تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ
الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا
يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ
وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
(10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ
مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ
وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ
بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ
الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا
نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ
اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا
مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ
وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ
فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ
لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ
جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ
عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ
الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً
فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا
قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي
إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ
وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ
أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى
اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ
بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا
يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
(53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ
سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا
هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ
أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا
جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى
يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا
أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ
الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ
(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ
دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ
(75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
(77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ
مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ
بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً
وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
تفسير سورة الأحقاف بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ
وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا
مُعْرِضُونَ (3) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم تَنزيلُ الْكِتَابِ) بما أغنى
عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) يقول تعالى ذكره: ما أحدثنا
السموات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا، وما بينهما من أصناف
العالم إلا بالحقّ، يعني: إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.
وقوله (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) يقول: وإلا بأجل لكل ذلك معلوم عنده
يفنيه إذا هو بلغه، ويعدمه بعد أن كان موجودا بإيجاده إياه.
وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)
يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله عن إنذار الله
إياهم معرضون، لا يتعظون به، ولا يتفكرون فيعتبرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (4) }
(22/89)
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بالله من قومك: أرأيتم أيها القوم الآلهة والأوثان
التي تعبدون من دون الله، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض، فإن
ربي خلق الأرض كلها، فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك
آلهة وأربابا، فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة، فإن من
حجتي على عبادتي إلهي، وإفرادي له الألوهة، أنه خلق الأرض
فابتدعها من غير أصل.
وقوله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يقول تعالى
ذكره: أم لآلهتكم التي تعبدونها أيها الناس، شرك مع الله في
السموات السبع، فيكون لكم أيضًا بذلك حجة في عبادتكموها، فإن
من حجتي على إفرادي العبادة لربي، أنه لا شريك له في خلقها،
وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه.
وقوله (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا) يقول تعالى
ذكره: بكتاب جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل
عليّ، بأن ما تعبدون من الآلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئًا،
أو أن لهم مع الله شركًا في السموات، فيكون ذلك حجة لكم على
عبادتكم إياها، لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في
النِّعم التي أنتم فيها، ووجب لها عليكم الشكر، واستحقت منكم
الخدمة، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا الله.
وقوله (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) اختلفت القرّاء في قراءة
ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) بالألف، بمعنى: أو ائتوني ببقية من علم. ورُوي عن أبي
عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرؤه "أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ
عِلْمٍ"، بمعنى: أو خاصة من علم أوتيتموه، وأوثرتم به على
غيركم، والقراءة التي لا أستجيز غيرها (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) بالألف، لإجماع قرّاء الأمصار عليها.
واختلف أهل التأويل في تأويلها، فقال بعضهم: معناه: أو ائتوني
بعلم بأن آلهتكم خَلَقت من الأرض شيئا، وأن لها شرك في السموات
من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض، فإنكم معشر العرب أهل
عيافة وزجر وكهانة.
(22/92)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن آدم، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن صفوان بن
سليم، عن أبي سلمة، عن ابن عباس (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)
قال: خط كان يخطه العرب في الأرض.
حدثنا أبو كُرَيْب، قال: قال أَبو بكر: يعني ابن عياش: الخط:
هو العيافة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو خاصة من علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتاده
(أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أو خاصة من علم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ
أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أي خاصة من علم.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثني أبي،
عن الحسين، عن قتادة (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: خاصة
من علم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو علم تُشيرونه فتستخرجونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن،
في قوله: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أثارة شيء
يستخرجونه فِطْرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو تأثرون ذلك علمًا عن أحد ممن
قبلكم؟
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
(22/93)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا
ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (أَوْ أَثَارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ) قال: أحد يأثر علما.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو ببينة من الأمر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يقول:
ببينة من الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ببقية من علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: سُئل أَبو بكر، يعني ابن عياش عن
(أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: بقية من علم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من
علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وهي مصدر من قول
القائل: أثر الشيء أثارة، مثل سمج سماجة، وقبح قباحة، كما قال
راعي الإبل:
وذاتِ أثارةٍ أكَلَتْ عَلَيْها ... [نَبَاتًا فِي أكمِتِهِ
قَفَارا] (1)
يعني: وذات بقية من شحم، فأما من قرأه (أَوْ أَثَرَةٍ) فإنه
جعله أثرة من الأثر،
__________
(1) هذا بيت من قصيدة للراعي، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن
عتاب بن أسيد، عدتها سبعة وخمسون بيتا. وقوله " ذات آثارة " أي
رب ناقة ذات سمن. والأثارة، بفتح الهمزة: شحم متصل بشحم آخر،
ويقال هي بقية من الشحم العتيق، يقال: سمنت الناقة على أثارة،
أي على بقية شحم. وأكمته: غلفه، جمع كمام، وهو جمع كم بكسر
الكاف، وهو غطاء النور وغلافه. وقفارًا وقفارة: وصف للنبات: أي
رعته خاليًا لها من مزاحمة غيرها في رعيه. وأصله من قولهم طعام
قفار: أي أكل بلا إدام. (انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4:
251) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222) .
عند قوله تعالى: " أو أثارة من علم " أي بقية من شحم أكلت
عليه. ومن قال: " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره: يذكره. وفي
(اللسان: أثر) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته، بقية منه تؤثر
فتذكر. وقال الزجاج أثاره: في معنى علامة. ويجوز أن يكون على
معنى بقية من علم ونسب البيت للشماخ.
(22/94)
وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
(5)
كما قيل: قترة وغبرة. وقد ذُكر عن بعضهم
أنه قرأه (أَوْ أَثْرَةٍ) بسكون الثاء، مثل الرجفة والخطفة،
وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم، جاز أن تكون
تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كُتب الأوّلين، ومن
خاصة علم كانوا أوثروا به. وقد رُوي عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط،
سنذكره إن شاء الله تعالى، فتأويل الكلام إذن: ائتوني أيها
القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب، بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من
الحجة على دعواكم ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية من علم يوصل بها
إلى علم صحة ما تقولون من ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في
دعواكم لها ما تدّعون، فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغن
عن المدّعي شيئًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة
لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تُجيب دعاءه أبدا،
لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله: (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) يقول تعالى ذكره:
وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع
ولا تنطق، ولا تعقل. وإنما عنى بوصفها بالغفلة، تمثيلها
بالإنسان الساهي عما يقال له، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها
شيئًا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا
توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقُبح اختيارهم في
عبادتهم، من لا يعقل شيئًا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما
بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج
والمصائب.
وقيل: من لا يستجيب له، فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر
بني آدم، ومن له الاختيار والتمييز،
(22/95)
إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء
التي تخدم في خدمتهم إياها، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما
كان جاريًا فيه عندهم.
(22/96)
وَإِذَا حُشِرَ
النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ
كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ
لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: وإذا جُمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب،
كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء، لأنهم
يتبرءون منهم (وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) يقول
تعالى ذكره: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم
جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا
شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا.
وقوله (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) يقول
تعالى ذكره: وإذا يقرأ على هؤلاء المشركين بالله من قومك
آياتنا، يعني حججنا التي احتججناها عليهم، فيما أنزلناه من
كتابنا على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (بَيِّنَاتٍ)
يعني واضحات نيرات (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ) يقول تعالى ذكره: قال الذين جحدوا وحدانية الله،
وكذّبوا رسوله للحقّ لما جاءهم من عند الله، فأنزل على رسوله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون
هذا القرآن خداع يخدعنا، ويأخذ بقلوب من سمعه فعل السحر (مبين)
يقول: يُبين لمن تأمله ممن سمعه أنه سحر مبين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) }
يقول تعالى ذكره: أم يقولون هؤلاء المشركون بالله من قريش،
افترى
(22/96)
قُلْ مَا كُنْتُ
بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا
بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
محمد هذا القرآن، فاختلقه وتخرّصه كذبا، قل
لهم يا محمد إن افتريته وتخرّصته على الله كذبا (فَلا
تَمْلِكُونَ لِي) يقول: فلا تغنون عني من الله إن عاقبني على
افترائي إياه، وتخرّصي عليه شيئًا، ولا تقدرون أن تدفعوا عني
سوءا إن أصابني به.
وقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ) يقول: ربي أعلم
من كل شيء سواه بما تقولون بينكم في هذا القرآن والهاء من قوله
(تُفِيضُونَ فِيهِ) من ذكر القرآن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (تُفِيضُونَ فِيهِ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) قال: تقولون.
وقوله (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يقول: كفى
بالله شاهدا علي وعليكم بما تقولون من تكذبيكم لي فيما جئتكم
به من عند الله الغفور الرحيم لهم، بأن لا يعذبهم عليها بعد
توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ
الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ
أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ
مُبِينٌ (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل
يا محمد لمشركي قومك من قريش (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ
الرُّسُلِ) يعني: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه،
قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم; يقال منه:
هو بدع في هذا الأمر، وبديع فيه، إذا كان فيه أوّل. ومن البدع
قول عديّ بن زيد.
(22/97)
فَلا أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي
... رِجَلا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَى وَأَسعد (1)
ومن البديع قول الأحوص:
فَخَرَتْ فانْتَمَتْ فقُلْتُ انْظُرِيني ... ليسَ جَهْلٌ
أتَيتُه بِبَدِيع (2)
يعني بأوّل، يقال: هو بدع من قوم أبداع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يقول: لست
بأوّل الرسل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ
الرُّسُلِ) قال: يقول: ما كنت أوّل رسول أُرسل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)
قال: ما كنت أوّلهم.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا عبد الوهاب بن معاوية، عن أَبي
هبيرة،
__________
(1) البيت لعدي بن زيد (شعراء النصرانية 465) وروايته فيه:
فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد
وليس فيه شاهد على هذه الرواية؛ وقد استشهد به المؤلف على أنه
يقال: هو بدع في هذا الأمر، على معنى ما كنت أول الناس فيه
وقوله تعالى: " قل ما كنت بدعا من الرسل ": معناه ما كنت أول
من أرسل، قد أرسل قبلي رسل كثير.
(2) يقول الأحوص: فخرت علي وانتسبت إلى آبائها. فقلت: كفي،
وليس جهلك علي ببديع ولا غريب، فقد عهدت مثله من أمثالك في
النساء. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222
- 1) استشهد به على أن البديع بمعنى البدع، وذلك عند تفسير
قوله تعالى: " قل ما كنت بدعا من الرسل ".
(22/98)
قال: سألت قتادة (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا
مِنَ الرُّسُلِ) قال: أي قد كانت قبلي رسل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يقول: أي إن الرسل
قد كانت قبلي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) قال: قد كانت قبله رسل.
وقوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) اختلف أهل
التأويل في تأويله، فقال بعضهم: عنى به رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وقيل له: قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي
ولا بكم يوم القيامة، وإلام نصير هنالك، قالوا ثم بين الله
لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمؤمنين به حالهم
في الآخرة، فقيل له (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ) وقال: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)
فأنزل الله بعد هذا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد،
عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في حم الأحقاف (وَمَا أَدْرِي
مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى
إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فنسختها الآية التي
في سورة الفتح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) ... الآية، فخرج نبي الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين نزلت هذه الآية، فبشرهم بأنه غفر
له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، فقال له رجال من المؤمنين:
هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يُفعل بنا؟
فأنزل الله عزّ وجلّ في سورة
(22/99)
الأحزاب، فقال (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا) وقال
(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ) ... الآية، فبين الله ما يفعل به
وبهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ثم درى أو علم من رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ذلك ما يفعل به، يقول
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال: قد
بين له أنه قد غفر من ذنبه ما تقدم وما تأخر.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة
والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام
يصير أمره وأمرهم في الدنيا، أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو
يخرجوه من بينهم، أو يؤمنوا به فيتبعوه، وأمرهم إلى الهلاك،
كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له
فيما جاءهم به من عند الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر
الهذليّ، عن الحسن، في قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
وَلا بِكُمْ) فقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في
الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: وما أدري ما يفعل بي
ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل كما
قُتلت الأنبياء من قبلي، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم، أمتي
المكذّبة، أم أمتي المصدّقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من
السماء قذفا، أم مخسوف بها خسفا، ثم أوحي إليه: (وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) يقول أحطت لك
بالعرب
(22/100)
أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل.
ثم أنزل الله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) يقول: أشهد لك على نفسه
أنه سيظهر دينك على الأديان، ثم قال له في أمته: (وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فأخبره الله ما يصنع
به، وما يصنع بأمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم، أو
ينزل من حكم، وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في
المعاد من ثواب الله من أطاعه، وعقابه من كذّبه.
وقال آخرون: إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل
الله عزّ وجلّ في غير الثواب والعقاب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل،
القول الذي قاله الحسن البصري، الذي رواه عنه أَبو بكر
الهُذَليّ.
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة
إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين
وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليهم.
فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضًا سبيلها سبيل ما
قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر
عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في
الآخرة، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه
متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان
منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك،
لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا
في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب; وإنما اتباعنا
إياك إن اتبعناك، وتصديقنا بما تدعونا إليه، رغبة في نعمة،
وكرامة نصيبها، أو رهبة من عقوبة، وعذاب نهرب منه، ولكن
(22/101)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10)
ذلك كما قال الحسن، ثم بين الله لنبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما هو فاعل به، وبمن كذب بما
جاء به من قومه وغيرهم.
وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) يقول تعالى
ذكره: قل لهم ما أتبع فيما آمركم به، وفيما أفعله من فعل إلا
وحي الله الذي يوحيه إليّ، (وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ)
يقول: وما أنا لكم إلا نذير، أنذركم عقاب الله على كفركم به
مبين: يقول: قد أبان لكم إنذاره، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه
نصيحتكم، يقول: فكذلك أنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لهذا
القرآن لما جاءهم هذا سحر مبين (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم
(إِنْ كَانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أنزله عليّ
(وَكَفَرْتُمْ) أنتم (بِهِ) يقول: وكذّبتم أنتم به.
وقوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
مِثْلِهِ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه:
وشهد شاهد من بني إسرائيل، وهو موسى بن عمران عليه السلام على
مثله، يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه
موسى بالتصديق التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن
عامر، عن مسروق في هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) فخاصم به الذين كفروا من أهل
مكة، التوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: سئل داود، عن
قوله:
(22/102)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) ... الآية، قال داود، قال عامر،
قال مسروق: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما أنزلت إلا
بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها قومه، قال: فنزلت (قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ
بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى
مثل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فآمنوا بالتوراة
وبرسولهم، وكفرتم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود بن أبي
هند، عن الشعبيّ، قال: أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل
على مثله عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بن سلام
بالمدينة; وقد أخبرني مسروق أن آل حم، إنما نزلت بمكة، وإنما
كانت محاجة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قومه،
فقال: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني
القرآن (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ) موسى ومحمد عليهما
الصلاة والسلام على الفرقان.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود، عن الشعبيّ،
قال: إن ناسا يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام،
وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني
مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجة رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لقومه، فقال: (قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني الفرقان
(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)
فمثل التوراة الفرقان، التوراة شهد عليها موسى، ومحمد على
الفرقان صلى الله عليهما وسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود، عن
الشعبيّ. عن مسروق، في قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية، قال: كان إسلام ابن سلام بالمدينة
ونزلت هذه السورة بمكة إنما كانت خصومة بين محمد عليه الصلاة
والسلام وبين قومه، فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ
(22/103)
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: التوراة مثل الفرقان،
وموسى مثل محمد، فآمن به واستكبرتم، ثم قال: آمن هذا الذي من
بني إسرائيل بنبيه وكتابه، واستكبرتم أنتم، فكذّبتم أنتم نبيكم
وكتابكم، (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي) ... إلى قوله (هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ) .
