تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر آخر تفسير سورة يونس
(15/222)
الر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ (1)
تفسير سورة هود تفسير السورة التي يذكر
فيها هود بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ
ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) }
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله:
(الر) ، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله: (كتاب أحكمت آياته) ، يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله
على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن.
* * *
ورفع قوله: "كتاب" بنيّة: " هذا كتاب".
فأما على قول من زعم أن قوله: (الر) ، مرادٌ به سائر حروف
المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالةً على
جميعها، وأن معنى الكلام: " هذه الحروف كتاب أحكمت آياته" =
فإن الكتاب على قوله، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: (الر) .
* * *
وأما قوله: (أحكمت آياته ثم فصلت) ، فإن أهل التأويل اختلفوا
في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم
فصلت بالثَّواب والعقاب.
*ذكر من قال ذلك:
17915- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرني
__________
(1) انظر ما سلف 1: 205 - 224 / 6: 149 - 12: 293، 294 / 15:
7.
(15/224)
أبو محمد الثقفي، عن الحسن في قوله: (كتاب
أحكمت آياته ثم فصلت) ، قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت
بالثواب والعقاب. (1)
17916- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الكريم بن محمد
الجرجاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت
آياته) ، قال: أحكمت في الأمر والنهى، وفصلت بالوعيد. (2)
17917- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت
آياته) ، قال: بالأمر والنهي = (ثم فصلت) ، قال: بالثواب
والعقاب.
* * *
وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما:-
17918- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال= وحدثنا عباد بن العوام،
عن رجل، عن الحسن قال: (أحكمت) ، بالثواب والعقاب = (ثم فصلت)
، بالأمر والنهي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (أحبكمت آياته) من الباطل، ثم فصلت،
فبين منها الحلال والحرام.
*ذكر من قال ذلك:
17919- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ،
أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبيّن حلاله وحرامه،
وطاعته ومعصيته.
* * *
__________
(1) الأثر: 17915 - " أبو محمد الثقفي "، الراوي عن الحسن، لم
أعلم من يكون.
(2) الأثر: 17916 - " عبد الكريم بن محمد الجرجاني "، قاضي
جرجان، روى عن قيس بن الربيع، وأبي حنيفة، وزهير بن معاوية،
وابن جريج، وغيرهم. روى عنه أبو يوسف القاضي، وابن عيينة، وهما
أكبر منه، والشافعي، وغيرهم. مات سنة نيف وسبعين ومائة، فلا
أدري أيدرك محمد بن حميد أن يروي عنه أم لا؟ مترجم في التهذيب.
(15/226)
17920- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أحكمت آياته ثم فصلت)
، قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فَصَّلها، بيَّنها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم
فصَّلها بالأمر والنهي.
وذلك أن "إحكام الشيء " إصلاحه وإتقانه = و"إحكام آيات
القرآن"، إحكامها من خلل يكون فيها، أو باطل يقدر ذو زيغ أن
يطعن فيها من قِبَله. (1)
وأما "تفصيل آياته " فإنه تمييز بعضها من بعض، بالبيان عما
فيها من حلال وحرام، وأمرٍ ونهي. (2)
* * *
وكان بعض المفسرين يفسر قوله: (فصلت) ، بمعنى: فُسِّرت، وذلك
نحو الذي قلنا فيه من القول.
*ذكر من قال ذلك:
17921- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ثم
فصلت) ، قال: فُسِّرت.
17922- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (فصلت) ، قال: فُسّرت.
17923-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني
عن مجاهد: (ثم فصلت) ، قال: فسّرت.
17924- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الإحكام " فيما سلف 6: 170، 174 - 182.
(2) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: 91، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/227)
أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
17925-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا
عبد الله، عن ورقاء، عنة ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17926- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال قتادة: معناه: بُيِّنَتْ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبلُ،
وهو شبيه المعنى بقول مجاهد.
* * *
وأما قوله: (من لدن حكيم خبير) ، فإن معناه: (حكيم) بتدبير
الأشياء وتقديرها، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. (1)
17927- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
في قوله: (من لدن حكيم خبير) ، يقول: من عند حكيم خبير. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا
الله وحده لا شريك له، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى
ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للناس (إنني
لكم) ، من عند الله = (نذير) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة
الأصنام = (وبشير) ، يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته
وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " و " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة
(حكم) ، (خبر) .
(2) انظر تفسير " من لدن " فيما سلف 6: 362.
(3) انظر تفسير " النذير " فيما سلف ص: 215، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
= وتفسير " البشير " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .
(15/228)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا
حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ
فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ
مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته، بأن لا تعبدوا
إلا الله، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: (وأن استغفروا
ربكم) ، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم،
فيستر عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان
والأصنام، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته. (1)
وقوله: (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص
العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم
الأنداد وبراءتكم من عبادتها. (2)
ولذلك قيل: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، ولم يقل:
"وتوبوا إليه"، لأن "التوبة" معناها الرجوع إلى العمل بطاعة
الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين،
والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك
فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره
بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا
يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من أفعالهم، وهم على شركهم
مقيمون.
وقوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، يقول تعالى ذكره
للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا
إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك
__________
(1) انظر تفسير " الاستغفار " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) .
(2) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(15/229)
بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها،
وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17928- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، فأنتم في ذلك
المتاع، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه، فإن الله منعم يحبّ
الشاكرين، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى.
* * *
وقوله: (إلى أجل مسمى) ، يعني الموت.
17929- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أجل مسمى) ، قال: الموت.
17930- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (إلى أجل مسمى) ، وهو الموت.
17931- حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة: (إلى أجل مسمى) ، قال: الموت.
* * *
وأما قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، فإنه يعني: يثيب كل من
تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك،
مريدًا به وجه الله = أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة، كما:-
17932- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .
= وتفسير " الأجل المسمى " فيما سلف من فهارس اللغة (أجل) .
(15/230)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويؤت كل
ذي فضل فضله) ، قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده أو
رجله، أو كَلِمة، أو ما تطوَّع به من أمره كله.
17933- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
17934-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه= إلا أنه قال: أو عملٍ بيديه أو
رجليه وكلامه، وما تطوَّل به من أمره كله.
17935- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: وما نطق به من أمره
كله.
17936- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(ويؤت كل ذي فضل فضله) ، أي: في الآخرة.
* * *
وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:-
17937- حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن مسعود، في قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال: من
عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن
عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن
لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له
تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحادُه أعشارَه!!
* * *
وقوله: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، يقول
تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه، (1) من إخلاص
العبادة لله، وترك عبادة
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
(15/231)
إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
الآلهة، وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة
إليه، فأدبروا مُوَلِّين عن ذلك، (فإني) ، أيها القوم، (أخاف
عليكم عذاب يوم كبير) ، شأنُه عظيمٍ هَوْلُه، وذلك يوم تجزى كل
نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
* * *
وقال جل ثناؤه: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ،
ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام قولا
خاطبت، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب،
وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إلى الله) ، أيها القوم،
مآبكم ومصيركم، (2)
فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من
عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على
شرككم قبل التوبة إليه = (وهو على كل شيء قدير) ، يقول: وهو
على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير
ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 13: 314، تعليق، 3: والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 146، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) .
(15/232)
أَلَا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا
حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (ألا أنهم يثنون
صدورهم) ، فقرأته عامة الأمصار: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ) ، على تقدير "يفعلون" من "ثنيت"، و"الصدور"
منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان من فعل
بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم
غطَّى وجهه وثَنَى ظهره.
*ذكر من قال ذلك:
17938- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،
عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم
ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال: كان أحدهم إذا
مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه، وثنى
ظهره. (1)
17939- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله: (ألا إنهم
يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال: من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال: كان المنافقون
__________
(1) قوله: " قال بثوبه على وجهه "، أي: أخذ ثوبه وحاول أن يغطي
به وجهه حتى لا يراه صلى الله عليه وسلم. و " قال " حرف من
اللغة، يستخدم في معان كثيرة، ويراد به تصوير الحركة.
انظر ما سلف 2: 546، 547 / الأثر: 5796 ج 5 ص 400، تعليق: 1 /
الأثر 12523 ج 10 ص 572، تعليق: 1 / الأثر 17429، ج 14 ص: 541،
تعليق: 2.
(15/233)
إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره، ويطأطئ
رأسه. فقال الله: (ألا إنهم يثنون صدورهم) ، الآية.
17940- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن حصين قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله: (يثنون
صدورهم) ، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم،
ثَنَى صدره، وتغشَّى بثوبه، كي لا يراه النبي صلى الله عليه
وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن
الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
17941- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) قال: شكًا
وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
17942- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، شكًّا وامتراءً في
الحق. (ليستخفوا منه) ، قال: من الله إن استطاعوا.
17943- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، قال: تضيق شكًّا.
17944- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، قال: تضيق
شكًّا وامتراءً في الحق. قال: (ليستخفوا منه) ، قال: من الله
إن استطاعوا
17945- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
(15/234)
17946- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة
قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم
ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال: من جهالتهم به،
قال الله: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، في ظلمة الليل، في أجواف
بيوتهم= (يعلم) ، تلك الساعة (ما يسرون وما يعلنون إنه عليم
بذات الصدور) .
17947- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن
أبي رزين: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين
يستغشون ثيابهم) ، قال: كان أحدهم يحنى ظهره، ويستغشي بثوبه.
* * *
وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله. (1)
*ذكر من قال ذلك:
17948- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(إلا إنهم يثنون صدورهم) الآية، قال: [كانوا يحنون صدورهم
لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: (ألا حين] يستغشون ثيابهم
يعلم ما يسرون وما يعلنون) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم، إذا حنى
صدره واستغشى بثوبه، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا يخفى
ذلك عليه. (2)
17949- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (يستغشون ثيابهم) ، قال: أخفى ما يكون الإنسان
إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون،
والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون وما
يعلنون.
* * *
وقال آخرون: إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه
وسلم عن المنافقين
__________
(1) في المطبوعة: " كلام الله تعالى "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة.
(15/235)
الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء،
ويبدون له المحبة والمودة، أنهم معه وعلى دينه. (1) يقول جل
ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم
أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم.
* * *
وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
17950- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال: هذا حين
يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ: (ألا حين يستغشون ثيابهم) الآية.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: (أَلا إِنَّهُمْ
تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ) ، على مثال: "تَحْلَولِي الثمرة"،
"تَفْعَوْعِل".
17951- حدثنا. . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن
أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقرأ (أَلا إِنَّهُمْ
تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، قال: كانوا لا يأتون النساء ولا
الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى
السماء. (2)
17952- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس
يقرؤها: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، قال:
سألته عنها فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى
السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء.
* * *
وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
__________
(1) في المطبوعة: " وأنهم " بالواو، وما في المخطوطة صواب جيد.
(2) الأثر: 17951 - في المطبوعة: " حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا
أبو أسامة "، وهذا ليس في المخطوطة، بل الذي فيها ما أثبته: "
حدثنا قال.... حدثنا أبو أسامة "، بياض بين الكلامين وفوقه كتب
" كذا "، يعني، هكذا البياض بالأصل.
(15/236)
17953- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، أخبرت، عن عكرمة: أن ابن عباس
قرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، وقال ابن
عباس: "تثنوني صدورهم"، الشكُّ في الله، وعمل السيئات =
(يستغشون ثيابهم) ، يستكبر، أو يستكنّ من الله، والله يراه،
يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
17954- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال،
أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ: (أَلا
إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ) ، قال عكرمة: "تثنوني
صدورهم"، قال: الشك في الله، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه،
ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء
الأمصار، وهو: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، على
مثال "يفعلون"، و"الصدور" نصب، بمعنى: يحنون صدورهم
ويكنُّونها، (1) كما:-
17955- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يثنون صدورهم) ، يقول:
يكنُّون. (2)
17956- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ألا إنهم يثنون
صدورهم) ، يقول: يكتمون ما في قلوبهم = (ألا حين يستغشون
ثيابهم) ، يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
17957- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ألا انهم يثنون
صدورهم) ، يقول: (تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) .
__________
(1) في المطبوعة: " يكبونها " و " يكبون "، بالباء في
الموضعين، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما.
(2) في المطبوعة: " يكبونها " و " يكبون "، بالباء في
الموضعين، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما.
(15/237)
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي تأوّله
الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا، هكذا ذكر
القراءة في الرواية.
* * *
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب،
لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك،
تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه
يخفى عليه ما تضمره نفوسهم، أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله: (ليستخفوا
منه) ، بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، (منه) ،
عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره
صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك
كذلك، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك،
كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله،
إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم
وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا، تغشَّوا بالثياب، أو أظهروا
بالبَرَاز، (1)
فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعني: يتغشَّون ثيابهم،
يتغطونها ويلبسون.
* * *
يقال منه: "استغشى ثوبه وتغشّاه"، قال الله: (وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ) [سورة نوح: 7] ، وقالت الخنساء:
أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتِهَا ... وَتَارَةً
أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي (2)
* * *
__________
(1) " البراز " (بفتح الباء) : الفضاء البعيد الواسع، ليس فيه
شجر ولا ستر.
(2) ديوانها: 109، من شعرها في مراثي أخيها صخر، تقول قبله:
إنِّي أَرِقْتُ فبِتُّ اللَّيْلَ سَاهِرَةً ... كَأَنَّمَا
كٌحِلَتْ عَيْنِي بِعُوَّارِ
" العوار " القذى. وقولها: " أرعى النجوم "، تراقبها، من غلبة
الهم عليها ليلا، فهي ساهرة تأنس بتطويح البصر في السماوات. و
" الأطمار "، أخلاق الثياب. تقول: طال حدادها وحزنها، فلا
تبالي أن يكون لها جديد، فهي في خلقان ثيابها، فإذا طال سهرها
وغلبها ما غلبها، تغطت بأطمارها فعل الحزين، وبكت أو انطوت على
أحزانها.
(15/238)
= (يعلم ما يسرون) ، يقول جل ثناؤه: يعلم
ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما
أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها، وثنوها، وما تناجوه
بينهم فأخفوه (1) = (وما يعلنون) ، سواء عنده سرائرُ عباده
وعلانيتهم = (إنه عليم بذات الصدور) ، يقول تعالى ذكره: إن
الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه، من إيمان وكفر، وحق
وباطل، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ، (2) كما:-
17958- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ،
يقول: يغطون رءوسهم.
* * *
قال أبو جعفر، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في
صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما
ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف: 103.
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 13: 570، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(15/239)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(6)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ (6) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وما من دابّة في الأرض
إلا على الله رزقها) ، وما تدبّ دابّة في الأرض.
* * *
و"الدابّة" "الفاعلة"، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي دابّة.
(1)
* * *
(إلا على الله رزقها) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل
إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا
على الله رزقها) ، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم
يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.
17960- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها) ، قال: كل دابة
__________
(1) انظر تفسير " الدابة " فيما سلف 14: 21، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/240)
17961- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت
أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول
في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، يعني:
كلّ دابة، والناسُ منهم.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ
فهو "دابة" (1) = وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض = وأن
"من" زائدة. (2)
* * *
وقوله: (ويعلم مستقرها) ، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي
تأوي إليه ليلا أو نهارًا = (ومستودعها) الموضع الذي يودعها،
إما بموتها، فيه، أو دفنها. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17962- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس
قال: (مستقرها) حيث تأوي = (ومستودعها) ، حيث تموت.
17963- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويعلم مستقرها) ، يقول:
حيث تأوى = (ومستودعها) ، يقول: إذا ماتت.
__________
(1) في المطبوعة: " كل ماش فهو دابة "، والذي أثبته هو نص
المخطوطة، و " المال " عند العرب، الإبل والأنعام، وسائر
الحيوان مما يقتنى. وهذا وجه. ولكن الذي في مجاز القرآن، وهذا
نص كلامه، فهو " كل آكل "، ولا قدرة لي على الفصل في صواب ما
قاله أبو عبيدة، لأن نسخة المجاز المطبوعة، ربما وجد فيها خلاف
لما نقل عن أبي عبيدة في الكتب الأخرى.
(2) هذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 285.
(3) انظر تفسير " المستقر "، و " المستودع " فيما سلف 1: 539 /
11: 434، 562 - 572 / 12: 358، 359.
(15/241)
17964- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا
المحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: (يعلم
مستقرها ومستودعها) ، قال: "المستقر"، حيث تأوي = و"المستودع"،
حيث تموت.
* * *
وقال آخرون: (مستقرّها) ، في الرحم = (ومستودعها) ، في الصلب.
*ذكر من قال ذلك:
17965- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويعلم مستقرها) ، في الرحم=
(ومستودعها) ، في الصلب، مثل التي في "الأنعام". (1)
17966- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: (ويعلم مستقرها
ومستودعها) ، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في
الصلب.
17967- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويعلم مستقرها) ،
يقول: في الرحم = (ومستودعها) ، في الصلب.
* * *
وقال آخرون: "المستقر " في الرحم = و"المستودع"، حيث تموت.
*ذكر من قال ذلك:
17968- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن
إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: (ويعلم مستقرها ومستودعها)
، قال: "مستقرها"، الأرحام = و"مستودعها": الأرض التي تموت
فيها.
17969-. . . . قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي،
__________
(1) انظر تفسير " سورة الأنعام " 11: 562 - 572. والآثار هناك.
(15/242)
عن مرة، عن عبد الله: (ويعلم مستقرها
ومستودعها) ، "المستقر" الرحم، و"المستودع" المكان الذي تموت
فيه.
* * *
وقال آخرون: (مستقرها) ، أيام حياتها = (ومستودعها) ، حيث تموت
فيه.
* ذكر من قال ذلك:
17970- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
بن سعد قالأخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: (ويعلم
مستقرها ومستودعها) ، قال: (مستقرها) ، أيام حياتها، و
(مستودعها) : حيث تموت، ومن حيث تبعث.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله
جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع
ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته
الأصلاب والأرحام.
* * *
ويعني بقوله: (كل في كتاب) ، [مبين] ، عدد كل دابة، (1) ومبلغ
أرزاقها، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في مستودعها. كل
ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب = (مبين) ، يبين لمن قرأه أن
ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. (2)
وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم
ليستخفوا منه، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده
قبل أن يخلقها ويوجدها، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم
ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم
إذا ثنوا به صدورهم، واستغشوا عليه ثيابهم؟
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، لأني رجحت أنه حق الكلام، وأن الناسخ
ظن أنه تكرار فتركه.
(2) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(15/243)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ
الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ
بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا
إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها
الناس جميعًا، (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ،
يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن
يميتكم؟
* * *
وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في
الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات
والأرض، من ذكر خلق ما فيهنّ.
17971- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن
عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم
السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم
الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء،
وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم
الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى
الليل. (1)
__________
(1) الأثر: 17971 - هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 17:
123، ورواه أحمد في مسنده 2: 327، رقم: 8323 من ترقيم أخي رحمة
الله عليه، في الجزء الذي لم يطبع من المسند. ورواه أبو جعفر
في تاريخه 1: 28، 29، 32، جميعها من طريق القاسم بن بشر بن
معروف، والحسين بن علي الصدائي، عن حجاج، فهو صدر إسناد آخر
غير هذا الإسناد، وإن اتفق سائره. هذا وقد نبتت نابتة تريد أن
تبطل نحو هذا الحديث بالرأي، ثم بالطعن في الصحابي الجليل أبي
هريرة. وسلك بعضهم إلى هذا مسلكا معيبا عند أهل العلم، في
استجلاب ضروب من الملفقات، يريد بها مذمة رجل من أصحاب رسول
الله، غير متثبت من الأصل الذي يبنى عليه. فاللهم احفظ دينك من
أهوائنا، فما أهلك الدين والدنيا غير الهوى المسلط على عقولنا
ونفوسنا. وفي هذا الأمر مقال ليس هذا مكانه.
(15/244)
17972- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (في ستة أيام) ، قال: بدأ
خلق الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين.
17973- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد
والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة،
فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة. قال: فجعل مكان كل يوم
ألف سنة.
17974- وحدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (وهو
الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ، قال: من أيام الآخرة،
كل يوم مقداره ألف سنة. ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق
يوم الجمعة، فسميت "الجمعة"، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا
* * *
وقوله: (وكان عرشه على الماء) ، يقول: وكان عرشه على الماء قبل
أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، (1) كما:-
17975- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وكان عرشه على
الماء) ، قبل أن يخلق شيئًا.
17976- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
__________
(1) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12: 482 / 14: 587 / 15:
18.
(15/245)
17977- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
17978- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وكان عرشه على الماء) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء
خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
17979- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (وكان عرشه على الماء) ، قال: هذا بدء خلقه
قبل أن يخلق السماء والأرض.
17980- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن
يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال:
قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات
والأرض؟ قال: في عَمَاءٍ، (1)
ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. (2)
17981- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا
حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن
وكيع بن
__________
(1) " العماء "، في كلام العرب، السحاب. قال أبو عبيد القاسم
بن سلام: " وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول
عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء ". وهذه كلمة عالم يعقل عن
ربه، ولا يتنكر لخبر رسوله المبلغ عنه، العارف بصفاته، ويقاس
عليه مثله مما ورد في أحاديث بدء الخلق وأشباهها، ما صح إسناد
الخبر عن نبي الله، بأبي هو وأمي. ونقل الترمذي في سننه عن
أحمد، عن يزيد بن هارون: " العماء: أي ليس معه شيء ".
(2) الأثر: 17980 - " حماد "، هو " حماد بن سلمة "، مضى
مرارًا. " ويعلى بن عطاء العامري الطائفي "، ثقة، مضى برقم:
2858، 11527، 11529، 16579. " ووكيع بن حدس "، أو " ابن عدس "
أبو مصعب العقيلي الطائفي، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب، والكبير 4 / 2 / 178، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 36. "
وأبو رزين العقيلي "، هو " لقيط بن عامر بن المنتفق " أو "
لقيط بن صبرة "، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مضى برقم:
3223 مضى التفريق هناك بينه وبين " لقيط بن صبرة "، وهذا الخبر
رواه الطبري في تاريخه 1: 19 من هذه الطريق نفسها. ورواه أحمد
في مسنده 4: 11 من طريق يزيد بن هارون عن حماد، وص: 12 من طريق
بهز، عن حماد.
ورواه الترمذي في التفسير، من طريق يزيد بن هارون، وقال: " هذا
حديث حسن ". ورواه ابن ماجه في سننه 1: 64، رقم: 182، من طريق
يزيد. انظر الأثر التالي رقم: 17981.
(15/246)
حُدُس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يا رسول
الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عَماء ما
فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. (1)
17982- حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال،
أخبرنا المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز،
عن ابن حصين، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فجعل
يبشِّرهم ويقولون: أعطنا! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا:
جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتفقه في
الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم
يقبلها أولئك الذين خرجوا! قالوا: قبلنا! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء،
وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات. ثم أتاني آت
فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب، (2)
__________
(1) الأثر: 17981 - هو مكرر الأثر السالف، ومضى تخريجه هناك.
" محمد بن هارون القطان الرازقي "، شيخ الطبري، هكذا جاء في
المخطوطة أيضًا، ومثله في التاريخ بغير " الرازقي "، ولم أجد
ذلك في الذي بين يدي من الكتب. وشيخ الطبري الذي مر مرارًا هو
" محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي الحربي البزاز "، أبو نشيط
"، وجائز أن يكون وضع " القطان " مكان " البزاز " فهما
متقاربان في المعنى. أما " الرازقي "، فهذا مشكل. إنما يقال له
" الحربي " أو " الربعي " وقد مضى " أبو نشيط " برقم: 9511،
10371، 14294.
(2) هكذا في المخطوطة: " ينقطع دونها السراب "، وهو صواب،
ودليله رواية أحمد في مسنده " فإذا السراب ينقطع بيني وبينها
"، بمعنى " ينتهي "، كما يقال: " منقطع الوادي أو الرمل "، حيث
ينتهي إليه طرفه. يريد: ينتهي الطرف إلى منتهى السراب من قبل
بصره، فهو لا يراها. وروى صاحب اللسان حديث أبي ذر " فإذا هي
يقطع دونها السراب " (بضم الياء وفتح القاف وتشديد الطاء) ،
وقال: أي تسرع إسراعًا كثيرًا تقدمت به وفاتت، حتى إن السراب
يظهر دونها، أي من ورائها، لبعدها في البر. أما الحافظ ابن حجر
في شرح حديث عمران بن حصين هذا، فقد شرح رواية البخاري وهي "
فإذا هي يقطع دونها السراب " وقال: يقطع، بفتح أوله، أي: يحول
بيني وبين رؤيتها السراب "، (الفتح 6: 207) .
