تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (62)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف
عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من
عقابه = ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
* * *
و"الأولياء" جمع "ولي"، وهو النصير، وقد بينا ذلك بشواهده. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) ،
ولكن ههنا تفصيل في معنى " أولياء الله "، لم يسبق له نظير.
(15/118)
واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم.
فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم، لما عليهم من سيما
الخير والإخبات.
*ذكر من قال ذلك:
17703- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال،
حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن
عباس: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال:
الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم.
17704- حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان، عن أشعث
بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي
صلى الله عليه وسلم، مثله. (1)
17705- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله.
17706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب،
عن أبيه: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ،
قال: الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم.
17707-. . . . قال، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن
العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى قال: سمعته يقول في هذه الآية:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: من
الناس مَفَاتِيح، (2) إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم.
__________
(1) الأثر: 17704 - " أشعث بن سعد بن مالك القمي "، ثقة، مضى
برقم: 78، وهذا خبر مرسل.
(2) " مفاتيح "، جمع " مفتاح "، وهو الذي يفتح به الباب. وهذا
مجاز، إنما أراد أنهم يفتحون باب الخير للناس، وأعظم الخير ذكر
الله سبحانه وتعالى.
(15/119)
17708-. . . . قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن
سَهْل أبي الأسد، عن سعيد بن جبير، قال: سُئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن "أولياء الله"، فقال: الذين إذا رُؤُوا ذُكر
الله. (1)
17709-. . . . قال، حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: (ألا إن أولياء الله لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله
لرؤيتهم
17710-. . . . قال، حدثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر،
عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هم الذين
إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ.
17711- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرات، عن
أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم
عن "أولياء الله"، قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله.
17712-. . . . قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا
العوّام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: (ألا إن أولياء
الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، الآية، قال: إن ولي الله
إذا رُئِي ذُكِر الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
17713- حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 17708 - " سهل أبو الأسد القراري الحنفي " ثقة،
مترجم في الكبير 2 / 2 / 100، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 206، وكان
في المطبوعة: " سهل بن الأسد "، وهو تصرف من الناشر وفساد، غير
ما في المخطوطة. و " القراري "، بالقاف، قال البخاري: " وقرار،
قبيلة "، وهي من حنيفة، من بكر ومما يذكر في كتب الرجال " سهل
الفزاري " بالفاء " وسهل بن قلان القراري بالقاف وهو عندهم
مجهول، وأخشى أن يكون هو " سهل القراري "، انظر أيضًا ابن أبي
حاتم 2 / 1 / 206، وميزان الاعتدال 1: 431، ولسان الميزان 3:
123. ومهما يكن، فهذا خبر مرسل، عن سعيد بن جبير.
(15/120)
أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي
زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم
الأنبياء والشهداء! قيل: من هم يا رسول الله؟ فلعلنا نحبُّهم!
قال: هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم
من نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا
يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون) . (1)
17714- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي
زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء،
يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا:
يا رسول الله، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك!
قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله، على غير أرحام بينهم
ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى
نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ
هذه الآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
(2)
__________
(1) الأثر: 17713 - " ابن فضيل "، هو " محمد بن فضيل بن غزوان
الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم:
14247. وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو فضيل " وهو خطأ،
صوابه من تفسير ابن كثير 4: 314، إذ نقل هذا الخبر عن هذا
الموضع من التفسير. وأبوه: " فضيل بن غزوان الضبي "، ثقة، روى
له الجماعة، مضى برقم: 14247. و" عمارة بن القعقاع الضبي "،
ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 14203، 14209، 14715. و" أبو
زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي "، تابعي ثقة، روى له
الجماعة. مضى مرارًا آخرها رقم: 14715، وكان في المطبوعة
والمخطوطة: " أبو زرعة، عن عمرو بن حمزة "، ومثله في المخطوطة،
و"حمزة " سيئة الكتابة وإنما هي " جرير "، دخل حرف منها على
حرف. وقد مضى الخطأ في اسمه مرارًا. وهذا إسناد صحيح.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 310، وزاد نسبته إلى ابن أبي
الدنيا، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي.
(2) الأثر: 17714 - سلف بيان رجاله في الإسناد السابق، إلا أن
أبا زرعة بن عمرو بن جرير، لم يرو عن عمر إلا مرسلا، فهو إسناد
جيد إلا أنه منقطع.
(15/121)
17715- حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال،
حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا
شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي من أفْنَاء الناس
ونوازع القبائل، (1) قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، (2)
تحابُّوا في الله، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم
القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون،
وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: "الولي" =
أعني
__________
(1) "أفناء الناس" أخلاطهم، ومن لا يدري من أي قبيلة هو.
و"نوازع القبائل" جمع "نازع" على غير قياس، وهم الغرباء الذين
يجاورون قبائل ليسوا منهم. وإنما قلت: "جمع على غير قياس " لأن
المشهور "نزاع القبائل" كما ورد في حديث آخر. و"فاعل" الصفة
للمذكر، لا يجمع عندهم على "فواعل" إلا سماعًا، نحو "فوارس"
و"هوالك".
(2) في المطبوعة: "لم يتصل "، والصواب من المخطوطة ومسند أحمد
(3) الأثر: 17715- " بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري " شيخ
الطبري، ثقة مضى برقم: 3841، 10588، 10647، وكان في المطبوعة
هنا " الحسن بن نصر الخولاني " لا أدري من أين جاء به هكذا،
فأصاب بعض الصواب؟ وهذا عجب. أما المخطوطة، ففيها ا"لحسن بن
الخولاني "، والصواب ما أثبت. وروايته عن "يحيى بن حسان" مضت
برقم: 2643، إلا أنه وقع هناك خطأ أيضًا في اسمه، فكتب " يحيى
بن نصر"، وقد خبطنا في تصحيفه خبط عشواء، والصواب " بحر بن نصر
" فليصحح هناك. و"يحيى بن حسان التنيسي المصري "، ثقة، مضى
برقم: 2643، والراوي عنه هناك " بحر بن نصر" أيضًا، كما سلف.
و"عبد الحميد بن بهرام الفزاري "، ثقة، وثقه أحمد وغيره، مضى
مرارًا، آخرها رقم: 17417. و"شهر بن حوشب" مضى مرارًا كثيرة،
ومضى توثيقه، وثقه أخي أحمد السيد، رحمه الله وغفر له. و" عبد
الرحمن بن غنم الأشعري "، مختلف في صحبته، ويعد من الطبقة
الأولى من التابعين، بعثه عمر بن الخطاب يفقه الناس، ولازم
معاذ بن جبل، وكان أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين
بالشام، وكان له جلالة وقدر. وأبو مالك الأشعري " هو المشهور
بكنيته، والمختلف في اسمه، صحابي، مترجم في الإصابة والتهذيب
وسائر الكتب. وهذا خبر صحيح الإسناد. رواه أحمد في مسنده مطولا
5: 343، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 310، وزاد نسبته إلى
ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، وابن أبي حاتم، وابن مردويه،
والبيهقي.
(15/122)
الَّذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
"ولي الله"= هو من كان بالصفة التي وصفه
الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله (الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
17716- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في
قوله: (ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، من
هم يا ربّ؟ قال: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ، قال: أبى أن
يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ (63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا لله ورسوله، وما
جاء به من عند الله، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب
معاصيه.
* * *
وقوله: (الذين آمنوا) من نعت "الأولياء"، ومعنى الكلام: ألا إن
أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون.
* * *
فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفع
(الذين آمنوا) أم في موضع نصب؟
قيل: في موضع رفع. وإنما كان كذلك، وإن كان من نعت "الأولياء"،
لمجيئه بعد خبر "الأولياء"، والعرب كذلك تفعل خاصة في "إنّ"،
إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا:
"إن أخاك قائم الظريفُ"،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " أن يتقبل"، والصواب ما أثبت.
(15/123)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
كما قال الله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ) ، [سورة سبأ: 48] ، وكما قال:
(إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، [سورة ص:
64] . (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك،
مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب.
وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك
كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة
الدنيا وفي الآخرة، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون.
(2)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "البشرى"، التي بشر الله بها هؤلاء
القوم ما هي؟ وما صفتها؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها
الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
17717- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،
عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبى الدرداء، قال: سألت رسول
الله
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 470، 471.
(2) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف 14: 508، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/124)
صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. (1)
17718- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال: أخبرنا
الأوزاعي قال، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن
عبد الرحمن قال: سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، عن هذه الآية: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك =أو قال:
غيرك=. قال: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى
له. (2)
__________
(1) الأثر: 17717 - حديث أبي الدرداء، رواه أبو جعفر من طرق،
أصنفها في هذا الموضع لأحيل عليها في تخريج الآثار، أثرًا
أثرًا.
1 - طريق ذكوان (أبي صالح السمان) ، عن شيخ، عن أبي الدرداء،
رقم: 17717، 17733.
2 - طريق ذكوان (أبي صالح السمان) ، عن أبي الدرداء، بلا
واسطة، رقم: 17735، 17741.
3 - طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء،
بخمسة أسانيد، رقم: 17722، 17723، 17724، 17734، 17737.
4 - طريق عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم:
17736، 17743.
5 - طريق عمرو بن دينار، عن فقيه من أهل مصر، عن أبي الدرداء،
رقم: 17738.
6 - طريق عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم:
17743.
وهذا تفسير الإسناد رقم: 17717.
" سليمان "، هو الأعمش "، " سليمان بن مهران "، تابعي ثقة، مضى
مرارًا.
و" شيخ "، مجهول، وظاهر أنه تابعي. وعلة هذا الإسناد، جهالة "
الشيخ " الذي روى عنه أبو صالح السمان، وسائر الإسناد صحيح
حسن. وسيأتي في رقم: 17722، 17734، 17736، 17737، برواية أبي
صالح، عن عطاء بن يسار في الطريق الثانية، والثالثة كما فصلتها
آنفا.
(2) الأثر: 17718 - حديث عبادة بن الصامت من ثلاث طرق:
1 - طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن
عبادة بسبعة أسانيد، رقم:
17718، 17719، 17720، 17721، 17731، 17739، 17740.
2 - طريق حميد بن عبد الله المزني، عن عبادة بن الصامت،
بإسنادين، رقم: 17725، 17756.3 - طريق أيوب بن خالد بن صفوان،
عن عبادة رقم: 17730. وهذا تفسير إسنادنا هذا." العباس بن
الوليد بن مزيد الآملي البيروتي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى
مرارًا، آخرها رقم: 13461. وأبوه: " الوليد بن مزيد الآملي
البيروتي " ثقة، قال الأوزاعي شيخه: " كتبه صحيحة "، مضى برقم:
11821، 13461. و" الأوزاعي "، هو الإمام المشهور." ويحيى بن
أبي كثير الطائي "، ثقة، مضى برقم: 9189، 11505، 12760." وأبو
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها
رقم: 12822.وانظر التعليق على رقم: 17720 في سماع أبي سلمة من
عبادة بن الصامت.وهذا إسناد لم أجده عن طريق الأوزاعي، وانظر
التعليق على سائر حديث عبادة بن الصامت في الأرقام التي ذكرتها
آنفا.
(15/125)
17719- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود
عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن
عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
قول الله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. (1)
17720- حدثنا أبو قلابة قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبان، عن
يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، نحوه. (2)
__________
(1) الأثر: 17719 - هذا الإسناد لم أجده في سنن أبي داود،
يضعفه جهالة الراوي عن يحيى بن أبي كثير، ويسنده سائر الآثار
التي رويت عن ثقات، عن يحيى بن أبي كثير.
(2) الأثر: 17720 - " أبو قلابة "، هو " عبد الملك بن محمد بن
عبد الله الرقاشي الضرير " شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 4331،
5623."ومسلم، " هو " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي "، ثقة،
روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 13518." وأبان
"، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة. مضى مرارًا آخرها رقم:
13518." وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف "، لم يسمع من عبادة
بن الصامت، يدل على ذلك الأثر التالي، وقوله فيه: " نبئت عن
عبادة بن الصامت ". فقد ذكر المزي: " أنه لم يسمع من طلحة،
وعبادة بن الصامت. فأما عدم سماعه من طلحة فرواه ابن أبي خيثمة
والدوري عن ابن معين. وأما عدم سماعه من عبادة، فقاله ابن
خراش. ولئن كان كذلك، فلم يسمع أيضًا من عثمان ولا من أبي
الدرداء، فإن كلا منهما مات قبل طلحة "، التهذيب في
ترجمته.فإذا صح هذا، وهو صحيح عن الأرجح، فأخبار أبي سلمة هذه
من عبادة بن الصامت أخبار ضعاف لانقطاعها. ولذلك لم يخرج منها
شيء في الصحاح.ومن هذه الطريق، رواه أحمد في مسنده 5: 315، عن
عفان، عن أبان، عن يحيى.ورواه الدارمي في سننه 2: 123، من طريق
مسلم بن إبراهيم، عن أبان، وانظر التعليق على رقم: 17718،
وسيأتي رقم: 17740.
(15/126)
17721- حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان بن
عمر قالا حدثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة قال: نُبّئت أن عبادة
بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:
"لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال: سألتني عن
شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو
تُرَى له. (1)
__________
(1) الأثر: 17721 - هذا إسناد مختل في المطبوعة والمخطوطة على
السواء، وهو باطل لا شك في بطلانه. وأظنه اضطراب على الناسخ من
أصل أبي جعفر.
فقوله " قالا "، يدل على أن الخبر روي عن " ابن المثنى " وعن "
أبي عثمان بن عمر "، وأن هذا الثاني شيخ الطبري. ولم أجد في
شيوخه من هذه كنيته منسوبًا إلى أبيه " عمر ".
وأخرى أنه قال " حدثنا علي بن يحيى "، وهو باطل أيضًا، فليس في
الرواة عن أبي سلمة " علي بن يحيى ".
ولا أكاد أشك أن " أبا عثمان " شيخ الطبري، هو " أبو عثمان "،
" أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي "، مضى برقم: 876، 3030.
وأن الذي روى عنه " محمد بن المثنى "، هو فيما أرجح، " عثمان
بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي "، وقد سلفت روايته عنه في رقم:
15225.
ولكن لست أدري، أروى أيضًا " أبو عثمان المقدمي" شيخ الطبري،
عن " عثمان بن عمر بن فارس " أم لم يرو عنه، وإن كنت أرجح أنه
خليق أن يروى عنه.
وأما قوله: " علي بن يحيى "، فظاهر أن صوابه: " علي، عن يحيى،
عن أبي سلمة "، يعني " علي بن المبارك "، عن " يحيى بن أبي
كثير " كما سيأتي في الإسناد رقم: 17739.
وإذن، فأخشى أن يكون صواب هذا الإسناد هو:
" حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان قالا، حدثنا عثمان بن عمر،
حدثنا علي، عن يحيى، عن أبي سلمة ".
وبذلك يستقم هذا الإسناد الهالك الذي وقع في المطبوعة
والمخطوطة.
وتجد هذا الإسناد نفسه، عن محمد بن المثنى، عن عثمان بن عمر بن
فارس إلى أبي سلمة، في تاريخ الطبري 2: 208.
ومهما يكن من شيء، فهو بعد ذلك إسناد منقطع، لأن أبا سلمة لم
يسمع من عبادة بن الصامت، كما سلف في رقم: 17720.
ثم انظر التعليق على رقم: 17739، فيما سيأتي.
(15/127)
17722- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو
معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من
أهل مصر، عن أبي الدرداء: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة"، قال: سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد
سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل
المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة
الجنة. (1)
17723- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا عثمان بن سعيد،
عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر
قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة"، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم غيرَك، إلا رجلًا
__________
(1) الأثر: 17722 - هذا حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة،
التي ذكرتها في التعليق على رقم: 17717.