وقال آخرون: عنى بقوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) عبد الله بن سلام، قالوا: ومعنى
الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق.
قالوا: ومثل القرآن التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف التَّنِّيسي، قال: سمعت
مالك بن أنس يحدّث عن أَبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي
وقَّاص، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد
الله بن سلام; قال: وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) .
حدثنا الحسين بن عليّ الصُّدائي، قال: ثنا أبو داود الطيالسي،
قال: ثنا شعيب بن صفوان، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، أن محمد
بن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: قال عبد الله: أنزل فيّ
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... إلى
قوله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثني عليّ بن سعد بن مسروق الكنديّ، قال: ثنا أبو محمد بن
يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أخي عبد الله بن
سلام، قال: قال عبد الله بن سلام: نزلت فيّ (وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية، قال: كان رجل من أهل الكتاب
آمن بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
(22/104)
فقال: إنا نجده في التوراة، وكان أفضل رجل
منهم، وأعلمهم بالكتاب، فخاصمت اليهود النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: "أترضون أن يحكم بيني وبينكم عبد
الله بن سلام "؟ "أتؤمنون"؟ قالوا: نعم، فأرسل إلى عبد الله بن
سلام، فقال: "أتشهد أني رسول الله مكتوبا في التوراة
والإنجيل"، قال: نعم، فأعرضت اليهود، وأسلم عبد الله بن سلام،
فهو الذي قال الله جلّ ثناؤه عنه (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول:
فآمن عبد الله بن سلام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: عبد الله بن سلام.
حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية، كنا
نحدّث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام،
وكان من أحبار اليهود.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
مِثْلِهِ) ؟ قال: هو عبد الله بن سلام.
حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) الشاهد: عبد الله بن سلام، وكان
من الأحبار من علماء بني إسرائيل، وبعث رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى اليهود، فأتوه، فسألهم فقال:
"أتَعْلَمُون أنّي رسُولُ الله تجدُونَنِي مَكْتُوبًا
عِنْدَكُمْ في التَوْراة"؟ قالوا: لا نعلم ما تقول، وإنا بما
جئت به كافرون، فقال: "أيَّ رجل عَبْدُ الله بْنُ سَلام
عنْدَكُمْ"؟ قالوا: عالمنا وخيرنا، قال: "أتَرْضوْن بهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"؟ قالوا: نعم، فأرسل رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عبد الله بن سلام، فجاءه فقال: "ما
شَهادَتُكَ يا ابْنَ
(22/105)
سَلام"؟ قال: أشهد أنك رسول الله، وأن
كتابك جاء من عند الله، فآمن وكفروا، يقول الله تبارك وتعالى
(فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن
الحسن، قال: بلغني أنه لما أراد عبد الله بن سلام أن يسلم قال:
يا رسول الله، قد علمت اليهود أني من علمائهم، وأن أَبي كان من
علمائهم، وإني أشهد أنك رسول الله، وأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم
في التوراة، فأرسل إلى فلان وفلان، ومن سماه من اليهود،
وأخبئني في بيتك، وسلهم عني، وعن أبي، فإنهم سيحدثونك أني
أعلمهم، وأن أَبي من أعلمهم، وإني سأخرج إليهم، فأشهد أنك رسول
الله، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة، وأنك بُعثت
بالهدى ودين الحقّ، قال: ففعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فخبأه في بيته وأرسل إلى اليهود، فدخلوا عليه، فقال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "ما عبد الله بن
سلام فيكم"؟ قالوا: أعلمنا نفسا. وأعلمنا أبا. فقال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أرأيْتُمْ إنْ أسْلَمَ
تُسْلِمُونَ"؟ قالوا: لا يسلم، ثلاث مرار، فدعاه فخرج، ثم قال:
أشهد أنك رسول الله، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة،
وأنك بُعِثْتَ بالهدى ودين الحقّ، فقالت اليهود: ما كنا نخشاك
على هذا يا عبد الله بن سلام، قال: فخرجوا كفارا، فأنزل الله
عزّ وجلّ في ذلك (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) قال: هذا عبد الله بن سلام، شهد أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكتابه حق، وهو في
التوراة حقّ، فآمن واستكبرتم.
حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا
صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، عن
عوف بن مالك
(22/106)
الأشجعي، قال: انطلق النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة
يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " يا مَعْشَرَ اليَهُودِ أَرُوني
اثْنَي عَشَرَ رَجُلا يَشْهَدُونَ إِنَّهُ لا إلَهَ إلا هُو،
وأنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ الله، يُحْبطُ الله عَنْ كُلِّ
يَهُودِيّ تَحْتَ أدِيمِ السَّماءِ الغَضَبَ الَّذِي غَضِب
عَلَيْهِ"، قال: فأسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ثلَّث فلم
يجبه أحد، فانصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من
خلفنا: كما أنت يا محمد، قال: فأقبل، فقال ذلك الرجل: أيّ رجل
تَعلموني فيكم يا معشر اليهود، قالوا: والله ما نعلم أنه كان
فينا رجل أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك، ولا من
جدّك قبل أبيك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي تجدونه في التوراة والإنجيل، قالوا
كذبت، ثم ردّوا عليه قوله وقالوا له شرّا، فقال لهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "كَذَبْتُمْ لَنْ نَقْبَلَ
قَوْلَكُمْ، أما آنفا فَتَثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ ما
أثْنَيْتُمْ، وأمَّا إذْ آمَن كَذَّبْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ ما
قُلْتُمْ، فَلَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ"، قال: فخرجنا ونحن
ثلاثة: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأنا، وعبد
الله بن سلام، فأنزل الله فيه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل
ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) في سياق توبيخ الله
تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم
يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى
أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم
الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن ذلك عنى به عبد
الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني
القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو
الشاهد من بني
(22/107)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن،
وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبيّ
تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن
أنه نبيّ.
وقوله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول: فآمن عبد الله بن
سلام، وصدّق بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبما جاء به
من عند الله، واستكبرتم أنتم على الإيمان بما آمن به عبد الله
بن سلام معشر اليهود (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) يقول: إن الله لا يوفِّق لإصابة الحقّ، وهدى
الطريق المستقيم، القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم
لها سخط الله بكفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: وقال الذين جحدوا نبوة محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم من يهود بني إسرائيل للذين آمنوا به، لو كان
تصديقكم محمدا على ما جاءكم به خيرا، ما سبقتمونا إلى التصديق
به، وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أنه معنيّ به عبد
الله بن سلام، فأما على تأويل من تأوّل أنه عُني به مشركو
قريش، فإنه ينبغي أن يوجه تأويل قوله (وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ) أنه عُني به مشركو قريش وكذلك كان
يتأوّله قتادة، وفي تأويله إياه كذلك ترك منه تأويله، قوله
(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)
أنه معني به عبد الله بن سلام.
* ذكر الرواية عنه ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ
خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) قال: قال ذاك أناس من
المشركين: نحن أعزّ، ونحن، ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه
فلان
(22/108)
وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ
لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12)
وفلان، فإن الله يختصّ برحمته من يشاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ) قال: قد قال ذلك قائلون من الناس، كانوا
أعزّ منهم في الجاهلية، قالوا: والله لو كان هذا خيرا ما سبقنا
إليه بنو فلان وبنو فلان، يختص الله برحمته من يشاء، ويكرم
الله برحمته من يشاء، تبارك وتعالى.
وقوله (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) يقول تعالى ذكره: وإذ لم
يبصروا بمحمد وبما جاء به من عند الله من الهدى، فيرشدوا به
الطريق المستقيم (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) يقول:
فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أكاذيب من أخبار الأوّلين قديمة، كما قال جل ثناؤه
مخبرًا عنهم، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى
إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا
عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره: ومن قبل هذا الكتاب، كتاب موسى، وهو التوراة،
إماما لبني إسرائيل يأتمون به، ورحمة لهم أنزلناه عليهم. وخرج
الكلام مخرج الخبر عن الكتاب بغير ذكر تمام الخبر اكتفاء
بدلالة الكلام على تمامه; وتمامه: ومن قبله كتاب موسى إماما
ورحمة أنزلناه عليه، وهذا كتاب أنزلناه لسانا عربيا.
اختلف في تأويل ذلك، وفي المعنى الناصب (لِسَانًا عَرَبِيًّا)
أهل العربية، فقال بعض نحويي البصرة: نصب اللسان والعربي، لأنه
من صفة الكتاب، فانتصب على الحال، أو على فعل مضمر، كأنه قال:
أعني لسانا عربيا. قال: وقال بعضهم على مصدق جعل الكتاب مصدق
اللسان، فعلى قول من جعل اللسان نصبا على الحال، وجعله من صفة
الكتاب، ينبغي أن يكون تأويل
(22/109)
الكلام، وهذا كتاب بلسان عربيّ مصدّق
التوراة كتاب موسى، بأن محمدا لله رسول، وأن ما جاء به من عند
الله حقّ.
وأما القول الثاني الذي حكيناه عن بعضهم، أنه جعل الناصب للسان
مصدّق، فقول لا معنى له، لأن ذلك يصير إذا يؤوّل كذلك إلى أن
الذي يصدق القرآن نفسه، ولا معنى لأن يقال: وهذا كتاب يصدّق
نفسه، لأن اللسان العربيّ هو هذا الكتاب، إلا أن يجعل اللسان
العربيّ محمدا عليه الصلاة والسلام، ويوجه تأويله إلى: وهذا
كتاب وهو القرآن يصدّق محمدا، وهو اللسان العربيّ، فيكون ذلك
وجها من التأويل.
وقال بعض نحويي الكوفة: قوله: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) من نعت
الكتاب، وإنما نُصب لأنه أريد به: وهذا كتاب يصدّق التوراة
والإنجيل لسانا عربيا، فخرج لسانا عربيا من يصدّق، لأنه فعل،
كما تقول: مررت برجل يقوم محسنا، ومررت برجل قائم محسنا، قال:
ولو رفع لسان عربيّ جاز على النعت للكتاب.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود "وهذا كتاب مصدّق لما بين
يديه لسانا عربيا، فعلى هذه القراءة يتوجه النصب في قوله
(لِسَانًا عَرَبِيًّا) من وجهين: أحدهما على ما بيَّنت من أن
يكون اللسان خارجا من قوله (مصَدّقٌ) والآخر: أن يكون قطعا من
الهاء التي في بين يديه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون منصوبا على أنه حال مما
في مصدّق من ذكر الكتاب، لأن قوله: (مصَدّقٌ) فعل، فتأويل
الكلام إذ كان ذلك كذلك: وهذا القرآن يصدق كتاب موسى بأن محمدا
نبي مرسل لسانا عربيا.
وقوله (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول: لينذر هذا الكتاب
الذي أنزلناه إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذين ظلموا أنفسهم
بكفرهم بالله بعبادتهم غيره.
وقوله (وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) يقول: وهو بشرى للذين
أطاعوا الله فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم إياه في الدنيا، فحسن
الجزاء من الله لهم في الآخرة على طاعتهم إياه. وفي قوله
(وبُشْرى) وجهان من الإعراب: الرفع على العطف
(22/110)
إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (14)
على الكتاب بمعنى: وهذا كتاب مصدّق وبشرى
للمحسنين. والنصب على معنى: لينذر الذين ظلموا ويبشر، فإذا جعل
مكان يبشر وبُشرى أو وبشارة، نصبت كما تقول أتيتك لأزورك
وكرامة لك، وقضاء لحقك، بمعنى لأزورك وأكرمك، وأقضي حقك، فتنصب
الكرامة والقضاء بمعنى مضمر.
واختلفت القرّاء في قراءة (لِيُنْذِرَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء
الحجاز "لِتُنْذِرَ" بالتاء بمعنى: لتنذر أنت يا محمد، وقرأته
عامة قرّاء العراق بالياء بمعنى: لينذر الكتاب، وبأي القراءتين
قرأ ذلك القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ)
الذي لا إله غيره (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على تصديقهم بذلك فلم
يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) من فزع يوم القيامة وأهواله (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم.
وقوله (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) يقول تعالى ذكره:
هؤلاء الذين قالوا هذا القول، واستقاموا أهل الجنة وسكانها
(خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين فيها أبدا (جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول: ثوابا منا لهم آتيناهم ذلك على
أعمالهم الصالحة التي كانوا في الدنيا يعملونها.
(22/111)
وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا
الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي
(22/111)
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته
إياهما أيام حياتهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (حُسنا) فقرأته عامة قرّاء
المدينة والبصرة "حُسنا" بضمّ الحاء على التأويل الذي وصف.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (إحْسانا) بالألف، بمعنى: ووصيناه
بالإحسان إليهما، وبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معاني
ذلك، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء.
وقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول
تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما، لما كان
منهما إليه حملا ووليدا وناشئا، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من
نعمة أمه، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه، ونبهه على الواجب
لها عليه من البرّ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة،
فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) يعني في بطنها كرها، يعني مشقة،
(وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول: وولدته كرها يعني مشقة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول:
حملته مشقة، ووضعته مشقة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
والحسن، في قوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ
كُرْهًا) قالا حملته في مشقة، ووضعته في مشقة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) قال: مشقة
عليها.
اختلف القرّاء في قراءة قوله (كُرْها) فقرأته عامة قراء
المدينة والبصرة
(22/112)
"كَرها" بفتح الكاف. وقرأته عامة قرّاء
الكوفة (كُرها) بضمها، وقد بينت اختلاف المختلفين في ذلك قبل
إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان،
متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) يقول تعالى
ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها، وفصالها إياه من الرضاع،
وفطمها إياه، شرب اللبن ثلاثون شهرا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَفِصَالُهُ) ، فقرأ ذلك عامة
قرّاء الأمصار غير الحسن البصري: (وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ)
بمعنى: فاصلته أمه فصالا ومفاصلة. وذُكر عن الحسن البصري أنه
كان يقرؤه: "وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ" بفتح الفاء بغير ألف،
بمعنى: وفصل أمه إياه.
والصواب من القول في ذلك عندنا، ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع
الحجة من القراء عليه، وشذوذ ما خالف.
