تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)

وقوله: (وأوجس منهم خيفة) ، يقول: احسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها. (1) = (قالوا لا تخف) ، يقول: قالت الملائكة، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنًا، فإنا ملائكة ربّك = (أرسلنا إلى قوم لوط) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وامرأته) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ، (2) وهي ابنة عم إبراهيم = (قائمة) ، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل.
* * *
وقوله: (فضحكت) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله (فضحكت) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.
فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.
* ذكر من قال ذلك:
18314- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو "الحنيذ"
__________
(1) انظر تفسير " خيفة " فيما سلف 13: 353.
(2) هكذا هنا: " ساروج "، وفي غيره: " ساروغ "، وهو الأكثر.

(15/389)


حين شواه. وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ) = في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه = يقول: لا يأكلون = فزع منهم وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا! (1)
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.
*ذكر من قال ذلك:
18315- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت = (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)
18316- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط.
*ذكر من قال ذلك:
18317- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر،
__________
(1) الأثر: 18314 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 128.

(15/390)


عن محمد بن قيس، في قوله: (وامرأته قائمة فضحكت) ، قال: لما جاءت الملائكة ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع.
*ذكر من قال ذلك:
18318- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (فضحكت) ، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع، بإبراهيم.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
*ذكر من قال ذلك:
18319- حدثني المثني قال إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين، فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام = (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وسارة وراء البيت تسمع، قالوا: لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز، وهو شيخ كبير! فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم، فأبشروا به.
* * *
وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟
* * *

(15/391)


وقال آخرون: بل معنى قوله: "فضحكت" في هذا الموضع: فحاضت.
*ذكر من قال ذلك:
18320- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (فضحكت) ، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم. فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها البشارة بإسحاق.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع "ضحكت"، بمعنى: حاضت، من ثقة. (2)
* * *
وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول "ضحكت المرأة"، حاضت. قال: وقد قال:
__________
(1) الأثر: 18320 - " علي بن هارون "، مضى برقم: 6521. وكتبت هناك أني أظنه " يزيد بن هارون "، وهذا ظن خطأ، دل عليه هذا الإسناد، فهو هناك أيضًا: " سعيد بن عمرو السكوني، عن بقية بن الوليد، عن علي بن هارون "، ومثل هذا الخطأ لا يكاد يتفق على بعد ما بين الكلامين. والصواب أن " علي بن هارون " مجهول، فإن " بقية بن الوليد " مشهور بالرواية عن هؤلاء المجهولين، وكان يحدث بالمناكير عن هؤلاء المجاهيل، وكان يأخذ عن كل من أدبر وأقبل. فهذا " علي بن هارون " ممن أدبر أو أقبل! ! وأما " عمرو بن الأزهر العتكي "، فهو كذاب يضع الحديث، وكان أبو سعيد الحداد يقول: " كان عمرو بن الأزهر يكذب مجاوبة "، قيل له: " كيف هذا "؟ قال: " رجل أسلم ثوبًا إلى حائك ينسجه "! ! مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 221، وتاريخ بغداد 12: 193، وميزان الاعتدال 2: 281، ولسان الميزان 4: 353. فهذا خبر هالك من جميع نواحيه.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية.

(15/392)


"الضحك"، الحيض، وقد قال بعضهم: "الضحك": الثَّغْرُ، (1) وذكر بيت أبي ذؤيب:
فَجَاءَ بِمِزْجٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ ... هُوَ الضَّحْكُ إلا أَنَّهُ عَملُ النَّحْلِ (2)
وذكر أنَّ بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض: (3)
وَضِحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْل دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا (4)
قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت:
فَأضْحَكَتِ الضِّبَاعُ سُيُوفُ سَعْدٍ ... بِقَتْلَى مَا دُفِنَّ وَلا وُدِينَا (5)
وقال: يريد الحيض. قال: وبلحرث بن كعب يقولون: "ضحكت النخلة"، إذا أخرجت الطَّلع أو البُسْر. وقالوا: "الضَّحك" الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: "أضحكت حوضًا" أي ملأته حتى فاض. قال: وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " الضحك العجب " وفي المخطوطة: " العسب " سيئة الكتابة، كأنه لم يحسن قراءة المخطوطة التي نقل عنها، والبيت الذي استشهد به دال على صواب ما أثبتناه.
(2) ديوانه (ديوان الهذليين) 1: 42، واللسان (ضحك) ، وغيرهما، من قصيدة من عجائبه، ذكر في آخرها الخمر، وكيف تزودها من أهل مصر وغزة، وأقبل بها يقطع الأرض، حتى بات بمزدلفة (جمع) ، ومنى، فقال قبل البيت: فَبَاتَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ تَمَّ إِلَى مِنًى ... فأَصْبَحَ رَأْدًا يَبْتَغِي المِزْجَ بالسَّحْل
وقوله: " رأدًا "، أي طالبًا، و " المزج " العسل يمزج بالخمر، و"السحل" يعني ينقد الدراهم، يقول: فلما طلب ذلك "المزج" اشترى بماله مزجا أي: عسلًا، كأنه ثغر حسناء في بياضه وصفائه ورقته. هكذا قالوا، وفي النفس منه شيء. وأجود منه عندي أن يقال إن " الضحك " في هذا البيت، هو طلع النخل حين ينشق عما في جوفه، وهو أبيض شديد البياض والنقاء.
(3) لم أعرف قائله.
(4) اللسان (ضحك) .
(5) اللسان (ضحك) ، من قصيدة له مشهورة، لم أجدها مجموعة في مكان، ويزعمون أن الضبع تحيض، إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم. وكان ابن دريد يرد هذا ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟

(15/393)


قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال: معنى قوله: "فضحكت" فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) . فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: (لا تخف) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط = (بإسحاق) ، ولدًا لها = (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب، من ابنها إسحاق.
* * *
و"الوراء" في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18321- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: الوراء: ولد الولد.
18322- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال: يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي،

(15/394)


فقال الحسن: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) . (1)
18323- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: ولد الولد هو "الوراء".
18324- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر في قوله: (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: "الوراء"، ولد الولد.
18325- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله.
18326- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد من الوَراء.
18327- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني. قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله يقول: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فولد الولد هم الوراء.
18328- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة. وقالت: "عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا "! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) ، [سورة الذاريات: 29] . وقالت: (أألد
__________
(1) الأثر: 18322- "أبو اليسع" إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة، مولى الأشعري"، لم أجده في مكان آخر. والذي وجدته:
"إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، مولى الأشعري " مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/351، وابن أبي حاتم 1/1/ 164، وروى عنه " عمر بن علي بن مقدم "، ولم يرو عنه "عمرو بن علي الفلاس"، وإذًا فليس هو هو. فيبقى مجهولًا حتى نجد له ترجمة.

(15/395)


وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) قالوا (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) ، قالت سارة: ما آية ذلك؟ قال: فأخذ بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هُو لله إذا ذبيحًا.
18329- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: (فضحكت) = يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط = فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب = بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها = يقال: ضربت على جبينها =: (يا ويلتا أألد وأنا عجوز) ، إلى قوله: (إنه حميد مجيد) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) ، برفع "يعقوب "، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.
* * *
وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب) نصبًا.
* * *
فأما الشامي منهما، فذكر أنه كان ينحو ب"يعقوب" نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر "وهبنا" عمل فيه "التبشير" وعطف به على موضع "إسحاق "، إذ كان "إسحاق" وإن كان مخفوضًا، فانه بمعنى المنصوب بعمل "بشرنا"، فيه، كما قال الشاعر: (1)
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمِ ... أَوْ مِثْلِ أُسَْرِة مَنْظُورِ بنِ سَيَّارِ ...
__________
(1) هو جرير.

(15/396)


أَوْ عَامِرَ بْنَ طُفَيْلٍ فِي مُرَكَّبِهِ ... أَوْ حَارِثًا، يَوْمَ نَادَى القَوْمُ: يَا حَارِ (1)
* * *
وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم. (2) وقالوا: خطأ أن يقال: "مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد" وأنت عاطف ب"زيد" على "عمرو"، إلا بتكرير الباء وإعادتها، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: "مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت". وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم، بعضُ نحويي البصرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة.
* * *
__________
(1) ديوانه: 312، 313، ونقائض جرير والأخطل: 144، وسيبويه 1: 48، 86، والفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية: من جياد قصائده في هجاء الأخطل، يقول له: لاَ تَفْخَرَنَّ، فإنَّ اللهَ أنْزَلكُمْ ... يَا خُزْرَ تَغْلِبَ دَارَ الذُّلِّ والعَارِ
مَا فِيكُمُ حَكَمٌ تُرْضَى حُكُومَتُهُ ... لِلمُسْلِمينَ، ولاَ مُسْتَشْهَدٌ شَارِي
ثم يقول البيتين، وبينهما بيت ثالث: أوْ مَثْلَ آلِ زُهَيْرٍ، والقَنا قِصَدٌ ... وَالخَيْلُ في رَهَجٍ مِنْهَا وَإِعْصَارِ
وهو في هذه القصيدة يفخر ببني قيس عيلان بن مضر بن نزار جميعًا، على بني ربيعة بن نزار، وهم جذم الأخطل التغلبي. فذكر " بني بدر "، الفزاريين من قيس عيلان، و" منظور بن سيار الفزاري "، و" آل الزهير بن جذيمة "، العبسيين، و" عامر بن الطفيل " من بني جعفر بن كلاب، و" الحارث بن ظالم المري "، من بني ذبيان، ثم تابع ذكر سائر قبائل قيس.
(2) " الصفة " يعني حرف الجر، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات.

(15/397)


قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء =
* * *
وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. (1)
وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما:-
18330- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق، فيما ذكر لي بعض أهل العلم، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة.
* * *
= (يا ويلتا) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: "ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله"! (2)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في: (يا ويلتا) .
فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف حقيقة، إذا وقفت قلت: "يا ويلتاه"،
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 18320.
(2) انظر تفسير " الويل " فيما سلف 2: 267 - 269، 273.

(15/398)


وهي مثل ألف الندبة، فلطفت من أن تكون في السكت، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها، وأبعد في الصوت. ذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه، فتكون أكثر وأبين.
* * *
وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: (ويَدْعُو الإنْسَانُ) ، [سورة الإسراء: 11] ، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: (ما كُنَّا نَبْغِي) ، [سورة الكهف: 64] ، بالياء، وغير الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم.
* * *
وقوله: (أألد وأنا عجوز) ، تقول: أنى يكون لي ولد = (وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا) ، والبعل في هذا الموضع: الزوج، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها، كما سموا مالك الشيء "بعله"، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون "البعل"، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل، بماء السمَاء حياتُه. (1)
* * *
وقوله = (إن هذا لشيء عجيب) ، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب = (قالوا أتعجبين من أمر الله) ،
__________
(1) انظر تفسير " البعل " فيما سلف 4: 526، 527 / 9: 267، ولم يذكر فيهما مثل هذا التفصيل في معناه. وهذا من فعله، دال على طريقته في التأليف.

(15/399)


فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)

يقول الله تعالى ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك.
* * *
= وقوله: (رحمة الله وبركاته عليكم البيت) ، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم (1) = وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة = وقوله: (إنه حَميدٌ مجيد) ، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه (2) = (مجيد) ، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.
* * *
يقال في "فعل" منه: "مجد الرجل يمجد مجادة" إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: "مجّدته تمجيدًا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء = (وجاءته البشرى) ، بإسحاق، ظلّ = (يجادلنا في قوم لوط) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18331- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) انظر تفسير " البركات " فيما سلف من فهارس اللغة (برك) .
(2) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف 5: 570 / 9: 296.

(15/400)


قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) يقول: ذهب عنه الخوف، (وجاءته البشرى) ، بإسحاق.
18332- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف، قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) ، [سورة إبراهيم: 39] .
* * *
وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك:
18333- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءته البشرى) ، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (1)
* * *
وقال آخرون: بشّر بإسحاق.
* * *
وأما "الروع": فهو الخوف، يقال منه: "راعني كذا يَرُوعني روعًا" إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن"؟ ومنه قول عنترة:
مَا رَاعَني إلا حَمُوَلُة أَهْلِهَا ... وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (2)
__________
(1) بعد هذا الأثر ما نصه: " قال حدثنا محمد بن ثور، قال حدثنا معمر، وقال آخرون. . . " فحذفت هذه الزيادة، لأنها سبق نظر من الناسخ، لأنه نقل من أول السطر الذي فوقه، ثم عاد إلى السياق ولم يتم النقل.
(2) ديوانه: 123، من معلقته المشهورة، وقبله: إنْ كُنْتِ أَزْمْعتِ الفِرَاقَ، فإنَّما ... زُمَّتْ رِكابُكُمْ بِيَوْمٍ مُظْلِمِ
"الخمخم"، بقلة لها حب أسود. وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل، سفت حب الخمخم، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم.

(15/401)


بمعمى: ما أفزعني.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
18334- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الروع"، الفَرَق.
18335- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
18336-. . . . قال وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: الفَرَق.
18337- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: الفَرَق.
18338- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله: (يجادلنا في قوم لوط) ، يقول: يخاصمنا. كما:-
18339- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلنا) ، يخاصمنا. (1)
18340- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (يجادلنا) يكلمنا.
__________
(1) انظر تفسير " المجادلة " فيما سلف ص: 303، تعليق 1، والمراجع هناك

(15/402)


وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله، إنما يسأله ويطلب إليه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط، فقول القائل: "إبراهيم لا يجادل"، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: (يجادلنا) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: "وجاءته البشرى يجادل رسلنا"، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل".
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم، كما:-
18341- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي قال، حدثنا جعفر، عن سعيد: (يجادلنا في قوم لوط) ، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه.
18342- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
18343- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
__________
(1) في المطبوعة: " ويطلب منه "، لم يحسن قراءة المخطوطة لدقة كتابة الكلمة في تجويف باء " يطلب "، إذ كانت في آخر السطر.

(15/403)


(يجادلنا في قوم لوط) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.
18344- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يجادلنا في قوم لوط) ، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير = قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.
18345- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، قال: ما خطبُكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: (يجادلنا في قوم لوط) . فقالت الملائكة: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنَّه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) .
18346- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين

(15/404)


جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا:، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا، (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا) ، يدفع به عنهم العذاب = (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [سورة العنكبوت: 32] ، (قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) .
18347- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
18348- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا (لما ذهب عن إبراهيم الروع) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي، ولا خمسين! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني! قال الله عز وجل: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات:36] ، أي لوطًا وابنتيه، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة الذاريات:37] ، وقال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) . (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18348 - "محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري، مضى مرارًا، منها: 13108.
و" أبو المغيرة "، هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، مضى مرارا، منها: 13108.
و" صفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، مضى مرارًا، منها: 13108.
" وأبو المثني " كأنه يعني: مسلم بن المثني الكوفي المؤذن "، روى عن ابن عمر، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 256، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 195. وأما " أبو الحبيل الأشجعي "، فلست أجد من يسمى هكذا، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ، فصوابه عندي: " قال حدثنا أبو المثني مسلم، والحسيل الأشجعي".
" والحسيل الأشجعي "، فيما أرجح: " الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي "، ويقال أيضًا: " حسين "، روى عن سعد بن أبي وقاص، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 58. هذا، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد، والله أعلم.

(15/405)


والعرب لا تكاد تَتَلقَّى "لمَّا" إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون: "لما قام قمت"، ولا يكادون يقولون: "لما قام أقوم". وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل "الجدال" "والخصومة" والقتال، فيقولون في ذلك: "لما لقيته أقاتله"، بمعنى: جعلت أقاتله.
* * *
وقوله: (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب) ، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب، (1) متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره = (منيب) ، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-
18349- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (أوّاه منيب) ، قال: القانت: الرَّجاع.
* * *
وقد بينا معنى "الأوّاه" فيما مضى، باختلاف المختلفين، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول، بما أغنى عن إعادته. (2)
__________
(1) انظر تفسير " حليم " فيما سلف 11: 114، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأواه " فيما سلف 14: 523 - 536.

(15/406)


يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه (1) = فإنه (قد جاء أمر ربكَ) يقول: قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء = (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) ، يقول: وإن قوم لوط، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع.
* * *
وقد [مضى] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه. (2)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم = وهو "فعل" من "السوء" = (وضاق بهم) ، بمجيئهم (ذَرْعًا) ، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم. وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: (هذا يوم عصيب) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 14: 425، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.

(15/407)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
18350- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذراعًا) ، يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه.
* * *
18351- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط. قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته، انطلقَت فأنذرتهم. (1)
18352- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه.
18353- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا! يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله. (2)
18354- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد
__________
(1) الأثر: 18351 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154.
(2) الأثر: 18353 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154.

