال في دفع العطاش، من الإبل، و"لبأت": ذهبت به إلى "اللبأ" لِبَأ الشاء، و "رثأت زوجي"، ذهبت به إلى "رثأت اللبن "، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك "الرثيثة". (1)
* * *
وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من "أدريت" مثل "أعطيت"، إلا أن لغةً لبني عقيل (2)
: "أعطَأتُ"، يريدون: "أعطيت"، تحوّل الياء ألفًا، قال الشاعر: (3)
__________
(1) هذا نص الفراء بتمامه في معاني القرآن 1: 459، مع خلاف يسير في حروف قليلة.
(2) في المطبوعة: " لغة بني عقيل "، والصواب ما في المخطوطة، باللام.
(3) هو حريث بن عناب (بالنون) الطائي.

(15/43)


لَقَدْ آذَنَتْ أَهْلُ الْيَمَاَمَةِ طَيِّئٌ ... بِحَرْبٍ كَنَاصَاةِ الأَغَرِّ المُشَهَّرِ (1)
يريد: كناصية، حكي ذلك عن المفضّل، وقال زيد الخيل:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا (2)
فقال "بقا"، وقال الشاعر: (3)
لَزَجَرْتُ قَلْبًا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ ... إِنَّ الغَوِيَّ إِذَا نُهَا لَمْ يَعْتِبِ (4)
يريد "نُهِي". قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا، يقولون: "هذه جاراة"، (5)
وفي "الترقوة" "ترقاة" و"العَرْقوة" "عرقاة". قال: وقال بعض طيئ: "قد لَقَت فزارة"، حذف الياء من "لقيت" لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا، لسكون التاء، فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن "نَسَا" و"رضا" لغة معروفة، قال الشاعر:
__________
(1) نوادر أبي زيد: 124، والمعاني الكبير: 1048، واللسان (نصا) .
(2) نوادر أبي زيد: 68، وقبله أُنْبِئْتُ أَنَّ ابْنًا لِتَيْمَاءَ هَهَنَا ... تَغَنَّى بِنَا سَكْرَانَ أَوْ مُتَسَاكِرًا
يَحُضُّ عَلَيْنَا عَامِرًا، وِإَخالُنَا ... سَنُصْبِحُ أَلْفًا ذَا زَوَائِدَ، عامِرًا
قال أو زيد: " يقول: لا أخشى ما بقي قيس يسوق إبلا، لأني أغير عليهم ".
(3) هو لبيد.
(4) ديوانه قصيدة رقم: 61، والأغاني 15: 134 (ساسي) ، من مرثية أخيه أربد، وقبله: طَرِبَ الفُؤَادُ وَلَيْتَهُ لَمْ يُطْرَبِ ... وَعَنَاهُ ذِكْرَى خُلَّةٍ لم تَصْقَبِ
سَفَهًا، وَلَوْ أنّي أطَعتُ عَوَاذِلِي ... فيما يُشِرْنَ بِهِ بِسَفْحِ المِذْنِبِ
لَزَجَرْتُ قَلْبًا. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والذي أثبته هو نص المخطوطة، أما المطبوعة، فإنه لم يحسن معرفة الشعر، فكتبه هكذا: " زجرت له: و " أعتب "، آب إلى رضى من يعاتبه.
(5) يعني في " جارية ".

(15/44)


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

(1)
وَأُبْنِيْتُ بِالأَعْرَاض ذَا الْبَطْنِ خالِدًا ... نَسَا أوْ تَنَاسَى أَنْ يَعُدَّ المَوَالِيَا
* * *
ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى، وهي ما:-
17588- حدثنا به المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ) .
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها، (2) هي القراءة التي عليها قراء الأمصار: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ، بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب: أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا، (3) وأوضع لقيله في غير موضعه، (4) ممن اختلق على الله كذبًا، وافترى عليه باطلا = (5) (أو كذب بآياته) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه؟ (6) يقول له
__________
(1) لم أعرف قائله، ولم أجد البيت في مكان آخر.
(2) في المطبوعة: " لا أستجيز أن تعدوها "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " أي خلق أشر بعدنا "، وهو كلام ساقط جدًا، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقولة.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .
(5) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف 13: 135، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .

(15/45)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

جل ثناؤه: قل لهم: ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم، وافترائكم عليه، وتكذيبكم بآياته = (إنه لا يفلح المجرمون) ، يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة، إذا لقوا ربّهم، ولا ينالون الفلاح. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك، يا محمد صفتهم، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها = (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله (2) قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (قل) لهم (أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) ، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ (3) وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ
__________
(1) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 14: 415، تعليق: 4، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .
(2) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف ص: 18، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .

(15/46)


وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد، ولا تنفع ولا تضر = (سبحان الله عما يشركون) ، يقول: تنزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون، (1) من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك = (ولولا كلمة سبقت من ربك) ، يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم = "لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" يقول: لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق. (2)
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في "سورة البقرة"، وذلك في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) ، [سورة البقرة: 213] ، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
17589- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص، 30، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير " تعالى " فيما سلف 13: 317، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .
(3) انظر ما سلف 4: 275 - 280.

(15/47)


وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) ، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه.
17590- حدثني المثنى قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
17591- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد آيةٌ من ربه (1) = يقول: عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول؟ (2) قال الله له: (فقل) يا محمد (إنما الغيب لله) ، أي: لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب =وهو السرُّ والخفيّ من الأمور (3) = إلا الله، فانتظروا أيها القوم، قضاءَ الله بيننا، بتعجيل عقوبته للمبطل منا، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " لولا " فيما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .
(3) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) .

(15/48)


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب، ورخاء بعد شدّة أصابتهم.
وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و"الضراء": وهي الشدة، و"الرحمة": هي الفرج. يقول: (إذا لهم مكر في آياتنا) ، استهزاء وتكذيبٌ، (1) كما:-
17592- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذا لهم مكر في آياتنا) قال: استهزاء وتكذيب.
17593-. . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17594- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (قل الله أسرع مكرًا) يقول تعالى ذكره:: (قل) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا، يا محمد = (الله أسرع مكرًا) ، أي: أسرع مِحَالا بكم، (2) واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم، من المكر في آيات الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 14: 230، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف 12: 573، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " المس " فيما سلف ص: 36، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " المكر " فيما سلف 13: 502، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) " المحال " (بكسر الميم) : الكيد والمكر.

(15/49)


هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

والعرب تكتفي ب "إذا" من "فعلت" و "فعلوا"، فلذلك حُذِف الفعل معها. (1) وإنما معنى الكلام: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من "مكروا"، ب "إذا لهم مكر".
* * *
= (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) ، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم، أيها الناس، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك = (حتى إذا كنتم في الفلك) ، وهي السفن (2) = (وجرين بهم) يعني: وجرت الفلك بالناس = (بريح طيبة) ، في البحر= (وفرحوا بها) ، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 459، 460.
(2) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 502.

(15/50)


و"الهاء" في قوله: "بها" عائدة على "الريح الطيبة".
* * *
= (جاءتها ريح عاصف) ، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة.
* * *
والعرب تقول: " ريح عاصف، وعاصفة"، و "وقد أعصفت الريح، وعَصَفت " و"أعصفت"، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: (1)
حَتَّى إِذَا أَعْصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ ... فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ (2)
* * *
= (وجاءهم الموج من كل مكان) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان = (وظنوا أنهم أحيط بهم) ، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق (3) = (دعوا الله مخلصين له الدين) ، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:-
17595- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (دعوا الله مخلصين له الدين) ، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء.
17596- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: (مخلصين له الدين) ، = "هيا شرا هيا" (4) تفسيره: يا حي يا قوم.
17597- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
__________
(1) لم أعرف قائله. و " بنو دبير " من بني أسد.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 460 " مزعزعة "، شديدة الهبوب، تحرك الشجر توشك أن تقتلعه.
و" قطار " جمع " قطر "، وهو المطر. و " رعد زجل " رفيع الصوت متردده عاليه.
(3) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 14: 289، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) هكذا جاءت الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي، وهي أعجمية بلا ريب.