وقوله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) اختلف أهل التأويل في
مبلغ حد ذلك من السنين، فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الله بن
عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أشدّه: ثلاث
وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر الله فيه
إلى ابن آدم ستون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال: ثلاثا وثلاثين.
وقال آخرون: هو بلوغ الحلم.
(22/113)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مجالد، عن
الشعبيّ، قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات، وكتبت عليه
السيئات.
وقد بيَّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ، وأنه تناهي قوّته
واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من
الحلم، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه، ونهاية
شدّته، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام، فعطفت ببعض على
بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه، كما قال جلّ
ثناؤه: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك
تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله، ولا أخذت قليلا من مال أو
كله، ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله، فكذلك ذلك في قوله
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)
لا شك أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه، إذ
كان يراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق على الخمس عشرة
أو الثمان عشرة.
وقوله (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ذلك حين تكاملت حجة الله
عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحق في بر
والديه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وقد مضى من سيئ عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) حتى
بلغ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقد مضى من سيئ عمله ما مضى.
وقوله (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) يقول تعالى
ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حقّ الله
عليه فيما ألزمه من برّ والديه (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ
في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك
(22/114)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
لي للإقرار بذلك، والعمل بطاعتك (وَعَلَى
وَالِدَيَّ) من قبلي، وغير ذلك من نعمتك علينا، وألهمني ذلك.
وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن
وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ) قال: اجعلني أشكر نعمتك، وهذا الذي قاله ابن زيد
في قوله (رَبِّ أَوْزِعْنِي) وإن كان يئول إليه معنى الكلمة،
فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.
وقوله (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) يقول تعالى ذكره:
أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها، وذلك العمل
بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) يقول: وأصلح لي أموري
في ذرّيتي الذين وهبتهم، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك، واتباع
مرضاتك، والعمل بطاعتك، فوصفه (1) جل ثناؤه بالبرّ بالآباء
والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر
الصديق رضي الله عنه.
وقوله (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان. (إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ) يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي
إليك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يقول: وإني من الخاضعين
لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) }
__________
(1) لعله فوصاه.
(22/115)
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة
صفتهم، هم الذين يُتقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من
صالحات الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ) يقول: ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها
في الدنيا، فلا يعاقبهم عليها (فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ)
يقول: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين
هم أهلها.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن
الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. عن
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الروح الأمين، قال:
"يؤتي بحسنات العبد وسيئاته، فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة
وسع الله له في الجنة- قال: فدخلت على يزداد، فحدث بمثل هذا
الحديث، قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ) ... الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: دعا
أبو بكر عمر رضي الله عنهما، فقال له: إني أوصيك بوصية أن
تحفظها: إن لله في الليل حقا لا يقبله بالنهار، وبالنهار حقا
لا يقبله بالليل، إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة، إنه
إنما ثقُلت موازين من ثقُلت موازينه يوم القيامة باتباعهم
الحقّ في الدنيا، وثقُل ذلك عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه
إلا الحقّ أن يثقل، وخفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم
القيامة، لاتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحقّ لميزان
لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف.
ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، فيقول قائل: أين
يبلغ عملي من عمل هؤلاء، وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوأ
أعمالهم فلم يبده، ألم تر أن الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم
حتى يقول قائل: أنا خير عملا من هؤلاء، وذلك بأن الله ردّ
عليهم أحسن أعمالهم، ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل أية الشدّة
عند آية الرخاء، وآية الرخاء عند آية الشدّة، ليكون المؤمن
راغبا راهبا، لئلا يُلقي
(22/116)
وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ
وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ
اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ
مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
بيده إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله
أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ.
واختلفت القراء في قراءة قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ)
فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة
(يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ) بضم الياء منهما، على ما لم يسمّ
فاعله، ورفع (أحْسَنُ) . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة
(نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ) بالنون وفتحها، ونصب (أحسنَ) على
معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم،
وردّا للكلام على قوله (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ) ونحن نتقبل
منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز، وهما قراءتان معروفتان صحيحتا
المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) يقول:
وعدهم الله هذا الوعد، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفّ لهم به،
الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى، ونصب قوله
(وَعْدَ الصِّدْقِ) لأنه مصدر خارج من قوله (نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ) ، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا،
لأن قوله (يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ - وَيَتَجاوَز ُ) وعد من الله
لهم، فقال: وعد الصدق، على ذلك المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ
الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ
وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا
هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) }
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر، وبوالديه عاقّ،
وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما
إياه إلى الحقّ، ونصيحتهما له إلا عتوًا وتمرّدا على الله،
وتماديا في جهله، يقول الله جلّ ثناؤه (وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ) أن دعواه إلى الإيمان بالله، والإقرار ببعث
الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم (أُفٍّ لَكُمَا)
يقول: قذرا لكما ونتنا (أَتَعِدَانِنِي أَنْ
(22/117)
أُخْرَجَ) يقول أتعدانني أن أخرج من قبري
من بعد فنائي وبلائي فيه حيا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) قال: يعني البعث بعد
الموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) ... إلى آخر الآية; قال: الذي
قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه، قال: (أَتَعِدَانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ) أتعدانني أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) قال: هو الكافر الفاجر العاقّ
لوالديه، المكذب بالبعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم
نعت عبد سوء عاقا لوالديه فاجرا فقال: (وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) ... إلى قوله (أَسَاطِيرُ
الأوَّلِينَ) .
وقوله (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يقول: أتعدانني
أن أبعث، وقد مضت قرون من الأمم قبلي، فهلكوا، فلم يبعث منهم
أحدا، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان، لكان قد بعث من
هلك قبلي من القرون (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ) يقول
تعالى ذكره ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه عليه أن
يؤمن بالله، ويقرّ بالبعث ويقولان له: (وَيْلَكَ آمِنْ) ، أي
صدّق بوعد الله، وأقر أنك مبعوث من بعد وفاتك، إن وعد الله
الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم، ومخرجهم منها إلى موقف
الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه، فيقول عدوّ الله
مجيبا لوالديه، وردًّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله: ما
هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من
بعد وفاتي من
(22/118)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قبري، إلا ما سطره الأوّلون من الناس من
الأباطيل، فكتبوه، فأصبتماه أنتما فصدّقتما.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، الذين وجب
عليهم عذاب الله، وحلَّت بهم عقوبته وسخطه، فيمن حلّ به عذاب
الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من الأمم الذين مضوا قبلهم من
الجنّ والإنس، الذين كذّبوا رسل الله، وعتوا عن أمر ربهم.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول تعالى ذكره: إنهم
كانوا المغبونين ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب. 2
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن
قتادة، عن الحسن، قال: الجنّ لا يموتون، قال قتادة: فقلت
(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ
قَدْ خَلَتْ) ... الآية.
وقوله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) يقول تعالى ذكره:
ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله واليوم الآخر،
والبرّ بالوالدين، وفريق الكفر بالله واليوم الآخر، وعقوق
الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الآيات منازل
ومراتب عند الله يوم القيامة، مما عملوا، يعني من عملهم الذي
عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله به.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) قال: درج أهل
النار يذهب سفالا ودرج أهل الجنة يذهب علوا (وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: وليعطى جميعهم
(22/119)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا،
المحسن منهم بإحسانه ما وعد الله من الكرامة، والمسيء منهم
بإساءته ما أعدّه من الجزاء (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يقول:
وجميعهم لا يظلمون: لا يجازى المسيء منهم إلا عقوبة على ذنبه،
لا على ما لم يعمل، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن
منهم ثوابَ إحسانه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
(20) }
يقول تعالى ذكره: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِاللَّهِ عَلَى النَّارِ) يقال لهم (أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِهَا) فيها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) قرأ
يزيد حتى بلغ (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) تعلمون والله أن
أقواما يشترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع، ولا قوّة
إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم
طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما
قدم الشأم، صنع له طعام لم ير قبله مثله، قال: هذا لنا، فما
لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال
خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان
حظنا في الحطام، وذهبوا- قال أبو جعفر فيما أرى أنا- بالجنة،
لقد باينونا بونا بعيدا.
وذُكر لنا "أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل
على أهل الصفة مكانا يجتمع - فيه فقراء المسلمين، وهم يرقَعون
ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقاعا، قال: أنتم اليوم خير، أو
يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أُخرى، ويغدى عليه بحفنة،
ويُراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن
يومئذ
(22/120)
خير، قال: " بل أنتم اليوم خير".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال:
حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة، قال: إنما كان طعامنا مع النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الأسودين: الماء، والتمر، والله
ما كنا نرى سمراءكم هذه، ولا ندري ما هي.
قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس
الأشعريّ، عن أبيه، قال: أي بنيّ لو شهدتنا مع رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا
السماء، حسبت أن ريحنا ريح الضأن، إنما كان لباسنا الصوف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول
الله عزّ وجلّ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا) ... إلى آخر الآية، ثم قرأ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) وقرأ
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)
وقرأ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا
مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ... إلى آخر الآية، وقال: هؤلاء
الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ)
، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (أَذْهَبْتُمْ) بغير استفهام، سوى
أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه بالاستفهام، والعرب تستفهم
بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فيه، فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا،
وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه،
لإجماع الحجة من القرّاء عليه، ولأنه أفصح اللغتين.
وقوله (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) يقول تعالى
ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في
حياتهم الدنيا تجزون: أي تثابون عذاب الهون، يعني عذاب الهوان،
وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما حدثنا محمد بن عمرو، قال:
ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/121)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَذَابَ الْهُونِ)
قال: الهوان (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر
الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة، وأن تذعنوا
لأمره ونهيه بغير الحقّ، أي بغير ما أباح لكم ربكم، وأذن لكم
به (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) يقول: بما كنتم فيها
تخالفون طاعته فتعصونه.
(22/122)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ
أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ
خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
واذكر يا محمد لقومك الرّادّين عليك ما جئتهم به من الحقّ هودا
أخا عاد، فإن الله بعثك إليهم كالذي بعثه إلى عاد، فخوّفهم أن
يحلّ بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذّبوا رسولنا
هودًا إليهم، إذ أنذر قومه عادا بالأحقاف. والأحقاف: جمع حقف
وهو من الرمل ما استطال، ولم يبلغ أن يكون جبلا وإياه عنى
الأعشى:
فَباتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ تَلُفُّهُ ... خَرِيقُ شَمالٍ
يَتْرُكُ الوَجْهَ أقْتَما (1)
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقاف، فقال
بعضهم: هي جبل بالشام.
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة 295)
وفي روايته: " يلوذ " في موضع " فبات ": من قصيدة يمدح بها
إياس بن قبيصة الطائي، أو قيس بن معد يكرب، والضمير في فبات
راجع إلى الثور الوحشي الذي شبه به ناقته، في أبيات سابقة.
والأرطي: شجر ضخم ينبت في الرمل. واحدته: أرطأة. ما اعوج
وانعطف، وجمعه: أحقاف. وهو موضع الشاهد في البيت. والخريق:
الريح الشديدة الهبوب. والشمال: ريح باردة تهب من ناحية الشام.
يقول: يلجأ هذا الثور إلى أرطأة في منعرج رمل، تعصف من حوله
ريح شمالية هوجاء، فتترك وجهه أغبر قاتمًا.
(22/122)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: الأحقاف: جبل بالشام.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالأحْقَافِ) جبل يسمى الأحقاف.
وقال آخرون: بل هي واد بين عُمان ومهرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي
عن أبيه، عن ابن عباس (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: فقال: الأحقاف الذي أنذر هود قومه
واد بين عمان ومهرة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانت
منازل عاد وجماعتهم، حيث بعث الله إليهم هودا الأحقاف: الرمل
فيما بين عُمان إلى حَضْرَمَوْتَ، فاليمن كله، وكانوا مع ذلك
قد فشَوْا في الأرض كلها، قهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم
الله.
وقال آخرون: هي أرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، قال: الأحقاف: الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ)
قال: حشاف أو كلمة تشبهها، قال أبو موسى: يقولون مستحشف.
(22/123)
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) حِشاف من حِسْمَى.
وقال آخرون: هي رمال مُشْرفة على البحر بالشِّحْر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده، قوله
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ)
ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر
بأرض يقال لها الشِّحْر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالأحْقَافِ) قال: بلغَنَا أنهم كانوا على أرض يقال لها
الشحر، مشرفين على البحر، وكانوا أهل رمل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث،
عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، أنه قال:
كان مساكن عاد بالشِّحْر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله تبارك وتعالى
أخبر أن عادا أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف، والأحقاف ما وصفت من
الرمال المستطيلة المشرفة، كما قال العَجَّاج:
بات إلى أرْطاةِ حقْف أحْقَفا (1)
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان العجاج المطبوع. والذي في (اللسان:
حقف) : واحقوقف الرمل: إذا طال واعوج. واحقوقف الهلال: اعوج.
وكل ما طال واعوج فقد احقوقف، كظهر البعير، وشخص القمر، قال
العجاج: ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
* سماوة الهلال حتى احقوقفا *
والمؤلف ساق هذا البيت شاهدًا على أن الأحقاف: الرمال
المستطيلة المشرفة، كما قال العجاج: " بات ... إلخ ". وأصله من
شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222) قال: " إذ أنذر
قومه بالأحقاف ": أحقاف الرمال. قال العجاج ... البيت. أقول:
ولست على يقين من صحة هذا الشاهد، فإن أكثر ألفاظه من ألفاظ
الشاهد الذي قبله، فلعله اضطرب في أفواه الرواة وتداخل مع
سابقه.
(22/124)
وكما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ
أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: الأحقاف: الرمل الذي
يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف، ولا يكون أحقافا إلا من
الرمل، قال: وأخو عاد هود. وجائز أن يكون ذلك جبلا بالشأم.
وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر
وليس في العلم به أداء فرض، ولا في الجهل به تضييع واجب، وأين
كان فصفته ما وصفنا من أنهم كانوا قوما منازلهم الرمال
المستعلية المستطيلة.
وقوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: وقد
مضت الرسل بإنذار أممها (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يعني: من قبل
هود ومن خلفه، يعني: ومن بعد هود. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة
عبد الله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ بَعْدِهِ) ، (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول: لا
تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، ولكن أخلصوا له العبادة،
وأفردوا له الألوهة، إنه لا إله غيره، وكانوا فيما ذُكر أهل
أوثان يعبدونها من دون الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا
اللَّهَ) قال: لن يبعث الله رسولا إلا بأن يعبد الله.
وقوله (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: إني أخاف عليكم أيها
القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم عظيم وذلك يوم يعظم
هوله، وهو يوم القيامة.
