تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)

تفسير سورة القمر بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) }
يعني تعالى ذكره بقوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) : دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة، وقوله (اقْتَرَبَتِ) افتعلت من القُرب، وهذا من الله تعالى ذكره إنذار لعباده بدنوّ القيامة، وقرب فناء الدنيا، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم، وهم عنها في غفلة ساهون.
وقوله (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) يقول جلّ ثناؤه: وانفلق القمر، وكان ذلك فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قبل هجرته إلى المدينة، وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية، فآراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، آية حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوّته; فلما أراهم أعرضوا وكذبوا، وقالوا: هذا سحر مستمرّ، سحرنا محمد، فقال الله جلّ ثناؤه (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
وينحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار، وقال به أهل التأويل.
* ذكر الآثار المروية بذلك، والأخيار عمن قاله من أهل التأويل:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " أن أنس بن مالك حدثهم أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرّتين ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال:

(22/565)


سمعت قتادة يحدّث، عن أنس، قال: انشق القمر فرقتين.
حدثنا ابن المثنى والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالا ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسا يقول: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حدثني يعقوب الدورقيّ، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: سمعت أنسا يقول: فذكر مثله.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين ".
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما".
حدثني أبو السائب، قال: ثنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبى معمر، عن عبد الله، قال: " انشقّ القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى حتى ذهبت منه فرقة خلف الجبل، فقال

(22/566)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا ".
حدثني إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا النضر بن شميل المازنيّ، قال: أخبرنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله، قال " تفلَّق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فكانت فرقة على الجبل، وفرقة من ورائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُم اشْهَدْ ".
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عمر، مثل حديث إبراهيم في القمر.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن رجل، عن عبد الله، قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فانشقّ القمر، فأخذت فرقة خلق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا ".
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: "رأيت الجبل من فرج القمر حين انشقّ".
حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن المُغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: "انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كَبْشة سحركم فسلوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله تبارك وتعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله قال: "قد مضى انشقاق القمر".
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: عبد الله " خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا أيوب، عن محمد، قال: نُبِّئت أن ابن مسعود كان يقول: قد انشقَ القمر.
قال: أخبرنا ابن علية، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السُلَميّ، قال: "نزلنا المدائن، فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة، فحضر أبي، وحضرت معه، فخطبنا حُذيفة، فقال: ألا إن الله يقول (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا

(22/567)


وإن القمر قد انشقّ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المِضمار، وغدا السباق، فقلت لأبي: أتستبق الناس غدا؟ فقال: يا بنيّ إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال، ثم جاءت الجمعة الأخرى، فحضرنا، فخطب حُذيفة، فقال: ألا إن الله تبارك وتعالى يقول (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد أقتربت، ألا وإن القمر قد انشقّ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سَبق إلى الجنة ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: "كنت مع أبي بالمدائن، قال: فخطب أميرهم، وكان عطاء يروي أنه حُذيفة، فقال في هذه الآية: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قد اقتربت الساعة وانشقّ القمر، قد اقتربت الساعة وانشق القمر، اليوم المضمار، وغدا السباق، والسابق من سبق إلى الجنة، والغاية النار; قال: فقلت لأبي: غدا السباق، قال: فأخبره".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن فضيل، عن حصين، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: " انشقّ القمر، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن الحصين بن عبد الرحمن، عن ابن جُبَير، عن أبيه (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: انشقّ ونحن بمكة.
حدثنا محمد بن عسكر، قال: ثنا عثمان بن صالح وعبد الله بن عبد الحكم، قالا ثنا بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عِرَاك، (1) عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عباس، قال: " انشقّ القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: " انشقّ القمر قبل الهجرة، أو قال: قد مضى ذاك ".
حدثنا إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن علي، عن ابن عباس بنحوه.
__________
(1) ضبطه في التاج بوزن كتاب.

(22/568)


حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن علي، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: ذاك قد مضى كان قبل الهجرة، انشقّ حتى رأوا شِقيه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ... إلى قوله (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال: قد مضى، كان قد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأعرض المشركون وقالوا: سحر مستمرّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: رأوه منشقا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور وليث عن مجاهد (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: انفلق القمر فلقتين، فثبتت فلقة، وذهبت فلقة من وراء الجبل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اشْهَدُوا".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ليث، عن مجاهد " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: اشْهَدْ يا أبا بَكْرٍ فقال المشركون: سحر القمر حتى انشقّ".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، قال: قدم رجل المدائن فقام فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وإن القمر قد انشقّ، وقد آذنت الدنيا بفراق، اليوم المِضْمار، وغدا السباق، والسابق. من سبق إلى الجنة، والغاية النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) يحدث الله في خلقه ما يشاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن

(22/569)


أنس، قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم آية، فانشقّ القمر بمكة مرّتين، فقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قد مضى، كان الشقّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأعرض عنه المشركون، وقالوا: سِحْر مستمرّ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: مضى انشقاق القمر بمكة.
وقوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) يقول تعالى ذكره. وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ودلالة تدلهم على صدقة فيما جاءهم به عن ربهم، يعرضوا عنها، فيولوا مكذّبين بها مُنكرين أن يكون حقا يقينا، ويقولوا تكذيبا منهم بها، وإنكارا لها أن تكون حقا: هذا سحر سَحَرَنا به محمد حين خَيَّلَ إلينا أنا نرى القمر منفلقا باثنين بسحره، وهو سحر مستمرّ، يعني يقول: سحر مستمرّ ذاهب، من قولهم: قد مرّ هذا السحر إذا ذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال: ذاهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال: إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا: إنما هذا عمل السحر، يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يقول: ذاهب.

(22/570)


وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) كما يقول أهل الشرك إذا كُسف القمر يقولون: هذا عمل السحرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قوله (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال: حين انشق القمر بفلقتين: فلقة من وراء الجبل، وذهبت فلقة أخرى، فقال المشركون حين رأوا ذلك: سحر مستمرّ.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يوجه قوله (مُسْتَمِرٌّ) إلى أنه مستفعل من الإمرار من قولهم: قد مرّ الجبل: إذا صلب وقوي واشتدّ وأمررته أنا: إذا فتلته فتلا شديدا، ويقول: معنى قوله (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : سحر شديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) }
يقول تعالى ذكره: وكذّب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها، وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يقول: وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما جاءهم به من ربهم.
وقوله (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) يقول تعالى ذكره: وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقر قراره، ومتناه نهايته، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشرّ مستقرّ بأهله في النار.

(22/571)


كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : أي بأهل الخير الخير، وبأهل الشرّ الشرّ.
وقوله (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) يقول تعالى ذكره: ولقد جاء هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم من الأخبار عن الأمم السالفة، الذين كانوا من تكذيب رسل الله على مثل الذي هم عليه، وأحلّ الله بهم من عقوباته ما قصّ في هذا القرآن ما فيه لهم مزدجر، يعني: ما يردعهم، ويزجرهم عما هم عليه مقيمون، من التكذيب بآيات الله، وهو مُفْتَعَلٌ من الزَّجْر.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مُزْدَجَرٌ) قال: مُنتهى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) : أي هذا القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) قال: المزدَجَر: المنتهى.
وقوله (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) يعني بالحكمة البالغة: هذا القرآن، ورُفعت الحكمةُ ردّا على "ما" التي في قوله (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) .
وتأويل الكلام: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدَجَر، حكمة بالغة. ولو رُفعت الحكمة على الاستئناف كان جائزا، فيكون معنى الكلام حينئذ: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر، ذلك حكمة بالغة، أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها.

(22/572)


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)

وقوله (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) وفي "ما" التي في قوله (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى الجحد، فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام، فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها، لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها. والآخر: أن تكون بمعنى: أنى، فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك: فأي شيء تُغني عنهم النُّذر. والنُّذر: جمع نذير، كالجُدُد: جمع جديد، والحُصُر: جمع حَصير.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) }

(22/573)


خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

القول في تأويل قوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) }
يعني تعالى ذكره بقوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين من قومك، الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سِحْر مستمرّ، فإنهم يوم يدعو داعي الله إلى موقف القيامة، وذلك هو الشيء النُّكُر (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) يقول: ذليلة أبصارهم خاشعة، لا ضرر بها (يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ) وهي جمع جدث، وهي القبور، وإنما وصف جلّ ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم، والمراد به جميع أجسامهم، لأن أثر ذلة كل ذليل، وعزّة كل عزيز، تتبين في ناظريه دون سائر جسده، فلذلك خصّ الأبصار بوصفها بالخشوع.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ) : أي ذليلة أبصارهم.

(22/573)


واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين الكوفيين (خُشَّعًا) بضم الخاء وتشديد الشين، بمعنى خاشع; وقرأه عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين (خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ) بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة عبد الله، وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) ، وألحقوه وهو بلفظ الاسم في التوحيد، إذ كان صفة بحكم فَعَلَ ويَفْعَل في التوحيد إذا تقدّم الأسماء، كما قال الشاعر:
وشَبابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهمْ ... مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بْنِ مَعَد (1)
فوحد حَسَنا وهو صفة للأوجه، وهي جمع; وكما قال الآخر:
يَرْمي الفِجاجَ بِها الرُّكبانَ مُعْترِضًا ... أعْناقَ بُزَّلِها مُرْخَى لَها الجُدُلُ (2)
فوحد معترضا، وهي من صفة الأعناق، والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بيَّنا.
وقوله (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) يقول تعالى ذكره: يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتَشر.
__________
(1) البيت للحارس بن دوس الإيادي، ويروى لأبي داود الإيادي، (هامش القرطبي 17: 129) والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 317) قال: إذا تقدم الفعل قبل اسم مؤنث، وهو له، أو قبل جمع مؤنث مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه، وقد أتى بذلك في هذا الحرف، فقرأه ابن عباس: " خاشعا أبصارهم " حدثني بذلك هشيم وأبو معاوية، عن وائل بن داود، عن مسلم بن يسار، عن ابن عباس، أنه قراه " خاشعا ". قال: وحدثني هشيم، عن عوف الأعرابي، عن الحسن وأبي رجاء العطاردي: أن أحدهما قال: " خاشعا " والآخر: " خشعا " قال الفراء: وهي في قراءة عبد الله (ابن مسعود) : " خاشعة أبصارهم ". وقرأ الناس بعد: " خشعا أبصارهم "، وقد قال الشاعر: " وشباب حسن ... " البيت.
(2) وهذا الشاهد كذلك من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 317) على أنه إذا تقدم الفعل وشبهه قبل اسم مؤنث (جمع تكسير) مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه. وقال الفراء تعليقًا على هذا البيت: الجدل: جمع الجديل: وهو الزمام. فلو قال معترضات أو معترضة، لكان صوابا، ومرخاة ومرخيات أ. هـ.

(22/574)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)

وقوله (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) يقول: مسرعين بنظرهم قِبَلَ داعيهم إلى ذلك الموقف. وقد بيَّنا معنى الإهطاع بشواهده المغنية عن الإعادة، ونذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الرواية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عثمان بن يسار، عن تميم بن حَذْلم قوله: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) قال: هو التحميج.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سفيان، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) قال: التحميج.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) قال: هكذا أبصارهم شاخصة إلى السماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) : أي عامدين إلى الداعي.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مُهْطِعِينَ) يقول: ناظرين.
وقوله (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) يقول تعالى ذكره: يقول الكافرون بالله يوم يدع الداعي إلى شيء نكُر: هذا يوم عسر. وإنما وصفوه بالعسر لشدة أهواله وبَلْباله.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) }
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره، وتهديد للمشركين من أهل مكة وسائر من أرْسَل إليه رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه، وتقدم منه إليهم إن هم لم ينيبوا من تكذيبهم إياه، أنه محلّ بهم ما أحل بالأمم الذين قصّ قصصهم في هذه

(22/575)


السورة من الهلاك والعذاب، ومنجّ نبيه محمدا والمؤمنين به، كما نجَّى من قبله الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلَّها بأممهم، فقال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كذّبت يا محمد قبل هؤلاء الذين كذّبوك من قومك، الذين إذا رأوْا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمرّ - قوم نوح، فكذّبوا عبدنا نوحا إذ أرسلناه إليهم، كما كذّبتك قريش إذ أتيتهم بالحقّ من عندنا وقالوا: هو مجنون وازدجر، وهو افْتُعِل من زجرت، وكذا تفعل العرب بالحرف إذا كان أوّله زايا صيروا تاء الافتعال منه دالا من ذلك قولهم: ازدجر من زجرت، وازدلف من زلفت، وازديد من زدت.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي زَجَروه، فقال بعضهم: كان زجرهم إياه أن قالوا: استُطِير جنونا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال: استطير جنونا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَازْدُجِرَ) قال: استُطير جنونا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال: استعر جنونا.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة بن الحجاج، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

(22/576)


فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)

وقال آخرون: بل كان زجرهم إياه وعيدهم له بالشتم والرجم بالقول القبيح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال: اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكوننّ من المرجومين، وقرأ (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) .
وقوله (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) يقول تعالى ذكره: فدعا نوح ربه: إن قومي قد غلبوني، تمرّدوا وعتوا، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) }
يقول تعالى ذكره (فَفَتَحْنَا) لما دعانا نوح مستغيثا بنا على قومه (أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) وهو المندفق، كما قال امرؤ القيس في صفة غيث:
رَاحَ تَمْريه الصبا ثُمَّ انْتَحَى ... فِيهِ شُؤْبُوبُ جنوبٍ مُنْهَمِرْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر، من مقطوعة في ثمانية أبيات يصف فيها غيثا: (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي 110 - 111) قال شارحه: راح: عاد السحاب بالمطر آخر النهار. وتمريه: تستدبره، وأصله من مرى الضرع، وهو مسحه باليد ليدر، والسحاب حين تضربه ريح الصبا الباردة، يتجمع ويتكاثف، فيسقط مطرا، ثم جاءت الجنوب عندهم محملة بالأمطار من بحر الهند، فأضافت إلى هذا السحاب شؤبوبا آخر جنوبيًّا، فتضاعف المطر وانهمر انهمارًا. أ. هـ. وموضع الشاهد في البيت: أن المنهمر في قوله تعالى: " بماء منهمر " معناه: المتدفق. الشديد الانصباب أ. هـ.

(22/577)


وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)

* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) قال: ينصبّ انصبابا.
وقوله (وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا) يقول جلّ ثناؤه: وأسلنا الأرض عيون الماء.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله (وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا) قال: فجَّرنا الأرض الماءَ وجاء من السماء (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) يقول تعالى ذكره: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وقضاه.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) قال: ماء السماء وماء الأرض. وإنما قيل: فالتقى الماء على أمر قد قدر، والالتقاء لا يكون من واحد، وإنما يكون من اثنين فصاعدا، لأن الماء قد يكون جمعا وواحدا، وأريد به في هذا الموضع: مياه السماء ومياه الأرض، فخرج بلفظ الواحد ومعناه الجمع. وقيل: التقى الماء على أمر قد قُدر، لأن ذلك كان أمرا قد قضاه الله في اللوح المحفوظ.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء، وتلا (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) }
يقول تعالى ذكره: وحملنا نوحا إذ التقى الماء على أمر قد قُدر، على سفينة ذات ألواح ودُسُر. والدسر: جمع دسار، وقد يقال في واحدها: دسير، كما

(22/578)


يقال: حَبِيك وحِباك; والدَّسار: المسمار الذي تشدّ به السفينة; يقال منه: دسرت السفينة إذا شددتها بمسامير أو غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، أخبرني ابن لهِيعة، عن أبي صخر، عن القُرَظي، وسُئل عن هذه الآية (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) قال: الدُّسُر: المسامير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) حدثنا أن دُسُرَها: مساميرها التي شُدَّت بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (ذَاتِ أَلْوَاحٍ) قال: معاريض السفينة; قال: ودُسُر: قال دُسِرت بمسامير.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَدُسُرٍ) قال: الدسر: المسامير التي دُسرت بها السفينة، ضُربت فيها، شُدّت بها.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: 0 ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَدُسُرٍ) يقول: المسامير.
وقال آخرون: بل الدُّسُر: صَدْر السفينة، قالوا: وإنما وصف بذلك لأنه يدفع الماء ويدْسُرُه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، عن أبي رجاء، عن

(22/579)


الحسن، في قوله (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) قال: تدسُر الماء بصدرها، أو قال: بِجُؤْجُئِها.
حدثنا بشر. قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله (وَدُسُرٍ) جؤجؤها تدسر به الماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن أنه قال: تدسر الماء بصدرها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَدُسُرٍ) قال: الدُّسُر: كَلْكَل السفينة.
وقال آخرون: الدسر: عوارض السفينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحصين، عن مجاهد (ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) قال: ألواح: السفينة ودسر عوارضها.
وقال آخرون: الألواح: جانباها، والدُّسُر: طرفاها.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) أما الألواح: فجانبا السفينة. وأما الدُّسُر: فطرفاها وأصلاها.
وقال آخرون: بل الدُّسُر: أضلاع السفينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قوله (وَدُسُرٍ) قال: أضلاع السفينة.

