تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
تفسير سورة المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه {قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) يا محمد، (قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ
فِي زَوْجِهَا) ، والتي كانت تجادل رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم في زوجها امراة من الأنصار.
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها، فقال بعضهم: خولة بنت
ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة.
وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد.وقال آخرون: هي خويلة بنت
الصامت. وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج وكانت مجادلتها رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في زوجها، وزوجها أوس بن
الصامت، مراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنت عليّ
كظهر أمي، ومحاورتها إياه في ذلك، وبذلك قال أهل التأويل،
وتظاهرت به الرواية.
* ذكر من قال ذلك، والآثار الواردة به:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، قال:
سمعت أبا العالية يقول: " إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت:
يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت
(23/219)
له بطني، وظاهر مني؛ فقال رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فقالت: أشكو إلى
الله فاقتي، ثم قالت: يا رسول الله طالت صحبتي، ونفضت له بطني،
فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: حَرُمْتِ
عَلَيْهِ، فجعل إذا قال لها: حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى
الله فاقتي، قال: فنزل الوحي، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه
الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي، قالت: وكان رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل
السبات، فلما قضى الوحي، قال: ادْعي زَوْجَكِ، فَتَلاها
عَلَيْهِ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)
... إلى قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) : أي يرجع فيه (فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) : أَتَسْتَطِيْعُ
رَقَبَةً؟ قال: لا قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قال: يا رسول الله، إني إذا لم
آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري؛ قال: (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) قال: أتَسْتَطيعُ
أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينا؟ قال: لا يا رسول الله إلا أن
تعينني، فأعانه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فأطعم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر
لنا أن خويلة ابنة ثعلبة، وكان زوجها أوس بن الصامت قد ظاهر
منها، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالت: ظاهر مني زوجي حين كبر سني، ورقّ عظمي، فأنزل
الله فيها ما تسمعون (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) ، فقرأ
حتى بلغ (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) يريد أن يغشى بعد
قوله ذلك، فدعاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقال له: أتَسْتَطِيعُ أنْ تُحَرَّرَ مُحَرَّرًا؟ قال: مالي
بذلك يدان، أو قال: لا أجد، قال: أتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ
شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ؟ قال: لا والله; إنه إذا أخطأه
المأكل كل يوم مرارا يكلّ بصره، قال: أتَسْتَطِيعُ أنْ
تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينا؟ قال: لا والله، إلا أن تعينني
منك بعون وصلاة.
(23/220)
قال بشر، قال يزيد: يعني دعاء؛ فأعانه رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بخمسة عشر صاعا، فجمع الله
له، والله غفور رحيم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
في قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحَاوُرَكُمَا) قال: ذاك أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة
ابنة ثعلبة قالت: يا رسول كبر سني، ورقّ عظمي، وظاهر مني زوجي،
قال: فأنزل الله (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)
... إلى قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، يريد أن
يغشى بعد قوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) فدعاه إليه نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقال: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً؟ قال:
لا؛ قال: أفَتَسْتَطيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن
مُتَتَابِعَيْنِ؟ قال: إنه إذا أخطأه أن يأكل كلّ يوم ثلاث
مرّات يكلّ بصره؛ قال: أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ
مِسْكِينا؟ قال: لا إلا أن يعينني فيه رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بعون وصلاة، فأعانه رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بخمسة عشر صاعا، وجمع الله له أمره، والله
غفور رحيم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة،
عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في
الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي حَرُمت في الإسلام، فكان أوّل من
ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت تحته ابنة عمّ له، يقال
لها خُوَيلة بنت خُوَيلد، وظاهر منها، فأُسْقِطَ في يديه،
وقال: ما أراك إلا قد حَرُمْتِ عليّ، وقالت له مثل ذلك، قال:
فانطلقي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال:
فأتت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فوجدتْ عنده
ماشطة تمشُط رأسه، فأخبرته، فقال: يا خُوَيْلَةُ ما أمِرْنا
فِي أمْرِكِ بِشَيْءٍ، فأنزل الله على رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا خُوَيْلَةُ أبْشِرِي، قالت: خيرا،
قال: فقرأ عليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) ....
(23/221)
إلى قوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قالت: وأيُّ رقبة لنا، والله ما يجد
رقبة غيري، قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ) ، قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث
مرّات لذهب بصره، قال: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا) ، قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلى
مثلها، قال: فرعاه بشطر وَسْق ثلاثين صاعا، والوَسْق ستون
صاعا، فقال: لِيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينا وَلِيُرَاجِعْكِ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)
... إلى قوله: (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ، وذلك أن
خولة بنت الصامت امرأة من الأنصار ظاهر منها زوجها، فقال: أنت
عليّ مثلُ ظهر أمي، فأتت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فقالت: إن زوجي كان تزوّجني، وأنا أحَبّ (1) ، حتى
إذا كبرتُ ودخلت في السنّ، قال: أنت عليّ مثل ظهر أمي، فتركني
إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رُخصة يا رسول الله تنْعَشني
وإياه بها فحدثني بها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكِ بِشَيْءٍ حتى الآنَ،
وَلَكِنْ ارْجِعي إلى بَيْتِكِ، فإنْ أُومَرْ بِشَيْءٍ لا
أغْمِمْهُ عَلَيْكِ إنْ شَاءَ اللهُ، فرجعت إلى بيتها، وأنزل
الله على رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الكتاب
رخصتها ورخصة زوجها (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) ... إلى قوله: (وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فأرسل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم إلى زوجها؛ فلما أتاه، قال له رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما أرَدْتَ إلى يَمِينِكَ الَّتِي
أقْسَمْتَ عَلَيْها؟ فقال: وهل لها كفَّارة؟ فقال له رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُعْتِقَ
رَقَبَهً؟ " قال: إذًا يذهب مالي كله، الرقبة غالية وأنا قليل
المال، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ؟
قال: لا والله، لولا أني آكل في اليوم
__________
(1) الذي في الدر: وأنا أحب الناس إليه.
(23/222)
ثلاث مرّات لكلّ بصري، فقال له رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ
سِتِّينَ مِسْكِينا؟ " قال: لا والله، إلا أن تعينني على ذلك
بعون وصلاة، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
إنّي مُعِينُكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعا، وأنا دَاعٍ لَكَ
بالبَرَكَةِ، فأصلح ذلك بينهما.