(22/125)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ
عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) }
يقول تعالى ذكره: قالت عاد لهود، إذ قال لهم لا تعبدوا إلا
الله: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، أجئتنا يا هود لتصرفنا عن
عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك على قولك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) قال: لتزيلنا،
وقرأ (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ
صَبَرْنَا عَلَيْهَا) قال: تضلنا وتزيلنا وتأفكنا (فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة
(إِنْ كُنْتُ) من أهل الصدق في قوله وعداته.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي
أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه عاد: (إِنَّمَا الْعِلْمُ)
بوقت مجيء ما أعدكم به من عذاب الله على كفركم به عند الله، لا
أعلم من ذلك إلا ما علمني (وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ
بِهِ) يقول: وإنما أنا رسول إليكم من الله، مبلغ أبلغكم عنه ما
أرسلني به من الرسالة (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا
تَجْهَلُونَ) مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من
المضرّة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ
(22/126)
فَلَمَّا رَأَوْهُ
عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أَلِيمٌ (24) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه
سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء (مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ) والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار
السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى، وحبا بعضه إلى بعض
عارضا، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ، كما قال
الأعشى:
يا من يَرَى عارضا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ ... كأنَّمَا
الْبَرْقُ في حافاتِهِ الشُّعَلُ (1)
(قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ظنا منهم برؤيتهم إياه أن
غيثا قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا،
وهو الغيث.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ...
الآية، وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا، فلما رأوا العذاب
مقبلا (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) . وذُكر لنا أنهم
قالوا: كذب هود كذب هود; فلما خرج نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم الله فشامه، قال: (بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ساق الله
السحابة السوداء التي اختار قَيْلُ ابن عنز بما فيها من النقمة
إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما
رأوها استبشروا (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعه القاهرة 57) وفي
روايته: " أرقبه " في موضع " أرمقه "، وهما بمعنى أنظر إليه.
واليت شاهد على أن معنى العارض السحاب المعترض في السماء. قال
في (اللسان: عرض) والعارض: السحاب الذي يعترض في أفق السماء.
وفي التنزيل في قصة قوم عاد: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم
قالوا هذا عارض ممطرنا " أي قالوا: هذا الذي وعدنا به سحاب فيه
الغيث. أهـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن: (الورقة 222)
والعارض من السحاب: الذي يرى في قطر من أقطار السماء من العشى،
ثم يصبح وقد حبا حتى استوى.
(22/127)
مُمْطِرُنَا) : يقول الله عزّ وجلّ: (بَلْ
هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
.
وقوله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) يقول تعالى ذكره
مخبرا عن قيل نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هود لقومه
لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب، قد عرض لهم في السماء
هذا عارض ممطرنا نحيا به، ما هو بعارض غيث، ولكنه عارض عذاب
لكم، بل هو ما استعجلتم به: أي هو العذاب الذي استعجلتم به،
فقلتم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) والريح مكرّرة
على ما في قوله (هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) كأنه قيل: بل
هو ريح فيها عذاب أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: كان هود جلدا في قومه،
وإنه كان قاعدا في قومه، فجاء سحاب مكفهرّ، (قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا فَقَالَ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ
بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال: فجاءت ريح فجعلت تلقي
الفسطاط، وتجيء بالرجل الغائب فتلقيه.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن
جدّه، قال: قال سليمان، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:
لقد كانت الريح تحمل الظعينة فترفعها حتى تُرى كأنها جرادة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ... إلى آخر الآية، قال: هي
الريح إذا أثارت سحابا، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ،
فقال نبيهم: بل ريح فيها عذاب أليم.
(22/128)
تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا
مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: {تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا
مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
}
وقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) : يقول
تعالى ذكره: تخرّب كل شيء، وترمي بعضه على بعض فتهلكه، كما قال
جرير
وكانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُود لَمَّا ... رَغا ظُهْرًا
فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
يعني بقوله: دمرهم: ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.
وإنما عنى بقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)
مما أرسلت بهلاكه، لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن زائدة، عن الأعمش، عن
المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أرسل الله على
عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا، فنزع خاتمه.
وقوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) يقول: فأصبح
قوم هود وقد هلكوا وفنوا، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم
التي كانوا يسكنونها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا
مَسَاكِنُهُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة (لا تَرَى
إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبا، بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا
محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة (لا يُرَى إِلا
مَسَاكِنُهُمْ) بالياء في (يُرى) ، ورفع المساكن، بمعنى: ما
وصفت قبل أنه لا
__________
(1) البيت ليس لجرير كما ورد في الأصل، وإنما هو للفرذدق، من
قصيدة في ديوانه يرد بها على جرير ويناقضه وهي في ديوانه (طبعة
الصاوي 442) ، وأول القصيدة: جَرَّ المُخْزِيات عَلَى كُلَيْبٍ
... جرير ثم ما منع الذمارًا
وكانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا ... رَغا ظُهْرا
فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا
أي جلب على قومه الدمار والخراب
(22/129)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ
مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.
وروى الحسن البصري (لا تُرَى) بالتاء، وبأيّ القراءتين اللتين
ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو
القراءة برفع المساكن إذا قُرئ قوله (يُرى) بالياء وضمها وبنصب
المساكن إذا قرئ قوله: "ترى" بالتاء وفتحها، وأما التي حُكيت
عن الحسن، فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة، وإنما قبحت
لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي
بعدها أسماء إناث، فتقول: ما قام إلا أختك، ما جاءني إلا
جاريتك، ولا يكادون يقولون: ما جاءتني إلا جاريتك، وذلك أن
المحذوف قبل إلا أحد، أو شيء واحد، وشيء يذكر فعلهما العرب،
وإن عنى بهما المؤنث، فتقول: إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه، ولا
يقولون: إن جاءتك، وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه، ويذكر
أن المفضل أنشده:
وَنارُنا لَمْ تُرَ نارًا مِثْلُها ... قَدْ عَلِمَتْ ذاكَ
مَعَدّ أكْرَمَا (1)
فأنث فعل مثل لأنه للنار، قال: وأجود الكلام أن تقول: ما رئي
مثلها.
وقوله (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) يقول تعالى
ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا،
فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا،
إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا
إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا
وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ
وَلا
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 301)
استشهد به عند قوله تعالى: " فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم "
فقال إنها قرئت بالتاء أو بالياء مضمومة (مع بناء الفعل
للمجهول) . ووصف القراءة بالتاء المضمومة بأن فيها قبحًا؛ قال:
لأن العرب إذا جعلت فعل المؤنث قبل إلا ذكروه، فقالوا: لم يقم
إلا جاريتك، وما قام إلا جاريتك، ولا يكادون يقولون: ما قامت
إلا جاريتك، وذلك أن المتروك (المستثنى منه) أحد أو شيء، فأحد
إذا كانت لمؤنث أو مذكر فعلها مذكر؛ ألا ترى أنك تقول: إن قام
أحد منهن فاضربه، ولا تقول: إن قامت إلا مستكرها، وهو على ذلك
جائز؛ قال: أنشدني المفضل: " ونارنا ... البيت ". فأنت فعل
مؤنث، لأنه للنار؛ وأجود الكلام أن تقول: ما رؤى مثلها. قلت:
وقوله " أكرما " نعت لنارا.
(22/130)
أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ
شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ
بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكنَّا أيها القوم عادا
الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا،
وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال، وبسطة
الأجسام، وشدّة الأبدان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) يقول: لم نمكنكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) :
أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا) يسمعون به مواعظ ربهم،
وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يسرّهم
وينفعهم (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) يقول: فلم
ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها
فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله، ولكنهم
استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ) يقول: إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم
رُسله، وينكرون نبوّتهم (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وعاد عليهم ما استهزءوا به، ونزل بهم
ما سخروا به، فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من الله جلّ
ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على
كفركم بالله وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل
النقمة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا
حَوْلَكُمْ مِنَ
(22/131)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ
ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (28)
الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ
ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته، أن يحلّ بهم
على كفرهم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا) أيها القوم من القُرَى ما
حول قريتكم، كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها
بالمَثُلات، وخرّبنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها.
وقوله: (وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ) يقول: ووعظناهم بأنواع العظات،
وذكرناهم بضروب من الذِّكْر والحجج، وبيَّنا لهم ذلك.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ) قال بيَّناها (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر
بالله وآياته. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة
الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي في
غيهم، فأهلكناهم، فلن ينصرهم منا ناصر؛ يقول جلّ ثناؤه: فلولا
نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم
وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا
إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع
لهم عند ربهم كما يزعمون.
وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
على مُشركي قومه، يقول لهم: لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون
الله تغني عنكم شيئا، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما
تعبدونها، لتقرّبكم إلى الله زلفى، لأغنت عمن كان قبلكم من
الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها، فدفعت عنها العذاب إذا
نزل، أو لشفعت لهم عند ربهم، فقد كانوا من عبادتها على مثل
الذي عليه أنتم، ولكنها ضرتهم ولم تنفعهم.
يقول تعالى ذكره: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) يقول: بل تركتهم
آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فأخذت غير طريقهم،
(22/132)
لأن عبدتها هلكت، وكانت هي حجارة أو نحاسا،
فلم يصبها ما أصابهم ودعوها، فلم تجبهم، ولم تغثهم، وذلك
ضلالها عنهم، وذلك إفكهم، يقول عزّ وجلّ هذه الآلهة التي ضلَّت
عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نزول بأس الله
بهم، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم، فخذلتهم، هو إفكهم: يقول:
هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون، ويقولون به هؤلاء آلهتنا وما
كانوا يفترون، يقول: وهو الذي كانوا يفترون، فيقولون: هي
تقرّبنا إلى الله زُلفى، وهي شفعاؤنا عند الله. وأخرج الكلام
مخرج الفعل، والمعنيّ المفعول به، فقيل: وذلك إفكهم، والمعنيّ
فيه: المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الآفك، والآلهة مأفوك
بها. وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل، قال: وكذلك قوله (وَمَا
كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ) فقرأته
عامة قرّاء الأمصار، وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم
الكاف بالمعنى الذي بيَّنا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثني أحمد بن
يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عمن حدثه، عن
ابن عباس، أنه كان يقرؤها (وَذَلِكَ أَفْكُهُمْ) يعني بفتح
الألف والكاف وقال: أضلهم. فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها
قرّاء الأمصار، فالهاء والميم في موضع خفض. ومن قرأ هذه
القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب،
وذلك أن معنى الكلام على ذلك، وذلك صرفهم عن الإيمان بالله.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قراءة
الأمصار لإجماع الحجة عليها.
(22/133)
وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) }
(22/133)
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم
بما آمنت به الجنّ (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ) يا محمد
(نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ذكر أنهم
صرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحادث
الذي حدث من رَجْمِهم بالشهب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد
بن جُبير، قال: "كانت الجن تستمع، فلما رُجِموا قالوا: إن هذا
الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون حتى رأوا
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خارجا من سوق عكاظ يصلي
بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
أيوب، عن سعيد بن جُبير، قال: "ولما بعث النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم حُرِست السماء، فقال الشيطان: ما حُرِست إلا
لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض، فوجدوا النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه
بنَخْلة، وهو يقرأ. فاستمعوا حتى إذا فرغ (وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ... إلى قوله (مُسْتَقِيمٍ) ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ
نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ... إلى آخر
الآية، قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع;
فلما بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرست
السماء حرسا شديدا، ورُجِمت الشياطين، فأنكروا ذلك، وقالوا:
(لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ
بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) فقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث،
واجتمعت إليه الجنّ، فقال: تفرّقوا في الأرض، فأخبروني ما هذا
الخبر الذي حدث في السماء، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين،
وهي أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى
(22/134)
تهامة، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي، وادي
نخلة، فوجدوا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يصلي
صلاة الغداة ببطن نخلة، فاستمعوا; فلما سمعوه يتلو القرآن،
قالوا: أنصتوا، ولم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن; فلما قضى
ولوا إلى قومهم منذرين.
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله (وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) فقال بعضهم: كانوا
سبعة نفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الحميد، قال: ثنا النضر بن
عربيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ
نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ... الآية،
قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رسلا إلى قومهم.
وقال آخرون: بل كانوا تسعة. نفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم، عن زِرّ
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال: كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو احمد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم،
عن زِرّ بن حبيش، قال: "أنزل على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وهو ببطن نخلة، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) قال: كانوا تسعة
أحدهم زَوْبَعَة".
وقوله (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) يقول: فلما حضر هؤلاء النفر من
الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال بعضهم: حضروا رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، يتعرّفون الأمر الذي
(22/135)
حدث من قبله ما حدث في السماء، ورسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يشعر بمكانهم، كما قد ذكرنا
عن ابن عباس قبل.
وكما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن،
في قوله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ)
قال: ما شعر بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى
جاءوا، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه فيهم، وأخبر عنهم.
وقال آخرون: بل أمر نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
أن يقرأ عليهم القرآن، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه
بإنذارهم، وأمره بقراءة القرآن عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال: "ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من
نِينَوَى، قال: فإن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ، فأيكم يتبعني"؟
فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا،
فقال رجل: يا رسول الله إنك لذو بدئه، (1) فاتبعه عبد الله بن
مسعود، فدخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شعبا
يقال له شعب الحجون. قال: وخطّ نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فجعلت تهوي بي وأرى
أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا، حتى خفت على
نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم تلا القرآن; فلما
رجع نبيّ الله قلت: يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال:
اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم، فقُضي بينهم بالحقّ.
وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من
الزُّط، فراعوه، قال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم،
قال: ما أريت للذين قرأ عليهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم الإسلام من الجنّ شبها أدنى
__________
(1) في ابن كثير " لذو ندبة "، وكأن الرجل يتعجب من نشاط رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإسراعه لما ندب أصحابه إليه فأحجموا.
ولعله مأخوذ من قولهم " رجل ندب " أي خفيف سريع في الحاجة.