(15/51)


قوله: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون.
* * *
= (لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها = (لنكونن من الشاكرين) ، لك على نعمك، وتخليصك إيانا مما نحن فيه، بإخلاصنا العبادة لك، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هو الذي يسيركم) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) من "السير" بالسين.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: (هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ) ، من "النشر"، وذلك البسط، من قول القائل: "نشرت الثوب"، وذلك بسطه ونشره من طيّه.
* * *
فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا = وهو قريب المعنى من "التسيير".
* * *
وقال: (وجرين بهم بريح طيبة) ، وقال في موضع آخر: (في الفلك المشحون) ، فوحد [سورة يس: 41] .
* * *
والفلك: اسم للواحدة، والجماع، ويذكر ويؤنث. (1)
* * *
قال: (وجرين بهم) ، وقد قال (هو الذي يسيركم) فخاطب، ثم عاد
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 460.

(15/52)


فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وجواب قوله: (حتى إذا كنتم في الفلك) = (وجاءتها ريح عاصف) .
* * *
وأما جواب قوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم) ف (دعوا الله مخلصين له الدين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه، من الكفر به، والعمل بمعاصيه على ظهرها. (2)
يقول الله: يا أيها الناس، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه = (متاع الحياة الدنيا) ، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. (3)
* * *
وعلى هذا التأويل، "البغي" يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: (على
__________
(1) انظر ما سلف 1: 154، 196 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464 / 8: 447 / 11: 264، ومواضع أخر، اطلبها في فهارس النحو والعربية وغيرهما.
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف 12: 403، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 14: 340، تعليق 3، والمراجع هناك.

(15/53)


أنفسكم) (1) ويكون قوله (متاع الحياة الدنيا) ، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ) ، [سورة الأحقاف: 35] ، بمعنى: هذا بلاغ.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون "البغي" مرفوعًا ب "المتاع"، و "على أنفسكم" من صلة "البغي".
* * *
وبرفع "المتاع" قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق، فإنه نصبه، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل "البغي" مرفوعًا بقوله: (على أنفسكم) ، و"المتاع" منصوبًا على الحال. (2)
* * *
وقوله: (ثم إلينا مرجعكم) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات (3) = يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. (4)
* * *
__________
(1) قراءتنا في مصحفنا اليوم، في مصر وغيرها، بنصب " متاع "، وهي القراءة الأخرى التي سيذكرها أبو جعفر، ولكنه جرى فيما سلف على تفسير قراءة الرفع.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 461، في تأويل القراءتين.
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 20، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 46، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(15/54)


إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، = كمثل ماءٍ أنزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض = (فاختلط به نبات الأرض) ، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:-
17598- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. (1)
* * *
وقوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها (2) = (وازينت) ، يقول: وتزينت (3) = (وظن أهلها) ، يعني: أهل الأرض
__________
(1) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف 13: 280، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الزخرف " فيما سلف 12: 55، 56.
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: 37، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/55)


= (أنهم قادرون عليها) ، يعني: على ما أنبتت.
* * *
وخرج الخبر عن "الأرض" والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به.
* * *
وقوله: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا) ، يقول: جاء الأرض= "أمرنا"، يعني: قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات = إما ليلا وإما نهارًا = (فجعلناها) ، يقول: فجعلنا ما عليها = (حصيدًا) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. (1)
* * *
= وإنما هي "محصودة" صرفت إلى "حصيد".
* * *
= (كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
* * *
وأصله: من "غَنِيَ فلان بمكان كذا، يَغْنَى به"، إذا أقام به، (2) كما قال النابغة الذبياني:
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لَكَ جِيرَةٌ ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالَةٍ وَتَوَدُّد (3)
* * *
يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها.
يقول الله جل ثناؤها: (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ، يقول: كما
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 277.
(2) انظر تفسير " غني بالمكان " فيما سلف 12: 569، 570.
(3) ديوانه: 65، وسيأتي في التفسير 12: 66 (بولاق) ، وغيرهما، من قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة، وقبله: فِي إثْرِ غانيةٍ رَمَتْكَ بِسَهْمِاَ ... فأَصَابَ قَلْبَكَ غَيْرَ أَنْ لَمْ تَقْصِدِ
وكان في المطبوعة: " إذ هم لي جيرة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ديوانه.

(15/56)


بينَّا لكم أيها الناس، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. (1)
وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17599- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) ، الآية،: أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
17600- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وازينت) ، قال: أنبتت وحسُنَت.
17601- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَّنَ أَهْلُهَا أَنَّهمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا) ، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. (2)
__________
(1) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: 24، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 17601 - " الحارث "، هو: " الحارث بن أبي أسامة "، ثقة، مضى مرارًا.
و" عبد العزيز "، هو: " عبد العزيز " بن أبان الأموي، كذاب خبيث، وضاع للأحاديث، مضى مرارًا، آخرها رقم: 14333.
وأما " عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "، فلم أجحد له ذكرا في التوراة.
وأبوه " أبو بكر بن عبد الرحمن "، " راهب قريش "، ثقة، عالم، عاقل، سخي، كثير الحديث، أحد فقهاء المدينة السبعة. ترجم له ابن حجر في التهذيب، وابن سعد في الطبقات 5: 153 والزبيري في نسب قريش: 303، 304. وذكر ابن سعد ولده فقال: " فولد أبو بكر: عبد الرحمن لا بقية له = وعبد الله، وعبد الملك، وهشاما. . . ". ولم يذكر ذلك الزبيري في نسب قريش، ولكنه ذكر قصة قال في أولها " فقال لابنه عبد الله اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن. . . " ثم قال في نفس القصة بعد قليل: " فذهب عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن ": " وسماه ابن سعد لما عد أولاد، أبي بكر بن عبد الرحمن: عبد الرحمن "، ولكن نص ابن سعد مخالف لما قال الحافظ ابن حجر فهما عنده رجلان بلا شك في ذلك. ولم أجد ما أستقصي من الأخبار حتى أفضل في هذا الاختلاف. و " عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن "، ليس بثقة. و " مروان "، هو: " مروان بن الحكم ". وهذا الخبر كما ترى، هالك الإسناد من نواحيه. والقراءة التي فيه إذا صحت من غير هذا الطريق الهالك، فهي قراءة تفسير، كما هو معروف، وكما أشرنا إليه مرارًا في أشباهها. ولا يجل لقارئ أنة يقرأ بمثلها على أنها نص التلاوة، لشذوذها، ولمخالفتها رسم المصحف بالزيادة، بغير حجة يجب التسليم لها.

(15/57)


17602- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تعشْ، كأن لم تَنْعَم.
17603- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: في قراءة أبيّ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (وازينت) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (وَازَّيَّنَتْ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت، والساكن لا يُبْتَدأ به.
* * *
وحكي عن أبي العالية، وأبي رجاء، والأعرج، وجماعة أخر غيرهم، أنهم قرءوا ذلك: (وَأَزْيَنَتْ) على مثال "أفعلت".
* * *
__________
(1) الأثر: 17603 - " أبو أسامة "، هو " حماد بن أسامة بن يزيد القرشي "، ثقة، روى له الجماعة مضى مرارًا.
" وإسماعيل "، هو " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. وأما " أبو سلمة بن عبد الرحمن "، فلم يسمع من أبي بن كعب. فهو إسناد مرسل.

(15/58)


وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك: (وَازَّيَّنَتْ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، (1) كما:-
17604- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: "الله"، السلام، ودارُه الجنة.
17605- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
__________
(1) انظر تفسير " الهداية " و " الصراط المستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) ، (سرط) ، (قوم) .