(22/580)


وقوله (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) يقول جلّ ثناؤه: تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر.
وذُكر عن سفيان في تأويل ذلك ما حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) يقول: بأمرنا (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) .
اختلف أهل التأويل في تأويله: فقال بعضهم: تأويله فعلنا ذلك ثوابا لمن كان كُفر فيه، بمعنى: كفر بالله فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) قال: كَفَر بالله.
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) قال: لمن كان كفر فيه.
ووجه آخرون معنى (مَنْ) إلى معنى (ما) في هذا الموضع، وقالوا: معنى الكلام: جزاء لما كان كَفَر من أيادي الله ونعمه عند الذين أهلكهم وغرّقهم من قوم نوح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) قال: لمن كان كفر نعم الله، وكفر بأياديه وآلائه ورسله وكتبه، فإن ذلك جزاء له.
والصواب من القول من ذلك عندي ما قاله مجاهد، وهو أن معناه: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا، فغرّقنا قوم نوح، ونجينا نوحا عقابا من الله وثوابا للذي جُحد وكُفر، لأن معنى الكفر: الجحود، والذي جحد ألوهته ووحدانيته قوم نوح، فقال بعضهم لبعض (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا

(22/581)


وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) ومن ذهب به إلى هذا التأويل كانت من الله، كأنه قيل: عوقبوا للَّه ولكفرهم به. ولو وجَّه مُوَجَّه إلى أنها مراد بها نوح والمؤمنون به كان مذهبا، فيكون معنى الكلام حينئذ، فعلنا ذلك جزاء لنوح ولمن كان معه في الفلك، كأنه قيل: غرقناهم لنوح ولصنيعهم بنوح ما صنعوا من كفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) }
يقول تعالى ذكره: ولقد تركنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن كان معه آية، يعني عِبْرة وعظة لمن بعد قوم نوح من الأمم ليعتبروا ويتعظوا، فينتهوا عن أن يسلكوا مسلكهم في الكفر بالله، وتكذيب رسله، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: أبقاها الله بباقَردى من أرض الجزيرة، عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمادا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً) قال: ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن مجاهد، أن الله حين غرّق الأرض،

(22/582)


جعلت الجبال تشمخ، فتواضع الجوديّ، فرفعه الله على الجبال، وجعل قرار السفينة عليه.
وقوله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من ذي تذكر يتذكر ما قد فعلنا بهذه الأمة التي كفرت بربها، وعصت رسوله نوحا، وكذبته فيما أتاهم به عن ربهم من النصيحة، فيعتبر بهم، ويحذر أن يَحل به من عذاب الله بكفره بربه، وتكذيبه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، مثل الذي حلّ بهم، فينيب إلى التوبة، ويراجع الطاعة. وأصل مدّكر: مفتعل من ذكر، اجتمعت فاء الفعل، وهي ذال، وتاء وهي بعد الذال، فصيرتا دالا مشدّدة، وكذلك تفعل العرب فيما كان أوّله ذالا يتبعها تاء الافتعال يجعلونهما جميعا دالا مشدّدة، فيقولون: ادّكرت ادكارًا، وإنما هو اذتكرت اذتكارا، وفهل من مذتكر، ولكن قيل: ادكرت ومدّكر لما قد وصفت، قد ذُكر عن بعض بني أسد أنهم يقولون في ذلك مذّكر، فيقلبون الدال ويعتبرون الدال والتاء ذالا مشددة، وذُكر عن الأسود بن يزيد أنه قال: قلت لعبد الله بن مسعود: فهل من مدّكر، أو مذّكر، فقال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُذَّكر) يعنى بذال مشددة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: المدّكر: الذي يتذكر، وفي كلام العرب: المذكر: المتذكر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: فهل من مذّكر.
وقوله (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول تعالى ذكره: فكيف كان عذابي لهؤلاء الذين كفروا بربهم من قوم نوح، وكذّبوا رسوله نوحا، إذ تمادوا في غيهم وضلالهم، وكيف كان إنذاري بما فعلت بهم من العقوبة التي أحللت بهم بكفرهم بربهم، وتكذيبهم رسوله نوحا، صلوات الله عليه، وهو إنذار لمن كفر من

(22/583)


قومه من قريش، وتحذير منه لهم، أن يحلّ بهم على تماديهم في غيهم، مثل الذي حلّ بقوم نوح من العذاب.
وقوله (وَنَذَرَ) يعني: وإنذاري، وهو مصدر.
وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) يقول تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا القرآن، بيَّناه وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه.
كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) قال: هوّناه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) قال: يسَّرنا: بيَّنا.
وقوله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه من العبر والذكر.
وقد قال بعضهم في تأويل ذلك: هل من طالب علم أو خير فيُعان عليه، وذلك قريب المعنى مما قلناه، ولكنا اخترنا العبارة التي عبرناها في تأويله، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه على طاهره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من طالب خير يُعان عليه.
حدثنا الحسين بن عليّ الصُّدائيّ، قال: ثنا يعقوب، قال: ثني الحارث بن عبيد الإياديّ قال: سمعت قتادة يقول في قول الله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: هل من طالب خير يُعان عليه.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة أو أيوب بن سويد أو كلاهما، عن ابن شَوْذَب، عن مطر، في قوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ

(22/584)


كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)

مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: هل من طالب علم فيعان عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) }
يقول تعالى ذكره: كذّبت أيضا عاد نبيهم هودا صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به عن الله، كالذي كذّبت قوم نوح، وكالذي كذّبتم مَعْشر قريش نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى جميع رسله، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول: فانظروا معشر كفرة قريش بالله كيف كان عذابي إياهم، وعقابي لهم على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله هودا وإنذاري بفعلي بهم ما فعلت من سلك طرائقهم، وكانوا على مثل ما كانوا عليه من التمادي في الغيّ والضلالة.
وقوله (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) يقول تعالى ذكره: إنا بعثنا على عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحا صرصرا، وهي الشديدة العصوف في برد، التي لصوتها صرير، وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبها إذا سمع فيها كهيئة قول القائل: صرّ، فقيل منه: صرصر، كما قيل: فكبكبوا فيها، من فكبوا، ونَهْنَهْتَ من نَهَهْتَ.
وبنحو الذي قلتا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: ريحا باردة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) والصَّرصر: الباردة.

(22/585)


حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: الصَّرصر: الباردة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (رِيحًا صَرْصَرًا) باردة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: شديد ة، والصرصر: الباردة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: الصرصر: الشديدة.
وقوله (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) يقول: في يوم شرّ وشؤم لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: النَّحْس: الشؤم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) قال النحس: الشرّ (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) في يوم شرّ.
وقد تأوّل ذلك آخرون بمعنى شديد، ومن تأوّل ذلك كذلك فإنه يجعله من صفة اليوم، ومن جعله من صفة اليوم، فإنه ينبغي أن يكون قراءته بتنوين اليوم، وكسر الحاء من النحْس، فيكون (فِي يَوْمٍ نَحِسٍ) كما قال جلّ ثناؤه (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) ولا أعلم أحدا قرأ ذلك كذلك في هذا الموضع، غير أن الرواية التي ذكرت في تأويل ذلك عمن ذكرت عنه على ما وصفنا تدلّ على أن ذلك كان قراءة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني

(22/586)


أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) قال: أيام شداد.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) يوم شديد.
وقوله (مُسَتَمِرٍّ) يقول: في يوم شرّ وشؤم، استمرّ بهم البلاء والعذاب فيه إلى أن وافي بهم جهنم.
كما حدثنا بشر، قال:. ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) يستمرّ بهم إلى نار جهنم.
وقوله (تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) يقول: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رءوسهم، فتندقّ رقابهم، وتبين من أجسامهم.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة شَماليَّا، منهم ستة من أشدّ عاد وأجسمها، منهم عمرو بن الحُلَيِّ والحارث بن شداد والهلقام وابنا تيقن وخَلَجان بن أسعد، فأدلجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن بالشِّعب من العِيال، فجعلت الريح تخفقُهم رجلا رجلا فقالت امرأة من عاد:
ذَهَبَ الدَّهْرُ بعَمْرِو بْ ... نِ حُلَيٍّ والهَنيَّاتِ ... ثُمَّ بالحارِثِ والهِلْ ... قامِ طَلاعِ الثَّنيَّاتِ ... وَالَّذِي سَدَّ عَلَيْنا الرّ ... يحَ أيَّامَ البَلِيَّاتِ (1)
حدثنا العباس بن الوليد البيروتي، قال: أخبرني أبي، قال: ثني إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق قال: لما هبَّت الريح قام سبعة من عاد، فقالوا: نردّ الريح، فأتوا فم الشعب الذي يأتي منه الريح، فوقفوا عليه، فجعلت
__________
(1) هذه الأبيات لامرأة من عاد قوم هود عليه السلام (هامش القرطبي 17: 136) . وقد ذكر المؤلف الأبيات في قصة عاد حينما سلط الله عليهم الريح. والله أعلم بمن قالها وبمن رواها. وقوله (علينا) . زيادة لإصلاح الوزن، وهي ساقطة من الأصل.

(22/587)


الريح تهبّ، فتدخل تحت واحد واحد، فتقتلعه من الأرض فترمي به على رأسه، فتندقّ رقبته، ففعلت ذلك بستة منهم، وتركتهم كما قال الله (أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وبقي الخلجان فأتى هودا فقال: يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتيّ؟ قال: تلك ملائكة ربي، قال: ما لي إن أسلمت؟ قال: تَسْلَم، قال: أيُقيدني ربك إن أسلمت من هؤلاء؟ فقال: ويلك أرأيت ملكا يقيد جنوده؟ فقال: وعزّته لو فعل ما رضيت. قال: ثم مال إلى جانب الجبل، فأخذ بركن منه فهزّه، فاهتز في يده، ثم جعل يقول:
لَمْ يَبْقَ إلا الخَلَجانُ نَفْسُهُ ... يا لَكَ مِنْ دَهانِي أمْسُهُ ... بِثابِتِ الوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُ ... لَوْ لَمْ يَجِئْني جِئْتُهُ أحُسُّهُ (1)
قال: ثم هبت الريح فألحقته بأصحابه.
حدثني محمد بن إبراهيم، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا محمد بن سيف، عن الحسن، قال: لما أقبلت الريح قام إليها قوم عاد، فأخذ بعضهم بأيدي بعض كما تفعل الأعاجم، وغمزوا أقدامهم في الأرض وقالوا: يا هود من يزيل أقدامنا عن الأرض إن كنت صادقا، فأرسل الله عليهم الريح فصيرتهم كأنهم أعجاز نخل مُنْقَعر.
حدثني محمد بن إبراهيم، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا أشعث بن جابر، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة، لو اجتمع عليها خمس مئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوها، وإن كان الرجل منهم ليغمز قدمه في الأرض، فتدخل في الأرض، وقال: كأنهم أعجاز نخل; ومعنى الكلام: فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر، فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة الكلام
__________
(1) وهذان البيتان من الأشعار التي رواها أهل القصص في قصة هلاك عاد قوم هود بالريح. وقد أوردها الثعلبي المفسر في كتابه قصص الأنبياء المشهور بعرائس المجالس ص 64 من طبعة الحلبي أ. هـ.

(22/588)


وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)

عليه. وقيل: إنما شبههم بأعجاز نخل منقعر، لأن رءوسهم كانت تبين من أجسامهم، فتذهب لذلك رِقابهم، وتبقى أجسادهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن هلال بن خباب عن مجاهد، في قوله (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) قال: سقطت رءوسهم كأمثال الأخبية، وتفرّدت، أو وتَفَرّقت أعناقهم وقال " أبو جعفر: أنا أشك"، فشبهها بأعجاز نخل منقعر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) قال: هم قوم عاد حين صرعتهم الريح، فكأنهم فلق نخل منقعر (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول تعالى ذكره: فانظروا يا معشر كفار قريش، كيف كان عذابي قوم عاد، إذ كفروا بربهم، وكذّبوا رسوله، فإن ذلك سنة الله في أمثالهم، وكيف كان إنذاري بهم مَنْ أنذرت.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) }
يقول تعالى ذكره: ولقد سهلنا القرآن وهوّناه لمن أراد التذكر به والاتعاظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من متعظ ومنزجر بآياته.
وقوله (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود قوم صالح بنذر الله التي أتتهم من عنده، فقالوا تكذيبا منهم لصالح رسول ربهم: أبشرا منا نتبعه نحن الجماعة الكبيرة وهو واحد؟.
وقوله (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) يقول: قالوا: إنا إذًا باتباعنا صالحا

(22/589)


أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

إن اتبعناه وهو بشر منا واحد لفي ضلال: يعنون: لفي ذهاب عن الصواب وأخذ على غير استقامة وسُعُر: يعنون بالسُّعُر: جمع سَعير.
وكان قتادة يقول: عني بالسُّعُر: العناء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : في عناء وعذاب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) قال: ضلال وعناء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ (26) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل مكذّبي رسوله صالح صلى الله عليه وسلم من قومه ثمود: أألقي عليه الذكر من بيننا، يعنون بذلك: أنزل الوحي وخصّ بالنبوّة من بيننا وهو واحد منا، إنكارا منهم أن يكون الله يُرسل رسولا من بني آدم.
وقوله (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) يقول: قالوا: ما ذلك كذلك، بل هو كذّاب أشر، يعنون بالأشر: المَرِح ذا التجبر والكبرياء، والمَرِح من النشاط.
وقد حدثني الحسن بن محمد بن سعيد القرشيّ، قال: قلت لعبد الرحمن بن أبي حماد: ما الكذّاب الأشر؟ قال: الذي لا يبالي ما قال، وبكسر الشين من الأشر وتخفيف الراء قرأت قراء الأمصار. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأه: (كَذَّابٌ أَشُرٌ) بضم الشين وتخفيف الراء، وذلك في الكلام نظير الحذِر والحذُر والعَجِل والعَجُل.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا، ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.

(22/590)


إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)

وقوله (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ) يقول تعالى ذكره: قال الله لهم: ستعلمون غدا في القيامة من الكذّاب الأشر منكم معشر ثمود، ومن رسولنا صالح حين تردون على ربكم، وهذا التأويل تأويل من قرأه (سَتَعْلَمُونَ) بالتاء، وهي قراءة عامة أهل الكوفة سوى عاصم والكسائي. أما تأويل ذلك على قراءة من قرأه بالياء، وهي قراءة عامة قراء أهل المدينة والبصرة وعاصم والكسائي، فإنه قال الله (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ) وترك من الكلام ذكر قال الله، استغناء بدلالة الكلام عليه.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معنييهما، وصحتهما في الإعراب والتأويل.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) }

(22/591)


وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) }
يقول تعالى ذكره: إنا باعثوا الناقة التي سألتها ثمودُ صالحا من الهضبة التي سألوه بَعثَتها منها آية لهم، وحجة لصالح على حقيقة نبوّته وصدق قوله.
وقوله (فِتْنَةً لَهُمْ) يقول: ابتلاء لهم واختبارا، هل يؤمنون بالله ويتبعون صالحا ويصدّقونه بما دعاهم إليه من توحيد الله إذا أرسل الناقة، أم يكذّبونه ويكفرون بالله؟
وقوله (فَارْتَقِبْهُمْ) يقول تعالى ذكره لصالح: إنا مُرسلو الناقة فتنة لهم، فانتظرهم، وتبصَّر ما هم صانعوه بها (وَاصْطَبِرْ) يقول له: واصطبر على ارتقابهم ولا تعجل، وانتظر ما يصنعون بناقة الله وقيل: (وَاصْطَبِرْ) وأصل الطاء تاء، فجعلت طاء، وإنما هو افتعل من الصبر.

(22/591)


فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

وقوله (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) يقول تعالى ذكره: نبئهم: أخبرهم أن الماء قسمة بينهم، يوم غبّ الناقة، وذلك أنها كانت ترد الماء يوما، وتغبّ يوما، فقال جلّ ثناؤه لصالح: أخبر قومك من ثمود أن الماء يوم غبّ الناقة قسمة بينهم، فكانوا يقتسمون ذلك يوم غبها، فيشربون منه ذلك اليوم، ويتزوّدون فيه منه ليوم ورودها.
وقد وجه تأويل ذلك قوم إلى أن الماء قسمة بينهم وبين الناقة يوما لهم ويوما لها، وأنه إنما قيل بينهم، والمعنى: ما ذكرت عندهم، لأن العرب إذا أرادت الخبر عن فعل جماعة بني آدم مختلطا بهم البهائم، جعلوا الفعل خارجا مخرج فعل جماعة بني آدم، لتغليبهم فعل بني آدم على فعل البهائم.
وقوله (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يقول تعالى ذكره: كلّ شرب من ماء يوم غبّ الناقة، ومن لبن يوم ورودها محتضر يحتضرونه.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) قال: يحضرون بهم الماء إذا غابت، واذا جاءت حضروا اللبن.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) قال: يحضرون بهم الماء إذا غابت، وإذا جاءت حضروا اللبن.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) }
يقول تعالى ذكره: فنادت ثمود صاحبهم عاقر الناقة قدار بن سالف ليعقر الناقة حضّا منهم له على ذلك.