(22/136)
من هؤلاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذهب وابن مسعود
ليلة دعا الجنّ، فخطَّ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
على ابن مسعود خطا، ثم قال له: لا تخرج منه ثم ذهب النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الجنّ، فقرأ عليهم القرآن،
ثم رجع إلى ابن مسعود فقال: وهل رأيت شيئا؟ قال: سمعت لغَطا
شديدا، قال: إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها، فقُضِي بينهم
بالحقّ، وسألوه الزاد، فقال: وكل عظم لكم عرق، وكلّ روث لكم
خُضْرة. قالوا: يا رسول الله تقذّرها الناس علينا، فنهى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستنجي بأحدهما; فلما قدم
ابن مسعود الكوفة رأى الزُّطّ، وهم قوم طوال سود، فأفزعوه،
فقال: أظَهَرُوا؟ فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزُّطّ، فقال ما
أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر. عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله
بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود: " حُدثت أنك
كنت مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة وفد
الجنّ، قال: أجَل، قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث كله. وذُكِر أن
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خطّ عليه خطا وقال: ولا
تبرح منها، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذُعِر ثلاث مرّات، حتى إذا كان قريبا
من الصبح، أتاني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقال: أنِمْتَ؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث
بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: واجلسوا، قال: ولو خرجتَ
لم آمن أن يختطفك بعضهم، ثم قال: وهل رأيت شيئا؟ قال: نعم رأيت
رجالا سودا مستشعري ثياب بيض، قال: أولئك جنّ نصيبين، سألوني
المتاع، والمتاع الزاد، فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو
روثة، فقلت: يا رسول الله، وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إِنَّهُمْ
لَنْ يَجِدوُا عَظْما إلا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَه يَوْمَ
أُكِل،
(22/137)
وَلا رَوْثَةً إلا وَجَدُوا فِيها حَبَّها
يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلا يَسْتَنْقِيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا
خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو زُرْعة
وهب بن راشد، قال: قال يونس، قال ابن شهاب: أخبرني أبو عثمان
بن شبة الخزاعي، وكان من أهل الشام "أن ابن مسعود قال: قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأصحابه وهو بمكة:
مَنْ أَحَبَّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللَّيْلَةَ
فَلْيَفْعَلْ". فلم يحضر منهم أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا
كنا بأعلى مكة، خطّ لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم
انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني
وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب
ذاهبين، حتى بقي منهم رهط، ففرغ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم مع الفجر، فانطلق متبرّزا، ثم أتاني فقال:
وما فَعَلَ الرَّهْطُ؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله، فأخذ عظما
أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد
بعظم أو روث".
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن
وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن شبة
الخزاعي، وكان من أهل الشأم، أن عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكر مثله سواء، إلا
أنه قال: فأعطاهم روثا أو عظما زادا، ولم يذكر الجمجمة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي، قال: أخبرني
يونس، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن مسعود،
قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:
"بِتُّ اللًّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِِ".
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه القرآن، فقال عبد الله بن مسعود قرأ
عليهم بالحَجون، وقد ذكرنا الرواية عنه
(22/138)
بذلك.
وقال آخرون: قرأ عليهم بنخلة، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك، ونذكر
من لم نذكره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا خلاد، عن زهير بن معاوية، عن جابر
الجعفي، عن عكرمة، عن ابن عباس "أن النفر الذين أتوا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ) قال: لقيهم بنخلة ليلتئذ. وقوله (فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قَالُوا أَنْصِتُوا) يقول تعالى ذكره: فلما حضروا القرآن ورسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقرأ، قال بعضهم لبعض:
أنصتوا لنستمع القرآن.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم، عن
زِرّ (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قالوا: صَهْ.
قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زِرّ بن
حُبَيْش، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله
(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قد علم القوم أنهم لن
يعقلوا حتى ينصتوا.
وقوله (فَلَمَّا قُضِيَ) يقول: فلما فرغ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم من القراءة وتلاوة القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي،
(22/139)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
عن أبيه، عن ابن عباس، (فَلَمَّا قُضِيَ)
يقول: فلما فرغ من الصلاة. (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ) . وقوله (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به.
وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
جعلهم رسلا إلى قومهم.
حدثنا بذلك أبو كُرَيب، قالا ثنا عبد الحميد الحِمَّانيّ، قال:
ثنا النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهذا القول خلاف القول الذي
روي عنه أنه قال: لم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن، لأنه محال أن
يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم، إلا أن يقال: لم يعلم
بمكانهم في حال استماعهم للقرآن، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى
قومهم، فأرسلهم رسلا حينئذ إلى قومهم، وليس ذلك في الخبر الذي
روي.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ (30) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين صُرفوا إلى رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الجن لقومهم لما
انصرفوا إليهم من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: (يَا قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ كِتَابٌ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ) يقول: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها
على رُسله (1) .
وقوله (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) يقول: يرشد إلى الصواب، ويدّل
على ما فيه لله رضا (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: وإلى
طريق لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.
__________
(1)
في الأصل: رسوله: ولعله تحريف من النسخ.
(22/140)
يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال:
ثنا سعيد عن قتادة أنه قرأ (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ) فقال: ما أسرع ما عقل القوم، ذُكر لنا أنهم
صُرِفوا إليه من نينوى.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ
اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ
دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ
لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ (يَا
قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) قالوا:
أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله
(وَآمِنُوا بِهِ) يقول: وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر
الله ونهيه، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به (يَغْفِرْ
لَكُمْ) يقول: يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا
يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها (وَيُجِرْكُمْ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ) يقول: وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من
ذنوبكم، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه.
وقوله (وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ
فِي الأرْضِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر
لقومهم: ومن لا يجب أيُّها القوم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم محمدا، وداعيه إلى ما بعثه بالدعاء إليه من
توحيده، والعمل بطاعته (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ)
يقول: فليس بمعجز ربه بهربه، إذا أراد عقوبته على تكذيبه
داعيه، وتركه تصديقه وإن ذهب في الأرض هاربا، لأنه حيث كان فهو
في سلطانه وقبضته (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ)
يقول: وليس لمن لم يحب داعي الله من دون ربه نُصراء ينصرونه من
الله إذا عاقبه ربه على كفره به وتكذيبه داعيه.
(22/141)
أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وقوله (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)
يقول: هؤلاء الذين لم يجيبوا داعي الله فيصدّقوا به، وبما
دعاهم إليه من توحيد الله، والعمل بطاعته في جور عن قصد
السبيل، وأخذ على غير استقامة، (مُبِينٍ) : يقول: يبين لمن
تأمله أنه ضلال، وأخذ على غير قصد.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ
بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) }
يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من
بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم، القائلون
لآبائهم وأمهاتهم (أفّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون
من قبلي) فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم، فيروا ويعلموا أن الله
الذي خلق السموات السبع والأرض، فابتدعهنّ من غير شيء، ولم يعي
بإنشائهنّ، فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ (بِقَادِرٍ عَلَى
أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم
أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم.
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله (بِقَادِرٍ)
فقال بعض نحويي البصرة: هذه الباء كالباء في قوله (كَفَى
بِاللَّهِ) وهو مثل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وقال بعض نحويي
الكوفة: دخلت هذه الباء للمَ; قال: والعرب تدخلها مع الجحود
إذا كانت رافعة لما قبلها، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج
إلى اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظنّ أنك بقائم، وما
كنت بقائم، فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه، بما تعمل
فيه من الفعل، قال: ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع
رفع، لأنه خبر لأن، قال: وأنشدني بعضهم:
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ ... حَكِيمُ بنُ المُسيِّبِ
مُنْتهَاها (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 303) قال:
وقوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض
بقادر ": دخلت الباء للم. والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت
رافعة لما قبلها، أو يدخلونها إذا وقع عليها فعل محتاج إلى
اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظن بقائم، وما كنت بقائم،
فإذا خلعت الباء، نصبت الذي كانت تعمل فيه بما تعمل فيه من
الفعل. ولو ألقيت الباء من " قادر " في هذا الموضع رفع، لأنه
خبر لأن، وأنشدني بعضهم: " فما رجعت بخائبة ... البيت ". فادخل
الباء في فعل لو ألقيت منه، نصب بالفعل لا بالباء. يقاس على
هذا ما أشبهه؛ وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ " يقدر " مكان "
بقادر "، كما قرأ حمزة: " وما أنت بهادي العمي "، وقراءة
العوام " بهاد العمي ". أهـ.
(22/142)
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب
بالفعل لا بالباء، يقاس على هذا ما أشبهه.
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله: هذه الباء دخلت
للجحد، لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال: فإنَّ اسم يَرَوْا وما بعدها في
صلتها، ولا تدخل فيه الباء، ولكن معناه جحد، فدخلت للمعنى.
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلا وأن النحويين من أهل
الكوفة يجيزونه، ويقولون: ما ظننت أن زيدا إلا قائما، وما ظننت
أن زيدا بعالم. وينشد:
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ ... عَلى عَمِّيَّةٍ
إلا زِيادًا (1)
قال: فأدخل إلا بعد جواب اليمين، قال: فأما "كَفَى بِاللهِ"،
فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح، وهي للتعجب، كما تقول لظَرُفَ
بزيد. قال: وأما (تَنْبُتُ بالدهن) فأجمعوا على أنها صلة.
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت الباء في قوله
(بقادِرٍ) للجَحْد، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العلل.
__________
(1) هذا بيت لم ينسبه المؤلف، ونقله عن بعض النحويين. وليس في
معاني القرآن للفراء. وهو موضع خلاف بين البصريين والكوفيين.
فالبصريون يأبون دخول (إلا) بعد جواب اليمين، والكوفيون
يجيزونه ويستشهدون بالبيت على ذلك، كما قال المؤلف.
(22/143)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ
قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (بِقَادِرٍ)
فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار، عن أبي إسحاق والجَحْدريّ
والأعرج (بقادِرٍ) وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار
عليها. وأما الآخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا
يقرءون ذلك "يقدر" بالياء. وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن
مسعود (أنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ
قَادِرٌ) بغير باء، ففي ذلك حجة لمن قرأه "بقادِرٍ" بالباء
والألف. وقوله (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
يقول تعالى ذكره: بلى، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء
الموتى: أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه، وأراد فعله، ذو
قدرة لا يعجزه شيء أراده، ولا يُعييه شيء أراد فعله، فيعييه
إنشاء الخلق بعد الفناء، لأن من عجز عن ذلك فضعيف، فلا ينبغي
أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا
بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره: ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث، وثواب
الله عباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم
السيئة، على النار، نار جهنم، يقال لهم حينئذ: أليس هذا العذاب
الذي تعذّبونه اليوم، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ،
توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به، كان في الدنيا (قَالُوا
بَلَى وَرَبِّنَا) يقول: فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك،
بأن يقولوا بلى هو الحق والله قال: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ
بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) يقول: فقال لهم المقرّر بذلك:
فذوقوا عذاب النار الآن بما كنتم تجحدونه في الدنيا، وتنكرونه،
وتأبون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو
الْعَزْمِ
(22/144)
فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا
إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا
الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
مثبته على المضيّ لما قلَّده من عبْء الرسالة، وثقل أحمال
النبوّة صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وآمره بالائتساء في
العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين
صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه
منهم من الأذى والشدائد (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما أصابك في
الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار
(كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) على القيام
بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن
النفوذ لأمره، ما نالهم فيه من شدّة. وقيل: إن أولي العزم
منهم، كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بِالمحَن،
فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى
ومن أشبههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى ثوابة بن مسعود، عن
عطاء الخُراسانيّ، أنه قال (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) كنا نحدث أن
إبراهيم كان منهم.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن
وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) قال: كلّ الرسل كانوا أولي
عزم لم يتخذ الله رسولا إلا كان ذا عزم، فاصبر كما صبروا.
(22/145)
حدثنا ابن سنان القزّاز، قال: ثنا عبد الله
بن رجاء، قال: ثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جُبير، في
قوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ) قال: سماه الله من شدته العزم.
وقوله (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) يقول: ولا تستعجل عليهم
بالعذاب، يقول: لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم
لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) يقول: كأنهم يوم يرون
عذاب الله الذي يعدهم أنه منزله بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا
ساعة من نهار، لأنه ينسيهم شدّة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما
كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين
والشهور، كما قال جل ثناؤه. (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) .
وقوله (بَلاغٌ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: لم يلبثوا
إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا
إلى أجلهم، ثم حذفت ذلك لبث، وهي مرادة في الكلام اكتفاء
بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر: أن يكون معناه: هذا
القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكَّروا واعتبروا
فتذكروا.
وقوله (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) يقول
تعالى ذكره: فهل يهلك الله بعذابه إذا أنزله إلا القوم الذين
خالفوا أمره، وخرجوا عن طاعته وكفروا به. ومعنى الكلام: وما
يهلك الله إلا القوم الفاسقين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله
(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) تعلموا ما
يهلك على الله إلا هالك ولى الإسلام ظهرَه أو منافق صدّق
بلسانه وخالف بعمله. ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: "أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي
هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَملها
كُتِبَتْ لَهُ
(22/146)
عَشْرُ أَمْثَالِهَا. وَأَيُّمَا عَبْدٍ
هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا
كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَانَ يَتْبَعُهَا،
وَيَمْحُوهَا اللَّهُ وَلا يَهْلِكُ إلا هَالِكٌ".
آخر تفسير سورة الأحقاف
(22/147)
الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا
نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
تفسير سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا
غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الذي أراد من الإسلام
والإقرار والتصديق (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) يقول: جعل الله
أعمالهم ضلالا على غير هدى وغير رشاد، لأنها عملت في سبيل
الشيطان وهي على غير استقامة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ) يقول تعالى ذكره: والذين صدّقوا الله وعملوا
بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه (وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى
مُحَمَّدٍ) يقول: وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد
(وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ) يقول: يقول: محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيئ ما
عملوا من الأعمال، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه (وأصلح
بالهم) يقول: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه، وفي
الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه.
وذُكر أنه عنى بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ... الآية أهل مكة،
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ... الآية،
أهل المدينة.
(22/151)
ذَلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
خبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عبد الله بن
عباس، في قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ) قال: نزلت في أهل مكة (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: الأنصار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عبد الله بن
عباس (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: أمرهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: شأنهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: أصلح حالهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: حالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال حالهم. والبال: كالمصدر مثل الشأن
لا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر، فإذا
جمعوه قالوا بالات.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) }
(22/152)
فَإِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهذين
الفريقين من إضلالنا أعمال الكافرين، وتكفيرنا عن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات، جزاء منا لكلّ فريق منهم على فعله. أما
الكافرون فأضللنا أعمالهم، وجعلناها على غير استقامة وهدى،
بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه، وهو الباطل.
كما حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، وعباس بن محمد، قالا
ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جُرَيج: أخبرني خالد أنه سمع
مجاهدا يقول (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا
الْبَاطِلَ) قال: الباطل: الشيطان. وأما المؤمنون فكفّرنا عنهم
سيئاتهم، وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحقّ الذي جاءهم من
ربهم، وهو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وما جاءهم به
من عند ربه من النور والبرهان (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) يقول عزّ وجلّ: كما بينت لكم أيها
الناس فعلي بفريق الكفر والإيمان، كذلك نمثل للناس الأمثال،
ونشبه لهم الأشباه، فنلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) }
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله: (فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله من أهل الحرب، فاضربوا
رقابهم.
وقوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)
يقول: حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم،
فصاروا في أيديكم أسرى (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) يقول: فشدّوهم
في الوثاق كيلا يقتلوكم، فيهربوا منكم.
(22/153)
وقوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً) يقول: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان، فإما أن تمنوا
عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا
فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى
تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل.