(15/408)


قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى "ريثا"، والصغرى "زغرتا"، (1) فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم! فَرِقَتْ عليهم من قَوْمها. (2) فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف رجلا فقالوا: خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال! فجاء بهم، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، قالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قَطّ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه. (3)
18355- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه، فقال: (هذا يوم عصيبٌ) .
* * *
وأما قوله: (وقال هذا يوم عصيب) ، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بلاؤه،
* * *
يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن زيد:
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لمْ أُعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيب (4)
__________
(1) هكذا في المخطوطة منقوطة نقطًا واضحًا، على قلة النقط في مواضع منها. وفي التاريخ: " رعزيا "، وتحقيق ذلك يحتاج إلى وقت غير هذا.
(2) أي: خافت عليهم.
(3) الأثر: 18354 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154، تام الإسناد، مطولا.
(4) الأغاني 2: 111، مجاز القرآن 1: 294، اللسان (سلك) ، وسيأتي في التفسير 14: 8 / 18: 13 (بولاق) . من قصيدة له طويلة، قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر، يقول للنعمان قبله: سَعَى الأَعْدَاءُ لاَ يَأْلُونَ شَرًّا ... عَلَيَّ وَربِّ مَكَّةَ والصَّلِيبِ
أَرَادُوا كي تُمَهَّلَ عَنْ عَدِيٍّ ... لِيُسْجَنَ أَو يُدَهُدَهَ فِي القَلِيبِ
وَكُنْتُ لِزازَ خَصْمِكَ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أُعَالِنُهُم وأُبْطِنُ كُلَّ سِرٍّ ... كَمَا بَيْنَ اللِّحَاءِ إِلَى العَسِيبِ
فَفُزْتُ عَلَيْهِمْ لَمّا الْتَقَيْنَا ... بِتَاجِكَ فَوْزَةَ القِدْحِ الأرِيبِ
" دهدهه "، دحرجه من علو إلى سفل، و " القليب "، البئر، إنما عنى القبر هنا. و " لزاز الخصم "، الشديد المعاند ذو البأس في الملمات. و"عرد عن خصمه"، أحجم ونكص. وكان في المطبوعة هنا " أعدد "، وفي المخطوطة: " أعود "، والصواب ما أثبت. و" اللحاء " قشر العود، و " العسيب " جريد النخل، يقول: سرك كما بين هذين، يعني خفي لا يرى. و" القدح الأريب " من قداح الميسر، هو القدح ذو الآراب الكثيرة، و"الآراب" أعضاء الجذور.

(15/409)


وقول الراجز:
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الأَبْطَالا ... عَصْبَ القَوِيِّ السَّلَمَ الطِّوَالا (1)
وقول الآخر:
وَإنَّكَ إنْ لا تُرْضِ بَكْرَ بنَ وَائِلٍ ... يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعِرَاقِ عَصِيبِ (2)
وقال كعب بن جعيل:
ومُلَبُّونَ بِالحَضِيضِ فِئامٌ ... عَارِفاتٌ مِنْهُ بِيَوْمٍ عَصِيبِ (3)
* * *
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) لم أعرف قائله، وهو في مجاز القرآن 1: 294.
(2) لم أعرف قائله، وهو في مجاز القرآن 1: 294.
(3) لم أجد البيت في مكان آخر، وفي المطبوعة: " ويلبون "، وفي المخطوطة مثله، إلا أن فيه خطأ في النقط وأظن الصواب ما أثبت، من قولهم: " ألب بالمكان "، إذا لزمه ولم يفارقه. " والحضيض "، منخفض من الأرض عند منقطع الجبل. و" فئام"، جماعات. وكأن هذا البيت من شعره الذي رثى به عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وروى أبياتا منه المصعب الزبيري في نسب قريش ص: 325، وكان كعب بن جعيل مداحًا له.

(15/410)


وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)

18356- حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عصيب) ،: شديد
18357- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: (هذا يوم عصيب) ، يقول شديد.
18358- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (هذا يوم عصيب) ، أي يوم بلاء وشدة.
18359- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يوم عصيب) ، شديد.
18360- حدثني علي قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وقال هذا يوم عصيب) ، أي: يوم شديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه، يُرْعَدون مع سرعة المشي، مما بهم من طلب الفاحشة.
* * *
يقال: "أهْرِعَ الرجل "، من برد أو غضب أو حمَّى، إذا أرعد، "وهو مُهْرَع"، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال الراجز:

(15/411)


(1)
* بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * (2)
ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يُهْرَعُونَ وهمْ أُسارَى تَقُودُهُمُ على رَغمِ الأُنُوفِ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18361- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يُهْرَعون إليه) ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي.
18362- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18363- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
18364- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال: يسعون إليه.
18365- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: فأتوه يهرعون إليه، يقول: سراعًا إليه.
18366- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يهرعون إليه) ، قال: يسرعون إليه.
18367- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول: يسرعون المشي إليه.
18368- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 294.
(3) اللسان (هرع) ، ولم أعرف سائر الشعر.

(15/412)


زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال: يهرولون في المشي = قال سفيان: (يهرعون إليه) ، يسرعون إليه.
18369- حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: (يهرعون إليه) ، قال: كأنهم يدفعون.
18370- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز.
18371- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول: مسرعين.
* * *
وقوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:-
18372- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، قال: يأتون الرجال.
* * *
وقوله: (قال يا قوم هؤلاء بناتي) ، يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي = يعني نساء أمته = فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:-
18373- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: (هن أطهر لكم) .
18374- حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد.
18375- حدثنا ابن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (هؤلاء

(15/413)


بناتي هن أطهر لكم) ، قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته.
18376- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
18377- حدثني يعقوب قال، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: (هن أطهر لكم) ، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. (1)
18378- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه ببناته.
18379- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج = حدثني أبو جعفر، عن الربيع في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج. (2)
18380- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر كم) ، يعني: نساءهم، هنّ بَنَاته، هو نبيّهم = وقال في بعض القراءة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ) ، [سورة الأحزاب: 6] . (3)
__________
(1) لا يظهر لهذه العبارة معنى، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء ويكون: " ما عرض عليهم بناته نكاحا ولا سفاحا "، ويكون ابن أبي نجيح أراد أنه أمرهم بأن يتزوجوا النساء من قومهم.
(2) هكذا جاء التكرار في المخطوطة والمطبوعة، وأخشى أن يكون سقط من الإسناد شيء.
(3) الأثر: 18380 - " محمد بن شبيب الزهراني "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 114، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 285.

(15/414)


18381- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجاءه قومه يهرعون) ، قالوا: أو لم ننهك أن تضيف العالمين؟ قال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، إن كنتم فاعلين، أليس منكم رجل رشيد؟
18382- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون، والله أعلم، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي: ألم نقل لك: لا يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال: "يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم"، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح.
18383- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (هؤلاء بناتي) ، قال: النساء.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هن أطهر لكم) .
فقرأته عامة القراء برفع: (أَطْهَرُ) ، على أن جعلوا "هن" اسمًا، "وأطهر" خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.
* * *
وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: (هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ) ، بنصب "أطهر". (1)
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.
__________
(1) انظر قراءة عيسى بن عمر، وما قاله له أبو عمرو بن العلاء، في طبقات فحول الشعراء ص: 18.

(15/415)


وكان بعض نحويي الكوفة يقول: من نصبه جعله نكرةً خارجة من المعرفة، ويكون قوله: "هن" عمادًا للفعل فلا يُعْمِله.
* * *
وقال آخر منهم: مسموع من العرب: "هذا زيد إيَّاه بعينه"، قال: فقد جعله خبرًا لـ "هذا" مثل قولك: "كان عبد الله إياه بعينه". قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا، لأن التقريب ردُّ كلام، (1) فلم يجتمعا، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه: "ها أنا ذا حاضر"، أو: "زيد هو العالم"، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر، فلذلك لم يجُزْ.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه، مع صحته في العربية، وبعد النصب فيه من الصحة.
* * *
وقوله: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) ، يقول: فاخشوا الله، أيها الناس، واحذروا عقابه، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها = (ولا تخزون في ضيفي) ، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. (2)
* * *
و"الضيف "، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع "ضيفًا" بلفظ واحدٍ. كما قالوا: "رجل عَدْل، وقوم عَدْل".
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقريب " فيما سلف 7: 149، تعليق: 4، وص: 150، تعليق: 3، وهو من اصطلاح الكوفيين. وهو أن تكون " هذا " و " هذه "، من أخوات " كان " في احتياجهما إلى اسم مرفوع، وخبر منصوب.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .

(15/416)


قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)

وقوله: (أليس منكم رجل رشيد) ، يقول: أليس منكم رجل ذو رُشد، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟ (1) كما:-
18384- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط للوط: (لقد علمت) ، يا لوط (ما لنا في بناتك من حق) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا، (2) كما:-
18385- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) ، أي من أزواج = (وإنك تعلم ما نريد) .
* * *
وقوله: (وإنك لتعلم ما نريد) ، يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
18386- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) انظر تفسير " الرشد " فيما سلف 13: 114، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ليس لنا أزواجا "، والصواب ما أثبت.

(15/417)


قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

السدي: (وإنك لتعلم ما نريد) ، إنا نريد الرجال.
18387- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإنك لتعلم ما نريد) ، أي: إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: (لو أن لي بكم قوة) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني = (أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، (1) لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي = وحذف جواب "لو" لدلالة الكلام عليه، وأن معناه مفهوم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول: إلى جُنْد شديد، لقاتلتكم.
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص: 331، تعليق: 1، والمراجع هناك = ثم انظر ما سيأتي ص: 422.

(15/418)


18389- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: العشيرة.
18390- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: (إلى ركن شديد) ، قال: العشيرة.
18391- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: إلى ركن من الناس.
18392- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال قوله: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه، حتى النبي صلى الله عليه وسلم.
18393- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، أي: عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا.
18394- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) قال: يعني به العشيرة.
18395- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نزلت: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد!
18396- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان!
18397- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله

(15/419)


عليه وسلم: رحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه = قال محمد: و"الثروة"، الكثرة والمنعة. (1)
18398- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
18399- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
18400- حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا سعيد بن تليد قال، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (2)
__________
(1) الأثر: 18397 - حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رواه من أربع طرق، من رقم: 18397 - 18399، ثم رقم: 18402." ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا." وأبو سلمة بن عبد الرحمن "، روى له الجماعة، مضى مرارًا. وهذا حديث صحيح، وخرجه الحاكم في المستدرك 2: 561، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وإنما اتفق على حديث الزهري عن سعيد، وأبي عبيدة، عن أبي هريرة مختصرًا ".
(2) الأثر: 18400 - حديث ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رواه من طريقين، هذا ورقم: 18401.
"زكريا بن يحيى بن أبان المصري "، شيخ الطبري، مضى برقم: 5973، 12807، وانظر التعليق عليه في الموضوعين." وسعيد بن تليد "، هو:" سعيد بن عيسى بن تليد المصري " ثقة، مضى برقم: 5973. " وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي "، ثقة، مضى برقم: 5973." وبكر بن مضر المصري "، ثقة، مضى برقم ": 2031، 4633، 5897، 5973. " وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. " ويونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. وهذا إسناد صحيح أيضًا.

(15/420)


18401- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، فذكر مثله.
18402- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قد كان يأوي إلى ركن شديد = يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. (1)
18403- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (2)
18404-. . . . قال، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (3)
18405- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) الأثر: 18402 - انظر تخريج الأثر رقم: 18397.
(2) الأثر: 18403 - " أبو يونس "، هو " سليم بن جبير الدوسي المصري "، مولى أبي هريرة، ثقة، سلف برقم: 6889. و " ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ذكر من يضعفه، ومن يوثقه.
(3) الأثر: 18404 - هذا إسناد صحيح، ومن هذه الطريق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 6: 297) .

(15/421)


ذكر لنا أنَّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية = أو: أتى على هذه الآية = قال: رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! = وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من قومه.
* * *
يقال: من (آوي إلى ركن شديد) ، "أويت إليك"، فأنا آوي إليك أوْيًا"، بمعنى: صرت إليك وانضممت، (1) كما قال الراجز: (2)
يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ ... فِي عَدَدَ طَيْسٍ وَمجْدٍ بَانِ (3)
* * *
وقيل: إن لوطًا لما قال هذه المقالة، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك.
18406- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ ركنَك لشديد! (4)
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص: 418، تعليق: 1، والمراجع هناك، وهذه زيادة في البيان لم يسبق مثلها.
(2) لم أعرف قائله.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 294، و " عدد طيس "، كثير.
(4) الأثر: 18406 - جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، 157، وسيأتي برقم: 18415.

(15/422)


قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: (يا لوط إنا رسل ربك) ، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر= (فأسر بأهلك بقطع من الليل) ، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. (1)
* * *
يقال منه: "أسرى" و"سرى"، وذلك إذا سار بليل = (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) .
* * *
واختلفت القراءة في قراءة قوله: (فأسر) .
فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: "فَاسْرِ"، وصلٌ بغير همز الألف، من "سرى".
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: (فَأَسْرِ) بهمز الألف، من "أسرى".
* * *
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان في العرب، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القطع " فيما سلف ص: 76.

(15/423)


وأما قوله: (إلا امرأتك) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب (إلا امْرَأَتَكَ) ، بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها.
* * *
وقرأ ذلك بعض البصريين: (إلا امْرَأَتُكَ) ، رفعًا = بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك = فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك.
* * *
وقوله: (إنه مصيبها ما أصابهم) ، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب = (إن موعدهم الصبح) ، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك! فقالوا: (أليس الصبح بقريب) أي عند الصبح نزولُ العذاب بهم، كما:-
18407- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (أليس الصبح بقريب) ، أي: إنما ينزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:-
18408- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة! فقال له جبريل عليه السلام: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ؟ فأنزلت على لوط: (أليس الصبح بقريب) ، قال: فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا

(15/424)


امرأته، قال: فسار، فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها، أدخل جبريل جناحَه فرفعها، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ الكلاب، فجعل عاليها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال: وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها. (1)
18409- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ، فانطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، قال: فقال بيده، (2) فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. (3)
18410- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة قال: لما بَصُرت بهم = يعني بالرسل = عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم، فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، (4) ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا! = قال: ولا أعلمه إلا قالت: ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ. (5)
فأخبروه: (إنا رسل ربك فأسر
__________
(1) الأثر: 18408 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155.
(2) " قال بيده "، أشار بيده وأومأ.
(3) الأثر: 18409 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155.
(4) في المطبوعة فقال " إنه تضيف لوطا "، وفي المخطوطة: " رب تضيف لوط قوم "، وهو خطأ من الناسخ لا شك فيه وأثبت ما في التاريخ.
(5) في المطبوعة: " في أخبث ليلة ما أتت عليهم. . . "، كأنه أراد تصويبها، فأفسدها. والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.

(15/425)


بأهلك بقطع من الليل) ، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت، فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وقوله: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك، فقالوا: (أليس الصبح بقريب) ؟ (1)
18411- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته = يعني امرأة لوط = حين رأتهم = يعني حين رأت الرسل = إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، (2) فقال: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) ، فقالوا: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) ، (3) فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها. (4)
18412- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت: لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ
__________
(1) الأثر: 18410 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155، ولم ترد فيه الجملة الأخيرة من الخبر.
(2) في المطبوعة: " يزجهم على الباب " والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.
(3) تضمين آيات سورة الحجر: 70، 71.
(4) الأثر: 18411 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155، 156.

(15/426)


أحسنَ وجوهًا منهم! قال: فجاؤوا يسرعون، (1) فعاجلَهم إلى لوط، (2) فقام ملك فلزَّ الباب = يقول: فسدّه = واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبريل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا بشرّ ليلة، ثم (قالوا إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) ، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابها حجر، وهى شاذَّة من القوم معلومٌ مكانها. (3)
18413- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط. (4)
18414- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: "النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض"! فذلك قوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) ، [سورة القمر: 37] . وقالوا للوط: (إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها) ، وَاتبع أدبارَ أهلك (5) = يقول: سرْ بهم = (وامضوا حيث تؤمرون) = فأخرجهم الله إلى
__________
(1) في التاريخ " فجاؤوا يهرعون إليه ".
(2) في المطبوعة: " فعاجلهم لوط "، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في ريب منه، لأن أبا جعفر لم يرو هذه الجملة في تاريخه، ولا أدري لم؟ ولم أشأ أن أغيره، للخبر الذي يليه، وهو في التاريخ جمع الإسنادين جميعًا، وساق هذه الجملة كلها غير هذا السياق.
(3) الأثر: 18412 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، جمع هذا الإسناد والذي يليه فقال: ". . . حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال حدثنا محمد بن ثور = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق = جميعًا، عن معمر. . . ".
(4) الأثر: 18413 - انظر التعليق السالف، وإن كانت هذه الجملة، لم ترد في نص روايته في التاريخ.
(5) هذا تضمين للآيات من هذه السورة، والتي في سورة الحجر: 65.

(15/427)


الشام. وقال لوط: أهلكوهم الساعة! فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصُّبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما أن كان السَّحَر، خرج لوط وأهله معه امرأته، (1) فذلك قوله: (إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) ، [سورة القمر: 34] . (2)
18415- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال، فلما رأى الله ذلك [منهم] ، (3) بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [أرأيتم] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ (4) قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت؟ (5) قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف. ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل! (6) فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. (7) فلقيهم لوط فقال: يا قوم
__________
(1) في التاريخ: " وأهله معه إلا امرأته ".
(2) الأثر: 18414 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، مع اختلاف ذكرته آنفا. وذكر إسناده تامًا غير مختصر، إلى ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو إسناد دائر في التفسير، في أوله، ثم اختصره أبو جعفر بعد.
(3) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(4) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: " أهل البيت "، والصواب من التاريخ.
(6) في التاريخ: " لم ذر قومًا ".
(7) في التاريخ: " الجدارات "، وفي المخطوطة: " الجدرات "، والذي في التاريخ صالح.