(22/592)


وقوله (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) يقول: فتناول الناقة بيده فعقرها.
وقوله (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول جلّ ثناؤه لقريش: فكيف كان عذابي إياهم معشر قريش حين عذبتهم ألم أهلكهم بالرجفة. ونُذُر: يقول: فكيف كان إنذاري من أنذرت من الأمم بعدهم بما فعلت بهم وأحللت بهم من العقوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) قال: تناولها بيده (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) قال: يقال: إنه ولد زنية فهو من التسعة الذين كانوا يُفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وهم الذين قالوا لصالح (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) ولنقتلنهم.
وقوله (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً) وقد بيَّنا فيما مضى أمر الصيحة، وكيف أتتهم، وذكرنا ما روي في ذلك من الآثار، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) يقول تعالى ذكره فكانوا بهلاكهم بالصيحة بعد نضارتهم أحياء، وحسنهم قبل بوارهم كيبس الشجر الذي حظرته بحظير حظرته بعد حُسن نباته، وخضرة ورقه قبل يُبسه.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) فقال بعضهم: عني بذلك: العظام المحترقة، وكأنهم وجهوا معناه إلى أنه مَثَّلَ هؤلاء القوم بعد هلاكهم وبلائهم بالشيء الذي أحرقه محرق في حظيرته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال ثنا أبو كُدينة، قال: ثنا قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)

(22/593)


قال: كالعظام المحترقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قال: المحترق. ولا بيان عندنا في هذا الخبر عن ابن عباس، كيف كانت قراءته ذلك، إلا أنا وجهنا معنى قوله هذا على النحو الذي جاءنا من تأويله قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) إلى أنه كان يقرأ ذلك كنحو قراءة الأمصار، وقد يحتمل تأويله ذلك كذلك أن يكون قراءته كانت بفتح الظاء من المحتظر، على أن المحتظر نعت للهشيم، أضيف إلى نعته، كما قيل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قد ذُكر عن الحسن وقتادة أنهما كانا يقرآن ذلك كذلك، ويتأوّلانه هذا التأويل الذي ذكرناه عن ابن عباس.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثني أبي، عن الحسن، قال: كان قتادة يقرأ (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) يقول: المحترق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) يقول: كهشيم محترق.
وقال آخرون: بل عنى بذلك التراب. الذي يتناثر من الحائط.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بن حميد، قال: ثنا مهران، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قال: التراب الذي يتناثر من الحائط.
وقال آخرون: بل هو حظيرة الراعي للغنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق وأسنده، قال (الْمُحْتَظِرِ) حظيرة الراعي للغنم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:

(22/594)


وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)

سمعت الضحاك يقول في قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) المحتظر: الحظيرة تتخذ للغنم فتيبس، فتصير كهشيم المحتظر، قال: هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع والهشيم: يابس الشجر الذي فيه شوك ذلك الهشيم.
وقال آخرون: بل عني به هشيم الخيمة، وهو ما تكسَّر من خشبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن مجاهد، في قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قال: الرجل يهشِم الخيمة.
وحدثني الحارث، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) الهشيم: الخيمة.
وقال آخرون: بل هو الورق الذي يتناثر من خشب الحطب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (كَهَشِيمِ) قال: الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط. والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) }
يقول تعالى ذكره: ولقد هوّنا القرآن بيَّناه للذكر: يقول: لمن أراد أن يتذكر به فيتعظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من متَّعظ به ومعتبر فيعتبر به، فيرتدع عما يكرهه الله منه.

(22/595)


وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)

وقوله (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) يقول تعالى ذكره: كذّبت قوم لوط بآيات الله التي أنذرهم وذكرهم بها.
وقوله (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) يقول تعالى ذكره: إنا أرسلنا عليهم حجارة.
وقوله (إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) يقول: غير آل لوط الذين صدّقوه واتبعوه على دينه فإنا نجيناهم من العذاب الذي عذّبنا به قومه الذين كذبوه، والحاصب الذي حصبناهم به بسحر: بنعمة من عندنا: يقول: نعمة أنعمناها على لوط وآله، وكرامة أكرمناهم بها من عندنا.
وقوله (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) يقول: وكما أثبنا لوطًا وآله، وأنعمنا عليه، فأنجيناهم من عذابنا بطاعتهم إيانا كذلك نثيب من شكرنا على نعمتنا عليه، فأطاعنا وانتهى إلى أمرنا ونهينا من جميع خلقنا. وأجرى قوله بسحر، لأنه نكرة، وإذا قالوا: فعلت هذا سحر بغير باء لم يجروه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) }
يقول تعالى ذكره: ولقد أنذر لوط قومه بطشتنا التي بطشناها قبل ذلك (فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) يقول: فكذّبوا بإنذاره ما أنذرهم من ذلك شكا منهم فيه.
وقوله (فَتَمَارَوْا) تفاعلوا من المرية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) لم يصدّقوه، وقوله (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) يقول جلّ ثناؤه: ولقد

(22/596)


راود لوطا قومه عن ضيفه الذين نزلوا به حين أراد الله إهلاكهم (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) يقول: فطمسنا على أعينهم حتى صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شقّ، فلم يبصروا ضيفه. والعرب تقول: قد طمست الريح الأعلام: إذا دفنتها بما تسفي عليها من التراب، كما قال كعب بن زُهَير:
مِنْ كُلّ نَصَّاخَةِ الذّفْرَى إذَا أعْتَرَقَتْ ... عُرْضَتها طامِسُ الأعْلام مَجْهُولُ (1)
يعني بقوله (طامِسُ الأعْلامِ) : مندفن الأعلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) قال: عمى الله عليهم الملائكة حين دخلوا على لوط.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) وذُكر لنا أن جبريل عليه السلام استأذن ربه في عقوبتهم ليلة أتوا لوطا، وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه، فصفقهم بجناحه، وتركهم عميا يتردّدون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) قال: هؤلاء قوم لوط حين راودوه عن ضيفه، طمس الله أعينهم، فكان ينهاهم عن عملهم الخبيث الذي كانوا يعملون، فقالوا: إنا لا نترك عملنا فإياك أن تُنزل أحدا أو تُضيفه، أو تدعه ينزل عليك، فإنا لا نتركه ولا نترك عملنا. قال: فلما جاءه المرسلون، خرجت امرأته الشقية من الشقّ، فأتتهم فدعتهم، وقالت لهم: تعالوا فإنه قد جاء قوم
__________
(1) البيت: لكعب بن زهير من لاميته المشهورة " بانت سعاد " التي مدح بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شرحناه ثلاث مرات في (2: 402، 5: 123، 9: 157) من هذه الطبعة، فراجعه في أحد هذه المواضع، أو فيها كلها، لزيادة الفائدة.

(22/597)


وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

لم أر قطّ أحسن وجوها منهم، ولا أحسن ثيابًا، ولا أطيب أرواحا منهم، قال: فجاءوه يهرعون إليه، فقال: إن هؤلاء ضيفي، فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي، قالوا: أولم ننهك عن العالمين؟ أليس قد تقدمنا إليك وأعذرنا فيما بيننا بينك؟ قال: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم فقال له جبريل عليه السلام: ما يهولك من هؤلاء؟ قال: أما ترى ما يريدون؟ فقال: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك، لتصنعن هذا الأمر سرّا، وليكوننّ فيه بلاء; قال: فنشر جبريل عليه السلام جناحا من أجنحته، فاختلس به أبصارهم، فطمس أعينهم، فجعلوا يجول بعضهم في بعض، فذلك قول الله (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) جاءت الملائكة في صور الرجال، وكذلك كانت تجيء، فرآهم قوم لوط حين دخلوا القرية. وقيل: إنهم نزلوا بلوط، فأقبلوا إليهم يريدونهم، فتلقَّاهم لوط يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه، فأبوا عليه وجاءوا ليدخلوا عليه، فقالت الرسل للوط خلّ بينهم وبين الدخول، فإنا رسل ربك، لن يصلوا إليك، فدخلوا البيت، وطمس الله على أبصارهم، فلم يروهم; وقالوا: قد رأيناهم حين دخلوا البيت، فأين ذهبوا؟ فلم يروهم ورجعوا.
وقوله (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول تعالى ذكره: فذوقوا معشر قوم لوط من سدوم، عذابي الذي حلّ بكم، وإنذاري الذي أنذرت به غيركم من الأمم من النكال والمثلات.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) }

(22/598)


يقول تعالى ذكره: ولقد صُبِّحَ قوْمُ لوط بُكْرةً ذكر أن ذلك كان عند طلوع الفجر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (بُكْرَةً) قال: عند طلوع الفجر.
وقوله (عَذَابِ) وذلك قلب الأرض بهم، وتصيير أعلاها أسفلها بهم، ثم إتباعهم بحجارة من سجيل منضود.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ) قال: حجارة رموا بها.
وقوله (مُسْتَقِرّ) يقول: استقرّ ذلك العذاب فيهم إلى يوم القيامة حتى يوافوا عذاب الله الأكبر في جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) يقول: صبحهم عذاب مستقرّ، استقرّ بهم إلى نار جهنم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) ... الآية، قال: ثم صبحهم بعد هذا، يعني بعد أن طمس الله أعينهم، فهم من ذلك العذاب إلى يوم القيامة، قال: وكل قومه كانوا كذلك، ألا تسمع قوله حين يقول: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (مُسْتَقِرّ) استقرّ.
وقوله (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) يقول تعالى ذكره لهم: فذوقوا معشر قوم لوط عذابي الذي أحللته بكم، بكفركم بالله وتكذيبكم رسوله، وإنذاري بكم الأمم سواكم بما أنزلته بكم من العقاب.

(22/599)


وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)

وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا القرآن للذكر لمن أراد التذكر به فهل من متعظ ومعتبر به فينزجر به عما نهاه الله عنه إلى ما أمره به وأذن له فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) }
يقول تعالى ذكره: ولقد جاء أتباع فرعون وقومه إنذارنا بالعقوبة بكفرهم بنا وبرسولنا موسى (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا) يقول جلّ ثناؤه كذّب آل فرعون بأدلتنا التي جاءتهم من عندنا، وحججنا التي أتتهم بأنه لا إله إلا الله وحده كلها (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) يقول تعالى ذكره: فعاقبناهم بكفرهم بالله عقوبة شديد لا يغلب، مقتدر على ما يشاء، غير عاجز ولا ضعيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده، قوله (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش الذين أخبر الله عنهم أنهم (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أكفاركم معشر قريش خير من أولئكم الذين

(22/600)


أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، فهم يأملون أن ينجوا من عذابي، ونقمي على كفرهم بي، وتكذيبهم رسولي. يقول: إنما أنتم في كفركم بالله وتكذيبهم رسوله، كبعض هذه الأمم التي وصفت لكم أمرهم، وعقوبة الله بكم نازلة على كفركم به، كالذي نزل بهم إن لم تتوبوا وتنيبوا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) : أي من مضى.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسن، عن يزيد النحويّ، عن عكرِمة (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) يقول: أكفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين مضوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) يقول: أكفاركم خير من الكفار الذين عذبناهم على معاصي الله، وهؤلاء الكفار خير من أولئك. وقال (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) استنفاها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال. ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) يقول: ليس كفاركم خيرا من قوم نوح وقوم لوط.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) قال: كفار هذه الأمة.
وقوله (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) يقول جلّ ثناؤه: أم لكم براءة من عقاب الله معشر قريش، أن تصيبكم بكفركم بما جاءكم به الوحي من الله في الزبر، وهي الكتب.
كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا

(22/601)


أبو عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (الزُّبُرِ) يقول: الكتب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) في كتاب الله براءة مما تخافون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) يعني في الكتب.
وقوله (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) يقول تعالى ذكره: أيقول هؤلاء الكفار من قريش: نحن جميع منتصر ممن قصدنا بسوء ومكروه، وأراد حربنا وتفريق جمعنا، فقال الله جلّ ثناؤه: سيهزم الجمع يعني جمع كفار قريش (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يقول: ويولون أدبارهم المؤمنين بالله عن انهزامهم عنه. وقيل: الدبر فوحد والمراد به الجمع كما يقال ضربنا منهم الرأس: أي ضربنا منهم الرءوس: إذ كان الواحد يؤدي عن معنى جمعه، ثم إن الله تعالى ذكره صدّق وعده المؤمنين به فهزم المشركين به من قريش يوم بدر وولوهم الدُّبر.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة أن عمر قال لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) جعلت أقول: أيّ جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يثب في الدرع ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال: يوم بدر.
قال ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) يعني جمع بدر (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) ... الآية ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال يوم بدر

(22/602)


بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

"هزموا وولوا الدبر".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال: هذا يوم بدر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن عكرِمة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كان يثب في الدرع ويقول: هُزِمَ الجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ".
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال: كان ذلك يوم بدر. قال: قالوا نحن جمع منتصر، قال: فنزلت هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) }
يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) للبعث والعقاب (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) عليهم من الهزيمة التي يهزمونها عند التقائهم مع المؤمنين ببدر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عمرو بن مرّة، عن شهر بن حوشب، قال: إن هذه الآية نزلت بهلاك إنما موعدهم الساعة، ثم قرأ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) ... إلى قوله (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) .
وقوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) يقول تعالى ذكره: إن المجرمين في ذهاب عن الحقّ، وأخذ على غير هدى (وَسُعُرٍ) يقول: في احتراق من شدّة العناء والنصب في الباطل.

(22/603)


كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) قال: في عناء.
وقوله (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يقول تعالى ذكره: يوم يُسحب هؤلاء المجرمون في النار على وجوههم. وقد تأوّل بعضهم قوله (فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) إلى النار. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (يَوْمَ يُسْحَبُونَ إِلَى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) .
وقوله (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يقول تعالى ذكره: يوم يُسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: ذوقوا مَسَّ سقَر، وترك ذكر "يقال لهم" استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره.
فإن قال قائل: كيف يُذاق مسّ سقر، أوَله طعم فيُذاق؟ فإن ذلك مختلف فيه; فقال بعضهم: قيل ذلك كذلك على مجاز الكلام، كما يقال: كيف وجدت طعم الضرب وهو مجاز؟ وقال آخر: ذلك كما يقال: وجدتُ مسّ الحمى يُراد به أوّل ما نالني منها، وكذلك وجدت طعم عفوك. وأما سَقَرُ فإنها اسم باب من أبواب جهنم (1) وترك إجراؤها لأنها اسم لمؤنث معرفة.
وقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله جلّ ثناؤه، توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا هشام بن سعد، عن أبي ثابت، عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه، عن ابن
__________
(1) الذي في كتب اللغة، أنها اسم جهنم.

(22/604)


عباس أنه كان يقول: إني أجد في كتاب الله قوما يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) لأنهم كانوا يكذّبون بالقَدَرِ، وإني لا أراهم، فلا أدري أشيء كان قبلنا، أم شيء فيما بقي.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن زياد بن إسماعيل السَّهْمِيّ، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هريرة أن مشركي قريش خاصمت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في القَدَر، فأنزل الله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى وأبو كُرَيب، قالوا: ثنا وكيع بن الجرّاح، قال: ثنا سفيان، عن زياد بن إسماعيل السَّهميّ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ، عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخاصمونه في القَدَرِ، فنزلت (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ، عن أبى هريرة، بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، قال: ولما نزلت هذه الآية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه، أو في شيء قد فرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلقَ لَهُ، سنُيسِّرُهُ للْيُسْرَى، وَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى".
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خصيف، قال: سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول: لما تكلم الناس في القَدَرِ نظرت، فإذا هذه الآية أنزلت فيهم (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ... إلى قوله (خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) .

(22/605)


حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم ويزيد بن هارون، قالا ثنا سفيان، عن سالم، عن محمد بن كعب، قال: ما نزلت هذه الآية إلا تعبيرا لأهل القدر (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سالم بن أبي حفصة، عن محمد بن كعب القُرَظي (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) قال: نزلت تعييرا لأهل القَدَرِ.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن زياد بن إسماعيل السَّهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ، عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخاصمونه في القدر، فنزلت (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) .
قال: ثنا مهران، عن حازم، عن أسامة، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) قال: خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشرّ بقدر، فخير الخير السعادة، وشرّ الشرّ الشقاء، بئس الشرّ الشقاء.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) فقال بعض نحويي البصرة: نصب كلّ شيء في لغة من قال: عبد الله ضربته; قال: وهي في كلام العرب كثير. قال: وقد رفعت كلّ في لغة من رفع، ورفعت على وجه آخر. قال (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) فجعل خلقناه من صفة الشيء; وقال غيره: إنما نصب كل لأن قوله خلقناه فعل، لقوله (إِنَّا) ، وهو أولى بالتقديم إليه من المفعول، فلذلك اختير النصب، وليس قيل عبد الله في قوله: عبد الله ضربته شيء هو أولى بالفعل، وكذلك إنا طعامك، أكلناه الاختيارُ النصب لأنك تريد: إنا أكلنا طعامك الأكل، أولى

(22/606)


بأنا من الطعام. قال: وأما قول من قال: خلقناه وصف للشيء فبعيد، لأن المعنى: إنا خلقناه كلّ شيء بقدر، وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأوّل للعلل التي ذكرت لصاحبها.