قال: وجعل فيه تحرير رقبة لمن كان مُوسرا، لا يكفر عنه إلا
تحرير رقبة إذا كان موسرا، من قبل أن يتماسا، فإن لم يكن موسرا
فصيام شهرين متتابعين، لا يصلح له إلا الصوم إذا كان معسرا،
إلا أن لا يستطيع، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وذلك كله
قبل الجماع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي معشر المدني، عن محمد
بن كعب القرظِّي، قال: كانت "خولة ابنة ثعلبة تحت أوس بن
الصامت، وكان رجلا به لمم، فقال في بعض هجراته (1) أنت عليّ
كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت
عليّ، قالت: لا تقل ذلك، فو الله ما أحبّ الله طلاقا. قالت:
ائت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسله، فقال: إني
أجدني أستحي منه أن أسأله عن هذا، فقالت: فدعني أن أسأله، فقال
لها: سليه؛ فجاءت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالت: يا نبيّ الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي،
وأحبّ الناس إليّ، قد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر
طلاقا، قال: أنت عليّ كظهر أمي، فقال النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما أرَاكِ إلا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ،
قالت: لا تقل ذلك يا نبيّ الله، والله ما ذكر طلاقا، فرادّت
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مرارا، ثم قالت: اللهمّ
إني أشكو اليوم شدّة حالي ووحدتي، وما يشقّ عليّ من فراقه،
اللهمّ فأنزل على لسان نبيك، فلم ترم (2) مكانها، حتى أنزل
الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) ، إلى أن ذكر الكفارات،
فدعاه النبيّ
__________
(1) الهجرة، بكسر الهاء: اسم من الهجر بفتحها، وهو صرمه لزوجه.
(2) لم ترم مكانها: لم تبرحه. رام المكان يريمه: من باب ضرب
(23/223)
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال:
أعْتِقْ رَقَبَةً، فقال: لا أجد، فقال: صُمْ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَينِ قال: لا أستطيع، إني لأصوم اليوم الواحد فيشقّ
عليّ؛ قال: أطعمْ سِتِّينَ مِسْكِينا، قال: أما هذا فَنَعَمْ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن أبي إسحاق
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا) قال: نزلت في امرأة اسمها خولة، وقال عكرِمة: اسمها
خويلة ابنة ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت جاءت النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالت: إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه،
فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم "ما أرَاكِ إلا
قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، وهو حينئذ يغسل رأسه، فقالت: انظر
جُعلت فداك يا نبيّ الله، فقال: ما أرَاكِ إلا قَدْ حَرُمْتِ
عَلَيْهِ، فقالت: انظر في شأني يا رسول الله، فجعلت تجادله، ثم
حوّل رأسه ليغسله، فتحوّلت من الجانب الآخر، فقالت: انظر جعلني
الله فداك يا نبيّ الله، فقالت الغاسلة: أقصري حديثك ومخاطبتك
يا خويلة، أما ترين وجه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم متربدا ليوحى إليه، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) ... ، حتى بلغ
(ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، قال قتادة: فحرمها، ثم
يريد أن يعود لها فيطأها، (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ... ، حتى
بلغ: (بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) . قال أيوب: أحسبه ذكره عن
عكرِمة، أن الرجل قال: يا نبيّ الله ما أجد رقبة، فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "ما أنا بِزَائِدِكَ، فأنزل
الله عليه: (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا) ، فقال: والله يا نبيّ الله ما أطيق الصوم،
إني إذا لم آكل في اليوم كذا وكذا أكلة لقيت ولقيت، فجعل يشكو
إليه، فقال: ما أنا بِزَائِدِكَ، فنزلت: (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال:
ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله الله عزّ وجلّ (الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) قال: تجادل محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فهي تشتكي إلى الله عند كبره وكبرها، حتى
انتفض وانتفض رحمها.
(23/224)
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) قال: محمدا في زوجها قد ظاهر منها،
وهي تشتكي إلى الله، ثم ذكر سائر الحديث نحوه.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبان
العطار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد
الملك بن مروان: كتبت إليّ تسألني عن خويلة ابنة أوس بن
الصامت، وإنها ليست بابنة أوس بن الصامت، ولكنها امرأة أوس،
وكان أوس امرأ به لمم، وكان إذا اشتدّ به لممه تظاهر منها،
وإذا ذهب عنه لممه لم يقل من ذلك شيئا، فجاءت رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تستفتيه وتشتكي إلى الله، فأنزل الله
ما سمعت، وذلك شأنهما.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال:
سمعت محمد بن إسحاق، يحدّث عن معمر بن عبد الله، عن يوسف بن
عبد الله بن سلام، قال: حدثتني خويلة امرأة أوس بن الصامت
قالت: كان بيني وبينه شيء، تعنى زوجها، فقال: أنت عليّ كظهر
أمي، ثم خرج إلى نادي قومه، ثم رجع فراودني عن نفسي، فقالت:
كلا والذي نفسي بيده، حتى ينتهي أمري وأمرك إلى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيقضي فيّ وفيك أمره، وكان
شيخا كبيرا رقيقا، فغلبته بما تغلب به المرأة القوية الرجل
الضعيف، ثم خرجت إلى جارة لها، فاستعارت ثيابها، فأتت رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى جلست بين يديه، فذكرت
له أمره، فما برحت حتى أنزل الوحي على رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم قالت: لا يقدر على ذلك، قال: إنا سنعينه
على ذلك بفرق من تمر، قلت: وأنا أعينه بفرق آخر، فأطعم ستين
مسكينا.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن تميم،
عن عروة، عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد
جاءت المجادلة إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها،
(23/225)
ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجلّ:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) ... إلى آخر الآية.
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن
الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: تبارك الذي
وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتناجي النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أسمع بعض كلامها، ويخفى عليّ بعض كلامها، إذ
أنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ
فِي زَوْجِهَا) .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن
جده، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة بن الزبير، قال،
قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة
ابنة ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهي تقول: يا رسول الله أكل
شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر
مني، اللهمّّ إني أشكو إليك، قال: فما برحت حتى نزل جبريل عليه
السلام بهؤلاء الآيات: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) قال: زوجها أوس بن الصامت.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة،
عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد الله الذي وسع سمعه الأصوات،
إن خولة تشتكي زوجها إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فيخفى عليّ أحيانا بعض ما تقول، قالت: فأنزل الله
عزّ وجلّ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) .
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد
بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن جميلة كانت
امرأة أوس بن الصامت، وكان امرأ به لمم، وكان إذا اشتدّ به
لممه ظاهر من امرأته، فأنزل الله عزّ وجلّ آية الظهار.
(23/226)
الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
حدثني يحيى بن بشر القرقساني، قال: ثنا عبد
العزيز بن عبد الرحمن الأموي، قال: ثنا خَصيف، عن مجاهد، عن
ابن عباس، قال: كان ظهار الجاهلية طلاقا، فأول من ظاهر في
الإسلام أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت من امرأته
الخزرجية، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك؛ فلما ظاهر منها حسبت أن
يكون ذلك طلاقا، فأتت به نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالت: يا رسول الله إن أوسا ظاهر مني، وإنا إن
افترقنا هلكنا، وقد نثرت بطني منه، وقدمت صحبته; فهي تشكو ذلك
وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء، فأنزل الله عزّ وجلّ: (قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)
.... إلى قوله: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فدعاه
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: أتَقْدِرْ عَلى
رَقَبَةٍ تُعْتُقها؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما أقدر
عليها، فجمع له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى
أعتق عنه، ثم راجع أهله.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُحَاوِرُكَ فِي زَوْجِهَا) .
وقوله: (وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) يقول: وتشتكي المجادلة ما
لديها من الهمّ بظهار زوجها منها إلى الله، وتسأله الفرج.
(وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) يعني: تحاور رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والمجادلة خولة ابنة ثعلبة.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله
سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه، وغير ذلك من كلام خلقه، بصير
بما يعلمون ويعمل جميع عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) }
يقول تعالى ذكره: الذين يحرّمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله
عليهم
(23/227)
ظهور أمهاتهم، فيقولون لهنّ: أنتن علينا
كظهور أمهاتنا، وذلك كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية.
كذلك حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي
قلابة، قال: كان الظهار طلاقا في الجاهلية، الذي إذا تكلم به
أحدهم لم يرجع في امرأته أبدا، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ما
أنزل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى
نافع، وعامة قرّاء الكوفة خلا عاصم: (يَظَّاَهُرونَ) بفتح
الياء وتشديد الظاء وإثبات الألف، وكذلك قرءوا الأخرى بمعنى
يتظاهرون، ثم أدغمت التاء في الظاء فصارتا ظاءًا مشدّدة. وذكر
أنها في قراءة أُبيّ (يَتَظَاهَرونَ) ، وذلك تصحيح لهذه
القراءة وتقوية لها. وقرأ ذلك نافع وأبو عمرو كذلك بفتح الياء
وتشديد الظاء، غير أنهما قرآه بغير ألف: (يَظَّهَّرونَ) . وقرأ
ذلك عاصم (يُظاهِرُونَ) بتخفيف الظاء وضم الياء وإثبات الألف.
والصواب من القول في ذلك عندي أن كلّ هذه القراءات متقاربات
المعاني. وأما (يَظَّاهَرون) فهو من تظاهر، فهو يتظاهر. وأما
(يَظَّهَّرُونَ) فهو من تظهَّر فهو يتظهَّر، ثم أدغمت التاء في
الظاء فقيل: يظهر. وأما (يُظاهِرُونَ) فهو من ظاهر يظاهر،
فبأية هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ فمصيب.
وقوله: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) يقول تعالى ذكره: ما نساؤهم
اللائي يُظاهرن منهنّ بأمهاتهم، فيقولوا لهنّ: أنتن علينا كظهر
أمهاتنا، بل هنّ لهم حلال.
وقوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ) : لا
اللائي قالوا لهن ذلك.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ
وَزُورًا) يقول جلّ ثناؤه: وإن الرجال ليقولون منكرا من القول
الذي لا تُعرف صحته؛ وزورا: يعني كذبا.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) قال: الزور: الكذب،
(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يقول
(23/228)
وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
جلّ ثناؤه: إن الله لذو عفو وصفح عن ذنوب
عباده إذا تابوا منها وأنابوا، غفور لهم أن يعاقبهم عليها بعد
التوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) }
يقول جلّ ثناؤه: والذين يقولون لنسائهم: أنتنّ علينا كظهور
أمهاتنا.
وقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) : اختلف أهل العلم في
معنى العود لما قال المظاهر، فقال بعضهم: هو الرجوع في تحريم
ما حرّم على نفسه من زوجته، التي كانت له حلالا قبل تظاهره،
فيحلها بعد تحريمه إياها على نفسه بعزمه على غشيانها ووطئها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) قال: يريد أن يغشى بعد قوله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) قال: حرّمها، ثم يريد أن
يعود لها فيطأها.
وقال آخرون نحو هذا القول، إلا أنهم قالوا: إمساكه إياها بعد
تظهيره منها، وتركه فراقها عود منه لما قال، عزم على الوطء أو
لم يعزم. وكان أبو العالية يقول: معنى قوله: (لِمَا قَالُوا) :
فيما قالوا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، قال:
سمعت أبا العالية يقول في قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا) : أي يرجع فيه.
(23/229)
واختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض
نحويي البصرة في ذلك المعنى: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا،
فمن لم يجد فصيام، فإطعام ستين مسكينًا، ثم يعودون لما قالوا:
إنا لا نفعله، فيفعلونه هذا الظهار، يقول: هي عليّ كظهر أمي،
وما أشبه هذا من الكلام، فإذا أعتق رقبة، أو أطعم ستين
مسكينًا، عاد لما قد قال: هو عليّ حرام يفعله. وكأن قائل هذا
القول كان يرى أن هذا من المقدّم الذي معناه التأخير.
وقال بعض نحويي الكوفة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) يصلح
فيها في العربية: ثم يعودون إلى ما قالوا، وفيما قالوا، يريدون
النكاح، يريد: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا، قال: ويحوز
في العربية أن تقول: إن عاد لما فعل، تريد إن فعل مرّة أخرى،
ويجوز إن عاد لما فعل: إن نقض ما فعل، وهو كما تقول: حلف أن
يضربك، فيكون معناه: حلف لا يضربك، وحلف ليضربنك.
* والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى اللام في قوله:
(لِمَا قَالُوا) بمعنى إلى أو في، لأن معنى الكلام: ثم يعودون
لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه، وإن قيل معناه: ثم يعودون
إلى تحليل ما حرّموا، أو في تحليل ما حرّموا فصواب، لأن كلّ
ذلك عود له، فتأويل الكلام: ثم يعودون لتحليل ما حرّموا على
أنفسهم مما أحله الله لهم.
وقوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)
يقول: فعليه تحرير رقبة، يعني عتق رقبة عبد أو أمة، من قبل أن
يماسّ الرجل المظاهر امرأته التي ظاهر منها أو تماسه.
واختلف في المعنّى بالمسيس في هذا الموضع نظير اختلافهم في
قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ) وقد ذكرنا ذلك هنالك.
وسنذكر بعض ما لم نذكره هنالك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
(23/230)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(4)
ابن عباس، في قوله: (وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا) فهو الرجل يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، فإذا قال
ذلك، فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر عن يمينه
بعتق رقبة، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) والمسّ:
النكاح، (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا) وإن هو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا
وكذا، فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث، فإن حنث فلا يقربها حتى
يكفِّر، ولا يقع في الظهار طلاق.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدى، قال: ثنا أشعث، عن
الحسن أنه كان لا يرى بأسًا أن يغشى المظاهر دون الفرج.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد، قال، قال سفيان: إنما
المظاهرة عن الجماع. ولم ير بأسًا أن يقضي حاجته دون الفرج أو
فوق الفرج، أو حيث يشاء، أو يباشر.
وقال آخرون: عني بذلك كلّ معاني المسيس، وقالوا: الآية على
العموم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا وهيب، عن يونس،
قال: بلغني عن الحسن أنه كره للمظاهر المسيس.
وقوله: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) يقول تعالى ذكره: أوجب ربكم
ذلك عليكم عظة لكم تتعظون به، فتنتهون عن الظهار وقول الزور.
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: والله
بأعمالكم التي تعملونها أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه شيء
منها، وهو مجازيكم عليها، فانتهوا عن قول المنكر والزور.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
(23/231)
ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(4) }
يقول تعالى ذكره: فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة
يحرّرها، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا;
والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار
شيئ منهما إلا من عذر، فإنه إذا كان الإفطار بالعذر ففيه
اختلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: إذا كان إفطاره لعذر فزال
العذر، بنى على ما مضى من الصوم.
وقال آخرون: بل يستأنف، لأن من أفطر بعذر أو غير عذر لم يتابع
صوم شهرين.