(15/59)


معمر، عن قتادة في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام) ، قال: "الله" هو السلام، ودارُه الجنة.
17606- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قيل لي: "لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك" فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: " سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرضَ عنه السيد"، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم". (1)
17607- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا:" يا باغي الخير هلمّ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ".
17608- حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين (2)
__________
(1) الأثر: 17606 - " أبو قلابة "، هو: " عبد الله بن زيد الجرمي "، أحد أعلام التابعين، مضى مرارًا. فهذا خبر " مرسل "، وسيأتي نحوه متصلا في تخريج الأثر رقم: 17609.
(2) " الجنبة " (بفتح الجيم والنون، وبفتحها وإسكان النون) الناحية، ورواة الحديث يروون " الجنبة " فتحتين، وأهل اللغة يؤثرون سكون النون. ويستدلون على ذلك بقول أبي صعترة البولاني: فما نُطْفَةٌ مِنْ حَبِّ مُزْنٍ تَقَاذَفَتْ ... به جَنْبَتَا الجُودِيِّ والليلُ دَامِسُ
بِأَطْيَبِ مَنْ فِيهَا، وَمَا ذُقْتُ طَعْمَهُ، ... وَلكِنَّنِي فِيما تَرَى العَيْنُ فَارِسُ
والذي رواه أهل الحديث جيد صحيح.

(15/60)


: "يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى". قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . (1)
17609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه.
__________
(1) الأثر: 17608 - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي الطحان "، شيخ الطبري، ثقة. روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وأبي ابن حاتم 1 / 2 / 54. و " عبد الملك بن عمرو "، هو " أبو عامر العقدي "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 12795. و" عباد بن راشد التميمي "، ثقة وليس بالقوي، روى له البخاري مقرونا بغيره، مضى برقم: 11060، 12527. و" خليد بن عبد الله العصري "، روى عن أبي الدرداء، وقال ابن حبان في الثقات، وذكره: يقال إن هذا مولى لأبي الدرداء. وفرق البخاري في الكبير بين " خليد مولى أبي الدرداء "، و " خليد بن عبد الله العصري "، وكذلك ابن أبي حاتم. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 181، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 383. وهذا خبر صحيح الإسناد، ورواه أحمد في مسنده مطولا 5: 197، من طريق همام، عن قتادة، عن خليد العصري. وزيادته: " وَلَا آبَت شمس قَطُّ إلا بعث بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَان يُناديان، يُسْمِعان أهل الأرض إلا الثَّقلين: اللهمّ أعطِ مُنْفقًا خلفًا، وأعط مُمْسكًا تَلَفًا ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 304، مطولًا، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.

(15/61)


فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 17069 - " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم: 13377. و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17429، روايته عن جابر مرسلة، وحديثه عن جابر أورده البخاري معلقًا، متابعة. وفي الترمذي: " سعيد بن أبي هلال، لم يدرك جابرًا ". فهذا خبر مرسل عن جابر، وصله الحاكم في المستدرك 2: 338 من طريق " عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين، وتلا هذه الآية: " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدثني جابر بن عبد الله "، ثم قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 304، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، بمثل لفظ الحاكم وإسناده. وكان في المطبوعة: " أكل منها "، وهو موافق لما في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه واضح لا إشكال في قراءته، ولا في معناه.

(15/62)


لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)

القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى، (الحسنى) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الحسنى"، و"الزيادة" اللتين وعدهما المحسنين من خلقه.
فقال بعضهم: "الحسنى"، هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء = "والزيادة عليها"، النظر إلى الله.
* ذكر من قال ذلك:

(15/62)


17610- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. (1)
17611- حدثنا سفيان قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الله. (2)
17612- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 17610 - " عامر بن سعد البجلي "، تابعي ثقة، له في الصحيح حديث واحد، وروايته عن أبي بكر الصديق، مرسلة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 321. وهذا الخبر، أخرجه الآجري في الشريعة ص: 257، من طرق، مرسلًا.
(2) الأثر: 17611 - " سعيد بن نمران الناعطي "، روى عن أبي بكر الصديق، روى عنه عامر بن سعد العجلي، وكان سعيد بن نمران الناعطي، من أصحاب علي بن أبي طالب، وضمه إلى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، حين ولاه اليمن، وشهد اليرموك، وكان ابنه مسافر بن سعيد بن نمران من أصحاب المختار، مترجم في الكبير 2 / 1 / 473، وابن أبي حاتم، 2 / 1 / 68، وابن سعد 6: 56، وقال البخاري " سمع أبا بكر "، ولكن العجيب أن ابن حجر ترجم له في لسان الميزان 3: 46، وقال: " مجهول "، وكذلك قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 392. فأخشى أن يكون ذلك تجاوزًا من الذهبي وابن حجر، وأنهما عنيا بقولهما " مجهول " أن حال روايته وسماعه من أبي بكر هو المجهول، لا سعيد بن نمران نفسه. وإلا فكيف يكون مجهولا، وهو مذكور مترجم، وله عند الطبري في تاريخه ذكر 4: 126، في حوادث سنة 14، في فتح اليرموك ثم في سنة 17 (4: 194) في خبر سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب، وأن سعدًا " أرسل إلى قوم من نساب العرب وذوي رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران، ومشعلة بن نعيم ". وفي باب ذكر الكتاب من بدء أمر الإسلام (تاريخ الطبري 7: 198) : " وكان يكتب لعلي، سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولّى قضاء الكوفة لابن الزبير ". وذكره وكيع أيضًا في أخبار القضاة 2: 396، 397، وقال: " لما قدم علي الكوفة، ولى سعيد بن نمران الهمداني ثم عزله، وولى مكانه عبيدة السلماني" ثم قال في ص 397: " فاستقضى ابن الزبير سعيد بن نمران الهمداني، فقضى ثلاث سنين ". وذكر كتابته لعلي، الجهشياري في الوزراء والكتاب ص: 23. فثبت بهذا أنه معروف مشهور، وأما " المجهول "، فهو حال سماعه من أبي بكر، لولا ما قاله البخاري من أنه سمع أبا بكر.
ومهما يكن من أمر، فهذا خبر في إسناده نظر. خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 306، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والدارقطني، وابن منده في الرد على الجهمية، واللالكائي والآجري، والبيهقي، كلاهما في الرؤية.

(15/63)


عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم.
17613- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الزيادة"، النظر إلى وجه الرحمن.
17614- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال: النظر إلى وجه ربهم. (1)
17615- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا شريك قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: (وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الرحمن.
17616- حدثني علي بن عيسى قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ، يحدَّث عن أبي موسى الأشعري قال: إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم! فيقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظرُ إلى وجه الرحمن. (2)
17617- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر: 17614 - " مسلم بن نذير السعدي "، ويقال: " مسلم بن يزيد "، ويقال إن " يزيد " جده. روى عن حذيفة، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وهو من أهل الكوفة، كان قليل الحديث، ويذكرون أنه كان يؤمن بالرجعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 273، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 197، 199 في " مسلم بن يزيد السعدي ". وابن سعد 6: 159. و " نذير " بضم النون، على التصغير.
(2) الأثر: 17616 - " أبو بكر الهذلي "، ضعيف بمرة، مضى مرارًا آخرها رقم: 14690. و " أبو تميمة الهجيمي "، هو " طريف بن مجالد "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/356، وابن أبي حاتم 2/1/492، وهذا خبر ضعيف الإسناد، وسيأتي في الأثرين التاليين.