واختلف أهل العلم في قوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً) فقال بعضهم: هو منسوخ نسخه قوله (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله (فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ، قالا ثنا ابن المبارك،
عن ابن جُرَيج أنه كان يقول، في قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً) نسخها قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
السديّ (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قال: نسخها
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) نسخها قوله
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله (وَإِمَّا
فِدَاءً) كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم، فإذا أسروا
منهم أسيرا، فليس لهم إلا أن يُفادوه، أو يمنوا عليه، ثم
يرسلوه، فنسخ ذلك بعد قوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) : أي عظ بهم من
سواهم من الناس لعلهم يذّكرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد
الكريم
(22/154)
الجزري، قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه
في أسير أُسر، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال أبو
بكر: اقتلوه، لقتلُ رجل من المشركين، أحبّ إليّ من كذا وكذا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ... إلى آخر الآية، قال: الفداء
منسوخ، نسختها: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ) ...
إلى (كُلَّ مَرْصَدٍ) قال: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا
حرمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً) هذا منسوخ، نسخه قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولاذمة بعد براءة.
وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقالوا: لا يحوز قتل
الأسير، وإنما يجوز المن عليه والفداء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عتاب سهل بن حماد، قال: ثنا
خالد بن جعفر، عن الحسن، قال: أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن
عمر رجلا يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا، قال الله عزّ
وجلّ (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قال: (1) البكاء بين
يديه فقال الحسن: لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم.
حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ، قالا ثنا ابن المبارك،
عن ابن
__________
(1) لعله سقط من الأصل هنا كلمة أو نحوها، مثل اشتد أو علا، أو
ارتفع أي ارتفع: بكاء الأسرى بين يدي الحجاج.
(22/155)
جُرَيج، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك
صبرا، قال: ويتلو هذه الآية (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن،
قال: لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم
الرجل بالرجل، وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس
عمر بن عبد العزيز، وهو من بني أسد، قال: ما رأيت عمر رحمه
الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك،
فأمر بهم أن يُسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير
المومنين، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر
بكاؤك عليهم، فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة،
وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيَّنا في غير موضع في
كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت
الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار
في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل
مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك
قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ...
الآية، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب،
فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمنّ على بعض، مثل يوم بدر قتل عقبة
بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا، وقتل بني قُرَيظة، وقد
نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم،
والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا
ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده، ولم
يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له
بحربهم، إلى أن قبضه
(22/156)
إليه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دائما
ذلك فيهم، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في
الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك
قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ما
له فيهم مع القتل.
وقوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) يقول تعالى
ذكره: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم، وافعلوا بأسراهم
ما بيَّنت لكم، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها، المشركين
بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم، فيؤمنوا به وبرسوله،
ويطيعوه في أمره ونهيه، فذلك وضع الحرب أوزارها، وقيل: (حَتَّى
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) والمعنى: حتى تلقي الحرب أوزار
أهلها. وقيل: معنى ذلك: حتى يضع المحارب أوزاره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ووقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)
قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم، فيسلم كلّ يهودي ونصرانيّ وصاحب
ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جِرابا، وتذهب
العداوة من الأشياء كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله،
وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) حتى لا يكون شرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) قال: حتى لا يكون شرك.
ذكر من قال: عني بالحرب في هذا الموضع: المحاربون.
(22/157)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن
معمر، عن قتادة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) قال
الحرب: من كان يقاتلهم سماهم حربا.
وقوله (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ)
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل
المشركين إذا لقيتموهم في حرب، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم،
وأسرهم، والمنّ والفداء (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا) هو الحق الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم، ويريد
لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه
لهم عاجلة، وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار
منهم، وعقوبتهم عاجلا إلا بأيديكم أيها المؤمنون (لِيَبْلُوَ
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) يقول: ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين
منكم والصابرين، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم،
ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى
الحقّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) إي والله بجنوده الكثيرة
كلّ خلقه له جند، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا.
وقوله (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) اختلفت
القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والكوفة
(وَالَّذِينَ قَاتَلُوا) بمعنى: حاربوا المشركين، وجاهدوهم،
بالألف; وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه (قُتِّلُوا)
بضم القاف وتشديد التاء، بمعنى: أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد
بعض، غير أنه لم يُسمّ الفاعلون. وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه
كان يقرأه (وَالَّذِينَ قَتَلُوا) بفتح القاف وتخفيف التاء،
بمعنى: والذين قتلوا المشركون بالله. وكان أبو عمرو يقرأه
(قُتِلُوا) بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى: والذين --قتلهم
المشركون، ثم أسقط الفاعلين، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم.
(22/158)
سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
(7)
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه
(وَالَّذِينَ قَاتَلُوا) لاتفاق الحجة من القرّاء، وإن كان
لجميعها وجوه مفهومة.
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب، فتأويل الكلام:
والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين
الله، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من الهدى، فجاهدوهم في ذلك (فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ) فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا
ضلالا عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين.
وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ) ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الشِّعْب، وقد فَشَت
فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اُعْلُ
هُبَلْ، فنادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ، فنادى المشركون: يوم
بيوم، إن الحرب سجال، إن لنا عُزَّى، ولا عُزَّى لكم، قال رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اللهُ مَوْلانا وَلا
مَوْلَى لَكُمْ. إنَّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ، أمَّا قَتْلانا
فأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، وأمَّا قَتْلاكم فَفِي النَّارِ
يُعَذَّبُونَ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ) قال: الذين قُتلوا يوم أُحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ
بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
(6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) }
يقول تعالى ذكره: سيوفق الله تعالى ذكره للعمل بما يرضى ويحبّ،
هؤلاء
(22/159)
الذين قاتلوا في سبيله، (وَيُصْلِحُ
بَالَهُمْ) ويصلح أمرهم وحالهم في الدنيا والآخرة
(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) يقول: ويُدخلهم
الله جنته عرّفها، يقول: عرّفها وبيَّنها لهم، حتى إن الرجل
ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدنيا، لا
يشكل عليه ذلك.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: "إذا نجَّى الله المؤمنين
من النار حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتصّ بعضهم من
بعض مظالم كثيرة كانت بينهم في الدنيا، ثم يُؤذن لهم بالدخول
في الجنة، قال: فما كان المؤمن بأدلَّ بمنزله في الدنيا منه
بمنزله في الجنة حين يدخلها".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: أي
منازلهم فيها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم،
وحيث قسم الله لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا لا
يستدلون عليها أحدا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: بلغنا عن
غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة، ولهم أعرف بمنازلهم فيها
من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا; قال:
فتلك قول الله جلّ ثناؤه (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ) .
وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا
الله ورسوله، إن تنصروا الله ينصركم بنصركم رسوله محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أعدائه من أهل الكفر به وجهادكم
إياهم معه لتكون كلمته العُليا ينصركم عليهم، ويظفركم بهم،
فإنه ناصر دينه وأولياءه.
(22/160)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ (9)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة، قوله (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)
لأنه حقّ على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره.
وقوله (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) يقول: ويقوّكم عليهم،
ويجرّئكم، حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقلّ عددكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا
لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) }
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله، فجحدوا توحيده
(فَتَعْسًا لَهُمْ) يقول: فخزيا لهم وشقاء وبلاء.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في
قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ) قال: شقاء لهم.
وقوله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) يقول وجعل أعمالهم معمولة على
غير هدى ولا استقامة، لأنها عملت في طاعة الشيطان، لا في طاعة
الرحمن.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) قال: الضلالة التي أضلهم الله لم
يهدهم كما هَدى الآخرين، فإن الضلالة التي أخبرك الله: يضلّ من
يشاء، ويهدي من يشاء; قال: وهؤلاء ممن جعل عمله ضلالا وردّ
قوله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) على قوله (فَتَعْسًا لَهُمْ)
وهو فعل ماض، والتعس اسم، لأن التعس وإن كان اسما ففي معنى
الفعل لما فيه من معنى الدعاء، فهو بمعنى: أتعسهم الله، فلذلك
صلح ردّ أضلّ عليه، لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي، وكذلك
قوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
(22/161)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا (10)
الْوَثَاقَ) مردودة على أمر مضمر ناصب
لضرب.
وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ) يقول
يعالي ذكره: هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من
أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسخطوه، فكذّبوا به، وقالوا: هو سحر
مبين.
وقوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فأبطل أعمالهم التي
عملوها في الدنيا، وذلك عبادتهم الآلهة، لم ينفعهم الله بها في
الدنيا ولا في الآخرة، بل أوبقهم بها، فأصلاهم سعيرا، وهذا حكم
الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم، كما قال
قتادة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في
قوله (فَتَعْسًا لَهُمْ) قال: هي عامة للكفار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا (10) }
يقول تعالى ذكره: أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في
الأرض سفرا، وإنما هذا توبيخ من الله لهم، لأنهم قد كانوا
يسافرون إلى الشام، فيرون نقمة الله التي أحلَّها بأهل حجر
ثمود، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ، فقال
لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به: أفلم يسِر هؤلاء
المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من
قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم نهلكها
فندمِّر عليها منازلها ونخرِّبها، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن
يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياه، فينيبوا إلى طاعة الله في
تصديقك، ثم توعَّدهم جل ثناؤه، وأخبرهم إن هم أقاموا على
تكذيبهم رسوله، أنه مُحِلّ
(22/162)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا
مَوْلَى لَهُمْ (11)
بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من
قبلهم من الأمم، فقال: (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) يقول:
وللكافرين من قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من العذاب العاجل، أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين
كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) قال:
مثل ما دُمَرت به القرون الأولى وعيد من الله لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ
(11) }
(22/163)
إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ
وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ
وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) }
يقول تعالى ذكره: هذا الفعل الذي فعلنا بهذين الفريقين: فريق
الإيمان، وفريق الكفر، من نُصرتنا فريق الإيمان بالله،
وتثبيتنا أقدامهم، وتدميرنا على فريق الكفر (بِأَنَّ اللَّهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يقول: من أجل أن الله وليّ من آمن
به، وأطاع رسوله.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى
الَّذِينَ آمَنُوا) قال: وليهم.
وقد ذُكر لنا أن ذلك في قراءة عبد الله (ذلك بأنَّ الله ولِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا)
(22/163)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
و"أن" التي في المائدة التي هي في مصاحفنا
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (إنَّمَا
مَوْلاكُمْ اللَّهُ) في قراءته.
وقوله (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) يقول: وبأن
الكافرين بالله لا وليّ لهم، ولا ناصر.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ)
يقول تعالى ذكره: إن الله له الألوهة التي لا تنبغي لغيره،
يُدخل الذين آمنوا بالله وبرسوله بساتين تجري من تحت أشجارها
الأنهار، يفعل ذلك بهم تكرمة على إيمانهم به وبرسوله.
وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ
كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ) يقول جل ثناؤه: والذين جحدوا توحيد
الله، وكذّبوا رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمتعون في
هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية الدارسة، ويأكلون
فيها غير مفكِّرين في المعاد، ولا معتبرين بما وضع الله لخلقه
من الحجج المؤدّية لهم إلى علم توحيد الله ومعرفة صدق رسله،
فمثلهم في أكلهم ما يأكلون فيها من غير علم منهم بذلك، وغير
معرفة، مثل الأنعام من البهائم المسخرة التي لا همة لها إلا في
الاعتلاف دون غيره (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) يقول جلّ
ثناؤه: والنار نار جهنم مسكن لهم، ومأوى، إليها يصيرون من بعد
مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ
أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) }
يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية هي أشد قوة من قريتك،
يقول أهلها أشدّ بأسا، وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من أهل قريتك،
وهي مكة، وأخرج الخبر عن القرية، والمراد به أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/164)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ) قال: هي
مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في
قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ) قال: قريته مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه،
عن حبيش، عن عكرمة، عن ابن عباس " أن نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، لما خرج من مكة إلى الغار، أراه قال: التفت
إلى مكة، فقال: أَنْتِ أحَبُّ بِلادِ الله إلى الله، وأنْتِ
أحَبُّ بِلادِ الله إليَّ، فَلَوْ أنَّ المُشْركِينَ لَمْ
يُخْرِجُوني لَمْ أخْرُجْ مِنْكِ، فَأعْتَى الأعْداءِ مَنْ
عَتا على الله في حَرَمِهِ، أوْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ، أوْ
قَتَلَ بذُحُول الجاهِلِيَّةِ"، فأنزل الله تبارك وتعالى:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ
لَهُمْ) وقال جل ثناؤه: أخرجتك، فأخرج الخبر عن القرية، فلذلك
أُنِّث، ثم قال: أهلكناهم، لأن المعنى في قوله أخرجتك، ما وصفت
من أنه أريد به أهل القرية، فأخرج الخبر مرّة على اللفظ، ومرّة
على المعنى.
وقوله (فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) فيه وجهان من التأويل: أحدهما أن
يكون معناه، وإن كان قد نصب الناصر بالتبرئة، فلم يكن لهم
ناصر، وذلك أن العرب قد تضمر كان أحيانا في مثل هذا. والآخر أن
يكون معناه: فلا ناصر لهم الآن من عذاب الله ينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ (14) }
يقول تعالى ذكره: (أَفَمَنْ كَانَ) على برهان وحجة وبيان
(مِنْ) أمر
(22/165)
مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ
فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
(15)
(رَبِّهِ) والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على
بصيرة منه، بأن له رَبًّا يجازيه على طاعته إياه الجنة، وعلى
إساءته ومعصيته إياه النار، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ) يقول: كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله وسيئه، فأراه
جميلا فهو على العمل به مقيم (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)
يقول: واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله، وعبادة
الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة.
وقيل: إن الذي عني بقوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ) نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن الذي عُنِي
بقوله: (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) هم المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ
مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) }
يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون، وهم الذين
اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه (فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يقول تعالى ذكره في هذه
الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح، يقال منه: قد
أسن ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت، فهو يأسَن
أسَنًا، وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة: قد أَسِن فهو
يأْسَن. وأما إذا أَجَنَ الماء وتغير، فإنه يقال له: أسِن فهو
يأسَن، ويأسن أسونا، وماء أسن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال
أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
(22/166)
ابن عباس، في قوله (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ
مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يقول: غير متغير.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال: من ماء غير
مُنْتن.
حدثني عيسى بن عمرو، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: ثنا
مصعب بن سلام، عن سعد بن طريف، قال: سألت أبا إسحاق عن (مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ) قال: سألت عنها الحارث، فحدثني أن الماء الذي
غير آسن تسنيم، قال: بلغني أنه لا تمسه يد، وأنه يجيء الماء
هكذا حتى يدخل فى فيه. وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم
يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من
الضروع، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار، فهو بهيئته لم
يتغير عما خلقه عليه.
وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) يقول:
وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها.
كما حدثني عيسى، قال: ثنا إبراهيم بن محمد، قال: ثنا مصعب، عن
سعد بن طريف، قال: سألت عنها الحارث، فقال: لم تدسه المجوس،
ولم ينفخ فيه الشيطان، ولم تؤذها شمس، ولكنها فوحاء (1) قال:
قلت لعكرمة: ما الفوحاء: قال: الصفراء.