(22/607)


وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) }
يقول تعالى ذكره: وما أمرنا للشيء إذا أمرناه وأردنا أن نكوّنه إلا قولة واحدة: كن فيكون، لا مراجعة فيها ولا مرادّة (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) يقول جلّ ثناؤه: فيوجد ما أمرناه وقلنا له: كن كسرعة اللمح بالبصر لا يُبطئ ولا يتأخر، يقول تعالى ذكره لمشركي قريش الذين كذّبوا رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولقد أهلكنا أشياعكم معشر قريش من الأمم السالفة والقرون الخالية، على مثل الذي أنتم عليه من الكفر بالله، وتكذيب رسله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من مُتَّعِظ بذلك منزجر ينزجر به.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال: أشياعكم من أهل الكفر من الأمم الماضية، يقول: فهل من أحد يتذكر.
وقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) يقول تعالى ذكره: وكل شيء فعله أشياعكم الذين مضوا قبلكم معشر كفَّار قريش في الزُّبر، يعني في الكتب التي كتبتها الحفظة عليهم. وقد يحتمل أن يكون مرادا به في أمّ الكتاب.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فِي الزُّبُرِ) قال: الكُتب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) قال: في الكتاب.

(22/607)


وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }
يقول تعالى ذكره: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأشياء (مُسْتَطَرٌ) يقول: مُثْبَت في الكتاب مكتوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) يقول: مكتوب، " فإذا أراد الله أن ينزل كتابا نَسَخَتْهُ السَّفَرةُ. قوله: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) قال: مكتوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن حُدَير، عن عكرِمة، قال: مكتوب في كلّ سطر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُسْتَطَرٌ) قال: محفوظ مكتوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي محفوظ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول (مُسْتَطَرٌ) قال: مكتوب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) قال: مكتوب، وقرأ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)

(22/608)


وقرأ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) إنما هو مفتعل من سطرت: إذا كتبت سطرا.
وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في بساتين يوم القيامة، وأنهار، ووحد النهر في اللفظ ومعناه الجمع، كما وحد الدّبر، ومعناه الإدبار في قوله: (يُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وقد قيل: إن معنى ذلك: إن المتقين في سعة يوم القيامة وضياء، فوجهوا معنى قوله: (وَنَهَرٍ) إلى معنى النهار. وزعم الفرّاء انه سمع بعض العرب ينشد:
إنْ تَكُ لَيْلِيًّا فإنيّ نَهِرْ ... متى أتى الصُّبْحُ فَلا أنْتَظِر (1)
وقوله "نهر" على هذا التأويل مصدر من قولهم: نهرت أنهر نهرا. وعنى بقوله: "فإني نهر": أي إني لصاحب نهار: أي لست بصاحب ليلة.
وقوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) يقول: في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) يقول: عند ذي مُلك مقتدر على ما يشاء، وهو الله ذو القوّة المتين، تبارك وتعالى.
آخر تفسير سورة اقتربت الساعة
__________
(1) البيت: من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 319) عند قوله تعالى: (إن المتقين في جنات ونهر) قال: في ضياء وسعة وسمعت بعض العرب ينشد: " إن تك ليليا ... البيت " أ. هـ. وفي (اللسان: نهر) : ورجل نهر: صاحب نهار، على النسب، كما قالوا: عمل وطعم، قال: * لست بليلي ولكني نهر *
قال سيبويه: قوله: " بليلي " يدل أن نهر: على النسب، حتى كأنه قال: " نهاري ". ورجل نهر: أي صاحب نهار، بغير فيه. قال: الأزهري. وسمعت العرب تنشد: " إن تك ليليا ... بيت الشاهد ". قال: ومعنى نهر: أي صاحب نهار، لست بصاحب ليل. وهذا الرجز أورده الجوهري: * إن كنت ليليا فإني نهر *
قال ابن بري: البيت مغير. قال: وصوابه: لَسْتُ بلَيْلِيّ وَلكِنِّي نَهِرْ ... لا أدْلُج اللَّيْلَ وَلَكِنْ أبْتَكِرْ

(22/609)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)

تفسير سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (1) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) }
يقول تعالى ذكره: الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن. فأنعم بذلك عليكم، إذ بصَّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرّفكم ما فيه سخطه، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنبكم ما يُسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.
ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان العقيلي، قال: ثنا أبو العوام العجلي، عن قتادة أنه قال: في تفسير (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال: نعمة والله عظيمة.
وقوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ) يقول تعالى ذكره: خلق آدم وهو الإنسان في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ) قال الإنسان: آدم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (خَلَقَ الإنْسَانَ) قال الإنسان: آدم صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الناس جميعا، وإنما وحد في اللفظ لأدائه

(22/7)


عن جنسه، كما قيل: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ، والقولان كلاهما غير بعيدين من الصواب لاحتمال ظاهر الكلام إياهما.
وقوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) يقول تعالى ذكره: علَّم الإنسان البيان.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالبيان في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى به بيان الحلال والحرام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) : علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه، ليحتجّ بذلك على خلقه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الدنيا والآخرة ليحتجّ بذلك عليه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة، في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) قال: تَبَيَّنَ له الخيرُ والشرّ، وما يأتي، وما يدع.
وقال آخرون: عنى به الكلام: أي أن الله عزّ وجلّ علم الإنسان البيان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) قال: البيان: الكلام.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: أن الله علَّم الإنسان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام، والمعايش والمنطق، وغير ذلك مما به الحاجة إليه، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بخبره ذلك، أنه علَّمه من البيان بعضا دون بعض، بل عمّ فقال: علَّمه البيان، فهو كما عمّ جلّ ثناؤه.

(22/8)


وقوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: الشمس والقمر بحسبان، ومنازل لها يجريان ولا يعدوانها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا إسرائيل، قال: قال: ثنا سماك بن حرب، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: بحساب ومنازل يرسلان.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: يجريان بعدد وحساب.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: بحساب ومنازل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) : أي بحساب وأجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: يجريان في حساب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: يحسب بهما الدهر والزمان لولا الليل والنهار، والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر ليلا كله، كيف يحسب، أو نهارا كله كيف يحسب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: بحساب وأجل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهما يجريان بقدر.

(22/9)


وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)

* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا عبد الله بن داود، عن أبي الصهباء، عن الضحاك، في قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) قال: بقدر يجريان.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهما يدوران في مثل قطب الرحا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو يحيى عن مجاهد، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بِحُسْبَانٍ) قال: كحسبان الرحا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (بِحُسْبَانٍ) قال: كحسبان الرحا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: الشمس والقمر يجريان بحساب ومنازل، لأن الحسبان مصدر من قول القائل: حسبته حسابا وحسبانا، مثل قولهم: كفرته كفرانا، وغفرته غُفْرانا. وقد قيل: إنه جمع حساب، كما الشهبان: جمع شهاب.
واختلف أهل العربية فيما رفع به الشمس والقمر، فقال بعضهم: رفعا بحسبان: أي بحساب، وأضمر الخبر، وقال: وأظنّ والله أعلم أنه قال: يجريان بحساب. وقال بعض من أنكر هذا القول منهم: هذا غلط، بحسبان يرافع الشمس والقمر أي: هما بحساب، قال: والبيان يأتي على هذا: علَّمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان، قال: فلا يحذف الفعل ويُضمر إلا شاذّا في الكلام.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ

(22/10)


يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) }
اختلف أهل التأويل في معنى النجم في هذا الموضع، مع إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فقال بعضهم: عني بالنجم في هذا الموضع من النبات: ما نجم من الأرض، مما ينبسط عليها، ولم يكن على ساق مثل البقل ونحوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَالنَّجْمِ) قال: ما يُبسط على الأرض.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَالنَّجْمِ) قال: النجم كل شيء ذهب مع الأرض فرشا، قال: والعرب تسمي الثبل نجما.
حدثني محمد بن خلف العسقلانيّ، قال: ثنا رَوّاد بن الجرّاح، عن شريك، عن السديّ (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قال: النجم: نبات الأرض.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَالنَّجْمِ) قال: النجم: الذي ليس له ساق.
وقال آخرون: عُنِي بالنجم في هذا الموضع: نجم السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن

(22/11)


أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَالنَّجْمِ) قال: نجم السماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَالنَّجْمِ) يعني: نجم السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قال: إنما يريد النجم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، نحوه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بالنجم: ما نجم من الأرض من نبت لعطف الشجر عليه، فكان بأن يكون معناه لذلك: ما قام على ساق وما لا يقوم على ساق يسجدان لله، بمعنى: أنه تسجد له الأشياء كلها المختلفة الهيئات من خلقه، أشبه وأولى بمعنى الكلام من غيره. وأما قوله: (وَالشَّجَرُ) فإن الشجر ما قد وصفت صفته قبل.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قال: الشجر: كل شيء قام على ساق.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَالشَّجَرُ) قال: الشجر: كلّ شيء قام على ساق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَالشَّجَرُ) قال: الشجر: شجر الأرض.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قال: الشجر الذي له سُوق.

(22/12)


وأما قوله: (يَسْجُدَانِ) فإنه عُنِي به سجود ظلهما، كما قال جلّ ثناؤه (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) .
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا تميم بن عبد المؤمن، عن زبرقان، عن أبي رزين وسعيد (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قالا ظلهما سجودهما.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوام، عن قتادة (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) : ما نزل من السماء شيئا من خلقه إلا عَبَّده له طوعا وكرها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، وهو قول قتادة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قال: يسجد بكرة وعشيا. وقيل: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) فثنى وهو خبر عن جمعين.
وقد زعم الفراء أن العرب إذا جمعت الجمعين من غير الناس مثل السدر والنخل، جعلوا فعلهما واحدا، فيقولون الشاء والنعم قد أقبل، والنخل والسدر قد ارتوى، قال: وهذا أكثر كلامهم، وتثنيته جائزة.
وقوله: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا) يقول تعالى ذكره: والسماء رفعها فوق الأرض.
وقوله: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (خَفَضَ المِيزَانَ) ، والخفض والوضع متقاربا المعنى في كلام العرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(22/13)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) قال: العدل.
وقوله: (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) يقول تعالى ذكره: ألا تظلموا وتبخسوا في الوزن.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يُوَفى لك، فإن بالعدل صلاح الناس.
وكان ابن عباس يقول: يا معشر المَوالِي، إنكم قد وليتم أمرين، بهما هلك من كان قبلكم، هذا المكيال والميزان.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن مغيرة، عن مسلم، عن أبي المغيرة، قال: سمعت ابن عباس يقول في سُوق المدينة: يا معشر الموالي، إنكم قد بُليتم بأمرين أهلك فيهما أمتان من الأمم: المِكْيال، والميزان.
قال: ثنا مروان، عن مغيرة، قال: رأى ابن عباس رجلا يزن قد أرجح، فقال: أقم اللسان، أقم اللسان، أليس قد قال الله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) .
وقوله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) يقول: وأقيموا لسان الميزان بالعدل.
وقوله: (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) يقول تعالى ذكره: ولا تنقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:

(22/14)


وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) قال قتادة، قال ابن عباس: يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم، اتقى الله رجل عند ميزانه، اتقى الله رجل عند مكياله، فإنما يعدله شيء يسير، ولا ينقصه ذلك، بل يزيده الله إن شاء الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) قال: نقصه إذا نقصه فقد خَسَّره، تخسيره نقصه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) }
يقول تعالى ذكره (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) والأرض وطأها للخلق، وهم الأنام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لِلأنَامِ) يقول: للخلق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) قال: كلّ شيء فيه الروح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن

(22/15)


الحسن، في قوله: (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) قال: للخلق الجنّ والإنس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لِلأنَامِ) قال: للخلائق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لِلأنَامِ) قال: للخلق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَضَعَهَا لِلأنَامِ) قال: الأنام: الخلق.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) قال: للخلق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقوله: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ

(22/16)


الأكْمَامِ) يقول تعالى ذكره: في الأرض فاكهة، والهاء والألف فيها من ذكر الأرض. (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) : والأكمام: جمع كِمّ، وهو ما تكممت فيه.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال: بعضهم: عنى بذلك تكمم النخل في الليف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن، عن قوله: (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) ، فقال: سَعَفة من ليف عُصبَتْ بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن (ذَاتُ الأكْمَامِ) : أكمامها: ليفها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) : الليف الذي يكون عليها.
وقال آخرون: يعني بالأكمام: الرُّفات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) ، قال: أكمامها رُفاتها.
وقال آخرون: بل معنى الكلام: والنخل ذات الطلع المتكمم في كمامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) ، وقيل له: هو الطلع، قال: نعم، وهو في كم منه حتى ينفتق عنه، قال: والحبّ أيضا في أكمام. وقرأ: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف النخل بأنها ذات أكمام، وهي متكممة في ليفها، وطلعها متكمم في جُفِّهِ، ولم يخصص الله الخبر عنها بتكممها في ليفها ولا تكمم طلعها في جفه، بل عمّ الخبر عنها بأنها ذات أكمام.
والصواب أن يقال: عني بذلك ذات ليف، وهي به مُتَكَممة وذات طَلعْ هو في جُفِّه متكمِّمٌ فيُعَمَّم، كما عَمَّ جلّ ثناؤه.
وقوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) يقول تعالى ذكره: وفيها الحبّ، وهو حبّ البُرّ والشعير ذو الورق، والتبن: هو العَصْف، وإياه عنى علقمة بن عَبَدَة:
تَسقِى مَذَانِبَ قَدْ مالَتْ عَصِيفَتُها ... حَدُورَها مِنْ أتِيّ المَاء مَطْمومُ (1)
__________
(1) هذا الشاهد من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 172 من مصورة جامعة القاهرة رقم 26390 عن نسخة "مراد متلا ". وهذا بعد ان انتهت مراجعنا على الصورة الأولى رقم 26059 لانتهاء أورقها عند سورة القمر) أنشده أبو عبيدة عند قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان) قال: تخرج له عصيفة، وهي أذنته أعلاه، وهو الهبود، وأذنه إنما هي زيادته وكثرته وورقه الذي يتعصف.وهو كما قال علقمة بن عبدة " تسقى مذانب ... البيت ".
طمها: ملأها لم يبق فيها شيء، وطم إناءه ملأه. وقال شارح مختار الشعر الجاهلي 426: المذانب جمع مذنب، وهو مسيل الماء إلى الأرض، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى ويرها: وعصيفتها: هي الورق الذي يجز فيؤكل، ثم يسقى أصله، ليعود ورقه. وجذورها: الذي انحدر من هذه المذانب واطمأن. الأتي: الجدول. وأراد به هنا: ما يسيل من الماء في الجدول. والمطموم: المملوء بالماء.

(22/17)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) يقول: التبن.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) قال: العصف: ورق الزرع الأخضر الذي قطع رءوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) : البقل من الزرع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) ، وعصفه تبنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: العصف: التبن.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) ، قال: الحبّ: البّر والشعير، والعصف: التِّبن.

(22/18)


حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا عبد الله بن المبارك الخراسانيّ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) قال: الحب أول ما ينبت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) قال: العصف: الورق من كل شيء. قال: يقال للزرع إذا قُطع: عصافة، وكلّ ورق فهو عصافة.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا أبو روق عطية بن الحارث، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) قال: العصف: التبن.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس (ذُو الْعَصْفِ) قال: العصف: الزرع.
وقال بعضهم: العصف: هو الحب من البرّ والشعير بعينه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) ، أما العصف: فهو البرّ والشعير.
وأما قوله: (وَالرَّيْحَانُ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: هو الرزق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زيد بن أخزم الطائي، قال: ثنا عامر بن مدرك، قال: ثنا

(22/19)


عتبة بن يقظان، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كلّ ريحان في القرآن فهو رزق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالرَّيْحَانُ) قال: الرزق.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك (وَالرَّيْحَانُ) : الرزق، ومنهم من يقول: ريحاننا.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (وَالرَّيْحَانُ) قال: الريح.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا أبو روق عطية بن الحارث، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالرَّيْحَانُ) قال: الرزق والطعام.
وقال آخرون: هو الريحان الذي يشمّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: (الريحان) ما تنبت الأرض من الريحان.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالرَّيْحَانُ) : أما الريحان فما أنبتت الأرض من ريحان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (وَالرَّيْحَانُ) قال: ريحانكم هذا، حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَالرَّيْحَانُ) : الرياحين التي توجد ريحها.