(15/247)
ولوددتُ أنّي تركتها. (1)
17983- حدثنا محمد بن منصور قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال،
حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (وكان عرشه على الماء)
، قال: كان عرش الله على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم اتخذ
دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: (ومن دونهما جنتان)
، [سورة الرحمن: 62] ، قال: وهي التي
__________
(1) الأثر: 17982 - " خلاد بن أسلم "، " أبو بكر الصفار "، شيخ
الطبري، مضى برقم: 3004، 11512." والنضر بن شميل المازني
النحوي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11512، 16767. "
والمسعودي "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة "، مضى
مرارًا، آخرها رقم: 15349." وجامع بن شداد المحاربي "، ثقة،
روى له الجماعة، مضى برقم: 8289." وصفوان بن محرز بن زياد
المازني "، ثقة، روى له الخمسة. مضى برقم: 6496، 12866. " وابن
حصين "، هو " عمران بن حصين الخزاعي "، صحابي. هذا الخبر رواه
الطبري في تاريخه 1:19 بهذا الإسناد نفسه ورواه البخاري مطولا
من طريق الأعمش، عن جامع بن شداد، ورواه مختصرًا من طريق
سفيان، عن جامع بن شداد (الفتح 6: 205 - 207) ، ومن طريق سفيان
(الفتح 8: 76) . ورواه أحمد في مسنده من طرق، من طريق سفيان عن
جامع مختصرًا (4: 426، 436) ومن طريق الأعمش، عن جامع مطولا
(4: 431، 432) وهو إسناد البخاري بنحو لفظه. وروايته من هذه
الطرق الصحاح، تقيم رواية المسعودي، لأن " المسعودي " قد
تكلموا فيه، وأنه اختلط بأخرة، والمرضي من حديثه ما سمعه
القدماء منه. وكأن " النضر بن شميل " ممن روى عنه قديمًا. وقد
رواه الحاكم في المستدرك 2: 341 من طريق روح بن عبادة عن
المسعودي نفسه، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن بريدة
الأسلمي الصحابي، بلفظه وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه " ووافقه الذهبي. ولا أدري متى سمع روح بن عبادة من
المسعودي. فإن الاختلاف في " بريدة " و " عمران بن حصين "،
يحتاج إلى فضل تحقيق.
(15/248)
(لا تَعْلَمُ نَفْس) = أو قال: وهما التي
لا تعلم نفس (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، [سورة السجدة: 17] .
قال: وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها = أو: ما فيهما =
يأتيهم كل يوم منها = أو: منهما = تحفة.
17984- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش،
عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله:
(وكان عرشه على الماء) ، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على
متن الريح. (1)
17985- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله:
(وكان عرشه على الماء) ، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن
الريح. (2)
17986- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله. (3)
17987-. . . . قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن
أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله كان عرشه على
الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو
خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده
ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق. (4)
__________
(1) الأثر: 17984 - رواه الحاكم في المستدرك 2: 341، من طريق
الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، وقال: " هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
وسيأتي في الذي يليه من طريق الأعمش، عن سعيد بن جبير، بلا
واسطة. والأعمش يروي عن سعيد بن جبير. ورواه الطبري في تاريخه
من هذه والطريق نفسها 1: 20، 21.
(2) الأثر: 19786 - هو مكرر الأثرين السالفين، من طريق الأعمش،
عن سعيد بن جبير، بلا واسطة، ورواه بها الطبري في تاريخه 1:
21.
(3) الأثر: 19786 - مكرر الثرين السالفين، ورواه الطبري في
تاريخه منها 1: 21.
(4) الأثر: 17987 - " مبشر الحلبي "، هو " مبشر بن إسماعيل
الحلبي "، روى له الجماعة، مضى برقم: 17001، وكان في المطبوعة:
" ميسر "، وهو خطأ.
و" أرطاة بن المنذر السكوني "، ثقة، من أتباع التابعين، مترجم
في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 58 وابن أبي حاتم 1 / 1 / 326. "
وضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي " ثقة. مترجم في التهذيب،
والكبير 2 / 2 338، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 467. وهذا الخبر
رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 21 من هذه الطريق نفسها.
(15/249)
17988- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال:
سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات
والأرض، ثم قبض من صَفاة الماء [قبضة] ، (1) ثم فتح القبضة
فارتفع دخانًا (2) ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ
طينة من الماء فوضعها مكان البيت، ثم دحا الأرض منها، ثم خلق
الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض في يومين، ثم
فرغ من آخر الخلق يوم السابع. (3)
* * *
وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يقول تعالى ذكره: وهو الذي
خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام =
(ليبلوكم) ، يقول: ليختبركم (4) = (أيكم أحسن عملا) ، يقول:
أيكم أحسن له طاعة، كما:-
17989- حدثنا عن داود بن المحبر قال، حدثنا عبد الواحد بن زيد،
عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه
وسلم: أنه تلا
__________
(1) في المطبوعة: " ثم قبض قبضة من صفاء الماء "، لم يحسن
قراءة ما في المخطوطة، فغيرها. وزدت " قبضة " بين قوسين، من
رواية هذا الخبر، بغير هذا الإسناد، في تاريخ الطبري. " وصفاة
الماء "، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر
رقم: 2044، 7428، وفي الدر المنثور 3: 322، من حديث الربيع بن
أنس: " كان عرشه على الماء، فلما خلق السماوات والأرض، قسم ذلك
الماء قسمين، فجعل صفاء (صفاة) تحت العرش، وهو البحر المسجور،
فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور، فينزل منه مثل الطل،
وتنبت منه الأجسام ".
(2) في المطبوعة: " ثم قبض قبضة من صفاء الماء "، لم يحسن
قراءة ما في المخطوطة، فغيرها. وزدت " قبضة " بين قوسين، من
رواية هذا الخبر، بغير هذا الإسناد، في تاريخ الطبري. " وصفاة
الماء "، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر
رقم: 2044، 7428، وفي الدر المنثور 3: 322، من حديث الربيع بن
أنس: " كان عرشه على الماء، فلما خلق السماوات والأرض، قسم ذلك
الماء قسمين، فجعل صفاء (صفاة) تحت العرش، وهو البحر المسجور،
فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور، فينزل منه مثل الطل،
وتنبت منه الأجسام ".
(3) في الأثر: 17988 - رواه الطبري في تاريخه 1: 20 من طريق
محمد بن سهل بن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، مختصرًا.
(4) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف 13: 448، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/250)
هذه الآية: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ،
قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله؟
(1)
17990- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يعني الثقلين.
* * *
وقوله: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين
كفروا إن هذا إلا سحر مبين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم
مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي =
(ليقولن إن هذا إلا سحر مبين) ، أي: ما هذا الذي تتلوه علينا
مما تقول، إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر.
(2)
* * *
وهذا على تأويل من قرأ ذلك: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ)
،
* * *
__________
(1) الأثر: 17989 - " داود بن المحبر الطائي الثقفي "، صاحب "
كتاب العقل "، شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث، هكذا قال
أحمد بن حنبل. وهو ضعيف صاحب مناكير، وذكروا كتاب العقل، فقال
الدارقطني: " كتاب العقل، وضعه أربعة، أولهم ميسرة بن عبد ربه،
ثم سرقه منه داود بن المحبر، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة.
وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، فركبه بأسانيد أخر. ثم سرقه
سليمان بن عيسى السجزي، فأتى بأسانيد أخر ". وقال الحاكم: "
حدثونا عن الحارث بن أبي أسامة عنه بكتاب العقل، وأكثر ما أودع
في ذلك الكتاب من الحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ". مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 223، وابن أبي حاتم
1 / 2 / 424." وعبد الواحد بن يزيد البصري "، القاص، شيخ
الصوفية منكر الحديث، ضعيف بمرة، مترجم في تعجيل المنفعة ص:
266، وميزان الاعتدال 2: 157، وابن أبي حاتم 3/1/20. " وكليب
بن وائل بن هبار التيمي اليشكري "، روى عن ابن عمر. ثقة، وضعفه
أبو زرعة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 229، وابن أبي
حاتم 3 / 2 / 167. فهذا حديث ضعيف بمرة، ولا أصل له.
(2) في المطبوعة: " إلا سحر لسامعه مبين حقيقته أنه سحر "، وفي
المخطوطة: " إلا سحر لسامعه عن حقيقته أنه سحر "، وبين " سحر "
و " لسامعه " حرف " ط " دلالة على الخطأ. وصواب العبارة ما
أثبته إن شاء الله. وانظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: 159،
تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(15/251)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ
مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا
عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
وأما من قرأ: (إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ
مُبِينٌ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ
مبين.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره،
فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ
الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا
يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا
عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين
من قومك، يا محمد، العذابَ فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم =
إلى (أمة معدودة) ، ووقت محدود وسنين معلومة.
* * *
وأصل "الأمة" ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أنها الجماعة
من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع
إلى معنى الأصل الذي ذكرت. (2) وإنما قيل للسنين "المعدودة"
والحين، في هذا الموضع ونحوه: أمة، لأن فيها تكون الأمة. (3)
* * *
وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة
وانقراض أخرى قبلها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11: 216، 217، 265.
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف 13: 285، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " معدودة " فيما سلف 3: 417 / 4: 208، وما
بعدها.
(15/252)
وبنحو الذي قلنا من أن معنى "الأمة" في هذا
الموضع، الأجل والحين، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17991- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثني
المثنى قال، حدثنا أبو نعيم = قال، حدثنا سفيان الثوري، عن
عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال،
أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين،
عن ابن عباس: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، قال:
إلى أجل محدود.
17992- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن
أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله.
17994- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (إلى أمة معدودة) ، قال: أجل معدود.
17995- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن
الضحاك قال: إلى أجل معدود.
17996- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أمة معدودة) ، قال: إلى
حين.
17997- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17998-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17999- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول:
أمسكنا
(15/253)
عنهم العذاب = (إلى أمة معدودة) ، قال ابن
جريج، قال مجاهد: إلى حين.
18000- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولئن أخرنا عنهم
العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول: إلى أجل معلوم. (1)
* * *
وقوله: (ليقولن ما يحبسه) ، يقول: "ليقولن" هؤلاء المشركون "ما
يحبسه"؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ (2)
تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب
المتوعّد كما:-
18002- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال قوله: (ليقولن ما يحبسه) ، قال: للتكذيب به، أو
أنه ليس بشيء.
* * *
وقوله: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) ، يقول تعالى ذكره
تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: (ألا يوم يأتيهم) العذابُ الذي
يكذبون به = (ليس مصروفًا عنهم) ، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف،
ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم (3) = (وحاق بهم
ما كانوا به يستهزئون) ، يقول: ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به
يسخرون من عذاب الله. (4) وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله،
قيلهم قبل نزوله (ما يحبسه) ،و "هلا تأتينا"؟. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول.
__________
(1) تجاوزت في الترقيم رقم: 18001، سهوًا.
(2) انظر تفسير " الحبس " فيما سلف 11: 172.
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 11: 286 / 13: 112 / 14:
582 / 15: 84.
(4) انظر تفسير " حاق " فيما سلف 11: 172. = وتفسير "
الاستهزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (هزأ) .
(5) في المطبوعة: " نقلا بأنبيائه "، وهذا خلط لا معنى له. وفي
المخطوطة: " ونعلا بأنبيائه "، والكلمة الأولى سيئة الكتابة،
وسائر الحروف غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(15/254)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ
إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
*ذكر من قال ذلك:
18003- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ،
قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ
مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ
كَفُورٌ (9) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء
وسعةً في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا (1) = وهي
"الرحمة " التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع = (ثم نزعناها
منه) ، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به
(2) = (إنه ليئوس كفور) ، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله،
آيسًا من الخير.
* * *
وقوله: "يئوس"، " فعول"، من قول القائل: "يئس فلان من كذا، فهو
يئوس"، إذا كان ذلك صفة له. (3) .
وقوله: "كفور"، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر
لربّه المتفضل عليه، بما كان وَهَب له من نعمته. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 146، تعليق: 6، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " النزع " فيما سلف 12: 437 / 13: 17.
(3) انظر تفسير " اليأس " فيما سلف 9: 516.
(4) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) .
(15/255)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
*ذكر من قال ذلك:
18004- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه
ليئوس كفور) ، قال: يا ابن آدم، إذا كانت بك نعمة من الله من
السعة والأمن والعافية، فكفور لما بك منها، وإذا نزعت منك
نبتغي قَدْعك وعقلك (1) فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته،
كذلك المرء المنافق والكافر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ
عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في
دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه، وذلك هي
النّعم التي قال الله جل ثناؤه: (ولئن أذقناه نعماء) (2) =
وقوله: (بعد ضراء مسته) ، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه،
وعسرة كان يعالجها (3) (ليقولنّ ذهب السيئات عني) ، يقول تعالى
ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد
والمكاره = (إنه لفرح فخور) ، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان
لفرح بالنعم
__________
(1) في المطبوعة: " يبتغي لك فراغك، فيؤوس. . . "، غير ما في
المخطوطة، وكان فيها هكذا: " يسعى فرعك وعقلك فيؤوس "، وصواب
قراءتها ما أثبت. و " القدع ": الكف والمنع.
(2) انظر تفسير " النعماء " فيما سلف من فهارس اللغة (نعم) .
(3) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 219، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(15/256)
التي يعطاها مسرور بها (1)
= (فخور) ، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا، وما بسط
له فيها من العيش، (2) وينسى صُرُوفها، ونكدَ العَوَائص فيها،
(3) ويدع طلب النعيم الذي يبقى، والسرور الذي يدوم فلا يزول.
18005- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قوله: (ذهب السيئات عني) ، غِرَّةً بالله وجراءة عليه
= (إنه لفرح) ، والله لا يحب الفرحين= (فخور) ، بعد ما أعطي،
وهو لا يشكر الله.
* * *
ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين:
"الذين صبروا وعملوا الصالحات". وإنما جاز استثناؤهم منه لأن
"الإنسان" بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله: (وَالْعَصْرِ
إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، [سورة العصر: 1-3] ، (4)
فقال تعالى ذكره: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) ، فإنهم
إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها، لم يثنهم ذلك عن طاعة
الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً،
شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: (أولئك لهم
مغفرة) يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم = (وأجر كبير) ،
يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم، ثوابٌ على أعمالهم
الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ، وجزاءٌ عظيم.
18006- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (إلا الذين صبروا) ، عند البلاء، (وعملوا الصالحات)
، عند النعمة
__________
(1) انظر تفسير " فرح " فيما سلف 14: 289.
(2) انظر تفسير " فخور " فيما سلف 8: 350.
(3) في المطبوعة: " نكد العوارض "، غير ما في المخطوطة، و "
العوائص " جمع " عائص " أو " عائصة "، ومثله " العوصاء "، وكله
معناه: الشدة والعسر والحاجة.
(4) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. ومن هنا سأرجع
إلى النسخة المخطوطة من معاني القرآن، لأن بقية الكتاب لم تطبع
بعد. والنسخة التي أرجع إليها هي المخطوطة بدار الكتب المصرية
تحت رقم: ب 24986، مصورة عن نسخة مكتبة " بغداد لي وهبي "
بالمكتبة السليمانية، بالآستانة.
(15/257)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ
بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ
يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ (12)
= (ألئك لهم مغفرة) ، لذنوبهم = (وأجر
كبير) ، قال: الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا
يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا
لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ
إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
(12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
فلعلك يا محمد، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك
بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم،
مخافة (أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ، له
مصدّق بأنه لله رسول! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك،
فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي، وتحذرهم بأسي على كفرهم
بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني، أنزلها إذا
شئت، وليس عليك، إلا البلاغ والإنذار = (والله على كل شيء
وكيل) ، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما
أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي
والنفوذ لأمري. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما
يوحى إليك
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(15/258)
أن تفعل فيه ما أمرت، وتدعو إليه كما
أرسلت. قالوا: (لولا أنزل عليه كنز) ، لا نرى معه مالا أين
المال؟ = (أو جاء معه ملك) ، ينذر معه؟ = (إنما أنت نذير) ،
فبلغ ما أمرت.
* * *
(15/259)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحة نبوّتك،
هذا القرآن، من سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون
لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا
بمثلها. وهذا القرآن، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله،
(1) فان هم قالوا: "افتريته"، أي: اختلقته وتكذَّبته. (2)
* * *
= ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا، قوله: (أم يقولون افتراه)
إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: (أم يقولون افتراه) ،
أي: أيقولون افتراه؟
* * *
= وقد دللنا على سبب إدخال العرب "أم" في مثل هذا الموضع. (3)
* * *
= فقل لهم: يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن "مفتريات"، يعني
مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترىً،
وليس بآية معجزةٍ
__________
(1) في المطبوعة: " جميع الخلق عجزت "، غير ما في المخطوطة،
فأفسد الكلام إفسادًا.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(3) انظر تفسير " أم " فيما سلف 2: 492 / 3: 97 / ثم 14: 165،
تعليق: 1، والمراجع هناك.
(15/259)
كسائر ما سُئلته من الآيات، كالكنز الذي
قلتم: هَلا أنزل عليه؟ أو الملك الذي قلتم: هلا جاء معه نذيرًا
له مصدقًا! فإنكم قومي، وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم،
ومحال أن أقدر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة، ولا
تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها، ولا سيما
إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق.
يقول جل ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون
الله = يعني سوى الله، لا فتراء ذلك واختلاقه من الآلهة، فإن
أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم أنكم
كذبةٌ في قولكم: (افتراه) ، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به
أنه من عند الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد
جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله، مثل
الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون بمجيئها.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين) ، لقوله: (فأتوا بعشر سور مثله) ،
وإنما هو: قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، إن كنتم صادقين أن
هذا القرآن افتراه محمد = وادعوا من استطعتم من دون الله على
ذلك، من الآلهة والأنداد.
18008- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريح: (أن يقولون افتراه) ، قد قالوه، (قل فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات) . وادعوا شهداءكم، قال: يشهدون أنها مثله = هكذا
قال القاسم في حديثه. (1)
* * *
__________
(1) يعني أنه قال: " وادعوا شهداءكم "، وإن لم يكن ذلك في هذه
الآية، بل هو في غيرها، وهي آية سورة البقرة: 23:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
(15/260)
فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (14) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء
المشركين: فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ
يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم
أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أنزل من السماء على
محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه، وأن محمدًا لم
يفتره، ولا يقدر أن يفتريه = (وأن لا إله إلا هو) ، يقول:
وأيقنوا أيضًا أن لا معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله
الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد والآلهة، وأفردوا له
العبادة.
* * *
وقد قيل: إن قوله: (فإن لم يستجيبوا لكم) خطاب من الله لنبيه،
كأنه قال: فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار، يا محمد، فاعلموا،
أيها المشركون، أنما أنزل بعلم الله = وذلك تأويل بعيد من
المفهوم.
* * *
وقوله: (فهل أنتم مسلمون) ، يقول: فهل أنتم مذعنون لله
بالطاعة، ومخلصون له العبادة، بعد ثبوت الحجة عليكم؟
* * *
وكان مجاهد يقول: عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم.
18009- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فهل أنتم مسلمون) ، قال:
لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18010- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال =
(15/261)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
18010- وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وأن لا إله إلا
هو فهل أنتم مسلمون) ، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18011- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقيل: (فإن لم يستجيبوا لكم) ، والخطاب في أوّل الكلام قد جرى
لواحدٍ، وذلك قوله: (قل فأتوا) ، ولم يقل: "فإن لم يستجيبوا لك
" على نحو ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم، أن
العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع، إذا كانَ خطابه
خطابًا لأتباعه وجنده، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد، إذا كان في
نفسه واحدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة
الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به، (2) نوفّ إليهم أجور
أعمالهم فيها وثوابها (3) = (وهم فيها) يقول: وهم في الدنيا،
(لا يبخسون) ، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه فيها. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12: 298، 549، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " وأثاثها وزينتها يطلب به "، فأفسد الكلام
وضامه، وهو في المخطوطة على الصواب كما أثبته.
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: 177، تعليق: 2، 5،
والمراجع هناك.
= وتفسير " التوفية " فيما سلف من فهارس اللغة (وفى) .
(4) انظر تفسير " البخس " فيما سلف 6: 56 / 12: 555.
(15/262)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18012- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (من كان يريد الحياة
الدنيا وزينتها) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا
بحسناتهم، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا
التماس الدنيا، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا
لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من
المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في
الآخرة من الخاسرين.
18013- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن
جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها) ، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في
الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها.
* * *
18014- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن
جبير قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم
أعمالهم فيها) ، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا،
(1) وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي
مثل الآية التي في الروم: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا
لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ
اللَّهِ) ، [سورة الروم: 39]
18015- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن
سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من
عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا.
__________
(1) في المطبوعة: " وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا "، وهو
كلام متلو لا معنى له.
وفي المخطوطة ما أثبته، إلا أن فيه " ورب ما عملوا " غير
منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
(15/263)
18016- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كان يريد
الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من عمل عملا مما أمر الله به،
من صلاة أو صدقة، لا يريد بها وجهَ الله، أعطاه الله في الدنيا
ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق، فذلك قوله: (نوفّ إليهم أعمالهم فيها)
، في الدنيا، (وهم فيها لا يبخسون) ، أجر ما عملوا فيها،
(أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها)
، الآية.
18017- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن عيسى = يعني ابن ميمون = عن مجاهد في قوله:
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: ممن لا يقبل منه،
جُوزِي به، يُعطَى ثوابَه.
18018- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عيسى
الجرشي، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف
إليهم أعمالهم فيها) ، قال: ممن لا يقبل منه، يعجّل له في
الدنيا. (1)
18019- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها وهم فيها لا يبخسون) ، أي: لا يظلمون. يقول: من كانت
الدنيا همَّه وسَدَمه (2) وطَلِبته ونيتّه، جازاه الله بحسناته
في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً.
وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة
= (وهم فيها لا يبخسون) أي: في الآخرة لا يظلمون.
18020- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور =
وحدثنا
__________
(1) الأثر: 18018 - " عيسى الجرشي "، هو " عيسى بن ميمون
الجرشي المكي "، المذكور في الخبر السالف، مضى قبل مرات، آخرها
رقم: 14677.
(2) " السدم " (بفتحتين) : الولوع بالشيء واللهج به. والغم
بطلبه، والندم على فوته، وفي الحديث:
"مَنْ كانت الدنيا همَّه وسَدَمَه، جَعَل الله فَقْرَه بين
عينيه ".
(15/264)
الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق =
جميعًا، عن معمر، عن قتادة: (من كان يريد الحياة الدنيا
وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية، قال: من كان إنما
هِمّته الدنيا، إياها يطلب، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما
يعيش، وكان ذلك قصاصًا له بعمله. (وهم فيها لا يبخسون) ، قال:
لا يظلمون.
18021-. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي
سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من أحسن من محسن، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل
الآخرة. (1)
18022- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كان
يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية،
يقول: من عمل عملا صالحًا في غير تقوى = يعني من أهل الشرك =
أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا، يعطي سائلا يرحم
مضطرًّا، في نحو هذا من أعمال البرّ، يعجل الله له ثواب عمله
في الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما
خَوَّله، ويدفع عنه من مكاره الدنيا، في نحو هذا، وليس له في
الآخرة من نصيب.
18023- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر
الضرير قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: (نوف إليهم
أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، قال: هي في اليهود
والنصارى.
18024-. . . . قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا يزيد بن زريع،
عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: (نوف إليهم أعمالهم فيها) ،
قال: طيباتهم.
18025- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن
الحسن، مثله.
__________
(1) الأثر: 18021 - هذا خبر مرسل.
(15/265)
18026- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن
علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
18027- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية: هم أهل
الرياء، هم أهل الرياء.
18028-. . . . قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال،
حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه،
أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو
برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة!
فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدِّث الناس، فلما سكت
وَخَلا (1) قلت: أنشدك بحقِّ، وبحقِّ، (2) لما حدثتني حديثًا
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه. قال:
فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم! ثم نَشَغ نشغةً، (3) ثم أفاق فقال: لأحدثنك
حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما
فيه أحدٌ غيري وغيره! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال
خارًّا على وجهه، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم
القيامة، نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، (4) وكل أمة جاثيةٌ،
فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله،
ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك
__________
(1) في المطبوعة: " وخلى "، والصواب ما أثبت، كما في المخطوطة.
(2) " بحق، وبحق " هذا قسم عليه، يريد: " بحق كذا "، وهو
اختصار.
(3) " نشغ الرجل "، شهق حتى يكاد يبلغ به الغشى. قال أبو
عبيدة: " وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقا إلى صاحبه، أو إلى شيء
فائت، وأسفا عليه وحبا للقائه ".
(4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " نزل إلى القيامة "، وأنا في
شك منها شديد، وأظن الصواب ما في رواية الترمذي:
" ينزل إلى العباد ليقضى بينهم ".
(15/266)
ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال:
فماذا عملت فيما عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء
النهار! فيقول الله له: كذبت! وتقول له الملائكة: كذبت! ويقول
الله له: بل أردت أن يقال: "فلان قارئ" فقد قيل ذلك! ويؤتى
بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج
إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال:
كنت أصل الرحم، وأتصدَّق. فيقول الله له: كذبت! وتقول
الملائكة: كذبت! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان جواد"،
فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له: فيما ذا
قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول
الله له: كذبت! وتقول له الملائكة: كذبت! ويقول الله له: بل
أردت أن يقال: "فلان جريء"، وقد قيل ذلك! ثم ضرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة
أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. (1)
= قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل
على معاوية، فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: أنه كان سيَّافًا
لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة، فقال
أبو هريرة: وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى
معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [قد جاءنا] هذا
الرجل بشرٍّ! (2) ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله
ورسوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها) ، وقرأ إلى: (وباطل ما كانوا يعملون) . (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " تسعر لهم "، والصواب ما أثبت من
سنن الترمذي.
