تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)

تفسير سورة الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) : إذا نزلت صيحة القيامة، وذلك حين يُنفخ في الصور لقيام الساعة.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) يعني: الصيحة.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) الواقعة والطامة والصاخة، ونحو هذا من أسماء القيامة، عظَّمه الله، وحذره عباده.
وقوله: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) يقول تعالى: ليس لوقعة الواقعة تكذيب ولا مردودية ولا مثنوية، والكاذبة في هذا الموضع مصدر، مثل العاقبة والعافية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) : أي ليس لها مثنوية، ولا رجعة، ولا ارتداد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر; عن قتادة، في

(23/87)


قوله: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) قال: مثنوية.
وقوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: الواقعة حينئذ خافضة، أقواما كانوا في الدنيا، أعزّاء إلى نار الله.
وقوله: (رَافِعَةٌ) يقول: رفعت أقواما كانوا في الدنيا وُضعَاء إلى رحمة الله وجنته. وقيل: خفضت فأسمعت الأدنى،

(23/90)


ورفعت فأسمعت الأقصى.
* ذكر من قال في ذلك ما قلنا:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العَتَكِيّ، عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) يقول: تخللت كلّ سهل وجبل، حتى أسمعت القريب والبعيد، ثم رفعت أقواما في كرامة الله، وخفضت أقواما في عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) وقال: أسمعت القريب والبعيد، خافضة أقواما إلى عذاب الله، ورافعة أقواما إلى كرامة الله.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) قال: خفضت وأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى؛ قال: فكان القريب والبعيد من الله سواء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) قال: سمَّعت القريب والبعيد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) خفضت فأسمعت الأدنى ورفعت فأسمعت الأقصى، فكان فيها القريب والبعيد سواء.
وقوله: (إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) يقول تعالى ذكره: إذا زلزلت الأرض فحرّكت تحريكا من قولهم السهم يرتجّ في الغرض، بمعنى: يهتزّ ويضطرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) يقول: زلزلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قول الله (إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) قال: زلزلت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) يقول: زلزلت زلزلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) قال: زلزلت زلزالا.
وقوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) يقول تعالى ذكره: فتتت الجبال فتا، فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول، كما قال جلّ ثناؤه: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) والبسيسة عند العرب: الدقيق والسويق تلتّ وتتخذ زادا.
وذُكر عن لصّ من غطفان أنه أراد أن يخبز، فخاف أن يعجل عن الخبز قبل الدقيق وأكله عجينا، وقال:
لا تَخْبِزَا خَبْزًا وبُسَّا بَسَّا مَلْسا بِذَوْدِ الحَلَسِيّ مَلْسا (1)
__________
(1) هذا الشاهد من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 174 - ب) عند قوله تعالى: (وبست الجبال بسا) قال: مجازها كمجاز السويق المبسوس، أي المبلول والعجين. قال لص من غطفان وأراد أن يخبز، فخاف أن يعجل عن الخبز قبل الدقيق، فأكله عجينا، فقال: " لا تخبزا خبزا وبسا بسا ". اهـ. وفي (اللسان: ملس) : والملس: السوق الشديد. وفي بس: وقال ثعلب: معنى: وبست الجبال بسا: خلطت بالتراب. وقال بعضهم:فتت، وقال بعضهم: سويت. اهـ. ولم يورد أبو عبيدة البيت الثاني وأنشد صاحب اللسان البيت الأول، وجاء بعده ببيت آخر، وهو: * ولا تطيلا بمناخ حيسا *
وأنشد في "ملس" البيت الثاني قال: والملس: السوق الشديد. يقال ملست بالإِبل أملس (من باب قتل) ملسا: إذا سقتها سوقا في خفية، قال الراجز: * ملسا يذود الحلسي ملسا *
وقال ابن الأعرابي الملس: ضرب من السير الرقيق. والملس: اللين من كل شيء. اهـ.
وأنشده الفراء في معاني القرآن البيتين كرواية المؤلف. وقال (الورقة 322) : " وبست الجبال بسا ": صارت كالدقيق، وذلك قوله " وسيرت الجبال ". وسمعت العرب تنشد: "لا تخبزا خبزا ... البيتين ". والبسيسة عندهم: الدقيق أو السويق، يليت ويتخذ زادا. اهـ. وفي النوادر لأبي زيد (بيروت 11) : مَلْسا بِذَوْدِ الحُمَسِيَّ مَلْسا ... مِنْ غَنْوَةٍ حتى كَانَّ الشَّمْسا
*بالأُفُقِ الغَرْبِيّ تُطْلَى وَرْسَا *
قال أبو زيد: الملس: السير الشديد. قال أبو حاتم: وأقول أنا لا عن أبي زيد: الملس السير السريع السهل. وقوله " تطلى ورسا قد اصفرت للغروب ". اهـ.

(23/91)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) يقول: فتتت فتا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: فتتت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: كما يبس السويق.
حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرِمة (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: فُتَّتْ فتا.

(23/92)


حدثني إسماعيل بن موسى ابن بنت السديّ، قال: أخبرنا بشر بن الحكم الأحمسيّ، عن سعيد بن الصلت، عن إسماعيل السديّ وأبي صالح (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: فُتِّتت فتا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: كما يبس السويق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: صارت كثيبا مهيلا كما قال الله.
حدثنا ابن حُميَد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) قال: فُتتت فتا.
وقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) اختلف أهل التأويل في معنى الهباء، فقال بعضهم: هو شعاع الشمس، الذي يدخل من الكوة كهيئة الغبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) يقول: شعاع الشمس.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (هَبَاءً مُنْبَثًّا) قال: شعاع الشمس حين يدخل من الكوّة.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) قال: شعاع الشمس يدخل من الكوّة، وليس بشيء.
وقال آخرون: هو رهج الدوابّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه قال: رهج الدوابّ.

(23/93)


وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

وقال آخرون: هو ما تطاير من شرر النار الذي لا عين له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) قال: الهباء: الذي يطير من النار إذا اضطرمت، يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.
وقال آخرون: هو يبيس الشجر الذي تذروه الرياح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) كيبيس الشجر، تذروه الرياح يمينا وشمالا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (هَبَاءً مُنْبَثًّا) يقول: الهباء: ما تذروه الريح من حطام الشجر.
وقد بيَّنا معنى الهباء في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: (مُنْبَثًّا) فإنه يعني متفرّقا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) }
يقول تعالى ذكره: وكنتم أيها الناس أنواعا ثلاثة وضروبا.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: منازل الناس يوم القيامة.

(23/94)


وقوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) ، وهذا بيان من الله عن الأزواج الثلاثة، يقول، جلّ ثناؤه: وكنتم أزواجًا ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، فجعل الخبر عنهم، مغنيا عن البيان عنهم، على الوجه الذي ذكرنا، لدلالة الكلام على معناه، فقال: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) يعجِّب نبيه محمدا منهم، وقال: (مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، أيّ شيء أصحاب اليمين، (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) يقول تعالى ذكره: وأصحاب الشمال الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي اليد اليسرى: الشؤمي؛ ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
فأنْحَى على شُّؤْمَي يَدَيه فَذادَها بأظْمأَ مِنْ فَرْع الذُّوَابَةِ أسْحَما (1)
وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون الأوّلون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العتكي، عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة، قوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: اثنان في الجنة وواحد في النار، يقول: الحور العين للسابقين، والعُرُب الأتراب
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 295) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي. ورويت في مدح قيس ابن معد يكرب. وأنحى: اعتمد، يقال: أنحى البعير: اعتمد في سيره على أيسره. واليد الشؤمى: اليسرى. وأظمأ: أسمر ذابل.
والفرع: الشعر. والذؤابة: شعر الناصية. وأسحم: أسود. يصف ثورا اجتمعت عليه كلاب الصيد، فذادها عنه بقرنه الذابل المحدد، وهو أشد سوادا من خصلة الشعر. والشاهد في قوله شؤمى يديه أي يسراهما. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن عند قوله تعالى (وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة) : أصحاب الميسرة، ويقال لليد اليسرى: الشؤمى؛ ويقال هو الجانب الأيسر. وسميت اليمن لأنها عن يمين الكعبة، والشأم أنها عن شمال الكعبة. اهـ.

(23/95)


لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: منازل الناس يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) . . . إلى (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم سوى بين أصحاب اليمين من الأمم السابقة، وبين أصحاب اليمين من هذه الأمة، وكان السابقون من الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي ماذا لهم، وماذا أعد لهم (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) : أي ماذا لهم وماذا أعد لهم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) : أي من كل أمة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسنت حال المؤمن، واستقامت طريقه كان الهوى ذليلا وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في

(23/96)


سورة الواقعة: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والآخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والآخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: (مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأوّل، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي، والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خارجة، عن قرة، عن ابن سيرين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الذين صلوا للقبلتين.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو، قال: ثنا عثمان بن أبي سودة، قال (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله.
والرفع في السابقين من وجهين: أحدهما: أن يكون الأوّل مرفوعا

(23/97)


ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

بالثاني، ويكون معنى الكلام حينئذ والسابقون الأوّلون، كما يقال: السابق الأوّل، والثاني أن يكون مرفوعا بأولئك المقرّبون يقول جلّ ثناؤه: أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون الأولون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العتكي، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، قوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: اثنان في الجنة وواحد في النار، يقول: الحور العين للسابقين، والعرب الأتراب لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: منازل الناس يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) . . . إلى (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "سَوَّى بَين أصَحاب اليمَين مِنَ الأمَمَ السَّابِقَةِ، وَبَيَنَ أصحَابِ اليَمِين مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ، وكانَ السَّابِقُونَ مِنَ الأمَمِ أكْثَرَ مِنْ سابِقي هَذِهِ الأمَّةِ".
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) : أي ماذا لهم وماذا أعدّ لهم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) : أي من كلّ أمة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسُنت حال المؤمن، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلا وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والآخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والآخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: (مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأول، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي؟ والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خارجة، عن قرة، عن ابن سيرين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الذين صلوا للقبلتين.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو، قال: ثنا عثمان بن أبي سودة، قال (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله.
والرفع في السابقين من وجهين: أحدهما: أن يكون الأوّل مرفوعا بالثاني، ويكون معنى الكلام حينئذ والسابقون الأوّلون، كما يقال: السابق الأوّل، والثاني أن يكون مرفوعا بأولئك المقرّبون يقول جلّ ثناؤه: أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
وقوله: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يقول: في بساتين النعيم الدائم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) }

(23/98)


يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره: جماعة من الأمم الماضية، وقليل من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهم الآخرون وقيل لهم الآخرون: لأنهم آخر الأمم (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) يقول: فوق سُرر منسوجة، قد أدخل بعضها في بعض، كما يوضن حلق الدرع بعضها فوق بعض مضاعفة؛ ومنه قول الأعشى:
وَمِنْ نَسْج دَاوُدَ مَوْضُونَةً تُساقُ مَعَ الحَيّ عِيرًا فعِيْرًا (1)
ومنه وضين الناقة، وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض
__________
(1) وهذا البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 99) من قصيدة يمدح بها هوذة بن على الحفني. وقبل البيت: وأعْدَدْتَ للْحَرْبِ أوْزَارَها ... رِماحَا طِوَالا وَخَيْلا ذُكُورَا
وأوزار الحرب: عدتها، ودرع موضونة منسوج بعضها على بعض، وتساق مع الحي: تحمل. يقول: أعددت للحرب عدتها، من الرماح الطوال، والخيل الجياد والدروع الكثيفة التي نسجت نسجا مضاعفا، تحمل فوق الجمال، عيرا من ورائها عير. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 174 - ب) عند قوله تعالى "على سرر موضونة": بعضها على بعض، مداخلة كما توضن حلق الدرع بعضها في بعض مضاعفة. وقال الأعشى: " ومن نسج داود ... البيت ". والوضين: البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا، كالحلق حلق الدروع، فهو وضين، وضع في موضع موضون، كما يقولون قتيل في موضع مقتول قال: *إليك تعدو قلقا وضينها *

(23/98)


مضاعفا كالحلق حلق الدرع: وقيل: وضين، وإنما هو موضون، صرف من مفعول إلى فعيل، كما قيل: قتيل لمقتول: وحُكي سماعا من بعض العرب أزيار الآجرّ موضون بعضها على بعض، يراد مشرج صفيف.
وقيل: إنما قيل لها سُرر موضونة، لأنها مشبكة بالذهب والجوهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال: مرمولة بالذهب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحصين، عن مجاهد (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال: مرمولة بالذهب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال: يعني الأسرة المرملة.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن مجاهد، قال: الموضونة: المرملة بالذهب.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرِمة قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال: مشبكة بالدّر والياقوت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن

(23/99)


أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَوْضُونَةٍ) قال: مرمولة بالذهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) والموضونة: المرمولة، وهى أوثر السرر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، في قوله: (مَوْضُونَةٍ) قال مرمولة.
حدثنا ابن عيد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، في قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال: مرملة مشبكة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) الوضن: التشبيك والنسج، يقول: وسطها مشبك منسوج.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) الموضونة: المرمولة بالجلد ذاك الوضين منسوجة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها مصفوفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) يقول: مصفوفة.
وقوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ) يقول تعالى ذكره متكئين على السُّرر الموضونة، متقابلين بوجوههم، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) قال: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها ناعِمِينَ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، في قراءة عبد الله، يعني ابن مسعود (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها ناعِمِينَ) .

(23/100)


وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وذكرنا ما فيه من الرواية.
وقوله: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) يقول تعالى ذكره: يطوف على هؤلاء السابقين الذين قرّبهم الله في جنات النعيم، ولدان على سنّ واحدة، لا يتغيرون ولا يموتون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مُخَلَّدُونَ) قال: لا يموتون.
وقال آخرون: عني بذلك أنهم مقرّطون مسوّرون.
والذي هو أولى بالصواب في ذلك قول من قال معناه: إنهم لا يتغيرون، ولا يموتون، لأن ذلك أظهر معنييه، والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وإنما هو مفعل من الخلد.
وقوله: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) والأكواب: جمع كوب، وهو من الأباريق ما اتسع رأسه، ولم يكن له خرطوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (بِأَكْوَابٍ) قال: الأكواب: الجرار من الفضة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) قال: الأباريق: ما كان لها آذان، والأكواب ما ليس لها آذان.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأكواب ليس لها آذان.

(23/101)


حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سئل الحسن عن الأكواب، قال: هي الأباريق التي يصبّ لهم منها.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، قال: مر أبو صالح صاحب الكلبي قال: فقال أبي، قال لي الحسن وأنا جالس: سله، فقلت: ما الأكواب؟ قال: جرار الفضة المستديرة أفواهها، والأباريق ذوات الخراطيم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (بِأَكْوَابٍ) قال: ليس لها عرى ولا آذان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) والأكواب التي يغترف بها ليس لها خراطيم، وهي أصغر من الأباريق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) قال: الأكواب التي دون الأباريق ليس لها عُرًى.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: الأكواب جرار ليست لها عرى، وهي بالنبطية كوبا، وإياها عنى الأعشى بقوله:
صَرِيفيٌَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُها لَهَا زَبَدٌ بَينَ كُوب ودَنٌ (1)
وأما الأباريق: فهي التي لها عرى.
وقوله: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) وكأس خمر من شراب معين، ظاهر
__________
(1) وهذا الشاهد كذلك لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة 17) والصريفية: الخمر المنسوبة إلى صريفون، وهو موضع بالعراق مشهور بجودة خمره. وقيل سماها صريفية لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الصريف. وقيل نسبت إلى صريفين، وهو نهر يتخلج من الفرات. والصريف أيضا: الخمر التي لم يمزج بالماء. والكوب: الكوز لا عروة له. والدن: وعاء الخمر. والزبد ما يعلو الخمر من الرغوة إذا تحركت في الدن، أو صبت من الإبريق في الكأس.