" أبو معاوية " الضرير هو " محمد بن خازم "، إمام ثقة، مضى
مرارًا.
و" الأعمش "، هو " سليمان بن مهران " الإمام. مضى قريبًا رقم:
17717.
و"أبو صالح" هو "ذكوان"، مضى برقم: 17717
و" عطاء بن يسار " تابعي ثقة، مضى مرارًا، يروي عن أبي الدرداء
مباشرة. ولكنه روى الخبر هنا عن رجل من أهل مصر، وكان عطاء قد
قدم مصر، ومات بالإسكندرية.
فهذا خبر في إسناده علة، لجهالة الذي روى عنه أبو الدرداء. وقد
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12: 331، رواية الخبر عن
عطاء بن يسار، وقال: " ذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه أن هذا الرجل
ليس بمعروف "، ولكن في نسخة " الفتح " خطأ، فإنه كتب " من طريق
عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن عبادة "، والصواب " عن
أبي الدرداء ".
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من طريق أبي معاوية عن الأعمش
في موضعين من مسنده 6: 447، 452.
وانظر التعليق على رقم: 17717.
(15/128)
واحدًا! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا
واحدًا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (1)
17724- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن ابن
المنكدر، سمع عطاء بن يسار يخبر، عن رجل من أهل مصر: أنه سأل
أبا الدرداء عن: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، ثم
ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. (2)
17725- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثني يحيى
بن سعيد قال، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ، عن حميد بن
عبد الله المزني قال: أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال: آية في
كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: "لهم البشرى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة"؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحدٌ قبلك!
سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك:
__________
(1) الأثر: 17723 - " سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني "، شيخ
الطبري، مضى مرارًا، آخرها رقم: 14266. وكان في المخطوطة سيئ
الكتابة، يشبه أن يكون " محمد بن عمرو "، والصواب ما في
المطبوعة.
و" عثمان بن سعيد "، لعله: " عثمان بن سعيد بن دينار القرشي "،
ثقة مترجم في التهذيب.
و" سفيان "، هو " سفيان بن عيينة ".
و" ابن المنكدر "، هو " محمد بن المنكدر "، أحد الأئمة الأعلام
مضى مرارًا برقم: 3829، 10869.
وهذا إسناد صحيح إلى عطاء، كسائر الأسانيد السالفة، إلا ما فيه
من جهالة الرجل من أهل مصر.
رواه أحمد في مسنده 6: 447، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن
المنكدر.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، وفي كتاب الرؤيا، من
طريق ابن أبي عمر العدني، عن سفيان.
وانظر التعليق على رقم: 17717، وسيأتي من طريق أخرى بعد هذه
رقم: 17724، وانظر أيضًا التعليق على رقم: 17743.
(2) الأثر: 17724 - هو مكرر الأثر السالف.
" عمرو بن عبد الحميد الآملي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 3759،
10378.
(15/129)
ما سألني عنها أحدٌ قبلك، الرؤيا الصالحة
يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له. (1)
17726- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا هشام، عن
ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: الرؤيا الحسنة، هي البشرى، يراها المسلم، أو تُرَى له.
(2)
17727-. . . . قال، حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح
__________
(1) الأثر: 17725 - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق
الثانية التي أشرت إليها في التعليق على رقم: 17718، وسيأتي من
طريق أخرى رقم: 17756.
" أبو حميد الحمصي "، " أحمد بن المغيرة "، هو " أحمد بن محمد
بن المغيرة بن سيار " أو " أحمد بن محمد بن سيار "، هكذا يذكر
في التفسير أحيانًا، شيخ الطبري، مضى مرارًا منها: 3473، 5753،
8164، 8984.
و" يحيى بن سعيد "، هو العطار الشامي الدمشقي، ضعفوه، مضى
برقم: 5753، 9224، ولكن أخي السيد أحمد في التعليق على رقم:
5753، مال إلى توثيقه.
و" عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي " ويقال في اسمه: " عمرو "،
صالح الحديث، من ثقات الشاميين، أدرك عبد الله بن بسر، ويروي
عن أبي عمرو الأنصاري، والمخارق بن أبي المخارق الذي يروي عن
ابن عمر، روى عنه يحيى بن سعيد العطار، مترجم في ابن أبي حاتم
3 \ 1 \ 127، وتعجيل المنفعة: 313.
و" الأحموسي "، ضبطه الحافظ بالضم، والواو بعد الميم.
وأما " حميد بن عبد الله المزني "، فهكذا هو في المخطوطة، وفي
مسند أحمد 5: 325 " حميد بن عبد الرحمن اليزني "، وفي ابن أبي
حاتم " حميد بن عبد الله المدني ". وأما في التاريخ الكبير
للبخاري، فاقتصر على " حميد بن عبد الله " غير منسوب إلى بلدة
أو قبيلة. وأمر نسبته، لم أستطع أن أفصل فيه، لقلة ما ذكر عنه.
وأما الاختلاف في اسم أبيه، فلم أجده في غير مسند أحمد، فلا
أدري أهو خطأ في نسخة المسند أم لا. قال البخاري: " حميد بن
عبد الله، سمع عبد الرحمن بن أبي عوف، ومالك بن أبي رشيد، سمع
منه محمد بن الوليد الزبيدي، وصفوان بن عمرو، وعمر الأحموسي "،
ومثله في ابن أبي حاتم.
مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 352، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 224، ولم
يذكر فيه جرحًا.
وهذا خبر منقطع بين حميد، وعبادة بن الصامت.
(2) الأثر: 17726 - حديث أبي هريرة، رواه الطبري من: طريق ابن
سيرين، عن أبي هريرة، وطريق أبي صالح، عن أبي هريرة.
"أبو بكر "، هو "أبو بكر بن عياش". ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم
14805.
و"هشام" هو " هشام بن حسان الأزدي القردوسي "، أحد الأعلام،
مضى مرارًا كثيرة، كان من أحفظ الناس عن ابن سيرين.
فهذا خبر صحيح الإسناد. وانظر التخريج في الخبرين التاليين.
(15/130)
قال، قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من
الله، وهي المبشِّرات. (1)
17728- حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال، حدثنا عمار بن محمد
قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، الرؤيا
الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له = وهي في الآخرة
الجنة. (2)
17729- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن يزيد قال، حدثنا
رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السَّمْح، عن عبد
الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" الرؤيا
الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من
النبوّة. (3)
__________
(1) الأثر: 17727 - هذا حديث موقوف على أبي هريرة.
"أبو بكر " هو " أبو بكر بن عياش "، كما سلف.
و" أبو حصين " هو: " عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي "، ثقة، روى
له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو صالح " هو " ذكوان" السمان، مضى قريبًا برقم: 17717.
وهذا خبر موقوف صحيح الإسناد، وسيأتي بعده مرفوعًا.
(2) الأثر: 17728 - " محمد بن حاتم بن سليمان الزمي "، المؤدب،
شيخ أبي جعفر، ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وعبد الله بن
أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم. مترجم في
التهذيب،وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 238، وتاريخ بغداد 2: 268.
و"عمار بن محمد الثوري "، ابن أخت " سفيان الثوري "، لا بأس
به، روى عنه أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو كريب، وثقه
ابن سعد وابن معين، والبخاري وقال: " كان أوثق من سيف "، وسيف
أخوه، كان شيخًا كذابًا خبيثًا يضع الحديث. وقال ابن حبان في
عمار: " فحش خطأه وكثر وهمه، فاستحق الترك " وظني أن ابن حبان
قد غالى فيه علوا شديدًا. ومع ذلك فأخشى أن يكون قوله هذا
تفسيرا لقول البخاري إنه أوثق من سيف أخيه الكذاب، وكأنه ضعفه
شيئًا، لا يبلغ منه مبلغ الترك والإسقاط، مترجم في التهذيب،
والكبير 4 \ 1 \ 29، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 393.
وإسناد هذا الخبر، إسناد صالح. وأما الإسناد الجيد الصحيح، فهو
إسناد مسلم في صحيحه 15: 23، حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي
هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رؤيا المسلم يراها
أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
(3) الأثر: 17729 - حديث عبد الله بن عمرو، سيأتي من طريق أخرى
رقم: 17754.
و" محمد بن يزيد " الذي روى عنه أبو كريب، لم يبين هنا، وأظنه
" محمد بن يزيد الحزامي البزاز " روى عن ابن المبارك، والوليد
بن مسلم، وضمرة بن ربيعة، وشريك، وابن عيينة. روى عنه البخاري
في التاريخ، وأبو كريب، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \
261، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 128، وميزان الاعتدال 3: 150، ولم
يذكر فيه البخاري جرحًا.
وأما " رشدين بن سعد المصري "، فهو ضعيف الحديث، مضى تضعيفه
برقم: 19، 1938، 2176، 2195. و " أبو كريب " يروي عن " رشدين "
مباشرة، كما سلف في الآثار التي ذكرتها.
و" عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، ثقة حافظ، مضى مرارًا،
آخرها رقم: 13570.
وأما " أبو السمح "، فهو " دراج بن سمعان "، مولى عبد الله بن
عمرو بن العاص. ثقة، متكلم فيه، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله
توثيقه فيما سلف، رقم: 3187، 5518. وكان في المطبوعة: " عن أبي
الشيخ " وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة مثله رسمًا غير منقوط.
والصواب ما أثبت، كما سيأتي في رقم: 17754.
و" عبد الرحمن بن جبير المصري "، الفقيه، ثقة، روى عن عبد الله
بن عمرو، وعقبة بن عامر، وعمرو بن غيلان بن سلمة الثقفي، وأبي
الدرداء،. كان عبد الله بن عمرو به معجبًا. مترجم في التهذيب،
وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 221.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " رشدين بن سعد ": وسيأتي بإسناد
صالح فيما سيأتي رقم: 17754.
(15/131)
17730- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن
واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن
عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقد عرفنا بشرى الآخرة،
فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له،
وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا = أو ستين جزءًا = من النبوة.
(1)
__________
(1) الأثر: 17730 - حديث عبادة بن الصامت، هذا هو الطريق
الثالث من طرقه.
" موسى بن عبيدة الربذي "، ضعيف لا تحل الرواية عنه، مضى
مرارًا، آخرها رقم: 16229.
و" أيوب بن خالد بن صفوان الأنصاري "، ثقة، متكلم فيه. روى عن
جابر بن عبد الله، وعن التابعين، مترجم في التهذيب، والكبير 1
\ 1 \ 412، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 245، وفرق البخاري في
تاريخه، وابن أبي حاتم بينه وبين " أيوب بن خالد بن أبي أيوب
الأنصاري، " وكذلك فرق بينهما أبو زرعة، قال الحافظ ابن حجر "
وجعلها ابن يونس واحدًا. قلت: وسبب ذلك أن خالد بن صفوان والد
أيوب، وأمه عمرة بنت أبي أيوب الأنصاري، فهو جده لأمه، فالأشبه
قول ابن يونس، فقد سبق إليه البخاري ". وقد رأيت أن البخاري قد
فرق بينهما في تاريخه، فلا أدري من أين قال ذلك الحافظ ابن
حجر؟
وهذا إسناد ضعيف، لضعف " موسى بن عبيدة "، وهو إسناد منقطع
أيضًا، لأن " أيوب بن خالد " لم يرو عن عبادة بن الصامت.
وكان في المطبوعة: " أو سبعين جزءًا من النبوة "، وأثبت ما في
المخطوطة.
(15/132)
17731- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد
بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن
أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، فقال:
لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا
الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17732- حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عبيد
الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز
الكعبية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت
النبوّة وبقيت المبشّرات. (2)
__________
(1) الأثر: 17731 - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق الأول
من طرقه، كما فصلتها في رقم: 17718، وهو إسناد آخر للخبر رقم:
17718.
(2) الأثر: 17732 - " أحمد بن حماد بن سعيد الدولابي "، شيخ
الطبري، ثقة، مضى برقم: 2593، 3571.
و" سفيان "، هو " ابن عيينة ".
و" عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: 20، 3778،
10274، 14673 - 14677.
وأبوه " أبو يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: 20.
و" سباع بن ثابت "، حليف لبني زهرة، عدّه ابن حجر وابن الأثير
في الصحابة، مترجم، فيهما، وفي ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 312، ولم
يذكر له صحبة. وكان في المخطوطة وحدها " سباع بن أبي ثابت "،
والصواب ما في المطبوعة.
وهذا الخبر من طريق سفيان بن عيينة، بهذا الإسناد، ورواه ابن
ماجة في سننه ص: 1283، رقم: 3896، والدارمي في سننه 2: 123،
بمثله. ورواه أحمد في مسنده 6: 381، من طريق سفيان بن عيينة
أيضًا، وروى معه ثلاثة أحاديث بالإسناد نفسه وفيه " عبيد الله
بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت "، فقال أبو عبد الرحمن
ولده: " سمعت أبي يقول: سفيان يهم في هذه الأحاديث. عبيد الله،
سمعها من سباع بن ثابت "، ثم ساق أحد الأحاديث الأربعة من طريق
عفان، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال حدثني
سباع بن ثابت "، مصرحًا بالتحديث.
وذكر ابن أبي حاتم في ترجمة " سباع بن ثابت " أن عبيد الله بن
أبي يزيد، روى عن سباع بن ثابت " من رواية ابن جريج، وحماد بن
زيد، عنه. وقال: " وأما ابن عيينة، فيروى عن عبيد الله بن أبي
يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت ".
وهذا خبر صحيح، على ما فيه من الاختلاف، وإنما الوهم فيه من
سفيان.
(15/133)
17733- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا
عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن
رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
"لهم البشرى في الحياة الدنيا"، قال: الرؤيا الصالحة يراها
المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17734- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر، قال: سألت أبا
الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة"، فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو
تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (2)
17735-. . . . قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي
صالح، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: ما
سألني عنها أحد غيرُك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو
تُرَى له. (3)
__________
(1) الأثر: 17733 - حديث أبي الدرداء، من الطريق الأولى التي
بينتها في التعليق على رقم: 17717، وروايته هنا من طريق
الأعمش، عن أبي صالح ذكوان. وانظر التعليق على رقم: 17717.
ومن هذه الطريق رواها أحمد في مسنده 6: 445، بإسناده عن عبد
الرازق، عن سفيان.
(2) الأثر: 17734 - حديث أبي الدرداء، من الطريق الثالثة التي
بينتها في رقم: 17717، وهو مكرر رقم 17722، وقد خرجته هناك.
(3) الأثر: 17735 - هذه هي الطريق الثانية لحديث أبي الدرداء
أيضًا، ولكنه رواية أبي صالح ذكوان، عن أبي الدرداء مباشرة،
كما سيأتي برقم: 17741، وقد فصلت ذلك في التعليق على رقم
17717. وهذه هي الطريق التي أشار إليها الترمذي في سننه، في
كتاب التفسير، تذييلا على الخبر الذي رواه أبو جعفر برقم:
17724.
و" عاصم "، هو " عاصم بن بهدلة "، و" عاصم بن أبي النجود "،
وهو ثقة، روى له الجماعة، روى له الشيخان مقرونًا بغيره، لأنه
كان في حفظه شيء. فأخشى أن يكون هذا الذي انفرد به مما ساء
حفظه فيه. وانظر التعليق على سائر حديث أبي الدرداء.
(15/134)
17736-. . . . قال، حدثنا جرير، عن الأعمش،
عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: "لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: سألت عنها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي
الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17737-. . . . قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد
العزيز بن رفيع، عن أبي صالح = قال ابن عيينة: ثم سمعته من عبد
العزيز، عن أبي صالح السمان= عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل
مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في
الحياة الدنيا"، قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت
عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى
له. (2)
17738-. . . . قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن
أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا،
قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال قلت: ألا تخبرني عن قول
الله تعالى ذكره: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ؟ قال: سألت
عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له.