(2) في المطبوعة: " قلنا هذا الرجل شر "، وهو فاسد جدا، وفي
المخطوطة مثله إلا أن فيها: " بشر "، والصواب ما أثبته من سنن
الترمذي، ووضعت الزيادة بين القوسين.
(3) الأثر: 18028 - " ابن المبارك "، هو " عبد الله بن المبارك
"، الإمام المشهور، و " حيوة بن شريح التجيبي المصري "، روى له
الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 16382." والوليد بن أبي
الوليد القرشي، أبو عثمان "، ثقة، مضى برقم: 5455." وعقبة بن
مسلم التجيبي المصري "، تابعي ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم:
13240، 13241." وشفي بن ماتع الأصبحي المصري "، تابعي ثقة، من
ثقات المصريين، كان عالمًا حكيمًا. وعده ابن جرير الطبري في
الصحابة، ولا يكاد يثبت. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 2 /
201، والكبير 2 / 2 / 267، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 389،
والإصابة في ترجمته في القسم الرابع من حرف الشين. وقال الحافظ
ابن حجر: " وأورد حديثه بقي بن مخلد في مسنده أيضًا. ولم أر له
رواية عن صحابي إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه عنه
في السنن. وجزم بأنه تابعي، وأن حديثه مرسل: البخاري وابن
حبان، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم ". وهذا الخبر رواه الترمذي في
" كتاب الزهد "، في باب " الرياء والسمعة "، وقال: " هذا حديث
حسن غريب "، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالترمذي إذا
قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق، لكن المتن
له شواهد صار بها من جملة الحسن "، قلت: وغرابة هذا الحديث،
رواية " شفي بن ماتع "، عن " أبي هريرة "، وشفي لا تعرف له
رواية مشهورة ثانية إلا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن
كانت روايته عن أبي هريرة حسنة، على غرابتها، لأنه خليق أن
يروى عنه، وخليق أن يلقاه مرة بالمدينة، كما جاء في هذا الخبر.
وقد رواه مختصرًا، النسائي في سننه 6: 23، من طريق أخرى، عن
محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن جريج، عن يوسف بن يوسف، عن
سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قائل
من أهل الشأم، أيها الشيخ، حدثني حديثًا سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، الحديث = فكأن هذا القائل من أهل الشأم هو
" شفي بن ماتع "، وأنه كان بالشأم قبل أن يسكن مصر، و" شفي "،
في الطبقة الثانية من تابعي أهل مصر، كما عده ابن سعد. و"
سليمان بن يسار الهلالي "، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وسمع
من أبي هريرة، فكأن هذا القائل، أو شفي بن ماتع، كان يومئذ
صغيرًا وهو يسأل أبا هريرة بالمدينة، وكأن خبر النسائي، هو
الشاهد من الحديث الصحيح الذي جعل الترمذي يصف الخبر الأول
بأنه " حسن غريب ".
(15/267)
18029- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز
قال، حدثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد: (من كان يريد
الحياة الدنيا وزينتها) الآية، قال: ممن لا يتقبل منه، يصوم
ويصلي يريد به الدنيا، ويدفع عنه هَمّ الآخرة (1) = (وهم فيها
لا يبخسون) ، لا ينقصون.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " ويدفع عنه وهم الآخرة ". ولا
معنى له، وأرجح أن الصواب ما أثبت.
(15/268)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ
مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم
أجور أعمالهم في الدنيا = (ليس لهم في الآخرة إلا النار) ،
يصلونها = (وحبط ما صنعوا فيها) ، يقول: وذهب ما عملوا في
الدنيا، (1) = (وباطل ما كانوا يعملون) ، لأنهم كانوا يعملون
لغير الله، فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (أفمن كان على بينة من ربه) ،
قد بين له دينه فتبينه (2) = (ويتلوه شاهد منه) . (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: يعني بقوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، محمدًا
صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 14: 344، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) انظر تفسير " يتلو "، و " شاهد " فيما سلف من فهارس اللغة
(تلا) ، (شهد) .
(15/269)
ذكر من قال ذلك:
18030- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا
شيبان، عن قتادة، عن عروة، عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي:
يا أبت، أنت التالي في (ويتلوه شاهد منه) ؟ قال: لا والله يا
بنيّ! وددت أني كنت أنا هو، ولكنه لسانُه
18031- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي
رجاء،، عن الحسن: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18032- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن
الحسن، في قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18033- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو
النعمان العجلي قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
(1)
18034- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا المعافى بن
عمران، عن قرة بن خالد، عن الحسن، مثله.
18035- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، وهو محمد، كان على بيّنة
من ربه.
18036- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
عن الحسن قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18037- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: لسانه هو الشاهد.
18038- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن أبي
رجاء، عن الحسن، مثله.
__________
(1) الأثر: 18033 - " الحكم بن عبد الله "، " أبو النعمان
العجلي "، ثقة، مضى برقم: 17013.
(15/270)
18039- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن
عوف، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: يعني بقوله: (ويتلوه شاهد منه) ، محمدًا صلى الله
عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
18040- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن
سليمان العلاف، عن الحسين بن علي في قوله: (ويتلوه شاهد منه)
قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
18041- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، قال، حدثني
سليمان العلاف قال: بلغني أن الحسن بن علي قال: (ويتلوه شاهد
منه) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
18042-. . . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان
العلاف، سمع الحَسَن بن علي: (ويتلوه شاهد منه) ، يقول: محمد،
هو الشاهد من الله. (2)
18043- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)
، قال:
__________
(1) الأثر: 18040 - " سليمان العلاف "، مترجم في الكبير 2 / 2
/ 31، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 153، ولم يذكرا فيه جرحًا، وقالا:
إنه بلغه عن الحسن، روى عنه عوف، وقال البخاري: مرسل. وكأنه
يعني هذا الحديث، انظر الخبر التالي. وكان في المطبوعة
والمخطوطة " عن الحسين بن علي "، وهو خطأ، يدل عليه ما ذكرته،
وانظر الخبر التالي، والذي يليه.
(2) الأثران: 18041، 18042 - " سليمان العلاف "، انظر التعليق
السالف، وفي الأثرين " الحسين بن علي " في المخطوطة والمطبوعة،
والصواب ما أثبت كما مر ذلك في التعليق على الأثر السالف.
(15/271)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان على
بينة من ربه، والقرآن يتلوه شاهدٌ أيضًا من الله، (1) بأنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18044- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:
(أفمن كان على بينة من ربه) ، قال: النبي صلى الله عليه وسلم.
18045- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن
عكرمة، مثله.
18046-. . .. قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم،
مثله.
18047- حدثنا الحارث قال، حدثنا أبو خالد، سمعت سفيان يقول:
(أفمن كان على بينة من ربه) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: هو علي بن أبي طالب.
*ذكر من قال ذلك:
18048- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا رزيق بن مرزوق
قال، حدثنا صباح الفراء، عن جابر، عن عبد الله بن نجيّ قال،
قال علي رضى الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه
الآية والآيتان. فقال له رجُل: فأنتَ فأي شيء نزل فيك؟ فقال
علي: أما تقرأ الآية التي نزلت في هود: (ويتلوه شاهد منه) .
(2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " شاهد منه أيضًا "، والذي في المخطوطة هو
الجيد.
(2) الأثر: 18048 - " رزيق بن مرزوق الكوفي المقرئ البجلي "،
روى عن أبي الأحوص، وابن عيينة، وسهل بن شعيب، وروى عنه أحمد
بن يحيى الصوفي، وأبو حاتم الرازي، وقال: " صدوق " مترجم في
ابن أبي حاتم 1 / 2 / 506." وصباح الفراء "، لم أجده، وأخشى أن
يكون هو " صباح بن يحيى المزني "، وهو الشيعي المتروك الذي سلف
برقم: 16113." وجابر " هو الجعفي " جابر بن يزيد الجعفي ". وهو
ضعيف، بل ربما كان القول فيه أشد، وكان فوق ذلك رافضيًا يشتم
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن حبان: " كان من
أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليا يرجع إلى الدنيا "
مضى مرارًا آخرها رقم: 14008. " وعبد الله بن نجي بن سلمة
الكوفي الحضرمي "، ليس بالقوي، كان أبوه على مطهرة علي رضي
الله عنه، قال البخاري: " فيه نظر "، مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 2 / 2 / 184. وميزان الاعتدال 2: 82، وقال الذهبي: "
روى عنه جابر الجعفي، فمنكرة من جابر "، ووثقه النسائي.
وكان في المطبوعة " عبد الله بن يحيى "، لم يحسن قراءة
المخطوطة فيعرف الاسم.
(15/272)
وقال آخرون: هو جبريل.
*ذكر من قال ذلك:
18049- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
عن عكرمة، عن ابن عباس: (ويتلوه شاهد منه) ، إنه كان يقول:
جبريل.
18050- حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، عن
الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد منه) ، قال:
جبريل.
18051- وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى، بإسناده عن إبراهيم فقال:
قال: يقولون: "علي"، إنما هو جبريل.
18052- حدثنا أبو كريب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن
ليث، عن مجاهد قال: هو جبريل، تلا التوراة والإنجيل والقرآن،
وهو الشاهد من الله.
18053- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان
= وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ، قال، حدثنا جعفر بن عون
قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو
نعيم قال، حدثنا سفيان = عن منصور = عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد
منه) قال: جبريل.
18054- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
(15/273)
18055-. . . . قال، حدثنا سهل بن يوسف قال،
حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
18056- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم،
مثله.
18057-. . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: جبريل.
18058-. . . . قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن
أبي صالح: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل.
18059-. . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك:
(ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل
18060-. . . . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ
قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:
(أفمن كان على بينة من ربه) ، يعني محمدًا هو على بينة من الله
= (ويتلوه شاهد منه) ، جبريل، شاهدٌ من الله، يتلو على محمد ما
بُعث به.
18061- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية قال: هو جبريل
18062-. . . . قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، قال:
هو جبريل.
18063-. . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم، قال: جبريل.
18064-. . . . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أفمن كان على
بينة من ربه) ، يعني محمدًا، على بينة من ربه = (ويتلوه شاهد
منه) ، فهو
(15/274)
جبريل، شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب
الله الذي أنزل على محمد قال: ويقال: (ويتلوه شاهد منه) ،
يقول: يحفظه المَلَك الذي معه.
18065- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا
حماد بن زيد، عن أيوب قال، كان مجاهد يقول في قوله: (أفمن كان
على بينة من ربه) ، قال: يعني محمدًا، (ويتلوه شاهد منه) ،
قال: جبريل.
* * *
وقالا آخرون: هو ملك يحفظه.
*ذكر من قال ذلك:
18066- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال:
معه حافظ من الله، مَلَكٌ.
18067- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، وسويد بن
عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)
، قال: ملك يحفظه.
18068-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عمن سمع
مجاهدًا: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: الملك.
18069- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، يتبعه حافظٌ من
الله، مَلَكٌ.
18070- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: الملك
يحفظه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، [سورة البقرة: 121]
قال: يتّبعونه حقّ اتباعه.
18071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: حافظ من الله،
مَلكٌ.
* * *
(15/275)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي
ذكرناها بالصواب في تأويل قوله: (ويتلوه شاهد منه) ، قولُ من
قال: "هو جبريل"، لدلالة قوله: (ومن قبله كتاب موسى إمامًا
ورحمةً) ، على صحة ذلك. وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من
قال: "عنى به لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو: محمد نفسه،
أو: عليّ" على قول من قال: "عني به علي". ولا يعلم أنّ أحدًا
كان تلا ذلك قبل القرآن، أو جاء به، ممن ذكر أهل التأويل أنه
عنى بقوله: (ويتلوه شاهد منه) ، غير جبريل عليه السلام.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل،
فقد يجب أن تكون القراءة في قوله: (ومن قبله كتاب موسى)
بالنصب، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون: ويتلو
القرآنَ شاهدٌ من الله، ومن قبل القرآن كتابَ موسى؟
قيل: إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم
يكن لأحد خلافها، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب، كانت
قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا.
فإن قال: فما وجه رفعهم إذًا "الكتاب" على ما ادعيت من
التأويل؟
قيل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل
كتابنا المنزل على محمد، فرفعوه ب "من" [ومنه] ، (1) والقراءة
كذلك، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن،
وأن المراد من معناه ذلك،
__________
(1) في المطبوعة: " فرفعوه بمن قبله والقراءة كذلك "، غير ما
في المخطوطة، لهذه الكلمة التي وضعتها بين القوسين، وأنا أخشى
أن تكون زيادة لا معنى لها، ولذلك أثبتها بين القوسين، كما في
المخطوطة.
وانظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.
(15/276)
وإن كان الخبر مستأنفًا على ما وصفت،
اكتفاءً بدلالة الكلام على معناه.
* * *
وأما قوله: (إمامًا) فإنه نصب على القطع من "كتاب موسى"، (1)
وقوله (ورحمة) ، عطف على "الإمام". كأنه قيل: ومن قبله كتاب
موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به، ورحمةً من الله تلاه
على موسى، كما:-
18072- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن منصور، عن
إبراهيم، في قوله: (ومن قبله كتاب موسى) ، قال: من قبله جاء
بالكتاب إلى موسى.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه،
وهو: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب
موسى إمامًا ورحمةً) ، = "كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي
لرشد، ولا يعرف حقًّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا الحياة
الدنيا وزينتها". وذلك نظير قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الزمر: 9] (2)
والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله: (من كان
يريد الحياة الدنيا) ، الآية، ثم قيل: أهذا خير، أمن كان على
بينة من ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة
على مرادها على ما حذفت، وذلك كقول الشاعر: (3)
وَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُه ... سِواكَ وَلَكِنْ
لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا (4)
* * *
__________
(1) " القطع "، الحال، كما سلف ص: 76، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.
(3) هو امرؤ القيس.
(4) ديوانه: 113، والخزانة 4: 227، وغيرهما كثير، وسيأتي في
التفسير 13: 102 / 23: 128 / 29: 67 (بولاق) ، وهذا البيت قد
كثر الاستدلال به على الحذف، إلا أن البغدادي أفاد فائدة جيدة
فقال: " وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في أكثر
الروايات، وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة
أبيات ثمانية، رواها المبرد من قصيدة لأمرئ القيس، ورأينا أن
نقتصر عليها، وهي: بَعَثْتُ إلَيْها والنُّجوم خَوَاضِعٌ ...
حِذَارًا عَلَيْهَا أنْ تَقُومَ فَتَسْمَعَا
فَجَاءتْ قَطُوفَ المَشْيِ هَائِبَةَ السُّرَى ... يُدَافِعُ
رُكْنَاهَا كَوَاعِبَ أرْبَعَا
يُزَجِّيهَا مَشْىَ النَّزِيفِ وَقَدْ جَرَى ... صُبَابُ
الكَرَى فِي مُخِّهِ فَتَقَطَّعَا
تَقُولُ وَقَدْ جَرَّدْتُهَا مِنْ ثِيَابِهَا ... كَمَا رُعْتَ
مَكْحُولَ المَدَامِع أَتْلَعَا
أَجِدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلكِنْ
لم نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
إِذَنْ لَرَدَدْنَاهُ، وَلَوْ طَالَ مَكْثُهُ ... لَدَيْنَا،
وَلَكِنَّا بِحُبِّكَ وُلَّعَا
فَبِتْنَا تَصُدُّ الوُحْشُ عَنَّا، كَأَنَّنَا ... قَتِيلاَنِ
لم يَعْلَمْ النَّاسُ لَنَا مَصْرَعَا
إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ، أَمْسَكَتْ ...
بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الهَوْلِ أرْوَعَا
هذا ما قاله البغدادي، وفيه قول لا يتسع له هذا المكان، ولكن
فيه فائدة تقيد.
(15/277)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ
قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يُؤْمِنُونَ (17)
وقوله: (أولئك يؤمنون به) ، يقول: هؤلاء
الذين ذكرت، يصدقون ويقرّون به، إن كفر به هؤلاء المشركون
الذين يقولون: إن محمدًا افتراه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ
مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن، فيجحد
أنه من عند الله = (من الأحزاب) وهم المتحزّبة على مللهم (1) =
(فالنار موعده) ، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر تفسير " الحزب " فيما سلف 1: 244 / 10: 428.
(15/278)
(فلا تك في مرية منه) ، يقول: فلا تك في شك
منه، (1) من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ، وأن
هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله.
ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال: إن هذا القرآن الذي
أنزلناه إليك، يا محمد، الحقّ من ربك لا شك فيه، ولكنّ أكثر
الناس لا يصدِّقون بأن ذلك كذلك.
* * *
فإن قال قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من أن
القرآن من عند الله، وأنه حق، حتى قيل له: "فلا تك في مرية
منه"؟
قيل: هذا نظير قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنزلْنَا إِلَيْكَ) [سورة يونس: 94] ، وقد بينا ذلك هنالك.
(2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18073- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
أيوب قال: نبئت أن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديثٌ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب
الله تعالى، حتى قال "لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا
يهودي ولا نصرانيّ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار".
قال سعيد، فقلت: أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه
الآية: (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً أولئك يؤمنون به ومن
يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال: من أهل الملل كُلّها.
18074- حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي، وابن وكيع قالا حدثنا
جعفر بن عون قال، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في
قوله: (ومن
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة (مري) .
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 200 - 203.
(15/279)
يكفُر به من الأحزاب) ، قال: من الملل
كلها.
18075- حدثني يعقوب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا
أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم على وَجهه، إلا وجدت مصداقه = أو قال
تصديقه = في القرآن، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم
لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين
مصداقُها؟ حتى أتيت على هذه: (أفمن كان على بينة من ربه) ، إلى
قوله: (فالنار موعده) ، قال: فالأحزاب، الملل كلها.
18076- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر قال، حدثني أيوب، عن سعيد بن جبير قال، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا يهودي
ولا نصراني، فلا يؤمن بي إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين
مصداقها في كتاب الله؟ قال: وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي صلى
الله عليه وسلم إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن، حتى وجدت هذه
الآيات: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، الملل كلها.
(1)
18077-. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ومن
يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال: الكفارُ أحزابٌ كلهم
على الكفر.
18078- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ، [سورة
الرعد: 36] ، أي:
__________
(1) الآثار: 18073 - 18077 - هذه الآثار عن سعيد بن جبير،
والتي روى فيها الخبر مرسلا، رواه الحاكم في المستدرك 2: 342،
موصولا مرفوعًا من حديث ابن عباس. وذلك من طريق عبد الرازق، عن
معمر، عن أبي عمرو البصري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال
الحاكم " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه
الذهبي.
وانظر حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم 2: 186، وما سيأتي من حديث
أبي موسى رقم: 18079.
(15/280)
يكفر ببعضه، وهم اليهود والنصارى. قال:
بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يسمع بي
أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم يموت قبل أن يؤمن
بي، إلا دخل النار".
18079- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن
أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من
سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي لم يدخل
الجنة. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18079 - " يوسف بن عدي النصري "، هكذا في المخطوطة
غير منقوط، وفي المطبوعة: " النضري " ولا أدري من أين أتى
بإعجامه هذا. والذي مر بنا في الخبر رقم: 10309، رواية المثنى،
عن يوسف بن عدي، عن ابن المبارك " وظننت هناك أنه: " يوسف بن
عدي بن رزيق التيمي "، فلا أدري ما هذه النسبة التي هنا، إلا
أني أظن أنها " المصري "، لأن " يوسف بن عدي "، وإن يكن
كوفيًا، إلا أنه سكن مصر، ومات بها سنة 232.وهذا الخبر رواه
أحمد في مسنده 4: 396، عن طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي
بشر، بهذا اللفظ. ومثله 4: 398، من طريق عفان، عن شعبة.وخرجه
الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 261، 262، مطولا، وفيه من قول أبي
موسى الأشعري: " فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إلا في كتاب الله عز وجل، فقرأت فوجدت: {ومن يكفر به من
الأحزاب فالنار موعده} ، فهذا نحو ما قاله سعيد بن جبير في
الآثار السالفة. وقال الهيثمي بعد: " رواه الطبراني، واللفظ
له، وأحمد بنحوه في الروايتين، ورجال أحمد رجال الصحيح،
والبزار أيضًا باختصار".
(15/281)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ
عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ
يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ (18) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن
اختلق على الله كذبًا فكذب عليه؟ (1) = (أولئك يعرضون على ربهم
ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) يعرضون يوم القيامة
على ربهم"، (2) فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون، كما:
18080- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ، قال:
الكافر والمنافق، (أولئك يعرضون على ربهم) ، فيسألهم عن
أعمالهم.
* * *
وقوله: (ويقول الأشهاد) ، يعني الملائكة والأنبياء الذين
شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون = وهم جمع "شاهد" مثل
"الأصحاب" الذي هو جمع "صاحب" = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)
، يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على
الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على
ربهم، يقول الله: (ألا لعنة الله على الظالمين) ، يقول: ألا
غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم.
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله (ويقول الأشهاد) ، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " افترى " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " يكذبون على ربهم "، والأجود أن
تبقى على سياقة الآية.
(15/282)
*ذكر من قال ذلك:
18081- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (ويقول الأشهاد) ، قال: الملائكة.
18082- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الملائكة.
18083- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(ويقول الأشهاد) ، والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم
بأعمالهم.
18084- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (الأشهاد) ، قال: الخلائق = أو قال: الملائكة.
18085- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه.
18086- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (ويقول الأشهاد) ، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم
في الدنيا = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، حفظوه وشهدوا به
عليهم يوم القيامة = قال ابن جريج: قال مجاهد: "الأشهاد"،
الملائكة.
18087- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت
الأعمش عن قوله: (ويقول الأشهاد) ، قال: الملائكة.
18088- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويقول
الأشهاد) ، يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: (وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ) ، [سورة
النحل: 89] . قال: وقوله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا
على ربهم) ، يقولون: يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد
عليهم أنهم كذبوا عليك يا ربنا.
(15/283)
18089- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن
أبي عدي، عن سعيد وهشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز المازني
قال، بينا نحن بالبيت مع عبد الله بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له
رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول في النجوى؟ (1) فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم
يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كَنَفه فيقرّره بذنوبه،
فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف! (2) مرتين، حتى إذا بلغ
به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا
وأنا أغفرها لك اليوم. قال: فيعطى صحيفة حسناته = أو: كتابه =
بيمينه. وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد:
"ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين".
(3)
18090- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام، عن
قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، نحوه. (4)
18091- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ، فيخفى خزيُه على أحد ممن
خلق لله = أو: الخلائق.
* * *
__________
(1) مضى في رقم: 6497: " أما سمعت ".
(2) مضى في رقم: 6497: " رب اغفر "، مكان " رب أعرف ".
(3) الأثر: 18089 - مضى هذا الخبر بإسناده، وتخريجه في رقم:
6497 (ج 6: 119، 120) .
(4) الأثر: 18090 - مضى هذا الإسناد برقم: 6497، أيضًا.
(15/284)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا
وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) }
قال أبو جعفر: يقولا تعالى ذكره: ألا لعنة الله على الظَّالمين
الذين يصدّون الناسَ، عن الإيمان به، والإقرار له بالعبودة،
وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، من مشركي قريش، وهم
الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه (1) . = (ويبغونها
عوجًا) ، يقول: ويلتمسون سبيل الله، وهو الإسلام الذي دعا
الناس إليه محمد، (2) يقول: زيغًا وميلا عن الاستقامة. (3) =
(وهم بالآخرة هم كافرون) ، يقول: وهم بالبعث بعد الممات مع
صدهم عن سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا = (كافرون) يقول: هم
جاحدون ذلك منكرون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 14: 216، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " بغى " فيما سلف 14: 283، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " العوج " فيما سلف 7: 53، 54 / 12: 448، 559.
(15/285)
أُولَئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ
مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا
يُبْصِرُونَ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ
لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ
الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا
كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) }
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (أولئك لم يكونوا معجزين في
الأرض) ، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله،
يقول جل ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم
منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قبضته
وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه
(15/285)
هربًا إذا طلبهم (1) = (وما كان لهم من دون
الله من أولياء) ، يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد
عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله، (2) ويحولون
بينهم وبينه إذا هو عذبهم، وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة
يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء = وقوله: (يضاعف لهم
العذاب) ، يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان
الواحد اثنان. (3)
* * *
وقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، فإنه
اختلف في تأويله.
فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على
سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون حجج الله،
سَمَاعَ منتفع، ولا إبصارَ مهتدٍ.
*ذكر من قال ذلك:
18092- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، صم عن
الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه، ولا
ينتفعون به
18093- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ،
قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به، ولا
يبصروا خيرًا فيأخذوا به
18094- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال
بين أهل الشرك، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا،
فإنه قال: (ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص: 102، تعليق: 4،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(3) انظر تفسير " المضاعفة " فيما سلف 12: 417 - 419.
(15/286)
يستطيعون السمع) ، وهي طاعته = (وما كانوا
يبصرون) . وأما في الآخرة، فإنه قال: (فلا يستطيعون خاشعة) ،
[سورة القلم: 42، 43] .