(15/428)


لا تفضحون في ضيفي، وأنا أزوّجكم بناتي، فهن أطهر لكم! فقالوا: لو كنَّا نُريد بناتك، لقد عرفنا مكانهن! فقال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ! فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود! فمسح أحدهم أعينهم بجناحيه، فطمس أبصارَهم فقالوا: سُحِرْنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه! فكان من أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. (1) فأدخل ميكائيل = وهو صاحبُ العذاب = جناحه حتى بلغ أسفل الأرض، فقلبها، ونزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانُوا، فأهلكهم الله، ونجّى لوطًا وأهله، إلا امرأته. (2)
18416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله = وأبو سفيان، عن معمر = عن قتادة، عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول: ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات. فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً، ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله! (3) فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة! ثم مشى ساعةً، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم
__________
(1) في المطبوعة وحدها: " في كتابة ".
(2) الأثر: 18415 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، 157، وانظر التعليق على رقم: 18406.
(3) في المطبوعة: " شر خلق الله "، وأثبت ما في المخطوطة.

(15/429)


واستحيا منهم، قال: أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية؟ وما أعلم على وجه الأرض شرًّا منهم، إن قومي شر خلق الله! فالتفت جبريل إلى الملائكة، فقال: احفظوا، هاتان ثنتان! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم، وقال: إن قومي شرُّ خلق الله، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم! فقال جبريل للملائكة: احفظوا هذه ثلاثٌ، قد حُقَّ العذاب! فلما دخلوا ذهبت عجوزُه، عجُوز السَّوء، فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يهرعون سراعًا، قالوا: ما عندك؟ قالت: ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم ولا أطيب ريحًا منهم! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب، (1) فعاجلهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، فقام الملك فلزَّ الباب = يقول: فسَدّه = واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه، ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين، ورأسه حُبُك، مثل المرجان، (2) وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، وقدماه إلى الخضرة = فقال: يا لوط، (إنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أمِطْ، يا لوط، من الباب ودعني وإياهم. (3) فتنحى لوط عن الباب، فخرج عليهم، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم، (4) فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته، قال: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) .
18417- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال لوط لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أي: بشيء تكرهه = (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، أي إنما ينزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
18418-. . . . قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، (5) فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُم) [سورة القمر: 37] .
18419- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بقطع من الليل) ، قال: بطائفة من الليل.
18420- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بقطع من الليل) ، بطائفة من الليل.
18421- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ، قال: جوف الليل = وقوله:
__________
(1) في المطبوعة: " مسارعين إلى الباب "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هكذا في المطبوعة، بأنه يعني " حبك الشعر "، وهو الجعد المتكسر منه، وفي المخطوطة " حبل حبل " غير منقوطة، كأنها " حبل، حبل "، يعني الذي ينظم في اللؤلؤ كالتاج. أو تقرأ " جثل، جثل "، وهو من الشعر الكثير الملتف. والله أعلم.
(3) في المطبوعة: " امض يا لوط "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض. يقال: "ماط عن المكان، وأماط عنه "، إذا تنحى. وفي حديث خيبر أنه أخذ الراية فهزها، فقال: من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان، فقال: أنا! فقال: أمط! ثم جاء آخر، فقال: أمط = أي: تنح أنت واذهب.
(4) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: " شدخ أعينهم "، كأنه من " شدخت الغرة "، إذا غشيت الوجه من أصل الناصية إلى الأنف، في الفرس. هذا، وإلا فإني لا أدري ما هو؟ .
(5) " سفع وجهه بيده سفعا " لطمه بكفه مبسوطة.

(15/430)


(وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) ، يقول: واتبع أدبار أهلك = (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) (1) [سورة الحجر: 65] .
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
18422- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولا يلتفت منكم أحد) ، قال: لا ينظر وراءَه أحد = (إلا امرأتك) .
* * *
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ) .
* * *
18423- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب.
* * *
__________
(1) الأثر: 18421 - هذا من تفسير آية سورة الحجر: 65، ولم يذكره هناك.

(15/432)


فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك، (جعلنا عاليها)
يعني عالي قريتهم = (سافلها وأمطرنا عليها) ، يقول: وأرسلنا عليها = (حجارة من سجيل) .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "سجيل".

(15/432)


فقال بعضهم: هو بالفارسية: سنك، وكل. (1)
*ذكر من قال ذلك.
18424- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (من سجيل) ، بالفارسية، أوَّلها حَجَر، وآخرها طين.
18425- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
18426- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
18427- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
18428- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (حجارة من سجيل) ، قال: فارسية أعربت سنك وكل. (2)
18429- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "السجيل"، الطين.
18430- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (من سجيل) قالا من طين.
18431- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، عن وهب قال: سجيل بالفارسية: سنك وكل
18432- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 14، تعليق: 2، ثم ص: 20.
(2) الأثر: 18428 - انظر الأثر السالف قديمًا، رقم: 5.

(15/433)


عن السدي: (حجارة من سجيل) ، أما السجيل فقال ابن عباس: هو بالفارسية: سنك وجل = "سنك"، هو الحجر، و"جل "، هو الطين. يقول: أرسلنا عليهم حجارة من طين.
18433- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (حجارة من سجيل) ، قال: طين في حجارة.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما:-
18434- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حجارة من سجيل) ، قال: السماء الدنيا. قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنزل الله على قوم لوط.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول: "السجيل"، هو من الحجارة الصلب الشديد، ومن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: (1)
*ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا* (2)
وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. (3)
* * *
__________
(1) هو تميم بن أبي مقبل.
(2) مجاز القرآن 1: 296، ومنتهى الطلب: 44، والمعاني الكبير: 991، واللسان (سجن) ، وغيرها، يقول قبله: وإنَّ فِينَا صَبُوحًا إنْ أَرِبْتَ بِهِ ... جَمْعًا بَهيًّا وَآلافًا ثَمَانِينَا
وَرَجْلةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُض ... ضَرْبًا تَواصَى بِهِ الأبْطَالُ سِجِّينَا.
(3) يعني بقوله: " بعضهم "، أي بعض العرب يحول اللام نونًا، كقول النابغة: بِكُلِّ مُدَجّجٍ كالَّليْثِ يَسْمُو ... عَلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
يريد: رفل = هذا تمام كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن، نقلته للتوضيح. ونسب قريش: 90.

(15/434)


وقال آخر منهم: هو "فِعّيل"، من قول القائل: "أسجلته"، أرسلته = فكأنه من ذلك، أي مرسلةٌ عليهم.
* * *
وقال آخر منهم: بل هو من "سجلت له سجلا" من العطاء، فكأنه قيل: مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه، وقالوا أسجله: أهمله.
* * *
وقال بعضهم: هو من "السِّجِلّ"، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب.
* * *
وقال آخر منهم: بل هو طين يطبخ كما يطبخ الآجرّ، وينشد بيت الفضل بن عباس:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا ... يَمْلأُ الدَّلْوَ إلَى عَقْدِ الكرَب (1)
فهذا من "سجلت له سَجْلا"، أعطيته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) [سورة الذاريات: 33، 34]
* * *
__________
(1) معجم الشعراء: 309 واللسان (سجل) ، وغيرهما، وقبله: وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي ... أخْضَرُ الجِلْدَةِ فِي بَيْتِ العَرَبْ
مَنْ يُسَاجِلْنِي. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إِنَّما عَبْدُ مَنَافٍ جَوْهَرٌ ... زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ
وهو: الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وأمه آمنة بنت العباس بن عبد المطلب. وكان الفضل آدم شديد الأدمة، ولذلك قال: " وأنا الأخضر "، و" الخضرة " في ألوان الناس، شدة السمرة، والعرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف العجم بالحمرة. و" الكرب " الحبل الذي يشد على الدلو.

(15/435)


وقد روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: هي فارسية ونبطية.
18435- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: فارسية ونبطية "سج"، "إيل".
* * *
فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بالفارسية "جل " لا "إيل"، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان "سِجْل " لا "سجيل"، لأن الحجر بالفارسية يدعى "سج "والطين "جل"، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القول عندنا في أوّل الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه قال: كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت.
* * *
وأما قوله: (منضود) ، فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما:-
18436- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (منضود) يقول: مصفوفة.
18437- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (منضود) يقول: مصفوفة.
* * *
وقال الربيع بن أنس فيه ما:-
18438- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله (منضود) ، قال: نضد بعضه على بعض.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 13 - 20.

(15/436)


18439- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله: أما قوله: (منضود) ، فإنها في السماء منضودة: معدَّة، وهي من عُدَّة الله التي أعَدَّ للظلمة.
* * *
وقال بعضهم: "منضود"، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال: فذلك نَضَدُه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله: (منضود) من نعت "سجيل"، لا من نعت "الحجارة"، وإنما أمطر القوم حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض، فصُيِّر حجارة، ولم يُمْطَرُوا الطين، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه.
قال أبو جعفر: وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنزيل بالنصب "منضودةً"، فيكون من نعت "الحجارة " حينئذ.
* * *
وأما قوله: (مسوَّمة عند ربك) ، فإنه يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، (1) و"المسوّمة" من نعت "الحجارة"، ولذلك نصبت على النعت. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18440- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مسوّمة) ، قال: معلمة.
18441- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " المسومة " فيما سلف 6: 251 - 257 / 7: 184 - 190.
(2) في المطبوعة: " نصبت ونعت بها "، وفي المخطوطة: " نصبت وانعت "، وكأن الصواب ما أثبت.

(15/437)


18442-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثله.
18443- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله = قال ابن جريج: (مسوّمة) ، لا تشاكل حجارة الأرض.
18444- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (مسومة) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من حمرة. (1)
18445- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مسومة) عليها سيما معلومة. حدّث بعضُ من رآها، أنها حجارة مطوَّقة عليها = أو بها نضحٌ من حمرة، ليست كحجارتكم.
18446- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: (مسوّمة) ، قال: عليها سيما خطوط.
18447- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (مسومة) قال: "المسومة"، المختَّمة.
* * *
وأما قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط، من مشركي قومك، يا محمد، ببعيد أن يمطروها، إن لم يتوبوا من شركهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: " يصح من حمرة "، والصواب ما في المخطوطة. و"النضح "، ما بقي له أثر، يقال: " على ثوبه نضح دم "، وهو اليسير منه، الباقي أثره.

(15/438)


18448- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: أن يصيبهم ما أصاب القوم. (1)
18449- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: يُرْهِب بها من يشاء.
18450- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18451-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18452- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18453- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط.
18454- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: لم يترك منها ظالمًا بعدهم. (2)
18455- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شؤذب، عن قتادة في قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: يعني ظالمي هذه الأمة. قال: والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ!
__________
(1) الأثر: 18448 - " سهل بن حماد "، " أبو عتاب الدلال "، ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 103، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 196.
(2) في المطبوعة: " لم يبرأ منها ظالم "، وفي المخطوطة: " يبرا منها ظالما "، ورأيت قراءتها كما أثبتها.

(15/439)


18456- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: من ظَلَمة العرب، إن لم يتوبوا فيعذّبوا بها.
18457- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال: يقول: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، من ظلمة أمتك ببعيد، فلا يأمنها منهم ظالم.
* * *
وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم سافلها، كما:-
18458- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال: أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وامتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. (1)
18459- حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد قال: أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم، ثم رفعها (2)
18460- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقول: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) ، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خَوافي جناحه. (3)
18461-. . . . قال، حدثنا شبل قال، فحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر = قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح = عن مجاهد قال،
__________
(1) الأثر: 18458 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(2) الأثر: 18459- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(3) الأثر: 18460 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.

(15/440)


فحملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها. فكان أوّل ما سقط منها شِرَافها. (1) فذلك قول الله: (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، قال مجاهد: فلم يصب قومًا ما أصابهم، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. (2)
18462- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى، ثم ألوَى بها إلى السماء، (3) حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم، (4) ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم الحجارة = قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. (5)
18463- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قال: ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا. (6) قال: وهي ثلاث قرًى يقال لها "سدوم"، وهي بين المدينة والشأم. قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر
__________
(1) في المطبوعة: " شرفها "، وفي المخطوطة والتاريخ " شرافها "، كأنه على جمع " شريف "، نحو " صغير " و " صغار " و " كبير " و " كبار "، وكأن صوابهما " أشرافها "، لأن " شراف "، لم يذكر في جموع " شريف "، ولكني أخشى أن تكون هي " شذانها " كما سيأتي في رقم: 18463، تعليق رقم: 6.
(2) الأثر: 18461 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، مختصرًا، أسقط منه قول مجاهد الآخر.
(3) يقال: " ألوت به العقاب "، أي أخذته وطارت به.
(4) " ضواغي الكلاب "، جمع " ضاغية "، أي التي لها " ضغاء "، وهو صوت الذليل المقهور إذا استغاث.
(5) الأثر: 18462 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(6) " الشذان " جمع " شاذ "، وهو الذي خرج من الجماعة، فشذ عنهم.

(15/441)


لنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف [ثم] يقول (1) سدوم، يومٌ مَا لكِ! (2)
18464- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما أصبحوا = يعني قوم لوط = نزل جبريل، فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا، [حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم] ، (3) فذلك حين يقول: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) [سورة النجم: 53] ، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض. وهو قول الله: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل [يتحدث] ، فيأتيه الحجر فيقتله، (4) وذلك قول الله تعالى: (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) . (5)
18465- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر = وأبو سفيان، عن معمر =، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً، دمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل
18466- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن نبي الله صلى الله عليه
__________
(1) الزيادة من تاريخ الطبري. وفي التاريخ: " سدوم يوم هالك "، وأخشى أن الصواب هو ما في التفسير، وأن ذاك خطأ.
(2) الأثر: 18463 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها من سياق الكلام، نقلتها من نص الخبر في تاريخ الطبري.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " فكان الرجل يأتيه "، وأثبت النص من التاريخ.
(5) الأثر: 18464 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، 158.

(15/442)


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)

وسلم قال: "بعث الله جبريل عليه السلام إلى المؤتفكة قرية لوط عليه السلام التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحه، ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نُباح كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله: (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات، وكنّ خمس قريات، "صنعة" و"صعوة" "وعثرة"، و"دوما" و"سدوم" = وسدوم هي القرية العظمى = ونجى الله لوطًا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا، فلما أتاهم قال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول: أطيعوه، وتذللوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه = (ما لكم من إله غيره) ، يقول: ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره = (ولا تنقصوا المكيال والميزان) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم = (إني أراكم بخير) .
* * *
واختلف أهل التأويل في "الخير" الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به.
فقال بعضهم: كان ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه.

(15/443)


*ذكر من قال ذلك:
18467- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال، حدثنا محمد بن موسى، عن الذيال بن عمرو، عن ابن عباس: (إني أراكم بخير) ، قال: رُخْص السعر = (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) ، قال: غلاء سعر. (1)
18468- حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا صالح بن رستم، عن الحسن، وذكر قوم شعيب قال: (إني أراكم بخير) ، قال: رُخْص السعر. (2)
18469- حدثني محمد بن عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي عامر الخراز، عن الحسن في قوله: (إني أراكم بخير) قال: الغني ورُخْص السعر.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا.
ذكر من قال ذلك:-
18470- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إني أراكم بخير) ، قال: يعني خير الدنيا وزينتها.
18471- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 18467- " الذيال بن عمرو "، هكذا جاء هنا بالذال معجمة، وقد سلف في رقم: 14445، وتعليقي عليه، وتعليق أخي السيد أحمد رحمه الله، في ج 12: 589، رقم: 7، " الزباء بن عمرو "، وفي ابن كثير: " الديال " بدال مهملة، ولم نستطع أن نعرف من يكون. والإسناد هنا، هو الإسناد هناك نفسه.
(2) الأثر: 18468 - " أحمد بن عمرو البصري ": شيخ الطبري، مضى برقم: 9875، 13928، وقد مضى ما قلت فيه، وقد روى عنه أبو جعفر في تاريخه 1: 182 / 5: 32. وكان في المطبوعة هنا: " أحمد بن علي النصري "، ولا أدري من أين جاء بهذا التغيير؟ .

(15/444)


قوله: (إني أراكم بخير) ، أبصر عليهم قِشْرًا من قشر الدنيا وزينتها. (1)
18472- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إني أراكم بخير) ، قال: في دنياكم، كما قال لله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) ، سماه " خيرًا" لأن الناس يسمون المال "خيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله: (إني أراكم بخير) ، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا، المال وزينة الحياة الدنيا، ورخص السعر = ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها.
* * *
وإنما قال ذلك شعيب، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم، كثيرة أموالهم، فقال لهم: لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم، = (وإني أخاف عليكم) ، بمخالفتكم أمر الله، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم = (عذاب يوم محيط) ، يقول: أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل "المحيط" نعتًا لليوم، وهو من نعت "العذاب"، إذ كان مفهومًا معناه، وكان العذاب في اليوم، فصار كقولهم: "بعْض جُبَّتك محترقة". (2)
* * *
__________
(1) " القشر " هو في الأصل، قشر الشجرة ونحوها، ثم أستعير للثياب وكل ملبوس، مما يخلع كما يخلع القشر، ثم أستعير لما نلبسه من زينة الحياة ثم نخلعه راضين أو كارهين.
(2) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 15: 93، تعليق 1، والمراجع هناك.