(22/20)


وقال آخرون: هو خُضرة الزرع.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالرَّيْحَانُ) يقول: خُضرة الزرع.
وقال آخرون: هو ما قام على ساق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: (الريحان) ما قام على ساق.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي به الرزق، وهو الحبّ الذي يؤكل منه.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر عن الحبّ أنه ذو العصف، وذلك ما وصفنا من الورق الحادث منه، والتبن إذا يبس، فالذي هو أولى بالريحان، أن يكون حبه الحادث منه، إذ كان من جنس الشيء الذي منه العصف، ومسموع من العرب تقول: خرجنا نطلب رَيْحان الله ورزقه، ويقال: سبحانَك وريحانَك: أي ورزقك، ومنه قول النمر بن تَوْلب:
سَلامُ الإله وَرَيْحانُهُ ... وجَنَّتُهُ وسَماءٌ درَرْ (1)
وذُكر عن بعضهم أنه كان يقول: العصف: المأكول من الحبّ
__________
(1) البيت للنمر بن تولب العكلي (اللسان: روح) وبعده:
غَمامٌ يُنَزِّل رِزْقَ العِباد ... فأحْيا البِلادَ وطَابَ الشَّجَرْ
وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 172 من المصورة 26390 بجامعة القاهرة) قال: والريحان والحب منه الذي يؤكل، يقال: سبحانك وريحانك: أي رزقك؛ قال النمر بن تولب " سلام الإله ... البيت " اهـ. وفي (اللسان: درر) : والدرة في الأمطار أن يتبع بعضها بعضا، وجمعها: درر، وللسحاب درر: أي صب، الجمع: درر؛ قال النمر بن تولب: ... البيتين. سماء درر أي: ذات درر. اهـ.

(22/21)


فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)

والريحان: الصحيح الذي لم يؤكل.
واختلفت القراء في قراءة قوله: (وَالرَّيْحَانُ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين، وبعض الكوفيين بالرفع عطفا به على الحبّ، بمعنى: وفيها الحبّ ذو العصف، وفيها الريحان أيضا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين. (وَالرَّيْحَانُ) بالخفض عطفا به على العصف، بمعنى والحبّ ذو العصف وذو الريحان. (1)
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأه بالخفض للعلة التي بينت في تأويله، وأنه بمعنى الرزق. وأما الذين قرءوه رفعا، فإنهم وجَّهوا تأويله فيما أرى إلى أنه الريحان الذي يشمّ، فلذلك اختاروا الرفع فيه وكونه خفضا بمعنى: وفيها الحبّ ذو الورق والتبن، وذو الرزق المطعوم أولى وأحسن لما قد بيَّناه قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) : فبأيّ نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم تكذّبان.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سهل السراج، عن الحسن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) : فبأيّ نعمة ربكما تكذّبان.
قال عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قال: لا بأيتها يا ربّ.
__________
(1) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن صفحة 320 من المخطوطة.

(22/22)


حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك النضري، قالا ثنا يحيى بن سليمان الطائفي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ سورة الرحمن، أو قُرئت عنده، فقال "ما لِيَ أسْمَعُ الجنّ أحْسَنَ جَوَابا لِرَبِّها مِنْكُمْ؟ " قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: "ما أتَيْتُ على قَوْلِ اللهِ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ؟ إلا قالت الجنّ: لا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبِّنا نُكَذّبُ."
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعمة الله تكذّبان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول للجنّ والإنس: بأيّ نِعم الله تكذّبان.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش وغيره، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قال: لا بأيتها ربنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قال: الآلاء: القدرة، فبأيّ آلائه تكذّب خلقكم كذا وكذا، فبأيّ قُدرة الله تكذّبان أيها الثَّقَلان، الجنّ والإنس.
فإن قال: لنا قائل: وكيف قيل: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فخاطب اثنين، وإنما ذكر في أول الكلام واحد، وهو الإنسان؟ قيل: عاد بالخطاب في قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلى الإنسان والجانّ، ويدلّ على أن ذلك كذلك ما بعد هذا من الكلام، وهو قوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) . وقد قيل: إنما جعل الكلام خطابا لاثنين، وقد ابتدئ الخبر عن واحد، لما قد جرى من فعل العرب تفعل ذلك، وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين، فيقولون: خلياها يا غلام، وما أشبه ذلك، مما قد بيَّناه من كتابنا هذا في غير موضع.

(22/23)


وقوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) يقول تعالى ذكره: خلق الله الإنسان وهو آدم من صلصال: وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ، فإنه من يبسه له صلصلة إذا حرّك ونقر كالفخار، يعني أنه من يُبسه وإن لم يكن مطبوخا، كالذي قد طُبخ بالنار، فهو يصلصل كما يصلصل الفخار، والفخار: هو الذي قد طُبخ من الطين بالنار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيريّ، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، يعني الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) قال: هو من الطين الذي إذا مطرت السماء فيبست الأرض كأنه خزف رقاق.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: خلق الله آدم من طين لازب، واللازب: اللَّزِج الطيب من بعد حمأ مسنون مُنْتن.
قال: وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوّت، قال: فهو قول الله تعالى: (كَالْفَخَّارِ) يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن سعيد وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: الصلصال: التراب المدقق.

(22/24)


حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: الصلصال: التراب المدقَّق.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) يقول: الطين اليابس.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) قال: الصلصال: طين خُلط برمل فكان كالفخار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) والصلصال: التراب اليابس الذي يُسمع له صلصلة فهو كالفخار، كما قال الله عزّ وجلّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) ، قال: من طين له صلصلة كان يابسا، ثم خلق الإنسان منه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) ، قال: يبس آدم في الطين في الجنة، حتى صار كالصلصال، وهو الفخار، والحمأ المسنون: المنتن الريح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) قال: من تراب يابس له صلصلة.
قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) قال: ما عصر فخرج من بين الأصابع، ولو وجه موجه قول صلصال إلى أنه فعلال من قولهم صلّ اللحم: إذا أنتن وتغيرت ريحه، كما قيل من صرّ الباب صرصر، وكبكب من كب، كان وجها ومذهبا.
وقوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) يقول تعالى ذكره: وخلق الجانّ من مارج من نار، وهو ما اختلط بعضه ببعض، من بين أحمر، وأصفر

(22/25)


وأخضر من قولهم: مَرج أمر القوم: إذا اختلط، ومن قول النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعبد الله بن عمرو:" كَيْفُ بِكَ إذَا كُنْتَ فِي حُثالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ! وَذلكَ هُوَ لَهَبُ النَّارِ وَلِسانُهُ".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن يوسف الجبيريّ أبو حفص، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: من أوسطها وأحسنها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) يقول: خلقه من لهب النار، من أحسن النار.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) يقول: خالص النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: خلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: من أحسن النار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: اللهب الأصفر والأخضر، الذي يعلو النار إذا أوقدت.
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: والأحمر.

(22/26)


حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: هو اللهب المنقطع الأحمر.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك، في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: أحسن النار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) ، قال: من لهب النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) : أي من لهب النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) قال: من لهب النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال: ابن زيد، في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) قال: المارج: اللهب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوام، عن قتادة (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) قال: من لهب من نار.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعمة ربكما معشر الثقلين من هذه النعم تكذّبان؟

(22/27)


رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) }
يقول تعالى ذكره: ذلكم أيها الثقلان (رَبُّ المَشْرقَينِ) ، يعني بالمشرقين: مشرق الشمس في الشتاء، ومشرقها في الصيف.

(23/27)


وقوله: (وَرَبُّ المَغْرِبَينِ) يعني: وربّ مغرب الشمس في الشتاء، ومغربها في الصيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى، قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: مشارق الصيف ومغارب الصيف، مشرقان تجري فيهما الشمس ستون وثلاث مئة في ستين وثلاث مئة بُرْج، لكلّ برج مطلع، لا تطلع يومين من مكان واحد. وفي المغرب ستون وثلاث مئة برج، لكل برج مغيب، لا تغيب يومين في برج.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: مشرق الشتاء ومغربه، ومشرق الصيف ومغربه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فمشرقها في الشتاء، ومشرقها في الصيف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: مشرق الشتاء ومغربه، ومشرق الصيف ومغربه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد، في قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: أقصر مشرق في السنة، وأطول مشرق في السنة، وأقصر مغرب في السنة، وأطول مغرب في السنة.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم التي أنعم بها عليكم من تسخيره الشمس لكم في هذين

(23/28)


المشرقين والمغربين تجري لكما دائبة بمرافقكما، ومصالح دنياكما ومعايشكما تكذّبان.
وقوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) يقول تعالى ذكره: مرج ربّ المشرقين وربّ المغربين البحرين يلتقيان، يعني بقوله: (مَرَجَ) : أرسل وخلى، من قولهم: مرج فلان دابته: إذا خلاها وتركها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يقول: أرسل.
واختلف أهل العلم في البحرين اللذين ذكرهما الله جلّ ثناؤه في هذه الآية، أيّ البحرين هما؟ فقال: بعضهم: هما بحران: أحدهما في السماء، والآخر في الأرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) قال: بحر في السماء، وبحر في الأرض.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر عن سعيد، في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) قال: بحر في السماء، وبحر في الأرض.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) قال: بحر في السماء والأرض يلتقيان كل عام.
وقال آخرون: عني بذلك بحر فارس وبحر الروم.

(23/29)


* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن زياد مولى مصعب، عن الحسن (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) قال: بحر الروم، وبحر فارس واليمن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) فالبحران: بحر فارس، وبحر الروم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) قال: بحر فارس وبحر الروم.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُني به بحر السماء، وبحر الأرض، وذلك أن الله قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطَرْ ماء السماء، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء.
وقوله: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) ، يقول تعالى ذكره: بينهما حاجز وبعدٌ، لا يُفسد أحدهما صاحبه فيبغي بذلك عليه، وكل شيء كان بين شيئين فهو برزخ عند العرب، وما بين الدنيا والآخرة برزخ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) : لا يبغي أحدهما على صاحبه.
قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا فطر، عن مجاهد، قوله: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) قال: بينهما حاجز من الله، لا يبغي أحدهما على الآخر.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) يقول: حاجز.

(23/30)


حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) ، والبرزخ: هذه الجزيرة، هذا اليبَس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: البرزخ الذي بينهما: الأرض التي بينهما.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) قال: حُجِز المالح عن العذب، والعذب عن المالح، والماء عن اليبس، واليبس عن الماء، فلا يبغي بعضه على بعض بقوتّه ولطفه وقُدرته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) قال: منعهما أن يلتقيا بالبرزخ الذي جعل بينهما من الأرض. قال: والبرزخ بعد الأرض الذي جعل بينهما.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (لا يَبْغِيانِ) فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يبغي أحدهما على صاحبه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عَن جعفر، عن ابن أبزى (لا يَبْغِيانِ) : لا يبغي أحدهما على صاحبه.
قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا فطر، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهما لا يختلطان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن

(23/31)


يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا يَبْغِيانِ) قال: لا يختلطان.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يبغيان على اليَبَس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا يَبْغِيانِ) : على اليبس، وما أخذ أحدهما من صاحبه فهو بغي، فحجز أحدهما عن صاحبه بقدرته ولطفه وجلاله تبارك وتعالى.
وقال آخرون: بل معناه: لا يبغيان أن يلتقيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (لا يَبْغِيانِ) قال: لا يبغي أحدهما أن يلتقي مع صاحبه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف البحرين اللذين ذكرهما في هذه الآية أنهما لا يبغيان، ولم يخصص وصفهما في شيء دون شيء، بل عمّ الخبر عنهما بذلك، فالصواب أن يُعَمَّ كما عمّ جلّ ثناؤه، فيقال: إنهما لا يبغيان على شيء، ولا يبغي أحدهما على صاحبه، ولا يتجاوزان حدّ الله الذي حدّه لهما.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم الله ربكما معشر الجنّ والإنس تكذّبان من هذه النعم التي أنعم عليكم من مَرْجه البحرين، حتى جعل لكم بذلك حلية تلبسونها كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) }

(23/32)


يقول تعالى ذكره: يخرج من هذين البحرين اللذين مرجهما الله، وجعل بينهما برزخا اللؤلؤ والمرجان. واختلف أهل التأويل في صفة اللؤلؤ والمرجان، فقال بعضهم: اللؤلؤ: ما عظم من الدر، والمرجان: ما صغُر منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) قال: اللؤلؤ: العظام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، أما اللؤلؤ فعظامه، وأما المرجان فصغاره، وإن لله فيهما خزانة دلّ عليها عامة بني آدم، فأخرجوا متاعا ومنفعة وزينة، ويُبلغه إلى أجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) قال: اللؤلؤ الكبار من اللؤلؤ، والمرجان: الصغار منه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، أما المرجان: فاللؤلؤ الصغار، وأما اللؤلؤ: فما عظُم منه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، قال: اللؤلؤ: ما عظُم منه، والمرجان: اللؤلؤ والصغار.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: المرجان: هو اللؤلؤ الصغار.
وحدثنا عمرو بن سعيد بن بشار القرشي، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الله بن ميسرة الحراني، قال: ثني شيخ بمكة من أهل الشأم، أنه سمع

(23/33)


كعب الأحبار يُسأل عن المرجان، فقال: هو البسذ.
قال أبو جعفر: البسذ له شُعَب، وهو أحسن من اللؤلؤ.
وقال آخرون: المرجان من اللؤلؤ: الكبار، واللؤلؤ منها: الصغار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، أو قيس بن وهب، عن مرّة، قال: المرجان: اللؤلؤ العظام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: المرجان، قال: ما عظم من اللؤلؤ.
حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا زُهير، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن عليّ وعن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: المرجان: عظيم اللؤلؤ.
وقال آخرون: المرجان: جيد اللؤلؤ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا شريك، عن موسى بن أبي عائشة، قال: سألت مرّة عن اللؤلؤ والمرجان قال: المرجان: جيد اللؤلؤ.
وقال آخرون: المرجان: حجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود، (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) قال: المرجان حجر.
والصواب من القول في اللؤلؤ، أنه هو الذي عرفه الناس مما يخرج

(23/34)


من أصداف البحر من الحبّ، وأما المرجان، فإني رأيت أهل المعرفة بكلام العرب لا يتدافعونه أنه جمع مرجانة، وأنه الصغار من اللؤلؤ. قد ذكرنا ما فيه من الاختلاف بين متقدمي أهل العلم، والله أعلم بصواب ذلك.
وقد زعم بعض أهل العربية، أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من أحد البحرين، ولكن قيل: يخرج منهما، كما يقال أكلت خبزا ولبنا، وكما قيل:
وَرأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفا وَرُمْحا (1)
وليس ذلك كما ذهب إليه، بل ذلك كما وصفت من قبل من أن ذلك يخرج من أصداف البحر، عن قطر السماء، فلذلك قيل: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) يعني بهما: البحران.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سفيان بن جبير، عن ابن
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 323) . وقد سبق استشهاد المؤلف به أكثر من مرة،فارجع إليه في الأجزاء (3: 275،6: 281، 7: 294، 9: 200،11: 142 وشرحه مستوفي في الجزأين 3، 11) . وأنشده الفراء هنا عند قوله تعالى: (وحور عين) وقال:خفضها أصحاب عبد الله (ابن مسعود) وهو وجه العربية، وإن كان أكثر القراء على الرفع؛ لأنهم هابوا أن يجعلوا الحور العين يطاف بهن، فرفعوا على قولك: ولهم حور عين، أو عندهم حور عين. والخفض على أن يتبع آخر الكلام بأوله، وإن لم يحسن في آخره ما حسن في أوله، أنشدني بعض العرب:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
فالعين لا تزجج، إنما تكحل، فردها على الحواجب، لأن المعنى يعرف. وأنشدني آخر: " ولقيت زوجك في الوغى ... البيت "، والرمح لا يتقلد، فرده على السيف. اهـ.

(23/35)


عباس، قال: إن السماء إذا أمطرت، فتحت الأصداف أفواهها، فمنها اللؤلؤ.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: ثنا أبو يحيى الحماني، قال: ثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا نزل القطر من السماء، تفتَّحت الأصداف فكان لؤلؤا.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، قال: ثنا الفريابي، قال: ذكر سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جَبُيْر، عن ابن عباس، قال: إن السماء إذا أمطرت تفتحت لها الأصداف، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ.
حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري، قال: أخبرنا محمد بن سوار، قال: ثنا محمد بن سليمان الكرخي ابن أخي عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الرحمن الأصبهاني، عن عكرِمة، قال: ما نزلت قطرة من السماء في البحر إلا كانت بها لؤلؤة أو نبتت بها عنبرة. فيما يحسب الطبري.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (يَخْرُجُ) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين بفتح الياء.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معنييهما.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، يقول تعالى ذكره: فبأيّ نِعم ربكما معشر الثقلين التي أنعم بها عليكم فيما أخرج لكم من منافع هذين البحرين تكذّبان.
وقوله: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ) ، يقول تعالى ذكره: ولربّ المشرقين والمغربين الجواري، وهي السفن الجارية في البحار.