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: (وما كان لهم من دون الله من
أولياء) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا: معنى
الكلام: أولئك وآلهتهم، (لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ
لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، يعني
الآلهة، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن
عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون
السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله
بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا: و"الباء" كان ينبغي لها أن تدخل،
لأنه قد قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ) ، [سورة البقرة: 10] ، بكذبهم، في غير موضع من
التنزيل أدخلت فيه "الباء"، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في
الكلام: " لأجزينَّك ما علمت، وبما علمت"، (1) وهذا قول قاله
بعض أهل العربية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما قاله ابن
عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون
أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد،
لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم
في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " كقولك في الكلام: لاحن بما فيك
ما علمت وبما علمت "، وهذا كلام يبرأ بعضه من بعض، والظاهر أن
الفساد كله من الناسخ، لأنه كتب " لاحن " في آخر الصفحة، ثم
قلب، وبدأ الصفحة الأخرى. " بما فيك ما عملت "، وهذا عجب.
والصواب الذي أثبته، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن.
(15/287)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم
الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله (1) = (وضل عنهم ما
كانوا يفترون) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، (2)
بادعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله
غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ عنهم، لأنه سلك بهم
إلى جهنم، وصارت آلتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا
حجارة أو خشبًا أو نحاسًا = أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى
الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي
الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه
صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا
منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو
الخسران المبين.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: "جَرمتُ"، كسبت الذنب
و"جرمته"، (3)
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(2) انظر تفسير " الضلال " و " الافتراء " فيما سلف من فهارس
اللغة (ضلل) ، (فرى) .
(3) انظر ما سلف 9: 483 - 485 / 10: 95، وكان في المطبوعة: "
جرمت "، " أجرمته " بالألف، والصواب ما في المخطوطة، وهو مطابق
لما في معاني القرآن.
(15/288)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى
رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (23)
وأن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع
الأيمان، (1) وفي مواضع "لا بد" كقولهم: "لا جرم أنك ذاهب"،
بمعنى: "لا بد"، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق، فقالوا:
"لا جَرَم لتقومن"، بمعنى: حَقًّا لتقومن. (2) فمعنى الكلام:
لا منع عن أنهم، ولا صدّ عن أنهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله،
وعملوا في الدنيا بطاعة الله = و"أخبتوا إلى ربهم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الإخبات".
فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم.
*ذكر من قال ذلك:
18095- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال حدثني عمي قال،
حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) ، قال: "الإخبات"، الإنابة
18096- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) ، يقول: وأنابوا إلى ربهم
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 9: 483، ولكني لم أجد هناك هذا التفصيل الذي
ذكره بعد، ولا أظنه مر شيء منه، إلا أن يكون فاتني تقييده.
وأخشى أن يكون سهوًا من أبي جعفر.
(2) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير هذه الآية، وهذا بعض
كلامه.
(15/289)
وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا.
*ذكر من قال ذلك:
18097- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) ،
يقول: خافوا
* * *
وقال آخرون: معناه: اطمأنوا.
*ذكر من قال ذلك:
18098- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأخبتوا إلى ربهم) ، قال:
اطمأنوا.
18099- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18100- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا.
*ذكر من قال ذلك:
18101- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (وأخبتوا إليهم ربهم) ، "الإخبات"، التخشُّع
والتواضع
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني، وإن اختلفت
ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله، ومن الخشوع
والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن
نفس "الإخبات"، عند العرب: الخشوع والتواضع.
* * *
(15/290)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
وقال: (إلى ربهم) ، ومعناه: وأخبتوا لربهم.
وذلك أن العرب تضع "اللام" موضع "إلى" و"إلى" موضع "اللام"
كثيًرا، كما قال تعالى: (بأن ربك أوحى لها) ، [سورة الزلزلة:
5] بمعنى: أوحى إليها. وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك، لأنهم
وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله.
* * *
وقوله: (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، يقول: هؤلاء
الذين هذه صفتهم، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا
يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل
الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا، والأصم الذي لا يسمع شيئًا،
فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به، لشغله بكفره
بالله، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد،
فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في
حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان، (2) أبصر حجج الله،
وأقر بما دلت عليه من توحيد الله، والبراءة من الآلهة
والأنداد، ونبوة الأنبياء عليهم السلام، وسمعَ داعي الله
فأجابه وعمل بطاعة الله، كما:
18102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قال، قال ابن عباس: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم
والبصير
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب الجنة " و " الخلود " في فهارس اللغة
(صحب) ، (خلد) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " فكذلك فريق الإيمان "، وكأن
الصواب ما اثبت.
(15/291)
والسميع) ، قال: "الأعمى" و"الأصم": الكافر
= و"البصير" و"السميع"، المؤمن
18103- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير
والسميع) ، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم
فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان
18104- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ، الآية، هذا
مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا
يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به،
وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به
* * *
يقول تعالى: (هل يستويان مثلا) ، يقول: هل يستوي هذان الفريقان
على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا
يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله
= (أفلا تذكرون) ، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس
وتتفكرون،، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنزجروا عما أنتم
عليه من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان؟
* * *
= فالأعمى والأصم، والبصير والسميع، في اللفظ أربعة، وفي
المعنى اثنان. ولذلك قيل: (هل يستويان مثلا) .
وقيل: (كالأعمى والأصم) ، والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل
(والبصير والسميع) ،، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل:
"قام الظريف والعاقل"، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا.
* * *
(15/292)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه:
إني لكم، أيها القوم، نذير من الله، أنذركم بأسَه على كفركم
به، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ويعني بقوله: (مبين) ، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله
ونهيه. (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (إني) .
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض المدنيين بكسر "إنّ" على وجه
الابتداء إذ كان في "الإرسال" معنى "القول".
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح "أن" على
إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا
إلى قومه بأني لكم نذير مبين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما
قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من
القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك.
* * *
وقوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) فمن كسر الألف في قوله: (إني)
جعل قوله: (أرسلنا) عاملا في "أنْ" التي في قوله: (أن لا
تعبدوا إلا الله) ، ويصير
__________
(1) انظر تفسير " نذير " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة
(نذر) ، (بين) .
(15/293)
المعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه،
أن لا تعبدوا إلا الله، وقل لهم: إني لكم نذير مبين = ومن
فتحها ردّ "أنْ" في قوله: (أن لا تعبدوا) عليها. فيكون المعنى
حينئذ: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا
تعبدوا إلا الله.
* * *
ويعني بقوله: [بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس] ، عبادة
الآلهة والأوثان، (1)
وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد، وأخلصوا له
العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه.
* * *
وقوله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) ، يقول: إني أيها
القوم، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد،
وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان= أخاف عليكم من الله
عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه.
* * *
وجعل "الأليم" من صفة "اليوم" وهو من صفة "العذاب"، إذ كان
العذاب فيه، كما قيل: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ، [سورة
الأنعام: 96] ، وإنما "السكن" من صفة ما سكن فيه دون الليل.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، والسقط فيها ظاهر
بين، وكأن الصواب إن شاء الله:
" ويعني بقوله: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ، أي:
اتركوا عبادة الآلهة. . . "
(15/294)
فَقَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا
مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ
أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا
مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالَ
الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا
بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح
وأشرافهم = وهم (الملأ) ، = (1) الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة
نبيهم نوح عليه السلام = (ما نراك) ، يا نوح، (إلا بشرًا
مثلنا) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة
والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا
إلى خلقه. (2)
* * *
وقوله: (وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) ،
يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس، دون
الكبراء والأشراف، فيما نرَى ويظهر لنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 177، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " البشر " فيما سلف 11: 521، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/295)
وقوله: (بادي الرأي) ، اختلفت القراء في
قراءته.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (بَادِيَ الرَّأْيِ) ، بغير
همز "البادي" وبهمز "الرأي"، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم:
"بدا الشيء يبدو"، إذا ظهر، كما قال الراجز: (1)
أَضْحَى لِخَالِي شَبَهِيَ بَادِي بَدِي ... وَصَارَ
لِلْفَحْلِ لِسَانِي وَيَدِي (2)
"بادي بدي" بغير همز، وقال آخر:
وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (بَادِئَ الرَّأْيِ) ، مهموزًا
أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: "بدأت بهذا الأمر"، إذا
ابتدأت به قبل غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من
قرأ: (بَادِيَ الرَّأْيِ) بغير همز "البادي"، وبهمز "الرأي"،
لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا، في ظاهر الرأي،
وفيما يظهر لنا.
* * *
وقوله: (وما نرى لكم علينا من فضل) ، يقول: وما نتبين لكم
علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى
عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم
__________
(1) أبو نخيلة السعدي.
(2) هذا الرجز والذي يليه، من رجز أبي نخيلة السعدي، لا شك في
البيت الثاني منهما، أما الأول فإني أرتاب في صحة إنشاده، على
الوجه الذي أنشده الفراء في معاني القرآن. وقد خرج هذا الرجز،
صديقنا وشيخنا عبد العزيز الميمني الراجكرتي في سمط اللآلئ:
293، 480، وفي اللسان (ذرأ) ، وتهذيب إصلاح المنطق 2: 32،
وسيبويه 2: 54، ونوادر اليزيدي: 128، والأغاني (ساسي) 18: 151،
وتاريخ ابن عساكر 2: 321 = وأزيد، تاريخ الطبري 9: 273،
والمعاني الكبير: 1223، والفراء في معاني القرآن، ومجاز القرآن
1: 288، واللسان (بدا) ، والأبيات هي: كَيْفَ التَّصَابِي
فِعْلَ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ ... وَقَد عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ
بَادِي بَدى
وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدِي ... بَعْدَ انْتِهَاضِي في
الشَّبَابِ الأمْلَدِ
وَبَعْدَ مَا أَذْكُرُ مِنْ تَأَوُّدِي ... وَبَعْدَ
تَمْشَائِي وتَطْوِيحِي يَدِي
وَمِشْيَتِي تَحْتَ الغُدَافِ الأسْوَدِ
وذكرها صاحب اللسان في (بدا) ، والتبريزي في تهذيب إصلاح
المنطق، وزاد بعد قوله " ورثية تنهض في تشددي
وصار للفحل لساني ويدي
أما البيت الأول، فلم أجده في مكان، وأخشى أن تكون " بادي بدى
" فيه، موضوعة مكان كلمة أخرى، ولا شك أن موضع هذين البيتين،
ليس في الموضع الذي وضع أحدهما فيه صاحب اللسان والتبريزي.
(3) انظر التعليق السالف. و " الذرأة " (بضم فسكون) ، الشيب في
مقدم الرأس.
(15/296)
قَالَ يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
طلبَ ذلك الفضل، وابتغاءَ ما أصبتموه
بخلافكم إيانا = (بل نظنكم كاذبين) .
* * *
وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا
دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو
واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [سورة الطلاق: 1] .
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل نظنك، يا نوح، في دعواك أن
الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله (بادي الرأي) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18105- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وما نراك
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) ، قال: فيما ظهر لنا
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ
كذبوه، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: (يا
قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان
من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من
(15/297)
إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه
فيها = (وآتاني رحمة من عنده) ، يقول: ورزقني منه التوفيق
والنبوّة والحكمة، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني (1) =
(فعميت عليكم) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة:
(فَعَمِيَتْ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعَمِيت الرحمة
عليكم فلم تهتدوا لها، فتقرّوا بها، وتصدّقوا رسولكم عليها.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم
العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك
أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: (فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من
قرأه: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم العين وتشديد الميم للذي
ذكَروا من العلة لمن قرأ به، ولقربه من قوله: (أرأيتم إن كنت
على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) ، فأضَاف "الرحمة" إلى
الله، فكذلك "تعميته على الآخرين"، بالإضافة إليه أولى.
* * *
وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان
هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و"الحق" لا
يوصف بالعمى، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في
جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم: "دخل الخاتم في يدي،
والخف في رجلي"، ومعلوم أن الرجل هي
__________
(1) انظر تفسير ما سلف من ألفاظ الآية في فهارس اللغة.
(15/298)
التي تدخل في الخفّ، والإصبع في الخاتم،
ولكنهم استعملوا ذلك كذلك، لما كان معلومًا المرادُ فيه. (1)
* * *
وقوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) ، يقول: أنأخذكم بالدخول
في الإسلام، وقد عماه الله عليكم = (وأنتم لها كارهون) ، (2)
يقول: وأنتم لإلزامناكُموها = "كارهون"، يقول: لا نفعل ذلك،
ولكن نكل أمركم إلى الله، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما
يرى ويشاء. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
18106- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال نوح: (يا قوم إن كنت على بينة من ربي) ، قال: قد
عرفتها، وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو = (وآتاني رحمة من
عنده) ، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة
18107- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، الآية، أما والله لو
استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم
يستطع ذلك ولم يملكه
18108- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن
داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا
مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) .
18109- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) هذا اختصار مقالة الفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " عليكم لها كارهون "، والجيد ما
أثبت، بزيادة: " وأنتم ".
(3) انظر تفسير " الكره " فيما سلف من فهارس اللغة (كره) .
(15/299)
الزبير، عن ابن عيينة قال، أخبرنا عمرو بن
دينار قال، قرأ ابن عباس: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ
أَنْفُسِنَا) ، قال، عبد الله: "من شَطْر أنفسنا"، من تلقاء
أنفسنا.
18110- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن
عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، مثله.
18111- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب:
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا
كارِهُونَ) . (1)
* * *
__________
(1) هذه القراءة التي مرت في الأخبار السالفة، بالزيادة في
الآية، قراءة شاذة لزيادتها على المصحف، لا يحل لأحد أن يقرأ
بها وظني أن قوله: " من شطر أنفسنا "، أو: " من شطر قلوبنا "
تفسير مدرج في كتابة الآية، وليس قراءة.
(15/300)
وَيَا قَوْمِ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى
اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ
مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ
مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(29) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل نوح لقومه، أنه
قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى توحيد
الله وإخلاص العبادة له، مالا أجرًا على ذلك، فتتهموني في
نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا = (إن
أجري إلا على الله) ، يقول: ما ثواب نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى
ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فانه هو الذي يجازيني، ويثيبني
عليه = (وما أنا بطارد الذين آمنوا) ، وما أنا بمقصٍ من آمن
بالله،
(15/300)
وأقرّ بوحدانيته، وخلع الأوثان وتبرأ منها،
بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم = (إنهم ملاقو ربهم) ،
يقول: إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم، صائرون إلى الله، والله
سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون، لا عن شرفهم وحسبهم.
* * *
وكان قيل نوح ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له، كما:-
18112- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم)
، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن
نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: (ما أنا بطارد
الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) ، فيسألهم عن أعمالهم
18113- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح جميعا، عن مجاهد قوله: (إن أجري إلا على
الله) ، قال: جَزَائي.
18114- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18115-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (ولكني أراكم قومًا تجهلون) ، يقول: ولكني، أيها القوم،
أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله، واللازم لكم
من فرائضه. ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا
بالله.
* * *
(15/301)
وَيَا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ
اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ
وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ
يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ
مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (30) }
قال أبو جعفر: يقول: (ويا قوم من ينصرني) ، فيمنعني من الله إن
هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحِّدين الله إن طردتهم؟ =
(أفلا تذكرون) ، يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون: فتعلمون
خطأه، فتنتهوا عنه؟.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ
إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ
لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر: وقوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ، عطف
على قوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا) .
* * *
ومعنى الكلام: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا) ، (ولا أقول لكم
عندي خزائن الله) ، التي لا يفنيها شيء، فأدعوكم إلى اتباعي
عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب = يعني: ما خفي من سرائر العباد،
فإن ذلك لا يعلمه إلا الله = فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى
عبادتي. ولا أقول أيضًا: إني ملك من الملائكة، أرسلت إليكم،
فأكون كاذبًا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون، أمرت
بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم = (ولا أقول
للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا) يقول: ولا أقول
للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحَّدوه،
(15/302)
قَالُوا يَا نُوحُ
قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
الذين تستحقرهم أعينكم، وقلتم: إنهم
أراذلكم = (لن يؤتيهم الله خيرًا) ، وذلك الإيمان بالله =
(الله أعلم بما في أنفسهم) ، يقول: الله أعلم بضمائر صدورهم،
واعتقاد قلوبهم، وهو وليّ أمرهم في ذلك، وإنما لي منهم ما ظهر
وبدا، وقد أظهُروا الإيمان بالله واتبعوني، فلا أطردهم ولا
أستحل ذلك = (إني إذا لمن الظالمين) ، يقول: إنّي إن قلت
لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي: (لن يؤتيهم الله
خيرًا) ، وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير
علم منّي بما في نفوسهم، وطردتهم بفعلي ذلك، لمن الفاعلين ما
ليس لهم فعله، المعتدين ما أمرهم الله به، وذلك هو "الظلم".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18116- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) التي لا
يفينها شيء، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها =
ولا أقول إني ملك نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر
مثلكم. (ولا أعلم الغيب) ، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ
جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح لنوح عليه السلام:
قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا، (1) فأتنا بما تعدنا من العذاب، إن
كنت من
__________
(1) انظر تفسير " الجدال " فيما سلف 12: 523، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(15/303)
قَالَ إِنَّمَا
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ
أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
الصادقين في عِداتك ودَعواك أنك لله رسول.
يعني: بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك.
* * *
18117- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (جادلتنا) ، قال: ماريتنا.
18118- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18119- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18120- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال مجاهد: (قالوا يا نوح قد جادلتنا) ، قال:
ماريتنا = (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) = قال ابن جريج:
تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا)
، قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ
اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ
كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه حين استعجلوه
العذاب: يا قوم، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ، إنما ذلك
إلى الله لا إلى غيره، هو الذي يأتيكم به إن شاء = (وما أنتم
بمعجزين) = يقول: ولستم إذا أراد
(15/304)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
تعذيبكم بمعجزيه، أي بفائتيه هربًا منه،
لأنكم حيث كنتم في ملكه وسلطانه وقدرته، حكمهُ عليكم جارٍ (1)
= (ولا ينفعكم نصحي) ، يقول: ولا ينفعكم تحذيري عقوبته، ونزولَ
سطوته بكم على كفركم به = (إن أردت أن أنصح لكم) ، في تحذيري
إياكم ذلك، لأن نصحي لا ينفعكم، لأنكم لا تقبلونه. (2) = (إن
كان الله يريد أن يغويكم) ، يقول: إن كان الله يريد أن يهلككم
بعذابه = (هو ربكم وإليه ترجعون) ، يقول: وإليه تردُّون بعد
الهلاك. (3)
* * *
حكي عن طيئ أنها تقول: "أصبح فلان غاويًا": أي مريضًا.
وحكي عن غيرهم سماعًا منهم: "أغويت فلانًا"، بمعنى أهلكتَه =
و"غَوِيَ الفصيل"، إذا فقد اللبن فمات.
وذكر أن قول الله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، [سورة مريم:
59] ، أي هلاكًا. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقول يا محمد هؤلاء المشركون
من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح؟ = قل لهم:
إن افتريته فتخرصته واختلقته (5)
(فعليّ إجرامي) يقول: فعلي إثمي في افترائي ما افتريت
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص: 286، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " نصحت لك " فيما سلف 3: 212.
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف من فهارس اللغة (رجع) .
(4) انظر تفسير " غوى " فيما سلف 12:333، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(5) انظر تفسير " الافتراء "، فيما سلف من فهارس اللغة (فري) .
(15/305)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ
فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
على ربّي دونكم، لا تؤاخذون بذنبي ولا
إثمي، ولا أؤاخذ بذنبكم. (وأنا بريء مما تجرمون) ، يقول: وأنا
بريء مما تذنبون وتأثَمُون بربكم، من افترائكم عليه.
* * *
ويقال منه: "أجرمت إجرامًا"، و"جرَمْت أجرِم جَرْمًا"، (1) كما
قال الشاعر: (2)
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي
وَجَنَى لِسَانِي (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ
لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا
تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحَى الله الله إلى نوح،
لمّا حَقّ على قومه القولُ، وأظلَّهم أمرُ الله، أنه لن يؤمن،
يا نوح، بالله فيوحِّده، ويتبعك على ما تدعوه إليه = (من قومك
إلا من قد آمن) ، فصدّق بذلك واتبعك. (فلا تبتئس) ، يقول: فلا
تستكن ولا تحزن = (بما كانوا يفعلون) ، فإني مهلكهم، ومنقذك
منهم ومن اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه، بعد ما دعا عليهم نوحٌ
بالهلاك فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ، [سورة نوح: 26] .
* * *
= وهو "تفتعل" من "البؤس"، يقال: "ابتأس فلان بالأمر يبتئس
ابتئاسًا":
__________
(1) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .
(2) هو الهيردان بن خطار بن حفص السعدي، اللص، وضبط اسمه بفتح
الهاء، وسكون الياء، وضم الراء.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 288، واللسان (جرم) .
(15/306)
كما قال لبيد بن ربيعة:
فِي مَأْتَمٍ كَنِعَاجِ صَا ... رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا
لَقَيْنا (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18121- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تبتئس) ، قال: لا تحزن.
18122- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
18123- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فلا تبتئس بما كانوا
يفعلون) ، يقول: فلا تحزن.
18124- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ، قال: لا تأسَ
ولا تحزن.
18125- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ،
وذلك حين
__________
(1) ديوانه 2: 46 (القصيدة: 35، البيت: 21) ، اللسان (يأس)
قصيدة له، يذكر بنته أو امرأته وحالها بعد موته: وَحَذِرْتُ
بَعْدَ المَوْتِ يَوْ ... مَ تَشِينُ أَسْمَاءُ الجَبِينَا
فِي رَبْرَبٍ كَنِعَاجِ صَارَ ... ةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا
لَقِينَا
مُتَسَلِّبَاتٍ فِي مُسُوحِ ... الشَّعْرِ أَبْكَارًا وَعُونَا
وهذا شعر، حسبك به من شعر! .
(15/307)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
دعا عليهم قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ، [سورة نوح: 26] =
قوله: (فلا تبتئس) ، يقول: فلا تأسَ ولا تحزن.
18126- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لن يؤمن من
قومك إلا من قد آمن) ، فحينئذ دعا على قومه، لما بيَّن الله له
أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأحي إليه أنه لن يؤمن من قومك
إلا من قد آمن، وأن اصنع الفلك، وهو السفينة، (1) كما:
18127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفلك: السفينة.
* * *
وقوله: (بأعيننا) ، يقول: بعين الله ووحيه كما يأمرك، كما:-
18127- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا) ، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه
أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. (2)
18128- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 503 / 15: 50، 153.
(2) " جؤجؤ الطائر " (بضم الجيم، ثم سكون الهمزة، ثم ضم الجيم)
: هو صدره.
(15/308)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ووحينا)
، قال: كما نأمرك.
18129- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
(بأعيننا ووحينا) ، كما نأمرك.
18130- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (واصنع الفلك
بأعيننا ووحينا) ، قال: بعين الله، قال ابن جريج، قال مجاهد:
(ووحينا) ، قال: كما نأمرك.
18131- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة في قوله: (بأعيننا ووحينا) ، قال: بعين الله
ووحيه.
* * *
وقوله: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) ، يقول تعالى
ذكره: ولا تسألني في العفو عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من
قومك، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله = الهلاك
بالغرق، إنهم مغرقون بالطوفان، كما:-
18132- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: (ولا تخاطبني) ، قال: يقول: ولا تراجعني. قال:
تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده. (1)
* * *
__________
(1) " تقدم "، يعني أمره بذلك.
(15/309)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا
مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ
مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ
الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ
سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ
عليه جماعة من كبراء قومه (1) = (سخروا منه) ، يقول: هزئوا من
نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة، وتعمل السفينة
في البر؟ = فيقول لهم نوح: (إن تسخروا منا) ، إن تهزءوا منا
اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة، كما تهزءون منا في الدنيا
(2) = (فسوف تعلمون) ، إذا عاينتم عذابَ الله، مَن الذي كان
إلى نفسه مُسِيئًا منَّا.
* * *
وكانت صنعة نوح السفينة، كما:-
18133- حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم
قال، أخبرنا موسى بن يعقوب قال، حدثني فائد مولى عبيد الله بن
علي بن أبي رافع: أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة،
أخبره: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: لو رحم الله أحدًا من قوم نوح
لرحم أم الصبي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث
في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر
زمانه غَرس شجرةً، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب، ثم قطعها، ثم جعل
يعمل سفينة، ويمرُّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة! فيسخرون
منه ويقولون: تعمل سفينةً في البر فكيف تجري! فيقول: سوف
تعلمون. فلما فرغ منها،
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 295، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " سخر " فيما سلف 14: 382، تعليق: 2.
(15/310)
وفارَ التنور، وكثر الماء في السكك، خشيت
أمُّ الصبيِّ عليه، وكانت تحبّه حبًّا شديدًا، فخرجت إلى الجبل
حتى بلغت ثُلُثه. فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل.
فلما بلغها الماء خرجت، حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء
رقبتها رفعتْه بين يديها، حتى ذهب بها الماء. فلو رحم الله
منهم أحدًا لرحم أمّ الصبيّ. (1)
18134- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون
ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها
18135- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك،
عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع،
وعرضها ست مائة ذراع.