(15/445)


وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: أوفوا الناس الكيل والميزان (1) = "بالقسط"، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم، على ما وجب لهم من التمام، بغير بَخس ولا نقص. (2)
* * *
وقوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير ذلك، (3) كما:-
18473- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال: بلغني في قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال،: لا تنقصوهم.
18474- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
* * *
وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله، (4) كما:-
18475- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) انظر " إيفاء المكيال والميزان " فيما سلف 12: 224، 555.
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 15: 103، تعليق 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " البخس " فيما سلف ص: 262، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " عثا " فيما سلف 12: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير " الفساد في الأرض " 12: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/446)


بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

معمر، عن قتادة في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، قال: لا تسيروا في الأرض.
18476- وحدثت عن المسيب، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: لا تسعوا في الأرض مفسدين = يعني: نقصان الكيل والميزان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (بقية الله خير لكم) ، ما أبقاه الله لكم، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحلّه لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان = (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده، وحلاله وحرامه.
* * *
وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير مرتضى عند أهل النقل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم معناه: طاعة الله خيرٌ لكم.
*ذكر من قال ذلك:
18477- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله خير لكم.
18478- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد

(15/447)


بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (بقية الله) قال: طاعة الله (خير لكم) .
18479- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله) ، قال: طاعة الله.
18480- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله خير لكم.
18481- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله.
18482- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: حظكم من ربكم خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:-
18483- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، حظكم من ربكم خير لكم.
18484- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (بقية الله خير لكم) ، قال: حظكم من الله خير لكم.
* * *
وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:
18485- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عمن ذكره، عن ابن عباس: (بقيت الله) قال رزق الله.
* * *

(15/448)


وقال ابن زيد في قوله ما:-
18486- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، قال: "الهلاك "، في العذاب، و"البقية" في الرحمة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة، أولى = مع أن قوله: (بقية) ، إنما هي مصدر من قول القائل "بقيت بقية من كذا"، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن.
* * *
وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) ، يقول: وما أنا عليكم، أيها الناس، برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم؟ (1) وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي، فقد أبلغتكموها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف ص 365، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(15/449)


قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شعيب، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام (1) = (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، من كسر الدراهم وقطعها، وبخس الناس في الكيل والوزن = (إنك لأنت الحليم) ، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى، (2) = (الرشيد) ، يعني: رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان، (3) كما:-
18487- حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط قال، حدثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قول الله: (أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك أنت الحليم الرشيد) (4) قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم (5) = أو قال: قطع الدراهم، الشك من حمّاد. (6)
18488- حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع " أصلاتك "، بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الحليم " فيما سلف ص: 406، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الرشيد " فيما سلف ص: 417، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) جاء في المخطوطة " أصلاتك " بالإفراد، وهي إحدى القراءتين.
(5) " حذف الشيء "، قطعه من طرفه، ومنه " تحذيف الشعر "، إذا أخذت من نواحيه فسويته.
(6) الأثر: 18487 - " محمود بن خداش الطاقاني "، شيخ الطبري، مضى برقم: 187. " وحماد بن خالد الخياط القرشي "، ثقة، كان أميًا لا يكتب، وكان يقرأ الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 3 / 1 / 25، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 136.

(15/450)


أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عُذِّبوا في قطع الدراهم، وجدت ذلك في القرآن: (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) . (1)
18489- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: عُذّب قوم شعيب في قطعهم الدراهم فقالوا: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) .
18490-. . . . قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله: (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال: كان مما نهاهم عنه حَذْفُ الدراهم.
18491- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال: نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا صرفناها، وإن شئنا طرَحناها!
18492-. . . . قال وأخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني داود بن قيس المرّي: أنه سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال زيدٌ: كان من ذلك قطع الدراهم.
* * *
وقوله: (أصلواتك) ، كان الأعمش يقول في تأويلها ما:-
18493- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري عن
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا: " أصلاتك " بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة. وسأردها إلى المخطوطة حيث وجدتها، وأترك الإفراد حيث أجده، بلا إشارة إلى ذلك.

(15/451)


الأعمش في قوله: (أصلواتك) قال: قراءتك.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، وإنما كان شعيب نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك.
فقال بعض البصريين: معنى ذلك: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء = وليس معناه: تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذا أمرهم.
* * *
وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال. وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي، كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا، وتنهانا عن ذا؟ فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله "تأمرك "، وأن الثانية منصوبة عطفًا بها على "ما" التي في قوله: (ما يعبد) . وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
* * *
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه (مَا تَشَاء) .
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك كذلك، فلا مؤونة فيه، وكانت "أن" الثانية حينئذ معطوفة على "أن" الأولى.
* * *
وأما قوله لشعيب: (إنك لأنت الحليم الرشيد) فإنهم أعداء الله، قالوا ذلك له استهزاءً به، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام.
* * *

(15/452)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

وبما قلنا من ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:-
18494- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، قال: يستهزئون.
18495- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، المستهزئون، يستهزئون: بأنك لأنت الحليم الرشيد! (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال = (ورزقني منه رزقًا حسنًا) ، يعني حلالا طيّبًا.
* * *
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما:-
18496- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " بأنك لأنت "، والصواب المحض ما في المخطوطة.

(15/453)


= (إن أريد إلا الإصلاح) ، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم = (ما استطعت) ، يقول: ما قدرت على إصلاحه، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكِّلة، بخلافكم أمره، ومعصيتكم رسوله = (وما توفيقي إلا بالله) يقول: وما إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك، إلا يعنّي عليه لم أصب الحق فيه.
* * *
وقوله: (عليه توكلت) ، يقول: إلى الله أفوض أمري، فإنه ثقتي، (1) وعليه اعتمادي في أموري. (2)
* * *
وقوله: (وإليه أنيب) ، وإليه أقبل بالطاعة،وأرجع بالتوبة، (3) كما:-
18497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
18498- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18499- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال=
18500-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
18501- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فإنه ثقتي "، ولعل الصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل) .
(3) انظر تفسير " الإنابة " فيما سلف ص: 406.

(15/454)


وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (وما قوم لا يخبر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم عداوتي وبغضي، وفراق الدين الذي أنا عليه، (1) على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبخس الناس في المكيال والميزان، وترك الإنابة والتوبة، فيصيبكم = (مثلُ ما أصاب قوم نوح) ، من الغرق = (أو قوم هود) ، من العذاب = (أو قوم صالح) ، من الرّجفة = (وما قوم لوط) الذين ائتفكت بهم الأرض = (منكم ببعيد) ، هلاكهم، أفلا تتعظون به، وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ الذي أصابهم. كما:-
18502- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم فراقي، (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) ، الآية.
18503- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم شقاقي.
18504- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، قال: عداوتي وبغضائي وفراقي.
18505- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) انظر تفسير " جرم " فيما سلف 9: 483 - 485 / 10: 95.
= وتفسير " الشقاق "، فيما سلف 13: 433، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/455)


وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)

معمر، عن قتادة: (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال: إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا = يعني قوم نوح وعاد وثمود وصالح. (1)
18506- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (استغفروا ربكم) ، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون، من عبادة الآلهة والأصنام، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين = (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه = (إن ربي رحيم) ، يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة. (ودود) ، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبُّه.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت العبارة في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أرجح أن الصواب: " يعني قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط ".

(15/456)


قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول) ، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به (1) = (وأنا لنراك فينا ضعيفًا) .
* * *
ذُكِر أنه كان ضريرًا، فلذلك قالوا له: (إنا لنراك فينا ضعيفًا) .
* * *
*ذكر من قال ذلك:
18507- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان أعمى. (2)
18508- حدثنا عباس بن أبي طالب قال، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سعيد، مثله.
18509- حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال، حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر، وعبد الملك بن زيد قالوا، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف 14: 582، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 18507 - " أسد بن زيد الجصاص "، لم أجد له ذكرا. وإنما يذكرون: " أسيد بن زيد بن نجيح الجمال "، وهو الذي يروي عن شريك، ويروي عنه أبو كريب وطبقته من شيوخ أبي جعفر الطبري، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 16 وأبي حاتم 1 / 1 / 318، وميزان الاعتدال 1: 119. ولكن هذا " الجمال "، وذاك " الجصاص "، فلا أدري من يكون هذا الذي ذكره أبو جعفر.
(3) الأثر: 18509 - " عبد الملك بن يزيد "، هكذا هو في المخطوطة، كما أثبته، وفي المطبوعة: " عبد الملك بن زيد "، غير ما في المخطوطة. ولم أعرف من يكون " عبد الملك بن يزيد " أو " ابن زيد "، الذي يروي عن شريك؟

(15/457)


18510-. . . . قال، حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح قالا سمعنا شريكًا يقول في قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: أعمى.
18511- حدثنا سعدويه قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. (1)
18512- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان ضعيف البصر = قال سفيان: وكان يقال له: "خطيب الأنبياء"
18513-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان ضرير البصر.
* * *
= وقوله: (ولولا رهطك لرجمناك) ، يقول: يقولون: ولولا أنك في عشيرتك وقومك = (لرجمناك) ، يعنون: لسببناك. (2)
* * *
وقال بعضهم: معناه لقتلناك.
*ذكر من قال ذلك:
18514- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولولا رهطك لرجمناك) ، قال: قالوا: لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك.
* * *
__________
(1) الأثر: 18511 - " سعدويه، الضبي الواسطي "، هو " سعيد بن سليمان "، شيخ الطبري، مضى برقم: 611، 2168، 11996، 13809 (ج 12: 585، تعليق: 1) . " وسعدويه "، يروي عن شريك، ولكنه يروي أيضًا عن عباد بن العوام، فروى عن شريك هنا بالواسطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " لولا أنت في عشيرتك "، وأرجح أن الصواب ما أثبت.

(15/458)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)

وقوله: (وما أنت علينا بعزيز) ، يعنون: ما أنت ممن يكرَّم علينا، فيعظمُ علينا إذلاله وهوانه، بل ذلك علينا هيّن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم، أعزّزتم قومكم، فكانوا أعزّ عليكم من الله، واستخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه، ولا تعظِّمونه حق عظَمته؟
* * *
يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: "نَبَذ حاجته وراء ظهره"، (2) أي: تركها لا يلتفت إليها. وإذا قضاها قيل: "جعلها أمامه، ونُصْب عينيه "، ويقال: "ظَهَرتَ بحاجتي " و"جعلتها ظِهْرِيَّة"، أي: خلف ظهرك، كما قال الشاعر: (3)
*وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ* (4)
بمعنى: أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) .
(2) انظر تفسير " نبذه وراء ظهره " فيما سلف 1: 403، 404 / 7: 458، 459، 463.
(3) هو أرطاة بن سهية المري.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 298، واللسان (ظهر) ، وكان أرطاة يهاجي شبيب بن البرصاء، وهما جميعًا من بني مرة بن سعد بن ذبيان، والهجاء بينهما كثير، وهذا منه. انظر الأغاني 13: 29 - 44 (دار الكتب) ترجمة أرطاة بن سهية = والأغاني 12: 271 - 281 (ساسي) ترجمة شبيب بن البرصاء. وصدر البيت: * فَمَنْ مُبْلِغٌ أبْنَاءَ مُرَّة أنَّنَا *

(15/459)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18515- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصَغُر شأن الله عندهم، عزَّ ربُّنا وجلَّ.
18516- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: قَفًا. (1)
18517- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، يقول: عززتم قومكم، وأظهرْتم بربكم.
18518- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: لم تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، يقول: عززتم قومكم وأظهرتم بربكم.
18519- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي = (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، لا تخافونه
18520- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) ، قال: أعززتم قومكم، واغتررتم بربكم، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال: قال سفيان:
__________
(1) هكذا في المطبوعة، ولها معنى، ولكن الذي في المخطوطة: " قصي "، وكأنه أراد " قصيا "، وهذا عندي أحب.

(15/460)


(واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، كما يقول الرجل للرجل: "خلَّفتَ حاجتي خلفَ ظهرك"، (فاتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، استخففتم بأمره. فإذا أراد الرجل قضاء حاجةِ صاحبه جعلها أمامه بين يديه، ولم يستخفَّ بها.
18521- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: "الظهْريّ"، الفَضْل، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية، (1) فضل، لا يحمل عليها شيئًا، إلا أن يحتاج إليها. قال: فيقول: إنما ربكم عندكم مثل هذا، إن احتجتم إليه. وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا = فالهاء في قوله: (واتخذتموه) ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب.
*ذكر من قال ذلك:
18522- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: تركتم ما جاء به شعيب
18523-. . . . قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: نبذوا أمره.
18524- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: نبذتم أمره.
18525- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ،
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: " ظهارية "، ولكن اللغة على أن جمع " ظهري "، " ظهاري "، فزيادة التاء هنا ضعيفة الوجه.

(15/461)


وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

قال: همَّ رهط شعيب بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريًّا.
18526- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
18527-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: استثناؤهم رهط شعيب، وتركهم ما جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لقرب قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، من قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) = فكانت الهاء في قوله: (واتخذتموه) ، بأن تكون من ذكر الله، لقرب جوارها منه، أشبهَ وأولى.
* * *
وقوله: (إن ربي بما تعملون محيط) ، يقول: إن ربي محيط علمه بعملكم، (1) فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ 93 مَن}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم) ، يقول: على تمكنكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " محيط " فيما سلف ص: 445، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/462)


يقال منه: "الرجل يعمل على مَكينته، ومَكِنته"، أي: على اتئاده، = "ومَكُن الرجل يمكُنُ مَكْنًا ومَكانةً ومَكانًا". (1)
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله: (على مكانتكم) ، على منازلكم.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي أعمله = (سوف تعلمون) ، أينا الجاني على نفسه، والمخطئ عليها، والمصيب في فعله المحسنُ إلى نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه: الذي يأتيه منّا ومنكم، أيها القوم = (عذاب يخزيه) ، يقول: يذله ويهينه (2) (ومن هو كاذب) ، يقول: ويُخزي أيضًا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم = (وارتقبوا) ، أي: انتظروا وتفقدوا من الرقبة.
* * *
يقال منه: "رقبت فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً". (3)
* * *
وقوله: (إني معكم رقيب) ، يقول: إني أيضًا ذو رقبة لذلك العذاب معكم، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم؟ (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص 12: 128، 129، وهنا زيادة في مصادره لا تجدها في كتب اللغة.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .
(3) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7: 523، 524 / 11: 239.
(4) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7: 523، 524 / 11: 239.

(15/463)


وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب، بعذابنا "نجينا شعيبًا" رسولنا، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم مع شعيب، من عذابنا الذي بعثنا على قومه = (برحمة منا) ، له ولمن آمن به وأتبعه على ما جاءهم به من عند ربهم = وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم، فأهلكتهم بكفرهم بربهم. (1) وقيل: إن جبريل عليه السلام، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من أجسامهم = (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، على ركبهم، وصرعى بأفنيتهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا.
* * *
= من قولهم: "غنيت بمكان كذا"، إذا أقمت به، (3) ومنه قول النابغة:
__________
(1) انظر تفسير " الصيحة " فيما سلف ص: 380.
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف ص: 380، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " غني بكذا " فيما سلف 12: 569، 570 / 15: 56، 381.

(15/464)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)

* * *
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لِي جِيرَةٌ ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالِةٍ وتَوَدُّدِ (1)
وكما:-
18528- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
18529- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
18530- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
* * *
= وقوله: (ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود) ، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته، بإحلال نقمته بهم (2) ="كما بعدت ثمود"، يقول: "كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته، بإنزال سخطه بهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ. (3) أنها تدل على توحيد الله، وكذب
__________
(1) مضى البيت وشرحه فيما سلف ص: 56.
(2) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 334، 367، 381.
(3) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف ص: 146، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيمل سلف من فهارس اللغة (بين) .

(15/465)


كل من ادّعى الربوبية دونه، وبُطُول قول من أشرك معه في الألوهية غيره = (إلى فرعون وملئه) ، يعني إلى أشراف جنده وتُبَّاعه (1) = (فاتبعوا أمر فرعون) ، يقول: فكذب فرعون وملأه موسى، وجحدوا وحدانية الله، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله، واتبع ملأ فرعون أمرَ فرعون دون أمر الله، وأطاعوه في تكذيب موسى، وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه = يقول تعالى ذكره: (وما أمر فرعون برشيد) يعني: أنه لا يُرشد أمر فرعون من قَبِله منه، في تكذيب موسى، إلى خير، (2) ولا يهديه إلا صلاح، بل يورده نار جهنم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 310، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة حذف قوله: " منه "، فأفسد الكلام إفسادًا.
(3) انظر تفسير " رشيد " فيما سلف ص: 450، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(15/466)


يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)

القول في تأويل قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يقدم) ، فرعون = (قومه يوم القيامة) ، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار، حتى يوردهموها، ويصليهم سعيرها، (وبئس الورد) ، يقول: وبئس الورد الذي يردونه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18531- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة) ، قال: فرعون يقدم قومه يوم القيامة، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار.

(15/466)


وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

18532- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة) يقول: يقود قومه = "فأوردهم النار".
18533- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (يقدم قومه يوم القيامة) ، يقول: أضلهم فأوردهم النار.
18534- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: (فأوردهم النار) ، قال: "الورد"، الدُّخول.
18535- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأوردهم النار) ، كان ابن عباس يقول: "الورد " في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: (وبئس الورد المورود) = وفي مريم: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [سورة مريم: 71] ، وورد في "الأنبياء": (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ، [سورة الأنبياء: 98] ، وورد في "مريم" أيضًا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [سورة مريم: 72] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ، [سورة مريم: 86] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في هذه = يعني في هذه الدنيا = مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه (1) = (ويوم
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 12: 447، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(15/467)


القيامة) ، يقول: وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى، كما:-
18536- حدثنا بن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: لعنةً أخرى.
18537- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان.
18538- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، اللعنةُ في إثر اللعنة.
18539-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان.
18540- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (في هذه) ، قال: في الدنيا = (ويوم القيامة) ، أردفوا بلعنة أخرى، زيدوها، فتلك لعنتان.
* * *
وقوله: (بئس الرفد المرفود) ، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. (1)
* * *
وأصل "الرفد"، العون، يقال منه: "رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا " بكسر الراء = وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، و"الرَّفد": القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " أخرى منها "، وكأن الصواب ما أثبت.