(23/102)


العيون، جار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) : قال الخمر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر جارية.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الكأس: الخمر.
حدثنا أبو سنان، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) قال: الخمر الجارية.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، مثله.
وقوله: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) يقول: لا تصدع رءوسهم عن شربها فتسكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسماعيل بن موسى السديّ، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قوله: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) قال: لا تصدّع رءوسهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) ليس لها وجع رأس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة (لا

(23/103)


يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) قال: لا تصدع رءوسهم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) يقول: لا تصدّع رءوسهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) يعني: وجع الرأس.
وقوله: (وَلا يُنزفُونَ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأت عامة قرّاء المدينة والبصرة (يُنزفُونَ) بفتح الزاي، ووجهوا ذلك إلى أنه لا تنزف عقولهم. وقرأته عامة قرّاء الكوفة (لا يُنزفُونَ) بكسر الزاي بمعنى: ولا ينفد شرابهم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيها الصواب.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء فيه. وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في ذلك، وبيَّنا الصواب من القول فيه في سورة الصافات، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا سنذكر قول بعضهم في هذا الموضع لئلا يظنّ ظانّ أن معناه في هذا الموضع مخالف معناه هنالك.
* ذكر قول من قال منهم: معناه لا تنزف عقولهم:
حدثنا إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد (وَلا يُنزفُونَ) قال: لا تنزف عقولهم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَلا يُنزفُونَ) قال: لا تنزف عقولهم.
وحدثنا ابن حُميد، مرة أخرى فقال: ولا تذهب عقولهم.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا يُنزفُونَ) لا تنزف عقولهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَلا

(23/104)


وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

يُنزفُونَ) قال: لا يغلب أحد على عقله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، في قوله: (وَلا يُنزفُونَ) قال: لا يغلب أحد على عقله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله (وَلا يُنزفُونَ) قال: لا تغلب على عقولهم.
وقوله: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: ويطوف هؤلاء الولدان المخلدون على هؤلاء السابقين بفاكهة من الفواكه التي يتخيرونها من الجنة لأنفسهم، وتشتهيها نفوسهم (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يقول: ويطوفون أيضا عليهم بلحم طير مما يشتهون من الطير الذي تشتهيه نفوسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله: (وَحُورٌ عِينٌ) فقرأته عامة قراء الكوفة وبعض المدنيين (وحُورٍ عِينٍ) بالخفض إتباعا لإعرابها إعراب ما قبلها من الفاكهة واللحم، وإن كان ذلك مما لا يُطاف به، ولكن لما كان معروفا معناه المراد أتبع الآخر الأوّل في الإعراب، كما قال بعض الشعراء.
إذَا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْما وَزَجَّجْن الْحَوَاجِبَ والعُيُونا (1)
__________
(1) هذا الشاهد من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 323) وتقدم الكلام عليه مع الشاهد " ورأيت زوجك الوغى.... البيتين ". وفي (اللسان: زجج) وزجت المرأة حاجبها بالمزج: دققته وطولته. وقيل: أطالته بالأثمد. وقوله: إذا ما الغانيات ... البيت" إنما أراد: وكحلن العيونا، كما قال: * شراب ألبان وتمر وأقط *
أراد: وآكل تمر وأقط، ومثله كثير.
قال الشاعر: " علفتها تبنا.... البيت " أي وسقيتها ماء باردا. يريد أن ما جاء من هذا، فإنما يجيء على إضمار فعل أخر يصح المعنى عليه. ومثله قول الآخر: " يا ليت زوجك.... البيت " تقديره: وحاملا رمحا. قال ابن بري ذكر الجوهري عجز بيت على زججت المرأة حاجبيها * وزججن الحواجب والعيونا *
قال: هو للراعي وصوابه: يزججن. وصدره: وهِزَّةِ نشْوَةٍ مِنْ حيّ صِدْقٍ ... يُزَجِّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيُونا
وبعده: أنَخْنَ جِمَالُهنَّ بذَاتِ غِسْلٍ ... سَرَاةَ اليَوْمِ يَمْهَدْنَ الكُدُونا
ذات غسل: موضع. ويمهدن: يوطئن. والكدون: جمع كدن، وهو ما توطئ به المرأة مركبها، من كساء ونحوه.

(23/105)


فالعيون تكَحَّل. ولا تزجَّج إلا الحواجب، فردّها في الإعراب على الحواجب، لمعرفة السامع معنى ذلك وكما قال الآخر:
تَسْمَعُ للأحَشْاءِ مِنْهُ لَغَطَا وللْيَدَيْنِ جُسأةً وَبَدَدَا (1)
والجسأة: غلظ في اليد، وهي لا تُسمع.
وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة ومكة والكوفة وبعض أهل البصرة بالرفع (وحُورٍ عِينٍ) على الابتداء، وقالوا: الحور العين لا يُطاف بهنّ، فيجوز العطف بهنّ في الإعراب على إعراب فاكهة ولحم، ولكنه مرفوع بمعنى: وعندهم حور عين، أو لهم حور عين.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان
__________
(1) البيت من شواهد الفراءء في معاني القرآن (الورقة 323) . وفي (اللسان: لغط) اللغط (بسكون الغين وتحريكها) : الأصوات المبهمة المختلفة، والجلبة لا تفهم. وفي (اللسان: جسأ) : جسأ الشيء يجسأ جسوءا فهو جاسئ: صلب وخشن. وجسأت يده من العمل تجسأ جسأ: صلبت. والاسم الجسأة، مثل الجرعة. والجسأة في الدواب: يبس المعطف، ودابة جاسئة القوائم. وفي (اللسان: بدد) : وفرس أبد: بين البدد أي بعيد ما بين اليدين. وقيل هو الذي في يديه تباعد عن جنبيه، وهو البدد، وبعير أبدا، وهو الذي في يديه فتل (بالتحريك) وموضع الشاهد في البيت: أنه عطف الجسأة والبدد. وهما مما يرى لا مما يسمع، على " لغطا " وهو ما يسمع، وذلك على تقدير فعل،أي وترى لليدين جسأة وبددا. فهو إذن كناظائره من الشواهد التي ذكرها الفراء في هذا الموضع. وفي الأصل (دئدا) في موضع (بددا) وهو من تحريف النساخين.

(23/106)


قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء مع تقارب معنييهما، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب. والحور جماعة حَوْراء: وهي النقية بياض العين، الشديدة سوادها. والعين: جمع عيناء، وهي النجلاء العين في حُسن.
وقوله: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) يقول: هنّ في صفاء بياضهنّ وحسنهن، كاللؤلؤ المكنون الذي قد صين في كِنٍّ.
وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: ثوابا لهم من الله بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، وعوضا من طاعتهم إياه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا ابن يمان، عن ابن عيينة، عن عمرو عن الحسن (وَحُورٌ عِينٌ) قال: شديدة السواد: سواد العين، شديدة البياض: بياض العين.
قال ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك (وَحُورٌ عِينٌ) قال: بيض عين، قال: عظام الأعين.
حدثنا ابن عباس الدوريّ، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: الحُور: سُود الحَدَق.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا إبراهيم بن محمد الأسلميّ، عن عباد بن منصور الباجيّ، أنه سمع الحسن البصريّ يقول: الحُور: صوالح نساء بني آدم.
قال ثنا إبراهيم بن محمد، عن ليث بن أبي سليم، قال: بلغني أن الحور العين خُلقن من الزعفران.
حدثنا الحسن بن يزيد الطحان، قال: حدثتنا عائشة امرأة ليث، عن ليث، عن مجاهد قال: خلق الحُور العين من الزعفران.

(23/107)


حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا عمرو بن سعد، قال: سمعت ليثا، ثني عن مجاهد، قال: حور العين خُلقن من الزعفران.
وقال آخرون: بل معنى قوله: (حُورٌ) أنهنّ يحار فيهنّ الطرف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد (وَحُورٌ عِينٌ) قال: يحار فيهنّ الطرف.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ) قال أهل التأويل، وجاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا أحمد بن الفرج الصَّدفيّ الدِّمْياطيّ، عن عمرو بن هاشم، عن ابن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أمّ سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) قال: "صفاؤُهُن كَصَفاء الدُّرّ الَّذيِ فِي الأصْدَافِ الَّذيِ لا تَمُسُّهُ الأيْدي".
وقوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا) يقول: لا يسمعون فيها باطلا من القول ولا تأثيما، يقول: ليس فيها ما يُؤثمهم.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا) والتأثيم لا يُسمع، وإنما يُسمع اللغو، كما قيل: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يُؤكل، فجازت إذ كان معه شيء يؤكل.
وقوله: (إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا) يقول: لا يسمعون فيها من القول إلا قيلا سلاما: أي أسلم مما تكره.
وفي نصب قوله: (سَلامًا سَلامًا) وجهان: إن شئت جعلته تابعا للقيل، ويكون السلام حينئذ هو القيل؛ فكأنه قيل: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا سلاما سلاما، ولكنهم يسمعون سلاما سلاما. والثاني: أن يكون نصبه

(23/108)


وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)

بوقوع القيل عليه، فيكون معناه حينئذ: إلا قيلَ سلامٍ فإن نوّن نصب قوله: (سَلامًا سَلامًا) بوقوع قِيلٍ عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ) وهم الذين يُؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين، الذي أُعطوا كتبهم بأيمانهم يا محمد (مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) أيّ شيء هم وما لهم، وماذا أعدّ لهم من الخير، وقيل: إنهم أطفال المؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن معمر، قال: ثنا أبو هشام المخزوميّ، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا عثمان بن قيس، أنه سمع زاذان أبا عمرو يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) : أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم، ثم ابتدأ الخبر عما ذا أعدّ لهم في الجنة، وكيف يكون حالهم إذا هم دخلوها؟ فقال: هم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) يعني: في ثمر سدر موقر حملا قد ذهب شوكه.
وقد اختلف في تأويله أهل التأويل، فقال بعضهم: يعني بالمخضود: الذي قد خُضد من الشوك، فلا شوك فيه.
* ذكر من قال ذلك:

(23/109)


حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: خضده وقره من الحمل، ويقال: خُضِد حتى ذهب شوكه فلا شوك فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: زعم محمد بن عكرِمة قال: لا شوك فيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن عكرمة، في قوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: لا شوك فيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة بن خليفة، قال: ثنا عوف، عن قسامة بن زُهَير في قوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: خُضِد من الشوك، فلا شوك فيه.
حدثنا أبو حُميد الحمصي أحمد بن المغيرة، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عمرو بن عمرو بن عبد الله الأحموسيّ، عن السفر بن نُسَير في قول الله عزّ وجلّ (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: خُضِد شوكه، فلا شوك فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: كنا نحدّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا قتادة، في قوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: ليس فيه شوك.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: لا شوك له.
حدثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عكرمة (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: لا شوك فيه.
وحدثني به ابن حُميد مرّة أخرى، عن مهران بهذا الإسناد، عن عكرمة، فقال: لا شوك له، وهو المُوقَر.

(23/110)


وقال آخرون: بل عُنِي به أنه المُوقَر حَمْلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مَخْضُودٍ) قال: يقولون هذا الموقَرُ حَمْلا.
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو حُذَيفة، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: الموقَر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: الموقَر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (سِدْرٍ مَخْضُودٍ) يقول: مُوقَر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال: ثمرها أعظم من القِلال.
وقوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أما الفرّاء فعلى قراءة ذلك بالحاء (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) وكذا هو في مصاحف أهل الأمصار. وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقرأ (وطَلْعٍ مَنْضُودٍ) بالعين.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهريّ قال: ثنا سفيان، قال: ثنا زكريا، عن الحسن بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه، قرأها (وطَلْعٍ مَْنُضودٍ) .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنى أبي، قال: ثنا مجاهد، عن الحسن بن سعد، عن قيس بن سعد، قال: قرأ رجل عند عليّ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال عليّ: ما شأن الطلح، إنما هو: (وطَلْعٍ مَنْضُودٍ) ، ثم قرأ (طَلْعُهَا هَضِيمٌ) فقلنا أولا نحوّلهُا، فقال: إن القرآن لا يهاج اليوم، ولا يحوّل. وأما الطلح فإن المعمر بن المثنى كان يقول: هو عند العرب شجر

(23/111)


عظام كثير الشوك، وأنشد لبعض الحُداة:
بَشَّرَها دَلِيلُها وَقالا غَدًا تَرَيْنَ الطَّلْحَ والحبالا (1)
وأما أهل التأويل من الصحابة والتابعين فإنهم يقولون: إنه هو الموز.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سليمان التيميّ، عن أبي سعيد، مولى بني رَقاشِ، قال: سألت ابن عباس عن الطلح، فقال: هو الموز.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سليمان التيميّ، قال: ثنا أبو سعيد الرقاشيّ، أنه سمع ابن عباس يقول: الطلح المنضود: هو الموز.
حدثني يعقوب وأبو كُرَيب، قالا ثنا ابن عُلَية، عن سليمان، قال: ثنا أبو سعيد الرَّقاشيّ، قال قلت لابن عباس: ما الطلح المنضود؟ قال: هو الموز.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا أبو سعيد الرقاشيّ قال: سألت ابن عباس عن الطلح، فقال: هو الموز.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن التيمي، عن أبي سعيد الرقاشي، عن ابن عباس (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: الموز.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الكلبيّ، عن الحسن بن سعيد، عن عليّ رضي الله عنه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: الموز.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن رجل
__________
(1) هذا الشاهد من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 175 - من المصورة 26390 عن المخطوطة " مراد منثلا " بالآستانة) أنشده عند قوله تعالى " وطلح منضود " قال: زعم المفسرون أنه الموز. وأما العرب فالطلح عندهم شجر عظيم كثير الشوك. وقال الحادي: " بشرها دليلها ... البيتين " اهـ. وأما الحبال بالحاء كما في رواية المؤلف فهي جمع حبل وهو الرمل المرتفع ينقاد مسافة طويلة في الأرض. وبالجيم في رواية أبي عبيدة، وهي جمع جبل. يبشر ناقته بأنها ستبلغ وطنها غدا وترى فيه ما ألفته من شجر الطلح والرمال أو الجبال.

(23/112)


من أهل البصرة أنه سمع ابن عباس يقول في الطلح المنضود: هو الموز.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: موزكم لأنهم كانوا يُعجبون بوجٍّ وظلاله من طلحه وسدره.
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، في قوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: الموز.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن قسامة، قال: الطلح المنضود: هو الموز.
قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قول الله (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: الموز: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: الموز.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) كنا نحدَّث أنه الموز.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال الله أعلم، إلا أن أهل اليمن يسمون الموز الطلح.
وقوله: (مَنْضُودٍ) يعني أنه قد نُضِدَ بعضهُ على بعض، وجمع بعضه إلى بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال: بعضه على بعض.

(23/113)


حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) متراكم، لأنهم يعجبون بوجّ وظلاله من طلحة وسدره.
وقوله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) يقول: وهم في ظلّ دائم لا تنسخه الشمس فتذهبه، وكل ما لا انقطاع له فإنه ممدود، كما قال لبيد:
غَلَبَ البَقاءَ وكنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبَ دَهْرٌ طَوِيلٌ دائم مَمْدُودُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار، وقال به أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال: خمس مئة ألف سنة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد مولى بني مخزوم، عن أبي هريرة، قال: " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام، اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) فبلغ ذلك كعبا، فقال: صدق والذي أنزل التوراة على لسان موسى، والفرقان على لسان محمد، لو أن رجلا ركب حُقة أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها، حتى يسقط هَرِما، إن الله غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد مولى لبني مخزوم، أنه سمع أبا هريرة يقول: ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: وما في الجنة من نهر.
__________
(1) البيت للبيد نسبه إليه أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 175 - ب) وفي روايته: " الغراء" في موضع " البقاء" في رواية المؤلف. يقول: غلب الدهر الطويل البقاء في الدنيا ولم يكن شيء ليغلبني غير الدهر. أنشده أبو عبيدة عند قوله تعالى " وظل ممدود" قال: أي لا تنسخه الشمس، دائم. يقال للدهر الممدود والعيش إذا كان لا ينقطع. قال لبيد: "غلب البقاء ... البيت ".

(23/114)


حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال: مسيرة سبعين ألفَ سنة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو يحيى بن سليمان، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّها مِئَةَ سَنَةٍ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن محمد، عن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "إنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلها مِئَةَ عامٍ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن محمد، عن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "وإنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ."
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن أبي الضحي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "وإنَّ فِي الجَنَّة لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها، لا يَقْطَعُها، شَجَرَةُ الخُلْدِ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: " وإنَّ فِي الجَنَّة لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا سَبْعِينَ أو مِئَةَ عامٍ، هيَ شَجَرَةُ الخُلْدِ".