(3)
__________
(1) الأثر: 17736 - هذه هي الطريق الرابعة لحديث أبي الدرداء،
وهي رواية أبي صالح السمان " ذكوان "، عن عطاء بن يسار، عن أبي
الدرداء، بلا واسطة. و" عطاء بن يسار "، يروي عن أبي الدرداء.
وإسناده حسن. وانظر ما قلته في التعليق على رقم: 17717، وما
سيأتي في رقم: 17743.
(2) الأثر: 17737 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة التي
بينتها في رقم: 17717.
وهذا الخبر سمعه ابن عيينة من عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن
رفيع، ثم سمعه من عبد العزيز بن رفيع مباشرة.
" وعبد العزيز بن رفيع الأسدي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة،
مضى برقم: 14810.
ومن هذه الطريق، رواه الترمذي في السنن، في كتاب التفسير،
تعقيبًا للأثر السالف برقم: 17724. ورواه أحمد في مسنده 6:
447، من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد العزيز بن رفيع، ليس
بينهما " عمرو بن دينار ".
(3) الأثر: 17738 - هذه هي الطريق الخامسة، لحديث أبي الدرداء.
" عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي "، ثقة، مضى برقم:
10885.
و" حاتم بن أبي صغيرة "، ثقة، مضى برقم: 17410، 17411.
و" عمرو بن دينار "، لم يسمع من أبي الدرداء، ولكنه رواه هنا
عن مجهول، وهو " فقيه من أهل مصر ". فهو حديث ضعيف.
(15/135)
17739-. . . . قال، حدثنا أبي، عن علي بن
مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن
عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: "هي
الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. (1)
17740- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد
الطيالسي قالا حدثنا أبان قال، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن
عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى:
(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال: لقد سألتني
عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك = أو: أحدٌ من أمتي = قال: "هي
الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. (2)
17741-. . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد
بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا
الدرداء، وسئل عن:
__________
(1) الأثر: 17739 - " حديث عبادة بن الصامت، من الطريق الأولى
التي بينتها في رقم: 17718.
وقد فصلت الحديث عنه في التعليق على رقم: 17721، ذلك الإسناد
المختل، وفي رقم: 17720، وبينت علته هناك.
ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده 5: 315.
وابن ماجه في سننه ص: 1283، رقم: 3898.
والحاكم في المستدرك 2: 340، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد
ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقد بينت قبل أن أبا سلمة بن عبد
الرحمن لم يسمع من عبادة بن الصامت، فهو إسناد منقطع. فهذه
علته، وإن كان سائر الإسناد صحيحًا.
(2) الأثر: 17740 - حديث عبادة من الطريق الأولى، كالذي قبله،
وهو مكرر رقم: 17720، وقد خرجته هناك.
(15/136)
(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في
الحياة الدنيا) ، قال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك،
هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. (1)
17742- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (لهم البشرى في
الحياة الدنيا) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو
تُرَى له. (2)
17743-. . . . وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي
الدرداء = أو ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار،
عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:
هي الرؤيا الصالحة. (3)
17744-. . . . وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:
هي الرؤيا يراها الرجل.
17745- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها
المسلم أو تُرَى له.
__________
(1) الأثر: 17741 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثانية، وهو
مكرر رقم: 17735، وخرجته هناك.
(2) الأثر: 17742 - " عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى
قريبًا رقم: 17732 ونافع بن جبير بن مطعم النوفلي" تابعي مشهور
وأحد الأئمة. مضى برقم 17429. وهذا الخبر، رواه نافع عن صحابي
لم يصرح باسمه، لعله أبو هريرة، وجهالة الصحابي لا تضر. فهو
حديث صحيح إن شاء الله.
(3) الأثر: 17743 - حديث أبي الدرداء هذا من طريقين:طريق عمرو
بن دينار عن أبي الدرداء، بلا واسطة، وهي الطريق السادسة التي
بينتها في رقم: 17717." وعمرو بن دينار " لم يسمع من أبي
الدرداء، كما بينت في رقم: 17738، فهو ضعيف لانقطاعه.
وطريق محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، وهي
الطريقة الرابعة. وقد سلف بيانها في تخريج الخبر رقم: 17736،
وانظر أيضًا حديث محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من
أهل مصر، عن أبي الدرداء، رقم: 17723، 17724.
(15/137)
17746- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة، عن
هشام بن عروة، عن أبيه: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال:
هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح.
17747-. . . . قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: هي
الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
17748-. . . . قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن
جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لهم
البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد
المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. (1)
17749- قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا
يقولون: الرؤيا من المبشِّرات.
17750- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
قيس بن سعد: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:
"ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنزلت عليّ قبلك! قال: هي
الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. (2)
17751-. . . . قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن
العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة،
وبقيت المبشِّرات! قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة
يراها الرجل أو تُرَى له. (3)
17752- قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، فهو قوله
لنبيه: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
فَضْلا كَبِيرًا) ، [سورة الأحزاب: 47] . قال: هي
__________
(1) الأثر: 17748 - هذا خبر موقوف على ابن عباس.
(2) الأثر: 17750 - هذا خبر مرسل.
(3) الأثر: 17751 - هذا خبر موقوف على ابن مسعود، صحيح
الإسناد.
(15/138)
الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له.
17753-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال،
حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عطاء في قوله: (لهم
البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر
بها في حياته.
17754- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن
الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن
عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لهم البشرى في الحياة الدنيا) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها
المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. (1)
17755- حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه
في هذه الآية: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ،
قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له.
17756- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا
صفوان قال، حدثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن
الصامت عن قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة) ، فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ
قبلك، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال
لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي!
تلك
__________
(1) الأثر: 17754 - حديث عبد الله بن عمرو، مضى من طريق أخرى
ضعيفة، برقم: 17729. " عمرو بن الحارث المصري "، ثقة، مضى
برقم: 17729.
و" دراج بن سمعان "، " أبو السمح "، ثقة، مضى أيضًا برقم:
17729، وتوثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وقد رواه أحمد
مطولا في سنده، برقم: 7044، من طريق حسن بن الأشيب، عن لهيعة،
عن دراج أبي السمح، وقال أخي: " إسناده صحيح ".وخرجه في مجمع
الزوائد 7: 175، وقال: " رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج
" وحديثهما حسن، وفيهما ضعف. وبقية رجاله ثقات ". وهذه الطريق
الأخرى من رواية ابن وهب، أوثق من طريق ابن لهيعة. وخرجه
الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 7: 36، وقال نحوه.
(15/139)
الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى
له. (1)
* * *
وقال آخرون: هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت.
*ذكر من قال ذلك:
17757- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن الزهري، وقتادة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ،
قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا.
17758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن
الضحاك: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: يعلم أين هو قبل
الموت.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن
الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة
الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها
المسلم أو ترى له = ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه
برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن
الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى
رحمة الله ورضوانه". (2)
__________
(1) الأثر: 17756 - هذه هي الطريق الثانية لحديث عبادة بن
الصامت، التي ذكرتها في رقم: 17718.
" محمد بن عوف بن سفيان الطائي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 5445،
12194، 13108 " وأبو المغيرة "، هو " عبد القدوس بن الحجاج
الخولاني "، ثقة، مضى برقم: 10371، 12194، 13108. " وصفوان "
هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة، مضى برقم: 7009،
12807، 13108 رواه أحمد من هذا الطريق نفسها في السند 5: 325،
عن أبي المغيرة، عن صفوان، عن حميد بن عبد الرحمن اليزني. "
وحميد بن عبد الله "، مضى برقم: 17725، ويشبه هناك " المزني "،
وذكرت أن في ابن أبي حاتم " المدني "، وفي المسند " اليزني "،
كما رأيت. ثم اختلاف آخر، في المسند " حميد بن عبد الرحمن
اليزني "، ولكني لم أجد هذا الاختلاف في شيء من الدواوين،
فأخشى أن يكون خطأ ناسخ من نساخ المسند. وسلف في رقم: 17725.
أن هذا إسناد منقطع بين " حميد بن عبد الله "، وعبادة بن
الصامت.
(2) حديث بغير إسناد، لم أستطع أن أجده بلفظه في مكان قريب.
(15/140)
ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه
وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال
جل ثناؤه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ) الآية، [سورة البقرة: 25] .
وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها،
ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه:
أن (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، وأما في الآخرة فالجنة.
* * *
وأما قوله: (لا تبديل لكلمات الله) ، فإن معناه: إن الله لا
خُلْفَ لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يُمْضي لخلقه
مواعيدَه وينجزها لهم، (1) وقد:-
17759- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب،
عن نافع قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسَه في
حِجْري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن
عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير! لا تبديل لكلمات
الله! فقال الحجاج: لقد أوتيت علمًا إن نفعك! (2) = قال أيوب:
فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تبديل الكلمات " فيما سلف 2: 62، تعليق: 1،
3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد أوتيت علما أن تفعل "، وهو
بين الفساد، صوابه من المستدرك للحاكم.
(3) الأثر: 17759 - رواه الحاكم في المستدرك 2: 339، 340، من
طريق أبي النعمان، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، بمثله، ليس
فيه كلمة أيوب. وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم
يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وهذا خبر عظيم القدر فيه أخلاق أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظاهرة كما علمهم رسولهم، من ترك
هيبة الجبابرة، ومن إنكار المنكر من القول والعمل، ومن اليقظة
لمعاني الكلام ومقاصد الأعمال، ومن تعليم الناس جهرة أخطاء
أمرائهم والولاة عليهم، ومن الصبر على أذى هؤلاء الجبابرة إذا
كان الأذى يمسهم في خاصة أنفسهم. فأما إذا كان الأمر أمر الله
وأمر رسوله، وأمر الكتاب المنزل بالحق إلى الديانين والجبابرة
جميعًا، يأمرهم وينهاهم على السواء، فهم لا يخافون جبارًا قد
عود سيفه سفح الدماء، ودرب لسانه على اللذع والقرص واللجاجة.
فرحم الله أمة كان هؤلاء النبلاء، أئمتها وهداتها!
(15/141)
وَلَا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (65)
وقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) ، يقول تعالى
ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة = "وهي الفوز
العظيم"، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
لا يحزنكَ، يا محمد، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون،
وإشراكهم معه الأوثان والأصنام (2) = فإنّ العزة لله جميعًا،
يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا
شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من
القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ،
لأنه لا يُعَازُّه شيء (3) = (هو السميع العليم) ، يقول: وهو
ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما
يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، مُحْصًى ذلك عليهم كله، وهو لهم
بالمرصاد. (4)
* * *
وكسرت "إن" من قوله: (إن العزة لله جميعًا) لأن ذلك خبرٌ من
الله مبتدأ، ولم يعمل فيها "القول"، لأن "القول"، عني به قول
المشركين، وقوله: (إن العزة لله جميعًا) ، لم يكن من قِيل
المشركين، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 14: 439، تعليق: 4،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الحزن " فيما سلف 10: 108، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العزة " فيما سلف 10: 421، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " السميع " و " العليم " فيما سلف من فهارس
اللغة (سمع) ، (علم) .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 471، 472 وفيه تفصيل موقع "
إن " بعد " القول " وشبهه.
(15/142)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
(66)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ
لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا
يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ
(66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كلَّ من في
السموات ومن في الأرض، ملكًا وعبيدًا، لا مالك لشيء من ذلك
سواه. يقول: فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون
من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون
المملوك، وللرب دون المربوب؟ = (وما يتبع الذين يدعون من دون
الله شركاء) ، يقول جل ثناؤه: وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون
الله = يعني: غير الله وسواه = شركاء. ومعنى الكلام: أيُّ شيءٍ
يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا، والله المنفرد
بملك كل شيء في سماء كان أو أرض؟ = (إن يتبعون إلا الظن) ،
يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا
الشك لا اليقين (1) = (وإن هم إلا يخرصون) ، يقول: وإن هم إلا
يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك، (2) عن غير علمٍ
منهم بما يقولون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن) .
(2) في المطبوعة: " تظننا " وأثبت ما في المخطوطة معجما، على
قلة إعجام الحروف فيها.
" والتظني "، هو " التظنن "، وإنما قلبت نونه الآخرة ياء
لتوالي النونات وثقل تواليها، وهو كثير فاش في كلام العرب.
(15/143)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ ربكم أيها الناس الذي
استوجب عليكم العبادة، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من
النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب
والنَّصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي
كنتم فيه بالنهار (1) = (والنهار مبصرًا) ، يقول:: وجَعَل
النهار مبصرًا، فأضاف "الإبصار" إلى "النهار"، وإنما يُبْصَر
فيه، وليس "النهار" مما يبصر، ولكن لما كان مفهوما في كلام
العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم،
وذلك كما قال جرير:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلانَ فِي السُّرَى ...
وَنِمتِ، وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ (2)
فأضاف "النوم" إلى "الليل" ووصفه به، ومعناه نفسه، أنه لم يكن
نائمًا فيه هو ولا بَعِيره.
* * *
يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما
تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا.
* * *
وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) ، يقول تعالى ذكره: إن
في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما، دلالةً وحججًا
على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل
والنهار، وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق
__________
(1) انظر تفسير " جعل " فيما سلف في فهارس اللغة (جعل) .
(2) ديوانه: 554، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 279، من قصيدة له
طويلة، أجاب بها الفرزدق.
(15/144)
قَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (68)
سكنًا، وهذا لهم معاشًا، دون من لا يخلق
ولا يفعل شيئًا، ولا يضر ولا ينفع.
* * *
وقال: (لقوم يسمعون) ، لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج
ويتفكرون فيها، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به: الذين
يسمعون بآذانهم، ثم يعرضون عن عبره وعظاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من
قومك، يا محمد: (اتخذ الله ولدًا) ، وذلك قولهم: "الملائكة
بنات الله". يقول الله منزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من
ذلك: "سبحان الله"، تنزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم
(1) = "هو الغني" يقول: الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا، فلا حاجة
به إلى ولد، (2) لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه، ليكون
عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك
غنيٌّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره، ولا يبيدُ
فيكون به حاجة إلى خلف بعده = (له ما في السموات وما في الأرض)
، يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا،
والملائكةُ عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا؟
يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ = (إن عندكم من
سلطان بهذا) ، يقول: ما عندكم أيها القوم،
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص: 47، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الغني " فيما سلف 12: 126، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/145)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
(70)
بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات
الله، من حجة تحتجون بها = وهي السلطان (1) = أتقولون على الله
قولا لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته
إليه، جهلا منكم بما تقولون، بغير حجة ولا برهان؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي
الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ
الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
(قل) يا محمد، لهم (إن الذين يفترون على الله الكذب) ، فيقولون
عليه الباطل، ويدّعون له ولدًا (2) = (لا يفلحون) ، يقول: لا
يَبْقَون في الدنيا (3)
، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى
الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه (4) = (ثم إلينا مرجعهم) ، يقول:
ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم، إلينا مصيرهم ومنقلبهم (5)
= (ثم نذيقهم العذاب الشديد) ، وذلك إصلاؤهم جهنم (6) = (بما
كانوا يكفرون) بالله في الدنيا، فيكذبون رسله، ويجحدون آياته.
* * *
ورفع قوله: (متاع) بمضمر قبله إما "ذلك"، وإما "هذا". (7)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف 12: 523، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 46،، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف ص: 53،، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 98، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(6) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 102، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 472، وفيه ": إما (هو) ، وإما
(ذاك) ".