(15/468)


رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ (1)
ويقال: "رَفد فلان حائطه"، وذلك إذا أسنده بخشبة، لئلا يسقط. و"الرَّفد"، بفتح الراء المصدر. يقال منه: "رَفَده يَرفِده رَفْدًا"، و"الرِّفْد"، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان، وهو "المَرْفَد".
* * *
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18541- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنة الدنيا والآخرة.
18542- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة.
18543- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة.
18544- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) ديوانه: 13، من قصيدة طويلة من جياد شعره، يمدح فيها الأسود بن المنذر اللخمي أخا النعمان بن المنذر، الملك. وكان الأسود غزا الحليفين أسدًا وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعمًا وأسرى وسبيًا من سعد بن ضبيعة (رهط الأعشى) ، وكان الأعشى غائبًا، فلما قدم وجد الحي مباحًا، فأتاه فأنشده، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم، ففعل. يقول: رب رجل كانت له إبل يحلبها في قدح له ولعياله، فاستقت الإبل، وذهب ما كان يحلبه الرفد، فكذلك هرقت ما حلب. " والأقتال " جمع " قتل " (بكسر فسكون) . و " القتل "، القرن من الأعداء، وهو أيضًا: المثل والنظير، وقال الأصمعي في شرح البيت وقد نقلت ما سلف من شرح ديوانه: " أقتال "، أشباه غير أعداء. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أقيال "، وهو هنا خطأ.

(15/469)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)

(وأتبعوا في هذه لعنه ويوم القمامة بئس الرفد المرفود) ، يقول: ترادفت عليهم اللعنتان من الله، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
18545- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة،، والنبأ الذي أنبأناكه فيها، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله، (1) وتكذيبهم رسله = (نقصه عليك) فنخبرك به (2) = (منها قائم) ، يقول: منها قائم بنيانه، بائدٌ أهله هالك، (3) ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه، خرابٌ متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ.
* * *
من قولهم: "زرع حصيد"، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو محصود، ولكنه صرف إلى "فعيل"، (4) كما قد بينا في نظائره. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف 9: 402 / 11: 399 / 12: 120، 307، 406 / 13: 7، 274.
(3) في المطبوعة " بائد بأهله "، والصواب من المخطوطة، وزدت " قائم " قبل قوله: " بنيانه "، وبذلك تستقيم الجملة وتساوي التي تليها.
(4) انظر تفسير " حصيد " فيما سلف ص: 56.
(5) انظر ما سلف من فهارس اللغة مباحث العربية والنحو وغيرهما.

(15/470)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18546- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) ، يعني ب"القائم" قُرًى عامرة. و"الحصيد" قرى خامدة.
18547- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (قائم وحصيد) ، قال: "قائم " على عروشها = و"حصيد" مستأصَلة.
18548- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (منها قائم) ، يرى مكانه، (وحصيد) لا يرى له أثر.
18549- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (منها قائم) ، قال: خاوٍ على عروشه= (وحصيد) ، ملزقٌ بالأرض.
18550- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد) ، قال: خرَّ بنيانه.
18551- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد) ، قال: "الحصيد"، ما قد خرَّ بنيانه.
18552- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (منها قائم وحصيد) ، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره.
* * *

(15/471)


وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك، يا محمد، بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا هُمْ في غير موضعها = (ولكن ظلموا أنفسهم) ، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها = (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) ، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله، (1) ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه = (لما جاء أمر ربك) ، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه، ونزل بهم سَخَطه = (وما زادوهم غير تتبيب) ، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك.
* * *
يقال منه: "تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا"، ومنه قولهم للرجل: "تبًّا لك"، قال جرير:
عَرَادَةُ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ... أَلا تَبًّا لِمَا فَعَلُوا تَبَابًا (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أغني عنه " فيما سلف ص: 215، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) ديوانه: 72، من قصيدته المشهورة في هجاء الراعي النميري، وكان سببها أن " عرادة النميري "، وهو رواية الراعي كان نديمًا للفرزدق، فقدم الراعي البصرة، فدعاه عرادة فأطعمه وسقاه وقال: فضل الفرزدق على جرير! فأبى. فلما أخذ فيه الشراب، لم يزل به حتى قال: يا صَاحِبَيَّ دَنا الرَّواحُ فَسِيرَا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جريرَا
فهاج الهجاء بينهما، فكان مما ذكر به عرادة قوله: أتَانِي عَنْ عَرَادَةَ قَوْلُ سُوءٍ ... فَلاَ وَأَبِي عُرَادَةَ مَا أَصَابَا
وَكَمْ لَكَ يَا عُرَادَةُ مِنْ أُمِّ سُوءٍ ... بَأَرْضِ الطَّلْحِ تَحْتَبِلُ الزَّبابَا
لَبِئْسَ الْكَسْبُ تَكْسِبُهُ نُمَيْرٌ ... إِذَا اسْتَأْنَوْكَ وانْتَظَروا الإِيابَا
وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عرابة "، وهو خطأ صرف.

(15/472)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18553- حدثني المثني قال، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله: (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال: غير تخسير. (1)
18554- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (غير تتبيب) ، قال: تخسير.
18555- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18556-حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (غير تتبيب) ، يقول: غير تخسير.
18557- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (غير تتبيب) ، قال: غير تخسير.
* * *
__________
(1) الأثر: 18553 - " سعيد بن سلام، أبو الحسن البصري العطار الثوري الأعور "، منكر الحديث، كذاب يحدث عن الثوري، لا يكتب حديثه، مترجم في الكبير 2 / 1 / 441، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 31، ولسان الميزان 3: 31، وميزان الاعتدال 1: 382. " ونسير بن ذعلوق الثوري "، ثقة، مضى برقم: 5491، 13488.

(15/473)


وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)

قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا، فإنه وعيدٌ من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى رسوله، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة = وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم، كما:-
18558- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال، اعتذر = يعني ربنا جل ثناؤه = إلى خلقه فقال: (وما ظلمناهم) ، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم، (ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم) ، حتى بلغ: (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على خلافهم أمري، وتكذيبهم رسلي، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله، وإشراكهم به غيره، وتكذيبهم رسله = (إنَّ أخذه أليم) ، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه = (أليم) ، يقول: موجع = (شديد) الإيجاع.
* * *

(15/474)


وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة، (1) أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيحل بهم ما حلَّ بهم من المثُلات، كما:-
18559- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي= ورُبَّما، قال: يمهل = الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) . (2)
18560- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وهذا أمر من الله تحذير. . . "، والصواب حذف " أمر "، كذلك فعلت.
(2) الأثر: 18559 - " بريد بن بردة "، هو " بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري "، يروي جده " أبي بردة "، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 140، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 426.وقوله ": عن أبيه "، يعني عن " أبي بردة بن أبي موسى الأشعري "، وهو جده. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 267) ، ومسلم في صحيحه 15: 137، وابن ماجة في سننه ص: 1332، رقم: 4018، والترمذي في كتاب التفسير. وإسناد البخاري ومسلم: " بريدة بن أبي بردة، عن أبيه "، وإسناد ابن ماجة " بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة " وعند الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية أيضًا، وهو إسناد الطبري: بريد بن عبد الله، عن أبي بردة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر ذلك فقال: " كذا وقع لأبي ذر، ووقع لغيره: " عن أبي بردة " بدل: " عن أبيه "، وهو صواب، لأن بريدًا، هو ابن عبد الله بن أبي بردة، فأبو بردة جده لا أبوه، ولكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازًا " (الفتح 8: 267) . وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد روى أبو أسامة عن بريد، نحوه وقال: يعلى. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه، وقال: يملى، ولم يشك فيه ".
وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: " إن الله يملي = وربما أمهل، قال يمهل "، زاد " أمهل "، فحذفتها، لأنها زيادة لا شك في خطئها.
" أملي له " أخره وأطال مدته. من " الملاوة "، وهي المدة من الزمن.

(15/475)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) ، (1) وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين، وما عليه قراء الأمصار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول: لعبرة وعظة (2) = لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه.
* * *
وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، بأن الله سيفي له بوَعْده.
__________
(1) كان في المطبوعة: " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى " وفي المخطوطة: " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى "، والذي في المخطوطة، هو نفس التلاوة، ولذلك جعل الناشر " إذ " مكان " إذا ". ولكني لما رأيت أبا جعفر ذكر خلافه لمصاحف المسلمين وكان في المخطوطة: " إذا " قدرت أنه الذي أثبت، وهي قراءة شاذة، رويت عن عاصم الجحدري، وعن نافع (انظر القراءات الشاذة، لابن خالويه: 61) . وقرأ عاصم وطلحة بن مصرف: (وكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ القُرَى) وقرأ عاصم أيضا: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إِذْ أَخَذَ الْقُرَى) . فهي ثلاث قراءات عن عاصم الجحدري، أثبت أشدها خلافا لمصاحف المسلمين، وما عليه قرأة الأمصار.
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .

(15/476)


*ذكر من قال ذلك:
18561- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن في ذلك لآيه لمن خاف عذاب الآخرة) ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة، كما وفينا للأنبياء: أنا ننصرهم.
* * *
وقوله: (ذلك يوم مجموع له الناس) ، يقول تعالى ذكره: هذا اليوم = يعني يوم القيامة = (يوم مجموع له الناس) ، يقول: يحشر الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب = (وذلك يوم مشهود) ، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18562- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال: يوم القيامة.
18563- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله.
18564- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال، "الشاهد"، محمد، و"المشهود"، يوم القيامة. ثم قرأ: (ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود) .
18565- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: "الشاهد"، محمد = و"المشهود"، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) .

(15/477)


وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

18566- حدثت عن المسيب، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال: ذلك يوم القيامة، يجتمع فيه الخلق كلهم، ويشهدُه أهل السماء وأهل الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة، أيها الناس، وتقوم الساعة، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (يوم يأتي) .
فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها (يَوْمَ يَأْتِي لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) .

(15/478)


وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: (يَوْمَ يَأْتِ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: "مَا أدْرِ مَا تَقول"، ومنه قول الشاعر: (1)
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا ... جُودًا وأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا (2)
* * *
وقيل: (لا تكلم) ، وإنما هي "لا تتكلم"، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.
* * *
وقوله: (فمنهم شقيّ وسعيد) ، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد = وعاد على "النفس"، وهي في اللفظ واحدة، بذكر الجميع في قوله: (فمنهم شقي وسعيد) .
* * *
يقول: تعالى ذكره: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير) = وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه = (وشهيق) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج:
حَشْرَجَ فِي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، اللسان (ليق) ، يقال: " ما يليق بكفه درهم " (بفتح الياء) أي: ما يحتبس = و " ما يلقيه القراء وهو "، أي: ما يحبسه.
(3) ديوانه: 106، واللسان (حشرج) ، وسيأتي في التفسير 29، 4 (بولاق) ، من طويلته المشهوره، يصف فيها حمار الوحش، وبعده: كَأَنَّهُ مُسْتَنْشِقٌ مِن الشَّرَقْ ... خُرًّا من الخَرْدَلِ مَكْرُوهَ النَّشَقْ
و" حشرج " ردد الصوت في حلقه ولم يخرجه. و " السحيل "، الصوت الذي يدور في صدر الحمار في نهيقه.

(15/479)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18567- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) ، يقول: صوت شديدٌ وصوت ضعيف.
18568-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية في قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) ، قال: "الزفير" في الحلق، و"الشهيق" في الصدر.
18569- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، بنحوه.
18570- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق
18571- حدثنا أبو هشام الرفاعي، ومحمد بن معمر البحراني، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سليمان بن سفيان قال، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نزلت هذه الآية: (فمنهم شقيّ وسعيد) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله، فعلام عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه، يا عمر، وجرت

(15/480)


به الأقلام، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له = اللفظ لحديث ابن معمر. (1)
* * *
وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، يعني تعالى ذكره بقوله: (خالدين فيها) ، لابثين فيها (2) = ويعني بقوله: (ما دامت السموات والأرض) ، أبدًا. (3)
* * *
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: "هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار". و"ما سمر ابنا سَمِير"، و"ما لألأت العُفْرُ بأذنابها " يعنون بذلك كله "أبدا". فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه.
18572- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً.
* * *
ثم قال: (إلا ما شاء ربك) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد، أنه يخرجهم من النار إذا شاء، بعد أن أدخلهم النار.
__________
(1) الأثر: 15871 " سليمان بن سفيان التميمي "، ضعيف، منكر الحديث، يروي عن الثقات أحاديث مناكير. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 18، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 119، وميزان الاعتدال 1: 415. وهذا خبر ضعيف الإسناد، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 395، عن مسند أبي يعلي، وذكره الحافظ الذهبي في الميزان، بإسناده، عن أبي عامر العقدي. لكن معنى الخبر له شواهد في الصحيح.
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(3) انظر تفسير " ما دام " 10: 185 / 11: 74، 238.

(15/481)


*ذكر من قال ذلك:
18573- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: الله أعلم بثُنَياه. (1)
وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، (2) ثم يدخلهم الجنة.
18574- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، والله أعلم بثَنيَّته. (3) ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: "الجهنَّميُّون".
18575- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا شيبان بن فروخ قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) ، إلى قوله: (لما يريد) ، فقال عند ذلك: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْرج قومٌ من النار = قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. (4)
18576- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: استثناء في أهل التوحيد.
18577- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) " الثنيا " (بضمك فسكون) و " الثنية "، على وزن (فعيلة) ، و " المثنوية "، كله الاستثناء.
(2) " سفعته النار والشمس سفعًا "، لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون بشرته وسودته.
(3) انظر التعليق رقم: 1.
(4) " أهل حروراء "، هم الخوارج، يقولون إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، لأنهم يكفرون أهل الكبائر.

(15/482)


معمر، عن الضحاك بن مزاحم: (فأما الذين شقوا ففي النار) ، إلى قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين استثنى لهم.
18578- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب، عن خالد بن معدان في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) ، [سورة النبأ: 23] ، وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، أنهما في أهل التوحيد. (1)
* * *
وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى قوله: (إلا ما شاء ربك) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار) = (إلا ما شاء ربك) ، لا من "الخلود".
*ذكر من قال ذلك:
18579- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد = يعني الخدري = أو: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم= في قوله: (إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان في القرآن (خالدين فيها) ، تأتي عليه = قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.
__________
(1) الأثر: 18578 - " عامر بن جشيب الحمصي "، روى عن أبي أمامة، وخالد بن معدان، وغيرهما. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 319. وكان في المطبوعة: " جشب "، وهو خطأ، والمخطوطة كما أثبت إلا أنها غير منقوطة. وهذا الخبر سيأتي في التفسير 30: 8، 9، (بولاق) في تفسير سورة " النبأ ".

(15/483)


*ذكر من قال ذلك:
18580- حدثت عن المسيب عمن ذكره، عن ابن عباس: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، (إلا ما شاء ربك) ، قال: استثناءُ الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا.
18581- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا.
* * *
وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: (عطاء غير مجذوذ) ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض.قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان.
*ذكر من قال ذلك:
18582- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، فقرأ حتى بلغ: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: (عطاء غير مجذوذ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع، (1)
__________
(1) في المطبوعة: " كذا قد بينا "، وهو كلام غث، ورطه فيه سوء كتابة الناسخ.

(15/484)


بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك= وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا = وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: "لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن"، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.
* * *
ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله. (2) .
* * *
وقوله: (إن ربك فعال لما يريد) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك، يا محمد، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. (3)
* * *
__________
(1) غاب عني مكانه، فمن وجده فليثبته.
(2) انظر ما سيأتي ص: 487 - 489.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ولكنه يفعل ما يشاء، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه "، وهو غير مستقيم، والآفة من الناسخ، والصواب ما أثبت، بتقديم " فعله " الأولى.

(15/485)


وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا) ، بفتح السين.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) ، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (سُعِدُوا) ، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل: "أسعدوا"، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله: "سعده الله"، بل إنما تقول: "أسعده الله"؟
قيل ذلك نظير قولهم: "هو مجنون " و"محبوب"، (1) فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: "أجنه الله "، و"أحبه"، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. (2)
* * *
وتأويل ذلك: وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " هو مجنون، محبوب "، والأجود الفصل بالواو.
(2) غاب أيضًا عني مكانه، فمن وجده فليقيده.

(15/486)


السموات والأرض، يقول: أبدًا = (إلا ما شاء ربك) .
* * *
فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: (إلا ما شاء ربك) ، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
18583- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (إلا ما شاء ربك) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود فيها أبدًا.
*ذكر من قال ذلك:
18584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: (عطاء غير مجذوذ) .
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.
فقال بعضهم في ذلك معنيان:
أحدهما: أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: "والله لأضربنَّك

(15/487)


إلا أن أرى غير ذلك"، وعزمُك على ضربه. (1) قال: فكذلك قال: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، ولا يشاؤه، [وهو أعلم] . (2)
قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، (3) كان معنى "إلا " ومعنى "الواو" سواء. فمن كان قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) = سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل "إلا" مكان "سوى" فيصلح، وكأنه قال: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد". ومثله في الكلام أن تقول: لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [مِنْ قِبَل فلان"، أفلا ترى أنه في المعنى: لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين] ؟ (4) قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. (5) وقد وصل الاستثناء بقوله: (عطاء غير مجذوذ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم.
* * *
وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.
* * *
وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام السموات والأرض، بمعنى: الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وتستثنى المشيئة من داومها، لأنَّ أهل
__________
(1) في معاني القرآن للفراء: " وعزيمتك على ضربه "، وهذا نص كلام الفراء.
(2) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ومع ما هو أكثر منه "، والصواب من معاني القرآن: " أو مع. . ".
(4) كان في المطبوعة والمخطوطة: " إلا الألفين اللذين قبلهما "، وليس فيهما بقية ما أثبت، وهو كلام مبهم، نقلت سائره، وزدته بين القوسين من معاني القرآن للفراء، فهذا نص كلامه.
(5) في المطبوعة: " لا خلف لوعده "، وفي المخطوطة؛ " لا مخلف لوعده "، والصواب من معاني القرآن.