(23/115)


حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: " إنَّ فِي الجَنَّة لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها ".
قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، مثل ذلك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبدة وعبد الرحمن، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ سَنَهٍ لا يَقْطَعُها، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ قوله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا فردوس، قال: ثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ سَنَةٍ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربيّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا خالد، قال: ثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبمثله عن خلاس.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو حصين، قال: كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق، يعني الضبيّ، فحدّث أبو صالح،

(23/116)


وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)

فقال: حدثني أبو هريرة، قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما، فقال أبو صالح أتكذّب أبا هريرة، فقال: ما أكذّب أبا هريرة، ولكني أكذّبك؛ قال: فشقّ على القرّاء يومئذ.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال: حدثنا، عن أنس بن مالك، قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها.
قال ثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك، أن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتاده، عن أنس، أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ فِي الجَنَّة شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، مثل ذلك أيضا.
وقوله: (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ) يقول تعالى ذكره وفيه أيضا ماء مسكوب، يعني مصبوب سائل في غير أخدود.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ) قال: يجري في غير أخدود.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لأصْحَابِ الْيَمِينِ (38) }

(23/117)


وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)

يقول (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) يقول تعالى ذكره: وفيها (فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) لا ينقطع عنهم شيء منها أرادوه في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الصيف في الشتاء في الدنيا، ولا يمنعهم منها، ولا يحول بينهم وبينها شوك على أشجارها، أو بعدها منهم، كما تمتنع فواكه الدنيا من كثير ممن أرادها ببعدها على الشجرة منهم، أو بما على شجرها من الشوك، ولكنها إذا اشتهاها أحدهم وقعت في فيه أو دنت منه حتى يتناولها بيده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقد ذكرنا الرواية فيما مضى قبل، ونذكر بعضا آخر منها:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله: (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) قال: لا يمنعه شوك ولا بعد.
وقوله: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) يقول تعالى ذكره: ولهم فيها فرش مرفوعة طويلة، بعضها فوق بعض، كما يقال: بناء مرفوع.
وكالذي حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا رشْدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن درّاج أبي السمح عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، في قوله
القول في تأويل قوله تعالى {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمس مئة عام".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا عمرو، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) "وَالَّذي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّ ارْتِفاعها. . ." ثم ذكر مثله.
وقوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا) يقول تعالى ذكره: إنا خلقناهن خلقا فأوجدناهنّ؛ قال أبو عبيدة: يعني بذلك: الحور العين اللاتي ذكرهنّ قبل، فقال (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) ، وقال الأخفش: أضمرهنّ ولم يذكرهنّ قبل ذلك.

(23/118)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال: خلقناهنّ خَلقا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر الجُعفي، عن يزيد بن مرّة، عن سلمة بن يزيد، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في هذه الآية (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال: "مِنَ الثَّيِّب والأبكارِ".
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) يقول: فصيرناهنّ أبكارا عذارى بعد إذ كنّ. (1)
كما حدثنا حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن عبيده، عن يزيد بن أبان الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال: "عَجائِز كُنَّ فِي الدُّنْيا عُمْشا رُمْصًا".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عُبيدة، عن يزيد بن أبان الرقاشيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً" قال: أنْشأَ عَجائِز كُنَّ فِي الدُّنْيا عُمْشا رُمْصًا".
حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا محمد بن ربيعة الكلابّي، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذِيّ، عن يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال: "منهن العَجائِز اللاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيا عُمْشا رُمْصًا".
حدثنا سوار بن عبد الله بن داود، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذِيّ، عن يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال: "هُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيا عَجائِز عُمشا رُمصْا".
__________
(1) لعله حذف خبر " كن" اعتمادا على التصريح به في الحديث الذي بعده؛ أي بعد إذ كن عجائز.

(23/119)


حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن صفوان بن محرز في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) قال: فهنُ العُجُز الرُّمْصُ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) قال: إن منهن العُجُزَ الرُّجَّفَ، أنشأهن الله في هذا الخلق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قال قتادة: كان صفوان بن محرز يقول: إن منهنّ العُجُزَ الرُّجَّف، صيرهنّ الله كما تسمعون.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: قوله: (أَبْكَارًا) يقول: عذارى.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن الفرج الصَّدفي الدِّمياطيّ، عن عمرو بن هاشم، عن ابن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن أمّ سلمة، زوج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنها قالت: قلت يا رسول الله، أخبرني عن قول الله (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأصْحَابِ الْيَمِينِ) قال: "هُنَّ اللَّوَاتي قُبِضْنَ فِي الدُّّنْيا عَجائِزَ رُمْصًا شُمْطا، خَلَقَهُنَّ الله بَعْدَ الكبر فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى".
حدثنا أبو عبيد الوَصَّابيّ، قال: ثنا محمد بن حمير، قال: ثنا ثابت بن عجلان، قال: سمعت سعيد بن جبير، يحدّث عن ابن عباس، في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا) قال: هن من بني آدم، نساؤكنّ في الدنيا ينشئهنّ الله أبكارا عذارى عربا.
وقوله: (عُرُبًا) يقول تعالى ذكره: فجعلناهنّ أبكارًا غنجات، متحببات إلى أزواجهنّ يحسن التبعل وهي جمع، واحدهن عَرُوب، كما واحد الرسل رسول، وواحد القطف قطوف؛ ومنه قول لبيد:

(23/120)


وفي الْحُدُوجِ عَرُوبٌ غيرُ فاحِشَةٍ رَيَّا الرَّوَادِفِ يَعْشَى دوَنها البَصَرُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، وإسماعيل بن صُبيح، عن أبي إدريس، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس (عُرُبًا أَتْرَابًا) قال: المَلَقَة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (عُرُبًا) يقول: عواشق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس (عُرُبًا) قال: العرب المتحببات المتودّدات إلى أزواجهنّ.
حدثني سليمان بن عبيد الله الغيلاني، قال: ثنا أيوب، قال: أخبرنا قرة، عن الحسن، قال: العرب: العاشق.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، أنه قال في هذه الآية (عُرُبًا) قال: العرب المغنوجة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن شعبة، عن سماك بن عكرِمة قال: هي المغنوجة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عُمارة بن أبي حفصة،
__________
(1) هذا البيت للبيد الشاعر، نسبه إليه أبو عبية في مجاز القرآن (الورقة 175 - ب) أنشده عند قوله تعالى (عربا أترابا) قال: واحدها عروب، وهي الحسنة التبعل (أي المودة للزوج) قال لبيد " وفي الحدوج ... " البيت وفي الأصل: الجزوع، وهو خطأ من الناسخ. وفي القرطبي (17: 211) الخباء، ولا بأس بها. ورواية البيت في فتح القدير للشوكاني (5: 149) . * رَيَّا الرَّوادِفِ يُعْشِي ضَوْءُها البَصَرَا *

(23/121)


عن عكرِمة، في قوله: (عُرُبًا) قال: غِنجات.
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أبي إسحاق التيميّ، عن صالح بن حيان، عن أبي بريدة (عُرُبًا) قال: الشَّكِلة بلغة مكة، والغِنجة بلغة المدينة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: سمعت إبراهيم التيمي يعني ابن الزبرقان، عن صالح بن حيان، عن أبي يزيد بنحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عثمان بن بشار، عن تميم بن حذلم، قوله: (عُرُبًا) قال: حسن تبعُّل المرأة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن عثمان بن بشار، عن تميم بن حذلم في (عُرُبًا) قال: العَرِبة: الحسنة التبعل. قال: وكانت العرب تقول للمرأة إذا كانت حسنة التبعل: إنها لعَرِبة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أُسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه (عُرُبًا) قال: حسنات الكلام.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، قال: عواشق.
قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد، وعكرِمة، مثله.
قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن مجاهد في (عُرُبًا) قال: العرب المتحببات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد (عُرُبًا) قال: العرب: العواشق.
حدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن غالب

(23/122)


أبي الهُذَيل، عن سعيد بن جبير (عُرُبًا) قال: العرب اللاتي يشتهين أزواجهنّ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: المشتهية لبعولّتهنّ.
قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن عبد الله بن عبيد الله، قال: العرب: التي تشتهي زوجها.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، عن عبد الله بن عبيد بن عمير (عُرُبًا) قال: العَرِبة: التي تشتهي زوجها؛ ألا ترى أن الرجل يقول للناقة: إنها لعَرِبة؟
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (عُرُبًا) قال: عُشَّقا لأزواجهنّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عُرُبًا أَتْرَابًا) يقول: عشَّق لأزواجهنّ، يحببن أزواجهنّ حبا شديدا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، يقول: سمعت الضحاك يقول: العُرُب: المتحببات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (عُرُبًا أَتْرَابًا) قال: متحببات إلى أزواجهن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (عُرُبًا) قال: العُرُب: الحسنة الكلام.
حدثنا ابن البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سُئل الأوزاعيّ، عن (عُرُبًا) قال: سمعت يحيى يقول: هنّ العواشق.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن الفرج الصَّدَفيّ

(23/123)


الدِّمياطِيّ، عن عمرو بن هاشم، عن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أمّ سلمة، قالت: قلت يا رسول الله، أخبرني عن قوله: (عُرُبًا أَتْرَابًا) قال: "عُرُبا مُتَعَشِّقاتٍ مُتَحَبباتٍ، أترَابا على مِيلادٍ وَاحِدٍ".
حدثني محمد بن حفص أبو عبيد الوصَّابُّي، قال: ثنا محمد بن حمير، قال: ثنا ثابت بن عجلان، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس (عُرُبًا) والعَرَب: الشَّوْق.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة وبعض قرّاء الكوفيين عُرُبا بضم العين والراء. وقرأه بعض قرّاء الكوفة والبصرة (وعُرُبا) بضم العين وتخفيف الراء، وهي لغة تميم وبكر، والضم في الحرفين أولى القراءتين بالصواب لما ذكرت من أنها جمع عروب، وإن كان فعول أو فعيل أو فعال إذا جُمع، جُمع على فُعُل بضم الفاء والعين، مذكرًا كان أو مؤنثا، والتخفيف في العين جائز، وإن كان الذي ذكرت أقصى الكلامين عن وجه التخفيف.
وقوله: (أَتْرَابًا) يعني أنهنّ مستويات على سنّ واحدة، واحدتهنّ تِرْب، كما يقال: شَبَه وأشَبْاه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن الحسين بن الحارث، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عباس، قال: الأتراب: المستويات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَتْرَابًا) قال: أمثالا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَتْرَابًا) يعني: سنِّا واحدة.

(23/124)


ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)

حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (أَتْرَابًا) قال: الأتراب: المستويات.
وقوله: (لأصْحَابِ الْيَمِينِ) يقول تعالى ذكره: أنشأنا هؤلاء اللواتي وصف صفتهنّ من الأبكار للذين يؤخذ بهم ذات اليمين من موقف الحساب إلى الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) }
يقول تعالى ذكره: الذين لهم هذه الكرامة التي وصف صفتها في هذه الآيات ثُلَّتان، وهي جماعتان وأمتان وفرقتان: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ) ، يعني جماعة من الذين مضوا قبل أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. (وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) ، يقول: وجماعة من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقال به أهل التأويل.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال الحسن: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ) من الأمم (وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) : أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن

(23/125)


أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ) قال: أمة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قال ثنا قتادة، قال: ثنا الحسن عن حديث عمران بن حصين، عن عبد الله بن مسعود قال: "تحدثنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذات ليلة حتى أكرينا في الحديث، ثم رجعنا إلى أهلينا، فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: عُرِضَتْ عَلىَّ الأنْبِياءُ اللَّيْلَةَ بأتْباعها مِنْ أُمَمِها، فَكانَ النَّبِيُّ يَجِيءُ مَعَهَ الثُّلَّةُ مِنْ أُمَّتِهِ، والنَّبِيُّ مَعَهُ العِصَابَةُ مِنَ أُمَّتِهِ؛ والنَّبِيُّ مَعَهُ النَّفَرُ مِن أُمَّتِهِ، والنَّبِيُّ مَعَهَ الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِهِ، والنَّبِيُّ ما مَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ أحَد مِنْ قَوْمِهِ، حتى أتى عَليَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ في كَبْكَبَةٍ مِنْ بني إسْرائيلَ؛ فَلَمَّا رأيْتُهُمْ أعْجَبُونِي، فَقُلْتُ أيْ رَبّ مَنْ هَؤُلاء؟ قال: هَذاَ أخُوك مُوسَى بنُ عِمْرَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بني إسْرائِيلَ فقُلْتُ رَبّ، فأيْنَ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ: انْظُرْ عَنْ يَمِينكَ، فإذَا ظرَابُ مَكَّةَ قَدْ سُدَّتْ بِوُجُوهِ الرّجِالِ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء؟ قِيلَ: هَؤُلاء أُمَّتُكَ، فَقِيل: أرَضِيتَ؟ فَقُلْتُ: رَبِّ رَضيتُ رَب رَضِيتُ قِيلَ: انْظُر عَنْ يَسارِكَ، فَإذَا الأفقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرّجِالِ، فَقُلْتُ: رَبَّ مَنْ هَؤُلاء؟ قِيلَ: هَؤُلاء أُمَّتُكَ، فَقيلَ: أرَضِيتَ؟ فَقُلْتُ رَضيتُ، رَبَّ رَضِيتُ؛ فَقِيلَ إنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعينَ ألْفا مِنْ أُمَّتِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لا حسابَ عَلَيْهمْ؛ قال: فأنشأ عُكَّاشة بن محصن، رجل من بني أسد بن خُزيمة، فقال: يا نبيّ الله ادعُ ربك أن يجعلني منهم، قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثم أنشأ رجل آخر فقال: يا نبيّ الله ادع ربك أن يجعلني منهم، قال: سَبَقَك بها عُكَّاشَةُ، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فَدًى لَكُمْ أبي وأمِّي إن اسْتطَعْتُمْ أنْ تَكُونوا مِنَ السَبْعينَ فَكُونُوا، فإنْ عَجَزْتُمْ وَقَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أهْل الظِّرَاب، فإنْ عَجَزْتُمْ وَقَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أهْل الأفُقِ، فإنّي رأيْتُ ثمَّ أناسا يَتَهَرَّشُونَ (1) كَثيرًا، أو قال يَتَهَوَّشُونَ؛ قال: فتراجع المؤمنون، أو قال
__________
(1) كذا في الأصل. وفي (النهاية: هرش) يتهارشون، هكذا رواه بعضهم، وفسره بالتقاتل. وهو في مسند أحمد بالواو بدل الراء، والتهاوش: الاختلاط. اهـ. (وقال في هوش) : وفي حديث الإسراء: فإذا بشر كثير يتهاوشون، الهوش: الاختلاط، أي يدخل بعضهم في بعض.