(23/36)


وقوله: (الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (المُنْشِئاتُ) بكسر الشين، بمعنى: الظاهرات السير اللاتي يقبلن ويدبرن. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والمدينة وبعض الكوفيين (المُنْشَئاتُ) ، بفتح الشين، بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهنّ وتدبر.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.
* ذكر من قال في تأويل ذلك ما ذكرناه فيه:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) قال: ما رفع قلعه من السفن فهي منشئات، وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشأة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ) يعني: السفن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ) : يعني: السفن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قَال ابن زيد، في قوله: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ) قال: السفن.
وقوله: (كالأعْلام) يقول: كالجبال، شبَّه السفن بالجبال، والعرب تسمي كل جبل طويل علما، ومنه قول جرير:
إذا قَطَعْنا عَلَما بَدَا عَلَمُ................... (1)
__________
(1) البيت من مقطوعة من الرجز لجرير الخطفي (ديوانه 520) وتمامه: * حتى تناهين بنا إلى الحكم *
يمدح الحكم بن أيوب الثقفي صهر الحجاج وابن عمه. يصف النوق التي حملته إليه، ولذلك نرجح روايته " قطعن " بنون جمع النسوة على رواية " قطعنا " بضمير جماعة الذكور، وإن كانت جائزة في المعنى. والأعلام: جمع علم: وهو الجبل الطويل، سمي علما، لأن المسافر يجعله علامة وأمارة على الطريق. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 173 - 1) وقال: كالأعلام: كالجبال، قال جرير يصف الإبل: " إذ قطعن ... البيت ".

(23/37)


كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس التي أنعمها عليكم، بإجرائه الجواري المنشئات في البحر جارية بمنافعكم- تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) }
يقول تعالى ذكره: كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام; وذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع ذو. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله بالياء، (ذي الجَلال والإكْرام) على أنه من نعت الربّ وصفته.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نِعَم ربكما معشر الثقلين من هذه النعم تكذّبان.
وقوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره: إليه يَفْزع بمسألة الحاجات كلّ من في السموات والأرض، من مَلَك وإنس وجنّ وغيرهم، لا غنى بأحد منهم عنه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، يُحْيي حَيا، ويُمِيت ميتا، ويربي صغيرا، ويذلّ

(23/38)


كبيرًا، وهو مَسْأل حاجات الصالحين، ومنتهى شكواهم، وصريخ الأخيار.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: يعني مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة، كلّ يوم هو في ذلك.
وقوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، يقول تعالى ذكره: هو كلّ يوم في شأن خلقه، فيفرج كرب ذي كرب، ويرفع قوما، ويخفض آخرين، وغير ذلك من شئون خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن خباب، والأعمش عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: يجيب داعيا، ويعطي سائلا أو يفكّ عانيا، أو يشفي سقيما.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير في قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: يفكّ عانيا، ويشفي سقيما، ويجيب داعيا.
وحدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، في قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: من شأنه أن يعطي سائلا ويفك عانيا، ويجيب داعيا، ويشفي سقيما.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: كلّ يوم هو يجيب داعيا، ويكشف كربا، ويجيب مضطرًا، ويغفر ذنبا.

(23/39)


سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يجيب داعيا، ويعطي سائلا ويفك عانيا، ويتوب على قوم، ويغفر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: يخلق مخلقا، ويميت ميتا، ويحدث أمرا.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا عمرو بن بكر السكسكي، قال: ثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني، عن أبيه عبدة بن رباح، عن منيب بن عبد الله الأزدي، عن أبيه قال: تلا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه الآية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا: يا رسول الله، وما ذلك الشأن؟ قال: "يَغْفِرُ ذَنْبَا، ويُفَرّجُ كَرْبا، ويَرْفَعُ أقْوَاما، وَيَضَعُ آخَرِينَ."
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إن الله خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كلّ يوم ثلاث مئة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة، ويُحيي ويميت، ويُعزّ ويُذلّ، ويفعل ما يشاء.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، يقول تعالى ذكره: فبأيّ نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس، التي أنعم عليكم من صرفه إياكم في مصالحكم، وما هو أعلم به منكم من تقليبه إياكم، فيما هو أنفع لكم تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا

(23/40)


يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)

تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين (سَنَفَرغُ لَكُمْ) بالنون. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (سَيََفرغ لَكُمْ) بالياء، وفتحها ردّا على قوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) ، ولم يقل: يسألنا من في السموات، فأتبعوا الخبر الخبر.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.
وأما تأويله: فإنه وعيد من الله لعباده وتهدد، كقول القائل الذي يتهدّد غيره ويتوعده، ولا شغل له يشغله عن عقابه، لأتفرغنّ لك، وسأتفرّغ لك، بمعنى: سأجدّ في أمرك وأعاقبك، وقد يقول القائل للذي لا شغل له: قد فرغت لي، وقد فرغت لشتمي: أي أخذت فيه، وأقبلت عليه، وكذلك قوله جلّ ثناؤه: (سَنَفْرغُ لَكُمْ) : سنحاسبكم، ونأخذ في أمركم أيها الإنس والجنّ، فنعاقب أهل المعاصي، ونثيب أهل الطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) ، قال: وَعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل، وهو فارغ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه تلا (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) قال: دنا من الله فراغ لخلقه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جُويبر، عن

(23/41)


الضحاك (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) ، قال: وعيد، وقد يحتمل أن يوجه معنى ذلك إلى: سنفرغ لكم من وعدناكم ما وعدناكم من الثواب والعقاب.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) : فبأيّ نعم ربكما معشر الثقلين التي أنعمها عليكم، من ثوابه أهل طاعته، وعقابه أهل معصيته تكذّبان؟.
وقوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا) : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) ، فقال بعضهم: معنى ذلك: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم؛ فجوزوا ذلك، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم. قالوا: وإنما هذا قول يقال لهم يوم القيامة. قالوا: ومعنى الكلام: سنفرغ لكم أيها الثقلان، فيقال لهم (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، قال: "إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشقَّقت بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، فأحاطوا بالأرض ومن عليها بالثانية، ثم بالثالثة، ثم بالرابعة، ثم بالخامسة، ثم بالسادسة، ثم بالسابعة، فصفوا صفا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبِّته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندوّا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، وذلك قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، وقوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) ، وذلك قوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) .

(23/42)


وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا هاربين من الموت، فإن الموت مُدرككم، ولا ينفعكم هربكم منه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) .... الآية، يعني بذلك أنه لا يجيرهم أحد من الموت، وأنهم ميتون لا يستطيعون فرارا منه، ولا محيصا، لو نفذوا أقطار السموات والأرض كانوا في سُلطان الله، ولأخذهم الله بالموت.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) يقول: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه، لن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله جلّ ثناؤه.
وقال آخرون: معنى قوله: (لا تَنْفُذُونَ) : لا تخرجون من سلطاني.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) : يقول: لا تخرجون من سلطاني.
وأما الأقطار فهي جمع قُطْر، وهي: الأطراف.
كماحدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ

(23/43)


تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) قال: من أطرافها.
وقوله جلّ ثناؤه (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا) يقول: من أطرافها.
وأما قوله: (إلا بسُلْطانٍ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم معناه: إلا ببينة وقد ذكرنا ذلك قبل.
وقال آخرون: معناه: إلا بحجة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن عكرِمة (لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) قال: كلّ شيء في القرآن سلطان فهو حجة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بسُلْطانٍ) قال: بحجة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا بملك وليس لكم ملك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) قال: لا تنفذون إلا بملك، وليس لكم ملك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) قال: إلا بسلطان من الله، إلا بملكة منه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) ، يقول: إلا بملكة من الله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: إلا بحجة وبينة، لأن ذلك هو معنى السلطان في كلام العرب، وقد يدخل الملك في

(23/44)


يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)

ذلك، لأن الملك حجة.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما تكذّبان معشر الثقلين التي أنعمت عليكم -من التسوية بين جميعكم، لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم- تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) }
يقول تعالى ذكره (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا) أيها الثقلان يوم القيامة (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) ، وهو لهبها من حيث تشتعل وتؤجَّج بغير دخان كان فيه ومنه قول رُؤْبة بن العجَّاج:
إنَّ لَهُمْ مِنْ وَقْعِنا أقْياظا ونارُ حَرْب تُسْعِرُ الشُّوَاظا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) ، يقول: لَهَب النار.
__________
(1) البيتان في ديوان العجاج (طبع ليبسج 81) ، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (الورقة 173) ولم يظهر اسم الشاعر، قال عند قوله تعالى (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) : شواظ (بضم أوله) وشواظ (بكسر أوله) (ضبط قلم) : واحد.وهو النار التي تأجج لا دخان فيها.
قال: " إن لهم من وقعنا " ... البيتين، وفي (اللسان: شوظ) والشواظ والشوظ (بضم الأول وكسر الثاني) : اللهب الذي لا دخان فيه. وقال رؤبة: " إن لهم ... البيتين ". وفي التنزيل العزيز: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) . قال الفراء: أكثر القراء قرءوا شواظ (بالضم) وكسر الحسن الشين، كما قالوا لجماعة البقر صوار صوار. اهـ.

(23/45)


حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) يقول: لهب النار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: لهب النار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: اللهب المتقطع. (1)
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن مجاهد (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: الشُّواظ: الأخضر المتقطع من النار.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: الشواظ: هذا اللهب الأخضر المتقطع من النار.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: الشواظ: اللهب الأخضر المتقطع من النار.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك: (الشُّوََاظُ) : اللهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) : أي لهب من نار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: لهب من نار.
__________
(1) المتقطع: كذا في الأصل. وهو كذلك بالشوكاني (5: 134) .

(23/46)


وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قال: الشواظ: اللهب، وأما النحاس فالله أعلم بما أراد به.
ذكر من قال ذلك:
وقال آخرون: الشُّواظ: هو الدخان الذي يخرج من اللهب.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) : الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (شُوَاظٌ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة، غير ابن أبي إسحاق (شُوَاظٌ) بضم الشين، وقرأ ذلك ابن أبي إسحاق، وعبد الله بن كثير (شِوَاظٌ مِنْ نارٍ) بكسر الشين، وهما لغتان، مثل الصوار من البقر، والصّوار بكسر الصاد وضمها. وأعجب القراءتين إليّ ضمّ الشين، لأنها اللغة المعروفة، وهي مع ذلك قراءة القرّاء من أهل الأمصار.
وأما قوله: (ونُحاسٌ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم: عُنِي به الدخان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا موسى بن عمير، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله: (وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ) قال: النحاس: الدخان.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (ونُحاسٌ) : دخان النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (ونُحاسٌ) : قال: دخان.

(23/47)


وقال آخرون: عني بالنحاس في هذا الموضع: الصُّفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ونُحاسٌ) قال: النحاس: الصفر يعذّبون به.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (ونُحاسٌ) قال: يذاب الصفر من فوق رءوسهم.
قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (ونُحاسٌ) قال: يذاب الصفر فيصبّ على رأسه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، (ونُحاسٌ) : يذاب الصفر فيصبّ على رءوسهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (ونُحاسٌ) قال: توعدهما بالصُّفر كما تسمعون أن يعذّبهما به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) قال: يخوّفهم بالنار وبالنحاس.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بالنحاس: الدخان، وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر أنه يرسل على هذين الحيَّين شواظ من نار، وهو النار المحضة التي لا يخلطها دخان. والذي هو أولى بالكلام أنه توعدهم بنار هذه صفتها أن يُتبع ذلك الوعد بما هو خلافها من نوعها من العذاب، دون ما هو من غير جنسها، وذلك هو الدخان، والعرب تسمي الدخان نُحاسا بضم النون، ونحاسا بكسرها، والقرّاء مجمعة على ضمها، ومن النُّحاس بمعنى الدخان، قول نابغة بني ذُبيان:

(23/48)


يَضُوءُ كَضَوْء سِرَاج السَّلي ط لْم يجْعَل اللهُ فيهِ نُحاسا (1)
يعني: دخانا.
وقوله: (فَلا تَنْتَصِرَانِ) يقول تعالى ذكره: فلا تنتصران أيها الجنّ والإنس منه، إذا هو عاقبكما هذه العقوبة، ولا تُستنقذان منه.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا تَنْتَصِرَانِ) قال: يعني الجنّ والإنس.
قال: وقوله: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) يقول تعالى ذكره: فإذا انشقَّت السماء وتفطَّرت، وذلك يوم القيامة، فكان لونها لون البرذون الورد الأحمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) قال: كالفرس الورد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) يقول: تغير لونها.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حيوية، قال: ثنا شهاب بن عباد، قال:
__________
(1) البيت لنابغة بني جعدة مجاز القرآن (الورقة 173 - ب) وحرف الناسخ اسمه، فقال كنابغة بني ذبيان في تفسير المؤلف هذا. قال أبو عبيدة عند قوله تعالى: " ونحاس ": نحاس ونحاس (بضم أوله وكسره، ضبط قلم) والنحاس: الدخان، قال نابغة بني جعدة " تضيء كضوء.... البيت " وفي أوله: تضيء بالياء، لا بالواو، كما كتبه ناسخ التفسير. (وفي اللسان ضوأ) ضاء السراج يضوء، وأضاء يضيء. قال: واللغة الثانية هي المختارة. اهـ.

(23/49)


ثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي صالح في قوله: (وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) قال: كلون البرذون الورد، ثم كانت بعد كالدهان.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) يقول: تتغير السماء فيصير لونها كلون الدابة الوردة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) : هي اليوم خضراء كما ترون، ولونها يوم القيامة لون آخر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا ابن العوّام، عن قتادة، في قوله: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) قال: هي اليوم خضراء، ولونها يومئذ الحمرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) قال: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها يومئذ لون آخر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، فى قوله: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) ، قال: مشرقة كالدهان.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (كالدّهانِ) ، فقال بعضهم: معناه كالدهن صافية الحمرة مشرقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) قال: كالدهن.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كالدّهانِ) يعني: خالصة.
وقال آخرون: عني بذلك: فكانت وردة كالأديم، وقالوا: الدهان:

(23/50)


فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)

جماع، واحدها دهن.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني به الدهن في إشراق لونه، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ قدرة ربكما معشر الجنّ والإنس -على ما أخبركم بأنه فاعل بكم- تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) }

(23/51)


يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)

القول في تأويل قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) }
يقول تعالى ذكره: فيومئذ لا يسأل الملائكة المجرمين عن ذنوبهم، لأن الله قد حفظها عليهم، ولا يسأل بعضهم عن ذنوب بعض، ربهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) يقول تعالى ذكره: لا يسألهم عن أعمالهم، ولا يسأل بعضهم عن بعض وهو مثل قوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، ومثل قوله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) قال: حفظ الله عزّ وجلّ عليهم أعمالهم.

(23/51)


حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) قال: كان مجاهد يقول: لا يسأل الملائكة عن المجرم يعرفون بسيماهم.
حدثنا محمد بن بشار، وقال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام عن قتادة (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) قال: قد كانت مسألة ثم ختم على ألسنة القوم، فتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما معشر الثقلين، -التي أنعم عليكم من عدله فيكم، أنه لم يعاقب منكم إلا مجرما-. (1)
وقوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) يقول تعالى ذكره تعرف الملائكة المجرمين بعلاماتهم وسيماهم التي يسوّمهم الله بها من اسوداد الوجوه، وازرقاق العيون.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن الحسن، في قوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) قال: يعرفون باسوداد الوجوه، وزُرقة العيون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) قال: زرق العيون، سود الوجوه.
وقوله: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ) ، يقول تعالى ذكره: فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى جهنم، وتقذفهم فيها
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس -التي أنعم عليكم بها من تعريفه ملائكته أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم، حتى خصوا
__________
(1) لعله سقط من قلم الناسخ كلمة " تكذّبان "، التي اعتاد المؤلف أن يختم بها مثل هذا التعبير فيما مضى منقول الله سبحانه (فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان) ؟

(23/52)


هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

بالإذلال والإهانة المجرمين دون غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) }
يقول تعالى ذكره: يقال لهؤلاء المجرمين الذين أخبر جلّ ثناؤه أنهم يعرفون يوم القيامة بسيماهم حين يؤخذ بالنواصي والأقدام: هذه جهنم التي يكذّب بها المجرمون، فترك ذكر "يقال" اكتفاء بدلالة الكلام عليه منه، وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (وهذه جهنم التي كنتما بها تكذّبان تصليانها، لا تموتان فيها ولا تحييان) . (1)
وقوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يقول تعالى ذكره: يطوف هؤلاء المجرمون الذين وصف صفتهم في جهنم بين أطباقها (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يقول: وبين ماء قد أسخن وأغلي حتى انتهى حرّه وأنى طبخه، وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى، ومنه قوله: (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) يعني: إدراكه وبلوغه، كما قال: نابغة بني ذُبيان:
ويُخْضَب لِحْيَةٌ غدَرَتْ وخانَتْ بأحمَرَ مِنْ نَجيع الجَوْفِ آني (2)
__________
(1) ذكر الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة 24059 صفحة 321) قراءة عبد الله، وزاد فيها بعد قوله: (تحييان) : تطوفان. اهـ. و " تطوفان ": هي بدء الآية التي بعدها: (يطوفون بينها.... إلخ) .
(2) البيت لنابغة بني ذبيان (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي 194) من قصيدة يهجو بها يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي في قصة ذكرها شارحه في 193 عند بدء القصيدة، (وانظر شرح الأعلم، والوزير أبي بكر البطليوسي على الأشعار الستة، والجزء الأول من خزانة الأدب الكبرى، لعبد القادر البغدادي 204 - 205) وقال شارح البيت: نجيع الجوف: الدم الخالص. والآنى: الشديد الحرارة، وهو الذي بلغ أناه. اهـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 173 - ب) : عند قوله تعالى: (وبين حميم آن: بلغ أناه في شدة الحر. اهـ.