18136- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 18133 - " ابن أبي مريم "، هو: " سعيد بن أبي مريم
"، ثقة: روى له الجماعة، سلف مرارًا، آخرها: 12771." وموسى بن
يعقوب بن يعقوب الزمعي "، ثقة، متكلم فيه، مضى توثيقه برقم:
9923، ورقم: 15756، 15822، وقال علي بن المديني: " ضعيف
الحديث، منكر الحديث "، وقال الأثرم: سألت أحمد عنه، فكأنه لم
يعجبه. " وفائد، مولى عبيد الله بن بن علي بن أبي رافع، عبادل
"، وهو " فائد، مولى عبادل "، ثقة لا باس به. مترجم في
التهذيب، والكبير 4 / 1 / 131، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 84. "
وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي "، هو " إبراهيم
بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة "، ثقة، روى عن خالته
عائشة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 296، وابن أبي حاتم
1 / 1 / 111.هذا إسناد " حسن ". ورواه الطبري بهذا الإسناد
نفسه في تاريخه 1: 91. وقد رواه من هذه الطريق نفسها، الحاكم
في المستدرك 2: 342، 547 ثم قال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم
يخرجاه "، ولكن الذهبي قال: " إسناده مظلم. وموسى، ليس بذاك "،
وهذا شديد، وأقرب منه ما قاله ابن كثير في تفسيره 4: 367، 368،
ورواه عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ومن تفسير الحبر أبي
محمد بن أبي حاتم، ثم قال: " وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد
روى عن كعب الأحبار، ومجاهد بن جبير، قصة هذا الصبي وأمه بنحو
هذا ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 200، وقال: " رواه
الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين
وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات ".
(15/311)
مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن
يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال الحواريُّون لعيسى ابن
مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدَّثنا عنها! قال:
فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك
التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصاه، قال: قم
بإذن الله! فإذا هو قائمٌ ينفُض التراب عن رأسه قد شَابَ، قال
له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا ولكن مِتُّ وأنا شابّ، ولكني ظننت
أنها الساعة، فمن ثَمَّ شِبتُ. قال: حدثنا عن سفينة نوح. قال:
كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع، وكانت
ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدوابُّ والوحش، وطبقة فيها الإنس،
وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدوابِّ، أوحى الله إلى نوح
أن اغمز ذَنب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على
الرَّوْث. فلما وقع الفأر بجَرَز السفينة يقرضه، (1) أوحى الله
إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سِنَّور
وسنّورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أنّ
البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغرابَ يأتيه بالخبر، فوجد جيفةً
فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت قال: ثم
بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن
البلاد قد غرقت قال: فطوَّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها
أن تكون في أنسٍ وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال: فقلنا يا
رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا، فيجلس معنا، ويحدثنا؟ قال:
كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عُدْ بإذن الله، قال:
فعاد ترابًا. (2)
18137- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عمن
لا يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي: أنه كان يحدّث أنه بلغه
أنهم كانوا يبطشون به = يعني قوم نوح = فيخنقونه حتى يغشى
عليه، فإذا أفاق قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، حتى
إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول
عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النَّجْل
بعد النَّجْل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله،
حتى إن كان الآخر منهم ليقول: "قد كان هذا مع آبائنا ومع
أجدادنا هكذا مجنونًا"! لا يقبلون منه شيئًا. حتى شكا ذلك من
أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: (رَبِّ
إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلا فِرَارًا) ، إلى آخر القصة، حتى قال: (رَبِّ لا
تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا
فَاجِرًا كَفَّارًا) ، إلى آخر القصة [سورة نوح: 5 -27] . فلما
شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه (أن
اصطنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ، أي:
بعد اليوم، (إنهم مغرقون) . فأقبل نوح على عمل الفلك، ولَهِيَ
عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من
القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرُّون به وهو
في ذلك من عمله، فيسخرون منه ويستهزئون به، فيقول: (إن تسخروا
منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمونَ من يأتيه عذاب
يخزيه ويحلّ
__________
(1) في المطبوعة " بحبل السفينة "، وفي المخطوطة: " يحرر " غير
منقوطة، ورأيت أن أقرأها كذلك، و " الجرز " (بفتح الجيم
والزاي) صدر الإنسان أو وسطه، كما قالوا له: " الجؤجؤ "، وهو
صدر الطائر. وفي تاريخ الطبري " بخرز "، كأن جمع " خرزة ".
(2) الأثر 18136 - " المفضل بن فضالة بن أبي أمية القرشي " ليس
بذاك، وقيل: في حديثه نكارة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1
/ 405، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 317، وميزان الاعتدال 3: 195."
وعلي بن زيد بن جدعان "، سلف مرارًا، آخرها رقم: 17861، وقد
ذكرت هناك توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وذكرت تضعيف
الأئمة لحديثه، ورجحت أن يعتبر بحديثه. وهذا خبر لا شك أنه من
بقية أخبار بني إسرائيل وأشباههم، لا يبلغ أن يكون شيئا.
ورواه الطبري في تاريخه 1: 91، 92.
(15/312)
عليه عذاب مقيم) ، قال: ويقولون فيما
بلغني: يا نوح قد صرت نجَّارًا بعد النبوّة! قال: وأعقم الله
أرحام النساء، فلا يولد لهم ولد. قال: ويزعم أهل التوراة أن
الله أمره أن يصنع الفلك من خشب السّاج، وأن يصنعه أزْوَر، (1)
وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين
ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل
فيه كُوًى. ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا فرغ منه وقد عهد
الله إليه (إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل
زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه
إلا قليل) وقد جعل التَّنُّور آية فيما بينه وبينه، فقال: (إذا
جاء أمرنا وفار التَّنُّور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) ،
واركب. فلما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله،
وكانوا قليلا كما قال الله، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما
فيه الروح والشجر، ذكر وأنثى، فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام
ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر:
نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ، وتخلف عنه
ابنه يَام، وكان كافرًا. (2)
18138- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
الحسن بن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن
عباس، قال: سمعته يقول: كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من
الدوابّ الذرّة، وآخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار وأدخَل
صدره، تعلق إبليس بذنبه، (3) فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح يقول:
ويحك ادخل! فينهض فلا يستطيع. حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان
الشيطان معك! قال: كلمة زلَّت عن لسانه، فلما قالها نوح خلَّي
الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطانُ معه، فقال
__________
(1) " أزور "، من " الزور "، (بفتح فسكون) وهو الصدر، و "
الزور " (بفتحتين) ، وهو عوج الزور، وهو أن يستدق جوشن الصدر،
ويخرج الكلكل، كأنه عصر من جانبيه.
(2) الأثر: 18137 - رواه الطبري في تاريخه 1: 92، 93.
(3) في المطبوعة: " فلما دخل الحمار وأدخل رأسه مسك إبليس "،
وفي المخطوطة: " فلما أدخل الحمار، وأدخل صدره إبليس بذنبه "،
الأولى " أدخل "، وبين الكلامين بياض، وأثبت الصواب من تاريخ
الطبري.
(15/314)
له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدوَّ الله؟
فقال: ألم تقل: "ادخل وإن كان الشيطان معك"؟ قال: اخرج عنّي يا
عدوّ الله! فقال: ما لك بدٌّ من أن تحملني! فكان، فيما يزعمون،
في ظهر الفلك، فلما اطمأن نوح في الفلك، وأدخل فيه من آمن به،
وكان ذلك في الشهر. . . . (1) من السنة التي دخل فيها نوح بعد
ست مائة سنة من عمره، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل
وحمل معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، (2) وفتح أبواب
السماء، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ
وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى
أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ، [سورة القمر: 11-12] . فدخل نوح ومن معه
الفلك، وغطاه عليه وعلى من معه بطَبَقه، (3) فكان بين أن أرسل
الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون
ليلة، ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة، وكثر الماء واشتد
وارتفع، يقول الله لمحمد: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) ، [سورة القمر: 13] ، و"الدسر"، المسامير،
مسامير الحديد = فجعلت الفلك تجري به، وبمن معه في موج
كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزلٍ حين
رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى، فقال: (يا بني اركب معنا
ولا تكن مع الكافرين) ، وكان شقيًّا قد أضمر كفرًا. (قال سآوي
إلى جبل يعصمني من الماء) ، وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من
الأمطار إذا كانت، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد. قال نوح: (لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من
المغرقين) ، وكثر الماء حتى طغى، وارتفع فوق الجبال، كما تزعم
أهل التوراة، بخمسة عشر ذراعًا، فباد ما على وجه الأرض من
الخلق، من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق
إلا نوح ومن معه في الفلك، وإلا عُوج بن عُنُق فيما يزعم أهل
الكتاب، فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة
أشهر وعشر ليالٍ. (4)
18139- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان = قال ابن حميد، قال
سلمة، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، قال: سمعته يقول:
لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس، أمر أن يمسح ذنب الفيل،
فمسحه، فخرج منه خنزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في
الفلك، فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس، فخرج من
منخريه هِرّان يأكلان عنه الفأر.
18140- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال:
لما كان نوح في السفينة، قرض الفأر حبالَ السفينة، فشكا نوح،
فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سِنَّوران. وكان في
السفينة عذرة، فشكا ذلك إلى ربه، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب
الفيل، فخرج خنزيران
18141- حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال، حدثنا الأسود بن
عامر قال، أخبرنا سفيان بن سعيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن
مهران، عن ابن عباس، بنحوه. (5)
__________
(1) سقط من المخطوطة والمطبوعة عدد الشهر الذي ذكره، وساق
الكلام سياقًا واحدًا، فوضعت النقط دلالة على هذا السقط، ولكن
هكذا جاء أيضًا في التاريخ.
(2) " الغوط " (بفتح فسكون) و" الغائط "، المتسع من الأرض من
طمأنينة، وهو هنا: عمق الأرض الأبعد.
(3) " الطبق "، غطاء كل شيء. وكان في المطبوعة: " بطبقة "، وهو
خطأ.
(4) الأثر: 18138 - رواه الطبري في تاريخه 1: 93، 94.
(5) الأثر: 18141 - " إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني،
السعدي، شيخ الطبري، كان من الحفاظ، مترجم في التهذيب، وابن
أبي حاتم 1 / 1 / 148 "." والأسود بن عامر، شاذان "، ثقة، مضى
برقم: 13927.
(15/315)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
18142- حدثت عن المسيب بن أبي روق، عن
الضحاك، قال: قال سليمان القراسي: عمل نوح السفينة في أربع
مائة سنة، وأنبت الساج أربعين سنة، حتى كان طوله أربع مائة
ذراع، والذراع إلى المنكب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
ويَحِلُّ عَليهِ عَذابٌ مُقيمٌ 39 حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا
قَلِيلٌ (40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه: (فسوف
تعلمون) ، أيها القوم، إذا جاء أمر الله، من الهالك، (من يأتيه
عذاب يخزيه) ، يقول: الذي يأتيه عذابُ الله منا ومنكم يهينه
ويذله (2) = (ويحل عليه عذاب مقيم) ، يقول: وينزل به في
الآخرة، مع ذلك، عذابٌ دائم لا انقطاع له، مقيم عليه أبدًا.
(3)
* * *
وقوله: (حتى إذا جاء أمرُنا) ، يقول: "ويصنع نوح الفلك" (حتى
إذا
__________
(1) الأثر: 18142 - " المسيب "، هو " المسيب بن شريك التميمي
"، متروك سلف برقم: 16806. " وسليمان القراسي "، لم أعرف من
يكون.وكان في المخطوطة والمطبوعة: " المسيب بن أبي روق "، وهو
خطأ صرف وسيأتي على الصواب برقم: 18173.قلت: وهذه الأخبار
الآنفة، كلها رجم من رجم أصحاب الكتب السالفة، لا خير فيها،
إلا أنهم ربما أثبتوها في كتبهم، لأنه كان هكذا يروى، ولكن ما
من أحد من أهل العلم يعدها حجة على شيء، أو مظنة اعتقاد
بصحتها.
(2) انظر تفسير " الخزى " فيما سلف من فهارس اللغة (خزى) .
(3) انظر تفسير " عذاب مقيم " فيما سلف 10: 293 / 14: 174،
340.
(15/317)
جاء أمرنا) الذي وعدناه أن يجيء قومه من
الطوفان الذي يغرقهم.
* * *
وقوله: (وفار التنور) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض = (وفار التنور)
، وهو وجه الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
18143- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا
العوام بن حوشب، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال في قوله:
(وفار التنور) ، قال: (التنور) ، وجه الأرض. قال: قيل له: إذا
رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك. قال: والعرب
تسمى وجه الأرض: "تنور الأرض".
18144- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن العوام، عن الضحاك، بنحوه.
18145- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال،
أخبرنا الشيباني، عن عكرمة، في قوله: (وفار التنور) ، قال: وجه
الأرض
18146- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا
حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عكرمة: (وفار التنور) ، قال:
وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون: هو تنويرُ الصبح، من قولهم: "نوَّرَ الصبح
تنويرًا".
*ذكر من قال ذلك:
18147- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا محمد بن فضيل قال،
حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عباس مولى أبي جحيفة، عن أبي
جحيفة، عن
(15/318)
علي رضى الله عنه قوله: (حتى إذا جاء أمرنا
وفار التنور) ، قال: هو تنوير الصبح.
18148- حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن
فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد مولى أبي جحيفة، عن أبي
جحيفة، عن علي في قوله: (وفار التنور) ، قال: تنوير الصبح.
18149- حدثنا حماد بن يعقوب، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن عبد
الرحمن بن إسحاق، عن مولى أبي جحيفة = أراه قد سماه = عن أبي
جحيفة، عن علي: (وفار التنور) قال: تنوير الصبح.
18150- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا هشيم، عن ابن إسحاق،
عن رجل من قريش، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (وفار
التنور) ، قال: طلع الفجر.
* * *
18151- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن رجل قد سمّاه، عن علي بن أبي
طالب قوله: (وفار التنور) ، قال: إذا طلع الفجر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها
بالماء. وقال: "التنور" أشرف الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
18152- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، كنا نحدّث أنه أعلى
الأرض وأشرَفُها، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه
18153- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو
هلال قال، سمعت قتادة قوله: (وفار التنور) قال: أشرف الأرض
وأرفعها فار الماء منه.
* * *
(15/319)
وقال آخرون: هو التنور الذي يُخْتَبز فيه.
*ذكر قال ذلك:
18154- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (حتى إذا جاء أمرنا
وفار التنور) ، قال: إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ،
فإنه هلاك قومك.
18155- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي محمد،
عن الحسن قال: كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى
نوح. قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ
وأصحابك.
18156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور) ، قال: حين انبجس الماء،
وأمر نوحٌ أن يركب هو ومن معه في الفلك.
18157- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور) ، قال: انبجس
الماء منه، آيةً، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
18158- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه = إلا أنه قال: آيةً، أن يركب
أهله ومن معه في السفينة.
18159- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: آية
بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة.
18160- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا خلف بن
خليفة، عن ليث، عن مجاهد قال، نبع الماء في التنور، فعلمت به
امرأته فأخبرته قال، وكان ذلك في ناحية الكُوفة.
(15/320)
18161-. . .. قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا
علي بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي: أنه كان يحلف
بالله، ما فار التّنُّور إلا من ناحية الكوفة.
18162- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن
النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وفار
التنور) ، قال: فار التنُّور بالهند.
18163- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وفار
التنور) ، كان آيةً لنوح، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ
الهلاكُ والغرق.
* * *
وكان ابن عباس يقول في معنى "فار" نبع.
18164- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وفار التنور) ، قال: نبع.
* * *
قال أبو جعفر: و"فوران الماء" سَوْرَة دفعته، يقال منه: "فار
الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا وفَوَرَانًا "، (1) وذلك إذا
سارت دفعته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (التنور)
، قول من قال: "هو التنور الذي يخبز فيه"، لأن ذلك هو المعروف
من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من
معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك
فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به،
لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.
* * *
= (قلنا) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا أن
نعذبهم به، وفار التنور
__________
(1) قوله: " وفؤورا "، حذفها من المطبوعة، وهي ثابتة في
المخطوطة.
(15/321)
الذي جعلنا فورَانه بالماء آيةَ مجيء
عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه = (احمل فيها) ، يعني في الفلك
(من كل زوجين اثنين) ، يقول: من كل ذكر وأنثى، كما:-
18165- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين) ، قال: ذكر وأنثى من
كل صنف.
18166- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18167- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين) ، فالواحد "زوج"،
و"الزوجين" ذكر وأنثى من كل صنف.
18168-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (من كل زوجين اثنين) ،
قال: ذكر وأنثى من كل صنف.
18169-. . . . قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18170- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، يقول: من كل صنف اثنين.
18171- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كل زوجين
اثنين) ، يعني بالزوجين اثنين: ذكر أو أنثى.
* * *
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، "الزوجان"، في
كلام العرب: الاثنان. قال، ويقال: "عليه زوجَا نِعال"، إذا
كانت عليه
(15/322)
نعلان، ولا يقال: "عليه زوجُ نعال"، وكذلك:
"عنده زوجا حمام"، و"عليه زوجَا قيود". وقال: ألا تسمع إلى
قوله: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى)
[سورة النجم: 45] ، فإنما هما اثنان. (1)
* * *
وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله: (قلنا احمل فيها من
كل زوجين اثنين) ، قال: فجعل "الزوجين"، "الضربين"، الذكور
والإناث. قال: وزعم يونس أن قول الشاعر: (2)
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَغْدُو عَلَى كُلِّ غِرَّة ... فَتُخْطِئُ
فِيهَا مَرَّةً وَتُصِيبُ (3)
يعني به الذئب. قال: فهذا أشذّ من ذلك.
* * *
وقال آخر منهم: "الزوج"، اللون. قال: وكل ضرب يدعى "لونًا"،
واستشهد ببيت الأعشى في ذلك:
وَكُلُّ زَوْجٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يَلْبَسُهُ ... أَبُو
قُدَامَةَ مَحْبُوًّا بِذَاكَ مَعَا (4)
ويقول لبيد:
وَذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المقَانِبُ صَوْتَهُ ... وَزَيَّنَهُ
أَزْوَاجُ نَوْرٍ مُشَرَّبِ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الزوجين " فيما سلف 12: 183، 184.
(2) لم أعرف قائله.
(3) اللسان (مرأ) ، ويعني أنه سمى الذئب " امرءا "، جعله
إنسانا، فهذا شذوذه.
(4) ديوانه: 86، اللسان (زوج) ، من قصيدته في " هوذة بن علي
الحنفي "، وهو " أبو قدامة "، وقبله: مَنْ يَلْقَ هَوْذَةَ
يَسْجُدْ غَيْرَ مُتَّئِبٍ ... إذا تَعَصَّبَ فَوْقَ التَّاجِ
أوْ وَضَعَا
لَهُ أَكَالِيلُ بِالْيَاقُوتِ زَيَّنَها ... صُوَّاغُها، لاَ
تَرَى عَيْبًا ولَا طَبَعَا.
(5) ديوانه: قصيدة 9، البيت: 25، يصف غيثًا تبرجت به الأرض،
يقول قبله: وَغَيْثٍ بِدَكْدَاكٍ يَزِينُ وِهَادَهُ ...
نَبَاتٌ كوَشْي العَبْقَرِيِّ المُخَلَّبِ
أَرَبَّتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَطْفَاءَ جَوْنَةٍ ... هَتُوفٍ
مَتَى يُنْزِفُ لَهَا الوَبْلُ تَسْكُبِ
بِذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المَقَانِبَ صَوْبُهُ ... وَزَيَّنَهُ
أَطْرَافُ نَبْتٍ مُشَرَّبِ
هذه رواية الديوان، وروى أيضًا: " ألوان نور مشرب ". و"الدكداك
" ما ارتفع واستوى من الأرض، و " الوهاد "، ما اطمأن من الأرض،
و " المخلب "، المخطط، يصف النبت وزهره، كأنه برود مخططة
منشورة على الربى والوهاد. و" أربت "، أقامت، و" الوطفاء
"السحابة الدانية من الأرض، و" الجونة "، السوداء، وذلك لكثرة
مائها، و" هتوف "، يهتف رعدها ويصوت. و" أنزف الشيء "، أذهبه.
يقول: أقامت عليه هذه السحابة الكثيرة الماء ترعد، فلما ذهب
الوبل، جاءت بمطر سكب. و"البهجة "، زهو النبات، و" كن "، منع
وستر، و" المقانب "، جماعة الخيل. و" الصوب " المطر. و"مشرب "
أشرب ألوانًا من حمرة وصفرة وخضرة. يقول: جاء المطر فاستتروا
به لطوله وارتفاعه. وأما رواية أبي جعفر، فمعناها: أن المقانب
منعته أن يرعاه أحد سواهم، فلم يسمع به صوت.
(15/323)
وذكر أن الحسن قال في قوله: (وَمِنْ كُلِّ
شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [سورة الذاريات: 49] : السماء
زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج،
والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه
شيء.
* * *
وقوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، يقول: واحمل أهلك
أيضًا في الفلك، يعني ب"الأهل"، ولده ونساءه وأزواجه (1) =
(إلا من سبق عليه القول) ، يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع
مَنْ أُهْلِكُ من قومك.
* * *
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله.
فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح.
*ذكر من قال ذلك:
18172- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، قال: العذاب،
هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف 8: 192.
(2) في المطبوعة: " من الغابرين "، غير ما في المخطوطة وهو
صواب محض.
(15/324)
وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق.
*ذكر من قال ذلك:
18173- حدثت عن المسيب، عن أبي روق. عن الضحاك في قوله: (وأهلك
إلا من سبق عليه القول) ، قال: ابنه، غرق فيمن غرق.
* * *
وقوله: (ومن آمن) ، يقول: واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك =
يقول الله: (وما آمن معه إلا قليل) ، يقول: وما أقرّ بوحدانية
الله مع نوح من قومه إلا قليل.
* * *
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك،
فقال بعضهم في ذلك: كانوا ثمانية أنفس.
*ذكر من قال ذلك:
18174- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا
قليل) ، قال: ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته
وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية.
18175- حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد
الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: (وما آمن معه إلا قليل)
، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه.
18176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج: حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة، وثلاث
نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه:
يافث، وسام، وحام، وأصاب حام زوجته في السفينة، فدعا نوحٌ أن
يغيّر نُطْفته، فجاء بالسُّودان.
* * *
(15/325)
وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس.
*ذكر من قال ذلك:
18177- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش: (وما آمن معه إلا قليل) ، قال: كانوا سبعة: نوح،
وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين.
* * *
وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم.
*ذكر من قال ذلك:
18178- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما
فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله به، وكانوا قليلا
كما قال الله، فحمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم،
وستة أناسي ممن كان آمن، فكانوا عشرة نفر، بنوح وبنيه
وأزواجهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كانوا ثمانين نفسًا.
*ذكر من قال ذلك:
18179- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج، قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين
إنسانًا.
18180- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين = يعني "القليل" الذي قال الله:
(وما آمن معه إلا قليل) .
18181- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن
الحباب قال، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال، حدثني أبو نهيك
قال:
__________
(1) الأثر: 18178 - سلف مختصرًا برقم 14792، وانظر التعليق
عليه هناك.
(15/326)
وَقَالَ ارْكَبُوا
فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
سمعت ابن عباس يقول: كان في سفينة نوح
ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله:
(وما آمن معه إلا قليل) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحُدّ
عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح،
فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد
ذلك حدٌّ من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ
اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك،
"بسم الله مجراها ومرساها".
* * *
وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه،
وهو قوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق
عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) = فحملهم نوح فيها =
"وقال" لهم، " اركبوا فيها". فاستغني بدلالة قوله: (وقال
اركبوا فيها) ، عن حمله إياهم فيها، فتُرك ذكره.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) ،
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (بِسْمِ
اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، بضم الميم في الحرفين
كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" و"أرسى"، وكان فيه وجهان
من الإعراب:
(15/327)
أحدهما: الرفع بمعنى: بسم الله إجراؤها
وإرساؤها = فيكون "المجرى" و"المرسى" مرفوعين حينئذ بالباء
التي في قوله: (بسم الله) .
والآخر: النصب، بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت
إجرائها وإرسائها = فيكون قوله: (بسم الله) ، كلامًا مكتفيًا
بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: "بسم الله"، ثم
يكون "المجرى" و"المرسى" منصوبين على ما نصبت العرب قولهم:
"الحمد لله سِرارَك وإهلالك"، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم
قالوا: "الحمد لله أوّل الهلال وآخره"، ومسموع منهم أيضا:
"الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك". (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا) ، بفتح الميم من "مجراها"، وضمها من "مرساها"،
فجعلوا "مجراها" مصدرًا من "جري يجري مَجْرَى"، و"مرساها" من
"أرسَى يُرْسي إرساء". (2)
وإذا قرئ ذلك كذلك، كانَ في إعرابهما من الوجهين، نحو الذي
فيهما إذا قرئا: (مُجراها ومُرساها) ، بضم الميم فيهما، على ما
بيَّنتُ.
* * *
وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: (بِسْمِ اللهِ
مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا) ، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا
لله. وإذا قرئا كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير
أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب، لأن
معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها =
ف"المجرى" نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه
الثاني، لأنه يحسن دخول الألف واللام في "المجري" و"المرسي"،
كقولك: "بسم الله
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن، بعد ذلك: " يريدون: ما بين
إهلالك إلى سرارك ".
(2) انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف 13: 293.