(15/64)


المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول: "يا أهل الجنة، هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون، (1) فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة، فيقولون: "نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا"! ثم يقول الملك: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا، فيقولون: "نعم"! فيقول: "قد بقى لكم شيءٌ، إن الله يقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجه الله". (2)
17618- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم: (3) "إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن". (4)
__________
(1) في المطبوعة: " فينظرون، إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيرون "، زاد على المخطوطة ما ليس فيها، أظنه فعله متابعًا لما جاء في الأثر السالف.
(2) الأثر: 17617 - هو مكرر الذي قبله مطولا، وهو ضعيف بمرة، لضعف " أبي بكر الهذلي "، كما سلف.
(3) في المخطوطة " يسمع ألهم آخرهم "، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
(4) الأثر: 17618 - " شبيب بن سعيد التيمي الحبطي "، أحاديثه مستقيمة، ومضى برقم: 6613، 12085، غير أن ابن وهب حدث عنه بأحاديث مناكير، قال ابن عدي: " ولعل شبيبًا لما قدم مصر في تجارته، كتب عنه ابن وهب من حفظه، فغلط ووهم. وأرجو أن لا يتعمد الكذب وإذا حدث عنه ابنه أحمد، فكأنه شبيب آخر يعني = يجود ". و " أبان "، هو " أبان بن أبي عياش فيروز "، مولى عبد القيس، كان رجلا صالحًا سخيًّا، فيه غفلة، يهم في الحديث ويخطئ فيه حتى أسقطوا روايته، وحتى قال فيه شعبة: " لأن أشرب من بول حماري أحب إلي من أن أقول: حدثني أبان = ولأن يزني الرجل، خير من أن يروى من أبان ". ومضى برقم: 6728. فهذا أيضًا خبر هالك الإسناد. وخبر أبي موسى الأشعري، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 305، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والدارقطني في الرؤية، وابن مردويه.

(15/65)


17619- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال: بعد النظر إلى وجْه ربهم.
17620- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة قال، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: (وزيادة) ، قال: قيل له: أرأيت قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم، قال: نودوا: "يا أهل الجنة، إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم" = قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. (1)
17621-. . . . قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم.
17622-. . . . قال: حدثنا الحجاج، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال: ثم قال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك.
__________
(1) الأثر: 17620 - الآثار من رقم: 17619 إلى رقم: 17623، راجع آخر التعليق التالي.

(15/66)


17623- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى وجه الله.
17624- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قول الله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى الربّ.
17625- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نودوا: " يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا "! قالوا: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتُثْقِل موازيننا، وتُدخلنا الجنة، وتُنْجِنَا من النار؟ فيكشف الحجابُ، فيتجلى لهم، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه = ولفظ الحديث لعمرو.
17626- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، نادى منادٍ: "يا أهل الجنة، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه". فيقولون: "وما هو؟ ألم يُثقل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي، وابن بشار، عن عبد الرحمن. (1)
__________
(1) الأثر: 17626 - هذا خبر صحيح، رواه مسلم في صحيحه 3: 16، 17، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد. ورواه أبو داود الطياليسي في مسنده ص:186 رقم 2315، روايته عن حماد بن سلمة. ورواه أحمد في مسنده (4: 332، 333) من ثلاث طرق، من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق عفان عن حماد = ثم رواه في مسنده (6: 15) من طريق يزيد، عن حماد. ورواه ابن ماجه في سننه ص 67، رقم: 187 من طريق حجاج بن المنهال، عن حماد. ورواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ثم قال: " حديث حماد بن سلمة، هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة مرفوعا، وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله، ولم يذكر فيه: عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وهذا الذي أشار إليه الترمذي، هو ما رواه أبو جعفر من رقم: 17619 - 17623. ورواه الآجري في الشريعة: 261 من طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق هناد بن السري، عن قبيصة بن عقبة، عن حماد.

(15/67)


17627-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. (1)
17628-. . . . قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله.
17629- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة، وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمن.
17630- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
17631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الزيادة، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. (2)
__________
(1) الأثر: 17627 - " سعيد بن نمران " مضى برقم: 17611، ولم يذكر أن أبا إسحاق السبيعي، سمع من سعيد بن نمران، وظاهر أن بينهما " عامر بن سعد "، كما سلف في الآثار من رقم: 17610 - 17613.
(2) الأثر: 17631 - " إبراهيم بن المختار التميمي "، " حبويه "، " أبو إسماعيل الرازي ".
روى عن شعبة، ومالك، وابن جريج، وغيرهم. قال ابن معين: " ليس بذاك "، وقال البخاري: " فيه نظر "، وقال ابن حبان في الثقات: " يتقي حديثه من رواية ابن حميد عنه ". مترجم في التهذيب والكبير 1 / 1 / 329، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 138، وميزان الاعتدال 1: 31. و" عطاء "، هو " عطاء بن أبي مسلم الخراساني " وهو " عطاء بن ميسرة "، مضى مرارًا. وروى عن الصحابة مرسلا، كابن عباس، وعدي بن عدي الكندي، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. فهذا خبر ضعيف الإسناد لضعف " إبراهيم بن المختار "، ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة.

(15/68)


17632-. . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "الحسني"، النضرة = و"الزيادة"، النظر إلى وجه الله.
17633- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية قال، حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله. (1)
* * *
وقال آخرون في "الزيادة"، بما:-
17634- حدثنا به يحيى بن طلحة قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الزيادة"، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. (2)
17635- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب.
17636-. . . .قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل، سواءً.
* * *
__________
(1) الأثر: 17633 - هذا خبر ضعيف إسناده، لجهالة من روى عن أبي العالية.
(2) الأثر: 17634 - " الحكم "، هو " الحكم بن عتيبة الكندي " مضى مرارًا، والثابت سماعه من التابعين، فإنه ولد سنة 50، ومات سنة 113، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه. فهذا حديث ضعيف لإرساله عن علي.

(15/69)


وقال آخرون: "الحسنى" واحدةٌ من الحسنات بواحدة =
و"الزيادة"، التضعيف إلى تمام العشر.
* ذكر من قال ذلك.
17637- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: هو مثل قوله: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ، [سورة ق: 35] ، يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، [سورة الأنعام: 160] .
17638- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن قيس: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة؟ قال: ألم تر أن الله يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ؟
17639- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف.
* * *
* وقال آخرون: "الحسنى" حسنة مثل حسنة = و"الزيادة" زيادة مغفرة من الله ورضوان.
* ذكر من قال ذلك:
17640- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (للذين أحسنوا الحسنى) ، مثلها حسنى = "وزيادة"، مغفرة ورضوان.
* * *
وقال آخرون: "الزيادة"، ما أعطوا في الدنيا.

(15/70)


*ذكر من قال ذلك:
17641- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الحسنى"، الجنة = "وزيادة" ما أعطاهم في الدنيا، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) ، [سورة العنكبوت: 27] ، قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا، عجل له أجره فيها.
* * *
وكان ابن عباس يقول في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) ، بما:-
17642- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) ، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة، وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله: (وزيادة) ، الزيادات على "الحسنى"، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يُعَمَّ، كما عمَّه عز ذكره.
* * *

(15/71)


القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ.
* * *
و"القتر" الغبار، وهو جمع "قَتَرَةٍ" ومنه قول الشاعر: (1)
مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّاياتِ وَالْقَتَرَا (2)
يعني ب "القتر" الغبار.
* * *
= (ولا ذلة) ، ولا هوان (3) = (أولئك أصحاب الجنة) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، هم أهل الجنة وسكانها، (4)
ومن هو فيها (5) = (هم فيها خالدون) ، يقول: هم فيها ماكثون أبدًا، لا تبيد، فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) ديوانه: 290، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 277، واللسان (قتر) ، وغيرها، ورواية ديوانه " معتصب برداء الملك "، وهذا بيت من قصيدة مدح فيها بشر بن مروان، وقبله: كُلُّ امْرِئٍ لِلْخَوْفِ أَمَّنَهُ ... بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَالمَذْعُورُ مَنْ ذَعَرَا
فَرْعٌ تَفَرَّعَ فِي الأَعْياصِ مَنْصِبُهُ ... والعامِرَيْنِ، لَهُ العِرنَيْنُ مِنْ مُضَرَا
(3) انظر تفسير " الذلة " فيما سلف 13: 133، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " أصحاب الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(5) في المطبوعة: " ومن هم فيها "، غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(6) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .

(15/72)


وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر) ما:-
17643- حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا عفان قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال: بعد نظرهم إلى ربِّهم. (1)
17644- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه.
17645- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر) ، قال: سوادُ الوجوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله (2) = (جزاء سيئة) ، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا = (بمثلها) ، من عقاب الله في الآخرة = (وترهقهم ذلة) ، يقول: وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم (3)
= (ما لهم من الله من عاصم) ، يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم، إذا عاقبهم، يحول بينه وبينهم.
* * *
__________
(1) الأثر: 17643 - " محمد بن منصور بن داود الطوسي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 6653.
(2) انظر تفسير " كسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) ، (سوأ) .
(3) انظر تفسير " الرهق " فيما سلف قريبًا ص: 72.
= وتفسير " ذلة " فيما سلف ص: 72، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(15/73)


وبنحو الذي قلنا قوله:"وترهقهم ذلة" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وترهقهم ذلة) ، قال: تغشاهم ذلة وشدّة.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع ل "لجزاء".
فقال بعض نحويي الكوفة: رُفع بإضمار "لهم"، كأنه قيل: ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ، [سورة البقرة: 196] ، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، قال: وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله: (وجزاء سيئة بمثلها) . (1)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: "الجزاء" مرفوع بالابتداء، وخبره (بمثلها) . قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت "الباء"، كما زيدت في قوله: " بحسبك قول السُّوء".
وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم، فقال: يجوز أن تكون "الباء" في "حسب" [زائدة (2) ]
لأن التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك = فلما لم تدخل في الخبر، (3) أدخلت في "حسب"، "بحسبك أن تقوم": إن قمت فهو حسبك. (4) فإن مُدح ما بعد "حسب" أدخلت "الباء"، فيما بعدها، كقولك: "حسبك بزيد"،
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 461، وفي المطبوعة: " وجزاء سيئة بمثلها " بالواو، وفي معاني القرآن للفراء " فجزاء " بالفاء، ولا أجد في القرآن آية فيها مثل ذلك بالواو أو بالفاء، وإنما عني هذه الآية بعينها.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " لم تدخل في الجزاء "، وهو خطأ لا ريبة فيه.
(4) أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.

(15/74)


ولا يجوز "بحسبك زيد"، لأن زيدًا الممدوح، فليس بتأويل خبَرٍ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يكون "الجزاء" مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى، كانت الباء صلة للجزاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات (2)
= (قِطَعًا من الليل) ، وهي جمع "قطعة".
* * *
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:-
17647- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا) ، قال: ظلمة من الليل.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: (قطعًا) فقرأته عامة قراء الأمصار: (قِطَعًا) بفتح الطاء، على معنى جمع "قطعة"،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع أيضًا: " فليس بتأويل جزاء "، وهو فساد لا شك فيه.
(2) انظر تفسير " الإغشاء " فيما سلف 12: 483، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/75)


وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك: كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع "الوجه".
* * *
وقرأه بعض متأخري القراء: "قِطْعًا" بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ، [سورة هود: 81 /سورة الحجر: 65] ، أي: ببقية قد بقيت منه.
ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ: (وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. (2)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير "المظلم" وتوحيده، وهو من نعت "القطع"، و"القطع"، جمع لمؤنث؟
قيل: في تذكير ذلك وجهان: (3)
أحدهما: أن يكون قَطْعًا من "الليل" (4) . وإن يكون من نعت "الليل"، فلما كان نكرةً، و"الليل" معرفةً، نصب على القَطْع،
فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم = ثم حذفت الألف واللام
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 462.
(2) في المطبوعة: " أهل الأمصار والإسلام "، وهو عبث سخيف.
(3) في المطبوعة: " في تذكيره "؛ بالهاء مضافة، وهو عبث أيضًا.
(4) " القطع " (بفتح فسكون) ، الحال، كما سلف مرارًا شرحه وبيانه، وانظر ما سلف 11: 455 / 12: 477، وفهارس المصطلحات. وقد بين الطبري في هذا الموضع بأحسن البيان عن معنى " القطع "، وقد سلف كلامنا فيه مرارًا.

(15/76)


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)

من "المظلم"، فلما صار نكرة وهو من نعت "الليل "، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك "حالا"، والكوفيون "قطعًا".
والوجه الآخر: على نحو قول الشاعر: (1)
* لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * (2)
والوجه الأوّل أحسن وجهيه.
وقوله: (أولئك أصحاب النار) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها (3)
= (هم فيها خالدون) ، يقول: هم فيها ماكثون. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا، (5) ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ: = (مكانَكم) ، أي:
__________
(1) هو أبو ذؤيب.
(2) ديوانه: 113، في آخر قصيدة له، ورواية الديوان: لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا ... أَحْيَى أُبُوَّتَكِ الشُّمَّ الأَمَادِيحُ
وهذا لا شاهد فيه، ويروى: * لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا *
وهذا شاهد.
(3) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(4) انظر تفسير " الخلود "، فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(5) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف 13: 529، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(15/77)


امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان = (فزيّلنا بينهم) ، يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به.
* * *
= [من قولهم: "زِلْت الشيء أزيلُه "، إذا فرّقت بينه] وبين غيره وأبنته منه. (1) وقال: "فزيّلنا" إرادة تكثير الفعل وتكريره، ولم يقل: "فزِلْنا بينهم".
* * *
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: (فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ) ، كما قيل: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) ، [سورة لقمان: 18] ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في "فعَّلت"، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد، فيقولون: "فاعلت" إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين، فلا تكاد تقول إلا "فاعلت". (2)
* * *
= (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ، وذلك حين (تبرَّأ الذين اتَّبعوا من الذين اتُّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب، لما قيل للمشركين: "اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله"، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: "كنا نعبد هؤلاء"!، فقالت الآلهة لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون) ، كما:-
17648- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: "هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله"، فتقول الآلهة: "والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا"! فيقولون: "والله لإيّاكم
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين، استظهار من نص اللغة لا بد منه، وكان الكلام في المخطوطة سردًا واحدًا، وهو فساد من الناسخ. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 492.
(2) انظر بيان هذا أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 492، فهو نحو منه.

(15/78)


فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)

كنا نعبد"! فتقول لهم الآلهة: (فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين) .
17649- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) ، قال: فرّقنا بينهم = (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ! قالوا: بلى، قد كنا نعبدكم! فقالوا: (كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، الآية.
* * *
وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول "الحشر" في هذا الموضع، الموت.
17650- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعًا) ، قال: الحشر: الموت.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم، ويقولون في الموقف بعد البعث.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) }
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد = (كفى

(15/79)


هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

بالله شهيدًا بيننا وبينكم) ، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون = (إنا كنا عن عبادتكم لغافلين) ، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، (1) كما:-
17651- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله. (2)
17652- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17653- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال: يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ) ، بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. (3)
وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك، مجاهدٌ.
__________
(1) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: 25، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " قال ذلك كل شيء "، زاد " ذلك " وأثبت ما في المخطوطة، وهو لا بأس به.
(3) في المطبوعة: " بما قدمت " بالباء، لم يحسن قراءة المخطوطة. وانظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف من فهارس اللغة (بلا)

(15/80)


17654- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، قال: تختبر.
17655- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17656- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: (تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) ، بالتاء. (1)
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. (2)
وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال: يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت) . (3)
* * *
وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ، كما قال جل ثناؤه: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) ، [سورة الإسراء: 13] .
* * *
وقال آخرون: "تَتْلو" تعاين. (4)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر هذه القراءة وتفسيرها فيما سلف 2: 411.
(2) انظر تفسير " يتلو " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا) .
(3) " لم أجد نص الخبر في غير هذا المكان. مسندًا ولا غير مسند.
(4) في المطبوعة في المواضع كلها " تبلو " بالباء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب بالتاء، وذلك بين أيضًا من سياق التفسير لهذه القراءة.