(15/488)


الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا، لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة، وخالدين في النار، دوامَ السماء، والأرض، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في "إلا" توجيهها إلى معنى الاستثناء، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام = أعني في قوله: (إلا ما شاء ربك) = تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.
* * *
وأما قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، فإنه يعني: عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.
* * *
من قولهم: "جذذت الشيء أجذّه جذًّا"، إذا قطعته، كما قال النابغة: (1)
تَجذُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَيوقِدْنَ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ (2)
__________
(1) في المخطوطة: " كما قال الشاعر النابغة "، وهي زيادة لا تجدي.
(2) ديوانه: 44، واللسان (حبحب) ، (سلق) ، (صفح) ، من قصيدته المشهورة، يقول فيه قبله، في صفة سيوف الغسانيين، وذلك في مدحه عمرو بن الحراث الأعرج: وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
تُوُرِّثْن مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمةٍ ... إلى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
تَقُدُّ السُّلُوقيّ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه رواية الديوان. و " السلوقي "، الدروع، منسوبة إلى " سلوق "، وهي مدينة. و " الصفاح " حجارة عراض. و " نار الحباحب "، الشرر الذي يسقط من الزناد. ورواية الديوان: " وتوقد بالصفاح "، وهما سواء.

(15/489)


يعني بقوله: "تجذ": تقطع.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18585- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: غير مقطوع.
18586- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، يقول: غير منقطع.
18587- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (عطاء غير مجذوذ) ، يقول: عطاء غير مقطوع.
18588- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مجذوذ) ، قال: مقطوع.
18589- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: غير مقطوع.
18590-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18591-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
18592- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن

(15/490)


ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18593-. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع.
18594- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، غير منزوع منهم.
* * *

(15/491)


فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تَك في شك، يا محمد، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام، (1) أنه ضلالٌ وباطلٌ، وأنه بالله شركٌ = (ما يعبد هؤلاء إلا كما يعبد آباؤهم من قبل) ، يقول: إلا كعبادة آبائهم، من قبل عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر الله إياهم بذلك، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها.
ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك، فقال جل ثناؤه: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، يعني: حظهم مما وعدتهم أن أوفّيهموه من
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة (مري) .

(15/491)


خير أو شر (1) = (غير منقوص) ، يقول: لا أنقصهم مما وعدتهم، بل أتمّم ذلك لهم على التمام والكمال، (2) كما:-
18595- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
18596- حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع، عن سفيان عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله= إلا أن أبا كريب قال في حديثه: من خيرٍ أو شرّ.
18597- حدثني المثني قال، أخبرنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد عن ابن عباس: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما قُدِّر لهم من الخير والشر.
18598- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما يصيبهم من خير أو شر.
18599- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: نصيبهم من العذاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 14: 39، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير " النصيب " فيما سلف 12: 408، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النقص " فيما سلف 14: 132.

(15/492)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله، بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك، يا محمد، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم.
ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب) ، يعني: التوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعض به، وتكذيب بعض = (ولولا كلمة سبقت من ربك) ، يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت، يا محمد، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله = (لقضي بينهم) ، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق، بإهلاك الله المكذب به منهم، وإنجائه المصدق به = (وإنهم لفي شك منه مريب) ، يقول: وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله = (مريب) ، يقول: يريبهم، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولكنهم فيه ممترون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مريب " فيما سلف ص: 370، تعليق: 1.

(15/493)


وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَّا) مشددة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى ذلك:
فقال بعض نحويي الكوفيين: معناه إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم = ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر: (1)
وَإِنِّي لَمِمَّا أُصْدِرُ الأَمْرَ وَجْهَهُ ... إِذَا هُوَ أَعْيى بالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ (2)
ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: (وَالْبَغْيْ يَعِظُكُمْ) ، [سورة النحل: 90] ، تخفُّ الياء مع الياء. (3) وذكر أن الكسائي أنشده:
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. في المطبوعة: " لما " و " أعيى بالنبيل "، وكلاهما خطأ، صوابه من المخطوطة ومعاني القرآن. وقوله " لمما " هنا، ليست من باب " لما " التي يذكرها، إلا في اجتماع الميمات. وذلك أن قوله: " وإن كلا لمما ليوفينهم "، أصلها: " لمن ما "، " من " بفتح فسكون، اسم. وأما التي في البيت فهي " لمن ما "، " من " حرف جر، ومعناها معنى " ربما " للتكثير، وشاهدهم عليه قول أبي حية النميري (سيبويه 1: 477) : وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَم.
(3) هكذا في المخطوطة: " تخف "، وفي المطبوعة: " يخفف "، وأما الذي في معاني القرآن للفراء، وهذا نص كلامه: " بحذف الياء "، وهو الصواب الجيد.

(15/494)


(1)
وَأشْمَتَّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوْا ... لدَيْ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا (2)
وقال: يريد "لديَّ يتباشرون بما لقينا"، فحذف ياء، لحركتهن واجتماعهن، قال: ومثله: (3)
كأنَّ مِنْ آخِرِها الْقادِمِ ... مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخَارِمِ (4)
وقال: أراد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلا شديدًا وحقًّا، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال: وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك: (وإنّ كلا لمَّا) بالتشديد والتنوين، (5) ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل "لمَّا"، كما فعل ذلك في قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى) ، [سورة المؤمنون: 44] ، فقرأ "تترى"، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ: "لمَّا" بالتنوين، وقرأ آخرون بغير تنوين، كما قرأ (لمَّا) بغير تنوين من قرأه. وقالوا: أصله من "اللَّمِّ" من قول الله تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) ، يعني: أكلا شديدًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل: " بالله لمَّا قمتَ عنا، وبالله إلا قمت عنا". (6)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، وفي المطبوعة والمخطوطة: " وأشمت الأعداء "، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المطبوعة: " من أحرها "، و " محرم " و " المحارم "، وهو خطأ. و " المخرم "، (بفتح فسكون فكسر) ، الطريق في الجبل، وجمعه " مخارم ".
(5) هذه قراءة الزهري، كما سيأتي ص: 498.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد قمت عنا، وبالله إلا قمت عنا "، وذلك خطأ، ولا شاهد فيه، وصوابه من معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية.

(15/495)


قال أبو جعفر: ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه "لمَّا" إلى معنى "إلا"، في اليمين خاصة. (1) وقالوا: لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال: "قام القوم لمَّا أخاك" بمعنى: إلا أخاك، ودخولها في كل موضع صلح دخول "إلا" فيه.
قال أبو جعفر: وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية، في فساده، وهو أنّ "إنّ" إثبات للشيء وتحقيق له، و"إلا"، تحقيق أيضًا، (2) وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه، أن تكون "إنّ" بمعنى الجحد عنده، حتى تكون "إلا نقضًا" لها. وذلك إن قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ "إن" فيجعلها بمعنى "إن" التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا "لكل" بقوله: ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد "إلا" من الفعل، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب: "ما زيدًا إلا ضربت"، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه، إلا أن يرفع رافع "الكل"، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. (3)
* * *
وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: (وَإنْ كُلا) بتخفيف "إن" ونصب (كُلا لمَّا) مشدّدة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة، أسقط " إلا " الثانية، فأفسد الكلام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " وإلا أيضًا تحقق أيضًا "، حذفت أولاهما، لأنه تكرار ولا ريب.
(3) في المطبوعة: " بخروجه "، والصواب من المخطوطة.

(15/496)


وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك، أراد "إنّ" الثقيلة فخففها، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع: "كأنْ ثَديَيْه حُقَّان"، فنصب ب "كأن"، والنون مخففة من "كأنّ"، ومنه قول الشاعر: (1)
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ (2)
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف: (إنْ) ونصب (كُلا) ، وتخفيف (لَمَا) .
* * *
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون "إن" وهو يريد تشديدها، ويريد ب"ما" التي في "لما" التي تدخل في الكلام صلة، (3) وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى: وإنّ كلا ليوفينهم.
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك: وإنّ كُلا ليوفينهم، أي: ليوفين كُلا = فيكون نيته في نصب "كل" كانت بقوله: "ليوفينهم"، فإن كان ذلك أراد، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَا) مخففة (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) . ولهذه القراءة وجهان من المعنى:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد: وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه "ما" التي في "لما" إلى معنى "من" كما قال جل ثناؤه: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، [سورة النساء: 3] ، وإن كان أكثر استعمال العرب
__________
(1) من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها.
(2) سيبويه 1: 281، رفعًا " كأن ثدياه، وابن الشجري في أماليه 1: 237 رفعًا 2: 3، نصبا، والخزانة 4: 358، والعيني (هامش الخزانة) 2: 305.
(3) " صلة "، أي: زيادة، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف.

(15/497)


لها في غير بني آدم = وينوي باللام التي في "لما" اللام التي تُتَلقَّى بها "إنْ" جوابًا لها، وباللام التي في قوله: (ليوفينهم) ، لام اليمين، دخلت فيما بين ما وصلتها، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) [سورة النساء: 72] ، وكما يقال: "هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه".
والوجه الآخر: أن يجعل "ما" التي في "لما" بمعنى "ما" التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها، واللام التي في: (ليوفينهم) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها "إنّ" كررت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها، ثم تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر: (1)
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أَعِزَّةً ... لَبَعْدُ لَقَدْ لاقَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا (2)
وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه: (وإنَّ كُلا) بتشديد "إنَّ"، و (لمَّا) بتنوينها، بمعنى: شديدًا وحقًا وجميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم، قراءة من قرأ: "وَإنَّ" بتشديد نونها، "كُلا لَمَا" بتخفيف "ما" (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) ، بمعنى: وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك، يا محمد، قصصهم في هذه السورة، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب = فتكون "ما" بمعنى "مَن" واللام التي فيها جوابًا ل"إنّ"، واللام في قوله: (ليوفيننم) ، لام قسم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المخطوطة والمطبوعة: " مصرعي "، وأثبت ما في معاني القرآن.

(15/498)


فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

وقوله: (إنه بما يعملون خبير) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد، "خبير"، لا يخفى عليه شيء من عملهم، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت، يا محمد، على أمر ربك، والدين الذي ابتعثك به، والدعاء إليه، كما أمرك ربك (2) = (ومن تاب معك) ، يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره = (ولا تطغوا) ، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. (3) (إنه بما تعملون بصير) ، يقول: إن ربكم، أيها الناس، بما تعملون من الأعمال كلِّها، طاعتها ومعصيتها= "بصير"، ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصرٌ. (4) يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله، أيها الناس، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره، فإنه ذو علم بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد.
* * *
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله: (فاستقم كما أمرت) ، ما:-
18600- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) لنظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) .
(2) لنظر تفسير " الاستقامة " فيما سلف ص: 187.
(3) لنظر تفسير " طغى " فيما سلف ص: 34، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) لنظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .

(15/499)


وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)

الزبير، عن سفيان في قوله: (فاستقم كما أمرت) ، قال: استقم على القرآن.
18601- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تطغوا) ، قال: الطغيان: خلاف الله، وركوب معصيته. ذلك "الطغيان".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم = (فتمسكم النار) ، بفعلكم ذلك (1) = وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم (2) = (ثم لا تنصرون) ، يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18602- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يعني: الركون إلى الشرك.
18603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم.
18604- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. يقول: "الركون"، الرضى.
__________
(1) لنظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 353، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(2) لنظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .

(15/500)


18605- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال: لا ترضوا أعمالهم = (فتمسكم النار) .
18606- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا.
18607- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه.
18608- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، قال: "الركون"، الإدهان. وقرأ: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، [سورة القلم: 9] ، قال: تركنُ إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء من معاصي الله، ولا يركن إليه فيها.
* * *

(15/501)


وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وأقم الصلاة) ، يا محمد، يعني: صَلِّ = (طرفي النهار) ، يعني الغداةَ والعشيَّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات العشيّ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة، الفجرُ.
فقال بعضهم: عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا: وهما من صلاة العشيّ.
*ذكر من قال ذلك:
18609- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الفجر، وصلاتي العشي = يعني الظهر والعصر.
18610- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18611- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الفجر، وصلاة العشي.
18612- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: فطرفا النهار: الفجرُ والظهرُ والعصرُ.

(15/502)


18613- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: (طرفي النهار) ، قال: الفجر والظهر والعصر.
18614- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الفجر والظهر والعصر.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بها صلاة المغرب.
*ذكر من قال ذلك:
18615- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، يقول: صلاة الغداة وصلاة المغرب.
18616- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال. صلاة الغداة والمغرب.
18617- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الصبح، والمغرب.
* * *
وقال آخرون: عني بها: صلاة العصر.
*ذكر من قال ذلك:
18618- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الفجر والعصر.
18619-. . . . قال: حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر والعصر.
18620- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء،

(15/503)


عن الحسن في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الصبح وصلاة العصر.
18621- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال، قال الله لنبيه: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: (طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18622- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (أقم الصلاة طرفي النهار) ، يعني صلاة العصر والصبح.
18623- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18624- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن زيد، عن محمد بن كعب: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر والعصر.
18625- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الغداة والعصر.
* * *
وقال بعضهم: بل عنى بطرفي النهار: الظهر، والعصر، وبقوله: (زلفًا من الليل) ، المغر ب، والعشاء، والصبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "هي صلاة المغرب"، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس. فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب، لأنها تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب الشمس، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ

(15/504)


طلوعها، وذلك ما لا نعلم قائلا قاله، إلا من قال: "عنى بذلك صلاة الظهر والعصر". وذلك قول لا يُخِيلُ فساده، (1) لأنهما إلى أن يكونا جميعًا من صلاة أحد الطرفين، أقربُ منهما إلى أن يكونا من صلاة طرفي النهار. وذلك أن "الظهر" لا شك أنها تصلَّى بعد مضي نصف النهار في النصف الثاني منه، فمحالٌ أن تكون من طرف النهار الأول، وهي في طرفه الآخر.
فإذا كان لا قائلَ من أهل العلم يقول: "عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس"، وجب أن يكون غير جائز أن يقال: "عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها".
وإذا كان ذلك كذلك، صح ما قلنا في ذلك من القول، وفسدَ ما خالفه.
* * *
وأما قوله: (وزلفًا من الليل) ، فإنه يعني: ساعاتٍ من الليل.
* * *
وهي جمع "زُلْفة"، و"الزلفة"، الساعة، والمنزلة، والقربة، وقيل: إنما سميت "المزدلفة " و"جمع " من ذلك، لأنها منزلٌ بعد عرفة = وقيل سميت بذلك، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها، ومنه قول العجاج في صفة بعير:
ناجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وجَفا ... طَيَّ اللَّيالِي زُلَفًا فَزُلَفَا (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " لا نحيل فساده "، وهو كلام فاسد، وفي المخطوطة غير منقوطة. يقال: " أخال الشيء "، اشتبه. يقال " هذا الأمر لا يخيل على أحد "، أي لا يشكل. و " شيء مخيل "، مشكل. وقد مضى مثله وعلقت عليه في أوائل الكتاب، في مواضع.
(2) ديوانه: 84، مجاز القرآن 1: 300، وسيبويه 1: 180، واللسان (زلف) ، (حقف) ، (سما) ، (وجف) وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 19: 51 (بولاق) . وبعده هناك: سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
" الأين "، التعب. " وجف " من " الوجيف "، وهو سرعة السير. و " سماوة الهلال " شخصه، إذا ارتفع في الأفق شيئًا. و " احقوقف " اعوج.

(15/505)


واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (وَزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام.
* * *
وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام = كأنه وجَّهه إلى أنه واحدٌ، وأنه بمنزلة "الحُلُم".
* * *
وقرأ بعض المكيين: (وَزُلْفًا) ، ضم الزاي وتسكين اللام.
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها: (وزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام، على معنى جمع "زُلْفة"، كما تجمع "غُرْفَة غُرف"، و"حُجْرة حُجر".
وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل، وهي التي عُنِيت عندي بقوله: (وزلفًا من الليل) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:

(15/506)


18626- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وزلفًا من الليل) ، قال: الساعات من الليل صلاة العتمة.
18627- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18628- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18629- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (زلفًا من الليل) يقول: صلاة العتمة.
18630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: العشاء.
18631- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء ويقرأ: (وزلفًا من الليل) .
18632- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وزلفًا من الليل) ، قال: ساعة من الليل، صلاة العتمة.
18633- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: العتمة، وما سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا، يقول "العشاء"، ما يقولون إلا "العتمة"
* * *
وقال قوم: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها زُلَفًا من الليل، صلاة المغرب والعشاء.
*ذكر من قال ذلك:
18634- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع، واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: هما زُلفتان من الليل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء.
18635- حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب، والعشاء.
18636- حدثني الحسن بن علي، قال ثنا أبي قال، حدثنا مبارك،

(15/507)


عن الحسن، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، قال: (زلفًا من الليل) : المغرب، والعشاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زُلْفَتا الليل، المغرب والعشاء."
18637- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب، والعشاء.
18638- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18639- حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال:، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18640-. . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في القرآن، قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) [سورة الإسراء: 78] ، قال: "دلوكها": إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها في الأرض فيءٌ. وقال: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة، والعصر = (وزلفًا من الليل) ، المغرب، والعشاء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُما زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
18641- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وزلفًا من الليل) ، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
18642- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (زلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18643- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، مثله.