وكما حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن
عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، في قوله (مِنْ لَبَنٍ
لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) قال: لم يحلب، وخُفِضت اللذة على
النعت للخمر، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز، أو نصبا
على يتلذّذ بها لذة، كما يقال: هذا لك هبة. كان جائزا ; فأما
القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء
عليها.
__________
(1) في اللسان: الفوح: وجدانك الريح الطيبة. فاحت ريح المسك
تفوح وتفيح، فوحا وفيحا. وفوحانا فيحانا: انتشرت رائحته.
(22/167)
وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)
يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفِّي من القَذى، وما يكون في
عسل أهل الدنيا قبل التصفية، إنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه
ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلا جاريا
سيل الماء واللبن المخلوقين فيها، فهو من أجل ذلك مصفًّى، قد
صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا
يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية، لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يقول تعالى
ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا
من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في
الدنيا، ثم تابوا منها، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) يقول تعالى ذكره:
أمَّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا، كمن هو خالد في
النار. وابتُدئ الكلام بصفة الجنة، فقيل: مثل الجنة التي وعد
المتقون، ولم يقل: أمَّن هو في الجنة. ثم قيل بعد انقضاء الخبر
عن الجنة وصفتها (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) . وإنما
قيل ذلك كذلك، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام، ولدلالة
قوله (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) على معنى قوله
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) .
وقوله (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء
الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من
شدّة حرّه أمعاءهم.
كما حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ، قال: ثنا حَيْوة بن شُريح
الحِمصِيّ، قال: ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، قال: ثني عبيد
الله بن بشر، عن أبي أُمامة الباهلي، عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقوله (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ
يَتَجَرَّعُهُ) قال: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ،
فإذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ
رأْسِهِ، فإذَا شَرِبَ قَطَّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ
دُبُرِهِ. قال: يقول الله (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ) يقول الله عزّ وجلّ
(22/168)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
(يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ
إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ (16) }
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء الكفار يا محمد (مَنْ يَسْتَمِعُ
إِلَيْكَ) وهو المنافِق، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه،
تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك، تغافلا عما تقوله،
وتدعو إليه من الإيمان، (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ)
قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب
الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقيلك لهم ما قلت إنهم لن
يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك (مَاذَا قَالَ) لنا محمد
(آنِفًا) ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِكَ) هؤلاء المنافقون، دخل رجلان: رجل ممن عقل عن
الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع،
كان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) قال: هم المنافقون.
وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع فعامل، وسامع فغافل، وسامع
فتارك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا شريك، عن
عثمان أبي اليقظان، عن يحيى بن الجزّار، أو سعيد بن جُبير، عن
ابن عباس، في قوله (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا)
قال ابن عباس: أنا منهم، وقد سُئِلت فيمن سُئِل.
(22/169)
وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد في قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى
إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) ... إلى آخر الآية، قال: هؤلاء
المنافقون، والذين أُوتُوا العلم: الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم
الله على قلوبهم، فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله
عليه الصلاة والسلام (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يقول:
ورفضوا أمر الله، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم، فهم لا يرجعون
مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان، وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة
هؤلاء المنافقين وبين المشركين، في أن جميعهم إنما يتبعون فيما
هم عليه من فراقهم دين الله، الذي ابتعث به محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أهواءهم، فقال في هؤلاء المنافقين:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) وقال في أهل الكفر به من أهل
الشرك، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا
السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ
أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
(18) }
يقول تعالى ذكره: وأما الذين وفَّقهم الله لاتباع الحقّ، وشرح
صدورهم للإيمان به وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد، فإن
ما تلوته عليهم، وسمعوه منك (زَادَهُمْ هُدًى) يقول: زادهم
الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم، وبيانا لحقيقة ما جئتهم به من
عند الله إلى البيان الذي كان عندهم. وقد ذُكر أن الذي تلا
عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من القرآن،
فقال أهل النفاق منهم لأهل الإيمان، ماذا قال آنفا، وزاد الله
أهل الهدى منهم هدى، كان بعض ما أنزل الله من القرآن ينسخ بعض
ما قد كان الحكم مضى به قبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
(22/170)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ) قال: لما أنزل الله القرآن آمنوا به، فكان هدى،
فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى.
وقوله (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) يقول تعالى ذكره: وأعطى الله
هؤلاء المهتدين تقواهم، وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه.
وقوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يقول تعالى ذكره: فهل
ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من أهل الكفر والنفاق إلا
الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء، أن
تجيئهم فجأة لا يشعرون بمجيئها. والمعنى: هل ينظرون إلا
الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. و (أَنْ) من قوله (إِلا
أَنْ) في موضع نصب بالردّ على الساعة، وعلى فتح الألف من (أَنْ
تَأْتِيَهُمُ) ونصب (تأتيهم) بها قراءة أهل الكوفة.
وقد حُدثت عن الفرّاء، قال: حدثني أبو جعفر الرُّؤاسيّ، قال:
قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما هذه الفاء التي في قوله (فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا) قال: جواب الجزاء، قال: قلت: إنها إن
تأتيهم، قال: فقال: معاذ الله، إنما هي "إنْ تَأْتِهِمْ "; قال
الفرّاء: فظننت أنه أخذها عن أهل مكة، لأنه قرأ، قال الفرّاء:
وهي أيضا في بعض مصاحف الكوفيين بسنة واحدة "تَأْتِهِمْ" ولم
يقرأ بها أحد منهم.
وتأويل الكلام على قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف "إن" وجزم
"تأتهم" فهل ينظرون إلا الساعة؟ فيجعل الخبر عن انتظار هؤلاء
الكفار الساعة متناهيا عند قوله (إِلا السَّاعَةَ) ، ثم
يُبْتدأ الكلام فيقال: إن تأتهم الساعة بغتة فقد جاء أشراطها،
فتكون الفاء من قوله (فَقَدْ جَاءَ) بجواب الجزاء.
وقوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يقول: فقد جاء هؤلاء
الكافرين بالله الساعة وأدلتها ومقدماتها، وواحد الأشراط: شرط،
كما قال جرير:
(22/171)
تَرَى شَرَطَ المِعْزَى مُهورَ نِسائِهم
... وفي شُرَطِ المِعْزَى لهُنَّ مُهُورُ (1)
ويُروَى: "ترى قَزَم المِعْزَى"، يقال منه: أشرط فلان نفسه:
إذا علمها بعلامة، كما قال أوس بن حجر:
فأَشْرَطَ فيها نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ ... وألْقَى بأسْبابٍ
لَهُ وَتَوَكَّلا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يعني: أشراط
الساعة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) قد دنت الساعة ودنا من الله فراغ العباد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) قال: أشراطها: آياتها.
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي الشاعر الإسلامي (ديوانه 226) وفي
روايته: " وفي قزم المعزي لهن مهور ". وهو من شواهد أبي عبيدة
في مجاز القرآن (الورقة 223) قال عند قوله تعالى: " فقد جاء
أشراطها ": أعلامها. وإنما سمي الشرط فيما نرى، أنهم أعلموا
أنفسهم. وأشراط المال صغار الغنم وشراره. وقال جرير: " ترى شرط
... البيت ". وفي (اللسان: شرط) : والشرط (بالتحريك) : رذال
الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء. قال جرير: تساق من
المعزى مهور نسائهم ... ومن شرط المعزى لهن مهور
وشرط الناس: خشارتهم+.
(2) البيت لأوس بن حجر (اللسان: شرط) قال: الأصمعي: أشراط
الساعة علاماتها. قال: ومنه الاشتراط الذي يشترط الناس بعضهم
على بعض، أي هي علامات يجعلونها بينهم. ولهذا سميت الشرط،
لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. وحكى الخطابي عن بعض
أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير وقال: أشراط الساعة: ما تنكره
الناس من صغار أمورها، قبل أن تقوم الساعة. وشرط السلطان: نخبة
أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده. وقول أوس بن حجر "
فأشرط فيها ... البيت " أي جعل نفسه علمًا لهذا الأمر.
(22/172)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
وقوله (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ
ذِكْرَاهُمْ) يقول تعالى ذكره: فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين
بآيات الله ذكرى ما قد ضيَّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا
جاءتهم الساعة، يقول: ليس ذلك بوقت ينفعهم التذكر والندم، لأنه
وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) يقول: إذا
جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا ويعرفوا ويعقلوا؟.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) قال:
أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) قال: الساعة،
لا ينفعهم عند الساعة ذكراهم، والذكرى في موضع رفع بقوله
(فَأَنَّى لَهُمْ) لأن تأويل الكلام: فأنى لهم ذكراهم إذا
جاءتهم الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة، ويجوز
لك وللخلق عبادته، إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء،
يدين له بالربوبية كل ما دونه (وَاسْتَغْفِرْ
(22/173)
لِذَنْبِكَ) وسل ربك غفران سالف ذنوبك
وحادثها، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء (وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) يقول: فإن الله يعلم
متصرفكم فيما تتصرّفون فيه في يقظتكم من الأعمال، ومثواكم إذا
ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلا لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو
مجازيكم على جميع ذلك.
وقد حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا
إبراهيم بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال:
"أكلت مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت: غفر
الله لك يا رسول الله، فقال رجل من القوم: أستغفر لك يا رسول
الله، قال: نَعَمْ وَلَكَ، ثم قرأ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
(22/174)
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا
اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ
صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) }
يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نزلت
سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار (فَإِذَا
أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) يعني: أنها محكمة بالبيان
والفرائض. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (فَإِذَا أُنزلَتْ
سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ) .
وقوله (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) يقول: وذُكر فيها الأمر
بقتال المشركين.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا
نزلَتْ
(22/174)
سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) قال: كلّ سورة ذُكر
فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشدّ القرآن على المنافقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) قال كل سورة ذُكر فيها القتال
فهي محكمة.
وقوله (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يقول: رأيت
الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ)
يا محمد، (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ،
خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، فهم خوفا من ذلك
وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد
صرع. وإنما عنى بقوله (مِنَ الْمَوْتِ) من خوف الموت، وكان هذا
فعل أهل النفاق.
كالذي حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ) قال: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم، فلا
يفقهون ما يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله (فَأَوْلَى لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين
في قلوبهم مرض.
وقوله (فَأَوْلَى لَهُمْ) وعيد توعَّد الله به هؤلاء
المنافقين.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (فَأَوْلَى لَهُمْ) قال: هذه وعيد، فأولى لهم، ثم انقطع
الكلام فقال: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَأَوْلَى لَهُمْ) قال: وعيد كما تسمعون.
وقوله (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وهذا خبر من الله تعالى
ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة، ويذكر
فيها القتال، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد،
قالوا: سمع وطاعة، فقال الله عزّ وجلّ
(22/175)
لهم (فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ) وفرض
القتال فيها عليهم، فشقّ ذلك عليهم، وكرهوه (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) قبل وجوب الفرض عليكم، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ
عليكم.
وقوله (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مرفوع بمضمر، وهو قولكم
قبل نزول فرض القتال (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .
ورُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى أنه قال: قال الله تعالى
(فَأَوْلَى لَهُمْ) ثم قال للذين آمنوا منهم (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى، ثم يستأنف بعد،
فيقال لهم (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فتكون الطاعة مرفوعة
بقوله (لهم) .
وكان مجاهد يقول في ذلك كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو
عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) قال: أمر الله بذلك المنافقين.
وقوله (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) يقول: فإذا وجب القتال وجاء
أمر الله بفرض ذلك كرهتموه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) قال: إذا جد الأمر،
هكذا قال محمد بن عمرو في حديثه، عن أبي عاصم، وقال الحارث في
حديثه، عن الحسن يقول: جدّ الأمر.
وقوله (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يقول
تعالى ذكره: فلو
(22/176)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
(23)
صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة
بالقتال بقولهم: إذ قيل لهم: إن الله سيأمركم بالقتال طاعة،
فَوَفَّوا له بذلك، لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم، وآجل
معادهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) يقول: طواعيه الله ورسوله، وقول
معروف عند حقائق الأمور خير لهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعمر، عن قتادة
يقول: طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة،
وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم نظر المغشيّ عليه (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أيها القوم،
يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيل الله جلّ ثناؤه، وفارقتم
أحكام كتابه، وأدبرتم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وعما جاءكم به (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) يقول: أن تعصوا
الله في الأرض، فتكفروا به، وتسفكوا فيها الدماء
(وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) وتعودوا لما كنتم عليه في
جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام،
وألَّف به بين قلوبكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ... الآية. يقول: فهل
عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا
الدم الحرام، وقطَّعوا الأرحام، وعَصَوا الرحمن.
(22/177)
أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
(24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) قال:
فعلوا.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال:
أخبرنا محمد بن جعفر وسليمان بن بلال، قالا ثنا معاوية بن أبي
المزرّد المديني، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "خَلَقَ اللهُ
الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرغ مِنْهُمْ تَعَلَّقَتِ الرَّحِمُ
بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقالَ مَهْ: فَقالَتْ: هَذَا مَقامُ
العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: أَفمَا تَرْضَيْنَ أَنْ
أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، وَأصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ قالَتْ:
نَعَمْ، قالَ: فَذلكِ لَكِ".
قال سليمان في حديثه: قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) وقد تأوّله بعضهم: فهل عسيتم إن
توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بمعنى الولاية، وأجمعت
القرّاء غير نافع على فتح السين من عَسَيتم، وكان نافع يكسرها
عَسِيتم.
والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين لإجماع الحجة من القرّاء
عليها، وأنه لم يسمع في الكلام: عَسِيَ أخوك يقوم، بكسر السين
وفتح الياء; ولو كان صوابا كسرها إذا اتصل بها مكنّى، جاءت
بالكسر مع غير المكنّى، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم
الظاهر، الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكنّى، وإن التي
تَلِي عسيتم مكسورة، وهي حرف حزاء، و "أن" التي مع تفسدوا في
موضع نصب بعسيتم.
وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) يقول تعالى
ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا، يعني الذين يفسدون ويقطعون
الأرحام الذين لعنهم الله، فأبعدهم من رحمته فأصمهم، يقول:
فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنزيله
(وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) يقول: وسلبهم عقولهم، فلا يتبيَّنون
حُجج الله، ولا يتذكَّرون ما يرون من عبره وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
أَمْ عَلَى
(22/178)
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
(25) }
يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي
يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة
والسلام، ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنزيله
فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا) يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما
أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا) إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله،
لو تدبره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند
ذلك.
حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ثور
بن يزيد، عن خالد بن مَعدان، قال: ما من آدميّ إلا وله أربع
أعين: عينان في رأسه لدنياه، وما يصلحه من معيشته، وعينان في
قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا
أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ
عليهما، فذلك قوله (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا ثور بن
يزيد، قال: ثنا خالد بن معدان، قال: ما من الناس أحد إلا وله
أربع أعين، عينان في وجهه لمعيشته، وعينان في قلبه، وما من أحد
إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره، عاطف عنقه على عنقه، فاغر فاه
إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان
في قلبه ما وعد الله من الغيب، فعمل به، وهما غيب،
(22/179)
فعمل بالغيب، وإذا أراد الله بعبد شرّا
تركه، ثم قرأ (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو، عن ثور، عن
خالد بن مَعدَان بنحوه، إلا أنه قال: ترك القلب على ما فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا حماد بن
زيد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: "تلا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوما (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فقال شاب من أهل
اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو
يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي
فاستعان به ".
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) يقول الله عزّ وجلّ إن
الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين
لهم الحقّ وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجة، ثم آثروا الضلال
على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) هم أعداء الله أهل الكتاب،
يعرفون بعث محمد نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وأصحابه عندهم، ثم يكفرون به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) إنهم يجدونه
مكتوبا عندهم.
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النفاق.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِهِمْ) ... إلى قوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) هم
أهل النفاق.
(22/180)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى
عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ... إلى
(إِسْرَارَهُمْ) هم أهل النفاق. وهذه الصفة بصفة أهل النفاق
عندنا، أشبه منها بصفة أهل الكتاب، وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر
أن ردّتهم كانت بقيلهم (لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) ولو كانت من صفة أهل
الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل
قيلهم ما قالوا.
وقوله (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول
تعالى ذكره: الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم، من بعد ما
تبين لهم الهدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول: زين
لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَوَّلَ
لَهُمْ) يقول: زين لهم.
وقوله (وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول: ومدّ الله لهم في آجالهم
مُلاوة من الدهر، ومعنى الكلام: الشيطان سوّل لهم، والله أملى
لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز
والكوفة (وَأَمْلَى لَهُمْ) بفتح الألف منها بمعنى: وأملى الله
لهم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة (وَأُمْلِيَ لَهُمْ)
على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه
(وَأُمْلِي) بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ
ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم.
وأولى هذه القراءات بالصواب، التي عليها عامة قرّاء الحجاز
والكوفة من
(22/181)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
فتح الألف في ذلك، لأنها القراءة المستفيضة
في قراءة الأمصار، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) }
يقول تعالى ذكره: أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم، والشيطان
سول لهم، فلم يوفقهم للهدى من أجل أنهم (قَالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ) من الأمر بقتال أهل الشرك به من
المنافقين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) الذي هو خلاف
لأمر الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ
اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) فهؤلاء المنافقون
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) يقول تعالى ذكره: والله
يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق، على خلاف
أمر الله وأمر رسوله، إذ يتسارّون فيما بينهم بالكفر بالله
ومعصية الرسول، ولا يخفى عليه ذلك ولا غيره من الأمور كلها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة
والبصرة (أَسْرَارَهُمْ) بفتح الألف من أسرارهم على وجه جماع
سرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (إِسْرَارَهُمْ) بكسر الألف
على أنه مصدر من أسررت إسرارا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا
المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ
(22/182)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
(29)
اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ (28) }
يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين، فكيف لا
يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم،
يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار:
الأعجاز، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)
يقول تعالى ذكره: تفعل الملائكة هذا الذي وصفت بهؤلاء
المنافقين من أجل أنهم اتبعوا ما أسخط الله، فأغضبه عليهم من
طاعة الشيطان (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) يقول: وكرهوا ما يرضيه
عنهم من قتال الكفار به، بعد ما افترضه عليهم.
وقوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فأبطل الله ثواب
أعمالهم وأذهبه، لأنها عملت في غير رضاه ولا محبته، فبطلت، ولم
تنفع عاملها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
(29) وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }
(22/183)
وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ
نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ (30) }
يقول تعالى ذكره: أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شكّ في
دينهم، وضعف في يقينهم، فهم حيارى في معرفة الحقّ أن لن يُخرج
الله ما في قلوبهم من الأضغان على المؤمنين، فيبديه لهم
ويظهره، حتى يعرفوا نفاقهم، وحيرتهم في دينهم (وَلَوْ نَشَاءُ
لأرَيْنَاكَهُمْ) يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء
المنافقين حتى تعرفهم من قول القائل: سأريك ما أصنع، بمعنى
سأعلمك.
(22/183)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقوله: (فلعرفتهم بسيماهم) يقول: فلتعرفهم بعلامات النفاق
الظاهرة منهم في فحوى كلامهم وظاهر أفعالهم ثم إن الله تعالى
ذكره عرفه إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ)
... إلى آخر الآية، قال: هم أهل النفاق، وقد عرّفه إياهم في
براءة، فقال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، وقال: (فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... الآية، هم أهل النفاق
(فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ) فعرّفه الله إياهم في سوره براءة، فقال:
(وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) ، وقال
(قل لهم لن تَنْفِرُوا (1) معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) قال: هؤلاء المنافقون، قال:
والذي أسروا من النفاق هو الكفر.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَوْ
نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) قال:
هؤلاء المنافقون، قال: وقد أراه الله إياهم، وأمر بهم أن
يخرجوا من المسجد، قال: فأبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا الله;
فلما أبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا إلله حُقِنت دماؤهم،
ونكحوا ونوكحوا بها.
__________
(1) التلاوة " لن تخرجوا"
(22/184)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ
شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
وقوله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ) يقول: ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم
نحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) قال قولهم: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ) لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته، والمخالف
ذلك، وهو مجازي جميعكم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أيها المؤمنون
بالقتل، وجهاد أعداء الله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ) يقول: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله
منكم، وأهل الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوو
البصائر منكم في دينه من ذوي الشكّ والحيرة فيه وأهل الإيمان
من أهل النفاق ونبلو أخباركم، فنعرف الصادق منكم من الكاذب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، قوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ) ، وقوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) ونحو هذا قال: أخبر الله سبحانه
المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم
بالصبر، وبشَّرهم فقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ثم أخبرهم
أنه هكذا فعل بأنبيائه، وصفوته لتطيب أنفسهم،
(22/185)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) فالبأساء: الفقر، والضّراء:
السقم، وزُلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) قال: نختبركم، البلوى: الاختبار.
وقرأ (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) قال: لا يختبرون (وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... الآية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بالنون (نبلو) و
(نعلم) ، ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ جلاله عن نفسه، سوى
عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا لإجماع
الحجة من القراء عليها، وإن كان للأخرى وجه صحيح.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا
الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) يقول: وخالفوا رسوله
محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فحاربوه وآذَوه من بعد
ما علموا أنه نبيّ مبعوث، ورسول مرسل، وعرفوا الطريق الواضح
بمعرفته، وأنه لله رسول.
وقوله (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) لأن الله بالغ أمره،
وناصر رسوله، ومُظهره على من عاداه وخالفه (وَسَيُحْبِطُ
أَعْمَالَهُمْ) يقول: وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا
فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الآخرة، ويبطلها إلا مما يضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) }
(22/186)
فَلَا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
يقول تعالى ذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا) بالله ورسوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) في أمرهما ونهيهما (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ) يقول: ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما، وكفركم
بربكم ثواب أعمالكم فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل
الصالح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ... الآية، من
استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا عمله بعمل سيئ فليفعل، ولا
قوة إلا بالله، فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن
ملاك الأعمال خواتيمها.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يقول تعالى ذكره: إن
الذين أنكروا توحيد الله، وصدوا من أراد الإيمان بالله وبرسوله
عن ذلك، ففتنوهم عنه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من ذلك، ثم
ماتوا وهم كفار: يقول: ثم ماتوا وهم على ذلك من كفرهم (فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) يقول: فلن يعفو الله عما صنع من ذلك،
ولكنه يعاقبه عليه، ويفضحه به على رءوس الأشهاد.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) }
يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد
المشركين وتجبُنوا عن قتالهم. كما حدثني محمد بن عمرو، قال:
ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/187)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلا تَهِنُوا) قال:
لا تضعفوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَلا تَهِنُوا) لا تضعف أنت.
وقوله (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ)
يقول: لا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة، وأنتم
القاهرون لهم والعالون عليهم (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) يقول: والله
معكم بالنصر لكم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في
معنى قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) فقال بعضهم: معناه: وأنتم
أولى بالله منهم. وقال بعضهم: مثل الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك، وقال معنى قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) أنتم
أولى بالله منهم.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي
يحدّث، عن قتادة، في قوله (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ) قال: أي لا تكونوا أولى الطائفتين تصرع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا
تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قال: لا تكونوا أولى
الطائفتين صرعت لصاحبتها، ودعتها إلى الموادعة، وأنتم أولى
بالله منهم والله معكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قال: لا تكونوا
أولى الطائفتين صرعت إلى صاحبتها (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ)
قال: يقول: وأنتم أولى بالله منهم ذكر من قال معنى قوله
(وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) : أنتم الغالبون الأعزّ منهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/188)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله (وَأَنْتُمُ
الأعْلَوْنَ) قال: الغالبون مثل يوم أُحد، تكون عليهم الدائرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله
(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الأعْلَوْنَ) قال: هذا منسوخ، قال: نسخه القتال والجهاد، يقول:
لا تضعف أنت وتدعوهم أنت إلى السلم وأنت الأعلى، قال: وهذا حين
كانت العهود والهدنة فيما بينه وبين المشركين قبل أن يكون
القتال، يقول: لا تهن فتضعف، فيرى أنك تدعو. إلى السلم وأنت
فوقه، وأعزّ منه (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) أنتم أعزّ منهم، ثم
جاء القتال بعد فنسخ هذا أجمع، فأمره بجهادهم والغلظة عليهم.
وقد قيل: عنى بقوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) وأنتم الغالبون
آخر الأمر، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وقهروكم في بعض الحروب.
وقوله (فَلا تَهِنُوا) جزم بالنهي، وفي قوله (وَتَدْعُوا)
وجهان: أحدهما الجزم على العطف على تهنوا، فيكون معنى الكلام:
فلا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم، والآخر النصب على الصرف.
وقوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يقول: ولن يظلمكم
أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها، من قولهم: وترت الرجل إذا قتلت
له قتيلا فأخذت له مالا غصبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله يقول (وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ) يقول: لن يظلمكم أجور أعمالكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/189)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
أَضْغَانَكُمْ (37)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) قال: لن ينقصكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) : أي لن يظلمكم أعمالكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله
(وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) قال: لن يظلمكم، أعمالكم
ذلك يتركم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)
قال: لن يظلمكم أعمالكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ
يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
أَضْغَانَكُمْ (37) }
يقول تعالى ذكره: حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه،
والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا
أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم
الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب
ولهو، إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه. فأما
ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو، يضمحلّ فيذهب ويندرس فيمرّ، أو
إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) يقول: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي
ما كان فيها مما هو لها، فلعب ولهو، فتؤمنوا به وتتقوه بأداء
فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل
بطول اللهو واللعب، ثم يؤتكم ربكم عليه أجوركم، فيعوّضكم منه
ما هو خير لكم
(22/190)
هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ
لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
منه يوم فقركم، وحاجتكم إلى أعمالكم (وَلا
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) يقول: ولا يسألكم ربكم أموالكم،
ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد
الألوهية والطاعة له (إن يسألكموها) : يقول جلّ ثناؤه: إن
يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يقول: فيجهدكم بالمسألة، ويلحّ
عليكم بطلبها منكم فيلحف، تبخلوا: يقول: تبخلوا بها وتمنعوها
إياه، ضنا منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم فلم
يسألكموها.
وقوله (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) يقول: ويخرج جلّ ثناؤه لو
سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم قال: قد علم الله أن
في مسألته المال خروج الأضغان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) قال: الإحفاء: أن تأخذ كل شيء بيديك
(1) .
القول في تأويل قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ
الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِ لْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ (38) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: (ها أنْتُمْ) أيها الناس (هَؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: تدعون إلى
النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه (فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ) بالنفقة فيه، وأدخلت "ها" في موضعين، لأن العرب إذا
أرادت التقريب جعلت المكنّى بين "ها" وبين "ذا"، فقالت: ها أنت
ذا قائما، لأن التقريب جواب الكلام، فربما أعادت "ها" مع "ذا"،
وربما اجتزأت بالأولى، وقد حُذفت الثانية، ولا يقدّمون أنتم
قبل "ها"، لأن ها
__________
(1) في (اللسان: حفا) : أحفى فلان فلانا: إذا برج به في
الإلحاف عليه، أو سأله فأكثر عليه في الطلب.
(22/191)
جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)
يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله، فإنما يبخل
عن بخل نفسه، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل
الله، ولكن كانت تجود بها (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ) يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى
أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء
إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على
النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا
يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ) قال: ليس بالله تعالى ذكره إليكم حاجة وأنتم
أحوج إليه.
وقوله تعالى ذكره: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ) يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا
الدين الذي جاءكم. به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فترتدّوا راجعين عنه (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) يقول:
يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به،
ويعملون بشرائعه (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) يقول: ثم
لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون
شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون
به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا
(22/192)
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) يقول: إن
توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم. قادر والله ربنا
على ذلك على أن يهلكهم، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) قال:
إن تولوا عن طاعة الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (1) .
وذُكر أنه عنى بقوله (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) :
العجم من عجم فارس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بزيع البغدادي أبو سعيد، قال: ثنا إسحاق بن منصور،
عن مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي
هريرة، قال: "لما نزلت (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) كان
سلمان إلى جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلوا
بنا، قال: فضرب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على منكب
سلمان، فقال: من هذا وقومه، والذي نفسي بيده لَوْ أنَّ الدّينَ
تَعَلَّقَ بالثُّرَيَّا لَنالَتْهُ رِجالٌ من أهْل فارِس".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلم بن خالد،
عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة " أن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تلا هذه الآية (وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين
إن تولَّينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا، فضرب على فخذ
سلمان قال: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كانَ الدِّينُ عِنْدَ
الثُّرَيَّا لَتنَاولَهُ رِجالٌ مِنَ الفُرْسِ".
__________
(1) لم يأت بالتأويل هنا، اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، لأن
الرواية في الحديثين عن يونس بن عبد الأعلى.
(22/193)
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ، قال: ثنا
عبد الله بن الوليد العَدَني، قال: ثنا مسلم بن خالد، عن
العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "نزلت هذه الآية وسلمان
الفارسيّ إلي جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
تحكّ ركبته ركبته (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قالوا: يا رسول
الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا،
قال: فضرب فخذ سلمان ثم قال: هَذَا وَقَوْمُهُ".
وقال: مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء
جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ) من شاء.
وقال آخرون: هم أهل اليمن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عوف الطائيّ، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا
صفوان بن عمرو، قال: ثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير
وشريح بن عبيد، في قوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قال:
أهل اليمن.
آخر تفسير سورة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
(22/194)
|