(15/81)


17657- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت) ، قال: ما عملت. تتلو: تعاينه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا، هجم به على مَوْرده، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله، مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
وأما قوله: (وردّوا إلى الله مولاهم الحق) ، فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم، الحقّ لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد = (وضل عنخم ما كانوا يفترون) ، يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى، (1) كما:-
17658- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون) ، قال: ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(15/82)


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)

يدعون معه من الأنداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ = (من يرزقكم من السماء) ، الغيثَ والقطر، ويطلع لكم شمسها، ويُغْطِش ليلها، ويخرج ضحاها = ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم، وثمار أشجارها = (أم من يملك السمع والأبصار) يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها: أن يزيدَ في قواها، أو يسلبكموها، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها: أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون = (ومن يخرج الحي من الميت) ، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت = (ويخرج الميت من الحي) ، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته، في "سورة آل عمران"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6: 304 - 312.

(15/83)


فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)

= (ومن يدبر الأمر) ، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن، وأمركم وأمرَ الخلق (1) ؟ = (فسيقولون الله) ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا: الذي يفعل ذلك كله الله = (فقل أفلا تتقون) ، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال، فيرزقكم من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الأمر; = (الله ربُّكم الحق) ، لا شك فيه = (فماذا بعد الحق إلا الضلال) ، يقول: فأي شيء سوى الحق إلا الضلال، وهو الجور عن قصد السبيل؟ (2)
يقول: فإذا كان الحقُّ هو ذا، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه= (فأنى تصرفون) ، يقول: فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون، وسواهما تسلكون، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟ (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تدبير الأمر " فيما سلف ص: 18، 19.
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 14: 582، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/84)


كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال = (كذلك حقت كلمة ربك) ، يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه = (على الذين فسقوا) ، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به (1) = (أنهم لا يؤمنون) ، يقول: لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .

(15/85)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد = (هل من شركائكم) ، يعني من الآلهة والأوثان = (من يبدأ الخلق ثم يعيده) ، يقول: من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل، فيحدث خلقَه ابتداءً = (ثم يعيده) ، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ، وهي لله في العبادة شركاء، كاذبون مفترون.
فقل لهم حينئذ، يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء، ويحدثه من

(15/85)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

غير أصل، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء = (فأنى تؤفكون) ، يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون؟ (1) كما:-
17659- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فأنى تؤفكون) ، قال: أنى تصرفون؟
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: (أنى تؤفكون) ، والصواب من القول في ذلك عندنا، بشواهده في "سورة الأنعام". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين = (هل من شركائكم) ، الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانُهم، (من يهدي إلى الحق) يقول: من يرشد ضالا من ضلالته
__________
(1) انظر تفسير " الأفك " فيما سلف 10: 486 / 11: 554 / 14: 208.
(2) انظر ما سلف 11: 554، وقوله أنه ذكر في سورة الأنعام، وهم من أبي جعفر، فإنه لم يفصل بيان معنى " الأفك "، إلا في سورة المائدة (10: 485، 468) . ولم يذكر قط اختلاف المختلفين في تفسيره. فأخشى أن يدل هذا النص، على أن أبا جعفر كان قد باعد بين أطراف تفسيره، فكان ينسى الموضع الذي فصل فيه أحيانًا، بل لعل هذا يدل أيضًا على أنه كان قد شرع في التفسير مطولا، كما ذكر في ترجمته، ثم اختصره هذا الاختصار. ويدل أيضًا، إذا صح ما قلته، على أنه كان قد أعد مادة كتابه إعدادًا تامًا، ثم أدخل في كتابة تفسيره تعديلا كبيرًا، فلم يثبت فيه كل ما كان أعده له. والله تعالى أعلم.

(15/86)


إلى قصد السبيل، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا "لا" وأقرُّوا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق= (أفمن يهدي) أيها القوم ضالا إلى الحقّ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد= (أحق أن يتبع) ، إلى ما يدعو إليه (أمْ مَنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى) ؟
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة: (أَمَّنْ لا يَهْدِّي) بتسكين الهاء، وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين (1) = وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا، (2) وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعَدُّوا فِي السَّبْتِ) ، [سورة النساء: 154] ، (3) وفي قوله: (يَخْصِّمُون) ، [سورة يس: 49] . (4)
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة= " (يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من "يهتدي": إلى الهاء الساكنة،، فحرَّكوا بحركتها، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في شبه هذه القراءة فيما سلف 9: 362.
(2) في المطبوعة: " بغير ما قرروا "، والصواب ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في هذه القراءة 9: 362.
(4) انظر ما سيأتي في هذه القراءة 23: 11 (بولاق) .

(15/87)


وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: (يَهِدِّي) ، بفتح الياء، وكسر الهاء، وتشديد الدال، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من "يهتدي"، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ.
* * *
وقرأ ذلك بعدُ، عامة قراء الكوفيين (1) (أَمْ مَنْ لا يَهْدِي) ، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا: إن العرب تقول: "هديت" بمعنى "اهتديت"، قالوا: فمعنى قوله: (أم من لا يهدي) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءة في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ: (أَمْ مَنْ لا يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلامُ الله.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدي؟
* * *
وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل.
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:-
17660- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدّي إلا أن يهدي) ، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء.
__________
(1) في المطبوعة: " وقرأ ذلك بعض عامة قرأة، الكوفيين " جعل " بعد "، " بعض "، فأفسد الكلام وأسقطه.

(15/88)


وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)

17661- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (أمن لا يهدي إلا أن يهدي) ، قال: قال: الوثن.
* * *
وقوله: (فما لكم كيف تحكمون) ، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكٍّ وريبة (1) = (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا) ، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا، ولا يقوم في شيء مقامَه، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين (2) = (إن الله عليم بما يفعلون) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون، من اتباعهم الظن، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن) .
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 14: 179، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .

(15/89)


وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. (1) وذلك نظير قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) [سورة آل عمران: 161] ، (2) بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه.
وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن، هذا القرآن من عنده، أنزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: "هو شعر وكهانة"، والذين قالوا: "إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ". (3)
يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق= (ولكن تصديق الذي بين يديه) ، أي: يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنزله مصدِّقًا لما بين يديه، أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه= (وتفصيل الكتاب) ، يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
= وتفسير " ما كان " فيما سلف 7: 353 / 14: 509 - 514، 561، 565.
(2) هذه قراءة أهل المدينة والكوفة، بضم الباء وفتح العين، بالبناء للمجهول، وهي غير قراءتنا في مصحفنا. وقد سلف بيانها وتفسيرها واختلاف المختلفين فيها فيما سلف 7: 353، 354. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 464.
(3) في المطبوعة: " يعيش الرومي "، وأثبت ما في المخطوطة، وذاك تصرف لا خير فيه.

(15/90)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)

السابق من علمه= يقول: (لا ريب فيه) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [مثل كلامكم] ، (2) فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن.
* * *
و"الهاء" في قوله "مثله"، كناية عن القرآن.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته= ثم ألقيت "سورة"، وأضيف "المثل" إلى ما كان مضافًا إليه "السورة"، كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82] يراد به: واسأل أهل القرية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف ص: 57، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الريب " فيما سلف 14: 459، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " العالمين " فيما سلف 13: 84، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة: " ولساني مثل لسانكم، وكلامي فجيئوا" أسقط من الكلام ما وضعته بين القوسين استظهارًا، أما المطبوعة، فقد جعلها: " ولساني وكلامي مثل لسانكم "، فأساء.