(23/53)


يعني: مدرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يقول: انتهى حرُّه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يقول: غلى حتى انتهى غليه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال: قد بلغ إناه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: الآني الذي قد انتهى حرّه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب، عن بشر، عن عكرِمة، عن ابن عباس (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال: الآني: ما اشتدّ غليانه ونضجه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (حَمِيمٍ آنٍ) : هو الذي قد انتهى غَلْيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال: أنى طبخها منذ يوم خلق الله السموات والأرض.

(23/54)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يقول: حميم قد أنى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (حَمِيمٍ آنٍ) يقول: حميم قد آن منتهى حره.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (حَمِيمٍ آنٍ) قال: قد انتهى حرّه.
وقال بعضهم: عنى بالآني: الحاضر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال: يطوفون بينها وبين حميم حاضر، الآني:الحاضر.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس التي أنعمها عليكم -بعقوبته أهل الكفر به، وتكريمه أهل الإيمان به - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) }
يقول تعالى ذكره: ولمن اتقى الله من عباده -فخاف مقامه بين يديه، فأطاعه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه - جنتان، يعني بستانين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عن تأويله، غير أن معنى جميعهم يقول إلى هذا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: وعد الله جلّ ثناؤه

(23/55)


المؤمنين الذين خافوا مقامه، فأدَّوا فرائضه الجنة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) يقول: خاف ثم اتقى، والخائف: من ركب طاعة الله، وترك معصيته.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن مجاهد، في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ، هو الرجل يهم بالذنب، فيذكر مقام ربه فينزع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن منصور، عن مجاهد، قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: الرجل يهمّ بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيتركه، فله جنتان.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر الله عزّ وجلّ فيدعها.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: في الذي إذا همّ بمعصية تركها.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن مجاهد، قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: هو الرجل يهمّ بمعصية الله تعالى، ثم يتركها مخافة الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: يذنب الذنب فيذكر مقام ربه فيدعه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: إذا أراد أن يذنب أمسك مخافة الله.

(23/56)


حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: إن المؤمنين خافوا ذاكم المقام فعملوا له، ودانوا له، وتعبَّدوا بالليل والنهار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، قال: ثنا قتادة، في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: إن لله مقاما قد خافه المؤمنون.
حدثني محمد بن موسى، قال: ثنا عبد الله بن الحارث القرشيّ، قال: ثنا شعبة بن الحجاج، قال: ثنا سعيد الجريريّ، عن محمد بن سعد، عن أبي الدرداء، قال، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإنْ زَنى وسَرقَ وإنْ رَغِمَ أنْف أبي الدَّرْداء".
وحدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار، قال: أخبرني أبو الدرداء أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قرأ يوما هذه الآية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ، فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال فقلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: " وَإنْ زَنى وإنْ سَرَقَ رَغْمَ أنْفِ أبي الدَّرْدَاءِ".
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر، عن أبي موسى، عن أبيه، قال: حماد لا أعلمه إلا رفعه في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: جنتان من ذهب للمقرّبين أو قال: للسابقين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا سيار، قال: قيل لأبي الدرداء في هذه الآية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فقيل:

(23/57)


وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق.
وقال: إنه إن خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن ابن المبارك، عن سعيد الجريريّ، عن رجل، عن أبي الدرداء (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فقال: أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق، قال:" نعم، وإن رغِمَ أنْفُ أبي الدرداء".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن الصلت، عن عمرو بن ثابت، عمن ذكره، عن أبي وائل، عن ابن مسعود في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: وإن زنى وإن سرق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: جنتا السابقين، فقرأ (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) ، فقرأ حتى بلغ (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، ثم رجع إلى أصحاب اليمين، فقال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) ، فذكر فضلهما وما فيهما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: مقامه حين يقوم العباد يوم القيامة، وقرأ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال: ذاك مقام ربك.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما أيها الثقلان -التي أنعم عليكم بإثابته المحسن منكم ما وصف جلّ ثناؤه في هذه الآيات - تكذّبان.
وقوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) يقول: ذواتا ألوان، واحدها فن، وهو من قولهم: افتن فلان في حديثه: إذا أخذ فى فنون منه وضروب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن

(23/58)


عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا ألوان.
حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الله بن النعمان، عن عكرِمة (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ظل الأغصان على الحيطان، قال: وقال الشاعر:
ما هاجَ شَوْقَكَ مِنْ هَدِيل حَمامَة تَدْعُو على فَنن الغُصُونِ حَماما
تَدْعُوا أبا فَرْخَين صَادَفَ ضاريا ذا مِخْلَبين مِنَ الصُّقُّورِ قَطاما (1) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا ألوان.
قال: ثنا مهران، عن أبي سنان (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا ألوان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) يقول: ألوان من الفاكهة.
وقال آخرون: ذواتا أغصان.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) لم أقف على قائل البيتين وأنشد ابن بري في (اللسان: هدر) البيت الأول منهما، ولم ينسبه قال صاحب اللسان عن ابن سيده في المحكم: الهديل: صوت الحمام، وخص بعضهم به وحشها، كالدباسي والقماري ونحوهما، هدل يهدل هديلا. وأنشد ابن بري:.... البيت قال: وقد جاء الهديل في صوت الهدهد. اهـ. والفنفن الغصن المستقيم طولا وعرضا. وقيل الغصن: القضيب، يعني المقضوب، والفنن: ما تشعب منه. والجمع: الأفنان ثم والأفانين.
وقال عكرمة في قوله تعالى: (ذواتا أفنان) قال: ظل الأغصان على الحيطان. وقال أبو الهيثم: فسرها بعضهم ذواتا أغصان وفسره بعضهم: ذواتا ألوان، واحدها حينئذ: فن، وفنن. قال أبو منصور: واحد الأفنان، إذا أردت بها ألوان فن. وإذا أردت بها الأغصان: فواحدها فنن. اهـ.
وقال في قطم: والقطامي: الصقر، ويفتح. وصقر قطام (كسحاب) وقَطامي وقطامي (بفتح أوله وضمه) : لحم. قيس يفتحون، وسائر العرب يضمون، وقد غلب عليه اسما، وهو مأخوذ من القطم، وهو المشتهى: اللحم وغيره.اهـ.

(23/59)


فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل البصرة، عن مجاهد (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا أغصان.
وقال آخرون: معنى ذلك: ذواتا أطراف أغصان الشجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) يقول: فيما بين أطراف شجرها، يعني: يمسّ بعضها بعضا كالمعروشات، ويقال: ذواتا فضول عن كل شيء.
وقال آخرون: بل عنى بذلك فضلهما وسعتهما على ما سواهما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) يعني: فضلهما وسعتهما على ما سواهما.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا فضل على ما سواهما.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما معشر الثقلين التي أنعم عليكما بإثابته هذا الثواب أهل طاعته - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) }
يقول تعالى ذكره في هاتين الجنتين عينا ماء تجريان خلالهما، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان.
وقوله: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) يقول تعالى ذكره: فيهما من

(23/60)


مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)

كلّ نوع من الفاكهة ضربان، فبأي آلاء ربكما -التي أنعم بها على أهل طاعته من ذلك تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) }
يقول تعالى ذكره (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) يتنعمون فيهما، (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ) ، فنصب متكئين على الحال من معنى الكلام الذي قبله، لأن الذي قبله بمعنى الخبر عمن خاف مقام ربه أنه في نَعْمة وسرور، يتنعمون في الجنتين.
وقوله: (عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) يقول تعالى ذكره: بطائن هذه الفرش من غليظ الديباج، والإستبرق عند العرب: ما غلظ من الديباج وخشن.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: يسمى المتاع الذي ليس في صفاقة الديباج، ولا خفة العَرَقَة إستبرقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
** ذكر من قال ذلك:
حدثني عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال، قال لي سالم بن عبد الله: ما الإستبرق؟ قال، قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه.
حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا يحيى بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن عكرِمة، في قوله: (إسْتَبْرَق) قال: الديباج الغليظ.
وحدثنا إسحاق بن زيد الخطابي، قال: ثنا الفريابيّ، عن سفيان، عن

(23/61)


أبي إسحاق، عن هبيرة بن يريم عن ابن مسعود في قوله: (فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) قال: قد أخبرتم بالبطائن، فكيف لو أخبرتم بالظواهر؟.
حدثنا الرفاعي، قال: ثنا ابن اليمان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، قال: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر؟.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: قيل له: هذه البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . وقد زعم أهل العربية أن البطانة قد تكون ظهارة، والظهارة تكون بطانة، وذلك أن كل واحد منهما قد يكون وجها. قال: وتقول العرب: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه.
وقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) يقول: وثمر الجنتين الذي يجتني قريب منهم، لأنهم لا يتعبون بصعود نخلها وشجرها، لاجتناء ثمرها، ولكنهم يجتنونها من قعود بغير عناء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) : ثمارهم دانية، لا يردّ أيديهم عنه بعد ولا شوك. ذُكر لنا أن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "وَالَّذي نَفسِي بيَدِهِ، لا يَقْطَعُ رَجُلٌ ثَمَرة مِنَ الجَنَّةِ، فَتَصِلُ إلى فِيهِ حتى يُبَدّلَ الله مَكانَها خَيْرا منْها".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) قال: لا يردّ يده بعد ولا شوك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) يقول: ثمارها دانية.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ آلاء ربكما معشر الثقلين التي أنعم عليكما -من أثاب أهل طاعته منكم هذا الثواب،

(23/62)


فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)

وأكرمهم هذه الكرامة - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) }
يقول تعالى ذكره في هذه الفرش التي بطائنها من إستبرق (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ، وهنّ النساء اللاتي قد قُصِرَ طرفهنّ على أزواجهنّ، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثني أبي، عن أبي يحيى، عن مجاهد في قوله: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) قال: قَصُر طرفهنّ عن الرجال، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) .... الآية، يقول: قُصِر طرفهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ، تقول: وعزّة ربي وجلاله وجماله، إن أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي، وجعلني زوجَك.
وقوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) يقول: لم يمسهنّ إنس قبل هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم، وهم الذين قال فيهم (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) . ولا جانّ يقال منه: ما طمث هذا البعيرَ حبلٌ قطّ: أيِ ما

(23/63)


مَسَّهُ (1) حبل.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول: الطمث هو النكاح بالتدمية، ويقول: الطمث هو الدم، ويقول: طمثها إذا دماها بالنكاح.
وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهنّ إنس قبلهم ولا جانّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) يقول: لم يُدْمِهنّ إنس ولا جانّ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن رجل عن عليّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) قال: منذ خلقهنّ.
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن مغيرة بن مسلم، عن عكرمة، قال: لا تقل للمرأة طامث، فإن الطَّمْث هو الجماع، إن الله يقول (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) .
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) قال: لَم يَمَسَّهنّ شيء إنسٌ ولا غيره.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) قال: لم يَمَسَّهنّ.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عاصم، قال: قلت لأبي العالية امرأة طامث، قال: ما طامث؟ فقال رجل:
__________
(1) كذا في (اللسان: طمث) . وفي الأصل: مشطه، ولعله تحريف من الناسخ.

(23/64)


كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

حائض، فقال أبو العالية: حائض، أليس يقول الله عزّ وجل (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) .
فإن قال قائل: وهل يجامع النساء الجنّ، فيقال: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) ؟ فإن مجاهدا روي عنه ما حدثني به محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا يحيى بن يَعْلَى الأسلميّ عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: إذا جامع الرجل ولم يسمّ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) .
وكان بعض أهل العلم ينتزع بهذه الآية في أن الجنّ يدخلون الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حُميد أحمد بن المغيرة الحمصي، قال: ثني أبو حَيْوة شريح بن يزيد الحضرمي قال: ثني أرطاة بن المنذر، قال: سألت ضَمْرة بن حبيب: هل للجنّ من ثواب؟ قال: نعم، ثم نزع بهذه الآية (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) ، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجنّ.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ آلاء ربكما معشر الجنّ والإنس -من هذه النعم التي أنعمها على أهل طاعته تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) }
يقول تعالى ذكره: كأن هؤلاء القاصرات الطرف، اللواتي هنّ في هاتين الجنتين في صفائهنّ الياقوت، الذي يرى السلك الذي فيه من ورائه، فكذلك يرى مخّ سوقهنّ من وراء أجسامهنّ، وفي حسنهنّ الياقوت والمرجان.

(23/65)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر الأثر الذي روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك:
حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا عبيدة، عن حُميد، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:" إنَّ المَرأةَ مِنْ أهْل الجَنَّة لَيُرَى بَياضُ ساقها مِنْ وَرَاء سَبْعِينَ حُلَّةً مِنْ حرير ومُخُّها، وذلكَ أن اللهَ تَبارَكَ وَتَعَالى يَقُولُ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) أمَّا الياقُوتُ فإنَّهُ لَوْ أدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لرأيْتَهُ مِنْ وَرَائِه".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون، قال، قال ابن مسعود: إن المرأة من أهل الجنة لتلبس سبعين حلة من حرير، يرى بياض ساقها وحسن ساقها من ورائهنّ، ذلكم بأن الله يقول (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، ألا وإنما الياقوت حجر فلو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته، لنظرت إلى السلك من وراء الحجر.
قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، في بياض المرجان.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون، قال: أخبرنا عبد الله: أن المرأة من أهل الجنة لتلبس سبعين حلة من حرير، فيرى بياض ساقها وحسنه، ومخّ ساقها من وراء ذلك، وذلك لأن الله قال (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، ألا ترى أن الياقوت حجر، فإذا أدخلت فيه سلكا، رأيت السلك من وراء الحجر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:" إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة، فيرى مخّ ساقها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء".
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا المطلب بن زياد، عن

(23/66)


السديّ، في قوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) قال: صفاء الياقوت وحسن المرجان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) صفاء الياقوت في بياض المرجان. ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:" مَنْ دَخَلَ الجَنَّةَ فَلَهُ فِيها زَوْجتَان يُرىَ مُخُّ سُوقِهِما مِنْ وَرَاءِ ثِيابِهِما".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) قال: شبه بهنّ صفاء الياقوت في بياض المرجان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) : في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) قال: كأنهن الياقوت في الصفاء، والمرجان في البياض، الصفاء: صفاء الياقوتة، والبياض: بياض اللؤلؤ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) قال: في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم عليكم معشر الثقلين -من إثابته أهل طاعته منكم بما وصف في هذه الآيات- تكذّبان.
وقوله: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) يقول تعالى ذكره: هل ثواب خوف مقام الله عزّ وجلّ لمن خافه، فأحسن فى الدنيا عَمله، وأطاع ربه، إلا أن يحسن إليه في الآخرة ربُّهُ، بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا، ما وصف في هذه الآيات من قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ... إلى

(23/67)


وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)

قوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) قال: عملوا خيرا فجوزوا خيرا.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبيدة بن بكار الأزدي، قال: ثني محمد بن جابر، قال: سمعت محمد بن المنكدر يقول في قول الله جلّ ثناؤه (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا الجنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) قال: ألا تراه ذكرهم ومنازلهم وأزواجهم، والأنهار التي أعدّها لهم، وقال: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) : حين أحسنوا في هذه الدنيا أحسنا إليهم، أدخلناهم الجنة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي يعلى، عن محمد ابن الحنفية (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) قال: هي مسجَّلة للبرّ والفاجر.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما معشر الثقلين التي أنعم عليكم -من إثابته المحسن منكم بإحسانه- تكذّبان؟
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) }

(23/68)


يقول تعالى ذكره: ومن دون هاتين الجنتين -اللتين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهما التي ذكر أنهما لمن خاف مقام ربه - جنتان.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَمِنْ دُونِهِمَا) في هذا الموضع، فقال: بعضهم: معنى ذلك: ومن دونهما في الدَّرَج.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن منصور الطوسيّ، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، قال: ثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله " وكان عرشه على الماء " قال: كان عرش الله على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنة، ثم اتخذ دونها جنة أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة. قال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) وهي التي لا تعلم، أو قال: وهما التي لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون. قال: وهى التي لا تعلم الخلائق ما فيهما، أو ما فيها، يأتيهم كلّ يوم منها أو منهما تحفة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير بنحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن دونهما في الفضل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) : هما أدنى من هاتين لأصحاب اليمين.
وقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم عليكم -بإثابته أهل الإحسان ما وصف من هاتين الجنتين - تكذّبان؟
وقوله: (مُدْهَامَّتَانِ) يقول تعالى ذكره: مسوادّتان من شدة خضرتهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(23/69)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) يقول: خضراوان.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان من الريّ، ويقال: ملتفتان.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: أخبرنا محمد بن بشر قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن حارثة بن سليمان السلميّ، قال: سمعت ابن الزبَير وهو يفسر هذه الآية على المنبر، وهو يقول: هل تدرون ما (مُدْهَامَّتَانِ) ؟ خضراوان من الريّ.
حدثني محمد بن عمارة هو الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حارثة بن سليمان، هكذا قال، قال ابن الزُّبَير: (مُدْهَامَّتَانِ) خضراوان من الريّ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حارثة بن سليمان، أن ابن الزُّبَير قال: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: هما خضراوان من الريّ.
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان من الرِّيّ.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) ، قال: خضراوان من الريّ.