(15/146)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ
اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
(واتل) على هؤلاء المشركين الذي قالوا: (اتخذ الله ولدًا) ، من
قومك (1) = (نبأ نوح) ، يقول: خبر نوح (2) (إذ قال لقومه يا
قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي
بين أظهركم وشقّ عليكم، (3) = (وتذكيري بآيات الله) ، يقول،
ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك (4) = (فعلى
الله توكلت) ، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم،
وتذكيري بآيات الله، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم،
فعلى الله اتكالي وبه ثقتي، وهو سَنَدي وظهري (5) = (فأجمعوا
أمركم) ، يقول: فأعدُّوا أمركم، واعزموا على ما تنوُون عليه في
أمري. (6)
* * *
يقال منه: "أجمعت على كذا"، بمعنى: عزمت عليه، (7)
ومنه قول النبي
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا) .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 102، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " كبر " فيما سلف 11: 336، 337.
(4) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) .
(5) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 14: 587، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(6) في المطبوعة: " وما تقدمون عليه "، وفي المخطوطة: " وما
سومون " غير منقوطة، وهو وهم من الناسخ، والصواب الذي أرجحه،
ما أثبت، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 473، وقد فصل القول فيه هناك.
(15/147)
صلى الله عليه وسلم:: "من لم يُجْمِع على
الصوم من الليل فلا صَوْم له"، بمعنى: من لم يعزم، (1) ومنه
قول الشاعر: (2)
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ
أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (3)
* * *
وروي عن الأعرج في ذلك ما:-
17760- حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الوهاب، عن هارون، عن أسيد،
عن الأعرج: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) ، يقول: أحكموا أمركم،
وادعوا شركاءكم. (4)
ونصب قوله: (وشركاءكم) ، بفعل مضمر له، وذلك: "وادعوا
شركاءكم"، وعطف ب"الشركاء" على قوله: (أمركم) ، على نحو قول
الشاعر:
__________
(1) هذا حديث رواه بلا إسناد. أخرجه أبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة، من حديث حفصة أم المؤمنين. انظر سنن أبي
داود 2: 441، 442، رقم: 2454.
(2) لم أعرف قائله، ولكني أظنه لأبي النجم، هكذا أذكر.
(3) نوادر أبي زيد: 133، معاني القرآن للفراء 1: 473، اللسان
(جمع) ، (زفا) ، وبعده فيما روى أبو زيد: وَتَحْتَ رَحْلِي
زَفَيَانٌ مَيْلَعُ
حَرْفٌ، إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ.
(4) الأثر: 17760 - " عبد الوهاب "، هو " عبد الوهاب بن عبد
المجيد الثقفي "، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 14229. "
وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي، مضى برقم: 4985،
11693، 15514، 15515." وأسيد "، هو " أسيد بن أبي أسيد، يزيد
"، البراد. روى الحروف عن الأعرج، مترجم في التهذيب، والكبير 2
/ 1/ 49، ولم يزد على أن قال " أسيد، حدثنا موسى، حدثنا هارون،
عن أسيد سمع عكرمة، وعن الأعرج في القراءة "، لم يذكر له
نسبًا. وفي ابن أبي حاتم 1 / 1 / 316، في ترجمة " أسيد بن يزيد
المدني "، وقال: " روى عن الأعرج، روى عنه هارون النحوي". ثم
أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد "، وقال: " واسم أبي
أسيد يزيد "، ولم يذكر له رواية عن الأعرج، ولا في الرواة عنه
هارون النحوي، فجعلهما رجلين. بيد أني رأيت ابن الجزري في
طبقات القراء 1: 381 في ترجمة " الأعرج "، وهو " عبد الرحمن بن
هرمز " قال: " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد ". وانظر هذا
الاختلاف في التهذيب، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك.
(15/148)
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ...
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (1)
فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ
على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف، (2) فكذلك ذلك في
قوله: (وشركاءكم) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته قراء الأمصار: (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا، وقوله:
(فَأَجْمِعُوا) ، بهمز الألف وفتحها، من: "أجمعت أمري فأنا
أجمعه إجماعًا.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ) ، بفتح الألف وهمزها = (وَشُرَكَاؤُكُمْ) ، بالرفع
على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم.
(3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ:
(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) ، بفتح الألف من
"أجمعوا"، ونصب "الشركاء"، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع
الحجة على القراءة بها، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن
يجوز عليه الخطأ والسهو.
* * *
وعني ب"الشركاء"، آلهتهم وأوثانهم.
* * *
وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) ، يقول: ثم لا يكن أمركم
عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه في مواضع، آخرها 13: 434، تعليق: 2،
والمراجع هناك، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 473.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " فاكتفى " بالفاء، والصواب حذفها،
وإنما خلط الناسخ.
(3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 473.
(15/149)
= من قولهم: "غُمَّ على الناس الهلال"،
وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [العجاج] : (1)
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا ... بِغُمّةٍ لَوْ
لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (2)
وقيل: إن ذلك من "الغم"، لأن الصدر يضيق به، ولا يتبين صاحبه
لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، (3) ومنه قول
خنساء:
وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه ... وَغُمَّتَهُ
عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (4)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
17761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (أمركم عليكم غمة) ، قال: لا يكبر عليكم
أمركم.
* * *
وأما قوله: (ثم اقضوا إليّ) ، فإن معناه: ثم امضوا إليّ ما في
أنفسكم وافرغوا منه، كما:-
17762- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال: اقضوا إليّ
ما كنتم قاضين.
17763- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)
، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " ومنه قول رؤبة "، وأنا أرجح أنه
خطأ من الناسخ، فلذلك وضعته بين القوسين، وإنما نقل هذا أبو
جعفر من مجاز القرآن لأبي عبيدة، وهو فيه على الصواب " العجاج
".
(2) ديوانه: 63، واللسان (غمم) ، (كمم) ، وغيرها. أول رجز له
طويل في ديوانه، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي، وما أصابه
وقومه من تميم رهط العجاج، وسلف بيان ذلك 13: 75، تعليق: 2، في
شرح بيت من هذا الرجز. وقوله: " تكموا " من قوله: " تكممه "،
أي غطاه وغشاه، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا "، قلبت
الأخيرة ياء، كما قيل في " التظنن " و " التظني "، فلما أسند
إليه الواو، قال: " تكموا ".
(3) في المطبوعة: " يتفرج عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
صواب.
(4) ديوانها: 22، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو "
من رثائها في أخيها صخر.
(15/150)
17764- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: (ثم اقضوا إليّ)
. (1) .
فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: "قد قضى فلان"، يراد:
قد مات ومَضَى.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: "القضاء"،
الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ "قضى دينه " من ذلك،
إنما هو فَرَغ منه.
* * *
وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ)
، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: "قد أفْضَى
إليّ الوَجَع وشبهه". (2)
* * *
وقوله: (ولا تنظرون) ، يقول: ولا تؤخرون.
* * *
=من قول القائل: "أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين". (3)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه
نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق، ومن
كيدهم وبوائقهم غير خائف (4) =وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا
تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ،
على عزم منكم صحيح، واستعينوا من شايعكم عليّ بآلهتكم التي
تدْعون من دون الله،
__________
(1) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ص: 33، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء 1: 474.
(3) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف 13: 322، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " من كيدهم وتواثقهم "، وهي قراءة فاسدة،
صوابها ما أثبت. والمخطوطة غير منقوطة. و " البوائق "، جمع "
بائقة ". يعني: غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه.
(15/151)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى
اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
ولا تؤخروا ذلك، فإني قد توكلت على الله،
وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي.
وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه
سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه:
(فإن توليتم) ، أيها القوم، عني بعد دعائي إياكم، وتبليغ رسالة
ربي إليكم، مدبرين، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ،
والإقرار بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، وترك إشراك الآلهة
في عبادته، فتضيعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم، لا
بسبب من قبلي، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا، ولا
عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق
والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً = (إن أجري إلا
على الله) يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على
ربي، لا عليكم، أيها القوم، ولا على غيركم = (وأمرت أن أكون من
المسلمين) ، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة،
المنقادين لأمره ونهيه، المذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه،
وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الأجر "، و " الإسلام " فيما
سلف من فهارس اللغة (ولى) ، (أجر) ، (سلم) .
(15/152)
فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم
به عن الله من الرسالة والوحي = "فنجيناه ومن معه " ممن حمل
معه = في "الفلك"، يعني في السفينة (1) = "وجعلناهم خلائف"،
يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من
قومه الذين كذبوه (2) بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، =
يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فانظر"، يا محمد =
كيف كان عاقبة المنذرين" وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على
تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا
أعقبهم تكذيبهم رسولَهم، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن
تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم، نحو الذي كان من عاقبة قوم
نوح حين كذبوه. (3)
يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ، بهم إن لم
يتوبوا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 502 / 15: 55.
(2) انظر تفسير "الخلافة" فيما سلف ص: 38، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: 93، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/153)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى
وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى
قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم، وأنهم لله
رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ = (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا
به من قبل) ، يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم
بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم =
(كذلك نطبع على قلوب المعتدين) ، يقول تعالى ذكره: كما طبعنا
على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء
الله نصيحتَهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم، بما
اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام (1) = كذلك نطبع على
قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما
دعاهم إليه رسلهم من طاعته، (2) عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم
من هؤلاء الآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل
الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم، موسى وهارون ابني عمران،
إلى فرعون مصر
__________
(1) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 14: 424، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .
(15/154)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ
(76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ
أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
وملئه، يعني: وأشراف قومه وسادتهم (1) =
(بآياتنا) ، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان
لله بالعُبُودة، والإقرار لهما بالرسالة = (فاستكبروا) ، يقول:
فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون (2) =
(وكانوا قومًا مجرمين) ، يعني: آثمين بربهم، بكفرهم بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ
مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ
هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (فلما جاءهم الحق من عندنا) ،
يعني: فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج
التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله = (قالوا إن
هذا لسحر مبين) ، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا
حقيقة له (4) = (قال موسى) ، لهم: = (أتقولون للحق لما جاءكم)
، من عند الله = (أسحر هذا) ؟ .
* * *
واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: (أسحر
هذا) ؟ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم،
لأنهم قالوا: (أسحر هذا) ؟ فقال: أتقولون: (أسحر هذا) ؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف 13: 36، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الاستكبار " فيما سلف 13: 114، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3) قوله " آثمين بربهم "، تعبير سلف مرارًا في كلام أبي جعفر،
وبينته وفسرته فيما سلف انظر 12: 303، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير " السحر " فيما سلف 13: 49، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(15/155)
وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا: "هذا
سحر"، ولم يقولوه بالألف، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال:
فيقال: فلم أدخلت الألف؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم
يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحقٌّ هذا؟
وقد علم أنه حق. قال: وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم: أسحر
هذا؟ ما أعظمه! (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ
محذوفًا، ويكون قوله: (أسحر هذا) ، من قيل موسى، منكرًا على
فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: " سحر"، فيكون تأويل
الكلام حينئذ: قال موسى لهم: (أتقولون للحق لما جاءكم) = وهي
الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه = سحرٌ،
أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه؟ فيكون "السحر" الأوّل محذوفًا،
اكتفاءً بدلالة قول موسى (أسحر هذا) ، على أنه مرادٌ في
الكلام، كما قال ذو الرمة.
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبَت ... لَهُ
مِنْ خَدَّا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ (2)
يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، وكما
قال جل ثناؤه: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا
وُجُوهَكُمْ) [سورة الإسراء: 7] ، والمعنى: بعثناهم ليسوءوا
وجوهكم = فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما
ذكرنا كثيرة، يُتْعب إحصاؤها.
* * *
وقوله: (ولا يفلح الساحرون) ، يقول: ولا ينجح الساحرون ولا
يَبْقون. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 474.
(2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 327، تعليق: 2.
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 146، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/156)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ
لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا
بِمُؤْمِنِينَ (78)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ
وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملأه لموسى:
(أجئتنا لتلفتنا) ، يقول: لتصرفنا وتلوينا = (عمّا وجدنا عليه
آباءنا) ، من قبل مجيئك، من الدين.
* * *
= يقال منه: "لفت فلانٌ [عنق فلان" إذا لواها، كما قال رؤبة] :
(1)
*لَفْتُا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* (2)
"التهزيع": الدق، و"اللفت"، اللّي، كما:-
17765- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (لتلفتنا) ، قال: لتلوينا عما وجدنا عليه
آباءنا.
* * *
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، يعني العظمة، وهي
"الفعلياء" من "الكبر". ومنه قول ابن الرِّقاع:
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة: " كما قال ذو الرمة "، وهو خطأ
لا شك فيه، صوابه ما أثبت، كما دل عليه مجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 280، وأنا أرجح أن ذلك من الناسخ، لا من أبي جعفر، لأنه نقل
عن أبي عبيدة. وانظر مثل هذا فيما سلف ص: 150، تعليق: 1: فوضعت
الصواب بين القوسين.
(2) ديوانه 24، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 280، اللسان (هزع) ،
من رجز ذكر فيه نفسه، يقول قبله، مشبها نفسه بالأسد: فَإنْ
تَرَيْنِي أَحْتَمِي بِالسَّكْتِ
فَقَدْ أَقُومُ بِالْمَقَامِ الثَّبْتِ
أشْجَعَ مِنْ ذي لِبَدٍ بِخَبْتِ
يَدُقُّ صُلْباتِ العِظَامِ رَفْتِي
و" الرفت "، الدق والكسر. وقوله " سواء اللفت "، أي " سوى
اللفت " " سواء " (بفتح السين) و " سوى " (بكسر السين) ،
بمعنى: غير.
(15/157)
سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِش لا يُدَا ...
نِيهِ تِجِبَّارَةٌ وَلا كِبْرِياءُ (1)
* * *
17766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال:
الملك.
17767-. . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد:
(وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال: السلطان في الأرض.
17768-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال:
بلغني، عن مجاهد قال: الملك في الأرض.
17769-. . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:
(وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال: الطاعة.
17770- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) قال:
الملك.
17771-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17772- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) لم أجد البيت في مكان آخر، وكان في المطبوعة: " تجباره "،
ومثله في المخطوطة، أما ضبطه فقد شغلني، لأن أصحاب اللغة لم
يذكروا في مصادر " الجبروت " سوى " التجبار " (بفتح فسكون)
بمعنى الكبر. فكأن قارئه يقرؤه كما في المطبوعة والمخطوطة "
تجباره " (بفتح فسكون) ، مضافا إلى الهاء. وظني أن الضبط الذي
ذهبت إليه أجود، وإن لم يذكروه في المصادر في كتب اللغة التي
بين أيدينا. ومصدر " تِفِعَّال " (بكسر التاء والفاء وتشديد
العين) ، هو قياس التصدير في " تَفَعَّل " لكنها صارت مسموعة
لا يقاس على ما جاء منها الشافية 1: 166) ، نحو " تِمِلَّاق "
ودخول التاء في مثله في المصادر جائز في العربية. وبالضبط الذي
ضبطته يستقيم وزن الشعر، فأخشى أن يكون هذا المصدر على هذا
الميزان، مما أغفلته كتب اللغة.
(15/158)
17773- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز
قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد قال: السلطان في الأرض.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني، وذلك أن
الملك سلطان، والطاعة ملك، غير أن معنى "الكبرياء"، هو ما ثبت
في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك.
* * *
وقوله: (وما نحن لكما بمؤمنين) ، يقول: "وما نحن لكما" يا موسى
وهارون "بمؤمنين"، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا.
* * *
(15/159)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ
السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ
مُلْقُونَ (80)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا
جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ
مُلْقُونَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل
من يسحر من السحرة، عليم بالسحر (1) = (فلما جاء السحرة) ،
فرعونَ = قال موسى: (ألقوا ما أنتم ملقون) ، من حبالكم
وعصيِّكم.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: "فأتوه بالسحرة، فلما جاء
السحرة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله: (فلما جاء السحرة) ، على
ذلك، فترك ذكره.