(15/91)


وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن "السورة" إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم: (فأتوا بسورة مثله) ، ولم يقل: "مثلها"، لأن الكناية أخرجت على المعنى= أعني معنى "السورة"= لا على لفظها، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: "فأتوا بسورة مثلها".
* * *
= (وادعوا من استطعتم من دون الله) ، يقول: وادعوا، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم = (من دون الله) ، يقول: من عند غير الله، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين) ، يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز.
* * *

(15/92)


بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنزل الله عليك في هذا القرآن، (1) من وعيدهم على كفرهم بربهم= (ولما يأتهم تأويله) ، يقول: ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن (2) = (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم = (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر، يا محمد، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق؟ (3) يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم، ويسارعوا إلى التوبة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف ص: 51، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف 12: 478، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف 13: 43، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/93)


وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن قومك، يا محمد، من قريش، من سوف يؤمن به يقول: من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله= (ومنهم من لا يؤمن به) أبدًا، يقول: ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا= (وربك أعلم بالمفسدين) يقول: والله أعلم بالمكذّبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدًا، من كل أحدٍ، لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم، فإني سأتوب عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم، لي ديني وعملي، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم، ولا يضركم عملي، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله= (أنتم بريئون مما أعمل) ، لا تُؤْاخذون بجريرته= (وأنا برئ مما تعملون) ، لا أوخذ بجريرة عملكم. (2) وهذا كما
__________
(1) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 14: 86، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بريء " فيما سلف 14: 12، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/94)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)

قال جل ثناؤه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [سورة الكافرون: 1-3] .
* * *
وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال.
*ذكر من قال ذلك:
17662- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) الآية، قال: أمرَه بهذا، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك= (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) ، يقول: أفأنت تخلق لهم السمع، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟
وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع، يا محمد، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن.
* * *

(15/95)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومِك، من ينظر إليك، يا محمد، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به= (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) ، يقول: أفأنت يا محمد، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ.
وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به = (ولكن الناس) ، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه.

(15/96)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)

وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم= وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، (1) كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، (2) ثم انقطعت المعرفة، وانقضت تلك الساعة= يقول الله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا (3) = (وما كانوا مهتدين) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحشر" فيما سلف ص: 77، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " اللبث " فيما سلف ص: 41.
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف 14: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/97)


وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإما نرينّك، يا محمد، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب= (أو نتوفينك) قبل أن نريك ذلك فيهم (1) = (فإلينا مرجعهم) ، يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا، ومنقلبهم (2) = (ثم الله شهيد على ما يفعلون) ، يقول جل ثناؤه: ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، (3) وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم، جزاءهم الذي يستحقُّونه، كما:-
17663- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) ، من العذاب في حياتك= (أو نتوفينك) ، قبل= (فإلينا مرجعهم) .
17664- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17665- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 14: 15، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص 54، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) .

(15/98)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم، أيها الناس، رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدًا إليكم، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته= (فإذا جاء رسولهم) ، يعني: في الآخرة، كما:-
17666- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم) ، قال: يوم القيامة.
* * *
وقوله: (قضى بينهم بالقسط) ، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل (1) = (وهم لا يظلمون) ، من جزاء أعمالهم شيئًا، ولكن يجازي المحسن بإحسانه. والمسيءُ من أهل الإيمان، إما أن يعاقبه الله، وأما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ.
17667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قضى بينهم بالقسط) ، قال: بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد = (متى هذا الوعد) ، الذي تعدنا أنه يأتينا من
__________
(1) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: 21، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(15/99)


قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

عند الله؟ وذلك قيام الساعة = (إن كنتم صادقين) ، أنت ومن تبعك، فيما تعدوننا به من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "قل"، يا محمد، لمستعجليك وعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين؟ = (لا املك لنفسي) ، أيها القوم، أي: لا اقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين (1) = (إلا ما شاء الله) ، أن أملكه، فأجلبه إليها بأذنه.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز واعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك = (لكل أمة أجل) ، يقول: لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم (2)
= (لا يستأخرون) ، عنه (ساعة) ، فيمهلون ويؤخرون، (ولا يستقدمون) ، قبل ذلك، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 13: 302، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف من فهارس اللغة (أمم) .
= وتفسير " الأجل " فيما سلف ص: 33، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " استأجر " و " استقدم " فيما سلف 12: 404، 405.

(15/100)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا، يقول: ليلا أو نهارا، (1)
وجاءت الساعة وقامت القيامة، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجلُ من نزول العذاب، (2) المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون "آمنتم به"، يقول: صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: آلآنَ تصدّقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنزوله مكذبون؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون.
* * *
ومعنى قوله: (أثم) ، في هذا الموضع: أهنالك، وليست "ثُمَّ" هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " البيات " فيما سلف 12: 299، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاستعجال " فيما سلف ص: 33.
(3) انظر تفسير " ثم " فيما سلف 2: 535 وفيه تفسير " ثم " المفتوحة، بمعنى: هنالك. وقد قال الطبري في تفسيره 8: 351: " وقيل إن " ثم " ههنا بمعنى " ثم " بفتح التاء فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك، وهو مذهب الطبري. وقال أبو حيان في تفسيره 5: 167 " وقال الطبري في قوله: أثم، بضم الثاء أن معناه: أهنالك، وليست " ثم " هذه ههنا التي تأتي بمعنى العطف، وما قاله الطبري دعوى ".

(15/101)


ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم قيل للذين ظلموا) ، أنفسهم، بكفرهم بالله= (ذوقوا عذاب الخلد) ، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال (1) = (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون، أي: هل تثابون = (إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد، (3)
فيقولون لك: أحق ما تقول، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد: "أي وربي إنه لحق "، لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم، بهربٍ، أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذ أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) ، (كسب) .
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 54، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف 14: 131، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/102)


وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله = و"ظلمها"، في هذا الموضع، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته، (1) وتركها طاعة من يجب عليها طاعته= (ما في الأرض) ، من قليل أو كثير= (لافتدت به) ، يقول: لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته (2) = وقوله: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) ، يقول: وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم = (وقضي بينهم بالقسط) ، يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل (3) = (وهم لا يظلمون) ، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يقول جل ذكره: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه. يقول: فليس لهذا الكافر
__________
(1) في المطبوعة: " من يستحق عبادة "، غير ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الافتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (فدى) .
(3) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: 99، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/103)


هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها، لم يقبل منه بدلا من عذابه، فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه، وقد حقَّ عليه عذاب الله؟ يقول الله جل ثناؤه: (ألا إن وعد الله حق) ، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به، فإنه بهم واقع لا شك = (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) ، يعني: ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده (1) = (من
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف 8: 528، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(15/104)


قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

ربكم) ، يقول: من عند ربكم، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله.
وقوله: (وشفاء لما في الصدور) ، يقول: ودواءٌ لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهلَ الجهال، فيبرئ به داءهم، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به = (وهدى) ، يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليلٌ على طاعته ومعصيته = (ورحمة) ، يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمًى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك= (1) (بفضل الله) ، أيها الناس، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم، ودعاكم إليه = (وبرحمته) ، التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن = (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " لهؤلاء المشركين بك "، وهو فاسد جدًا، ورجحت أن الصواب ما أثبت.