ذكر من قال: إذا أفطر بعذر وزال العذر بنى وكان متابعًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ وعبد الأعلى، عن سعيد،
عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال في رجل صام من كفارة
الظهار، أو كفارة القتل، ومرض فأفطر، أو أفطر من عذر، قال:
عليه أن يقضي يومًا مكان يوم، ولا يستقبل صومه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن
سعيد بن المسيب، بمثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة،
عن سعيد بن المسيب في المظاهر، الذي عليه صوم شهرين متتابعين،
فصام شهرًا، ثم أفطر، قال: يتمّ ما بقي.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، عن سعيد، عن
قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب في رجل صام من كفارة الظهار
شهرًا أو أكثر ثم مرض، قال: يعتدّ بما مضى إذا كان له عذر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا عمر بن عامر،
عن
(23/232)
قتادة، عن الحسن، في الرجل يكون عليه الصوم
في قتل أو نذر أو ظهار، فصام بعضه ثم أفطر، قال: إن كان
معذورًا فإنه يقضي.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن،
قال: إن أفطر من عذر أتمّ، وإن كان من غير عذر استأنف.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء، قال: من كان
عليه صوم شهرين متتابعين فمرض فأفطر، قال: يقضي ما بقي عليه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جُرَيْج، عن
عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار في الرجل يفطر في اليوم
الغيم، يظنّ أن الليل قد دخل عليه في الشهرين المتتابعين، أنه
لا يزيد على أن يبدّله، ولا يستأنف شهرين آخرين.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك، عن
عطاء قال: إن جامع المعتكف، وقد بقي عليه أيام من اعتكافه،
قال: يتمّ ما بقي، والمظاهر كذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن
جُرَيح، عن عطاء، قال: إذا كان شيئًا ابتلي به بنى على صومه،
وإذا كان شيئًا هو فعله استأنف، قال: سفيان: هذا معناه.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن
إسماعيل، عن عامر في رجل ظاهر، فصام شهرين متتابعين إلا يومين
ثم مرض، قال: يتمّ ما بقي.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل عن
الشعبي بنحوه.
حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب قالا ثنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي
في رجل عليه صيام شهرين متتابعين، فصام فمرض فأفطر، قال: يقضي
ولا
(23/233)
يستأنف.
ذكر من قال: يستقبل من أفطر بعذر أو غير عذر:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
مغيرة، عن إبراهيم في رجل عليه صيام شهرين متتابعين فأفطر،
قال: يستأنف، والمرأة إذا حاضت فأفطرت تقضي.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: إذا
مرض فأفطر استأنف، يعني من كان عليه صوم شهرين متتابعين فمرض
فأفطر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هشيم، عن جابر، عن أبي جعفر، قال:
يستأنف.
وأولى القولين عندنا بالصواب قول من قال: يبني المفطر بعذر،
ويستقبل المفطر بغير عذر، لإجماع الجميع على أن المرأة إذا
حاضت في صومها الشهرين المتتابعين بعذر، فمثله، لأن إفطار
الحائض بسبب حيضها بعذر كان من قِبل الله، فكلّ عذر كان من
قِبل الله فمثله.
وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا) يقول تعالى ذكره: فمن لم يستطع منهم الصيام فعليه
إطعام ستين مسكينًا، وقد بينا وجه الإطعام في الكفارات فيما
مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول جلّ
ثناؤه: هذا الذي فرضت على من ظاهر منكم، ما فرضت في حال القدرة
على الرقبة، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم، ومع فقد الاستطاعة
على الصوم بالإطعام، وإنما فعلته كي تقر الناس بتوحيد الله
ورسالة الرسول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ويصدّقوا
بذلك، ويعملوا به، وينتهوا عن قول الزور والكذب، (وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الحدود التي حدّها
الله لكم، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها
الناس، (وَلِلْكَافِرِينَ) بها، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها
-من فرائض الله أن تكون من عند الله-، (عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول:
عذاب مؤلم.
(23/234)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا
كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه،
فيجعلون حدودًا غير حدوده، وذلك هو المحادّة لله ولرسوله.
وأما قتادة فإنه كان يقول في معنى ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا
يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول: يعادون الله ورسوله.
وأما قوله: (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
فإنه يعني: غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم من الأمم
الذين حادوا الله ورسوله، وخزُوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كُبِتُوا
كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) خزوا كما خزي الذين
من قبلهم.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معنى (كُبِتُوا) :
أهلكوا.
وقال آخر منهم: يقول: معناه غيظوا وأخزوا يوم الخندق، (كَمَا
كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد من قاتل الأنبياء من
قبلهم.
وقوله: (وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) يقول: وقد أنزلنا
دلالات مفصلات، وعلامات محكمات تدل على حقائق حدود الله.
وقوله: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) يقول تعالى ذكره:
ولجاحدي تلك الآيات البيِّنَات التي أنزلناها على رسولنا محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومنكريها عذاب يوم القيامة،
مهين: يعني مذلّ في جهنم.
(23/235)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6) }
يقول تعالى ذكره: وللكافرين عذاب مهين في يوم يبعثهم الله
جميعًا، وذلك (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) من
قبورهم لموقف القيامة، (فَيُنَبِّئُهُمْ) الله (بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) . يقول تعالى ذكره: أحصى الله ما
عملوا، فعدّه عليهم، وأثبته وحفظه، ونسيه عاملوه. (والله على
كل شيء شهيد) يقول: (وَاللَّهُ) جل ثناؤه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)
عملوه، وغير ذلك من أمر خلقه (شَهِيدٌ) يعني: شاهد يعلمه ويحيط
به، فلا يعزب عنه شيء منه.
(23/236)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ
رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى
مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
ألم تنظر يا محمد بعين قبلك فترى (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) من شيء، لا يخفى عليه
صغير ذلك وكبيره؛ يقول جلّ ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه
صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم، ثم وصف جلّ ثناؤه
قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم،
فيتحدثونه سرًا بينهم، فقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلاثَةٍ) من خلقه، (إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ) ، يسمع سرّهم
ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، (وَلا خَمْسَةٍ إِلا
هُوَ
(23/236)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ
جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
سَادِسُهُمْ) يقول: ولا يكون من نجوى خمسة
إلا هو سادسهم كذلك، (وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ) يقول: ولا أقل
من ثلاثة (وَلا أَكْثَرَ) من خمسة، (إِلا هُوَ مَعَهُمْ) إذا
تناجوا، (أَيْنَمَا كَانُوا) يقول: في أيّ موضع ومكان كانوا.
وعني بقوله: (هُوَ رَابِعُهُمْ) ، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه،
وهو على عرشه. كما حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثني نصر
بن ميمون المضروب، قال: ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان،
عن الضحاك، في قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ) ...
إلى قوله: (هُوَ مَعَهُمْ) قال: هو فوق العرش وعلمه معهم
(أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
وقوله: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) يقول تعالى ذكره: ثم يخبر هؤلاء المتناجين
وغيرهم بما عملوا من عمل، مما يحبه ويسخطه يوم القيامة. (إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: إن الله بنجواهم
وأسرارهم، وسرائر أعمالهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده
عليم.