وكذلك بعد قوله: (ألقوا ما أنتم ملقون) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك
ذكرُه، وهو: (فألقوا حبالهم وعصيهم) = (فلما ألقوا قال موسى) ،
ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: 155: تعليق: 4، والمراجع
هناك.
= وتفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(15/159)
فَلَمَّا أَلْقَوْا
قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ
سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا
أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ
اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه، قال
لهم موسى: ما جئتم به السحر.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق (مَا جِئْتُمْ بِهِ
السِّحْرُ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون،
أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم
به أيّها السحرة، هو السحر.
* * *
وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين: (مَا جِئْتُمْ بِهِ
آلسِّحْرُ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا
به، أسحر هو أم غيره؟ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، قراءة من
قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله
وسلامه عليه، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا
حقيقة له، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه، أي شيء هو؟
وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء
بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله
آتاه، فلم يكن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 475، وفيه تفصيل مفيد.
(15/160)
يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في
الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم
عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به
من ذلك بالحق الذي أتاه، (1)
ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه. (2)
وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في "السحر" إن كان
الأمر على ما وصفت، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن
يقولوا: "ما جاءني به عمرو درهمٌ = والذي أعطاني أخوك دينار"،
ولا يكادون أن يقولوا (3)
: الذي أعطاني أخوك الدرهم = وما جاءني به عمرو الدينار؟
قيل له: بلى، كلام العرب إدخال "الألف واللام " في خبر "ما"
و"الذي" إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب،
بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر
حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك
بغير "الألف واللام"، (4) إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود
ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في
الخبر. (5) وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة،
وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها
الله عَلَمًا له على صدقه
__________
(1) في المخطوطة: " ما جاؤوا به من ذلك الحق الذي أتاه "،
وأرجح أن ناسخ المخطوطة قد أسقط شيئًا من الكلام، ولكن ما في
المطبوعة يؤدي عن معناه، وذلك بزيادة الباء في " بالحق "، وإن
كانت الجملة عندي ضعيفة.
(2) في المطبوعة: " بجده " بالجيم، والصواب بالحاء. و " الحد "
الشدة والبأس والسطوة.
(3) هكذا في المخطوطة " لا يكادون أن يقولوا "، وبعد " يقولوا
" حرف " ط " دلالة على الخطأ، وليس خطأ. وقد عقد ابن هشام في
شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 98 - 102، فصلا جيدًا في
وقوع خبر " كاد " مقرونا به " أن "، وذكر شواهده في الحديث وفي
الشعر، واحتج لذلك أحسن الاحتجاج.
(4) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " واللام ".
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 475.
(15/161)
ونبوته، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى:
السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو
الذي جئتم به أنتم، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله
سيبطله. فقال: (إن الله سيبطله) ، يقول: سيذهب به، فذهب به
تعالى ذكره، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا
يتلقَّفه، حتى لم يبق منه شيء = (إن الله لا يصلح عمل
المفسدين) ، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما
يكرهه، وعمل فيها بمعاصيه. (1)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (مَا أَتَيْتُمْ بِهِ
سِحْرٌ) .
* * *
وفي قراءة ابن مسعود: (مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ) ، (2) وذلك
مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإفساد " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد) .
(2) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 475.
(15/162)
وَيُحِقُّ اللَّهُ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى
خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ (83)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُحِقُّ
اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
(82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة:
(ويحق الله الحق) ، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من
عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه = "بكلماته"، يعني: بأمره (1)
= (ولو كره المجرمون) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم، (2)
بمعصيتهم إياه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا
ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ
فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى، مع ما أتاهم
به من الحجج والأدلّة (إلا ذرية من قومه) خائفين من فرعون
وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع.
فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل.
*ذكر من قال ذلك:
17774- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه) ، قال، كان ابن عباس
يقول: "الذرية": القليل.
17775- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: (فما آمن
لموسى إلا ذرية من قومه) ، "الذرية"، القليل، كما قال الله
تعالى: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)
[سورة الأنعام: 133]
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه
موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي
الأبناء، فقيل لهم "ذرية"، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل
إليهم موسى عليه السلام. (3)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " يحق الحق بكلماته " فيما سلف 13: 407، تعليق:
2، 3، والمراجع هناك.
(2) انظر بيان معنى " أثم بربه " فيما سلف ص: 155، تعليق: 3:،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الذرية " فيما سلف 12: 127، 128، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
وانظر تفسير بمعنى " القليل " في معاني القرآن للفراء 1: 476.
(15/163)
17776- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن
عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد
في قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال: أولاد
الذين أرسل إليهم من طول الزمان، ومات آباؤهم.
17777- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
17778- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
17779- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال:
أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان ومات آباؤهم.
17780- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون
وملئهم أن يفتنهم) ، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم، فطال
عليهم الزمان وماتت آباؤهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم
فرعون.
*ذكر من قال ذلك:
17781- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فما آمن لموسى إلا ذرية من
قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ، قال: كانت الذرية
التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير،
منهم: امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة
خازنه.
* * *
(15/164)
وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا
القول، وذلك ما:-
17782- حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ذرية من قومه) ، يقول:
بني إسرائيل.
* * *
=فهذا الخبر، ينبئ عن أنه كان يرى أن "الذرية" في هذا الموضع،
(1) هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ
الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن "الذرية"، في هذا الموضع أريد بها
ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن
يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم، فآمن منهم من ذكر
الله، بموسى.
وإنما قلت: "هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك"، لأنه لم يجر في
هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون "الهاء"، في قوله: "من
قومه"، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر
فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ، من خبرٍ
ولا نظرٍ.
وبعدُ، فإن في قوله: (على خوف من فرعون وملئهم) ، الدليلُ
الواضح على أن الهاء في قوله: (إلا ذرية من قومه) ، من ذكر
موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان
الكلام، "على خوف منه"، ولم يكن (على خوف من فرعون) .
* * *
وأما قوله: (على خوف من فرعون) ، فإنه يعني على حال خوف ممن
آمن من ذرية قوم موسى بموسى = فتأويل الكلام: فما آمن لموسى
إلا ذرية من قومه، من بني إسرائيل، وهم خائفون من فرعون وملئهم
أن يفتنوهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ينبئ عنه "، وأثبت ما في المخطوطة.
(15/165)
وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل:
"فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه"، لأن الذين آمنوا به إنما
كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم
"الذرية"، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من
العرب وآباؤهم من العجم: "أبناء". (1) .
والمعروف من معنى "الذرية" في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت
إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: (ذُرِّيَّةَ
مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) ، [سورة الإسراء: 3] ، وكما قال:
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ
وَيُوسُفَ) ثم قال بعد: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
وَإِلْيَاسَ) ، [سورة الأنعام: 84، 85] ، فجعل من كان من قبل
الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.
* * *
وأما قوله: (وملئهم) ، فإن "الملأ": الأشراف. (2) وتأويل
الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
* * *
واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله:
(وملئهم) ، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه
وجَّه الكلام إلى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف
من فرعون) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل.
* * *
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: (3)
عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك
إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر، (4) ذهب الوهم إليه وإلى
من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: "قدم الخليفة فكثر الناس"،
تريد، بمن معه = "وقدم فغلت الأسعار"، لأنك تنوي بقدومه قدوم
من معه. (5)
* * *
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 476.
(2) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 155 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة: " نحويي الكوفة "، وأثبت ما في المخطوطة ".
(4) في المطبوعة: "الخوف"، والصواب من معاني القرآن للفراء.
أما المخطوطة فقد أسقط ناسخها وكتب: "لأن الملك، وقال: ألا
ترى".
(5) في المطبوعة ": لأنا ننوي بقدومه. . . "، وفي المخطوطة: "
لأنا ننوي بقدومه وقدوم من معه "، وهو خطأ، وأثبت ما في معاني
القرآن للفراء.
(15/166)
قال: وقد يكون أن تريد أن بـ "فرعون" آل
فرعون، وتحذف "الآل"، (1) فيجوز، كما قال: (وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ) ، [سورة يونس: 82] ، يريد أهل القرية، والله
أعلم. قال: ومثله قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ،
[سورة الطلاق: 1] . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال:
"الهاء والميم" عائدتان على "الذرية". ووجَّه معنى الكلام إلى
أنه: على خوف من فرعون، وملأ الذرية = لأنه كان في ذرية القرن
الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن
كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى.
* * *
وقوله: (أن يفتنهم) ، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى
على خوف من فرعون = "أن يفتنهم" بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم،
ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. (3)
وقال: (أن يفتنهم) ، فوحَّد ولم يقل: "أن يفتنوهم"، لدليل
الخبر عن فرعون بذلك: أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه، لما
قد تقدم من قوله: (على خوف من فرعون وملئهم) .
* * *
وقوله: (وإن فرعون لعال في الأرض) ، يقول تعالى ذكره: وإن
فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه = "وإنه لمن المسرفين"،
وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، (4) وذلك كفره بالله
وتركه الإيمان به، وجحودُه وحدانية الله، وادّعاؤه لنفسه
الألوهة، وسفكه الدماء بغير حِلِّها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة، " وبحذف "، وفي المخطوطة: " فتحذف آل فرعون
"، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(2) هذا الذي مضى نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 476،
477.
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن) .
(4) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف ص: 37، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(15/167)
وَقَالَ مُوسَى يَا
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ
مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه
لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته
= (فعليه توكلوا) ، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا، (1)
فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه (2) = (إن كنتم
مسلمين) ، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا.
(3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: (على
الله توكلنا) ، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا.
* * *
وقوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، يقول جل ثناؤه
مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر
هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا! (4) = يعنون قوم
فرعون.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته
ابتلاء قوم فرعون بهم.
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 147، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " ويسلم "، وفي المخطوطة: " ولم يسلم "،
والصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) .
(4) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن) .
(15/168)
فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم،
فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم
عليه وهوان الآخرين.
*ذكر من قال ذلك:
17783- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن
أبي مجلز، في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ،
قال: لا يظهروا علينا، فيروا أنهم خير منا.
17784- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن
عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة
للقوم الظالمين) ، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم
خيرٌ منّا.
17785- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن
أبي الضحى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا
تسلّطهم علينا، فيزدادوا فتنة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
*ذكر من قال ذلك:
17786- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تسلطهم
علينا فيفتنونا.
17787- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تسلطهم علينا
فيضلونا.
17788- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = وقال
أيضًا: فيفتنونا.
17789- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(15/169)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تجعلنا فتنة
للقوم الظالمين) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من
عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم
ولا عُذِّبوا"، فيفتتنوا بنا.
17790- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ،
قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم
فرعون: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا"،
فيفتتنوا بنا.
17791- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا
فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا
بأيديهم، فيفتتنوا ويقولوا: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا
عليهم ولا عذِّبوا".
17792- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تبتلنا ربنا
فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم، هذه الفتنة. وقرأ: (فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ) ، [سورة الصافات: 63] ، قال المشركون، حين
كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم،
أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم
رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون
وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى
والإقرار به، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم "فتنة"،
وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله.
وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى
عاجلتهم من الله محنةٌ
(15/170)
وَنَجِّنَا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ
بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
في أنفسهم، من بلية تنزل بهم، فاستعاذ
القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان
بالله بأسبابهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك،
فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين، قوم فرعون، لأنهم كان
يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن
اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا.
* * *
= يقال منه: "تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا"، إذا اتخذه. وكذلك
تبوَّأ مصْحفًا"، إذا اتخذه، "وبوأته أنا بيتًا": إذا اتخذته
له. (1)
* * *
= (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ
تصلُّون فيها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف 7: 164 / 12: 541.
(15/171)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:
(واجعلوا بيوتكم قبلة) . (1)
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
17793- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حميد، عن
عكرمة، عن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: مساجد.
17794- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ،
قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.
17795-. . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال، حدثنا
زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله
تعالى: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا يَفْرَقُون من
فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: (اجعلوا بيوتكم قبلة) ،
يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها.
17796- حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور،
عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: خافوا، فأمروا أن
يصلوا في بيوتهم.
17797- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن
يصلوا في بيوتهم.
17798- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شبل، عن
خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)
، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17799- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا لا يصلون إلا في
البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في
بيوتهم.
__________
(1) انظر تفسير " القبلة " فيما سلف 3: 131.
(15/172)
17800-. . . . قال، حدثنا جرير عن ليث، عن
مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17801- قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي
مالك: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف
فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.
17802- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:
(واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: مساجد.
17803-. . . . قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا إسرائيل، عن
منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا يصلون
في بيوتهم يخافون.
17804- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان،
عن الضحاك: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) ، قال: مساجد.
17805- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ،
قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17806- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في
قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قال أبي (1) اجعلوا في
بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك "القبلة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة.
__________
(1) في المطبوعة وحدها: " قال قال أبو زيد "، يعني، أباه
زيدًا، والقائل هو " ابن زيد ". وأثبت ما في المخطوطة.
(15/173)
*ذكر من قال ذلك:
17807- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن
بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
(واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يعني الكعبة.
17808- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (واجعلوا بيوتكم
قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) ، قال: قالت بنو إسرائيل
لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم
أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة.
17809- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: (واجعلوا
بيوتكم قبلة) ، يقول: وجِّهوا بيوتكم، "مساجدكم" نحو القبلة،
ألا ترى أنه يقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)
[سورة النور: 36] .
17810- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن
أبي يحيى، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قِبَل
القبلة.
17811- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (بيوتكم قبلة) ، قال: نحو الكعبة، حين خاف
موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا
أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا.
17812- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، ثم ذكر مثله
سواء.
17813-. . . . قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
(15/174)
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما
بمصر بيوتا) ، مساجد.
17814-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: (أن تبوءا لقومكما
بمصر بيوتًا) ، قال: مصر، "الإسكندرية".
17815- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر
بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون
الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوا نحو
القبلة.
17816- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (بيوتكم قبلة) ، قال: نحو القبلة.
17817- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن
الضحاك: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا)
قال: مساجد = (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قبل القبلة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
17818- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن
سعيد بن جبير: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: يقابل بعضها
بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قدمنا
بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني "البيوت" = وإن كانت المساجد
بيوتًا = البيوت المسكونة، إذا ذكرت باسمها المطلق دون
المساجد. لأن "المساجد" لها اسم هي به معروفة، خاصٌّ لها، وذلك
"المساجد". فأمّا "البيوت" المطلقة بغير وصلها بشيء، ولا
إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة.
(15/175)
وكذلك "القبلة" الأغلب من استعمال الناس
إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا
إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به،
دون الخفيّ المجهول، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك = ولم
يكن على قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن
معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب = لم يجز لنا توجيهه
إلى غير الظاهر الذي وصفنا.
وكذلك القول في قوله (قبلة)
* * *
= (وأقيموا الصلاة) ، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة
بحدودها في أوقاتها. (1) . وقوله: (وبشر المؤمنين) ، يقول جل
ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي
الله، يا محمد، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة
(قوم) .
(2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 124، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(15/176)
وَقَالَ مُوسَى
رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ
مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت
فرعون وكبراء قومه وأشرافهم (1) = وهم "الملأ" = "زينة"، من
متاع الدنيا وأثاثها (2) = (وأموالا) من أعيان الذهب والفضة =
(في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) ، يقول موسى لربه:
ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، بمعنى: ليضلوا
الناسَ، عن سبيلك، ويصدّوهم عن دينك.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، بمعنى: ليضلوا
هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى. (3)
* * *
فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه، أعطَى فرعون وقومه، ما
أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها، ليضلوا الناس عن دينه = أو
ليضلُّوا هم عنه=؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما
أعطاهم لذلك، (4) فلا عتب عليهم في ذلك؟
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 166، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف 12: 389.