(15/105)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17668- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بفضل الله القرآن (وبرحمته) أن جعَلَكم من أهله. (1)
17669- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم.
17670- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: بالإسلام والقرآن= (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، من الذهب والفضَّة.
17671- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: "فضل الله"، الإسلام، و"رحمته"، القرآن.
17672- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: الإسلام والقرآن.
__________
(1) الأثر: 17668- " علي بن الحسن الأزدي " شيخ الطبري، مضى برقم: 10258، وأننا لم نجد له ترجمة. وكان في المطبوعة هنا "بن الحسين" وهو خطأ، وقع مثله عندنا في هامش التعليق علىالأثر المذكور 9: 98، تعليق: 1

(15/106)


17673- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله.
17674- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله.
17675- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن.
17676- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: فضله: الإسلام، ورحمته القرآن.
17677- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: القرآن.
17678- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وبرحمته) ، قال: القرآن.
17679- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: (هو خير مما يجمعون) ، قال: الأموال وغيرها.
17680- حدثنا علي بن داود قال، حدثني أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (قل بفضل الله وبرحمته) يقول: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
17681- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بكتاب الله، وبالإسلام= (هو خير مما يجمعون) .
* * *

(15/107)


وقال آخرون: بل "الفضل": القرآن= و"الرحمة"، الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
17682- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، قال: (بفضل الله) ، القرآن، (وبرحمته) ، حين جعلهم من أهل القرآن.
17683- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: "فضل الله"، القرآن، و"رحمته"، الإسلام.
17684- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) قال: (بفضل الله) القرآن، (وبرحمته) ، الإسلام.
17685- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: كان أبي يقول: فضله القرآن، ورحمته الإسلام.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فبذلك فليفرحوا) .
فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: (فَلْيَفْرَحُوا) بالياء (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه، فليفرح هؤلاء المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون، وكذلك:-
17686- حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التيّاح:

(15/108)


(فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يعني الكفار.
* * *
ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما:-
17687- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خُيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، بالتاء.
17688- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، مثل ذلك.
* * *
وكذلك كان الحسن البصري يقول: غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، بالياء; الأول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وكان أبو جعفر القارئ، فيما ذكر عنه، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ، بالتاء جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء: (فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لمعنيين:
أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه.
والثاني: صحته في العربية، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: "افعل ولا تفعل".
وبعدُ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها، غير الفراء، فإنه كان يزعم أن الّلام في

(15/109)


الأمر [هي البناء الذي خلق له] ، (1) واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام، وأُحدِثَت الألف في قولك: "اضرب" و"افرح"، لأن الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: (ادَّارَكُوا) ، [سورة الأعراف: 38] (2)
و (اثَّاقَلْتُمْ) ، [سورة التوبة: 38] . (3)
وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك، كان خارجًا عن لغتها، وكتابُ الله الذي أنزله على محمد بلسانها، (4) فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [حجّة] ولا صحة. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " أن اللام في ذي التاء الذي خلق له "، وهو كلام ساقط بمرة واحدة. وكان في المخطوطة: " أن اللام هي البناء. . . "، والزيادة التي بين القوسين من عندي، لأن الناسخ أسقط: كما هو ظاهر. واستظهرت ذلك من كتاب الفراء، وهذا كله نصه، كما سيأتي.
(2) في المطبوعة: " ادراكتم "، وفي المخطوطة " قالوا: ادراكوا واثاقلتم "، وأثبت نص الفراء.
(3) هذا كله نص الفراء في معاني القرآن 1: 469.
(4) في المطبوعة: " وكلام الله "، والجيد ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " لا ثبت بها ولا حجة "، وفي المخطوطة: " لا تثبت بها ولا صحة " فزدت " حجة " بين القوسين، لاقتضاء السياق إياها.

(15/110)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أرأيتم) أيها الناس = (ما أنزل الله لكم من رزق) ، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة = (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [سورة الأنعام: 136] .
ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل] يا محمد (آلله أذن لكم) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه (أم على الله تفترون) ،: أي تقولون الباطل وتكذبون؟ (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17689- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
__________
(1) انظر ما سلف 11: 116 - 134.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .

(15/111)


حرامًا وحلالا) وهو هذا. فأنزل الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية [سورة الأعراف: 32] .
17690- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم) إلى قوله: (أم على الله تفترون) ، قال: هم أهل الشرك.
17691- حدثني القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، قال: الحرث والأنعام = قال ابن جريج قال، مجاهد: البحائر والسُّيَّب.
17692- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) قال: في البحيرة والسائبة.
17693- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، الآية، يقول: كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك، أم على الله تفترون؟
17694- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، فقرأ حتى بلغ: (أم على الله تفترون) ، وقرأ: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [سورة الأنعام: 139] ، وقرأ: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) حتى بلغ: (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) [سورة الأنعام: 138] فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه.

(15/112)


وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)

وقرأ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) ، إلى آخر الآيات، [سورة الأنعام: 144] .
17695- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، هو الذي قال الله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا) إلى قوله: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ، [سورة الأنعام: 136] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا = (إن الله لذو فضل على الناس) ، يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة

(15/113)


وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)

= (ولكن أكثرهم لا يشكرون) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك، وبغيره من سائر نعمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما تكون) ، يا محمد= (في شأن) ، يعني: في عمل من الأعمال= (وما تتلوا منه من قرآن) ، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن (1)
(ولا تعملون من عمل) ، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس، من خير أو شر= (إلا كنَّا عليكم شهودًا) ، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم، إذ تعملونها وتأخذون فيها. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة.
ذكر من قال ذلك:
17696- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إذ تفيضون فيه) ، يقول: إذ تفعلون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا.) .
(2) انظر تفسير " الإفاضة " فيما سلف 4: 170.

(15/114)


وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ.
*ذكر من قال ذلك:
17697- حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (إذ تفيضون فيه) ، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق.
*ذكر من قال ذلك:
17698- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذ تفيضون فيه) ، في الحق ما كان.
17699-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17700- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: (إذ يفيضون فيه) ، فكان معلومًا أن قوله: (إذ تفيضون فيه) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد= لا عن وَقْت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: "إذ يفيضون فيه" خبرًا منه عن المكذبين فيه.
فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، (2) أنه شاهده إذْ تلا القرآن.
__________
(1) في المطبوعة: " فتشيعون " بالفاء، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " ولكن خطاب "، بحذف الهاء، وأثبتها من المخطوطة.

(15/115)


=فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل: (إذ تفيضون فيه) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا جمع، كما قال: (وما تتلوا منه من قرآن) ، فأفرده بالخطاب= ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه صلى الله عليه وسلم بالإفراد، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [سورة الطلاق: 1] ، وذلك أن في قوله: (إذا طلقتم النساء) ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
=وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد، (1) يحصى عليه ويعلمه كما قال: (وما يعزب عن ربك) ، يا محمد، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء.
* * *
وأصله من "عزوب الرجل عن أهله في ماشيته"، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: "عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ".
* * *
=لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه، لأنه أغلب على المشهورين من القراء.
* * *
وقوله: (من مثقال ذرة) ، يعني: من زنة نملة صغيرة.
* * *
يحكى عن العرب: "خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. (2)
* * *
__________
(1) قوله: " وخبر عن أنه لا يعمل أحد " معطوف على قوله في أول هذه الفقرة: " إنما هو خبر عن وقت عمل العاملين. . . ".
(2) انظر تفسير " المثقال " فيما سلف 8: 360، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 278، وهو نص كلامه.

(15/116)


و"الذرّة" واحدة: "الذرّ"، و"الذرّ"، صغار النمل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) .
فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من (أَصْغَرَ) و (أَكْبَرَ) على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما، لأنهما لا يُجْرَيان.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن (مِنْ) لو ألقيت من الكلام، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: "وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ"، وذلك نحو قوله: (مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ) ، و (غَيْرُ اللهِ) ، [سورة فاطر: 3] . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار، وعليه عَوَامٌّ القراء،
__________
(1) انظر تفسير " الذرة " فيما سلف 8: 360، 361.
(2) لم يذكر أبو جعفر قراءة الرفع في هذه الآية، في موضعها من تفسير " سورة فاطر "، فيما سيأتي 22: 77 (بولاق) ، وسأشير إلى ذلك في موضعه هناك. وهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر، تفسيره في مواضع، كما أشرت إليه في كثير من تعليقاتي.

(15/117)


وهو أصحُّ في العربية مخرجًا، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ.
* * *
وقوله: (إلا في كتاب) ، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله = (مبين) ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. (1) أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه.
* * *
17701- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وما يعزب) ، يقول: لا يغيب عنه.
17702- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وما يعزب عن ربك) ، قال: ما يغيب عنه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .

(15/118)