(15/328)
المجريها والمرسيها"، وإذا حذفتا نصبتا على
الحال، إذ كان فيهما معنى النكرة، وإن كانا مضافين إلى
المعرفة.
* * *
وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: (مَجْرَاهَا
ومَرْسَاهَا) ، بفتح الميم فيهما جميعا، من "جرى" و"رسا"، كأنه
وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين
للفلك، كما قال عنترة:
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا
نَفَسُ الجبَانِ تَطَلّعُ (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ:
(بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا) ، بفتح الميم (وَمُرْسَاهَا) ، بضم
الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي.
وإنما اخترت الفتح في ميم "مجراها" لقرب ذلك من قوله: (وهي
تَجْري بهم في موج كالجبال) ، ولم يقل: "تُجْرَى بهم". ومن
قرأ: (بسم الله مُجْراها) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ:
"وهي تُجْرى بهم". وفي إجماعهم على قراءة (تَجْرِي) ، بفتح
التاء دليل واضع على أن الوجه في (مجراها) فتح الميم. وإنما
اخترنا الضم في (مرساها) ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها.
ومعنى قوله (مجراها) ، مسيرها = (ومرساها) ، وقفها، من وقَفَها
الله وأرساها.
* * *
__________
(1) ديوانه: 89 من أبيات، يقول قبله، يذكر الغراب، ويتشاءم به.
إنَّ الَّذِينَ نَعَبْتَ لِي بِفِرَاقِهِمْ ... قَدْ
أَسْهَرُوا لَيْلَ التِّمَامِ وأوْجَعُوا
وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي ... لا يُنْجِنِي
مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذَلِكَ حُرَّةً ... . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
و" نفس عارفة "، حاملة الشدائد صبور، إذا حملت على أمر
احتملته، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة. و" ترسو "، تثبت.
و" تطلع "، تنزو متلفتة إلى مهرب، أو ناصر، من الجزع والرعب.
(15/329)
وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين
جميعًا.
18182- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
18183-. . .. قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا) ، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون.
18184- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون
ويرسون.
18185- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ،
قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون.
18186- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا أبو
روق، عن الضحاك، في قوله: (اركبوا فيها بسم الله مجراها
ومرساها) قال: إذا أراد أن ترسي قال: "بسم الله " فأرست، وإذا
أراد أن تجري قال "بسم الله " فجرت.
* * *
وقوله: (إن ربي لغفور رحيم) ، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب
وأناب إليه، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة
(غفر) ، (رحم) .
(15/330)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ
فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي
مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ
الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي
مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ
فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ
ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا
وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وهي تجري بهم) ، والفلك
تجري بنوح ومن معه فيها = (في موج كالجبال ونادى نوح ابنه) ،
يام = (وكان في معزل) ، عنه، لم يركب معه الفلك: (يا بني اركب
معنا) ، الفلك = (ولا تكن مع الكافرين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى
أن يركب معه السفينة خوفًا عليه من الغرق: (ساوي إلى جبل
يعصمني من الماء) يقول: سأصير إلى جبل أتحصّن به من الماء، (1)
فيمنعني منه أن يغرقني.
* * *
ويعني بقوله: (يعصمني) يمنعني، مثل "عصام القربة "، الذي يشدُّ
به رأسها، فيمنع الماء أن يسيل منها. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف 13: 477، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " يعصم " فيما سلف 10: 472، تعليق: 2 / 15: 73.
(15/331)
وقوله: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من
رحم) ، يقول: لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نزل بالخلق من
الغرق والهلاك، إلا من رحمنا فأنقذنا منه، فإنه الذي يمنع من
شاء من خلقه ويعصم.
* * *
= ف "من" في موضع رفع، لأن معنى الكلام: لا عاصم يَعصم اليوم
من أمر الله إلا الله.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في موضع "من" في هذا الموضع.
فقال بعض نحويي الكوفة: هو في موضع نصب، لأن المعصوم بخلاف
العاصم، والمرحوم معصوم. قال: كأن نصبه بمنزلة قوله: (مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [سورة
النساء: 157] ، قال: ومن استجاز: (اتِّباعُ الظَّنِّ) ، والرفع
في قوله: (1)
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلا الْيَعَافِيرُ
وَإِلا العِيسُ (2)
لم يجز له الرفع في "من"، لأن الذي قال: "إلا اليعافير"، جعل
أنيس البرِّ، اليعافير وما أشبهها. وكذلك قوله: (إلا اتباع
الظن) ، يقول علمهم ظنٌّ. قال: وأنت لا يجوز لك في وجه أن
تقول: "المعصوم " هو "عاصم " في حال، ولكن لو جعلت "العاصم "
في تأويل " معصوم"، [كأنك قلت] : " لا معصوم اليوم من أمر
الله"، (3) لجاز رفع "من". قال: ولا ينكر أن يخرج "المفعول"
على "فاعل"، ألا ترى قوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) ، [سورة
الطارق: 6] ، معناه، والله
__________
(1) هو جران العود.
(2) سلف البيت وتخريجه فيما مضى 9: 203.
(3) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء، وهو نص
كلامه.
(15/332)
أعلم: مدفوق = وقوله: (فِي عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ) ، معناها: مرضية؟ قال الشاعر: (1)
دَعِ الْمَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي (2)
ومعناه: المكسوُّ.
* * *
وقال بعض نحويّي البصرة: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من
رحم) ، على: "لكن من رحم"، ويجوز أن يكون على: لا ذا عصمة: أي:
معصوم، ويكون (إلا من رحم) ، رفعًا بدلا من "العاصم".
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء،
لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من كلام
من نزل بلسانه، ما وُجِد إلى ذلك سبيل.
ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل "عاصمًا" في معنى "معصوم"، ولا
أن نجعل "إلا" بمعنى "لكن"، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو
معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا، وهو ما قلنا من
أنَّ معنى ذلك: قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من
رحمَنا فأنجانا من عذابه، كما يقال: "لا مُنجي اليوم من عذاب
الله إلا الله" = " ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد".
__________
(1) هو الحطيئة.
(2) ديوانه: 54، وطبقات فحول الشعراء: 98، واللسان (طعم) ،
(كسا) ، ومعاني القرآن للفراء، وغيرها كثير، في خبره المشهور
لما ذم الزبرقان، واستعدى عليه عمر بن الخطاب، وقال عمر لحسان:
أهجاه؟ قال: لا، ولكنه ذرق عليه! وقد فسرته على أن " الطاعم "
و" الكاسي "، على النسب، أي: ذو الطعام، يشتهيه ويستجيده من
شرهه = وذو الكسوة، يتخيرها ويتأنق فيها، لا هم له في المكارم.
ولذلك قال الزبرقان لعمر: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس!
! ومثل هذا قول عبد الرحمن بن حسان: إنِّي رأَيْتُ مِنَ
المَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَن تَلْبَسُوا حُرَّ الثِّيَابِ
وَتَشْبَعُوا
.
(15/333)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ
ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ
بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم.
* * *
وقوله: (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) ، يقول: وحال بين
نوح وابنه موجُ الماء فغرق، (1) فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم
نوح صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي
مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ
الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما
تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق: (يا أرض
ابلعي ماءك) ، أي: تشرَّبي.
* * *
= من قول القائل: "بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه"، أو بَلَعَه
يَبْلَعُه"، إذا ازدَردَه. (2)
* * *
= (ويا سماء أقلعي) ، يقول: أقلعي عن المطر، أمسكي = (وغيض
الماء) ، ذهبت به الأرض ونَشِفته، (وقضي الأمر) ، يقول: قُضِي
أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح (3) = (واستوت على الجوديّ) ،
يعني الفلك = "استوت": أرست = "على الجودي"، وهو جبل، فيما ذكر
بناحية الموصل أو الجزيرة،
__________
(1) انظر تفسير " حال " فيما سلف 13: 472.
(2) الذي في المعاجم " بلع " (بفتح فكسر) ، أما " بلع "
(بفتحتين) ، فقد ذكرها ابن القطاع في كتاب الأفعال 1: 85 وفرق
بينهما وقال: " بَلِعَ الطعام بَلْعًا، وبَلَعَ الماء والربق
بَلْعًا "، وذكر أيضا ابن القوطية في كتاب الأفعال: 281، مثل
ذلك.
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .
(15/334)
= (وقيل بعدًا للقوم الظالمين) ، يقول: قال
الله: أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح.
(1)
* * *
18187- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا المحاربي، عن
عثمان بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح
السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر،
فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم
عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ
فصامُوا شكرًا لله. (2)
18188- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: كانت السفينة أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي
أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا، ودفعت من
عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على
الجوديّ يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه
الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت. (3)
__________
(1) انظر تفسير " استوى " فيما سلف ص: 18، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) الأثر: 18187 - " عباد بن يعقوب الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة
في الحديث، شيعي الرأي، مضى برقم: 5475." والمحاربي "، هو "
عبد الرحمن بن محمد المحاربي "، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى
مرارًا." وعثمان بن مطر الشيباني "، ضعيف منكر الحديث، متروك.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 169.وأما "عبد العزيز
بن عبد الغفور "، فهذا اسم مقلوب، وإنما هو " عبد الغفور بن
عبد العزيز " ويقال: " عبد الغفار بن عبد العزيز " ويروى عنه "
عثمان بن مطر ". وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث، ومضى برقم:
14776. ولكن العجب أن أبا جعفر رواه في تاريخه مقلوبًا
أيضًا.وأبوه " عبد العزيز الشامي "، لم أجد له ذكرًا، كما
أسلفت في رقم: 14776، وأخشى أن يكون هذا الإسناد: " عن أبيه،
عن أبيه "، كما سلف.وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا، ووقع فيه
الخلط في اسم " عبد الغفور " جزاء ما خلط في أحاديثه
ومناكيره.ورواه أبو جعفر في تاريخه أيضًا 1: 96.
(3) الأثر: 18188 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96.
(15/335)
18189- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، قال: هبط نوح
من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم
اليوم صائما فليتم صومه، ومن كان مفطرًا فليصم. (1)
18190- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: [ما] كان زَمَن نوحٍ شبر من
الأرض، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. (2)
18191- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أنَّها = يعني الفُلك = استقلَّت بهم في عشر خلون
من وجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي
شهرًا، وأهبط بهم في عشر [خَلَوْن] من المحرم يوم عاشوراء. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت
على الجودي) ، قال أهل التأويل.
* * *
ذكر من قال ذلك:
18192- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وغيض السماء) ، قال: نقص =
(وقضي الأمر) ، قال: هلاك قوم نوح
18193- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. -
18194 حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) الأثر: 18189 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96.
(2) الأثر: 18190 - كان في المخطوطة: " قال: كان زمن نوح شبر
عن الأرض لإنسان يدعيه "، وكان في المطبوعة:" كان في زمن نوح
شبر عن الأرض لا إنسان يدعيه" فزاد، وأساء القراءة، وأفسد
الكلام. والصواب من تاريخ الطبري 1: 96. وقوله: " إلا إنسان
يدعيه "، أي: يدعى أن الماء لم يعم الأرض كلها.
(3) الأثر: 18191 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96، والزيادة
بين القوسين منه.
(15/336)
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: قال ابن
جريج (وغيض الماء) ، نَشِفَتهُ الأرض. (1)
18195- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا سماء أقلعي) ، يقول: أمسكي
(وغيض الماء) ، يقول: ذهب الماء.
18196- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وغيض الماء) ، والغُيوض ذهاب الماء = (واستوت على الجودي) .
18197- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي) ، قال: جبل بالجزيرة،
تشامخت الجبال من الغَرَق، وتواضع هو لله فلم يغرق، فأرسيتْ
عليه.
18198- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي) ، قال: الجودي
جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت، وتواضع
هو لله فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه
18199- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18200- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واستوت على الجودي) ،
يقول: على الجبل؛ واسمه "الجودي"
18201- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان:
(واستوت على الجودي) ، قال: جبل بالجزيرة، شمخت الجبال،
وتواضعَ
__________
(1) " نشفت الأرض الماء، نشفًا " (بفتح النون وكسر الشين، في
الفعل) ، شربته.
(15/337)
حين أرادت أن ترفأ عليه سفينة نوح. (1)
18202- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(واستوت على الجودي) ، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة
وآية.
18203- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: (واستوت على الجودي) ، هو جبل
بالموصل.
18204- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذُكر لنا أن نوحًا بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة
فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، فأعْطيت الطوقَ
الذي في عنقها، وخضابَ رجليها.
18205- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما
أراد الله أن يكفّ ذلك = يعني الطوفان = أرسل ريحًا على وجه
الأرض، فسكن الماء، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر،
وَأبوابُ السماء. (2) يقول الله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي
ماءك ويا سماء أقلعي) ، إلى: (بعدًا للقوم الظالمين) ، فجعل
ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم
أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، في أول
يوم من الشهر العاشر، رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك
أربعون يومًا، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسلَ
الغراب لينظر له ما فعل الماءُ، فلم يرجع إليه. فأرسل
__________
(1) " رفأ السفينة يرفؤها "، أدناها من الشط، فعل متعد، و"
أرفأت السفينة نفسها "، لازم، ولكن هكذا جاء في المخطوطة "
أرادت أن ترفأ "، وعندي أنه جائز أن يقال: " رفأت السفينة
نفسها "، لازما.
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " الغمر الأكبر "، وأنا أرجح
أنه خطأ محض، وأن الصواب: " الغوط الأكبر "، وبهذا اللفظ رواه
صاحب اللسان في مادة (غوط) . وقد سبق تفسير " الغوط الأكبر" في
الأثر رقم: 18138 ص: 315، تعليق: 2.
(15/338)
وَنَادَى نُوحٌ
رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
الحمامةَ، فرجعت إليه، ولم يجد لرجليها
موضعًا، فبسط يده للحمامة، فأخذها. ثم مكث سبعة أيام، ثم
أرسلها لتنظر له، فرجعت حين أمست، وفي فيها ورَق زيتونة، فعلم
نوح أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام، ثم
أرسلها فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد برَزَت، فلما كملت
السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة،
ودخل يوم واحد من الشهر الأوّل من سنة اثنتين، برز وجه الأرض،
فظهر اليبس، وكشف نوح غطاء الفلك، ورأى وجه الأرض. وفي الشهر
الثاني من سنة اثنتين في سبع وعشرين ليلة منه قيل لنوح:
(اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ
مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
18206- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: تزعُم أناسٌ أن
من غرق من الولدان مع آبائهم، وليس كذلك، إنما الولدان بمنزلة
الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب، ولكن حضرت آجالهم فماتوا
لآجالهم، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من
الله لهم في الدنيا، ثم مصيرهم إلى النار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك
وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني
من أهلي (1) = (وإن وعدك الحقُّ) ، الذي لا خلف له = (وأنت
أحكم الحاكم) ، بالحق، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني، من أنْ
تنجّي لي أهلي، وترجع إليَّ ابني، كما:-
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف ص. . .، تعليق:. . .،
والمراجع هناك.
(15/339)
18207- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله: (وأنت أحكم الحاكمين) ، قال: أحكم
الحاكمين بالحق.
* * *
(15/340)
قَالَ يَا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا
نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ
صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي
أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي
غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليس من أهلك) .
فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك
من حِنْثٍ. (1)
*ذكر من قال ذلك:
18208- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن
الحسن، في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال: لم يكن ابنه.
18209- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن
شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: (ونادى نوح ابنه) ، قال: ابن
امرأته.
18210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي
عروبة فيهم، [عن] الحسن قال: لا والله، ما هو بابنه. (2)
__________
(1) " الحنث " (بكسر الحاء وسكون النون) ، الذنب والمعصية. وفي
الحديث " يكثر فيهم أولاد الحنث "، أي: أولاد الزنا. ويروى "
الخبث " (بالخاء مضمومة والثاء) ، من " الخبث "، وهو الفساد
والفجور. وفي الحديث: " إذا كثر الخبث كان كذا وكذا "، أي:
الفسق والفجور. وفي الحديث " أنه أتى برجل مخدج سقيم، وجد مع
أمة يخبث بها "، أي: يزني بها. ويقال: " هو ابن خبثة "، لابن
الزنية، ولد لغير رشدة.
(2) الأثر: 18210 - كان في المطبوعة: " عن أصحاب ابن أبي عروبة
فيهم الحسن "، وهو كلام لا معنى له، وخاصة بعد تصرفه في نص
المخطوطة، لأنه لم يفهم معنى هذا الإسناد، إذ كان فيها: " عن
أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن "، وهذا أيضًا فاسد، يصلحه ما
زدته بين القوسين، فإن " ابن علية " يروي عن " سعيد بن أبي
عروبة "، و " ابن أبي عروبة " روى عن " الحسن البصري ".
(15/340)
18211-. . . . قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل،
عن جابر، عن أبي جعفر: (ونادى نوح ابنه) ، قال: هذه بلغة طيّ
لم يكن ابنه، كان ابن امرأته.
18212- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال:
لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)
(1)
18213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: "نادى نوح
ابنه"، لعمْر الله ما هو ابنه! قال: قلت: يا أبا سعيد يقول:
(ونادى نوح ابنه) ، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: (إنه
ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن
أنجيهم معك، (2) ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل
الكتاب يكذبون.
18214- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير
صالح) ، فقال عند ذلك: والله ما كان ابنه. ثم قرأ هذه الآية:
(فَخَانَتَاهُمَا) ، [سورة التحريم: 10] قال سعيد: فذكرت ذلك
لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف!
18215- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تسألن ما ليس لك به
علم) ، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.
__________
(1) الأثر: 18212 - انظر ما سيأتي رقم: 18246.
(2) في المخطوطة: " إنه ليس من أهلي "، وفوقها حرف (ط) دلالة
على الخطأ.
(15/341)
18216- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تسألن ما ليس
لك به علم) ، قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
18217- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
18218- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جريج في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: ناداه وهو
يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه
18219- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: (إنه ليس من أهلك) ، قال: لو
كان من أهله لنجا. (1)
18220- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع
عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم "الولد للفراش"، من أجل ابن نوح.
18221- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن
الحسن قال: لا والله ما هو بابنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (ليس من أهلك) الذين وعدتك أن أنجيهم.
*ذكر من قال ذلك:
18222- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن
__________
(1) الأثر: 18219 - " ثوير "، هو " ثوير بن أبي فاختة "، ضعيف،
مضى مرارًا، آخرها برقم: 9833. وكان في المطبوعة: " ثور "،
والصواب من المخطوطة.
(15/342)
سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، عن ابن
عباس في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: هو ابنه.
18223- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال،
حدثنا أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت
امرأة نبيٍّ قطُّ.
18224- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال،
أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن الضحاك بن مزاحم، عن
ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: (إنه ليس من
أهلك) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
18225- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه
خالفه في العمل والنية = قال عكرمة في بعض الحروف: (إِنَّهُ
عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ) ، والخيانة تكون على غير بابٍ.
18226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال، كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية
والعمل، فمن ثم قيل له: (إنه ليس من أهلك) .
18227- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري
وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت
ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى:
(فَخَانَتَاهُمَا) ، [سورة التحريم: 10] ، قال: أما إنه لم يكن
بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل،
على الأضياف. ثم قرأ: (إنه عملٌ خير صالح) = قال ابن عيينة:
وأخبرني عمار الدُّهني: أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال:
كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: (ونادى نوح
(15/343)
ابنه) ، قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت
امرَأة نبيٍّ قط.
18228- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمار الدهني،
عن سعيد بن جبير قال: قال الله، وهو الصادق، وهو ابنه: (ونادى
نوح ابنه) .
18229- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى
بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت
امرأة نبي قط.
18230- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا
بشر عن قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال: ليس من أهل دينك، وليس
ممن وعدتك أن أنجيهم = قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان
يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير.
18231- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن
قيس قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي
ذكر الله في كتابه "ابن نوح" أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن
نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى، فقال: (سآوي إلى
جبل يعصمني من الماء) ، قال: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل
غير صالح) ، لمعصية نبي الله.
18232- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر،
عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير: أنه جاء إليه رجل
فسأله. فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا
إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: (ونادى نوح ابنه) وتقول ليس
منه؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن.
18233- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي
هارون الغنوي، عن عكرمة في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: أشهد
أنه ابنه، قال الله:
(15/344)
(ونادى نوح ابنه) .
18234- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه.
18235- حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل
الضحاك عن ابن نوح، فقال: ألا تعجبون إلى هذا الأحمق! يسألني
عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال نوح لابنه. (1)
18236- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
عبيد، عن الضحاك أنه قرأ: (ونادى نوح ابنه) ، وقوله: (ليس من
أهلك) ، قال: يقول: ليس هو من أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل
ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك = (إنه عمل غير صالح) ،
قال: يقول كان عمله في شرك.
18237- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن
الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه.
18238- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (ليس من أهلك) ، قال: ليس من أهل
دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه.
18239- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 18235 - " فضالة بن الفضل بن فضالة التميمي الطهوي
الكوفي "، شيخ الطبري، صدوق ربما أخطأ. مترجم في التهذيب وابن
أبي حاتم 3 / 2 / 79.
و" بزيع " هو اللحام، أبو حازم، وهو "بزيع بن عبد الله " سمع
الضحاك. كان أبو نعيم يتكلم فيه، وضعفه النسائي وغيره. وقال
ابن عدي: " إنما أنكروا عليه ما يحكيه عن الضحاك من التفسير
ولا يتابع عليه ". مترجم في الكبير 1 / 2 / 130، وابن أبي حاتم
1 / 1 / 420، ولسان الميزان 2: 12، وميزان الاعتدال 1: 143.
وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة في آخر الخبر: " كما قال
الله، قال نوح لابنه "، والآية: " ونادى نوح ابنه "، وأخشى أن
يكون أراد: " قال نوح لابنه: يا بني اركب معنا ".
(15/345)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قال يا
نوح إنه ليس من أهلك) ، يقول: ليس ممن وعدناه النجاة.
18240- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنه ليس من
أهلك) ، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من
أهلك = (إنه عمل غير صالح) ، يقول: كان عمله في شرك.
18241- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن
برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه، ولد على
فراشه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل
ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك
مخالفًا، وبي كافرًا = وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر
نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: (ونادى نوح
ابنه) ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس
في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ
كان قوله: (ليس من أهلك) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا
أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف "الدين" فيقال: (إنه ليس من
أهلك) ، كما قيل: (واسأل القرية التي كنا فيها) ، [سورة يوسف:
82] .
* * *
وأما قوله: (إنه عمل غير صالح) ، فإن القراء اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قراء الأمصار: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)
بتنوين "عمل" ورفع "غير".
* * *
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح.
(15/346)
*ذكر من قال ذلك:
18242- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:
(إنه عمل غير صالح) ، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح.
18243- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(إنه عمل غير صالح) ، أي سوء (1) = (فلا تسألن ما ليس لك به
علم) .
18244- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنه عمل غير صالح) ، يقول: سؤالك
عما ليس لك به علم.
18245- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: (إنه عمل غير صالح) ،
قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح = (فلا تسألن ما ليس لك به
علمٌ) .
* * *
وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن
أنجيه، عملٌ غير صالح، أي: أنه لغير رشدة. وقالوا: "الهاء"، في
قوله: "إنه" عائدة على "الابن".
*ذكر من قال ذلك:
18246- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة،
عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ، قال:
ما هو والله بابنه. (2)
* * *
وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك: (إِنَّهُ عَمِلَ
غَيْرَ صَالِحٍ) ،
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب: " أي سؤالك إياي "، ولكن هكذا هو في
المخطوطة والمطبوعة.
(2) الأثر: 18246 - انظر ما سلف رقم: 18212.
(15/347)
على وجه الخبر عن الفعل الماضي، وغير
منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك، ابنُ عباس.
18247- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي
عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ: (عَمِلَ غَيْرَ
صَالِحٍ) .
* * *
ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:-
18248- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة،
عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ
صَالِحٍ) ، قال: كان مخالفًا في النية والعمل.
* * *
قال أبو جعفر: = ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء
الأمصار، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك، غيرِ صحيح السند.
وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول: "عن أم سلمة"، ومرة
يقول: "عن أسماء بنت يزيد"، ولا نعلم أبنت يزيد [يريد] ؟ (1)
ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة.
__________
(1) في المطبوعة: " ولا نعلم لبنت يزيد، ولا نعلم لشهر. . . "،
وفي المخطوطة مثله، إلا أن فيها: " أبنت يريد "، ورأيت أن أبا
جعفر أراد ما أثبت، بهذه الزيادة بين القوسين، وكأنه يقول: إنه
يقول مرة " أم سلمة " ومرة " أسماء بنت يزيد "، ولا نعلم أهي
التي يريد بقوله: " أم سلمة "، أم غيرها، وانظر التعليق
التالي.
(15/348)
(1)
* * *
__________
(1) . . . حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد، أو " أم سلمة
"، لم يذكر أبو جعفر إسناده، وسأفصل القول فيه في هذا الموضع،
فإن أبا جعفر لم يوف الأمر حقه، ولم يبينه بيانًا شافيًا.
1 - وهذا الحديث، رواه أحمد في مسنده في ثلاثة مواضع 6: 454،
459، 460، كلها من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن
شهر بن حوشب، عن " أسماء بنت يزيد "، والطريق الأولى والثالثة،
مطولة، فيها قراءة آية سورة الزمر: 53
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلاَ يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ} .