واختلفت القراء في قراءة قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلاثَةٍ) ، فقرأت قرّاء الأمصار ذلك (مَا يَكُونُ مِنْ
نَجْوَى) بالياء، خلا أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه (مَا
تَكُونُ) بالتاء. والياء هي الصواب في ذلك، لإجماع الحجة
عليها، ولصحتها في العربية.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ
بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا
يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) }
(23/237)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوَى) من اليهود، (ثُمَّ يَعُودُونَ) ، فقد نهى الله عز
وجل إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية
الرسول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوَى) قال: اليهود.
قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) يقول جلّ ثناؤه:
ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه من النجوى، (وَيَتَنَاجَوْنَ
بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يقول جلّ
ثناؤه: ويتناجون بما حرّم الله عليهم من الفواحش والعدوان،
وذلك خلاف أمر الله، ومعصية الرسول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَيَتَنَاجَوْنَ) فقرأت ذلك
عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين والبصريين
(وَيَتَنَاجَوْنَ) على مثال يتفاعلون، وكان يحيى وحمزة والأعمش
يقرءون (وَيَنْتَجُونَ) على مثال يفتعلون. واعتلّ الذين قرءوه
(يَتَنَاجَوْنَ) بقوله: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ) ولم يقل: إذا
انتجيتم.
وقوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى،
الذين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها
الله لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها، التي أخبر
الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار، أنهم كانوا
يقولون: السام عليك.
ذكر الرواية الواردة بذلك:
حدثنا ابن حُميد وابن وكيع قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي
الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "جاء ناس
(23/238)
من اليهود إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام
عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: يا عائشة إنَّ الله لا يُحِبُّ الفُحش، فقلت: يا
رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: "ألست ترينني أرد عليهم
ما يقولون؟ أقول: عليكم " وهذه الآية في ذلك نزلت: (وَإِذَا
جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ويقولون
في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس
المصير) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي
الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت:" كان اليهود يأتون النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيقولون: السام عليكم، فيقول:
عليكم، قالت عائشة: السام عليكم وغضب الله، فقال النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّ الله لا يحبُّ الفاحشَ
المُتَفحِّشَ"، قالت: إنهم يقولون: السام عليكم، قال: "إني
أقول: عليكم"، فنزلت: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ
يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) قال: فإن اليهود يأتون النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيقولون: السام عليكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ
بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) قال: كانت اليهود يأتون
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيقولون: السام عليكم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ
بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) ... إلى (فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا حيوه: سام عليكم، فقال الله:
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي
نجيح.
(23/239)
عن مجاهد، في قوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ
حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) قال: يقولون:
سام عليكم، قال: هم أيضًا يهود.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) قال:
اليهود كانت تقول: سام عليكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري
أن عائشة فطنت إلى قولهم، فقالت: وعليكم السامة واللعنة، فقال
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مهلا يا عائشة إن الله
يحِبُّ الرّفْقَ في الأمرِ كُلُّه"، فقالت: يا نبيّ الله ألم
تسمع ما يقولون؟ قال: "أفلم تسمعي ما أردُّ عليهم؟ أقول:
عليكم".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن
مالك أنّ نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بينما هو
جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهوديّ، فسلم عليهم، فردوا عليه،
فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "هَلْ
تَدْرُونَ ما قَال؟ " قالوا: سلم يا رسول الله، قال: "بَلْ
قَالَ: سأْمٌ عليْكُمْ، أي تسأمون دينكم، فقال النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أَقُلْتَ سَأمٌ عليْكُمْ؟ قَالَ:
نعم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إذا سَلَّمَ
عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فَقُولُوا
وَعَلَيْكَ": أي عليك ما قلت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ) قال: هؤلاء يهود، جاء ثلاثة نفر منهم إلى باب النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فتناجوا ساعة، ثم استأذن
أحدهم، فأذن له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال:
السام عليكم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"عَلَيْكَ"، ثُمَّ الثاني، ثُمَّ الثَالِثُ قال ابن زيد:
السام: الموت.
وقوله جلّ ثناؤه: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا
يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) يقول جل ثناؤه: ويقول
محيوك بهذه التحية من اليهود: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيعجل عقوبته لنا على ذلك،
يقول الله: حَسْب
(23/240)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قائلي ذلك يا محمد جهنم، وكفاهم بها
يصلونها يوم القيامة، فبئس المصير جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِذَا
تَنَاجَيْتُمْ) بينكم، (فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) ولكن (وَتَنَاجَوْا
بِالْبِرِّ) ، يعني: طاعة الله، وما يقرّبكم منه،
(وَالتَّقْوَى) يقول: وباتقائه بأداء ما كلَّفكم من فرائضه
واجتناب معاصيه، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) يقول: وخافوا الله الذي إليه مصيركم، وعنده
مجتمعكم في تضييع فرائضه، والتقدّم على معاصيه أن يعاقبكم عليه
عند مصيركم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره: إنما المناجاة من الشيطان، ثم اختلف أهل
العلم في النجوى التي أخبر الله أنها من الشيطان، أيّ ذلك هو،
فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك مناجاة المنافقين بعضهم بعضًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) : كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ
المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله في ذلك القرآن: (إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا) ... الآية.
(23/241)
وقال آخرون بما حدثني يونس، قال: أخبرنا
ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ (إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) قال:
كان الرجل يأتي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يسأله
الحاجة، ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: وكان النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لا يمنع ذلك من أحد. قال: والأرض يومئذ حرب على أهل
هذا البلد، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في
أمور قد حضرت، وجموع قد جمعت لكم وأشياء، فقال الله: (إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا)
... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان
المسلمون إذا رأوا المنافقين خلوا يتناجون، يشقّ عليهم، فنزلت:
(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) .
وقال آخرون: عُنِي بذلك أحلام النوم التي يراها الإنسان في
نومه فتحزنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن داود البلخي، قال: سئل
عطية، وأنا أسمع الرؤيا، فقال: الرؤيا على ثلاث منازل، فمنها
وسوسة الشيطان، فذلك قوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ) ، ومنها ما يحدّث نفسه بالنهار فيراه بالليل،
ومنها كالأخذ باليد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي به مناجاة
المنافقين بعضهم بعضًا بِالإثْمِ والعدوان، وذلك أن الله جلّ
ثناؤه تقدم بالنهي عنها بقوله: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا
تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ) ، ثم عما في ذلك من المكروه على أهل الإيمان، وعن
سبب نهيه إياهم عنه، فقال: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فبيَّن بذلك (1)
، إذ كان النهي عن رؤية المرء في
__________
(1) المراد من هذه العبارة أن عدم تأتي النهى عن الرؤيا
المنامية، وتقدم النهي عن المناجاة بمعنى المسارة، يوضحان ما
اختاره، من أن النجوى معناه المسارة، تأمل.
(23/242)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
منامه كان كذلك، وكان عقيب نهيه عن النجوى
بصفة أنه من صفة ما نهى عنه.