(23/126)


فتراجعنا على هؤلاء السبعين، فصار من أمرهم أن قالوا: نراهم ناسا وُلدوا في الإسلام، فلم يزالوا يعلمون به حتى ماتوا عليه، فنمى حديثهم ذاك إلى نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: لَيْس كَذاكَ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذينِ لا يَسْترْقُونَ، وَلا يَكْثَوونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلى رَبَّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - ذُكر أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال يومئذ: "إنّي لأرَجْو أنْ يَكُونَ مِنْ تَبِعَنِي مِنْ أمَّتِي رُبْعَ أهْلِ الجَنَّة، فكبرنا، ثم قال: إنّي لأرَجْو أنْ تكُونُوا الشَّطْرَ، فكبرنا، ثم تلا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه الآية: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الحسن بن بشر البجَليُّ، عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة، عن الحسن عن عمران بن حصين، عن عبد الله بن مسعود، قال: "تحدّثنا لَيْلَةً عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حتى أكرينا أو أكثرنا، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: فإذَا الظِّرَابُ ظِرابُ مَكَّةَ مَسْدُودَةٌ بَوُجُوهِ الرّجالِ وقال أيضا: فإني رأيْتُ عبده أناسا يَتَهاوَشُونَ كَثِيرا؛ قال: فقلنا: من هؤلاء السبعون ألفا فاتفق رأينا على أنهم قوم وُلدوا في الإسلام ويموتون عليه قال: فذكرنا ذلك لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: لا وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَكْتَوُونَ وقال أيضا: ثم قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إني لأرَجو أنْ تكُونُوا رُبْعَ أهْل الجَنَّةِ، فكبر أصحابه ثم قال: إنيّ لأرَجوا أنْ تكُونُوا ثُلثَ أهْلِ الجَنَّةِ، فكبر أصحابه; ثم قال: إنيّ لأرَجو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ، ثم قرأ (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عوف، عن عبد الله بن الحارث قال: كلهم في الجنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، أنه بلغه أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "أتَرْضَوْنَ أنْ تكُونُوا رُبُعَ أهْل الجَنَّة؟

(23/127)


قالوا: نعم، قال: أتَرْضَوْنَ أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهْل الجَنَّة؟ قالوا: نعم، قال وَالَّذي نَفْسي بَيَده إنيّ لآرَجو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أهْل الجَنَّةِ، ثم تلا هذه الآية (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن بُديَل بن كعب أنه قال: أهل الجنة عشرون ومئة صفّ، ثمانون صفا منها من هذه الأمة.
وفي رفع (ثُلَّةٌ) وجهان: أحدهما الاستئناف، والآخر بقوله: لأصحاب اليمين ثلتان، ثلة من الأوّلين وقد رُوي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خبر من وجه عنه صحيح أنه قال: الثُّلَّتانِ جَميعا مِنْ أمَّتِي".
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) قال: قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "هُمَا جَميعا مِنْ أمَّتي".
وقوله: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) يقول تعالى ذكره معجبا نبيه محمدا من أهل النار (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ) الذين يؤخذ بهم ذات الشمال من موقف الحساب إلى النار (مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) : أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم.
وقوله: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) يقول: هم في سّموم جهنم وحَميمها.
وقوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) يقول تعالى ذكره: وظل من دُخان شديد السواد. والعرب تقول لكلّ شيء وصفته بشدّة السواد: أسود يَحْموم.
وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:

(23/128)


حدثني ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، قال: ثني يزيد بن الأصمّ، قال: سمعت ابن عباس يقول في (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: هو ظلّ الدخان.
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا قبيصة بن ليث، عن الشيبانيّ، عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت الشيباني، عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس، بمثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الشيباني، عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: هو الدخان.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إبراهيم بن طُهمان، عن سماك بن جرب، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: الدخان.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) يقول: من دخان حَميم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، أنه قال في هذه الآية (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: الدخان.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك، في قوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: دخان حميم.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك بمثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن

(23/129)


مجاهد (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: الدخان.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (مِنْ يَحْمُومٍ) قال: من دخان حميم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان الشيباني، عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس، ومنصور، عن مجاهد (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قالا دخان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: من دخان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) كنا نحَدَّث أنها ظلّ الدخان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال: ظلّ الدخان دخان جَهنم، زعم ذلك بعض أهل العلم.
وقوله: (لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره: ليس ذلك الظلّ ببارد، كبرد ظلال سائر الأشياء، ولكنه حارّ، لأنه دخان من سعير جهنّم، وليس بكريم لأنه مؤلم من استظلّ به، والعرب تتبع كلّ منفيّ عنه صفة حمد نفي الكرم عنه، فتقول: ما هذا الطعام بطيب ولا كريم، وما هذا اللحم بسمين ولا كريم وما هذه الدار بنظيفة ولا كريمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا النضر، قال: ثنا جويبر، عن

(23/130)


الضحاك، في قوله: (لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) قال: كلّ شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) قال: لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الذين وصف صفتهم من أصحاب الشمال، كانوا قبل أن يصيبهم من عذاب الله ما أصابهم في الدنيا مترفين، يعني منعمين.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) يقول: منعمين.
وقوله: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) يقول جلّ ثناؤه: وكانوا يقيمون على الذنب العظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد يُصِروّن: يدمنون
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يدهنون، أو يدمنون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ) قال: لا يتوبون ولا يستغفرون، والإصرار عند العرب على الذنب: الإقامة عليه، وترك الإقلاع عنه.

(23/131)


وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)

وقوله: (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) يعني: على الذنب العظيم، وهو الشرك بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال: على الذنب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبو تُميلة، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، في قوله: (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال: الشرك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) يعني: الشرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال: الذنب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال: الحنث العظيم: الذنب العظيم، قال: وذلك الذنب العظيم الشرك لا يتوبون ولا يستغفرون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) وهو الشرك.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن ابن جُريج، عن مجاهد (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال: الذنب العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ

(23/132)


قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) }
يقول تعالى ذكره: وكانوا يقولون كفرا منهم بالبعث، وإنكارًا لإحياء الله خلقه من بعد مماتهم: أئذا كنا ترابا في قبورنا من بعد مماتنا، وعظاما نخرة، أئنا لمبعوثون منها أحياء كما كنا قبل الممات، أو آباؤنا الأوّلون الذين كانوا قبلنا، وهم الأوّلون، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهؤلاء إن الأوّلين من آبائكم والآخرين منكم ومن غيركم، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، وذلك يوم القيامة.

(23/133)


ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره لأصحاب الشمال: ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى، المكذّبون بوعيد الله ووعده، لآكلون من شجر من زقوم.
وقوله: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) يقول: فمالئون من الشجر الزَّقوم بطونهم.
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث الشجر في قوله: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) : أي من الشجر، (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ) لأن الشجر تؤنث وتذكر، وأنث لأنه حمله على الشجرة لأن الشجرة قد تدلّ على الجميع، فتقول العرب: نبتت قبلنا شجرة مرّة وبقلة رديئة، وهم يعنون الجميع، وقال بعض نحويي الكوفة (لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) ، وفي قراءة عبد الله (لآكِلُونَ مِنْ شجرة مِنْ زَقُّومٍ) على واحدة، فمعنى شجر وشجرة واحد، لأنك إذا قلت أخذت من الشاء، فإن نويت واحدة أو أكثرّ من ذلك، فهو جائز، ثم قال (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) يريد من الشجرة؛ ولو قال: فمالئون منه إذا لم

(23/133)


فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)

يذكر الشجر كان صوابا يذهب إلى الشجر في منه، ويؤنث الشجر، فيكون منها كناية عن الشجر والشجر يؤنث ويذكر، مثل التمر يؤنث ويذكر.
والصواب من القول في ذلك عندنا القول الثاني، وهو أن قوله: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا) مراد به من الشجر أنث للمعنى، وقال (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ) مذكرا للفظ الشجر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) }
يقول تعالى ذكره: فشاربٌ أصحابُ الشمال على الشجر من الزَّقوم إذا أكلوه، فملئوا منه بطونهم من الحميم الذي انتهى غليه وحرّه. وقد قيل: إن معنى قوله: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ) : فشاربون على الأكل من الشجر من الزقوم.
وقوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة (شُرْبَ الْهِيمِ) بضم الشين، وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والبصرة والشأم (شُرْبَ الهِيمِ (1)) اعتلالا بأن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال لأيام مني: "وإنَّها أيَّامُ أكْلٍ وشُرْبٍ".
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء مع تقارب معنييهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته، لأن ذلك في فتحه وضمه نظير فتح قولهم: الضَّعف والضُّعف بضمه. وأمَّا الهيم، فإنها جمع أهيم، والأنثى هيماء؛ والهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء. ومن العرب من يقول: هائم، والأنثى هائمة،
__________
(1) يريد بفتح الشين، يفهم من كلامه بعد في توجيه القراءة. وقد صرح الفراء بكلمة "بالفتح" فيما نقله عن الكسائي عن يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج (معاني القرآن: مصورة الجامعة رقم 24059 ص 324) .

(23/134)


ثم يجمعونه على هيم، كما قالوا: عائط وعِيط، وحائل وحول؛ ويقال: إن الهيم: الرمل، بمعنى أن أهل النار يشربون الحميم شرب الرمل الماء.
* ذكر من قال عنى بالهيم الإبل العطاش:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (شُرْبَ الْهِيمِ) يقول: شرب الإبل العطاش.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: الإبل الظماء.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن عمران بن حدير، عن عكرِمة، في قوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: هي الإبل المِراضى، تَمُصّ الماء مَصًّا ولا تَرْوَى.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: الإبل يأخذها العُطاش، فلا تزال تشرب حتى تهلك.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرِمة (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: هي الإبل يأخذها العطاش.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن عباس، قال: هي الإبل العطاش.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (شُرْبَ الْهِيمِ) قال: الإبل الهيم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الهيم: الإبل العطاش، تشرب فلا تروى يأخذها داء يقال له الهُيام.

(23/135)


أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)

حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: داء بالإبل لا تَرْوَى معه.
* ذكر من قال هي الرملة:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال: السِّهْلةُ (1) .
وقوله: (هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم أيها الناس، أن هؤلاء المكذّبين الضالين يأكلونه من شجر من زقوم، ويشربون عليه من الحميم، هو نزلهم الذي ينزلهم ربهم يوم الدين، يعني: يوم يدين الله عباده.
وقوله: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) يقول تعالى ذكره لكفار قريش والمكذّبين بالبعث: نحن خلقناكم أيها الناس ولم تكونوا شيئًا، فأوجدناكم بشرا، فهلا تصدّقون من فعل ذلك بكم في قيله لكم: إنه يبعثكم بعد مماتكم وبِلاكم في قبوركم، كهيأتكم قبل مماتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث: أفرأيتم أيها المُنكرون قُدرة الله على إحيائكم من بعد مماتكم - النطف التي تمنون في أرحام نسائكم- أنتم تخلقون تلك أم نحن الخالقون.
__________
(1) في (اللسان: سهل) عن الجوهري: السهلة، بكسر السين: رمل ليس بالدقاق. وقال قبله: السهلة والسهل: ثراب كالرمل يجىء به الماء

(23/136)


وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)

وقوله: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) يقول تعالى ذكره: نحن قدرنا بينكم أيها الناس الموت، فعجَّلناه لبعض، وأخَّرناه عن بعض إلى أجل مسمى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) قال: المستأخر والمستعجل.
وقوله: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) يقول تعالى ذكره: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أيها الناس في أنفسكم وآجالكم، فمفتات علينا فيها في الأمر الذي قدّرناه لها من حياة وموت بل لا يتقدم شيء من أجلنا، ولا يتأخر عنه.
وقوله: (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) يقول: على أن نُبَدّل منكم أمْثالَكَمْ بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم.
وقوله: (وَنُنْشِئَكُمْ فِيمَا لا تَعْلَمُونَ) يقول: ونبدلكم عما تعلمون من أنفسكم فيما لا تعلمون منها من الصور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَنُنْشِئَكُمْ) في أي خلق شئنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى

(23/137)


فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) }
يقول تعالى ذكره: ولقد علمتم أيها الناس الإحداثة الأولى التي أحدثناكموها، ولم تكونوا من قبل ذلك شيئًا.
وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (النَّشْأَةَ الأولَى) قال: إذ لم تكونوا شيئًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى) يعني خلق آدم لستَ سائلا أحدًا من الخلق إلا أنبأك أن الله خلق آدم من طين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى) قال: هو خلق آدم.
حدثني محمد بن موسى الحرسي، قال: ثنا جعفر بن سليمان، قال: سمعت أبا عمران الجوني يقرأ هذه الآية (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى) قال: هو خلق آدم.
وقوله: (فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: فهلا تذكرون أيها الناس، فتعلموا أن الذي أنشأكم النشأة الأولى، ولم تكونوا شيئا، لا يتعذّر عليه أن يعيدكم من بعد مماتكم وفنائكم أحياء.
وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها الناس الحرث الذي تحرثونه (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) يقول: أأنتم تصيرونه زرعًا،

(23/138)


لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

أم نحن نجعله كذلك؟
وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي، قال: ثنا مسلم بن أبي مسلم الحرميّ، قال: ثنا مخلد بن الحسين، عن هاشم، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَقُولَنَّ زَرَعْتُ ولَكنْ قُلْ حَرَثْتُ" قال أبو هريرة ألم تسمع إلى قول الله (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره: لو نشاء جعلنا ذلك الزرع الذي زرعناه حُطامًا، يعني هشيما لا يُنْتفع به في مطعم وغذاء.
وقوله: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فظلتم تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم من المصيبة باحتراقه وهلاكه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تعجبون.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تعجبون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تعجبون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فظلتم تلاومون بينكم في تفريطكم في طاعة

(23/139)


ربكم جلّ ثناؤه، حتى نالكم بما نالكم من إهلاك زرعكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) يقول: تلاومون.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب البكري، عن عكرِمة (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تلاومون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلتم تندمون على ما سلف منكم في معصية الله التي أوجب لكم عقوبته، حتى نالكم في زرعكم ما نالكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تندمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال تندمون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلتم تعجبون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قال: تعجبون حين صنع بحرثكم ما صنع به، وقرأ قول الله عزّ وجلّ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) وقرأ قول الله (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) قال: هؤلاء ناعمين، وقرأ قول الله جل ثناؤه (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) . . . إلى قوله: (كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى (فَظَلْتُمْ) : فأقمتم

(23/140)


تعجبون مما نزل بزرعكم وأصله من التفكه بالحديث إذا حدّث الرجلُ الرجلَ بالحديث يعجب منه، ويلهى به، فكذلك ذلك. وكأن معنى الكلام: فأقمتم تتعجبون يُعََجِّب بعضكم بعضا مما نزل بكم.
وقوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: إنا لمولع بنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا يزيد بن الحباب قال: أخبرني الحسين بن واقد، قال: ثني يزيد النحويّ عن عكرِمة، في قول الله تعالى ذكره (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قال: إنا لمولع بنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال مجاهد في قوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي لمولع بنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنا لمعذّبون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) : أي معذّبون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنا لملقون للشرّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قال: مُلْقون للشرّ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إنا لمعذّبون، وذلك أن الغرام عند العرب: العذاب، ومنه قول الأعشى:
يُعاقِبْ يَكُنْ غَرَاما وَإنْ يعط جَزيلا فإنَّهُ لا يُبالي (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة. وقد مر الاستشهاد به في الجزء التاسع عشر ص 35 من هذه الطبعة. فراجعه ثمة وأنشده المؤلف هنا عند قوله تعالى "إنا لمغرمون" وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 176 -1) معذبون، وأنشد بيت بشر بن أبي خازم: ويوم النسار ويوم الجفا ... ر كان عذابا وكان غراما
وقد مر تفسير هذا البيت في (19: 36) من هذه الطبعة، فراجعه ثمة.

(23/141)


أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)

يعني بقوله: يكن غرامًا: يكن عذابًا. وفي الكلام متروك اكتفى بدلالة الكلام عليه، وهو: فظلتم تفكهون "تقولون" إنا لمغرمون، فترك تقولون من الكلام لما وصفنا.
وقوله: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) يعني بذلك تعالى ذكره أنهم يقولون: ما هلك زرعنا وأصبنا به من أجل (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ولكنا قوم محرومون، يقول: إنهم غير مجدودين، ليس لهم جًدّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) قال: حُورِفنا فحرمنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) قال: أي محارَفون.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) }
يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها الناس الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من السحاب فوقكم إلى قرار الأرض، أم نحن منزلوه لكم.

(23/142)


أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله المُزن، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنَ الْمُزْنِ) قال السحاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي من السَّحاب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) قال: المزن: السحاب اسمها، أنزلتموه من المزن، قال: السحاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) قال: المزن: السماء والسحاب.
وقوله: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) يقول تعالى ذكره: لو نشاء جعلنا ذلك الماء الذي أنزلناه لكم من المزن مِلحًا، وهو الأجاج، والأجاج من الماء: ما اشتدّت ملوحته، يقول: لو نشاء فعلنا ذلك به فلم تنتفعوا به في شرب ولا غرس ولا زرع.
وقوله: (فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) يقول تعالى ذكره: فهلا تشكرون ربكم على إعطائه ما أعطاكم من الماء العذب لشربكم ومنافعكم، وصلاح معايشكم، وتركه أن يجعله أجاجًا لا تنتفعون به.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) }

(23/143)


يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها الناس النار التي تستخرجون من زَنْدكم (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) يقول: أأنتم أحدثتم شجرتها واخترعتم أصلها (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) يقول: أَمْ نحن اخترعنا ذلك وأحدثناه؟.
وقوله: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) يقول: نحن جعلنا النار تذكرة لكم تذكرون بها نار جهنّم، فتعتبرون وتتعظون بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (تَذْكِرَةً) قال: تذكرة النار الكبرى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) للنار الكبرى.
ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "نَارُكُمْ هَذِهِ التِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قالوا: يا نبيّ الله إنْ كَانَتْ لكَافِية، قَالَ: قَدْ ضُرِبَتْ بالمَاءِ ضَرْبَتَيْنِ أَوْ مَرَّتَيْنِ، لِيسْتَنْفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ وَيَدْنُو مِنْها".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد (تَذْكِرَةً) قال: للنار الكبرى التي في الآخرة.
وقوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) اختلف أهل التأويل في معنى المقوين، فقال بعضهم: هم المسافرون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (لِلْمُقْوِينَ) قال: للمسافرين.