2 - ومن هذه الطريق نفسها، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص:
226، رقم: 1631، مقتصرًا على الآية الأولى، " شهر بن حوشب، عن
أسماء بنت يزيد الأنصارية ".
3 - ورواه أبو داود في سننه 4: 47، من طريقين، رقم: 3982،
3983. الأولى: حماد، عن ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد.
الثانية: عبد العزيز بن المختار، عن ثابت، عن شهر قال: سألت أم
سلمة: كيف كان رسول الله يقرأ هذه الآية؟
4 - ورواه الترمذي في " القراءات "، من طريق عبد الله بن حفص،
عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وقال: وقد روي هذا الحديث أيضًا عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت
يزيد.
5 - ورواه أبو نعيم في الحلية 8: 301، من طريق محمد بن ثابت
البناني، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة. "
وقال: حديث مشهور من حديث ثابت "، وانظر رقم (8) ، فإن
الطيالسي جعله من حديث أم سلمة أم المؤمنين.
6 - ورواه الحاكم في المستدرك 2: 249، مقتصرًا على آية " سورة
الزمر "، التي ذكرتها في رقم: 1، من طريق حماد بن سلمة، عن
ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد، ثم قال: " هذا حديث غريب
عال، ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر، غير هذا الحديث الواحد ".
7 - ورواه أحمد في مسنده 6: 294، 322، من طريق هارون النحوي،
عن ثابت البناني، عن أبيه، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة (وذلك
في مسند أم سلمة أم المؤمنين. (وظني أن أبا جعفر ذهب إلى أن
شهرًا دلس في هذا الحديث، فلا يعلم أأراد " أسماء بنت يزيد
الأنصارية "، أم " أم سلمة " أم المؤمنين، ولذلك قال بعد: "ولا
نعلم لشهر سماعًا يصح عن أم سلمة "، ولا شك أن الطبري عنى هنا
" أم سلمة " أم المؤمنين." وأسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية
"، هي مولاة " شهر بن حوشب "، وكنيتها " أم سلمة "، فلذلك صرح
باسمها مرة، وكناها أخرى، وهذا لا يضر. و" شهر بن حوشب "، كان
أروى الناس عن مولاته " أم سلمة "، "أسماء بنت يزيد " وقال
أحمد: " ما أحسن حديثه "، ووثقه، وقال: " روى عن أسماء أحاديث
حسانًا ".وقال الترمذي، بعد أن ساق الخبر، " وسمعت عبد بن حميد
يقول: أسماء بنت يزيد، هي أم سلمة الأنصارية، كلا الحديثين
عندي واحد. وقال روى شهر بن حوشب غير حديث عنه أم سلمة
الأنصارية، وهي أسماء بنت يزيد. وقد روى عن عائشة عن النبي صلى
الله عليه وسلم، نحو هذا " وسنذكر حديث عائشة بعد. ومع ذلك،
فرواية شهر بن حوشب، عن " أم سلمة " أم المؤمنين قد ذكر
البخاري في الكبير 2 / 2 / 259، فقال: " سمع أم سلمة "، ولم
يزد، ولم يذكر " أسماء بنت يزيد "، ومن أجل ذلك خشيت أن يكون
البخاري أراد " أم سلمة، " أسماء بنت يزيد "، لا أم المؤمنين.
وأما ابن أبي حاتم 2 / 1 / 382 فذكر أنه: " روى عن أم سلمة،
وأسماء بنت يزيد "، ففرق، ودل التفريق على أنه أراد " أم سلمة
"، أم المؤمنين. صرح الحافظ ابن حجر في ترجمته، بسماعه عن " أم
سلمة " أم المؤمنين. وروايته عن أم المؤمنين جائزة، فإن " أم
سلمة " زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت على الصحيح
سنة 61 أو سنة: 62. وشهر بن حوشب عاش ثمانين سنة، ومات سنة
100، ويقال سنة 111، أو سنة 112. فسماعه منها لا ينقضه شيء من
شبهة العمر. أما الرواية، فقد صحح العلماء أنه روى عنها. فرد
الطبري روايته بأنه لا يعلم له سماعًا عن أم المؤمنين، لا يقوم
على شيء، فقد عرف ذلك غيره. بيد أن الحافظ بن حجر، نقل في
ترجمة " شهر بن حوشب "، فذكر عن صالح بن محمد، بعد توثيقه
شهرًا، وأنه لم يوقف له على كذب، ثم قال: "ويروى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أحاديث في القراءات، لا يأتي بها غيره ". وقد
كان شهر قارئا، ذكر ذلك الطبري نفسه، حتى قال أيوب بن أبي
حسين: " ما رأيت أحدًا أقرأ لكتاب الله منه "، فإن يكن في حديث
شهر شيء، فإنما هو غرابة خبره، وهذا لا يضر إذا صح الإسناد.
ولكن يبقى الإشكال من ناحية أخرى، رواية أحمد من طريق هارون
النحوي، عن ثابت البناني نفسه (كما في رقم 7) ، والذي رواه
الطيالسي رقم (8) من طريق محمد بن ثابت، عن ثابت، يضم إليه رقم
(5) من رواية أبي نعيم، ويضم إليها، الطريق الثانية من رقم (3)
، ثم رقم (4) من رواية الترمذي، وإن كان قد نقل عن " عبد بن
حميد "، أنهما واحد. كما سلف. ورواية هذه الأخبار كلها تدور
على " ثابت البناني، عن شهر "، فكأن ثابتًا البناني، رواه عن
شهر عن: أم سلمة أسماء بنت يزيد = وعنه عن أم سلمة أم
المؤمنين، فهما حديثان لا شك في ذلك، لا كما قال " عبد بن حميد
"، ولكن هل روى ذلك أحد عن أم سلمة أم المؤمنين، غير شهر بن
حوشب؟ لا أدري. فإذا صح أن شهرًا قد انفرد به عن أم المؤمنين،
فهل وقع الخطأ في ترك الفصل بينهما، من ثابت أم من الذي يليه؟
لا أدري أيضًا. وإذا كانا حديثًا واحدًا، فكيف وقع التفريق في
المسانيد، فجعل حديثين، وكيف وقع هذا التفريق؟ ولم وقع؟ ألمجرد
الشبهة من قبل الكنية " أم سلمة "؟ هذا موضع يحتاج إلى تفصيل
دقيق. وهذا، فيما أظن، هو الذي جعل أبا جعفر الطبري، يشكك في
رواية الخبر، لاختلاطه، ولكنه علله بغير علة الاختلاط
والاضطراب كما رأيت. * * * وأما حديث عائشة، الموافق لحديث أم
سلمة، في هذه القراءة، فقد رواه البخاري في الكبير 1 / 1 /
286، 287، من طريق إبراهيم بن الزبرقان، عن أبي روق، عن محمد
بن جحادة، عن أبيه، عن عائشة، ثم رواه أيضًا منها 1 / 2 /
251.ورواه الحاكم في المستدرك من هذه الطريق نفسها، وقال
الذهبي تعليقا عليه " إسناده مظلم ". وخرجه الهيثمي في مجمع
الزوائد 7: 155، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حميد
بن الأزرق، ولم أعرفه. وبقية رجاله ثقات ". والكلام في حديث
عائشة يطول، ففي رواية محمد بن جحادة الإيامي، عن أبيه، كلام
ليس هذا موضع تحقيقه.
(15/349)
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك
عندنا ما عليه قراء الأمصار، وذلك رفع (عَمَلٌ) بالتنوين، ورفع
(غَيْرُ) ، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في أبنك = المخالفِ
دينَك، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت
إجابتي إياك في دعائك: (لا تَذَر على الأرض مع الكافرين
ديَّارًا) ، ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم = (1) عملٌ غير
صالح، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدّم مني القول
بأني أفعله، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير
الصالح.
* * *
وقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، نهيٌ من الله تعالى
ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه
وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك
عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد
طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم= "إني أعظك أن
تكون من الجاهلين" في مسألتك إياي عن ذلك.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ،
ما:-
18249- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ، أنْ تبلغ الجهالة بك
أن لا أفي لك بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم = (وإلا
تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ،
فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْم) ، بكسر النون وتخفيفها = ونحْوًا بكسرها إلى
الدلالة على "الياء" التي هي كناية اسم الله
__________
(1) السياق: " إن سؤالك إياي. . . عمل غير صالح "، فقوله " عمل
"، خبر " إن " في صدر الجملة.
(15/350)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (47)
[في] : فلا تسألني. (1)
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: (فَلا تَسْأَلَنَّ) ،
بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به
علم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، تخفيفُ النون
وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ
لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله
عليه وسلم، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته،
في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه: (قال ربّ إني أعوذ بك) ،
أي: أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، (2) مما قد
استأثرت بعلمه، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي
إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني
من غضبك = (أكن من الخاسرين) ، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم
حظوظَها وهلكوا. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " كناية اسم الله فلا تسألن "
وبنون مفردة في آخرها. والصواب، إن شاء الله، ما أثبت، بزيادة
" في "، وزيادة الياء في " تسألني ".
(2) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف 13: 332، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(15/352)
قِيلَ يَا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ
مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: {قِيلَ يَا
نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى
أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى
الأرض (1)
(بسلام منا) ، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا (2) =
(وبركات عليك) ، يقول: وببركات عليك (3) = (وعلى أمم ممن معك)
، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء
المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة، وبارك
عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر
تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له:
(وأمم) ، يقول: وقرون وجماعة (4) = (سنمتعهم) في الحياة في
الدنيا، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم
(5) = (ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا
علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18250- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن
محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك
وعلى أمم
__________
(1) انظر تفسير " الهبوط " فيما سلف 12: 329، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " السلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) .
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وبركات عليه "، مرة أخرى، ولم
يفسرها أيضًا، فإن لم يكن سقط من التفسير شيء، فالصواب ما أثبت
بزيادة الباء، دلالة على العطف على ما قبله.
(4) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص: 252، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(5) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .
(6) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 256، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(15/353)
من معك) ، إلى آخر الآية، قال: دخل في ذلك
السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب
والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
18251- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان،
عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط
بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم من معك) ، قال: دخل في الإسلام
كل مؤمن ومؤمنة، وفي الشرك كل كافر وكافرة. (1)
18252- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
قراءةً عن ابن جريج: (وعلى أمم ممن معك) ، يعني: ممن لم يولد.
قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة = (وأمم
سنمتعهم) ، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة. (2)
18253- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج بنحوه = إلا أنه قال: (وأمم سنمتعهم) ، متاع الحياة
الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال: ولم
يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم، كالطير والسباع،
ولكن جاء أجلهم مع الغرق.
18254- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم
سنمتعهم) ، قال: هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله.
كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك
أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: (وعلى أمم ممن معك
وأمم سنمتعهم) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي
خرجت من ذلك الماء وسلمت.
18255- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
__________
(1) في المطبوعة: " دخل في السلام "، غير ما في المخطوطة،
وأساء.
(2) في المطبوعة " الشقاوة "، وأثبت ما في المخطوطة، هنا وفي
سائر المواضع الآتية.
(15/354)
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك
يقول في قوله: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
ممن معك) ، الآية، يقول: بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم
يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من
السعادة = (وأمم سنمتعهم) ، يعني: متاع الحياة الدنيا = (ثم
يمسهم منا عذاب أليم) ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
18256- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
حماد، عن حميد، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ "سورة هود"، فأتى
على: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) ، حتى ختم الآية،
قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون!
حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون.
18257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: بعد الرحمة.
18258- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا
عبد الله بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن الحسن:
أنه أتى على هذه الآية: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: فكان ذلك
حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون، وكذبه
مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا
والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود،
فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر
الله. فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه
وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا، على
نحو من هذا.
* * *
(15/355)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ
وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ
الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ
إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه
وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه =
(من أنباء الغيب) ، يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها
فتعلمها (1) = (نوحيها إليك) ، يقول: نوحيها إليك نحن،
فنعرفكها = (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) ، الوحي
الذي نوحيه إليك، = (فاصبر) ، على القيام بأمر الله وتبليغ
رسالته، وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح = (إن العاقبة
للمتقين) ، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله، (2)
فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من
النعيم في الآخرة، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة
نوح إذ صبر لأمر الله، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به،
وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق المكذبين به
فأهلكهم جميعهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18259- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا
قومك من قبل هذا) ، القرآن، وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه
وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن الله في كتابه.
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(2) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: 153، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/356)
وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
(50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(51)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ
(50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم
هودًا، فقال لهم: "يا قوم اعبدوا الله" وحده لا شريك له، دون
ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان. (ما لكم إله غيره) ،
يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره، فأخلصوا له
العبادة وأفردوه بالألوهة = (إن أنتم إلا مفترون) ، يقول: ما
أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون،
تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي
أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: يا
قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع
الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا = (إن أجري إلا على الذي
فطرني) ، يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى
الله، إلا على الذي خلقني (2) = (أفلا تعقلون) ، يقول: أفلا
تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم،
وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة، لالتمست منكم على ذلك بعض
أعراض الدنيا، وطلبت منكم الأجر والثواب؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(2) انظر تفسير " فطر " فيما سلف 11: 283، 284، 487.
(15/357)
وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
18260- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن أجري إلا على الذي فطرني) ، أي
خلقني
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ
وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (ويا
قوم استغفروا ربكم) ، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم.
* * *
= والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا صلى
الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم
ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة نوح: 3: 4]
* * *
وقوله: (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف
ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به = (يرسل السماء عليكم
مدرارا) ، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل
قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه،
وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مدرار " فيما سلف 11: 263.
(15/358)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18261- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (مدرارا) ، يقول:
يتبع بعضها بعضا.
18262- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (يرسل السماء عليكم مدرارًا) قال: يدر ذلك عليهم قطرًا
ومطرًا.
* * *
وأما قوله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، فإن مجاهدًا كان يقول في
ذلك ما:-
18263- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ويزدكم قوة
إلى قوتكم) ، قال: شدة إلى شدتكم
18264- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
18265- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله.
18266- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (ويزدكم قوة إلى قوّتكم) ، قال: جعل لهم قوة، فلو أنهم
أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم:
(ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم
سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم
المال والولد، لأن ذلك من القوة.
* * *
(15/359)
قَالُوا يَا هُودُ مَا
جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا
عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
وقوله: (ولا تتولوا مجرمين) ، يقول: ولا
تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله، والبراءة من الأوثان
والأصنام = (مجرمين) ، يعني: كافرين بالله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ
وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم هود لهود، يا هود ما
أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك صادق
فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك = (وما نحن
بتاركي آلهتنا) ، يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا، يعني: لقولك:
أو من أجل قولك. (ما نحن لك بمؤمنين) ، يقول: قالوا: وما نحن
لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الإجرام " فيما سلف من فهارس
اللغة (ولى) ، (جرم) .
(15/360)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ
اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ
إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي
أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا
تُنْظِرُونِي (55) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره، عن قول قوم هود:
أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه،
وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول
إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها، أنه أصابك
منها خبَلٌ من جنونٌ. فقال هود لهم: إني أشهد الله على نفسي
(15/360)
وأشهدكم أيضًا أيها القوم، أني بريء مما
تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه = (فكيدوني
جميعا) ، يقول: فاحتالوا أنتم جميعًا وآلهتكم في ضري ومكروهي
(1) = (ثم لا تنظرون) ، يقول: ثم لا تؤخرون ذلك، (2) فانظروا
هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18267- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: أصابتك
الأوثان بجنون.
18268- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ،
قال: أصابك الأوثان بجنون.
18269- حدثني المثني قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن
عيسى، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: سببتَ آلهتنا
وعبتها، فأجنَّتك.
18270-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن
نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، أصابك بعض آلهتنا
بسوء، يعنون الأوثان.
18271-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن نقول إلا اعتراك بعض
آلهتنا بسوء) قال: أصابك الأوثان بجنون.
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف 13: 449، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ص: 151، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(15/361)
18272- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:
(إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: تصيبك آلهتنا
بالجنون.
18273- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: ما يحملك
على ذمّ آلهتنا، إلا أنه أصابك منها سوء.
18274- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: إنما تصنع
هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء.
18275- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: أصابتك آلهتنا بشر.
18276- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن نقول إلا اعتراك
بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء، ولا
نحب أن تعتريك، يقولون: يصيبك منها سوء.
18277- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون: اختلَط
عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا.
* * *
وقوله: (اعتراك) ، ا"فتعل"، من "عراني الشيء يعروني":، إذا
أصابك، كما قال الشاعر:
(15/362)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (56)
(1)
مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }
قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم،
والقيِّم على جميع خلقه، توكلت من أن تصيبوني، أنتم وغيركم من
الخلق بسوء، (3) فإنه ليس من شيء يدب على الأرض، (4) إلا والله
مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ.
* * *
__________
(1) هو أبو خراش الهذلي.
(2) ديوان الهذليين 2: 147، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 290، من
قصيدته التي ذكر فيها فراره من فائد وأصحابه الخزاعيين، وكان
لهم وتر عنده. فلما لقوه فر وعدا، فذكر ذلك في شعره، ثم انتهى
إلى ذكر رجل كان يتبعه وهو يعدو فقال: أُوائِلُ بالشَّدِّ
الذَّلِيقِ، وَحَثَّنِي ... لَدَى المَتْنِ مَشْبُوحُ
الذِّرَاعَينِ خَلْجَمُ
تَذَكَّر ذَخْلاً عِنْدَنَا، وهو فاتِكٌ ... مِنَ القَوْمِ
يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ
يقول: " أوائل بالشد "، أطلب النجاة بالعدو السريع، و" الذليق
"، الحديد السريع الشديد، و" حثني لدى المتن "، يحثني على
عدوى، رجل من ورائي، كأنه من قربه قد ركب متني، " مشبوح
الذراعين "، من صفة هذا الرجل أنه عريض الذراعين، " خلجم "،
طويل شديد. و" تذكر ذحلا "، أي ثأرًا، فكان تذكره للثأر أحفز
له على طلب أبي خراش. ثم قال: إنه فاتك من فتاكهم، لا يرهب،
ويدفعه على ذلك " اجتراء "، أي جرأة لا تكفها المخافة، و" مأثم
"، أي طلب الأثام، وهو المجازاة والعقوبة على إثمي الذي سلف
إليهم. و" المأثم " و"الأثام "واحد.
وكان في المطبوعة: " اجترام "، وفي المخطوطة: " اجترامًا "،
وهما خطأ، صوابه ما أثبت من ديوانه.
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل) .
(4) انظر تفسير " دابة " فيما سلف ص: 240، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(15/363)
فإن قال قائل: وكيف قيل: (هو آخذ بناصيتها)
، فخص بالأخذ "الناصية " دون سائر أماكن الجسد.
قيل: لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة
والخضوع، فتقول: "ما ناصية فلان إلا بيد فلان"، أي: أنه له
مطيع يصرفه كيف شاء. وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه
والمنّ عليه، جزُّوا ناصيته، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند
المفاخرة. فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم، والمعنى ما
ذكرت.
* * *
وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم) ، يقول: إن ربي على طريق
الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم
أحدًا منهم شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به، (1)
كما:-
18278- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن ربي على صراط مستقيم) ، الحقّ.
18279- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18280- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
18281- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " صراط مستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة (سرط)
، (قوم) .
(15/364)
فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ
شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
(57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (فإن
تولوا) ، يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد
الله وترك عبادة الأوثان (1) = (فقد أبلغتكم) أيها القوم = (ما
أرسلت به إليكم) ، وما على الرسول إلا البلاغ = (ويستخلف ربي
قوما غيركم) ، يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم قومًا غيركم،
(2) يوحِّدونه ويخلصون له العبادة = (ولا تضرونه شيئًا) ،
يقول: ولا تقدرون له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم.
* * *
وقد قيل: لا يضره هلاككُم إذا أهلككم، لا تنقصونه شيئًا، لأنه
سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا.
* * *
= (إن ربي على كل شيء حفيظ) ، يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو
حفظ وعلم. (3)
يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء.
* * *
__________
(1) كان حق الكلام أن يقول: " فإن أدبرتم معرضين عما أدعوكم
إليه "، فهو خطاب من هود لقومه، أي: " فإن تتولوا "، وحذف إحدى
التاءين. وكأن هذا سهو من أبي جعفر رحمه الله وغفر له.
(2) انظر تفسير " الاستخلاف " فيما سلف من فهارس اللغة (خلف) .
(3) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف 8: 562 / 12: 25، 33.
(15/365)
وَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا
رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قوم هود عذابُنا،
نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه = (برحمة منا) ، يعني:
بفضل منه عليهم ونعمة = (ونجيناهم من عذاب غليظ) ، يقول:
نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ يوم القيامة، كما نجيناهم في
الدنيا من السخطة التي أنزلتها بعادٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين أحللنا بهم
نقمتنا وعذابنا، عادٌ، جحدوا بأدلة الله وحججه، (2) وعصوا رسله
الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره = (واتبعوا
أمر كل جبار عنيد) ، يعني: كلّ مستكبر على الله، (3) حائد عن
الحق، لا يُذعن له ولا يقبله.
* * *
يقال منه: "عَنَد عن الحق، فهو يعنِد عُنُودًا"، و"الرجل عَاند
وعَنُود". ومن ذلك قيل للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ: "عِرْق
عاند": أي ضَارٍ، (4)
ومنه قول الراجز:
__________
(1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 14: 576، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الجحد " فيما سلف 11: 334 / 12: 476.
(3) انظر تفسير " الجبار " فيما سلف 10: 172.
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 291، ففيه زيادة بيان.
(15/366)
وَأُتْبِعُوا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ
عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
(60)
(1)
إِنِّي كَبِيرٌ لا أَطِيقُ العُنَّدَا (2)
* * *
18282- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) ، المشرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأتبع عاد قوم هود في هذه
الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم القيامة، مثلها، لعنةً إلى
اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا (3) = (ألا إن عادًا
كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود) ، يقولُ: أبعدهم الله من
الخير. (4)
* * *
يقال: "كفر فلان ربه وكفر بربه"، "وشكرت لك، وشكرتك". (5)
* * *
وقيل = إن معنى: (كفروا ربهم) ، كفروا نعمةَ ربهم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن 1: 291، البطليوسي: 415، الجواليقي: 336،
اللسان (عند) ، وسيأتي في التفسير 29: 97 (بولاق) ، وغيرها،
وهي أبيات لشواهد الإكفاء، يقول: إذَا رَحَلْتُ فَاجْعَلُونِي
وَسَطَا ... إِنِّي كَبِيرٌ لاَ أَطِيقُ العُنَّدَا
وَلاَ أُطِيقُ البَكرَاتِ الشُّرَّدَا.
(3) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف من فهارس اللغة (لعن) .
(4) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 335.
(5) انظر ما سلف 3: 212، مثله.
(15/367)
وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم
صالحًا، فقال لهم: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له،
وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله
غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة إلا له = (هو
أنشأكم من الأرض) ، يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. (1)
* * *
وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم، إذ كان
ذلك فعله بمن هم منه.
* * *
= (واستعمركم فيها) ، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان
المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم.
* * *
= من قولهم: "أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه"، و"هي له عُمْرَى".
(2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الإنشاء " فيما سلف 12: 156، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) " عمري " (بضم فسكون، فراء مفتوحة) ، مصدر مثل " الرجعي ":
و " أعمره الدار "، جعله يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلى
صاحبها. وكان ذلك من فعل الجاهلية، فأبطله الله بالإسلام فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا "، فمن
أعمر دارًا أو أرقبها، فهي لورثته من بعده ".
(15/368)
قَالُوا يَا صَالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ
نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
18283- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:
(واستعمركم فيها) ، قال: أعمركم فيها
18284- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستعمركم فيها) ، يقول: أعمركم
* * *
وقوله: (فاستغفروه) ، يقول: اعملوا عملا يكون سببًا لستر الله
عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما
سواه، واتباعُ رسوله صالح = (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم اتركوا
من الأعمال ما يكرهه ربكم، إلى ما يرضاه ويحبه = (إن ربي قريب
مجيب) ، يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في
التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ
فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ
مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيِّهم: (يا
صالح قد كنت فينا مرجوًّا) ، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا
قبل هذا القول الذي قلته لنا، من أنه مالنا من إله غير الله
(1) = (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) ، يقول: أتنهانا أن
نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها = (وإننا لفي شك مما
تدعونَا إليه
__________
(1) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف 4: 319.
(15/369)
مريب) ، يعنون أنهم لا يعلمون صحَّة ما
يدعوهم إليه من توحيد الله، وأن الألوهة لا تكون إلا لهُ
خالصًا.
* * *
وقوله: (مريب) ، أي يوجب التهمة، من "أربته فأنا أريبه إرابة"،
إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة، (1) ومنه قول الهذلي: (2)
كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُه مِنْ غَيْبِ ... يَشَمُّ عِطْفِي
وَيبُزُّ ثَوْبِي
*كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ* (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف من فهارس اللغة (ريب) .