(3) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 477.
(4) في المطبوعة: " ما أعطاه لأجله "، وأثبت ما في المخطوطة.
(15/177)
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. (1)
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه "اللام" التي في
قوله: (ليضلوا) .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما
قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا) ، [سورة القصص: 8] ، أي فكان لهم = وهم لم يلتقطوه
ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه
"اللام" تجيء في هذا المعنى. (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: هذه "اللام"، "لام كي" (3) = ومعنى
الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم، كي يضلوا = ثم دعا عليهم.
* * *
وقال آخر: هذه اللامات في قوله: (ليضلوا) و (ليكون لهم عدوًا)
، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم =
والتقطوه لكونه = لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل
"لام كي"، في معنى "لام الخفض"، و"لام الخفض" في معنى "لام
كي"، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ)
(4) [سورة التوبة: 95] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال
الشاعر: (5)
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلا لِتَسْمُو ... وَلَكِنَّ
المُضَيِّعَ قَدْ يُصَابُ
قال: وإنما يقال: "وما كنت أهلا للفعل"، ولا يقال "لتفعل" إلا
قليلا. قال: وهذا منه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة، أسقط الناسخ فكتب: " فلا عتب عليهم في ذلك
بخلاف ما توهمت "، وقد أصاب ناشر المطبوعة فيما استظهره من
السياق.
(2) أي معنى العاقبة والمآل.
(3) هو الفراء في معاني القرآن 1: 477.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " يحلفون بالله " بغير السين، وهذا
حق التلاوة.
(5) لم أعرف قائله.
(15/178)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندي أنها "لام كي" = ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم
من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك
عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: (لأَسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ، [سورة الجن: 16-17] .
* * *
وقوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، هذا دعاء
من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها،
ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: (مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى
أَدْبَارِهَا) ، [سورة النساء: 47] . يعني به: من قبل أن
نغيرها عن هيئتها التي هي بها.
* * *
= يقال منه: "طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا
وطُمُوسا". وقد تستعمل العرب "الطمس" في العفوّ والدثور، وفي
الاندقاق والدروس، (1) كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ...
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُول (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة
منهم فيه مثل قولنا.
*ذكر من قال ذلك:
17820- حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال، حدثنا حجاج قال،
حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في
قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: اجعل سُكّرهم حجارة. (3)
17821- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) انظر تفسير " الطمس " فيما سلف 8: 444، 445.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 4: 424 / 8: 444.
(3) سقط من الترقيم سهوًا، رقم: 17819.
(15/179)
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن
كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة.
17822- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية: (اطمس على أموالهم) قال: اجعلها
حجارة.
17823- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا إسحاق
قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر عن الربيع
بن أنس في قوله: (اطمس على أموالهم) ، قال: صارت حجارة.
17824- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت
حجارة.
17825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن
حَرْثًا لهم صارت حجارة. (1)
17826- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا
سفيان: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: يقولون: صارت حجارة.
17827- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى
الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في
قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: صارت حجارة.
17828- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ،
قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.
17829- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ربنا اطمس
على
__________
(1) في المطبوعة: " حروثًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب
أيضًا.
(15/180)
أموالهم) ، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة
على هيئة ما كانت.
17830- حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم
ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم
وعَدَسهم، وكلُّ شيء.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها.
*ذكر من قال ذلك:
17831- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: أهلكها.
17832- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17833- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17834- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ربنا اطمس على أموالهم) ،
يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم.
* * *
وأما قوله: (واشدد على قلوبهم) ، فإنه يعني: واطبع عليها حتى
لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:-
17835- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: "ربنَا
اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم"، فاستجاب
الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم
ينفعه الإيمان.
17836- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(15/181)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
(واشدد على قلوبهم) ، يقول: واطبع على قلوبهم = (حتى يروا
العذاب الأليم) ، وهو الغرق.
17837- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم) ، بالضلالة.
17838-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم) ، قال:
بالضلالة.
17839- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17840- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واشدد على قلوبهم) ،
يقول: أهلكهم كفارًا.
* * *
وأما قوله: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، فإن معناه:
فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته، حتى يروا العذاب
الموجع، (1) كما:-
17841- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا يؤمنوا) ، بالله فيما يرون من
الآيات = (حتى يروا العذابَ الأليم) .
17842- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17843-. .. . قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17844- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر تفسير " الأليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(15/182)
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17845- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري
يقول: (فلا يؤمنوا) ، يقول: دعا عليهم. (1)
* * *
واختلف أهل العربية في موضع: (يؤمنوا) .
فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء، أو
يكون دُعاء عليهم إذ عصوا. وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان
يقول: هو نصبٌ، عطفًا على قوله: (ليضلوا عن سبيلك) .
* * *
وقال آخر منهم، (2) وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ، على
الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: (3)
فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى ... وَلا
تَلْقَنِي إِلا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ (4)
بمعنى: "فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى"، "ولا لقيتني"، على
الدعاء.
* * *
__________
(1) الأثر: 17845 - "المنقري "، هكذا في المطبوعة. وفي
المخطوطة: " المعري " غير منقوطة، وقد أعياني أن أعرف من يعني.
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 281.
(3) هو الأعشى.
(4) ديوانه: 58، من قصيدته في هجاء يزيد بن مسهر الشيباني،
يقول له: فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابْنُ مُسْهرٍ ...
بِرَغْمِكَ إذْ حَلّتْ عَلَيْنَا اللَّهَازِمُ
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي، كَأَنَّمَا ... زَوَى
بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَى المَحَاجِمُ
فَلاَ يَنبَسِطْ. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
فأقسم بالله الذي أنا أعبده ... لتصطفقن يوما عليك المآتم
.
(15/183)
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه
قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته
إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل: (فلا يؤمنوا) ،
في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر:
(1)
يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ
فَنَسْتَريحَا (2)
قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء، لأنه ليس بشرط. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنه في موضع جزم على
الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا = وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله
دعاءٌ، وذلك قوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ،
فإلحاق قوله: (فلا يؤمنوا) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ
وأولى.
* * *
وأما قوله: (حتى يروا العذاب الأليم) ، فإنّ ابن عباس كان
يقول: معناه: حتى يروا الغرق = وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من
بعض وجوهها فيما مضى. (4)
17846- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال ابن عباس: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)
، قال: الغرق.
* * *
__________
(1) هو أبو النجم.
(2) سيبويه 1: 421، معاني القرآن للفراء 1: 478، وغيرهما.
وسيأتي في التفسير 13: 159 (بولاق) . من أرجوزة له في سليمان
بن عبد الملك، لم أجدها مجموعة في مكان. و "العنق "، ضرب من
السير. و" الفسيح " الواسع البليغ.
(3) هذا الذي سلف نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 477، 478.
(4) انظر ما سلف رقم: 18735، 18736.
(15/184)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ قَدْ
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ
سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه
وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل
ثناؤه: (قال) الله لهما: (قد أجيبت دعوتكما) ، في فرعون وملئه
وأموالهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف نسبت "الإجابة" إلى اثنين و"الدعاء"، إنما
كان من واحد؟
قيل: إن الداعي وإن كان واحدًا، فإن الثاني كان مؤمِّنًا، وهو
هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمِّن داعٍ. (1)
وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17847- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: (قد أجيبت
دعوتكما) ، قال: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: (قد
أجيبت دعواتكما) .
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين،
وأنشد في ذلك: (2)
فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تُعْجَلانَا ... بِنزعِ أُصُولِهِ
وَاجْتَزَّ شِيحَا (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 478.
(2) هو مضرس بن ربعى الأسدي.
(3) الصاحبي: 186، ابن يعيش 10: 49، واللسان (جزز) ، وسيأتي في
التفسير 26: 103، (بولاق) . من كلمة له، لم أجدها مجموعة في
مكان، ومنها أبيات في حماسة ابن الشجري 27، 204، يقولها في
الشواء، يقول قبل البيت: وَفِتْيَانٍ شَوَيْتُ لَهُمْ شِوَاءً
... سَريعَ الشَّيِّ كنْتُ بِهِ نَجِيحَا
فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلاَتٍ ... دَوَامِي الأَيْدِ
يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وقُلْتُ لِصَاحِبي: لا تَحْبِسَانَا ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
ويروى " لا تحبسنا "، ولا شاهد فيها، ويروى " واجدز " (بتشديد
الزاي) وقلب " التاء دالا، ورواية الطبري الآتية: " لا تحبسانا
" أيضًا.
" النجيح ": المجد السريع. واليعملات: النوق. و" الدوامي ": قد
دميت أيديها من طول السير وشدته. و" السريح ": خرق أو جلود تشد
على أخفاف الإبل إذا دميت. ويقول لصاحبه: لا تحبسنا عن الشيء =
أو: لا تجعلنا نعجل عليك بالدعاء، بطول تلبثك في نزع الحطب من
أصوله، بل خذ ما من تيسر قضبانه وعيدانه، وائتنا به لنشوي.
(15/185)
17848- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زكريا بن
عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح
قال: (قد أجيبت دعوتكما) قال: دعا موسى، وأمن هارون.
17849- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى
بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى، وأمَّن هارون.
17850-. . . . قال: حدثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن
كعب قال: دعا موسى وأمّن هارون.
17851- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية قال: (قد أجيبت دعوتكما) ، قال: دعا
موسى، وأمن هارون.
17852- قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد
الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا
موسى وأمَّن هارون، فذلك قوله: (قد أجيبت دعوتكما) .
(15/186)
17853- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا
عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: "قد
أجيبت دعوتكما" قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فذلك قوله:
(قد أجيبت دعوتكما) .
17854- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (قد أجيبت دعوتكما) لموسى وهارون
= قال ابن جريج: قال عكرمة: أمّن هارون على دعاء موسى فقال
الله: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) .
17855- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان
هارون يقول: آمين فقال الله: (قد أجيبت دعوتكما) فصار التأمين
دعوة صار شريكه فيها.
* * *
وأما قوله: (فاستقيما) ، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون
بالاستقامة والثبات على أمرهما، من دعاء فرعون وقومه إلى
الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي
أخبرهما أنه أجَابَهما فيه، (1) كما:-
17856- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فاستقيما) : فامضيا لأمري، وهي
الاستقامة = قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه
الدعوة أربعين سنة. (2)
* * *
وقوله: (ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون) ، (3) يقول: ولا
تسلكانّ طريق
__________
(1) انظر تفسير " الاستقامة "، فيما سلف من فهارس اللغة (قوم)
.
(2) هكذا في المطبوعة والدر المنثور: " بعد هذه الدعوة "، وفي
المخطوطة: " بعد هذه الآية "، إلا أن " الآية " سيئة الكتابة.
(3) انظر تفسير " اتبع " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة
(اتبع) ، (سبل) . وما سيأتي بعد قليل في تفسير الآية التالية.
(15/187)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي،
فإن وعْدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به
وبقومه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى
جاوزوه (1) = (فأتبعهم فرعون) ، يقول: فتَبعهم فرعون (وجنوده)
.
= يقال منه "أتْبَعته" و"تبعته"، بمعنى واحد.
وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه
أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام "أتبعهم" بهمز الألف، وإذا
أريد: اتبع أثرهم، أو اقتدى بهم، فإنه من "اتّبعت" مشددة التاء
غير مهموزة الألف.
* * *
(بغيًا) على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل
(2) = (وعدْوًا) ، يقول: واعتداء عليهم،
* * *
وهو مصدر من قولهم: "عدا فلان على فلان في الظلم، يعدو عليه
عَدْوًا" مثل "غزا يغزو غزوا". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " جاوز " فيما سلف 5: 345 / 13: 80.
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف ص: 53، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " العدوان " فيما سلف 14: 151، تعليق: 4،
والمراجع هناك.
(15/188)
وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ: (بَغْيًا
وَعُدُوًّا) ، وهو أيضًا مصدر من قولهم: "عَدَا يَعدُو
عُدُوًّا"، مثل: "علا يعلو عُلُوًّا". (1)
* * *
= (حتى إذا أدركه الغرق) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق (2) =
وفي الكلام متروك، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه،
وذلك: "فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه"= فغرقناه (حتى
إذا أدركه الغرق) .
* * *
وقوله: (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
وأنا من المسلمين) ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين
أشفى على الغرق، (3) وأيقن بالهلكة: (آمنت) ، يقول: أقررت،
(أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة: (أَنَّهُ) بفتح
الألف من "أنه"، على إعمال "آمَنْتُ" فيها ونصبها به.
* * *
وقرأ آخرون: (آمَنْتُ إِنَّهُ) بكسر الألف من "إنه" على ابتداء
الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. (4)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما
قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12: 35، 36.
(2) انظر تفسير " الإدراك " فيما سلف 12: 13 - 21.
(3) في المطبوعة: " أشرف على الغرق "، لم يحسن قراءة المخطوطة،
لأنها غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. " أشفى على الموت أو
غيره "، أشرف عليه، وهو من " الشفى "، وهو حرف كل شيء وحده.
(4) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 478.
(15/189)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
17857- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد قال:
اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى
من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه
قالوا: يا موسى أين المخرجُ؟ فقد أدركنا، قد كنا نلقى من فرعون
البلاء؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان
كل فِرْق كالطود العظيم، (1) ويبس لهم البحرُ، وكشف الله عن
وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من
الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ، وكانت تحت
جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها، (2)
وميكائيل يسوقهم، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما
خرج آخر بني إسرائيل، دنا منه جبريل ولَصِق به، فوجد الحصان
ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا، وقال: أقدموا، فليس
القومُ أحقُّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون، حتى إذا همّ
أوّلهم أن يخرجوا، ارتطم ونادى فيها: (آمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، ونودي: (آلآن
وقد عصيتَ قبلُ وكنت من المفسدين) ،
17858- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
=
=وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفعه
أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبرائيل كان
يدسُّ في فم فرعون
__________
(1) تضمين آية سورة الشعراء: 63
(2) " وديق ": مريدة للفحل تشتهيه، وانظر ما سلف 2: 52.
(15/190)
الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. (1)
17859- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي
قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعل
جبرائيل عليه السلام يدسُّ = أو: يحشو = في فم فرعون الطين،
مخافة أن تدركه الرحمة.
17860- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن
زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطُّه
وأدسُّ من الحَالِ في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له!
= يعني فرعون. (2)
__________
(1) الأثران: 17858، 17859 - خبر ابن عباس رواه أحمد من هذا
الطريق، طريق شعبة، عن عدي بن ثابت، وعطاء بن السائب، في مسنده
رقم: 2144، 3154. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 341
رقم: 2618.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 340، وقال: " هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على
ابن عباس "، وواقفه الذهبي. وانظر الموقوف فيما سيأتي: 17865،
ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: " حسن غريب صحيح ".
وانظر ما سيأتي رقم: 17862.
(2) الأثر: 17860 - " حكام "، هو " حكام بن سلم الكناني "،
ثقة، ولكن قال أحمد فيه: " كان حسن الهيئة قدم علينا، وكان
يحدث عن عنبسة أحاديث غرائب "، مضى مرارًا. " وعنبسة "، هو "
عنبسة بن سعيد الضريس "، ثقة، لا بأس به. مضى مرارًا. " وكثير
بن زاذان النخعي "، قال ابن معين: " لا أعرفه "، وقال أبو حاتم
وأبو زرعة، " هذا شيخ مجهول "، لا نعلم أحدًا حدث عنه إلا ما
روى ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عنه ". مترجم في
التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 151،، وميزان الاعتدال 2: 353،
وقال: " عن عاصم بن ضمرة، له حديث منكر ".