وقوله: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ)
يقول تعالى ذكره: وليس التناجي بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإذن
الله، يعني بقضاء الله وقدره.
وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يقول
تعالى ذكره: وعلى الله فليتوكل في أمورهم أهل الإيمان به، ولا
يحزنوا من تناجي المنافقين ومن يكيدهم بذلك، وأن تناجيهم غير
ضارّهم إذا حفظهم ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِذَا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ) ، يعني بقوله:
تفسَّحوا: توسعوا، من قولهم مكان فسيح إذا كان واسعًا.
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح
فيه، فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ)
قال: مجلس النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقال ذاك
خاصة.
حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح،
(23/243)
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ) ... الآية، كانوا إذا رأوا من
جاءهم مقبلا ضنُّوا بمجلسهم عند رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول، في قوله: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجَالِسِ) قال: كان هذا للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ومن حوله خاصة يقول: استوسعوا حتى يصيب كلّ رجل منكم
مجلسًا من النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهي أيضًا
مقاعد للقتال.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ) قال: كان الناس
يتنافسون في مجلس النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقيل
لهم: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) قال: هذا مجلس رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، كان الرجل يأتي فيقول: افسحوا
لي رحمكم الله، فيضنّ كلّ أحد منهم بقربه من رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأمرهم الله بذلك، ورأى أنه خير لهم.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
(23/244)
فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ
اللَّهُ لَكُمْ) قال: ذلك في مجلس القتال.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر
المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين
يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومجالس القتال.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار
(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ) على التوحيد، غير الحسن البصري
وعاصم، فإنهما قرآ ذلك (فِي الْمَجَالِسِ) على الجماع.
وبالتوحيد قراءة ذلك عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (فَافْسَحُوا) يقول: فوسعوا، (يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)
يقول: يوسع الله منازلكم في الجنة، (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا) يقول تعالى ذكره: وإذا قيل ارتفعوا، وإنما يُرَاد
بذلك: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ، أو صلاة، أو عمل خير،
أو تفرّقوا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقوموا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا)
إلى (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قال: إذا قيل:
انشزوا فانشزوا إلى الخير والصلاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَانْشُزُوا) قال: إلى كلّ خير،
قتال عدوّ، أو أمر بالمعروف، أو حقّ ما كان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَإِذَا
(23/245)
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) يقول: إذا
دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال الحسن: هذا كله في الغزو.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت
الضحاك يقول في قوله: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) :
كان إذا نودي إلى للصلاة تثاقل رجال، فأمرهم الله إذا نودي
للصلاة أن يرتفعوا إليها، يقوموا إليها.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قال: انشزوا عن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: هذا في بيته إذا قيل
انشزوا، فارتفعوا عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فإن له حوائج، فأحبّ كلّ رجل منهم أن يكون آخر عهده برسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: (وَإِذَا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا) .
وإنما اخترت التأويل الذي قلت في ذلك، لأن الله عز وجل أمر
المؤمنين إذا قيل لهم انشزوا، أن ينشزوا، فعم بذلك الأمر جميع
معاني النشوز من الخيرات، فذلك على عمومه حتى يخصه ما يجب
التسليم له.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة
(فَانْشُزُوا) بضم الشين، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة
بكسرها.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان
مشهورتان بمنزلة يعكفُون ويعكِفون، ويعرُشون ويعرِشون، فبأيّ
القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
قوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) يقول تعالى ذكره:
يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم
به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى
الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا
العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل
علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(23/246)
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) إن بالعلم
لأهله فضلا وإن له على أهله حقًا، ولعمري للحقّ عليك أيها
العالم فضل، والله معطي كل ذي فضل فضله.
وكان مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير يقول: فضل العلم أحبّ
إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع.
وكان عبد الله بن مطرف يقول: إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر
صومًا وصلاة وصدقة، والآخر أفضل منه بونًا بعيدًا، قيل له:
وكيف ذاك؟ فقال: هو أشدّهما ورعًا لله عن محارمه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.
وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى
ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع
منكم ربه من العاصي، وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه،
والمسيء بالذي هو أهله، أو يعفو.
(23/247)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا ناجيتم
رسول الله، فقدّموا أمام نجواكم صدقة تتصدقون بها على أهل
المسكنة والحاجة، (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) يقول: وتقديمكم
الصدقة أمام نجواكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
خير لكم عند الله (وَأَطْهَرُ) لقلوبكم من المآثم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/247)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال: نهوا عن مناجاة النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه قدم دينارًا فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في
ذلك.
حدثنا محمد بن عبيد بن محمد المحاربي، قال: ثنا المطلب بن
زياد، عن ليث، عن مجاهد، قال، قال عليّ رضي الله عنه: إن في
كتاب الله عزّ وجلّ لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها
أحد بعدي: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)
قال: فُرِضت، ثم نُسخت.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أبو أَسامة، عن
شبل بن عباد، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال: نهوا عن
مناجاة النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى يتصدّقوا،
فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدّم دينارًا
صدقة تصدق به، ثم أنزلت الرخصة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا، عن
مجاهد، قال، قال عليّ رضي الله عنه: آية من كتاب الله لم يعمل
بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته
بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم تصدقت بدرهم، فنسخت، فلم يعمل بها أحد قبلي:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال: سأل
الناس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى أحفوه
بالمسألة، فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة
إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلا يستطيع
(23/248)
أن يقضيها، حتى يقدّم بين يديه صدقة،
فاشتدّ ذلك عليهم، فأنزل الله عزّ وجلّ الرخصة بعد ذلك (فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال: إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من
نهار.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ... إلى (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) قال: كان المسلمون يقدّمون بين يدي النجوى صدقة، فلما
نزلت الزكاة نُسخ هذا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً) ، وذاك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حتى شقوا عليه، فأراد الله أن
يخفف عن نبيه؛ فلما قال ذلك صبر كثير من الناس، وكفوا عن
المسألة، فأنزل الله بعد هذا (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
، فوسع الله عليهم، ولم يضيق.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن أبى
المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عليّ بن علقمة الأنماريّ،
عن عليّ، قال، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مَا
تَرَى؟ دِينَارٌ" قَالَ: لا يطيقون، قال: "نصف دينار؟ " قال:
لا يطيقون قال: "ما ترى؟ " قال: شعيرة، فقال له النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّكَ لَزَهِيدٌ"، قال عليّ رضي
الله عنه: فبي خفف الله عن هذه الأمة، وقوله: (إِذَا
نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً) ، فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) : لئلا
(23/249)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
يناجي أهل الباطل رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيشُقّ ذلك على أهل الحقّ، قالوا: يا رسول
الله ما نستطيع ذلك ولا نطيقه، فقال الله عزّ وجلّ:
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وقال: (لا خَيْرَ
فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ، من جاء
يناجيك في هذا فاقبل مناجاته، ومن جاء يناجيك في غير هذا فاقطع
أنت ذاك عنه لا تناجه. قال: وكان المنافقون ربما ناجوا فيما لا
حاجة لهم فيه، فقال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) قال: لأن الخبيث يدخل في ذلك.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد،
عن عكرِمة والحسن البصري قالا قال في المجادلة: (إِذَا
نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فنسختها الآية
التي بعدها، فقال: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) .