(2) هو خالد بن زهير الهذلي
(3) ديوان الهذليين 1: 165، واللسان (ريب) (بزز) ، (أتى) ،
وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 22: 76 (بولاق) . وكان خالد بن
زهير، ابن أخت أبي ذؤيب، وكان رسول أبي ذؤيب إلى صديقته،
فأفسدها عليه، فكان يشك في أمره، فقال له خالد: يَا قَوْمِ
مَالِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ ... كُنْتُ إذَا أَتَوْتُه من غَيْبِ
" أتوته "، لغة في " أتيته "، وقوله: " من غيب "، من حيث لا
يدري، لأن " الغيب "، هو الموضع الذي لا يدري ما ورائه. و" يبز
ثوبي "، أي يجذبه إليه، يريد أن يمسكه حتى يستخرج خبء نفسه، من
طول ارتيابه فيه.
(15/370)
قَالَ يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ
إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ
إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: (يا
قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، يقول: إن كنت على برهان
وبيان من الله قد علمته وأيقنته (1) = (وآتاني منه رحمة) ،
يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة
__________
(1) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(15/370)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
قَرِيبٌ (64)
والإسلام =
(فمن ينصرني من الله إن عصيته) ، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي
عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته، فيخلصني منه = (فما تزيدونني)
، بعذركم الذي تعتذرون به، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ
آباؤكم، (غير تخسير) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، (1)
كما:-
18285- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما تزيدونني غير تخسير) ، يقول: ما
تزدادون أنتم إلا خسارًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ
اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ
وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من
ثمود، إذ قالوا له: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) ،
وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: (يا قوم هذه ناقة الله لكم
آية) ، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه =
(فذروها تأكل في أرض الله) ، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها =
(ولا تمسوها لسوء) ، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر =
(فيأخذكم عذاب قريب) ، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب
من الله غير بعيد فيهلككم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(15/371)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ
تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ
غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا
فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ
وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله = وفي
الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه، استغناءً بدلالة الظاهر عليه،
وهو: "فكذبوه" "فعقروها" = فقال لهم صالح: = (تمتعوا في داركم
ثلاثة أيام) ، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة
أيام = (ذلك وعد غير مكذوب) ، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم،
وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونزولَ العذاب بكم =
(غير مكذوب) ، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
* * *
18286- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير
مكذوب) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم
لبسُوا الأنطاع والأكسية، (1) وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ
ألوانكم أوَّل يوم، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في
اليوم الثالث. وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا، وقالوا:
"عليكم الفَصيلَ "؟ فصعد الفصيل القارَة = و"القارة" الجبل =
حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة، وقال: "يا رب أمي،
يا رب أمي "، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك.
= وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل.
وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة.
18287- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) " الأنطاع " جمع " نطع " (بكسر فسكون) ، وهو: الجلد
والأدم. كانوا يتخذون لأنفسهم منها أكفانًا، كما سيأتي في آخر
الحديث رقم: 18290 ص: 377.
(15/372)
فَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
معمر، عن قتادة: (تمتعوا في داركم ثلاثة
أيام) ، قال: بقية آجالهم.
18288- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة
لرأيتم عظَام الفصيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا
نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا =
"نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا"، يقول: بنعمة
وفضل من الله = (ومن خزي يومئذ) ، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك
اليوم، وذلِّه بذلك العذاب (1) = (إن ربك هو القوي) ، في بطشه
إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطَش بها = "العزيز"،
فلا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18289- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .
(2) انظر تفسير " القوى " فيما سلف 14: 19.
= وتفسير " العزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) .
(15/373)
معمر، عن قتادة: (برحمة منا ومن خزي يومئذ)
، قال: نجاه الله برحمة منه، (1) ونجاه من خزي يومئذ.
18290- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة قال:
قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود. قال: أحدثكم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في
الدنيا فأطال أعْمَارهم، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر،
فينهدم، (2) والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك، اتخذوا من
الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها. (3)
وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج
لنا آية نعلم أنك رسول الله، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم
الناقة، فكان شِرْبُها يومًا، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا
كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل
إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء، فلم
تشرب منه شيئًا، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى
صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل!
فقال: إلا تعقروها أنتم، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [يعقرها] .
(4) قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه!
قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في
المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح،
وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما
لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا. قال:
فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك. . فزوّجه، فولد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " برحمة منا "، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(2) " المدر "، الطين العلك، لا رمل فيه.
(3) قوله: " وجابوها " ساقطة من المطبوعة. " جابوها "، خرقوا
الصخر وحفروه، فاتخذوه بيوتا.
(4) الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري.
(15/374)
بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة
ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح:
"إنما يعقرها مولود فيكم"، اختاروا ثماني نسوة قوابل من
القرية، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا يطوفون في القرية، فإذا
وجدُوا المرأة تمخَضُ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا قلَّبنه
فنظرن ما هو (1) وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك
المولود صرخ النسوة وقلن: "هذا الذي يريد رسول الله صالح "،
فأراد الشرط أن يأخذوه، فحال جدّاه بينهم وبينه، وقالا لو أن
صالحًا أراد هذا قتلناه! فكان شرَّ مولود، وكان يشبُّ في اليوم
شباب غيره في الجمعة، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر،
ويشب في الشهر شباب غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفيهم الشيخان، فقالوا: "استعمل
علينا هذا الغلام " (2) لمنزلته وشرَف جديه، فكانوا تسعة. وكان
صالح لا ينام معهم في القرية، كان في مسجد يقال له: "مسجد
صالح"، فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، وإذا
أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه".
= قال حجاج: وقال ابن جريج: لما قال لهم صالح: "إنه سيولد غلام
يكون هلاككم على يديه"، قالوا: فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم
بقتلهم! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود،
قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا،
هذا عملُ صالح! فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين
والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا،
فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون،
كما نحن! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله
عليهم الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن
قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضْخٌ، فرجعوا
__________
(1) في التاريخ: " فإن كان ولدا قتلنه "، ليس فيه هذا الذي في
روايته في التفسير، وهي أحسن الروايتين إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: " تستعمل "، وأثبت ما في المطبوعة والتاريخ.
(15/375)
يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي
صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم؟ ! فاجتمع أهل
القرية على قتل الناقة أجمعون، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن
العاشر.
= ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق
صالح، فاختبأ فيه ثمانية، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا
أهله، فبيَّتْناهُمْ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم. قال:
فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال
الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها! فأتاها، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب
عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه
أمرُها، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركُضُ،
وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: "أدرك الناقةَ فقد عمرت "! فأقبل،
وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: "يا نبيّ الله، إنما عقرها
فلان، إنه لا ذنب لنا"! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟ ، فإن
أدركتموه، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ! فخرجوا يطلبونه،
ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب، أتى جبلا يقال له "القارَة"
قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في
السماء حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه
الفصيل بكى حتى سألت دموعه، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً،
ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل رغوة أجلُ
يوم، (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، ألا إن
أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة، واليوم
الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة! فلما أصبحوا فإذا وجوههم
كأنها طليت بالخلوق، (1) صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم.
فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: "ألا قد مضى يوم من الأجل، وحضركم
العذاب "! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة،
__________
(1) " الخلوق "، طيب يتخذ من الزعفران، تغلب علبه الحمرة
والصفرة.
(15/376)
كأنها خُضِبت بالدماء، فصاحوا وضجُّوا
وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحُوا بأجمعهم: "ألا قد
مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب "! فلما أصبحوا اليوم
الثالث، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار، فصاحوا جميعا:
"ألا قد حضركم العذاب"! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا، وكان حنوطهم
الصَّبر والمقر، (1) وكانت أكفانهم الأنطاع، (2) ثم ألقوا
أنفسهم إلى الأرض، (3) فجعلوا يقلبون أبصارهم، فينظرون إلى
السماء مرة وإلى الأرض مرة، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من
فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض، جَشَعًا وفَرَقًا.
(4) فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء فيها
صوتُ كل صاعقة، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم
في صدُورهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين. (5)
18291- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة، أهلك الله
مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم
الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟
قال: أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أتى
على قرية ثمود، لأصحابه: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية، ولا
تشربوا من مائهم. وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في
القارَة.
= قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار،
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية
ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين،
فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أنْ يُصيبكم ما أصابهم.
= قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أتى على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما
بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم
الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدر من
هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. (6)
__________
(1) " المقر " (بفتح فكسر) ، شبيه بالصبر وقيل هو الصبر نفسه،
وهو شجر مر. وكان في المطبوعة: " المغر " بالغين، وهو خطأ.
(2) انظر تفسير " الأنطاع " فيما سلف ص: 373 تعليق: 1.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " بالأرض "، وأثبت ما في التاريخ.
(4) في المطبوعة: " خسفًا وغرقًا "، غير ما في المخطوطة وفيها
" حسما وفرقا "، الأولى غير منقوطة. وفي التاريخ: " " خشعا
وفرقا "، وضبط " خشعا " بضم الخاء، وتشديد الشين، كأنه جمع "
خاشع "، وضبط " فرقا " بضم الفاء والراء، وهو فاسد من وجوه.
والذي أثبته هو الصواب.
و" الجشع " (بفتحتين) ، الجزع لفراق الإلف، والحرص على الحياة.
وفي حديث معاذ: " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله
عليه وسلم ". وفي حديث ابن الخصاصية: " أخاف إذا حضر قتال جشعت
نفسي فكرهت الموت ". و" الفرق "، أشد الفزع.
(5) الأثر: 18290 - " حجاج "، هو " حجاج بن محمد المصيصي "،
ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة." أبو بكر بن عبد الله
"، لم أعرف من يكون، فإن يكن هو: " أبا بكر بن عبد الله بن
محمد بن أبي سبرة القرشي "، فهو منكر الحديث، يروي الموضوعات
عن الثقات، ومضى برقم: 14044، ذكره حجاج بن محمد، فقال: " قال
لي أبو بكر السبري: عندي سبعون ألف حديث في الحلال والحرام "
فقال أحمد: " ليس بشيء، كان يضع الحديث "، بل هو أيضًا لم يدرك
" شهر بن حوشب "، فإنه مات سنة 162، وله ستون سنة، وشهر بن
حوشب، مات سنة 100، أو بعدها بقليل. وإن يكن " أبا بكر بن عبد
الله بن أبي مريم الغساني "، كما ذكر الذهبي في تعليقه عن
المستدرك، فهو أيضًا متروك الحديث، مضى برقم: 9071، ولا أعلم
أدرك شهرًا، أم لا، فإنه مات سنة 156. وفي تاريخ الطبري
المطبوع " " أبو بكر بن عبد الرحمن "، وفي بعض نسخه المخطوطة "
أبو بكر بن عبد الله "، مطابقًا لما في التفسير." وعمرو بن
خارجة بن المنتفق الأشعري "، صحابي، ذكر العسكري أن شهر بن
حوشب، لا يصح سماعه عنه، وإنما يروي عنه من طريق " عبد الرحمن
بن غنم الأشعري ". وهذا الخبر رواه أبو جعفر الطبري في تاريخه
1: 116 - 118. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 566، 567، وقال: "
هذا حديث جامع لذكر هلاك آل ثمود، تفرد به شهر بن حوشب، وليس
له إسناد غير هذا، ولم يستغن عن إخراجه. وله شاهد على سبيل
الاختصار بإسناد صحيح، دل على صحة الحديث الطويل، على شرط مسلم
". وقال الذهبي في تعليقه عليه: " أبو بكر، واه، وهو ابن أبي
مريم ". فهذا حديث ضعيف، لضعف " أبي بكر بن عبد الله، أيا كان،
وللشك في رواية شهر عن عمرو بن خارجة، فهو منقطع.
(6) الأثر: 18291 - في هذا الخبر حديث مسند، حديث ابن جريج، عن
موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، رواه أحمد من طرق، عن عبد
الله بن دينار، عن ابن عمر، وخرجه أخي رحمه الله في المسند،
انظر رقم: 4561، 5225، 5342، 5404، 5441، 5645، 5705، 5931.
وأما سائر ما في الخبر، فهو مرسل، وقد مضى من حديث جابر نحوه،
من رقم: 14817 - 14823، فانظر التعليق على هذه الآثار هناك.
وانظر أيضا مجمع الزوائد 6: 194 / 7: 37، من حديث جابر الذي
رواه أحمد وغيره.
(15/377)
18292- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم لما مرّ بوادي ثمود، وهو عامد إلى تبوك قال: فأمر أصحابه
أن يسرعوا السير، وأن لا ينزلوا به، ولا يشربوا من مائه،
وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من
قوم صالح كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به، وكان الرجل
منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته، لميعاد نبي الله صالح الذي
وعدهم. وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت، فيهم شبان
وشيوخ، أبقاهم الله عبرة وآية.
18293- حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال،
حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله
بن عثمان بن خثيم قال، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول
الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك، (1) نزل الحجر فقال: يا
أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا
نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت
تَلج عليهم يوم [ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم، ويوم
وردهم كانوا يتزودون منه] ، (2) ثم يحلبونها مثل ما كانوا
يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ.
فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة
أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان
__________
(1) في المطبوعة: " غزوة تبوك "، غير ما في المخطوطة، وهو
مطابق لما في التاريخ.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة: " تلج عليهم يوم ورودهم الذي
كانوا يتروون منه ثم يحلبونها. . . "، وهو غير مستقيم، أثبت
الصواب من التاريخ، وفيه " يتزودون " في الموضوعين، فأصلحتهما
جميعًا، ووضعت نص ما في التاريخ بين قوسين.
(15/379)
وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
(67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا
واحدًا، كان في حرم الله، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله.
قالوا: ومن ذلك الرجل يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا
رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن
لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به = (الصيحة فأصبحوا في
ديارهم جاثمين) ، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم،
(2) كما:-
18294- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 18293 - " إسماعيل بن المتوكل الشامي الحمصي "، شيخ
الطبري، مترجم في التهذيب. و" محمد بن كثير "، كأنه " محمد بن
كثير بن أبي عطاء الثقفي المصيصي، الصنعاني "، وهو ضعيف جدا.
مضى برقم: 4150، 4836، ومضى في نحو هذا الإسناد رقم: 9492."
وعبد الله بن واقد، أبو رجاء الهروي "، ثقة لا بأس به، مترجم
في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 191." وعبد الله بن عثمان
بن خثيم المكي القارئ "، تابعي ثقة متكلم فيه، ولكن الصحيح
توثيقه، وروى عن أبي الطفيل. مضى برقم: 4341، 5388." وأبو
الطفيل "، هو " عامر بن واثلة "، مضى مرارًا، صحابي من صغار
الصحابة، كان له يوم مات رسول الله ثماني سنوات، فهو قد سمع
هذا الخبر ممن هو أكبر منه من الصحابة، ولعله سمعه من جابر بن
عبد الله. وهذا الخبر لين الإسناد شيئًا، وقد رواه أبو جعفر في
تاريخه 1: 118 من هذه الطريق نفسها، ولم أجده في مكان آخر.
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف 12: 546، 566.
(15/380)
وَلَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ
سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، يقول: أصبحوا
قد هلكوا.
* * *
= (كأن لم يغنوا فيها) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا
بها، كما:-
18295- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، كأن
لم يعيشوا فيها.
18296- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
مثله.
* * *
وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
وقوله: (ألا إن ثمود كفروا ربهم) ، يقول: ألا إن ثمود كفروا
بآيات ربهم فجحدوها (2) = (ألا بعدًا لثمود) ، يقول: ألا أبعد
الله ثمود! لنزول العذاب بهم. (3)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا
لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ولقد جاءت رسلنا) ، من
الملائكة وهم فيما ذكر، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل: إن
الملكين الآخرين كان
__________
(1) انظر تفسير " غني " فيما سلف 12: 569، 570 / 15: 56.
(2) انظر ما سلف ص: 367.
(3) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 335، 367.
(15/381)
ميكائيل وإسرافيل معه = (إبراهيم) ، يعني:
إبراهيم خليل الله = (بالبشرى) ، يعني: بالبشارة. (1)
* * *
واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.
فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق.
وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط.
* * *
= (قالوا سلاما) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب "سلامًا" بإعمال "قالوا" فيه، كأنه قيل: قالوا قولا
وسلَّموا تسليمًا.
* * *
= (قال سلام) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام = فرفع "سلامٌ"،
بمعنى: عليكم السلام= أو بمعنى: سلام منكم.
* * *
وقد ذكر عن العرب أنها تقول: "سِلْمٌ" بمعنى السلام، كما
قالوا: "حِلٌّ وحلالٌ"، وحِرْم وحرام". وذكر الفرَّاء أن بعض
العرب أنشده: (2)
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا
اكْتَلَّ بِالَبْرقِ الغَمَامُ الَّلوَائِحُ (3)
__________
(1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .
(2) لم أعرف قائله. والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت
آخر غير هذا البيت، شاهدًا على حذف " عليكم "، وهو قوله:
فَقُلْنَا: السَّلامُ، فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها ... وَمَا
كَانَ إلاَّ وَمْؤُها بالحواجِبِ
وأما هذا البيت الذي هنا، فقد ذكره صاحب اللسان في مادة (كلل)
، عن ابن الأعرابي، فلعل الفراء أنشده في مكان آخر.
(3) اللسان (كلل) ، يقال: " انكل السحاب عن البرق، واكتل "،
أي: لمع به، و" اللوائح " التي لاح برقها، أي لمع وظهر.
(15/382)
بمعنى سلام. وقد روي "كما انكلّ".
* * *
وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم = من
"المسالمة" التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة، (قَالُوا سَلامًا قَالَ
سَلامٌ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم،
بنحو تسليمهم: عليكم السلام.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى،
لأن "السلم " قد يكون بمعنى "السلام " على ما وصفت، و"السلام "
بمعنى "السلم"، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم
دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم، ورَدُّ الآخرين
عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان
قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ
القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
وقوله: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) .
* * *
= وأصله "محنوذ"، صرف من "مفعول" إلى "فعيل".
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم (1)
معنى "المحنوذ": المشويّ، قال: ويقال منه: "حَنَذْتُ فرسي"،
بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز:
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن.
(15/383)
(1)
*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* (2)
* * *
وقال آخر منهم: "حنذ فرسه": أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه
يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض، إذا خَدَدت له
فيه، فدفنته وغممته، فهو "الحنيذ" و"المحنوذ". قال: والخيل
تُحْنَذ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال:
ويقال: "إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ"، يعني: أخْفِسْ، يريد: أقلَّ
الماء، وأكثر النبيذ.
* * *
وأما [أهل] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك
ما:-
18297- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بعجل حينذ) ، يقول:
نضيج
18298- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بعجل حينئذ) ، قال: "بعجل"، (3)
حَسِيل
__________
(1) هو العجاج.
(2) ديوانه 9، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 292، واللسان (حنذ)
، و (هرج) ، من رجزه المشهور، وهذا البيت من أبيات يصف حمار
الوحش وأتنه، لما جاء الصيف، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال:
حَتَّى إِذَا مَا الصَّيْفُ كَانَ أَمَجَا ... وَفَرَعَا مِنْ
رَعْىِ مَا تَلَزَّجَا
ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا ... تَذَكَّرَا عَيْنًا
رِوًى وَفَلَجَا
و" الأمج " شدة الحر والعطش، يأخذ بالنفس. و" تلزج الكلأ "
تتبعه، و" الحنذ "، شدة الحر وإحراقه. و" هرج البعير " تحير
وسدر من شدة الحر.
(3) " الحسيل " (بفتح الحاء وكسر السين) : ولد البقرة.
(15/384)
البقر، = و"الحنيذ": المشوي النضيج.
18299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)
إلى (بعجل حنيذ) ، (1) قال: نضيج، سُخِّن، أنضج بالحجارة.
18300- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، و"الحنيذ": النضيج.
18301- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (بعجل حنيذ) ، قال: نضيج. قال: [وقال الكلبي]
: و"الحنيذ": الذي يُحْنَذُ في الأرض. (2)
18302- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن
حميد، عن شمر في قوله: (فجاء بعجل حنيذ) ، قال: "الحنيذ": الذي
يقطر ماء، وقد شوى = وقال حفص: "الحنيذ": مثل حِنَاذ الخيل.
18303- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف، (3) فهو
"الحنيذ" حين شواه.
18304- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص
بن حميد، عن شمر بن عطية: (فجاء بعجل حنيذ) ، قال: المشويّ
الذي يقطر.
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة هنا " ولما جاءت رسلنا "، وهو
سهو من الناسخ، وحق التلاوة ما أثبت. وكذلك جاء سهوًا منه في
نص الآية التي يفسرها أبو جعفر، وصححتها، ولم أشر إليه هناك.
(2) الذي بين القوسين ليس في المخطوطة، وقد تركته على حاله،
وإن كنت أشك فيه، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر، بعد ناسخ
مخطوطتنا.
(3) " الرضف " (بفتح فسكون) الحجارة المحماة على النار. و "
شواء مرضوف "، مشوي على الرضفة.
(15/385)
18305- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا هشام قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية،
قال: "الحنيذ" الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي.
18306- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن
الضحاك: (بعجل حنيذ) ، قال: نضيج.
18307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (بعجل حنيذ) ،
الذي أنضج بالحجارة.
18308- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان:
(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، قال: مشويّ.
18309- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول:
"حينذ"، يعني: شُوِي.
18310- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
"الحِناذ": الإنضاج. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل
التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.
* * *
وموضع "أن" في قوله: (أن جاء بعجل حنيذ) نصبٌ بقوله: (فما لبث
أن جاء) .
* * *
__________
(1) الأثر: 18310 - من خبر الطويل، رواه أبو جعفر في تاريخه 1:
127. وفيه " التحناذ "، وكلاهما مما يزاد على معاجم اللغة.
(15/386)
فَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى
قَوْمِ لُوطٍ (70)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا
رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى
قَوْمِ لُوطٍ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا
تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم، نكرهم،
وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم، فيما ذكر،
كفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن
أكله، عند إبراهيم، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم
معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة.
* * *
وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم، كما:-
18311- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وكانت
العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ
بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ.
18312- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه
نكرَهم) ، قال: كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم،
ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند
ذلك بما جاؤوا.
*وقال غيره في ذلك ما:-
18313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف
إبراهيم عليه
(15/387)
السلام، قرّب إليهم العجل، فجعلوا ينكتُون
بقِداح في أيديهم من نبْل، ولا تصل أيديهم إليه، نكرهم عند
ذلك. (1)
* * *
يقال منه: "نكرت الشيء أنكره"، و"أنكرته أنكره "، بمعنى واحد،
ومن "نكرت" و"أنكرت"، قول الأعشى:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ
الحَوَادِثِ، إلا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا (2)
فجمع اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب:
فَنَكِرْنَهُ، فَنَفَرْنَ، وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ
هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 18313 - " الأسود بن قيس العبدي، البجلي "، ثقة،
روى له الجماعة، مضى برقم: 7440.
و" جندب بن سفيان "، منسوب إلى جده، وهو: " جندب بن عبد الله
بن سفيان البجلي "، كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
غلامًا حزورًا، كما قال هو، وهو الذي راهق، ولم يدرك بعد.
مترجم في الإصابة، وغيره، وفي التهذيب، والكبير 1 / 2 / 220،
وابن أبي حاتم 1 / 1 / 510.
(2) ديوانه: 72، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 293، واللسان
(نكر) وغيرهما، وسيأتي في التفسير 29: 145 (بولاق) ، ومما
يرويه أبو عبيدة، أن أبا عمرو بن العلاء قال: " أنا قلت هذا
البيت وأستغفر الله "، فلم يروه، وأنه أنشد بشارًا هذا البيت
وهو يسمعه وقيل له: إنه للأعشى، فقال: ليس هذا من كلامه. فقلت
له: يا سيدي، ولا عرف القصيدة. ثم قال: أعمى شيطان. وهذه قصة
تروى أنا في شك منها.
(3) ديوانه، (ديوان الهذليين) 1: 8، وشرح المفضليات: 867،
وغيرهما، يذكر حمر الوحش، لما شرعت في الماء، وسمعت حس الصائد،
فقال: فَشَرِبْنَ ثُمَّ سَمِعْنَ حِسًّا دُونَهُ ... شَرَفُ
الحِجَابِ، وَرَيْبَ قَرْعٍ يَقْرَعُ
وَنمِيمَةً مِنْ قَانِصٍ متلبِّبٍ ... في كَفِّهِ جَشْءٌ
أَجَشُّ وأَقْطَعُ
يقول: سمعن حس الصائد، يحجبه ما ارتفع من الحرة وهو " شرف
الحجاب "، ثم يقول: سمعن ما رابهن من قرع القوس وصوت الوتر،
وسمعن نميمة الصائد، وهو ما ينم عليه من حركته، و" المتلبب
"المحتزم بثوبه. و" الجشء " القضيب الذي تعمل منه القوس. و"
أجش " غليظ الصوت. و" الأقطع " جمع " قطع " (بكسر فسكون) ، وهو
نصل بين النصلين، صغير. يقول: فلما سمعت ذلك أنكرته فنفرت،
فامترست الأتان بالحمار، أي دنت منه دنوًا شديدًا، من شدة
ملازمتها له. و"سطعاء " طويلة العنق، و"هادية " متقدمة، وهو
"هاد " متقدم، " جرشع "، منتفخ الجنبين.
وأما رواية " هوجاء هادية "، فإنه يعني: جريئة متقدمة. .
(15/388)
|