و" أبو حازم "، هو " سلمان الأشجعي "، ثقة. مضى برقم: 7616.
فهذا خبر ضعيف جدا، لضعف كثير بن زاذان. وخرج نحوه الهيثمي في
مجمع الزوائد 7: 36، عن أبي هريرة وقال: " رواه الطبراني في
الأوسط، وفيه: قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة
".وقوله: " أغطه "، أي: أغطسه في الماء وأغمسه. و " الحال "،
الطين الأسود والحمأة، وهو " حال البحر ". وكان في المطبوعة "
وحمئة "، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يعرف معناه، فظنه خطأ.
(15/191)
17861- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال،
حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أغرق الله فرعون قال: (آمنت
أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، فقال جبريل: يا
محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه،
مخافة أن تدركه الرحمة. (1)
17862- حدثني المثنى قال، حدثني عمرو، عن حكام قال، حدثنا
شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما قال فرعون "لا إله إلا
الله"، جعل جبريل يحشوا في فيه الطين والتراب. (2)
17863- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: (آمنت
أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، قال: أخذ جبرائيل
من حمأة البحر فضرب بها
__________
(1) الأثر: 17861 - " علي بن زيد بن جدعان "، مضى مرارًا،
آخرها رقم: 17154 - 17516، وثقه أخي السيد أحمد رحمه الله في
المسند رقم 783، وفيما مضى من تعليقه على بعض أحاديث الطبري.
ولكني رأيت الأئمة يضعفونه، - لا أنهم يكذبونه - ويرونه إلى
اللين أدنى، وأنه كان يقلب الأحاديث وكان يحدث بالحديث اليوم
ثم يحدث غدا، فكأنه ليس بذاك، وكان يسوء حفظه، فأخشى أن يكون
أخي جازف في توثيقه، ولكني أرجح أنه يعتبر بحديثه، ويكتب
حديثه، ولكن لا يحتج به، وإنما روى له مسلم مقرونًا بغيره.
فهذا غاية علي بن زيد فيما أرى، والله أعلم. " ويوسف بن مهران
"، مضى مرارًا رقم: 13494. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم:
2203 من طريق يونس، عن حماد بن سلمة، ورقم: 2821 من طريق
سليمان بن حرب، عن حماد. وصححه أخي رحمه الله في الموضعين.
وخرجه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، من هذه الطريق نفسها،
وقال: " هذا حديث حسن " وكان في المطبوعة: " آخذ من حمأة البحر
"، وأثبت ما في المخطوطة،
وقوله: " وأدسيه في فيه " (بتشديد السين) من قولهم " دساه "
إذا غيبه أو أخفاه. وأصله " دسسه " مضعفا، ثم توالت السينات،
فقلبت أخراهن ياء. وكذلك جاء في المسند رقم: 2821، وهو في
المطبوعة " أدسه "، وفي المخطوطة كما أثبتها، إلا أنها غير
منقوطة.
(2) الأثر: 17862 - سلف تخريجه في رقم: 17858، 17859.
(15/192)
فاه = أو قال: ملأ بها فاه = مخافة أن
تدركه رحمه الله.
17864- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسين بن علي، عن جعفر بن
برقان، عن ميمون بن مهران قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر
الله، فلما أدركه الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت
به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، قال الله: (آلآن وقد عصيت
قبل وكنت من المفسدين) .
17865-. . . . قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل
جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. (1)
17866-. . . . قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة،
عن إبراهيم التيمي: أن جبريل عليه السلام قال: ما حسدتُ أحدًا
من بني آدم الرحمة إلا فرعون، (2)
فإنه حين قال ما قال، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه، فأخذت من
حَمْأة البحر وزَبَده، فضربت به عينيه ووجهه.
17867-. . . . قال، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن يعلى،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام: لقد
حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة.
* * *
__________
(1) الأثر: 17865 - هذا الخبر الموقوف على ابن عباس، كما سلف
في تخريج رقم: 17858، 17859. وكان في المطبوعة: " يحثو "
بالثاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " ما خشيت على أحد "، غير ما في المخطوطة،
وهو الصواب المحض، وأساء في التغيير.
(15/193)
آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ (92)
القول في تأويل قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه
أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه،
ومعصيته ربه، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونزول عقابه،
مستجيرًا به من عذابه الواقع به، لما ناداه وقد علته أمواج
البحر، وغشيته كرَبُ الموت: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به
بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) له، المنقادين بالذلة له،
المعترفين بالعبودية = الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له
بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك،
فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادِّين عن
سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما
أنت به الآن مقرٌّ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ
بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على
نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك =
(لتكون لمن خلقك آية) ، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون
بك،، فينزجرون عن معصية الله، والكفر به والسعي في أرضه
بالفساد.
(15/194)
= و"النجوة"، الموضع المرتفع على ما حوله
من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر:
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنْجْوَتِهِ ... وَالمُسْتَكِنُّ
كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر قال ذلك:
17868- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال:
قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون! قال: فأخرجه الله
إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر.
17869- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد
الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد قال = وكان من أكثر
الناس = أو: أحدث الناس = عن بنى إسرائيل؛ قال: فحدّثنا أن أول
جنود فرعون لما انتهى إلى البحر، هابت الخيلُ اللِّهْبَ. (2)
قال: ومثل لحصان منها فرس وَديق، (3) فوجد ريحها = أحسبه أنا
قال: = فانسلَّ فاتَّبعته. قال: فلما تتامّ آخر جنود فرعون في
البحر، وخرج آخرُ بني إسرائيل، أُمر البحر فانطَبق عليهم،
فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدًا! فسمع
الله تكذيبهم نبيَّه، قال:
__________
(1) ديوانه، قصيدة: 4، بيت: 15، يصف السحاب والمطر بالشدة،
يغشي كل مكان وكل أحد. " عقوة الدار "، ساحتها وما حولها. و"
المستكن "، الذي اختبأ في كن. و "القرواح "، البارز الذي ليس
يستره من السماء والشمس شيء.
(2) في المخطوطة: " اللهث "، والذي في المطبوعة هو الصواب إلا
أن ضبطه بكسر اللام وسكون الهاء. و " اللهب " المهواة بين
الجبلين، وهو الصدع الذي صدع في البحر، وانظر قوله تعالى:
{فكان كل فرق كالطود العظيم} .
(3) "فرس وديق "، مريدة للفحل تشتهيه، انظر ما سلف ص: 190،
تعليق: 2.
(15/195)
فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ،
يتراءآه بنو إسرائيل.
17870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: (فاليوم
ننجيك ببدنك) ، قال: "بدنه"، جسده، رمى به البحرُ.
17871- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن مجاهد،: (فاليوم ننجيك ببدنك) ،
قال: بجسدك.
17872- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17873- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17874- حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه،
التقى البحرُ عليهم = يعني على فرعون وقومه = فأغرقهم، فقال
أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه!
فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر، حتى استيقنوا بهلاكه.
17875- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول: أنكر ذلك
طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه.
17876- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (لتكون لمن خلفك آية) ، قال: لما أغرق الله
فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آيةً وعظةً.
17877- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا
(15/196)
ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل، عن
قيس بن عباد، أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الأعلى، عن معمر.
17878- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن
جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك) ،
قال: بجسدك.
17879- قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن
مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال: بجسدك. (1)
17880- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على
ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال أحمر: كأنه ثور. (2)
* * *
وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر، فنخرجه منه. (3)
*ذكر من قال ذلك:
17881- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فاليوم ننجيك ببدنك
لتكون لمن خلفك آية) ، يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من
البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه قوله: (ببدنك) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير
بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه (ببدنك) ؟
قيل: كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما
كان جائزًا
__________
(1) الأثر: 17879 - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني "، مضى
مرارًا، وروايته عن ابن جريج، وفي المطبوعة: " محمد بن بكير "،
وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " قال: كأنه ثور أحمر "، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو صواب محض.
(3) في المطبوعة: " فتخرج منه "، وأثبت ما في المخطوطة.
(15/197)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ذلك قيل:/ (فاليوم ننجيك ببدنك) ، ليعلم
أنه ينجيه بالبدن بغير روح، ولكن ميّتًا.
* * *
وقوله: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون)
، يقول تعالى ذكره: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا) ، يعني:
عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ (1) =
(لغافلون) ، يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
(2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا بني إسرائيل
منازلَ صِدْق. (3)
* * *
قيل: عني بذلك الشأم وبيت المقدس.
وقيل: عُنِي به الشأم ومصر.
*ذكر من قال ذلك:
17882- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وأبو خالد، عن
جويبر، عن الضحاك: (مبوّأ صدق) ، قال: منازل صدق، مصر والشأم.
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: 80،، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف ص: 171، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(15/198)
17883- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مبوَّأ صدق) ، قال:
بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس.
17884- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) ، الشام. وقرأ: (إِلَى
الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [سورة
الأنبياء: 71]
* * *
وقوله: (ورزقناهم من الطيبات) ، يقول: ورزقنا بني إسرائيل من
حلال الرزق = وهو (الطيب) . (1)
* * *
وقوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، يقول جل ثناؤه: فما
اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى
جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد
النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به
وبمبعثه، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا
عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم،
والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله: فما اختلفوا
حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله = فوضع
(العلم) مكان (المعلوم) .
* * *
وكان بعضهم يتأول (العلم) ههنا، كتابَ الله ووحيَه.
*ذكر من قال ذلك:
17885- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، (2) قال: (العلم) ،
كتاب الله الذي
__________
(1) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . حتى جاءهم العلم بغيا بينهم
"، وليس هذا من تلاوة هذه الآية، ولا هو في تفسيرها، فحذفته.
وأشباهها من الآيات التي ورد فيها ذكر العلم والبغي فيه في
سورة آل عمران: 19 / سورة الشورى: 14 / سورة الجاثية: 17،
وآثرت حذف هذه الزيادة من هذا الموضع، لأني لم أجد أبا جعفر
ذكر هذا الخبر في تفسير شيء من هذه الآيات، والظاهر أن المعنى
أخذ بعضه ببعض، فزاد ابن زيد في التفسير من نظائر الآية في
السور الأخرى.
(15/199)
فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
أنزله، وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا
حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم؟ أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا
على البغي قال: و"البغي" وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن
اقتتل عليها من أهلها، وبغى في "العلم"، يرى هذا جاهلا مخطئًا،
ويرى نفسه مصيبًا عالمًا، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا
المخطئ.
* * *
وقوله: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه
يختلفون) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن
ربَّك، يا محمد، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم
القيامة، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل
المكذبين بك منهم النار، والمؤمنين بك منهم الجنة، فذلك قضاؤه
يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنزلنا إليك، (2)
من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى
خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا، ويعرفونك بالصفة التي أنت
بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل
__________
(1) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .
(2) في المطبوعة: " ما أخبرناك وأنزل إليك "، وأثبت الصواب من
المخطوطة.
(15/200)
= (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ،
من أهل التوراة والإنجيل، كعبد الله بن سلام ونحوه، من أهل
الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17886- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك) ، قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا
صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسألهم إن
كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.
17887- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك) ، قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل
الكتاب، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
17888- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)
قال: هم أهل الكتاب.
17889- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: (فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل
الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من
خبَرِ الله
(15/201)
أنه حقٌّ يقين، حتى قيل له: (فإن كنت في شك
مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ؟
قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم.
17890- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر،
عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) ،
فقال: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17891- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة،
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما
أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: ما شك
وما سأل.
17892- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا
هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير = ومنصور، عن الحسن
في هذه الآية، قال: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17893- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لا أشك ولا أسأل.
17894- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين
يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل.
* * *
فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام، إذنْ، إن كان الأمر على ما
وصفت؟ قيل: قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا، استجازة العرب
قول القائل منهم لمملوكه: "إن كنت مملوكي فانته إلى أمري"
والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده.
كذلك قول الرجل منهم لابنه: "إن كنت
(15/202)
ابني فبرَّني"، وهو لا يشك في ابنه أنه
ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك
بشواهده، وأنّ منه قول الله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، [سورة المائدة:
116] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. (1) وهذا من ذلك،
لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته،
والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه
خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نزل.
* * *
وأما قوله: (لقد جاءك الحق من ربك) الآية، فهو خبرٌ من الله
مبتدأ.
يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله
رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون
نعتك عندهم في كتبهم = (فلا تكونن من الممترين) ، يقول: فلا
تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. (2)
* * *
ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه
وسلم، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت، بصيرته بنبوته صلى
الله عليه وسلم، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له
على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل
ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا) ، [سورة الأحزاب: 1] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11: 236، 237، ومعاني القرآن للفراء 1: 479.
(2) انظر تفسير " الامتراء " فيما سلف 12: 61، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(15/203)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) }
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم، ولا تكونن يا محمدُ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته،
فتكون ممن غُبن حظه، وباع رحمةَ الله ورضاه، بسَخَطه وعقابه.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ
جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ
(97) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد =
"كلمة ربك"، هي لعنته إياهم بقوله: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) ، [سورة هود: 18] ، فثبتت عليهم.
* * *
يقال منه: "حق على فلان كذا يحقُّ عليه"، إذا ثبت ذلك عليه
ووجب. (2)
* * *
وقوله: (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) ، يقول: لا يصدقون بحجج
الله، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم، ولا بأنك لله رسول = (ولو
جاءتهم كل آية) ، وموعظة وعبرة، فعاينوها، حتى يعاينوا العذاب
الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه،
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
= وتفسير " الخسران فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(2) انظر تفسير " حق " فيما سلف ص: 85
(15/204)
إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا
العذاب الأليم، فحينئذ قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) ، [سورة يونس: 90] ،
حين لم ينفعه قيلُه، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من
قومك من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك، إلا في
الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17895- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (أن الذين حقت عليهم كلمة ربك
لا يؤمنون) ، قال: حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
17896- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ،
حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
* * *
(15/205)
فَلَوْلَا كَانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلا
كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت؟ (1) وهي
كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ.
ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، ونزول
سَخَط الله بها، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها
إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه
الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله
__________
(1) انظر " لولا " بمعنى " هلا " 2: 552، 553 / 11: 266، 343،
356.
(15/205)
بمعصيته = إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم
إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم.
فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم
بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم
أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
* * *
فان قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: (فلولا
كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، بمعنى: فما كانت قرية آمنَت،
بمعنى الجحود، فكيف نصب "قوم" وقد علمت أن ما قبل الاستثناء
إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا، وأن الصحيح من كلام العرب:
"ما قام أحدٌ إلا أخوك"، و"ما خرج أحدٌ إلا أبوك"؟
قيل: إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس
ما قبله، وذلك أن "الأخ " من جنس "أحد"، وكذلك "الأب"، ولكن لو
اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله،
كان الفصيح من كلامهم النصبُ، وذلك لو قلت: "ما بقي في الدار
أحدٌ إلا الوتدَ"، و"ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا"، لأن
"الكلب"، و"الوتد"، و"الحمار"، من غير جنس "أحد"، ومنه قول
النابغة الذبياني:
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
ثم قال:
إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيَّنُها ... وَالنُّؤْي
كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (1)
فنصب "الأواري" إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب (قوم
يونس) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم، ومن غير
جنسهم
__________
(1) سلف الشعر وشرحه 9: 203، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك.
(15/206)
وشكلهم، وإن كانوا من بني آدم. وهذا
الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع،
(1) ولو كان (قوم يونس) بعض "الأمة" الذين استثنوا منهم،
كان الكلام رفعًا، ولكنهم كما وصفت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17897- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (فلولا
كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، يقول: لم تكن قرية آمنت
فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس.
قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها
إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس.
17898- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم
يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين) ، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم
ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا
قوم يونس، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم،
قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، [وفرقوا] بين
كل بهيمة وولدها، (2) ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً.
فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما
مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال:
وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 479، 480، وفيه زيادة
بيان.
(2) في المطبوعة: " وألهوا بين كل بهيمة. . . "، ولا معنى
له، وفي المخطوطة: " وألفوا " غير منقوطة، وقد أعياني أن
أجد لقراءتها وجهًا ارتضيه، فوضعت (وفرقوا) بين قوسين، لأن
هذه الكلمة بهذا المعنى ولا شك، كما يتبين من الآثار
التالية، ومن رواية هذا الأثر عن قتادة في الدر المنثور 3:
317 وفيه مكان هذه الكلمة المبهمة: " وفرقوا " كالتي أثبت
بين القوسين.
(15/207)
17899- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا قوم يونس) ،
قال: بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل، وفرقوا بين كل بهيمة
وولدها، يدعون الله أربعين ليلة، حتى تاب عليهم.
17900- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن
إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: غشَّى قوم
يونس العذابُ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. (1)
17901- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط
على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل،
فلما دَعَوْا كشف الله عنهم.
17902- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وإسحاق قال، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلولا
كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا) ،
قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه، قال: لم
تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم
يونس متعناهم.
17903- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله
بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، حدثنا رجل قد
قرأ القرآن في صدره، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
(2) فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه، فأخبرهم أن
العذاب يصيبهم، وفارقهم. (3) فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب،
[لكنهم] خرجوا من مساكنهم، (4)
وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم
__________
(1) معنى هذا: كما يغشي القبر بالثوب، إذا أدخل فيه صاحبه،
كما جاء في رواية هذا الأثر في الدر المنثور 3: 318،
باللفظ الذي ذكرته. وانظر ما سيأتي رقم: 17905.
(2) قوله: " قرأ القرآن في صدره "، أي جمعه، فحفظه جميعًا.
(3) في المطبوعة: " ففارقهم " بالفاء، والصواب من
المخطوطة.
(4) في المطبوعة: " لكنهم "، ولا معنى لها، وفي المخطوطة:
" لكنهم " غير منقوطة، ولست أدري ما صوابها، والمشكل أنه
جاء مثلها فيما يلي، واستعصت علي قراءتها في الموضعين -
فوضعتها بين القوسين في الموضوعين.
(15/208)
جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين: أن
يكشف عنهم العذاب، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك
أنزل: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس
لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك
عنها، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس، [لكنه] ذهب
عاتبًا على ربه، (1) وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ
عليه، حتى ركب في سفينة، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح = فذكر
قصة يونس وخبره.
17904- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح قال: " لما رأوا العذاب ينزل، فرَّقوا بين
كل أنثى وولدها من الناس والأنعام، ثم قاموا جميعًا فدعوا
الله، وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس
حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس
قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء
ظنُّه. (2)
17905- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: لما
أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه.
قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم،
فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا، فانظروا، فإن بات فيكم
فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان
في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا، (3) ثم خرج،
فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب،
__________
(1) انظر التعليق السالف.
(2) انظر تفسير " ساء ظنه " فيما سلف 3: 585، تعليق: 1 /
13: 95، تعليق: 4.
(3) في المطبوعة: " أخذ مخلاته فتزود فيها شيئًا "، خالف
رسم المخطوطة، وفيها رسم ما أثبته غير منقوط. و " العلاثة
" (بضم العين) : الأقط المخلوط بالسمن.
(15/209)
كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر،
ففرقوا بين الإنسان وولده، وبين البهيمة وولدها، ثم عجُّوا
إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله
عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا، قال:
جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر.
17906- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال، حدثنا
ابن مسعود في بيت المال، قال: إن يونس عليه السلام كان قد
وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام،
ففرَّقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله
واستغفروه. فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب
فلم ير شيئًا، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل،
فانطلق مغاضبًا.
17907- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال:
لما غشّى قوم يونس العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم
فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا:
"يا حيُّ حين لا حيَّ، ويا حي محييَ الموتى، ويا حيُّ لا
إله إلا أنت"! فكشف عنهم العذاب، ومُتِّعوا إلى حين. (1)
17908- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور،
عن معمر قال: بلغني في حرف ابن مسعود: "فلولا"، يقول
(فَهَلا) .
* * *
وقوله: (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة
الدنيا) ، يقول: لما صدّقوا رسولهم، وأقروا بما جاءهم به
بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله
__________
(1) الأثر: 17907 - " أبو الجلد "، هو " جيلان بن أبي فروة
الأسدي "، مضى برقم 434، 723، 1913.
(15/210)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
ونزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان
والذلّ في حياتهم الدنيا (1) = (ومتعناهم إلى حين) ، يقول:
وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في
الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم، ووقت فناء
أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ
مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكر لنبيه: (ولو شاء) ، يا محمد
= (ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، بك، فصدَّقوك أنك
لي رسول، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله
وإخلاص العبودة له، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق
من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك، ولا
يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور، إلا من
سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات
والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا
إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره، ممَّن قد سبق
له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17909- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 14: 330، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع)
.
(15/211)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولو
شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، (وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، [سورة
يونس: 100] ، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على
الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله
السعادة في الذكر الأَوّل (1) ولا يضلّ إلا من سبق له من
الله الشقاء في الذّكر الأول.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه قوله: (لآمن من في الأرض كلهم
جميعًا) ، فـ "الكل" يدل على "الجميع"، و"الجميع" على
"الكل"، فما وجه تكرار ذلك، وكل واحدة منهما تغني عن
الأخرى؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك:
فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله "جميعًا" في هذا
الموضع توكيدًا، كما قال: (لا تتخذوا إلهين اثنين) ، [سورة
النحل: 51] ، ففي قوله: "إلهين" دليل على "الاثنين".
وقال غيره: جاء بقوله "جميعًا" بعد "كلهم"، لأن "جميعًا"
لا تقع إلا توكيدًا، و"كلهم" يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك
جاء ب "جميعًا" بعد "كلهم". قال: ولو قيل إنه جمع بينهما
ليعلم أن معناهما واحد، لجاز ههنا. قال: وكذلك:
(إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، العدد كله يفسر به، فيقال: "رأيت
قومًا أربعة"، فلما جاء "باثنين"، وقد اكتفى بالعدد منه،
لأنهم يقولون: "عندي درهم ودرهمان"، فيكفي من قولهم: "عندي
درهم واحد، ودرهمان اثنان"، فإذا قالوا: "دراهم" قالوا:
"ثلاثة"، لأن الجمع يلتبس، و"الواحد" و"الاثنان" لا
يلتبسان،
__________
(1) في المطبوعة: " لا يؤمن من قومه "، زاد ما ليس في
المخطوطة، فحذفته.
(15/212)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ما] في
الجميع، (1) لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن
"درهمًا" يدل على الجنس الذي هو منه، و"واحد" يدل على كل
الأجناس. وكذلك "اثنان" يدلان على كل الأجناس، و"درهمان"،
يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد، لأنه الأصل.
* * *
وقوله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ، يقولُ جل
ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا
محمد، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن
يصدّقك، لا بإكراهك إياه، ولا بحرصك على ذلك = (أفأنت تكره
الناس حتى يكونوا مؤمنين) لك، مصدقين على ما جئتهم به من
عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر، وأعرض عن
المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ
عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس
خلقتُها من سبيل إلى تصديقك، يا محمد، إلا بأن آذن لها في
ذلك، (2) فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيدَ
الله، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلِّها، فإن
هداها بيد خالقها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " لم يثن الواحدة والتثنية على تنافي
الجمع "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " ثم بنى الواحد
والتثنية على تنافي الجمع "، هكذا غير منقوطة، واستظهرت
قراءتها كما أثبتها، بزيادة " ما " بين " بناء "، و" في
الجميع ". ومع ذلك فبقى في بيان معنى هذا الكلام، شيء في
نفسي، أخشى أن يكون سقط منه شيء، فإنه غير واضح عندي.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف ص: 18، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/213)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
وكان الثوري يقول في تأويل قوله: (إلا بإذن
الله) ، ما:-
17910- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان في قوله: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا
بإذن الله) ، قال: بقضاء الله.
* * *
وأما قوله: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) ، فإنه يقول
تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا
محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقرّ بما جئت به
من عند ربك = (ويجعل الرجس) ، وهو العذابُ، وغضب الله (1)
(على الذين لا يعقلون) ، يعني الذين لا يعقلون عن الله
حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد
صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله،
وخَلْع الأنداد والأوثان.
17911- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويجعل الرجس) ، قال:
السَّخَط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء
المشركين من قومك، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم
إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا، أيها
القوم، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما
أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلافِ
ليلها ونهارِها، ونزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها =
وفي الأرض من جبالها، وتصدُّعها بنباتها، وأقوات أهلها،
وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم
موعظة ومعتبرًا،
__________
(1) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 14: 579، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/214)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ
إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
(102)
ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن
يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير
يُغْنيكم عما سواه من الآيات.
يقول الله جل ثناؤه: (وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا
يؤمنون) ، يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل
المنذرة عبادة الله عقابه، (1) عن قوم قد سبق لهم من الله
الشقاء، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، لا
يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به. (ولو جاءتهم كل آية
حتى يروا العذاب الأليم) ؟ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا
مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
(102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ
الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من
قبلهم، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم
سبيلَهم: فهل ينتظر، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك
المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يومًا يعاينون
فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل
الذي هم عليه من الشرك والتكذيب، الذين مضوا قبلهم
فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود؟ قل لهم، يا محمد، إن
كانوا ذلك ينتظرون: فانتظروا عقابَ الله إياكم، ونزول سخطه
بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي
تحلُّ بكم من الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ص: 89، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النذير " فيما سلف 10: 85.
(15/215)
ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا
نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
*ذكر من قال ذلك:
17912- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتاده، قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من
قبلهم) ، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح
وعادٍ وثمود.
17913- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (فهل ينتظرون
إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من
المنتظرين) ، قال: خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم
أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين
آمنوا معه، فقال الله: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك
حقًّا علينا ننجي المؤمنين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء
المشركين من قومك: انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم
من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء
لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من
تكذيبك، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم
ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك
برُسلنا الذين أهلكنا أممهم، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من
عذابنا حين حقّ على أممهم = (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين)
، يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين
معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك، يا محمد، وبالمؤمنين،
فننجيك وننجي المؤمنين بك، حقًّا علينا غير شك.
* * *
(15/216)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا
أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي
فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا
أن أوحيت إليك: إن كنتم في شك، أيها الناس، من ديني الذي
أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا
أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا
تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا، فتشكُّوا في صحته.
وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. (1)
وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، فلا ينبغي لكم
أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه
من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع.
فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه، لأني أعبد الله
الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء.
(2) وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة.
وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح.
* * *
وقوله: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) ، يقول: ولكن أعبد
الله الذي يقبض
__________
(1) " اللحن "، التعريض والإماء دون التصريح، وذلك بأن
تعدل الكلام عن جهته، فيكون أجود له وأشد إثارة لفطنة
سامعه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " وينفعهم ويضر من يشاء "،
وكأنه سهو من الناسخ، فإن السياق يقتضي ما أثبت.
(15/217)
وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا
لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ
إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
أرواحكم فيميتكم عند آجالكم (1) = (وأمرت
أن أكون من المؤمنين) ، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من
المصدّقين بما جاءني من عنده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(105) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وأمرت أن أكون من
المؤمنين"، و"أن أقم " و"أن" الثانية عطفٌ على "أن"
الأولى.
ويعني بقوله: (أقم وجهك للدين) ، أقم نفسك على دين
الإسلام، (2) (حنيفًا) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى
يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن (3) = (ولا تكونن من
المشركين) ، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه
الآلهةَ والأندادَ، فتكون من الهالكين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تدع، يا محمد، من دون
معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة،
ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام.
يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ص: 98، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الوجه " فيما سلف 2: 510 - 512، 526 -
546 / 10: 23، وما بعدها.
(3) انظر تفسير " الحنيف " فيما سلف 12: 283، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/218)
لا تنفع ولا تضر = "فإن فعلت"، ذلك،
فدعوتها من دون الله = (فإنك إذًا من الظالمين) ، يقول: من
المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " الظالم لنفسه "، والسياق لا
يليق به هذا، وظني أنه سهو من الناسخ، فلذلك أبدلت به ما
أثبت.
(15/219)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ
يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(107)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ
بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله، يا
محمد، بشدة أو بلاء، (1) فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي
أصابك به، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد
(2) = (وإن يردك بخير) ، يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة
وعافية وسرور (3) = (فلا رادّ لفضله) ، يقول: فلا يقدر
أحدٌ إن يحول بينك وبين ذلك، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه;
لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء، دون الآلهة والأوثان،
ودون ما سواه = (يصيب به من يشاء) ، يقول: يصيب ربك، يا
محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء، من يشاء ويريد (4)
(من عباده وهو الغفور) ، لذنوب من تاب وأناب من عباده من
كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته = (الرحيم) بمن آمن به
منهم وأطاعه، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11: 354 / 13: 73 / 15:
36، 205.
(3) انظر تفسير " الخير " فيما سلف من فهارس اللغة (خير) .
(4) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف من فهارس اللغة (صوب)
.
(5) انظر تفسير " الغفور " و " الرحيم " فيما سلف من فهارس
اللغة (غفر) ، (رحم) .
(15/219)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ
اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ (108)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: (قل) ، يا محمد، للناس: (يا أيها الناس قد جاءكم
الحق من ربكم) ، يعني: كتاب الله، فيه بيان كل ما بالناس
إليه حاجة من أمر دينهم = (فمن اهتدى) ، يقول: فمن استقام
فسلك سبيل الحق، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان =
(فإنما يهتدي لنفسه) ، يقول: فإنما يستقيم على الهدى،
ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا
غيرها (1) = (ومن ضل) ، يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه
من عند الله، وخالف دينَه، وما بعث به محمدًا والكتابَ
الذي أنزله عليه = (فإنما يضل عليها) ، يقول: فإن ضلاله
ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها، لأنه لا يؤخذ
بذلك غيرها، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا
تزر وازرة وزر أخرى (2) = (وما أنا عليكم بوكيل) ، يقول:
وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله،
وهو الذي يقوّم من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم
ما أرسلتُ به إليكم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة
(هدى) .
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلل)
.
(3) انظر تفسير " وكيل " فيما سلف 12: 33، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(15/220)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى
إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ (109)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتبع، يا محمد وحي الله
الذي يوحيه إليك، وتنزيله الذي ينزله عليك، فاعمل به،
واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى
والمكاره، وعلى ما نالك منهم، حتى يقضي الله فيهم وفيك
أمره بفعلٍ فاصلٍ = (وهو خير الحاكمين) ، يقول: وهو خير
القاضين وأعدل الفاصلين. (1) فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم
يوم بَدْرٍ،، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم
فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم، أو يتوبوا
ويُنيبوا إلى طاعته، كما:-
17914- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد
في قوله: (وما أنت عليهم بوكيل واصبر حتى يحكم الله وهو
خير الحاكمين) ، قال: هذا منسوخ = (حتى يحكم الله) ، حكم
الله بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف 12: 561، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي
مخطوطتنا بعد هذا ما نصه:
" آخر تفسير سورة يونس عليه السلام والحمد لله وحده، وصلى
الله على محمد وآله.
يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها هود ".
يتلوه:
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسِّرْ "
(15/221)
|