(23/144)


حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال: يعني المسافرين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال للمُرْمل: المسافر.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وفي قوله: (لِلْمُقْوِينَ) قال: للمسافرين.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال: للمسافرين.
وقال آخرون: عُنِي بالْمُقْوِين: المستمتعون بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) للمستمتعين الناس أجمعين.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) للمستمتعين المسافر والحاضر.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشر، عن خصيف في قوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال: للخلق.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: الجائعون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال: المقوي: الجائع: في كلام العرب، يقول: أقويت منه كذا وكذا: ما أكلت منه كذا وكذا شيئًا.

(23/145)


فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عُنِي بذلك للمسافر الذي لا زاد معه، ولا شيء له، وأصله من قولهم: أقوت الدار: إذا خلت من أهلها وسكانها كما قال الشاعر:
أَقْوَى وأقْفَرَ مِنْ نُعْمٍ وغَيَّرَها هُوجُ الرّياح بهابي التُّرْبِ مَوَّارِ (1)
يعني بقوله "أقوى": خلا من سكانه، وقد يكون المقوي: ذا الفرس القويّ، وذا المال الكثير في غير هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) }
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني من قصيدته التي مطلعها "عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار" وهو البيت الثاني بعد المطلع. ذكرها وليم الورد البروسي في العقد الثمين، ص 269 وجعلها من الشعر المنحول إلى النابغة. والقصيدة سبعة وأربعون بيتا. واستشهد المؤلف بالبيت عند قوله تعالى "ومتاعا للمقوين" قال: عني بذلك المسافر الذي لا زاد معه ولا شيء، وأصله من أقوت الدار: إذا خلت من أهلها وسكانها، كما قال الشعر: "أقوى وأقفر ... البيت". يعني بقوله "أقفر": خلا من سكانه. اهـ.

(23/146)


إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فسبح يا محمد بذكر ربك العظيم، وتسميته.
وقوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) فقال بعضهم: عُنِي بقوله: (فَلا أُقْسِمُ) : أقسم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن

(23/146)


الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير (فَلا أُقْسِمُ) قال: أقسم.
وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: (فَلا) فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد فقيل أقسم وقوله: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فلا أقسم بمنازل القرآن، وقالوا: أنزل القرآن على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نجومًا متفرّقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَين، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين بعد. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: نزل متفرّقًا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بم واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: أنزل الله القرآن نجومًا ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن عكرِمة: إن القرآن نزل جميعًا، فوضع بمواقع النجوم، فجعل جبريل يأتي بالسورة، وإنما نزل جميعًا في ليلة القدر.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مجاهد (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: هو مُحْكَم القرآن.
حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال: مستقرّ الكتاب أوّله وآخره.

(23/147)


وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النجوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال في السماء ويقال مطالعها ومساقطها.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي مساقطها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بمنازل النجوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: بمنازل النجوم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بانتثار النجوم عند قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: قال الحسن انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النجوم ومغايبها في السماء، وذلك أن المواقع جمع موقع، والموقع المفعل، من وقع يقع موقعًا، فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا: هو أولى معانيه به.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة بموقع على التوحيد، وقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين بمواقع: على الجماع.

(23/148)


والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) يقول تعالى ذكره وإن هذا القسم الذي أقسمت لقسم لو تعلمون ما هو، وما قدره، قسم عظيم من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: وأنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه.
وقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) يقول تعالى ذكره: فلا أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن لقرآن كريم، والهاء في قوله: (إِنَّهُ) من ذكر القرآن.
وقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) يقول تعالى ذكره: هو في كتاب مصون عند الله لا يمسه شيء من أذى من غبار ولا غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) الكتاب الذي في السماء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) قال: القرآن في كتابه المكنون الذي لا يمسه شيء من تراب ولا غبار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) زعموا أن الشياطين تنزلت به على محمد، فأخبرهم الله أنها لا تقدر على ذلك، ولا تستطيعه، ما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا، وهو محجوب عنهم، وقرأ قول الله (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) .

(23/149)


حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العتكي، عن جابر بن زيد وأبي نهيك، في قوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) قال: هو كتاب في السماء.
قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: لا يمسّ ذلك الكتاب المكنون إلا الذين قد طهَّرهم الله من الذنوب.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (إِلا الْمُطَهَّرُونَ) فقال بعضهم: هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: إذا أراد الله أن ينزل كتابا نسخته السفرة، فلا يمسه إلا المطهرون، قال: يعني الملائكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: الملائكة الذين في السماء.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: الملائكة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: الملائكة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العتكي، عن جبار بن زيد وأبي نهيك في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) يقول: الملائكة.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال الملائكة.

(23/150)


حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال الملائكة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن عاصم، عن أبي العالية (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: الملائكة.
وقال آخرون: هم حملة التوراة والإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: حملة التوراة والإنجيل.
وقال آخرون في ذلك: هم الذين قد طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي العالية الرياحي، في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: ليس أنتم أنتم أصحاب الذنوب.
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال: الملائكة والأنبياء والرسل التي تنزل به من عند الله مطهرة، والأنبياء مطهرة، فجبريل ينزل به مُطَهَّر، والرسل الذين تجيئهم به مُطَهَّرون فذلك قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) والملائكة والأنبياء والرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم، فهؤلاء ينزلون به مطهرون، وهؤلاء يتلونه على الناس مطهرون، وقرأ قول الله (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) قال: بأيدي الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم.
وقال آخرون: عني بذلك: أنه لا يمسه عند الله إلا المطهرون.

(23/151)


أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)

* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسه المشرك النجس، والمنافق الرَّجِس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) قال لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسيّ النجس، والمنافق الرجس. وقال في حرف ابن مسعود (ما يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ) .
والصواب من القول من ذلك عندنا، أن الله جلّ ثناؤه، أخبر أنه لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون فعمّ بخبره المطهرين، ولم يخصص بعضًا دون بعض؛ فالملائكة من المطهرين، والرسل والأنبياء من المطهرين وكل من كان مطهرًا من الذنوب، فهو ممن استثني، وعني بقوله: (إِلا الْمُطَهَّرُونَ) .
وقوله: (تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، نزله من الكتاب المكنون.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله العتكي، عن جابر بن زيد وأبي نهيك، في قوله: (تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: القرآن من ذلك الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) }
يقول تعالى ذكره: أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره، وقصصت عليكم

(23/152)


أمره أيها الناس أنتم تلينون القول للمكذّبين به، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم في ذلك نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) قال: تريدون أن تمالئوهم فيه، وتركنوا إليهم.
وقال آخرون: بل معناه: أفبهذا الحديث أنتم مكذّبون.
* ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثن أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) يقول: مكذّبون غير مصدّقين.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) يقول: مكذبون.
وقوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يقول: وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب، وذلك كقول القائل الآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، بمعنى: جعلت: شكر إحساني، أو ثواب إحساني إليك إساءة منك إليّ.
وقد ذُكر عن الهيثم بن عدّي: أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان: بمعنى ما شكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأمل على اختلاف فيه منهم.

(23/153)


* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ رضي الله عنه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: شكركم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عليّ رفعه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: شكركم تقولون مُطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال " (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: شُكْرَكُمْ أنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، قال: ويقولون مطرنا بنوء كذا وكذا".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما مُطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا، يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذَا، وقرأ ابن عباس (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا معاذ بن سليمان، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ثم قال: ما مُطر الناس ليلة قطّ، إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، قال: وقال وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول: شكركم على ما أنزلت عليكم من الغيث والرحمة تقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ قال: فكان ذلك منهم كفرًا بما أنعم عليهم.

(23/154)


حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، قال: أحسبه أو غيره "أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم سمع رجلا ومطروا يقول: مُطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال: كَذَبْتَ بَلْ هُوَ رِزْقُ الله".
حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إِنَّ اللهَ لَيُصَبَّحُ القَوْمَ بالنِّعْمَةِ، أَوْ يُمَسِّيهِم بِهَا، فَيُصْبِحُ بِهَا قَوْمٌ كَافِرينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا" قال محمد: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب، فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس يا عمَّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، كم بقي من نوء الثريا؟ فقال: العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا، قال: فما مضت سابعة حتى مُطروا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: كان يقرؤها (وتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أنَّكُم تُكَذِّبُونَ) يقول: جعلتم رزق الله بنوء النجم، وكان رزقهم في أنفسهم بالأنواء أنواء المطر إذا نزل عليهم المطر، قالوا: رُزقنا بنوء كذا وكذا، وإذا أمسك عنهم كذّبوا، فذلك تكذيبهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عطاء الخراساني، في قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: كان ناس يمطرون فيقولون: مُطرنا بنوء كذا، مُطرنا بنوء كذا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: قولهم

(23/155)


في الأنواء: مُطرنا بنوء كذا ونوء كذا، يقول: قولوا هو من عند الله وهو رزقه.
حُدثت، عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يقول: جعل الله رزقكم في السماء، وأنتم تجعلونه في الأنواء.
حدثني أبو صالح الصراري، قال: ثنا أبو جابر "محمد بن عبد الملك الأزدي" قال: ثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم بن أبي أمامة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "ما مُطِرَ قَوْمٌ مِنْ لَيْلَةٍ إلا أَصْبَحَ قَوْمٌ بِهَا كَافِرِينَ، ثم قال: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) "يقول قَائلٌ مُطِرْنا بنَجْمِ كَذَا وَكَذَا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتجعلون حظكم منه التكذيب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أما الحسن فكان يقول: بئسما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب.
وقوله: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) يقول تعالى ذكره: فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم أيها الناس حلاقيمكم (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) يقول ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، وخرج الخطاب ها هنّا عاما للجميع، والمراد به: من حضر الميت من أهله وغيرهم وذلك معروف من كلام العرب وهو أن يخاطب الجماعة بالفعل، كأنهم أهله

(23/156)


فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)

وأصحابه، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا، فيقول: قتلتم فلانًا، والقاتل منهم واحد، إما غائب، وإما شاهد. وقد بيَّنا نظائر ذلك في مواضع كثيرة من كتابنا هذا.
يقول (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) يقول: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، (وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: قيل (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) كأنه قد سمع منهم، والله أعلم: إنا نقدر على أن لا نموت، فقال (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، ثم قال (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي غير مجزيين ترجعون تلك النفوس وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك إن كنتم صادقين بأنكم تمتنعون من الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) }
يقول تعالى ذكره: فهلا إن كنتم أيها الناس غير مدينين.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (مَدِينِينَ) فقال بعضهم: غير محاسبين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) يقول: غير محاسبين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (غَيْرَ مَدِينِينَ) قال: محاسبين.

(23/157)


حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) : أي محاسبين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) قال: كانوا يجحدون أن يُدانوا بعد الموت، قال: وهو مالك يوم الدين، يوم يُدان الناس بأعمالهم، قال: يدانون: يحاسبون.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) قال: غير محاسبين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) قال غير مبعوثين، غير محاسبين.
وقال آخرون: معناه: غير مبعوثين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) غير مبعوثين يوم القيامة، ترجعونها إن كنتم صادقين.
وقال آخرون: بل معناه: غير مجزيين بأعمالكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: غير محاسبين فمجزيين بأعمالكم من قولهم: كما تدين تدان، ومن قول الله (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
وقوله: (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول: تردّون تلك النفوس من بعد مصيرها إلى الحلاقيم إلى مستقرّها من الأجساد إن كنتم صادقين، إن كنتم تمتنعون من الموت والحساب والمجازاة، وجواب قوله: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، وجواب قوله: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) جواب واحد وهو قوله: (تَرْجِعُونَهَا) وذلك نحو قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جعل جواب الجزاءين جوابًا واحدًا.

(23/158)


وبنحو الذي قلنا في قوله: (تَرْجِعُونَهَا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد، في قوله: (تَرْجِعُونَهَا) قال: لتلك النفس (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
وقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) يقول تعالى ذكره: فأما إن كان الميت من المقرّبين الذين قرّبهم الله من جواره في جنانه (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) يقول: فله روح وريحان.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (فَرَوْحٌ) بفتح الراء، بمعنى: فله برد. (وَرَيْحَانٌ) يقول: ورزق واسع في قول بعضهم، وفي قول آخرين فله راحة وريحان وقرأ ذلك الحسن البصريّ (فَرُوحٌ) بضم الراء، بمعنى: أن روحه تخرج في ريحانة.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالفتح لإجماع الحجة من القرّاء عليه، بمعنى: فله الرحمة والمغفرة، والرزق الطيب الهنيّ.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) فقال بعضهم: معنى ذلك: فراحة ومستراح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) يقول: راحة ومستراح.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: يعني بالريحان: المستريح من الدنيا (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) يقول: مغفرة ورحمة.
وقال آخرون: الرَّوح: الراحة، والرَّيحان: الرزق.

(23/159)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: راحة: وقوله: وريحان قال: الرزق.
وقال آخرون: الرَّوْح: الفرح، والرَّيْحان: الرزق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا إدريس، قال: سمعت أبي، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، في قوله: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: الرَّوْح: الفرح، والرَّيحان: الرزق.
وأما الذين قرءوا ذلك بضم الراء فإنهم قالوا: الرُّوح: هي روح الإنسان، والرَّيحان: هو الريحان المعروف: وقالوا: معنى ذلك: أن أرواح المقرّبين تخرج من أبدانهم عند الموت برَيحان تشمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: تخرج روحه في ريحانة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال: لم يكن أحد من المقرّبين يفارق الدنيا، والمقربون السابقون، حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم يُقبض.
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح الراء: الرَّوْح: الرحمة، والرَّيحان: الريحان المعروف.

(23/160)


* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: الروح: الرحمة، والرَّيحان: يتلقى به عند الموت.
وقال آخرون منهم: الرَّوْح: الرحمة، والرَّيحان: الاستراحة.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) الرَّوْح: المغفرة والرحمة، والرَّيحان: الاستراحة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن منذر الثوريّ، عن الربيع بن خثيم (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال: هذا عند الموت (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) قال: يُجاء له من الجنة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن الحسن، في قوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) قال: ذلك في الآخرة، فقال له بعض القوم قال: أما والله إنهم ليرون عند الموت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد، قال: ثنا قرة، عن الحسن، بمثله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي: قول من قال: عني بالرَّوْح: الفرح والرحمة والمغفرة، وأصله من قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحرّ. وأما الريحان، فإنه عندي الريحان الذي يتلقى به عند الموت، كما قال أبو العالية والحسن، ومن قال في ذلك نحو قولهما، لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانيه.
وقوله: (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) يقول: وله مع ذلك بستان نعيم يتنعم فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وجنة نعيم قال: قد عُرِضت عليه.

(23/161)


وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) }
يقول تعالى ذكره: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ) الميت (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) الذين يؤخذ بهم إلى الجنة من ذات أيمانهم (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) .
ثم اختلف في معنى قوله: (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) فقال أهل التأويل فيه ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) فسلام لك من أصحاب اليمين قال: سلام من عند الله، وسلمت عليه ملائكة الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) قال: سلم مما يكره.
وأما أهل العربية، فإنهم اختلفوا في ذلك (1) فقال بعض نحوَّيي البصرة (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) : أي فيقال سلم لك. وقال بعض نحوَّيي الكوفة: قوله: (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) : أي فذلك مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، وألقيت "أن" ونوى معناها، كما تقول: أنت مصدّق مسافر عن قليل، إذا كان قد قال: إني مسافر عن قليل، وكذلك يجب معناه أنك مسافر عن قليل، ومصدّق عن قليل. قال: وقوله: (فَسَلامٌ لَكَ) معناه: فسلم لك أنت من أصحاب اليَمِين. قال: وقد
__________
(1) جمهور كلام المؤلف الذي نقله عن أهل العربية من نحاة الكوفة هنا: هو من كلام الفراء في معاني القرآن، (الورقة 325 من مصورة الجامعة) نقل بعضه بنصه وتصرف في بعضه بلفظه.

(23/162)


إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

يكون كالدعاء له، كقوله: فسُقيًا لك من الرجال. قال: وإن رفعت السلام فهو دعاء، والله أعلم بصوابه.
وقال آخر منهم قوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فإنه جمع بين جوابين، ليعلم أن أمَّا جزاء: قال: وأما قوله: (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) قال: وهذا أصل الكلمة مسلم لك هذا، ثم حذفت "أن" وأقيم "مِنْ" مَقامها. قال: وقد قيل: فسلام لك أنت من أصحاب اليَمِين، فهو على ذاك: أي سلام لك، يقال: أنت من أصحاب اليمين، وهذا كله على كلامين.
قال: وقد قيل مسلم: أي كما تقول: فسلام لك من القوم، كما تقول: فسُقيًا لك من القوم، فتكون كلمة واحدة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فسلام لك إنك من أصحاب اليمين، ثم حُذفت واجتزئ بدلالة مِنْ عليها منها، فسلمت من عذاب الله، ومما تكره، لأنك من أصحاب اليمين.
وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ) يقول تعالى: وأما إن كان الميت من المكذّبين بآيات الله، الجائرين عن سبيله، فله نزل من حميم قد أغلي حتى انتهى حرّه، فهو شرابه. (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) يقول: وحريق النار يحرق بها؛ والتصلية: التفعلة من صلاة الله النار فهو يصليه تصلية، وذلك إذا أحرقه بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }
يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرّبين وأصحاب اليمين، وعن المكذّبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) يقول: لهو الحقّ من الخبر اليقين لا شكّ فيه.