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يقول تعالى ذكره: فإن لم تجدوا
ما تتصدّقون به أمام مناجاتكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: فإن الله
ذو عفو عن ذنوبكم إذا تبتم منها، رحيم بكم أن يعاقبكم عليها
بعد التوبة، وغير مؤاخذكم بمناجاتكم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل أن تقدّموا بين يدي نجواكم إياه صدقة.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (13) }
(23/250)
يقول تعالى ذكره: أشقّ عليكم وخشيتم أيها
المؤمنون بأن تقدموا بين يدي نجواكم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم صدقات الفاقة، وأصل الإشفاق في كلام العرب:
الخوف والحذر، ومعناه في هذا الموضع: أخشيتم بتقديم الصدقة
الفاقة والفقر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (أَأَشْفَقْتُمْ) قال: شقّ عليكم تقديم الصدقة،
فقد وُضِعت عنكم، وأمروا بمناجاة رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بغير صدقة حين شقّ عليهم ذلك.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أَبو أُسامة، عن
شبل بن عباد المكيّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) : فريضتان واجبتان
لا رجعة لأحد فيهما، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر
الصدقة في النجوى.
وقوله: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)
يقول تعالى ذكره: فإذ لم تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، ورزقكم
الله التوبة من ترككم ذلك، فأدّوا فرائض الله التي أوجبها
عليكم، ولم يضعها عنكم من الصلاة والزكاة، وأطيعوا الله
ورسوله، فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول جلّ ثناؤه: والله
ذو خبرة وعلم بأعمالكم، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها.
(23/251)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
ألم تنظر بعين قلبك يا محمد، فترى إلى القوم الذين تَولَّوْا
قومًا غضب الله عليهم، وهم المنافقون تولَّوا اليهود وناصحوهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إلى آخر الآية، قال: هم المنافقون تولَّوا
اليهود وناصحوهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) قال: هم
اليهود تولاهم المنافقون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله عز وجلّ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ)
قال: هؤلاء كفرة أهل الكتاب اليهود والذين تولوهم المنافقون
تولوا اليهود، وقرأ قول الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ) حتى بلغ (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ) لئن كانَ ذلك لا يفعلُونَ وقال: هؤلاء المنافقون
قالوا: لا ندع حلفاءنا وموالينا يكونوا معًا لنصرتنا وعزّنا،
ومن يدفع عنا نخشى أن تصيبنا دائرة، فقال الله عزّ وجلّ:
(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ) حتى بلغ (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) وقرأ حتى
بلغ (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) قال: لا يبرزون.
وقوله: (مَا هُمْ مِنْكُمْ) يقول تعالى ذكره: ما هؤلاء الذين
تولَّوْا هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم، منكم يعني: من أهل
دينكم وملتكم، ولا منهم ولا
(23/252)
أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
هم من اليهود الذين غضب الله عليهم، وإنما
وصفهم بذلك منكم جلّ ثناؤه لأنهم منافقون إذا لقوا اليهود،
قالوا (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) .
وقوله: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
يقول تعالى ذكره: ويحلفون على الكذب، وذلك قولهم لرسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: نشهد إنك لرسول الله وهم
كاذبون غير مصدّقين به، ولا مؤمنين به، كما قال جلّ ثناؤه
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وقد
ذُكر أن هَذِه الآية نزلت في رجل منهم عاتبه رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أمر بلغه عنه، فحلف كذبًا.
* ذكر الخبر الذي رُوي بذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
سماك، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ
يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، أو بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ"، قال:
فدخل رجل أزرق، فقال له: "علام تسبني أو تشتمني. قال: فجعل
يحلف، قال: فنزلت هذه الآية التي في المجادلة: (وَيَحْلِفُونَ
عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) والآية الأخرى.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره: أعدّ الله لهؤلاء المنافقين الذين تولَّوا
اليهود عذابًا في الآخرة شديدًا (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ) في الدنيا بغشهم المسلمين، ونصحهم لأعدائهم من
اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
}
(23/253)
لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(17)
وقوله: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً)
يقول جلّ ثناؤه: جعلوا حلفهم وأيمانهم جنة يستجنون بها من
القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وذلك أنهم إذا
أطلع منهم على النفاق، حلفوا للمؤمنين بالله إنهم لمنهم
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يقول جلّ ثناؤه: فصدّوا
بأيمانهم التي اتخذوها جنة المؤمنين عن سبيل الله فيهم، وذلك
أنهم كفر، وحكم الله وسبيله في أهل الكفر به من أهل الكتاب
القتل، أو أخذ الجزية، وفي عبدة الأوثان القتل، فالمنافقون
يصدّون المؤمنين عن سبيل الله فيهم بأيمانهم إنهم مؤمنون،
وإنهم منهم، فيحولون بذلك بينهم وبين قتلهم، ويمتنعون به مما
يمتنع منه أهل الإيمان بالله.
وقوله: (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) يقول: فلهم عذاب مذِلّ لهم
في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره: لن تغني عن هؤلاء المنافقين يوم القيامة
أموالهم، فيفتدوا بها من عذاب الله المهين لهم ولا أولادهم،
فينصرونهم ويستنقذونهم من الله إذا عاقبهم (أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ) يقول: هؤلاء الذين تولوا قومًا غضب الله
عليهم، وهم المنافقون أصحاب النار، يعني أهلها الذين هم فيها
خالدون، يقول: هم في النار ماكثون إلى غير النهاية.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
(23/254)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ
أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
الْكَاذِبُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرهم هم أصحاب النار، يوم
يبعثهم الله جميعًا، فيوم من صلة أصحاب النار. وعُني بقوله:
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) من قبورهم أحياء
كهيئاتهم قبل مماتهم، فيحلفون له كما يحلفون لكم كاذبين مبطلين
فيها.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله: (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) قال: إن المنافق حلف له
يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ... الآية، والله حالف
المنافقون ربهم يوم القيامة، كما حالفوا أولياءه في الدنيا.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب
البكري، عن سعيد بن جُبَير، قال: كان النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم في ظلّ حجرة قد كاد يَقْلِصُ عنه الظلّ،
فقال: "إنَّهُ سيَأتِيكُمْ رَجُلٌ، أو يَطْلُعُ رَجُلٌ
بِعَيْنِ شَيْطَانٍ فَلا تُكَلِّمُوهُ" فلم يلبث أن جاء، فاطلع
فإذا رجل أزرق، فقال له: "عَلام تَشْتُمُنِي أَنْت وَفُلانٌ
وَفُلانٌ "؟ قال: فذهب فدعا أصحابه، فحلفوا ما فعلوا، فنزلت:
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .
وقوله: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) يقول: ويظنون
أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحقّ، (أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (19) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ)
غلب عليهم الشيطان (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ) يعني جنده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ
(23/255)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
الْخَاسِرُونَ) يقول: ألا إن جند الشيطان
وأتباعه هم الهالكون المغبونون في صَفْقَتِهِمْ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ (20) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخالفون الله ورسوله في حدوده،
وفيما فرض عليهم من فرائضه فيعادونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك
قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول: يعادون الله
ورسوله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
بنحوه.