(15/508)


18644- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (وزلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18645- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان، عن الحسن قال: زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
18646- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18647- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عاصم، عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18648- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18649- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن: (زلفًا من الليل) ، صلاة المغرب والعشاء.
* * *
وقوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، يذهب آثام معصية الله، ويكفّر الذنوب. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع، اللاتي يذهبن السيئات، فقال بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) " الأثام "، عقوبة الإثم وجزاؤه. وأما " الآثام " فجمع " إثم "، وهو الذئب.

(15/509)


18650- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد ابن الحضرمي قال، حدثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده، إن الصلوات الخمس لهُنّ الحسنات التي يذهبن السيئات، كما يغسل الماءُ الدَّرَنَ. (1)
18651- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح قال: سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: هن الصلوات الخمس.
18652- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18653-. . . . قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: (إن الحسنات) الصلوات.
18654- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة جميعا، عن عوف، عن الحسن: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18655- حدثني زريق بن السَّخت قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن
__________
(1) الأثر: 18650 - " الجريري "، هو " سعيد بن إياس الجريري "، سلف مرارًا. و " أبو الورد بن ثمامة بن حزن القشيري "، ويقال هو: " ثمامة بن حزن "، تابعي ثقة، لم يدرك غير واحد من الصحابة، وكان قليل الحديث. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 1 / 164، والكنى للبخاري: 79، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 451 في الكنى، وفي " ثمامة بن حزن القشيري " 1 / 1 / 465، ولم يقل هو " أبو الورد "، فكأنهما عنده رجلان. " وأبو محمد بن الحضرمي "، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والذي في كتب الرجال: " أبو محمد الحضرمي "، غلام أبي أيوب الأنصاري، مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 66، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 432، ولم يذكروا له رواية عن كعب، ولكن هذا الخبر يدل على أنه رآه، وسمع منه، وروى عنه.

(15/510)


السيئات) ، قال: الصلوات الخمس. (1)
18656- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18657- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن قال، الصلوات الخمس.
18658- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18659-. . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد الجريري قال، حدثني أبو عثمان، عن سلمان قال: والذي نفسي بيده، إن الحسنات التي يمحو الله بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن: الصلواتُ الخمس.
18660- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18661- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مزيدة بن زيد، عن مسروق: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس. (2)
18662- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد القطواني
__________
(1) الأثر: 18655 - " رزيق بن السخت "، شيخ الطبري، مضى برقم: 10051. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا ". . بن الشخب "، وهو خطأ.
(2) الأثر: 18661 - " مزيدة بن زيد "، هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة غير منقوط، ولم أجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لم أعرفه.

(15/511)


قالا حدثنا عبد الله بن يزيد قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رحمة الله عليه يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا عثمان بماءٍ في إناء، أظنه سيكون فيه قدر مُدٍّ، (1) فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وُضوئي هذا ثم قام فصلَّى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صَلَّى العصر، غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثمَّ صلَّى المغرب، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلّى العشاء، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثمَّ لعله يبيت ليلته يَتَمَرّغ، (2) ثم إن قام فتوضأ وصلَّى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات. (3)
18663- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة
__________
(1) " المد " (بضم الميم) ، ضرب من المكاييل، قيل إنه مقدر بأن يمد الرجل يديه، فيملأ كفيه طعامًا.
(2) " التمرغ "، أصله التقلب في التراب. وأراد هنا أنه يبيت يتقلب في فراشه مطمئنًا رخي البال.
(3) الأثر: 18662 - " حيوة "، هو " حيوة بن شريح " المصري، الفقيه الزاهد، ثقة، مضر مرارًا. " وزهرة بن معبد القرشي التيمي "، " أبو عقيل "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5451، 5457. " والحارث " هو: " الحارث بن عبيد "، " أبو صالح "، مولى عثمان، ثقة، مترجم في تعجيل المنفعة: 78، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 95. وهذا الخبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في مسنده مطولا رقم: 513، واستوفى أخي رحمه الله الكلام عليه هناك. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 297، وابن كثير في تفسيره 4: 401 / 5: 289.
= والزيادة التي في المسند وغيره:
" قالوا: هذه الحسَنَات، فما الباقياتُ يا عُثمان؟ قال: هن: لا إلَه إلا الله، وسُبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله ". وستأتي هذه الزيادة منفردة بهذه الأسانيد في تفسير سورة الكهف الآية: 46 / ج 15: 165، 166.

(15/512)


قال، حدثنا حيوة قال، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد = فذكر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قال: "وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات". (1)
18664- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال: سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد، ثم ذكر نحو ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم = إلا أنه قال: وهن الحسنات: (إن الحسنات يذهبن السيئات) . (2)
18665- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا محمد بن إسماعيل قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن، فإن الله قال: (إن الحسنات يذهبن السيئات) . (3)
__________
(1) الأثر: 18663 - مكرر الأثر السالف. " وأبو زرعة "، هو " وهب الله بن راشد المصري "، مضى مرارًا كثيرة. " والمقاعد "، بالمدينة، عند باب الأقبر، وقيل: هي مساقف حولها. وقيل: هي دكاكين عند دار عثمان بن عفان رضي الله عنه، ذكرها ياقوت في معجمه، ورأيت ذكر " المقاعد " أيضًا في مسند أحمد، في مسند عثمان: 505.
(2) الأثر: 18664 - مكرر الأثرين السالفين.
" رشدين بن سعد "، ضعيف، مضى مرارًا منها رقم: 19، 1938، 2176، 2195، وغيرها. ولكن لهذا الخبر شاهد مما سلف في الصحاح، يقويه على ضعف رشدين.
(3) الأثر: 18665 - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي "، شيخ الطبري، مضى مرارًا. " ومحمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي "، ضعيف، يحدث عن أبيه، ولم يسمع منه شيئًا، مضى برقم: 5445. وأبوه: " إسماعيل بن عياش الحمصي "، ثقة، متكلم فيه، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم: 14212. " وضمضم بن زرعة بن ثوب الحضرمي "، ثقة، وضعفه أبو حاتم، مضى برقم: 5445، 14212. " وشريح بن عبيد بن شريح الحضرمي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5445، 12194، 14212.وهذا خبر ضعيف الإسناد، من آفة " محمد بن إسماعيل عن أبيه "، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 1: 299، وقال: " وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا، قلت: وهذا من روايته عن أبيه. وبقية رجاله موثقون ".

(15/513)


18666- حدثنا ابن سيار القزاز قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال، كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا من أغصانها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت معه تحت شجرة، فأخذ غصنًا من أغصانها يابسًا فهزه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم تفعله؟ فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق. ثم تلا هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: هو قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
* ذكر من قال ذلك:
18667- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
__________
(1) الأثر: 18666 - " حماد "، هو " حماد بن سلمة ". " وعلي بن يزيد بن جدعان "، مضى مرارا كلام الأئمة فيه وأنه سيء الحفظ، ومضى أيضًا توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله روايته. " وأبو عثمان النهدي "، هو " عبد الرحمن بن مل "، تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 437، 438، من طريق عفان عن حماد بنحو لفظ أبي جعفر في روايته، ومن طريق يزيد عن حماد بلفظ آخر. وسيرويه أبو جعفر بعد، من طريق قبيصة عن حماد، برقم: 18677. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 297، 298، وقال: " رواه أحمد، والطبراني في الأوسط والكبير، وفي إسناد أحمد: علي بن زيد، وهو مختلف في الاحتجاج به. وبقية رجاله رجال الصحيح ".

(15/514)


منصور، عن مجاهد: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قولُ من قال في ذلك: "هن الصلوات الخمس"، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترها عنه أنه قال: "مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بابِ أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ "، (1) وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض.
* * *
وقوله: (ذلك ذكرى للذاكرين) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله، فيرجُون ثوابه ووعيده، فيخافون عقابه، لا من قد طبع على قلبه، فلا يجيب داعيًا، ولا يسمع زاجرًا.
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه، فتاب من ذنبه ذلك.
*ذكر الرواية بذلك:
18668- حدثنا هناد بن السرى قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى
__________
(1) هذا الخبر رواه أبو جعفر بغير إسناد، رواه بنحو هذا اللفظ مالك في الموطأ ص: 174، من حديث سعد بن أبي وقاص، وروى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة (الفتح: 2: 9) ومسلم في صحيحه 5: 169، 170.

(15/515)


النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجتُ امرأة في بعض أقطار المدينة، (1) فأصبت منها ما دون أن أمسَّها، فأنا هذا، (2) فاقض فيَّ ما شئت! فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك! قال: ولم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فلما أتاه قرأ عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال رجل من القوم: هذا لهُ يا رسول الله خاصَّةً؟ قال: بل للناس كافة. (3)
18669- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها، وفعلت بها كلَّ شي غير أني لم أجامعها. فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) " عالجت امرأة "، يعني أخذها واستمتع بها، من " المعالجة "، وهي الممارسة. وهذا لفظ بليغ موجز. و " أقطار المدينة "، نواحيها، وفي رواية مسلم " في أقصى المدينة ".
(2) هذا تعبير عزيز، فقيده.
(3) الأثر: 186688 - حديث عبد الله بن مسعود، رواه أبو جعفر من طريقين:
1 - من طريق علقمة، والأسود، عن عبد الله بن مسعود، وذلك برقم: 18668- 18674.
2 - من طريق أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، رقم: 18676، وسأبينها جميعًا، طريقًا طريقًا، وكلها طرق صحاح.
" إبراهيم "، هو " إبراهيم بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " والأسود بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، وهو خال " إبراهيم بن يزيد النخعي "، مضى مرارًا. " وعلقمة "، هو " علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي "، وهو خال " إبراهيم النخعي "، لأنه عم خاليه الأسود، وعبد الرحمن، روى له الجماعة، مضى مرارًا. ومن طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، رواه مسلم في صحيحه (17: 80) ، وأبو داود في سننه 4: 223 رقم: 4468، والترمذي في كتاب التفسير. وانظر التعليق على الطرق الآتية. ثم انظر التعليق على رقم: 18675، في بيان اسم " الرجل " الذي فعل ذلك.

(15/516)


فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أله خاصَّةً، أم للناس كافة؟ قال: لا بل للناس كافة = ولفظ الحديث لابن وكيع. (1)
18670- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع إبراهيم بن زيد، يحدث عن علقمة، والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأةً في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها، ولزمتُها، (2) ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه! فأتبعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَره، فقال: "ردُّوه عليَّ! فردُّوه، فقرأ عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، قال: فقال معاذ بن جبل: أله وحده، يا نبي الله، أم للناس كافة؟ فقال: "بل للناس كافة. (3)
18671- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فاصنع بي ما شئت! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (4)
__________
(1) الأثر: 18669 - مكرر الذي قبله. ومن طريق وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، رواه أحمد في مسنده رقم: 4250.
(2) " لزمتها " يعني: عانقتها فأطلت العناق واستوعبته. وهذا الثلاثي بهذا المعنى قلها تجده في كتب اللغة، وإنما فيها: " التزمه "، أي: عانقه.
(3) الأثر: 18670 - مكرر الذي قبله. ومن طريق عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك، ورواه أحمد في مسنده رقم: 4290.
(4) الأثر: 18671 - مكرر الذي قبله. ومن طريق أبي عوانة، عن سماك، رواه أحمد في مسنده رقم: 4291، ولكنه أحاله على الذي قبله. وأبو داود الطيالسي في مسنده ص: 37، رقم: 285.

(15/517)


18672- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود، عن عبد الله: أن رجلا لقي امرأةً في بعض طرق المدينة، فأصاب منها ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، لهذا خاصة، أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة. (1)
18673- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أنبأني سماك قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله، عن ابن مسعود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقيت امرأة في حُشٍّ بالمدينة، (2) فأصبت منها ما دون الجماع، نحوه. (3)
18674- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البغدادي قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (4)
__________
(1) الأثر: 18672 - " الحكم بن عبد الله العجلي "، " أبو النعمان "، ثقة حافظ، مضى برقم: 10185، 17013، 18033. ومن هذه الطريق، رواه مسلم في صحيحه 17: 80، 81.
(2) " الحش "، البستان، عند أهل المدينة، انظر ما سلف رقم: 3086.
(3) الأثر: 18673 - لم أعثر عليه في مسند أبي داود الطيالسي، ومعروف أن المطبوع من هذا المسند ناقص غير تام. وانظر التعليق التالي. وفي المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا أبو المثني "، والصواب " ابن المثني "، وهو " محمد بن المثني " شيخ الطبري.
(4) الأثر: 18674 - " عمرو بن الهيثم البغدادي "، " أبو قطن "، ثقة، من ثقات أصحاب شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 268. ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده برقم: 4325. وقال أخي السيد أحمد: " خاله، إما: الأسود بن يزيد النخعي، وإما عبد الرحمن بن يزيد النخعي، فكلاهما خاله، وإما علقمة بن قيس النخعي، عم الأسود وعبد الرحمن. وقد روى إبراهيم الحديث عن ثلاثتهم مطولا ومختصرًا، كما مضى بأسانيد رقم: 3854، 4250، 4290، 4291 ". وقد رواه أحمد برقم: 3584 من طريق سفيان الثوري، عن سماك، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الترمذي في كتاب التفسير.

(15/518)


18675- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء فُلانُ بن معتِّب رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دخلت عليّ امرأة، فنلتُ منها ما ينالُ الرجل من أهله، إلا أني لم أواقعها؟ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه، حتى نزلت هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، الآية، فدعاه فقرأها عليه. (1)
18676- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان جميعًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأةٍ شيئًا لا أدري ما بلغ، غير أنه ما دون الزنا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن أخذَ بها من أمتي = أو: لمن عمل بها. (2)
__________
(1) الأثر: 18675 - فصل الحافظ بن حجر في الفتح 8: 268، 269، القول في اسم هذا الرجل، فذكر هذا الخبر، ثم قال: " وأخرجه ابن أبي خيثمة، لكن قال: إن رجلا من الأنصار يقال له: معتب = وقد جاء أن اسمه: كعب بن عمرو، و: أبو اليسر (بفتح التحتانية والمهملة) الأنصاري. أخرجه الترمذي، والنسائي، والبزار، من طريق موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو، أنه أتته امرأة، وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث "، الحديث، وسيأتي برقم: 18684، 18685.
(2) الأثر: 18676 - هذه هي الطريق الثانية، لحديث عبد الله بن مسعود، كما أشرت إليه في التعليق على رقم: 18668. " وأبو عثمان " هو " عبد الرحمن بن مل النهدي " كما سلف مرارًا. وهذا حديث صحيح. ومن هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح 2: 7) من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضا (الفتح 8: 268، 269) ، من الطريق نفسها، بلفظ مختلف قليلا. ورواه مسلم في صحيحه 17: 79، 80، من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، ثم من طريق محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن سليمان التيمي، وهو أحد طرق أبي جعفر في رواية هذا الخبر، بلفظ آخر. ورواه أحمد في مسنده برقم: 3653، عن يحيى، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضًا برقم: 4094، من الطريق نفسها. ورواه ابن ماجة في سننه ص: 447، رقم: 1398، وص 1421، رقم: 4254.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير.

(15/519)


18677- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصن شجرة يابسة فحتَّه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق! ثم قال: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
18678- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، وحسين الجعفي، عن زائدة قال، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها، غير أنْ لم يجامعها؟ (2) فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ. قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. (3)
__________
(1) الأثر: 18677 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم: 18666، وقد مضى تخريجه وشرحه هناك.
(2) في المطبوعة: " غير أنه لم يجامعها "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الجيد.
(3) الأثر: 18678 - حديث معاذ، يأتي أيضًا برقم: 18682.
" أبو أسامة "، هو: " حماد بن اسامة "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " وحسين الجعفي "، هو: " حسين بن علي الجعفي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا." وزائدة "، هو: " زائدة بن قدامة "، ثقة، مضى مرارًا. " وعبد الملك بن عمير اللخمي "، المعروف بالنبطي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 12573. " وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا، منها رقم: 33، 2156، 2937. وهذا إسناد صحيح. رواه أحمد في مسنده 5: 244 من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وأبي سعيد، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير = وفيه رواية أبي سعيد، عن عبد الملك بن عمير مباشرة. " وأبو سعيد " هو " عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، ثقة." وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 404، عن الحافظ الدارقطني، وسيأتي في التعليق على رقم: 18682. ورواه الترمذي في كتاب التفسير. ثم سيأتي هذا الخبر موقوفًا على عبد الرحمن بن أبي ليلى برقم: 18679، 18680.