(23/163)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال: الخبر اليقين.
0حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) حتى ختم، إن الله تعالى ليس تاركا أحدا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القران. فأما المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة. وأما الكافر، فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه.
واختلف أهل العربية في وجه إضافة الحقّ إلى اليقين، والحق ليقين، فقال بعض نحويي البصرة، قال: حقّ اليقين، فأضاف الحق إلى اليقين، كما قال (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي ذلك دين الملَّة القيمة، وذلك حقّ الأمر اليقين. قال: وأما هذا رجل السَّوء، فلا يكون فيه هذا الرجل السَّوء، كما يكون في الحق اليقين، لأن السوء ليس بالرجل، واليقين هو الحقّ. وقال بعض أهل الكوفة: اليقين نعت للحقّ، كأنه قال: الحقّ اليقين، والدين القيم، فقد جاء مثله في كثير من الكلام والقرآن (وَلَدَارُ الآخِرَةُ * والدارُ الآخِرَةُ) قال: فإذا أضيف توهم به غير الأوّل.
وقوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) يقول تعالى ذكره: فسبح بتسمية ربك العظيم بأسمائه الحسنى.
آخر تفسير سورة الواقعة

(23/164)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)

تفسير سورة الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أن كلّ ما دونه من خلقه يسبحه تعظيما له، وإقرارا بربوبيته، وإذعانا لطاعته، كما قال جلّ ثناؤه (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .
وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول: ولكنه جلّ جلاله العزيز في انتقامه ممن عصاه، فخالف أمره مما في السموات والأرض من خلقه (الْحَكِيمُ) في تدبيره أمرهم، وتصريفه إياهم فيما شاء وأحبّ.
وقوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره: له سلطان السموات والأرض وما فيهنّ ولا شيء فيهنّ يقدر على الامتناع منه، وهو في جميعهم نافذ الأمر، ماضي الحكم.
وقوله: (يُحْيِي وَيُمِيتُ) يقول: يحيي ما يشاء من الخلق، بأن يوجده كيف يشاء، وذلك بأن يحدث من النطفة الميتة حيوانا، بنفخ الروح فيها من بعد تارات يقلبها فيها، ونحو ذلك من الأشياء، ويميت ما يشاء من الأحياء بعد الحياة بعد بلوغه أجله فيفنيه: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول جلّ ثناؤه: وهو على كل شيء ذو قدرة، لا يتعذّر عليه شيء أراده، من إحياء

(23/165)


هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

وإماتة، وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) }

(23/168)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) }
يقول تعالى ذكره: (هُوَ الأوَّلُ) قبل كل شيء بغير حدّ، (وَالآخِرُ) يقول: والآخر بعد كل شيء بغير نهاية. وإنما قيل ذلك كذلك، لأنه كان ولا شيء موجود سواه، وهو كائن بعد فناء الأشياء كلها، كما قال جلّ ثناؤه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) . وقوله: (وَالظَّاهِرُ) يقول: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه. (وَالْبَاطِنُ) يقول: وهو الباطن جميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقال به أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك، والخبر الذي روي فيه:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ، ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بينما هو جالس في أصحابه، إذ ثار عليهم سحاب، فقال: هَلْ تَدْرُونَ ما هَذَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّها الرَّقِيعَ (1) مَوْجُ مَكْفُوفٌ، وَسَقْفٌ
__________
(1) فيه سقط كما لا يخفي وفي الدر وابن كثير: قال هذا العنان، هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه، ثم قال تدرون ما فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإنها الرقيع. إلخ

(23/168)


مَحْفُوظٌ، قال: فَهَلَ تَدوْرُنَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: مَسيرةُ خَمْس مِئِةِ سَنَةٍ، قال: فَهَلْ تَدْرُوْنَ ما فَوْقَ ذلكَ؟ فقالوا مثل ذلك، قال: فَوْقَها سَماءٌ أخرْىَ، وَبَيْنَهُما مَسِيرةُ خَمْسِ مِئةِ سَنَةٍ، قال: هَلْ تَدْرُوْنَ ما فَوْقَ ذلك؟ فقالوا مثل قولهم الأوّل، قال: فإنَّ فَوْقَ ذلكَ العَرْشَ، وَبَيْنَهُ وَبَينَ السَّماءِ السَّابِعَةِ مثْلُ ما بَيَن السَّماءَيْن، قال: هَلْ تَدْرُوْنَ ما الَّتِي تَحْتَكُمْ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّها الأرْضُ، قال: فَهَلْ تَدْرُون ما تَحْتَها؟ قالوا له مثل قولهم الأوّل، قال: فإنَّ تَحْتَها أرْضًا أخْرَى، وبَيْنهُما مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِِ سَنَةٍ، حتى عدّ سبع أرضين، بين كلّ أرضيْن مسيرة خمس مئة سنة، ثم قال: وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّد بيَدِهِ، لَوْ دُلِّيَ أحَدكُمْ بِحَبْل إلى الأرْضِ الأخْرى لَهَبَطَ على الله، ثُمَّ قرأ: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
وقوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول تعالى ذكره: وهو بكلّ شيء ذو علم، لا يخفى عليه شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا في كتاب مبين.
وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.
وقوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) يقول تعالى ذكره: مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ) من خلقه. يعني بقوله: (يَلِجَ) : يدخل، (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ) إلى الأرض من شيء قطّ. (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) ، فيصعد إليها من الأرض. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن

(23/169)


لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

وسيئ، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محص، ليجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) }
يقول تعالى ذكره: له سلطان السموات والأرض نافذ في جميعهنّ، وفي جميع ما فيهنّ أمره. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) يقول جلّ ثناؤه: وإلى الله مصير أمور جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه.
وقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) ، يعني بقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) يدخل ما نقص من ساعات الليل في النهار، فيجعله زيادة في ساعاته، (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) يقول: ويدخل ما نقص من ساعات النهار في الليل، فيجعله زيادة في ساعات الليل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقد ذكرنا الرواية بما قالوا فيما مضى من كتابنا هذا، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر هنالك إن شاء الله تعالى.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) قال: دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل.

(23/170)


آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) قال: قصر أيام الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره.
وقوله: (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول: وهو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شرّ، أو حدّثت بهما أنفسهم، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
القول في تأويل قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: آمنوا بالله أيها الناس، فأقرّوا بوحدانيته، وبرسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فصدقوه فيما جاءكم به من عند الله واتبعوه، (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) ، يقول جلّ ثناؤه: وأنفقوا مما خوّلكم الله، من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم، فجعلكم خلفاءهم فيه في سبيل الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) قال: المعمرين فيه بالرزق.
وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) يقول: فالذين آمنوا بالله ورسوله منكم أيها الناس، وأنفقوا مما خولهم الله عمن كان قبلهم، ورزقهم من المال في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) يقول: لهم ثواب عظيم.

(23/171)


وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) }
يقول تعالى ذكره: (وما لكم لا تؤمنون بالله) ، وما شأنكم أيها الناس لا تقرّون بوحدانية الله، ورسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعوكم إلى الإقرار بوحدانيته، وقد أتاكم من الحجج على حقيقة ذلك، ما قطع عذركم، وأزال الشكّ من قلوبكم، (وقد أخذ ميثاقكم) ، قيل: عني بذلك؛ وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صُلب آدم، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) قال: في ظهر آدم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقراته عامة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) ، بفتح الألف من أخذ ونصب الميثاق، بمعنى: وقد أخذ ربكم ميثاقكم. وقرأ ذلك أبو عمرو: (وَقَدْ أخَذَ مِيثاقَكُمْ) بضمّ الألف ورفع الميثاق، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كان فتح الألف من أخذ ونصب الميثاق أعجب القراءتين إليّ في ذلك، لكثرة القراءة بذلك، وقلة القراءة بالقراءة الأخرى.
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا بالله يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات، أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه، ودعائه إياكم إلى ما قد تقرّرت صحته عندكم بالإعلام، والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم.

(23/172)


هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) }
يقول تعالى ذكره: الله الذي ينزل على عبده محمد (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) يعني مفصلات (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يقول جلّ ثناؤه: ليخرجكم أيها الناس من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهُدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) قال: من الضلالة إلى الهدى.
وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: وإن الله بإنزاله على عبده ما أنزل عليه من الآيات البيِّنات لهدايتكم، وتبصيركم الرشاد، لذو رأفة بكم ورحمة، فمن رأفته ورحمته بكم فعل ذلك
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) }
يقول تعالى ذكره: وما لكم أيها الناس أن لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله، وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله، لأن

(23/173)


له ميراث السموات والأرض، وإنما حثهم جل ثناؤه بذلك على حظهم، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله، ليكون ذلكم لكم ذخرًا عند الله من قبل أن تموتوا، فلا تقدروا على ذلك، وتصير الأموال ميراثًا لمن له السموات والأرض.
وقوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكه وهاجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) قال: آمن فأنفق، يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) يقول: من آمن.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: يقول غير ذلك.
وقال آخرون: عني بالفتح فتح مكة، وبالنفقة: النفقة في جهاد المشركين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) قال: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح "فتح مكة" أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.

(23/174)


حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) قال: فتح مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال، قال زيد بن أسلم في هذه الآية (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) قال: فتح مكة.
وقال آخرون: عني بالفتح في هذا الموضع: صلح الحديبية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، يقول تعالى ذكره (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ... ) الآية.
حدثني حُميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، في هذه الآية، قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) قال: فتح الحديبية، قال: "فصل ما بين العمرتين فتح الحديبية".
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر،قال: "فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية". وأُنزلت (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) .... إلى (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فقالوا: يا رسول الله فتحٌ هو؟ قال: "نَعَمْ عَظِيمٌ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، قال ": فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، ثم تلا هنا الآية (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ) .... الآية."
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال، قال لنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحديبية: "يُوشكُ أنْ يأتي قَوْمٌ تَّحْقِرُونَ

(23/175)


أعمالَكُمْ مَعَ أعمالِهمْ، قلنا: من هم يا رسول الله، أقريش هم؟ قال: لا وَلَكنْ أهْلُ اليمَن أرَقُّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا، فقلنا: هم خير منا يا رسول الله، فقال: لَوْ كانَ لأحَدَهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَب فأنْفَقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصيفَهُ، ألا إنَّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنَا وَبَينَ النَّاس، (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) ... الآية، إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ".
حدثني ابن البرْقيّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن أبي سعيد التمار، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "يُوشِكُ أنْ يأتي قوم تَحَقِرُون أعمالَكُمْ مع أعمالِهِمْ، فقلنا: من هم يا رسول الله، أقريش؟ قال: لا هُمْ أرَقُّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا"، وأشار بيده إلى اليمن، فقال: هُم أهْلُ اليَمَنِ، ألا إنَّ الإيمان يَمَانٍ، والحكْمَة يَمانيَهٌ، فقلنا: يا رسول الله هم خير منا؟ قال: وَالَذَّي نَفسي بيَده لَوْ كان لأحَدِهمْ جَبَلُ ذَهَب يُنْفقهُ ما أدْرَكَ مُدَّ أحَدكُمْ وَلا نَصيَفهُ، ثم جمع أصابعه، ومدّ خنصره وقال: ألا إنَّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنَا وَبَينَ النَّاس، (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُديبية، للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، الذي رويناه عن أبي سعيد الخُدريّ عنه، وقاتل المشركين، بمن أنفق بعد ذلك وقاتل، وترك ذكر من أنفق بعد ذلك وقاتل، استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره. (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين

(23/176)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية، وقاتلوا المشركين، أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك وقاتلوا.
وقوله: (وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) يقول تعالى ذكره: وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللُّهُ الْحُسْنَى) قال: الجنة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) قال: الجنة.
وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله، وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون خبير، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: من هذا الذي ينفق في سبيل الله في الدنيا، محتسبا في نفقته، مبتغيًا ما عند الله، وذلك هو القرض الحسن، يقول: فيضاعف له ربه قرضه ذلك الذي أقرضه، بإنفاقه في سبيله، فيجعل له بالواحدة سبع مئة. وكان بعض نحوّيي البصرة يقول في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) فهو كقول العرب: لي عندك قرض صدق، وقرض سَوْء إذا فعل به خيرا؛ وأنشد ذلك بيتا للشنفرى:

(23/177)


سَنجْزِي سَلامانَ بنَ مُفْرِجَ قَرْضَها بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهم فأزَلَّتِ (1)
(وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يقول: وله ثواب وجزاء كريم، يعني بذلك الأجر: الجنة، وقد ذكرنا الرواية عن أهل التأويل في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
__________
(1) نسب المؤلف البيت إلى الشنفرى. وسلامان بن مفرج قبيلة من العرب. والقرض كما في (اللسان: قرض) بفتح القاف وكسرها: ما يتجازى به الناس بينهم، ويتقاضونه، وجمعه قروض، وهو ما أسلفه من إحسان، ومن إساءة. قال أمية بن أبي الصلت: كلُّ امْرِئٍ سوْفَ يُجْزَى قرْضَه حَسَنا ... أوْ سَيِّئا وَمَدِينا مِثْلَ ما دَانا
قد سبق استشهاد المؤلف ببيت أمية هذا في (2: 592) من هذه الطبعة.

(23/178)


يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) فقال بعضهم: معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ... الآية، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ المَدينَةِ إلى عَدَنَ أبْينَ فَصَنْعاءَ، فَدُونَ ذلكَ، حتى إنَّ مِنَ المُؤْمِنينَ مَنْ لا يُضِيء نُورُهُ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ".

(23/178)


حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي يذكر عن المنهال، عن عمرو، عن قيس بن سكن، عن عبد الله، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويقدُ مرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى إيمانهم وهداهم بين أيديهم، وبأيمانهم: كتبهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) : كتبهم، يقول الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه، وأما نورهم فهداهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك، وذلك أنه لو عنى بذلك النور الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي خصوص الله جلّ ثناؤه الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم دون الشمائل، ما يدلّ على أنه معنّى به غير الضياء، وإن كانوا لا يخلون من الضياء.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلا وعد الله الحسنى، يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير.
ويعني بقوله: (يَسْعَى) : يمضي، والباء في قوله: (وَبِأَيْمَانِهِمْ) بمعنى في. وكان بعض نحويي البصرة يقول: الباء في قوله: (وَبِأَيْمَانِهِمْ) بمعنى على أيمانهم.