(23/70)


حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير (مُدْهَامَّتَانِ) قال: علاهما الريّ من السواد والخضرة.
قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: مسوادّتان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) يقول: خضراوان من الريّ ناعمتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان من الريّ: إذا اشتدت الخضرة ضربت إلى السواد.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: ناعمتان.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان (مُدْهَامَّتَانِ) قال: مسوادتّان من الريّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: جنتا السابقين، فقرأ: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) ، وقرأ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) ، ثم رجع إلى أصحاب اليمين، فقال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) ، فذكر فضلهما وما فيهما، قال: (مُدْهَامَّتَانِ) من الخضرة من شدة خضرتهما، حتى كادتا تكونان سَوْداوين.
حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن حُبَير، عن ابن

(23/71)


عباس، في قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال: خضراوان.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نِعَم ربكما التي أنعم عليكم -بإثابته أهل الإحسان ما وصف في هاتين الجنتين- تكذّبان.
وقوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) يقول تعالى ذكره: في هاتين الجنتين اللتين من دون الجنتين اللتين هما لمن خاف مقام ربه، عينان نضاختان، يعني: فوّارتان.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي تنضخان به، فقال بعضهم: تنضخان بالماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) قال: ينضخان بالماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (نَضَّاخَتَانِ) قال: تنضخان بالماء.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) يقول: نضاختان بالماء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهما ممتلئتان.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) قال: ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال آخرون: تنضخان الماء والفاكهة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن

(23/72)


سعيد، في قوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) قال: بالماء والفاكهة.
وقال آخرون: نضاختان بألوان الفاكهة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) قال: نضاختان بألوان الفاكهة.
وقال آخرون: نضاختان بالخير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) يقول: نضاختان بالخير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك أنهما تنضخان بالماء، لأنه المعروف بالعيون إذ كانت عيون ماء.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نِعم ربكما التي أنعم عليكم -بإثابته محسنكم هذا الثواب الجزيل- تكذّبان؟.

(23/73)


فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)

القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) }
يقول تعالى ذكره: وفي هاتين الجنتين المدهامتَّين فاكهة ونخل ورمَّان.
وقد اختلف في المعنى الذي من أجله أعيد ذكر النخل والرمان؛ وقد ذكر قبل أن فيهما الفاكهة، فقال بعضهم: أعيد ذلك لأن النخل والرمان ليسا من الفاكهة.

(23/73)


وقال آخرون: هما من الفاكهة؛ وقالوا: قلنا هما من الفاكهة، لأن العرب تجعلهما من الفاكهة، قالوا: فإن قيل لنا: فكيف أعيدا وقد مضى ذكرهما مع ذكر سائر الفواكه؟ قلنا: ذلك كقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) ، فقد أمرهم بالمحافظة على كلّ صلاة، ثم أعاد العصر تشديدا لها، كذلك أعيد النخل والرمَّان ترغيبا لأهل الجنة. وقال: وذلك كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ) ، ثم قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) ، وقد ذكرهم في أوّل الكلمة في قوله: (مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل، عن سعيد بن جُبير قال:" نخل الجنة جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرد، وسعفها كسوة لأهل الجنة، ورطبها كالدلاء، أشدّ بياضا من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل، ليس له عَجَم".
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن وهب الذماري، قال:" بلغنا أن في الجنة نخلا جذوعها من ذهب، وكرانيفها من ذهب، وجريدها من ذهب وسعفها، كسوة لأهل الجنة، كأحسن حلل رآها الناس قط، وشماريخها من ذهب، وعراجينها من ذهب، وثفاريقها من ذهب، ورطبها أمثال القلال، أشدّ بياضا من اللبن والفضة، وأحلى من العسل والسكر، وألين من الزُّبد والسَّمْن.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما تكذّبان، يقول: فبأيّ نعم ربكما التي أنعمها عليكم -بهذه الكرامة التي أكرم بها محسنكم- تكذّبان.
وقوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) يقول تعالى ذكره: في هذه الجنان الأربع اللواتي اثنتان منهنّ لمن يخاف مقام ربه، والأخريان منهنّ من دونهما المدهامتان خيرات الأخلاق، حسان الوجوه.

(23/74)


حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) ، يقول: في هذه الجنان خيرات الأخلاق، حسان الوجوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) قال: خيرات في الأخلاق، حسان في الوجوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) قال: الخيرات الحسان: الحور العين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوام، عن قتادة (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم بن أبي بزّة، عن أبي عبيد، عن مسروق، عن عبد الله (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) قال: في كل خيمة زوجة.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا محمد بن الفرج الصّدَفيّ الدمياطي عن عمرو بن هاشم، عن ابن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أمّ سلمة قالت " قلت: يا رسول الله أخبرني عن قوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) قال: خَيْرَاتُ الأخْلاقِ، حِسانُ الوُجُوهِ".
قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نِعم ربكما التي أنعم عليكما -بما ذكر- تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الخيرات الحسان) حُورٌ) يعني بقوله حور: بِيض، وهي جمع حوراء، والحوراء: البيضاء.

(23/75)


وقد بيَّنا معنى الحور فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد (حُورٌ) قال: بيض.
قال: ثنا أبو نعيم، عن إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد (حُورٌ) قال: بيض.
قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، (حُورٌ) قال: النساء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ) الحوراء: العَيْناء الحسناء.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، الحور: سواد في بياض.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: الحور: البيض قلوبهم وأنفسهم وأبصارهم.
وأما قوله: (مَقْصُورَاتٌ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله؛ أنهنّ قُصِرْن على أزواجهنّ، فلا يبغين بهم بدلا ولا يرفعن أطرافهن إلى غيرهم من الرجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد: (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: قُصِر طرفهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ.

(23/76)


حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (مَقْصُورَاتٌ) ، قال: قُصر طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: قَصَرْن أنفسَهنّ وأبصارهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله وابن اليمان، عن أبي جعفر، عن الربيع (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: قصرن أنفسهنّ وقلوبهن وأبصارهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: قصر طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور عن مجاهد، قوله: (مَقْصُورَاتٌ) قال: مقصورات على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أنهنّ محبوسات في الحجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: محبوسات في الخيام.
حدثنا جعفر بن محمد البزوري، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن الربيع، بمثله.
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا أبو نعيم، عن إسرائيل، عن مجاهد، عن ابن عباس (مَقْصُورَاتٌ) قال: محبوسات.

(23/77)


حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: أخبرنا أبو معشر السندي، عن محمد بن كعب، قال: محبوسات في الحِجال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: لا يبرحن الخيام.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: عَذارى الجنة.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو هشام قالا ثنا عثام بن عليّ، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مَقْصُورَاتٌ) قال: المحبوسات في الخيام لا يخرجن منها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: محبوسات، ليس بطوّافات في الطرق.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وصفهنّ بأنهن مقصورات في الخيام، والقصر: هو الحبس. ولم يخصص وصفهنّ بأنهنّ محبوسات على معنى من المعنيين اللذين ذكرنا دون الآخر، بل عمّ وصفهنّ بذلك. والصواب أن يعمّ الخبر عنهنّ بأنهنّ مقصورات في الخيام على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم، كما عمّ ذلك.
وقوله: (فِي الخِيام) يعني بالخيام: البيوت، وقد تسمي العرب هوادج النساء خياما؛ ومنه قول لبيد:

(23/78)


شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَي يَوْم تَحَمَّلُوا فَتَكَنَّسُوا قُطُنا تَصِرُّ خِيامُها (1)
وأما في هذه الآية فإنه عُنِيَ بها البيوت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى، عن سعيد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الملك بن ميسرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: الدر المجوّف.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك عن أبي الأحوص، عن عبد الله، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ، قال: ثنا فضيل بن عياش، عن هشام، عن محمد، عن ابن عباس في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: الخيمة لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من
__________
(1) هذا البيت للبيد، قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 174 - 1) أنشده عند قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام) ، قال: الحوراء: الشديدة بياض العين، الشديدة سواد العين. مقصورات: أي خدرت في الخيام. والخيام: البيوت. والهوادج أيضا: خيام، قال لبيد:
شاقتك ظعن الحي يوم تحملت ... قد كنست قطنا تصر خيامها
هذه رواية أبي عبيد للبيت. وأما روايته في شرحي الزوزني والتبريزي للمعلقات، فهي كرواية المؤلف في "تحملوا" و "تكنست"، ومعنى شاقتك دعتك إلى الشوق إليها. والظعن: النساء اللواتي في الهوادج، وأصله الظعن، وهو جمع ظعينة، وهي المرأة الظاعنة مع زوجها، ثم يقال لها وهي في بيتها: ظعينة، وقد تجمع على الظعائن. وتحملوا ارتحلوا بأحمالهم. وتكنسوا: دخلوا في الهوادج، وأصله: دخول الكناس، والاستكان به. والقطن؛ جمع قطين، وهم الجماعة. والقطن أيضا: الحشم، والعبيد، والعيال. والصرير: صوت الباب والرحل وغير ذلك، يقول: حننت إلى نساء الحي، يوم ارتحل الحي، ودخلوا في الكنس، أي الهوادج، وكانت خيامهم تصر لجدتها، وتعجلهم في سيرهم. (انظر شرحي الزوزني والتبريزي على المعلقات) . اهـ.

(23/79)


ذهب.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا أبو نعيم، عن إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس (فِي الخِيامِ) قال: بيوت اللؤلؤ.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا إدريس الأودي، عن شمر بن عطية، عن أبي الأحوص، قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتدرون ما حور مقصورات في الخيام؟ الخيام: درّ مجوّف.
قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك، عن أبي الأحوص في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: درّ مجوّف.
وبه عن أبي الأحوص قال: الخيمة: درّة مجوّفة، فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الخيمة في الجنة من درّة مجوّفة، فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن خليد العصريّ قال: لقد ذكر لي أن الخيمة لؤلؤة مجوّفة، لها سبعون مِصْراعا، كلّ ذلك من درّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير أنه قال: الخيام: درّ مجوّف.
قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الخيام: درّ مجوّف.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا وكيع ويعلى عن منصور، عن مجاهد (في الخيام) ، قال: الدرّ المجوف.

(23/80)


حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فِي الخِيامِ) قال: خيام: درّ مجوّف.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن حرب بن بشير، عن عمرو بن ميمون، قال: الخيام: الخيمة: درّة مجوّفة.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، عن سَلَمة بن نُبَيط، عن الضحاك، قال: الخيمة درّة مجوفة.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن اليمان، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب (فِي الخِيامِ) : في الحجال. قال: ثنا عبيد الله وابن اليمان، عن أبي جعفر، عن الربيع (فِي الخِيامِ) قال: في الحجال.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد (فِي الخِيامِ) قال: خيام اللؤلؤ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي الخِيامِ) ، الخيام: اللؤلؤ والفضة، كما يقال والله أعلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) ، ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول: الخيمة: درّة مجوّفة، فرسخ في فرسخ، لها أربعة الآف باب من ذهب.
وقال: قتادة: كان يقال: مسكن المؤمن في الجنة، يسير الراكب الجواد فيه ثلاث ليال، وأنهاره وجنانه وما أعدّ الله له من الكرامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال، قال ابن عباس: الخيمة: درّه مجوّفة، فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف باب من ذهب.

(23/81)


حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) ، قال: يقال: خيامهم في الجنة من لؤلؤ.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: الخيام: الدرّ المجوّف.
حدثنا محمد بن المثنى قال: ثني حِرْميّ بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن أبي مجلز" أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال في قول الله (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: درّ مُجَوَّفٌ".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول كان ابن مسعود يحدّث عن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "هِيَ الدُّرّ المُجَوَّفُ " يعني الخيام في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال: في خيام اللؤلؤ.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم عليكما -من الكرامة، بإثابة محسنكم هذه الكرامة- تكذّبان.
وقوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) يقول تعالى ذكره: لم يمسهنّ بنكاح فيدميهن إنس قبلهم ولا جانّ.
وقرأت قرّاء الأمصار (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) بكسر الميم في هذا الموضع وفي الذي قبله. وكان الكسائيّ يكسر إحداهما. ويضمّ الأخرى.
والصواب من القراءة في ذلك؛ ما عليه قرّاء الأمصار لأنها اللغة الفصيحة، والكلام المشهور من كلام العرب.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول: فبأيّ نِعمَ ربكما التي أنعم عليكم بها -مما وصف - تكذّبان.

(23/82)


مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

القول في تأويل قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (78) }
يقول تعالى ذكره: ينعم هؤلاء الذين أكرمهم جلّ ثناؤه هذه الكرامة، التي وصفها في هذه الآيات، في الجنتين اللتين وصفهما (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الرفرف، فقال بعضهم: هي رياض الجنة، واحدتها: رفرفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير أنه قال فِي هذه الآية (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: رياض الجنة.
حدثنا عباس بن محمد، قال: ثنا أبو نوح، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن جُبير، في قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: الرفرف: رياض الجنة.
وقال آخرون: هي المحابس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) يقول: المحابس.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي. قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) : قال: الرفرف فضول المحابس والبسط.

(23/83)


حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: هي البسط، أهل المدينة يقولون: هي البسط.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كُهيل الحضرميّ، عن رجل يقال له غزوان، (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: فضول المحابس.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن هارون، عن عنترة، عن أبيه، قال: فضول الفُرُش والمحابس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مروان، في قوله: (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: فضول المحابس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: الرفرف الخضر: المحابس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: محابس خضر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: هي المحابس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال: الرفرف: المحابس.
وقال آخرون: بل هي المرافق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال، قال الحسن: الرفرف: مرافق خُضْر، وأما العبقريّ، فإنه الطنافس الثخان، وهي جماع واحدها:عبقرية.وقد ذُكر أن العرب تسمي كل شيء من البسط عبقريا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(23/84)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: الزرابيّ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: العبقريّ: الزرابيّ الحسان.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: العبقريّ: عتاق الزرابيّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: العبقريّ، الزرابيّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: الزرابيّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: زرابيّ.
حدثي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: العبقريّ: الطنافسي.
وقال آخرون: العبقريّ:الديباج.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) قال: هو الديباج. والقرّاء في جميع الأمصار على قراءة ذلك (عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) بغير ألف في كلا الحرفين. وذُكر عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خبر غير محفوظ، ولا صحيح السند (على رفَارِفَ خُضْرٍ وعَباقِِرِيّ) بالألف والإجراء. وذُكر عن زُهير الفرقبي أنه كان يقرأ (على

(23/85)


رَفارِفَ خُضْرٍ) ، بالألف وترك الإجراء، (وَعَبَاقِرِيّ حِسانٍ) بالألف أيضا، وبغير إجراء. وأما الرفارف في هذه القراءة، فإنها قد تحتمل وجه الصواب. وأما العباقريّ، فإنه لا وجه له في الصواب عند أهل العربية، لأن ألف الجماع لا يكون بعدها أربعة أحرف، ولا ثلاثة صحاح. وأما القراءة الأولى التي ذُكرت عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلو كانت صحيحة، لوجب أن تكون الكلمتان غير مجراتين.
وقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقول تعالى ذكره: فبأيّ نِعم ربكما التي أنعم عليكم -من إكرامه أهل الطاعة منكم هذه الكرامة - تكذّبان.
وقوله (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) يقول تعالى ذكره: تبارك ذكر ربك يا محمد، (ذِي الجَلالِ) : يعني ذي العظمة، (والإكْرامِ) يعني: ومن له الإكرام من جميع خلقه.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) يقول: ذو العظمة والكبرياء.
آخر تفسير سورة الرحمن عزّ وجلّ

(23/86)