(15/520)


18679- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رجلا أصابَ من امرأة ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن ذلك، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم = أو: أنزلت= (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية، فقال معاذ: يا رسول الله، أله خاصة، أم للناس عامة؟ قال: هي للناس عامة.
18680- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
18681- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال، حدثني عمرو بن الحارث قال، حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي قال، حدثنا سليم بن عامر، أنه سمع أبا أمامة يقول: إن رجلا أتى رسول الله

(15/521)


صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقم فيَّ حَدّ الله = مرةً واثنتين. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقيمت الصلاة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: أين هذا القائل: أقم فيَّ حدَّ الله؟ قال: أنا ذا! قال: هل أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال: نعم! قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمّك، فلا تَعُدْ! وأنزل الله حينئذ على رسوله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (1)
18682- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني جرير، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها؟ قال: يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار
__________
(1) الأثر: 18681 - " عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي "، شيخ الطبري، سلف مرارا، آخرها رقم: 15379. " وإسحق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي "، هو " ابن زبريق "، ثقة، تكلموا فيه حسدًا. مضى برقم: 15379. " وعمرو بن الحارث بن النعمان الزبيدي "، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: لا تعرف عدالته، مضى برقم: 15379. " وعبد الله بن سالم الأشعري الوحاظي "، وثقه ابن حبان، مضى برقم: 15379. " والزبيدي "، هو " محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي "، ثقة، روى له الشيخان، مضى مرارًا، آخرها رقم: 15377. " وسليم بن عامر الكلاعي الحمصي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 12807. وهذا إسناد حسن، ولم أجد حديث أبي أمامة مرويا من هذه الطريق، ولكن الأئمة رووه من طرق أخرى. رواه أحمد في مسنده من طريقين 5: 251، 262 من طريق عكرمة بن عمار اليمامي، عن شداد بن عبد الله، عن أبي أمامة. ثم رواه ص: 265، من طريق الأوزاعي، عن أبي عمار شداد، عن أبي أمامة. ومن الطريق الأولى، رواه مسلم في صحيحه 17: 81، 82. ومن الطريق الثانية رواه أبو داود في سننه 4: 191، رقم: 4381.

(15/522)


وزلفًا من الليل) ، الآية، فقال معاذ: هي له يا رسول الله خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة (1)
18683- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل الرجل يريد أن يُبَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، فوجد المرأة جالسةً على غديرٍ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادمًا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات: قال: وتلا عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (2)
18684- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن وهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت، فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته، فقال: استر على نفسك وتُبْ واستغفر الله! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا!! حتى ظننت أنّي من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ! قال: فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً فنزل جبريل فقال: أين أبو اليسر؟ فجئت، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى: (ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) الأثر: 18682 - هو مكرر الأثر السالف 18678، وانظر تخريجه هناك.
(2) الأثر: 18683 - " يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 7472.

(15/523)


قال إنسان: لهُ يا رسول الله، خاصةً، أم للناس عامة؟ قال: للناس عامة. (1)
18685- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: لقيت امرأة فالتَزَمْتُها، غير أني لم أنكحها، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال: اتق الله، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدًا! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه، فسألته فقال: اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا! قال: فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال له: هل جهزت غازيًا في أهله؟ قلت: لا قال: فهل خلفت غازيًا في أهله؟ قلت: لا فقال لي، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال: فلما وليت دعاني، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، فقال له أصحابه: ألهذا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. (2)
18686- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثني سعيد، عن قتادة: أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هلكتُ! فأنزل الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) .
18687- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) الأثر: 18684 - حديث أبي اليسر الأنصاري، سيأتي بعده بنحو إسناده. وانظر ما كتبه الحافظ بن حجر في اسمه فيما سلف في التعليق على رقم: 18675.
" قيس بن الربيع الأسدي "، سلف مرارًا، آخرها رقم: 16369، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون. " وعثمان بن موهب "، هو " عثمان بن عبد الله بم موهب التميمي "، ينسب إلى جده، ثقة. مضى برقم: 17567. " وموسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 17567 - 17571. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال: " هذا حديث حسن غريب. وقيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره. وروى شريك عن عثمان بن عبد الله هذا الحديث، مثل رواية قيس بن الربيع ".
(2) الأثر: 18685 - هو مكرر الأثر السالف.

(15/524)


معمر، عن سليمان التيمي قال: ضرب رجلٌ على كَفَلِ امرأة، ثم أتى أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما. فكلما سأل رجلا منهما عن كفارة ذلك قال: أمغزية هي [مادا] ؟ (1) قال: نعم قال: لا أدري! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: أمغزية هي؟ قال: نعم! قال: لا أدري! حتى أنزل الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) .
18688- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن عطاء، في قول الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، أنّ امرأة دخلت على رجل يبيعُ الدقيق، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال: اتق الله، ولا تكن امرأةَ غازٍ! فقال الرجل: هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر، فقال مثل ما قال عمر. فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا، فقال له: كذلك، ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، فأنزل الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الصلوات المفروضات = (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) .
18689- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق لتبتاع منه، فدخل بها البيت، فلما خلا له قَبَّلها. قال: فسُقِط في يديه، فانطلق إلى أبي بكر، فذكر ذلك له، فقال: أبصر، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ! فبينما هم على ذلك، نزل في ذلك: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) = قيل لعطاء: المكتوبة هي؟ قال: نعم، هي المكتوبة =
__________
(1) في المخطوطة هذا الذي وضعته بين القوسين، ولم أوفق إلى قراءته أو تبين معناه، وهما يكن فالسؤال واضح. وقوله: " مغزية "، فالمغزية هي المرأة التي غزا زوجها وبقيت وحدها في البيت، ومنه حديث عمر:
" ما بال رجالٍ لا يزال أحدهم كاسرًا وسادَه عند مُغْزِية، يتحدَّث إليها وتتحدث إليه! عليكم بالجَنْبة، فإنها عفافٌ. إنما الناس لحمٌ على وضَمٍ إلاّ ما ذُبَّ عنهُ ".

(15/525)


وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)

فقال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هي المكتوبات.
قال ابن جريج: عن يزيد بن رومان: إن رجلا من بني غنم، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه، ثم جاء إلى عمر رضى الله عنه، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (أقم الصلاة) ، إلى قوله: (ذلك ذكرى للذاكرين) ، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر، فذلك قوله: (ذكرى للذاكرين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واصبر، يا محمد، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي، وكفرهم برسلي

(15/526)


(1) من قبلكم. (أولو بقية) ، يقول: ذو بقية من الفهم والعقل، (2) يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله، وعليهم في الكفر به (3) = (ينهون عن الفساد في الأرض) ، يقول: ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به، في أرضه (4) = (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، يقول: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه = وهم اتباع الأنبياء والرسل.
* * *
ونصب "قليلا" لأن قوله: (إلا قليلا) استثناء منقطع مما قبله، كما قال: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) ، [سورة يونس: 98] . وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18690- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اعتذر فقال: (فلولا كان من القرون من قبلكم) ، حتى بلغ: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله. وقرأ: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) .
18691- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) ، إلى قوله: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، قال: يستقلَّهم الله من كل قوم.
__________
(1) انظر تفسير " القرن " فيما سلف 11: 263 / 15: 37.
(2) انظر تفسير " البقية " فيما سلف ص: 447 - 449.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وعليهم " بإسقاط " ما "، والأجود إثباتها.
(4) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد) .
(5) انظر فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.

(15/527)


18692- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر، (1) قال: فقال: سمعت الحسن يقول: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: بعث الله هودًا إلى عاد، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه الأمم، فقال: ما أراه إلا كان حسَّن القول في القَدر. (2)
18693- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، أي: لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض = (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) .
* * *
وقوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، يقول تعالى ذكره: واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
18694- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال: ما أُنْظروا فيه.
18695- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، من دنياهم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا: " في العذر "، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة وحدها: " في العذر، والصواب من المخطوطة. ويعني أنه أمر قد فرغ منه، لقول الله سبحانه لنوح: " وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم "، وذلك قبل أن يكونوا، وهو قول أهل الإثبات، من أهل الحق.

(15/528)


=وكأنّ هؤلاء وجَّهوا تأويل الكلام: واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم الدنيا ولذاتها، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك، وعتَوْا عن أمر الله.
*ذكر من قال ذلك:
18696- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال: في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق.
18697- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه قال: وتركِهم الحق.
18698- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا وكفروا بالله، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله.
* * *
= وذلك أن المترف في كلام العرب: هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه قول الراجز:

(15/529)


وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)

(1)
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفينَ الصُّدَّادْ ... إلى أمِير المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (2)
* * *
وقوله: (وكانوا مجرمين) ، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان ربك، يا محمد، ليهلك القرى، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم، ظلمًا، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم، وركوبهم السيئات.
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله "بظلم" يعني: بشرك = (وأهلها مصلحون) ، فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا.
* * *
__________
(1) هو رؤبة.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرح فيما سلف 11: 223، تعليق: 1.، " الممتاد "، الذي نسأله العطاء فيعطي.
(3) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .

(15/530)


وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد، (1) كما:-
18699- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) ، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
* * *
وقوله: (ولا يزالون مختلفين) ، يقول تعالى ذكره: ولا يزال النَّاس مختلفين = (إلا من رحم ربك) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "الاختلاف" الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به.
فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان = فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء: ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك.
وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان.
*ذكر من قال ذلك:
18700- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك
__________
(1) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص: 353 تعليق: 4، والمراجع هناك.

(15/531)


18701- حدثني المثني قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، (إلا من رحم ربك) ، قال: هم الحنيفية.
18702- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين.
18703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحقّ.
18704- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18705- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
18706-. . . . قال، حدثنا معلي بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن قال: سئل الحسن عن هذه الآية: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
18707-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.

(15/532)


18708-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الحقّ وأهل الباطل. (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18709-. . . . قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
18710-. . . . قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك: (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحقّ، ليس فيهم اختلاف.
18711- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عكرمة: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل القبلة.
18712- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس: (ولا يزالون مختلفين) قال: أهل الباطل= (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18713- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: لا يزالون مختلفين في الهوى.
18714- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
18715- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: من جعله على الإسلام.

(15/533)


18716-. . . . قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الحسن بن واصل، عن الحسن: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل، (إلا من رحم ربك) . (1)
18717-. . . . قال، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18718- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير وهذا غنى.
*ذكر من قال ذلك:
18719- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، أن الحسن قال: مختلفين في الرزق، سخر بعضهم لبعض.
* * *
وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة والرحمة، أو كما قال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: "ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله".
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع
__________
(1) الأثر: 18716 - " الحسن بن واصل "، لم أجد له ذكرًا، وأخشى أن يكون فيه تحريف. وأن يكون صوابه: " الحسن، عن واصل "، وكأنه يعني: " واصل بن عبد الرحمن " " أبا حرة "، وهو يروي عن الحسن، مضى برقم: 6385، 11496، 12616.

(15/534)


ذلك قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين) ، ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبرٌ عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق، لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم وعَذابهم.
* * *
وأما قوله: (ولذلك خلقهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
18720- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (ولذلك خلقهم) ، قال: للاختلاف.
18721- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قلت للحسن: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
18722- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عليه، عن منصور، عن الحسن، مثله.
18723- حدثني المثني قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الحسن. بنحوه.
18724-. . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، أن الحسن قال في هذه الآية: (ولذلك خلقهم) ، قال: خلق هؤلاء لهذه، وخلق هؤلاء لهذه.
18725- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا

(15/535)


عوف، عن الحسن قال: (ولذلك خلقهم) ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم.
18726- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولذلك خلقهم) ، قال: خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، [سورة هود: 105] .
18727- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: يهود ونصارى ومجوس= (إلا من رحم ربك) ، قال: من جعله على الإسلام = (ولذلك خلقهم) ، قال: مؤمن وكافر.
18728- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، قال، حدثنا الأعمش: "ولذلك خلقهم "، قال: مؤمن وكافر.
18729- حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ، قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
18730- حدثني أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة.
18731- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم) ، قال للرحمة.

(15/536)


18732- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، مثله.
18733- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
18734-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: للرحمة خلقهم.
18735- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة خلقهم.
18736- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عمن ذكره عن ثابت، عن الضحاك: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة.
18737- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة: (ولذلك خلقهم) ، قال: أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته.
18738- حدثني سعد بن عبد الله قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك) ، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقَّب ذلك بقوله: (ولذلك خلقهم) ، فعمّ بقوله: (ولذلك خلقهم) ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له.
* * *

(15/537)


فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم، (إلا من رحم ربك) ، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم = فمعنى اللام في قوله: (ولذلك خلقهم) بمعنى "على" كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي.
* * *
وأما قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) ، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره.
* * *
وقوله: (وتمت كلمة ربك) ، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين.
* * *
وقوله: (من الجنة) ، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم = (والناس) ، يعني: وبنى آدم.
* * *
وقيل: إنهم سموا "الجنة"، لأنهم كانوا على الجنان.
*ذكر من قال ذلك:
18739- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: وإنما سموا "الجنة " أنهم كانوا على الجنان، والملائكة كلهم "جنة"
18740- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي،

(15/538)


وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)

عن أبي مالك قال: "الجنة": الملائكة.
* * *
وأما معنى قول أبى مالك هذا: أن إبليس كان من الملائكة، والجن ذريته، وأن الملائكة تسمى عنده الجن، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وكلا نقصّ عليك) ، يا محمد (2) = (من أنباء الرسل) ، الذين كانوا قبلك (3) = (ما نثبت به فؤادك) ، فلا تجزع من تكذيب من كذبك من قومك، وردَّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك، فتترك بعض ما أنزلتُ إليك من أجل أن قالوا: (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها، (4) كما:-
18741- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) ، قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم.
* * *
وأختلف أهل العربية في وجه نصب "كلا".
__________
(1) انظر تفسير " الجن " فيما سلف 1: 502 - 508.
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص: 470، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(4) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5: 354، 531 / 7: 272، 237 / 8: 529 / 13: 427.

(15/539)


فقال بعض نحويي البصرة: نصب على معنى: ونقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، كلا =، كأنَّ الكلّ منصوب عنده على المصدر من "نقص" بتأويل: ونقص عليك ذلك كلَّ القصص.
* * *
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: ذلك غير جائز، وقال إنما نصبت "كلا" ب "نقصّ"، لأن "كلا" بنيت على الإضافة، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال: أراد: كلَّه نقص عليك، وجعل "ما نثبت" ردًّا على "كلا"، وقد بينت الصواب من القول في ذلك. (1)
* * *
وأما قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحق.
*ذكر من قال ذلك:
18742- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن أبي موسى: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18743- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي موسى، مثله.
18744- حدثنا ابن بشار قال، حدثني سعيد بن عامر قال، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، في قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18745- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي عوانة،
__________
(1) انظر ما سلف في حكم " كل " 6: 210، ثم تفسير " كل " فيما سلف ص: 212، وفهارس اللغة مادة (كلل) .

(15/540)


عن أبي بشر، عن عمرو العنبري، عن ابن عباس: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18746- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن رجل من بني العنبر قال: خطبنا ابن عباس فقال: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18747- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ: (وجاءك في هذه الحق) ، قال في هذه السورة.
18748- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن مروان الأصغر، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر: (وجاءك في هذه الحق) فقال: في هذه السورة
18749- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
18750- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:، في هذه السورة.
18751- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
18752- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18753- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، مثله.
18754- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر الرازي،

(15/541)


عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هذه السورة.
18755- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، مثله.
18756- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18757- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، بمثله.
18758- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله.
18759- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، مثله.
18760- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
18761- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة [مثله] . (1)
18762- حدثني المثني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن البصري يقول في قول الله: (وجاءك في هذا الحق) ، قال: يعني في هذه السورة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحق.
*ذكر من قال ذلك:
18763- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن جعفر
__________
(1) الزيادة بين القوسين، أرجو أن تكون هي الصواب.

(15/542)


قال، حدثنا شعبة، عن قتادة: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه الدنيا.
18764- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن قتادة: (وجاءك في هذا الحق) ، قال: كان الحسن يقول: في الدنيا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: وجاءك في هذه السورة الحق، لإجماع الحجة من أهل التأويل، على أن ذلك تأويله.
* * *
فإن قال قائل: أو لم يجيء النبي صلى الله عليه وسلم الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة، فيقال: وجاءك في هذه السورة الحق؟
قيل له: بلى، قد جاءه فيها كلِّها.
فإن قال: فما وجه خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله: (وجاءك في هذه الحق) ؟ قيل: إن معنى الكلام: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن = أو إلى ما جاءك من الحق في سائر سور القرآن= لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن.
* * *
وقوله: (وموعظة) يقول: وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله (1) = (وذكرى للمؤمنين) يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف ص: 104، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/543)


وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل، يا محمد، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله = (اعملوا على مكانتكم) ، يقول: على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه (1) فإنا عاملون ما نحن عاملوه من الأعمال التي أمرنا الله بها = وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا عليكم، كما:-
18765- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وانتظروا إنا منتظرون) ، قال: يقول: انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزيّن لكم = (إنا منتظرون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولله، يا محمد، ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه، ولم تعلمه، (2) كل ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك،
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص: 463، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف 14: 381، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(15/544)


وما إليه مصير أمرهم، من إقامة على الشرك، أو إقلاعٍ عنه وتوبة = (وإليه يرجع الأمر كله) ، يقول: وإلى الله مَعَادُ كل عامل وعمله، وهو مجازٍ جميعَهم بأعمالهم، كما:-
18766- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإليه يرجع الأمر كله) ، قال: فيقضي بينهم بحكمه بالعدل.
* * *
(فاعبده) ، يقول: فاعبد ربك يا محمد = (وتوكل عليه) ، يقول: وفوِّض أمرك إليه، وثق به وبكفايته، فإنه كافي من توكل عليه. (1)
* * *
= وقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) ، يقول تعالى ذكره: وما ربك، يا محمد، بساه عما يعمل هؤلاء المشركون من قومك، (2) بل هو محيط به، لا يعزب عنه شيء منه، وهو لهم بالمرصاد، فلا يحزنك إعراضهم عنك، ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ، وامض لأمر ربّك، فإنك بأعيننا.
18767- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: خاتمة "التوراة"، خاتمة "هود" (3)
(آخر تفسير سورة هود، والحمد لله وحده)
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 168، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: 198، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) الأثر: 18767 - مضى الخبر بتمامه فيما سلف برقم: 13043، ومن طريق أخرى بمثله، رقم: 13042.

(15/545)