(23/179)


يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)

وقوله: (يَوْمَ تَرَى) : من صلة وعد.
وقوله: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: يقال لهم: بشارتكم اليوم أيها المؤمنون التي تبشرون بها، جنات تجري من تحتها الأنهار، فأبشروا بها.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين في الجنات، لا ينتقلون عنها ولا يتحولون.
وقوله: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول: خلودهم في الجنات التي وصفها، هو النجح العظيم الذي كانوا يطلبونه بعد النجاة من عقاب الله، ودخول الجنة خالدين فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) }
يقول تعالى ذكره: هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات، واليوم من صلة الفوز للذين آمنوا بالله ورسله: انظرونا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (انْظُرُونَا) ، فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (انْظُرُونَا) ، موصولة بمعنى انتظرونا، وقرأته عامة قرّاء الكوفة: (أنْظُرُونا) مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى: أخرونا، وذكر الفرّاء أن العرب تقول: أنظرني وهم يريدون. انتظرني قليلا؛ وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم:

(23/180)


أبا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا وأنْظِرْنا نُخَبّرْكَ اليَقِينَا (1)
قال: فمعنى هذا: انتظرنا قليلا نخبرك، لأنه ليس ها هنا تأخير، إنما هو استماع كقولك للرجل: اسمع مني حتى أخبرك.
والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا، وليس للتأخير في هذا الموضع معنى، فيقال: أنظرونا، بفتح الألف وهمزها.
وقوله: (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) يقول: نستصبح من نوركم، والقبس: الشعلة.
وقوله: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) يقول جلّ ثناؤه: فيجابون بأن يقال لهم: ارجعوا من حيث جئتم، واطلبوا لأنفسكم هنالك نورًا، فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) هذا البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي (انظره في شرحي الزوزني والتبريزي) ، يخاطب عمرو بن هند مالك الحيرة. وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن. قال عند قوله تعالى "للذين آمنوا انظرونا": وقرأها يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: "أنظرونا" من أنظرت. وسائر القراء على (انظرونا) بتخفيف الألف. ومعنى (انظرونا) : انتظرونا. ومعنى "أنظرونا": أخرونا، كما قال: "أنظرني إلى يوم يبعثون". وقد تقول العرب "أنظرني"، وهم يريدون انتظروني، تقوية لقراءة يحيى. قال الشاعر: "أبا هند ... البيت"، فمعنى هذه: انتظرنا قليلا نخبرك، لأنه ليس هاهنا تأخير، إنما هو استماع، كقولك للرجل: اسمع مني حتى أخبرك. اهـ. وفي (اللسان: نظر) والنظر: الانتظار. يقال: نظرت فلانا وانتظرته: بمعنى واحد فإذا قلت: انتظرت، فلم يجاوزك فعلك، فمعناه: وقفت وتمهلت. ومنه قوله تعالى "انظرونا نقتبس من نوركم" قرئ انظرونا وأنظرونا بقطع الألف. فمن قرأ "انظرونا" بضم الألف، فمعناه: انتظرونا. ومن قرأ "أنظرونا" فمعناه: أخرونا. وقال الزجاج" قيل معنى "أنظرونا" انتظرونا أيضا. ومنه قول عمرو بن كلثوم: "أبا هند ... البيت". اهـ.

(23/181)


حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ) ... إلى قوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال ابن عباس: بينما الناس في ظلمة، إذ بعث الله نورا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة؛ فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا، تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انظرونا نقتبس من نوركم، فإنا كنا معكم في الدنيا؛ قال المؤمنون: ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا هنالك النور.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ... الآية، كان ابن عباس يقول: بينما الناس في ظلمة، ثم ذكر نحوه.
وقوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) يقول تعالى ذكره: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسُور، وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) قال: كالحجاب في الأعراف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) السور: حائط بين الجنة والنار.

(23/182)


حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) قال: هذا السور الذي قال الله (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) .
وقد قيل: إن ذلك السور ببيت المقدس عند وادي جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا الحسن بن بلال، قال: ثنا حماد، قال: أخبرنا أبو سنان، قال: كنت مع عليّ بن عبد الله بن عباس، عند وادي جهنم، فحدث عن أبيه قال (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فقال: هذا موضع السور عند وادي جهنم.
حدثني إبراهيم بن عطية بن رُدَيح بن عطية، قال: ثني عمي محمد بن رُدَيح بن عطية، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي العوّام، عن عُبادة بن الصامت، أنه كان يقول: (بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ، قال: هذا باب الرحمة.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عطية بن قيس، عن أبي العوّام مؤذّنَِ بيت المقدس، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن السور الذي ذكره الله في القرآن: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) هو السور الشرقيّ، باطنه المسجد، وظاهره وادي جهنم.
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المُغيرة، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا شريح أن كعبا كان يقول في الباب الذي في بيت المقدس: إنه الباب الذي قال الله (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) .
وقوله: (لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يقول تعالى ذكره: لذلك السور باب،

(23/183)


باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب: يعني النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) : أي النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) قال: الجنة وما فيها.
وقوله: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) يقول تعالى ذكره: ينادي المنافقون المؤمنين حين حُجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في الجنة، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم، ونناكحكم ونوارثكم؟ قالوا: بلى، يقول: قال المؤمنون: بلى، بل كنتم كذلك، ولكنكم فَتَنْتمْ أنفسكم، فنافقتم، وفِتْنَتهم أنفسَهم في هذا الموضع كانت النفاق.
وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال: النفاق، وكان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم، ويغشَوْنهم، ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتًا، ويعطون النور جميعا يوم القيامة، فيطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور، ويماز بينهم حينئذ.
وقوله: (وَتَرَبَّصْتُمْ) يقول: وتلبثتم بالإيمان، ودافعتم بالإقرار بالله ورسوله.

(23/184)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَتَرَبَّصْتُمْ) قال: بالإيمان برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقرأ: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَرَبَّصْتُمْ) يقول: تربصوا بالحق وأهله، وقوله: (وَارْتَبْتُمْ) يقول: وشككتم في توحيد الله، وفي نبوّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَارْتَبْتُمْ) : شكوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَارْتَبْتُمْ) : كانوا في شكّ من الله.
وقوله: (وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ) يقول: وخدعتكم أمانيّ نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم. (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم، فاجتاحتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) : كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(23/185)


فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال (الْغُرُورِ) : أي الشيطان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) : أي الشيطان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) : الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل المؤمنين لأهل النفاق، بعد أن ميز بينهم في القيامة: (فَالْيَوْمَ) أيها المنافقون (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) يعني: عوضا وبدلا؛ يقول: لا يؤخذ ذلك منكم بدلا من عقابكم وعذابكم، فيخلصكم من عذاب الله. (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: ولا تؤخذ الفدية أيضا من الذين كفروا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني المنافقين، ولا من الذين كفروا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:

(23/186)


أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ) : من المنافقين، (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : معكم. (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) ، فقرأت ذلك عامة القرّاء بالياء (يُؤْخَذُ) ، وقرأه أبو جعفر القارئ بالتاء.
وأولى القراءتين بالصواب الياء، وإن كانت الأخرى جائزة.
وقوله: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) يقول: مثواكم ومسكنكم الذي تسكنونه يوم القيامة النار.
وقوله: (هِيَ مَوْلاكُمْ) يقول: النار أولى بكم.
وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يقول: وبئس مصير من صار إلى النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) : ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله، فتخضع قلوبهم له، ولما نزل من الحقّ، وهو هذا القرآن الذي نزله على رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) قال: تطيع قلوبهم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن

(23/187)


يزيد، عن عكرِمة (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ (1)) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ... ) الآية. ذُكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: "إن أوَّل مَا يُرْفعُ مِنَ النَّاس الخُشُوعُ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كان شدّاد بن أوس يقول: أوّل ما يرفع من الناس الخشوع.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ) ، فقرأته عامة القرّاء غير شيبة ونافع بالتشديد: نزل، وقرأه شيبة ونافع: وما نزل بالتخفيف، وبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معنييهما.
وقوله: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ) يقول تعالى ذكره: ألم يأن لهم أن ولا يكونوا، يعني الذين آمنوا من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) يعني من بني إسرائيل، ويعني بالكتاب: الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن أبى معشر، عن إبراهيم، قال: جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود، فقال: يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، فقال عبد الله: هلك من لم يعرف قلبه معروفا، ولم ينكر قلبه منكرا، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم، استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم، وقالوا: نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب،
__________
(1) سقط التفسير من قلم الناسخ، وفي الدر عن عكرمة: ألم يحن للذين آمنوا.

(23/188)


اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)

فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه، قال: فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن، ثم جعل القرن بين ثندوتيه؛ فلما قيل له: أتؤمن بهذا؟ قال: آمنت به، ويوميء إلى القرن الذي بين ثندوتيه، ومالي لا أومن بهذا الكتاب، فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن.
ويعني بقوله: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ) : ما بينهم وبين موسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وذلك الأمد الزمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قوله: (الأمَدُ) قال: الدهر.
وقوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) عن الخيرات، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ، يقول جلّ ثناؤه: وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، من قبل أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاسقون.
القول في تأويل قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره (اعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ) الميتة التي لا تنبت شيئا، (بَعْدَ مَوْتِهَا) يعني: بعد دثورها ودروسها، يقول: وكما نحيي هذه الأرض الميتة بعد دروسها، كذلك نهدي الإنسان الضَّالَّ عن الحقّ إلى الحق، فنوفِّقه ونسدِّده للإيمان حتى يصير مؤمنا من بعد كفره، ومهتديا

(23/189)


من بعد ضلاله.
وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: قد بيَّنا لكم الأدلة والحجج لتعقلوا.
وقوله: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ) ، اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامه قرّاء الأمصار، خلا ابن كثير وعاصم بتشديد الصاد والدال، بمعنى أن المتصدِّقين والمتصدِّقات، ثم تُدغم التاء في الصاد، فتجعلها صادا مشدّدة، كما قيل: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) يعني المتزمل. وقرأ ابن كثير وعاصم: (إنَّ المُتَصَدّقِينَ والمُتَصدّقاتِ) بتخفيف الصاد وتشديد الدال، بمعنى: إن الذين صدقوا الله ورسوله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، صحيح معنى كلّ واحدة منهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
فتأويل الكلام إذن على قراءة من قرأ ذلك بالتشديد في الحرفين، أعني في الصاد والدال: أن المتصدّقين من أموالهم والمتصدّقات، (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يعني: بالنفقة في سبيله، وفيما أمر بالنفقة فيه، أو فيما ندب إليه، (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يقول: يضاعف الله لهم قروضهم التي أقرضوها إياه، فيوفيهم ثوابها يوم القيامة، (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يقول: ولهم ثواب من الله على صدقهم، وقروضهم إياه كريم، وذلك الجنة.

(23/190)


وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله، فصدقوا الرسل وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم، أولئك هم الصدّيقون.

(23/190)


وقوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله، متناه عند قوله: (الصِّدِّيقُونَ) ، والصدّيقون مرفوعون بقوله: هم، ثم ابتدئ الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، والشهداء في قولهم مرفوعون بقوله: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) قال: هذه مفصولة (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) قال: هي للشهداء خاصة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: هي خاصة للشهداء.
قال: ثنا مهران، عن سفيان عن أبي الضحى (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ، ثم استأنف الكلام فقال: والشهداء عند ربهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) هذه مفصولة، سماهم الله صدّيقين بأنهم آمنوا بالله وصدّقوا رسله، ثم قال (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) هذه مفصولة.
وقال آخرون: بل قوله " والشهداء " من صفة الذين آمنوا بالله ورسله؛ قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، ثم

(23/191)


ابتدئ الخبر عما لهم، فقيل: لهم أجرهم ونورهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرنا أبو قيس أنه سمع هذيلا يحدّث، قال: ذكروا الشهداء، فقال عبد الله: الرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للدنيا، والرجل يقاتل للسمعة، والرجل يقاتل للمغنم; قال شعبة شيئا هذا معناه: والرجل يقاتل يريد وجه الله، والرجل يموت على فراشه وهو شهيد، وقرأ عبد الله هذه الآية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، وليث عن مجاهد (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) قال: كلّ مؤمن شهيد، ثم قرأها.
حدثني صالح بن حرب أبو معمر، قال: ثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن البراء بن عازب، قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "مُؤْمِنُو أمَّّتِي شُهَداءُ". قال: ثم تلا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه الآية (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال: بالإيمان على أنفسهم بالله.
وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) .

(23/192)


اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)

والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ، وإن قوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر مبتدأ عن الشهداء.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه، إذا أطلق بغير وصل، فتأويل قوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) إذن: والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم.
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه، أولئك أصحاب الجحيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) }
يقول تعالى ذكره: اعلموا أيها الناس إن متاع الحياة الدنيا المعجلة لكم، ما هي إلا لعب ولهو تتفكَّهون به، وزينة تتزيَّنون بها، وتفاخر بينكم، يفخر بعضكم على بعض بما أولى فيها من رياشها. (وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ) . يقول تعالى ذكره: ويباهي بعضكم بعضا بكثرة الأموال والأولاد (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ) يقول تعالى ذكره: ثم ييبس ذلك النبات. (فَتَرَاهُ

(23/193)


سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

مُصْفَرًّا) بعد أن كان أخضرَ نضرا.
وقوله: (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) يقول تعالى ذكره: ثم يكون ذلك النبات حطاما، يعني به: أنه يكون نبتا يابسا متهشما. (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) يقول تعالى ذكره: وفي الآخرة عذاب شديد للكفار. (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) لأهل الإيمان بالله ورسوله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ... الآية، يقول: صار الناس إلى هذين الحرفين في الآخرة.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله: (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) ذكر ما في الدنيا، وأنه على ما وصف، وأما الآخرة فإنها إما عذاب، وإما جنة.قال: والواو فيه وأَوْ بمنزلة واحدة.
وقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) يقول تعالى ذكره: وما زينة الحياة الدنيا المعجلة لكم أيها الناس، إلا متاع الغرور.
حدثنا عليّ بن حرب الموصلي، قال: ثنا المحاربيّ: عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَما فيها".
القول في تأويل قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) }
يقول تعالى ذكره: (سَابِقُوا) أيها الناس (إِلَى) عمل يوجب لكم (مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، أُعِدَّتْ) هذه الجنة

(23/194)


مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

(لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) ، يعني: الذين وحدَّوا الله، وصدّقوا رسله.
وقوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول جلّ ثناؤه: هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، التي أعدّها الله للذين آمنوا بالله ورسله، فضل الله تفضل به على المؤمنين، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، وهو ذو الفضل العظيم عليهم، بما بسط لهم من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النِّعم، وعرّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ما وصف أنه أعدّه لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) }
يقول تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في الأرض بجدوبها وقحوطها، وذهاب زرعها وفسادها، (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بالأوصاب والأوجاع والأسقام، (إِلا فِي كِتَابٍ) يعني: إلا في أمّ الكتاب، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) يقول: من قبل أن نبرأ الأنفس، يعني: من قبل أن نخلقها، يقال: قد برأ الله هذا الشيء، بمعنى: خلقه فهو بارئه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (مَا

(23/195)


أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، قال: هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأ النفس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ) ، أما مصيبة الأرض: فالسنون. وأما في أنفسكم: فهذه الأمراض والأوصاب، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) : من قبل أن نخلقها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ) قال: هي السنون، (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) قال: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خَدْش عود، ولا نَكْبة قدم، ولا خَلجَانُ عِرْقٍ إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن منصور بن عبد الرحمن، قال: كنت جالسا مع الحسن، فقال رجل: سله عن قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، فسألته عنها، فقال: سبحان الله، ومن يشكّ في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) يقول: هو شيء قد فرغ منه، (من قبل أن نبرأها) : من قبل أن نبرأ الأنفس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه (فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) قال: من قبل أن نخلقها، قال: المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ الله من ذلك كله، قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما أصاب من مصيبة في دين ولا دنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن

(23/196)


لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)

ابن عباس، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) يقول: في الدين والدنيا (إلا في كتاب) : من قبل أن نخلقها.
واختلف أهل العربية في معنى في التي بعد قوله" إلا "، فقال بعض نحويي البصرة: يريد والله أعلم بذلك: إلا هي في كتاب، فجاز فيه الإضمار. قال، ويقول: عندي هذا ليس إلا يريد إلا هو. وقال غيره منهم، قوله: (فِي كِتَابٍ) : من صلة ما أصاب، وليس إضمار هو بشيء، وقال: ليس قوله عندي هذا ليس إلا مثله، لأن إلا تكفي من الفعل، كأنه قال: ليس غيره.
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن خلق النفوس، وإحصاء ما هي لاقية من المصائب على الله سهل يسير.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) }
يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كتب ذلك فيه، من قبل أن نخلق نفوسكم (لِكَيْلا تَأْسَوا) يقول: لكيلا تحزنوا، (عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من الدنيا، فلم تدركوه منها، (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) منها.
ومعنى قوله: (بِمَا آتَاكُمْ) إذا مدّت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملَّككم وخوَّلكم؛ وإذا قُصرت الألف، فمعناها: بالذي جاءكم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن

(23/197)


ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) من الدنيا، (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) منها.
حُدثت عن الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن قيس، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) قال: الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك البكري، عن عكرمة، عن ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) قال: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا، ومن أصابه خير فجعله شكرا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم) قال: لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما أتاكم منها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (بِمَا آتَاكُمْ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة (بِمَا آتَاكُمْ) بمدّ الألف، وقرأه بعض قرّاء البصرة (بِما أتاكُمْ) بقصر الألف؛ وكأن من قرأ ذلك بقصر الألف اختار قراءته كذلك، إذ كان الذي قبله على ما فاتكم، ولم يكن على ما أفاتكم، فيردّ الفعل إلى الله، فألحق قوله: (بِمَا أتاكُمْ) به، ولم يردّه إلى أنه خبر عن الله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيح معناهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنت أختار مدّ الألف، لكثرة قارئي ذلك كذلك، وليس للذي اعتلّ به منه معتلو قارئيه بقصر الألف كبير معنى، لأن ما جعل من ذلك خبرا عن الله، وما صرف منه إلى الخبر عن غيره، فغير خارج جميعه عند سامعيه من أهل العلم أنه من فعل الله تعالى، فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء، والمدرك منها ما أدرك عن تقدّم الله عزّ وجلّ وقضائه، وقد بين ذلك جلّ ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا

(23/198)


الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.
وقوله: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) يقول: والله لا يحبّ كلّ متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) }
يقول تعالى ذكره: والله لا يحبّ كلّ مختال فخور، الباخلين بما أوتوا في الدنيا على اختيالهم به وفخرهم بذلك على الناس، فهم يبخلون بإخراج حق الله الذي أوجبه عليهم فيه، ويشِحُّون به، وهم مع بخلهم به أيضا يأمرون الناس بالبخل.
وقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يقول تعالى ذكره: ومن يُدْبرْ مُعرضًا عن عظة الله، (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يقول تعالى ذكره: ومن يدبر معرضا عن عظة الله، تاركا العمل بما دعاه إليه من الإنفاق في سبيله، فرِحا بما أوتي من الدنيا، مختالا به فخورا يخيلا فإن الله هو الغنيّ عن ماله ونفقته، وعن غيره من سائر خلقه، الحميد إلى خلقه بما أنعم به عليهم من نعمه.
واختلف أهل العربية في موضع جواب قوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ، فقال بعضهم: استغنى بالأخبار التي لأشباههم، ولهم في القرآن، كما قال (ولو أن قرآنا سيرت به الجيال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، ولم يكن في ذا الموضع خبر. والله أعلم بما ينزل، هو كما أنزل، أو كما أراد أن كون. وقال غيره من أهل العربية: الخبر قد جاء في الآية التي قبل هذه (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ

(23/199)


هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) عطف بجزاءين على جزاء، وجعل جوابهما واحدا، كما تقول: إن تقم وإن تحسن آتك، لا أنه حذف الخبر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة (فإنَّ اللهَ الغَنِيُّ) بحذف "هو" من الكلام، وكذلك ذلك في مصاحفهم بغير "هو"، وقرأته عامة قرّاء الكوفة (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، بإثبات هو في القراءة، وكذلك "هو" في مصاحفهم.
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

(23/200)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصَّلات من البيان والدلائل، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) قال: الميزان: العدل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) بالحق (1) ؛ قال: الميزان: ما يعمل الناس، ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان، يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا.
__________
(1) لعله والميزان، والميزان بالحق

(23/200)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

وقوله: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) يقول تعالى ذكره: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
وقوله: (وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يقول تعالى ذكره: وأنزلنا لهم الحديد فيه بأس شديد، يقول: فيه قوّة شديدة، ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدوّ، وغير ذلك من منافعه.
وقد حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن علباء بن أحمر، عن عكرِمة عن ابن عباس، قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم صلوات الله عليه: السندان والكلبتان، والميقعة، والمطرقة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) قال: البأس الشديد: السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس بها، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) بعد، يحفرون بها الأرض والجبال وغير ذلك.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد: قوله: (وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وجنُة وسلاح، وأنزله ليعلم الله من ينصره.
وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) يقول تعالى ذكره: أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم، وليعلم حزب الله من ينصر دين الله ورسله بالغيب منه عنهم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره ونهيه، عزيز في انتقامه منهم، لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحلّ به من العقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ

(23/201)


وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا أيها الناس نوحا إلى خلقنا، وإبراهيم خليله إليهم رسولا (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) ، وكذلك كانت النبوّة في ذرّيتهما، وعليهم أنزلت الكتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وسائر الكتب المعروفة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) يقول: فمن ذرّيتهما مهتد إلى الحقّ مستبصر، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) يعني: من ذرّيتهما (فَاسِقُونَ) يعني ضُلال، خارجون عن طاعة الله إلى معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم، (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، (رَأْفَةٌ) وهو أشدّ الرحمة، (وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) يقول: أحدثوها (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم، (إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهوّدوا.

(23/202)


وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها، فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا، ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليًّا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف، إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) قال: لم تُكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) قال: فلم؟ قال: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا، فما رَعوها حقّ رعايتها.
ذكر من قال: الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها. ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم.
حدثنا الحسين بن الحريث [أبو عمار المَرْوزِيّ] قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء، أنهم يقرءون (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) هؤلاء الآيات، مع ما يعيبوننا به في قراءتهم، فادعهم فليقرءوا كما

(23/203)


نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا؛ قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا اسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نردّ عليكم، وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نردّ عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم؛ قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله جلّ ثناؤه (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) ، الآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم؛ قال: فلما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يبق منهم إلا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا به وصدّقوه، فقال الله جلّ ثناؤه (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: أجرين لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتصديقهم به. قال: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) : القرآن، وإتباعهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا داود بن المحبر، قال: ثنا الصعق بن حزن، قال: ثنا عقيل الجعدّي، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد ين غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثُ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثَّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وََقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللهِ ودِين

(23/204)


عيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانِيْ قَوْمَهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللهِ ودِينِ عيسى ابن مَرْيم صَلَواتُ اللهُ عَليْه، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرَتَهُمْ بالمَناشِير؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دينِ اللهِ ودِينِ عيسَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجبالِ، فَتَرَهَّبُوا فيها، فَهُوَ قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله، (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) قال: ما رعاها الذين من بعدهم حقَّ رعايتها، (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) قال: وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني. قال (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) قال: وفهم الذين جحدوني وكذّبوني.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا) ، قال الآخرون: ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، يقولون: نتعبَّد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم.
* ذكر من قال: الذين لم يرعوها حق رعايتها: الذين ابتدعوها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) .... إلى قوله: (حَقَّ رِعَايَتِهَا) يقول: ما أطاعوني فيها، وتكلَّموا فيها بمعصية الله، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا قليل، وكثر أهل الشرك، وذهب الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية، فلم يرعوها حقّ رعايتها، وثبتت طائفة على دين

(23/205)


عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، حين جاءهم بالبينات، وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهم كذلك، فذلك قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ... إلى (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) : كان الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قيل أن يبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا القليل، وكثر أهل الشرك، وانقطعت الرسل، اعتزلوا الناس، فصاروا في الغيران، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم، فتركوا دين الله وأمره، وعهده الذي عهده إليهم، وأخذوا بالبدع، فابتدعدوا النصرانية واليهودية، فقال الله عزّ وجلّ لهم: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) ، وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فآمنوا به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن الله كتب عليكم صيام رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنما القيام شيء ابتدعتموه، وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله، فلم يرعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها، فقال: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم؛ قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك، لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، إلا أن الذين لم

(23/206)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)

يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكون كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء، الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخرج عن طاعته، والإيمان به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) قال: الذين رعوا ذلك الحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، خافوا الله بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، وآمنوا برسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
كما حدثني محمد بن سعد. قال: ثني أبي، ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يعني: الذين آمنوا من أهل الكتاب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:

(23/207)


سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يعني: الذين آمنوا من أهل الكتاب.
وقوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، يُعطكم ضعفين من الأجر، لإيمانكم بعيسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والأنبياء قبل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم إيمانكم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين بعث نبيا. وأصل الكفل: الحظّ، وأصله: ما يكتفل به الراكبُ، فيحبسه ويحفظه عن السقوط؛ يقول: يُحَصِّنكم هذا الكِفْل من العذاب، كما يُحَصِّن الكِفْل الراكب من السقوط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو عمار المَرْوَزِيّ، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: أجرين، لإيمانهم بعيسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتصديقهم به.
قال: ثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: أجرين: إيمانهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإيمانهم بعيسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والتوراة والإنجيل.
وبه عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ وهارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: أجرين.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يقول: ضعفين.

(23/208)


قال: ثنا مهران، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن حبير، قال: بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه، فدعاه فاستجاب له وآمن به؛ فلما كان عند انصرافه، قال ناس ممن قد آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا ائذن لنا، فنأتي هذا النبيّ، فنسلم به، ونساعد هؤلاء في البحر، فإنا أعلم بالبحر منهم، فقدموا مع جعفر على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقد تهيأ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لوقعة أُحُد؛ فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال، استأذنوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قالوا: يا نبيّ الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا، فجئنا بأموالنا، وواسينا المسلمين بها، فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسو ابها المسلمين، فأنزل الله فيهم (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) .... إلى قوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين؛ فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بقوله: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) ؛ فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا، فله أجره مرتين، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم، فما فضلكم علينا، فأنزل الله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، فجعل لهم أجرهم، وزادهم النور والمغفرة، ثم قال (لِكَيْلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) وهكذا قرأها سعيد بن جبير (لِكَيْلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: ضعفين.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: والكفلان أجران بإيمانهم الأوّل، وبالكتاب الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

(23/209)


حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يعني: الذين آمنوا من أهل الكتاب، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يقول: أجرين بإيمانكم بالكتاب الأوّل، والذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: أجرين: أجر الدنيا، وأجر الآخرة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن سفيان، قال: ثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن أبي موسى (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: الكفلان: ضعفان من الأجر بلسان الحَبَشة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الشعبيّ، قال: إن الناس يوم القيامة على أربع منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى، فآمن بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى، فأمن بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى، فكفر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد فباء بغضب.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن الكفل كم هو؟ قال: ثلاث مئة وخمسون حسنة، والكفلان: سبع مئة حسنة. قال سعيد: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبرا من أحبار اليهود: كم أفضل ما ضعفت لكم الحسنة؟ قال: كفل ثلاث مئة وخمسون حسنة; قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين، ثم ذكر سعيد قول الله عزّ وجلّ في سورة الحديد (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، فقلت له: الكفلان في الجمعة مثل هذا؟ قال: نعم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

(23/210)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا معمر بن راشد، عن فراس، عن الشعبيّ، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْن: رَجُل آمَنَ بالكِتابِ الأوَّل والكتابِ الآخِرِ، وَرَجُلٌ كانَت لَهُ أمَةٌ فأدَّبَها وأحْسَنَ تَأدِيبَهَا، ثُمَّ أعْتَقَها فَتَزَوَّجَها، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عبادَةَ رَبِّهِ، وَنَصَحَ لسيِّده".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثني صالح بن صالح الهمداني، عن عامر، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبي موسى، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، بنحوه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبد الصمد، قال ثنا شعبة، عن صالح بن صالح، سمع الشعبيّ يحدّث، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، بنحوه.
حدثني محمد بن عبد الحكم، قال: أخبرنا إسحاق بن الفرات، عن يحيى بن أيوب، قال، قال يحيى بن سعيد: أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "إنَّمَا آجالُكُم فِي آجال مَن خَلا مِنَ الأمَم، كَما بَينَ صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْس، وإنما مَثَلُكُم وَمَثَلُ اليَهُودِ والنَّصَارى كَمَثَل رَجُل اسْتأجَرَ عُمَّالا فَقَالَ: مَن يَعْمَل مِن بُكْرَةٍ إلى نِصفِ النَّهَارِ على قِيرَاطٍ قيراط، ألا فَعَمِلَتِ اليَهُودُ ثُمَّ قَالَ: مَن يَعْمَلُ مِنْ نِصفِ النَّهَارِ إلى صَلاةِ العَصْر على قِيراطٍ قيراط، ألا فَعَمِلَتِ النَّصَارِى، ثُمَّ قَالَ: مَن يعْمَل مِن صَلاةِ العَصْر إلى مَغَارِبِ الشَّمْس على قِيراطَيْن قيراطين، ألا فَعَمِلْتُم".
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مَثَلُ هَذهِ الأمَّةِ، أو قال أُمَّتِي، وَمَثَلُ اليَهُودِ والنَّصَارَى، كَمثَلِ رَجُلٍ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِن غَدوَةٍ إلى نِصْفِ النَّهارِ على قيرَاط؟ قالَتِ اليَهودُ:

(23/211)


نَحْنُ، فعملوا؛ قال: فَمَن يَعْملُ مِن نِصفِ النهار إلى صَلاة العَصْر على قِيرَاطِ؟ قالَتِ النَّصَارَى: نَحْنُ، فَعَمِلُوا، وأنْتُم المُسْلِمُونَ تَعْمَلُونَ مِن صَلاةِ العَصْر إلى اللَّيْلِ على قِيرَاطَيْن، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى وقالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلا وأقَلُّ أجْرًا، قالَ هَل ظَلَمْتُكُمْ مِن أُجُورِكُمْ شَيْئا؟ قالُوا: لا قال: فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيِه مَن أشاءُ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث وابن لهيعة، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أُمامة الباهليّ، أنه قال: شهدت خطبة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم حجة الوداع، فقال قولا كثيرا حسنا جميلا وكان فيها: "مَن أسْلَمَ مِن أهْل الكتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِثْلُ الَّذي لَنَا، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الَّذي عَلَيْنَا، وَمَن أسْلَمَ مِنَ المُشْركينَ فَلَهُ أجْرُهُ، وَلَهُ الذيِ لَنا، وَعَلَيْهِ مِثَلُ الَّذي عَلَيْنا".
وقوله: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) : اختلف أهل التأويل في الذي عنى به النور في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى به القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو عمار المروزي، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) قال: الفرقان واتباعهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) قال: الفرقان، واتباعهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا أبو كُرَيب، وأبو هشام، قالا ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) قال: القرآن.

(23/212)


لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء، عن سعيد، مثله.
وقال آخرون: عُنِي بالنور في هذا الموضع: الهدى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (تَمْشُونَ بِهِ) قال: هدى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به، والقرآن، مع اتباع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نور لمن آمن بهما وصدّقهما، وهدى؛ لأن من آمن بذلك، فقد اهتدى.
وقوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يقول: ويصفح لكم عن ذنوبكم، فيسترها عليكم، (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: والله ذو مغفرة ورحمة.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أهل الكتاب، يفعل بكم ربكم هذا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي آتاكم وخصكم به، لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضّلهم على جميع الخلق، فأعلمهم الله جلّ ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الفضل والكرامة، ما لم يؤتهم، وأن أهل الكتاب حسدوا المؤمنين لما نزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فقال الله عزّ وجلّ:

(23/213)


فعلت ذلك؛ ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ... الآية، قال: لما نزلت هذه الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله عزّ وجلّ (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ) ... الآية، قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: "إنَّما مَثَلُنا وَمَثَلُ أهْل الكتابَيْن قَبْلَنا، كمَثَل رَجُلٍ اسْتأجَرَ أُجُرَاءَ، يَعْمَلُونَ إلى اللَّيْلِ على قيرَاطٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النهارُ سَئمُوا عَمَلَهُ وَمَلُّوا، فحاسَبَهُمْ، فأعَطَاهُمْ عَلى قَدْرِ ذَلكَ، ثُمَّ اسْتأجَرَ أُجُرَاءَ إلىَ اللَّيْلِ عَلى قِيرَاطَيْن، يَعْمَلُونَ لَهُ بَقيةَ عَمَلِهِ، فَقِيلَ لَهُ ما شأنُ هَؤُلاءِ أقَلَّهُمْ عَمَلا وأكْثرهُمْ أجْرًا؟ قال: مالي أُعْطِي مَنْ شِئْتُ، فأرْجُو أنْ نَكون نَحْنُ أصحاب القِيرَاطَينِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال: بلغنا أنها حين نزلت حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) .
حدثنا أبو عمار، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) : الذين يتسمعون (أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، مثله.
وقيل (لِئَلا يَعْلَمَ) إنما هو ليعلم: وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (لِكَيْ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألا يَقْدِرُونَ) ، لأن العرب تجعل "لا" صلة في كلّ كلام دخل في أوّله أو آخره جحد غير مصرّح، كقوله في الجحد السابق، الذي لم يصرّح

(23/214)


به (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ، وقوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، وقوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) ... الآية، ومعنى ذلك: أهلكناها أنهم يرجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو هارون الغنويّ، قال، قال خطاب بن عبد الله: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) .
قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، قال: كان سعيد بن جُبَير يقول (لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتاب) .
وقوله: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وليعلموا أن الفضل بيد الله دونهم، ودون غيرهم من الخلق، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول: يعطي فضله ذلك من يشاء من خلقه، ليس ذلك إلى أحد سواه، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يقول تعالى ذكره: والله ذو الفضل على خلقه، العظيم فضله.
آخر تفسير سورة الحديد.

(23/215)