حدثني محمد بن عمر، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال:
يعادون، يشاقُّون.
وقوله: (أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء
الذين يحادون الله ورسوله في أهل الذلة، لأن الغلبة لله
ورسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) }
وقوله: (كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) يقول:
قضى الله وخطّ في أمّ
(23/256)
الكتاب، لأغلبن أنا ورسلي مَن حادّني
وشاقَّني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) . الآية، قال:
كتب الله كتابا وأمضاه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) يقول: إن الله جلّ
ثناؤه ذو قوّة وقدرة على كلّ من حادّه، ورسوله أن يهلكه، ذو
عزّة فلا يقدر أحد أن ينتصر منه إذا هو أهلك وليه، أو عاقبه،
أو أصابه في نفسه بسوء.
(23/257)
لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَجِدُ
قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لا تجد يا محمد قومًا يصدّقون الله،
ويقرّون باليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله وشاقَّهما
وخالف أمر الله ونهيه (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ) يقول: ولو
كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم (أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وإنما أخبر الله جلّ ثناؤه
نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)
ليسوا من أهل الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، فلذلك تولَّوُا
الذين تولَّوْهم من اليهود.
(23/257)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لا تجد يا محمد
قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادّون من حادّ الله
ورسوله: أي من عادى الله ورسولَه.
وقوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) يقول جلّ
ثناؤه: هؤلاء الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا
آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، كتب الله في
قلوبهم الإيمان. وإنما عُنِي بذلك: قضى لقلوبهم الإيمان، ففي
بمعنى اللام، وأخبر تعالى ذكره أنه كتب في قلوبهم الإيمان لهم،
وذلك لمَّا كان الإيمان بالقلوب، وكان معلومًا بالخبر عن
القلوب أن المراد به أهلها، اجتزى بذكرها مِنْ ذكر أهلها.
وقوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) يقول: وقوّاهم ببرهان
منه ونور وهدى (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: ويدخلهم بساتين تجري من تحت
أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين فيها أبدا
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بطاعتهم إياه في الدنيا (وَرَضُوا
عَنْهُ) في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة (أُولَئِكَ حِزْبُ
اللَّهِ) يقول: أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه (أَلا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) يقول: ألا إن جند الله وأولياءه (هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) يقول: هم الباقون المُنْجحون بإدراكهم ما
طلبوا، والتمسوا ببيعتهم في الدنيا، وطاعتهم ربهم.
آخر تفسير سورة المجادلة
(23/258)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
تفسير سورة الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1) }
يعني بقوله جلّ ثناؤه: (سَبَّحَ لِلَّهِ) صلى لله، وسجد له،
(مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) من خلقه (وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول: وهو العزيز في انتقامه ممن انتقم
من خلقه على معصيتهم إياه، الحكيم في تدبيره إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ
الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ (2) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ
الْحَشْرِ) : الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أهل الكتاب، وهم يهود بني النضير من
ديارهم، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم،. حين صالحوا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن يؤمنهم على دمائهم
ونسائهم وذراريهم، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم،
ويخلو له دورهم، وسائر أموالهم، فأجابهم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ
(23/259)
وَسَلَّم إلى ذلك، فخرجوا من ديارهم، فمنهم
من خرج إلى الشام، ومنهم من خرج إلى خيبر، فذلك قول الله عزّ
وجلّ (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
لأوَّلِ الْحَشْرِ) قال: النضير حتى قوله: (وَلِيُخْزِيَ
الْفَاسِقِينَ) .
* ذكر ما بين ذلك كله فيهم:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ) قيل: الشام، وهم بنو
النضير حيّ من اليهود، فأجلاهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من المدينة إلى خيبر، مرجعه من أحد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري
(مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ) قال: هم بنو النضير
قاتلهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى صالحهم على
الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء
إلا الحلقة، والحلقة: السلاح، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما
مضى، وكان الله عزّ وجلّ قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك عذبهم
في الدنيا بالقتل والسباء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ) قال: هؤلاء
النضير حين أجلاهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
(23/262)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل،
قال: ثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، قال: نزلت في بني
النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله عزّ وجل
به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وما عمل به فيهم، فقال: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
لأوَّلِ الْحَشْرِ) ... الآيات.
وقوله: (لأوَّلِ الْحَشْرِ) يقول تعالى ذكره: لأوّل الجمع في
الدنيا، وذلك حشرهم إلى أرض الشام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري،
قوله: (لأوَّلِ الْحَشْرِ) قال: "كان جلاءوهم أوّل الحشر في
الدنيا إلى الشام".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:
"تجيء نار من مَشرِق الأرض، تَحْشُر الناس إلى مغاربها، فتبيت
معهم حيث باتُوا، تَقِيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تَخَلَّف".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أَبي عديّ، عن عوف، عن الحسن،
قال: بلغني أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لما
أجلى بني النضير، قال: "امْضوا فهذا أوَّل الْحَشْرِ، وإنَّا
على الأثَرِ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(لأوَّلِ الْحَشْرِ) قال: الشام حين ردهم إلى الشام، وقرأ قول
الله عزّ وجلّ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) قال:
من حيث جاءت، أدبارها أن رجعت إلى الشام، من حيث جاءت ردّوا
إليه.
وقوله: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ، يقول تعالى ذكره
للمؤمنين من أصحاب
(23/263)
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل
الكتاب من مساكنهم ومنازلهم، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) ، وإنما ظن القوم
فيما ذكر أن عبد الله بن أَبي، وجماعة من المنافقين بعثوا
إليهم لما حصرهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يأمرونهم بالثبات في حصونهم، ويعدونهم النصر.
كما حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن
رومان، أن رهطًا من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أُبيّ
بن سلول، ووديعة ومالك، ابنا نوفل، وسويد وداعس، بعثوا إلى بني
النضير أن اثبتوا وتمنَّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم
قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم،
فلم يفعلوا، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين نزل بهم.
وقوله: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)
يقول تعالى ذكره: فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه
يأتيهم، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا، قذف في
قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بهم في أصحابه، يقول جلّ ثناؤه: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ) .
وقوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ) يعني جلّ ثناؤه بقوله: (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ) بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم،
وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما
يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم
وأيدي المؤمنين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ) جعلوا يخربونها من أجوافها، وجعل المؤمنون
يخربون من ظاهرها.
(23/264)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن الزُّهريّ، قال: لما صالحوا النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها، فكان ذلك
خرابها. وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها،
وتخربها اليهود من داخلها.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن
رومان، قال: احتملوا من أموالهم، يعني بني النضير، ما استقلت
به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على
ظهر بعيره فينطلق به، قال: فذلك قوله: (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وذلك
هدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم إذا احتملوها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله عزّ وجلّ: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قال: هؤلاء النضير، صالحهم النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما حملت الإبل، فجعلوا
يقلعون الأوتاد يخربون بيوتهم.
وقال آخرون: إنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم
ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الأبْصَارِ) قال: يعني بني النضير، جعل المسلمون كلما
هدموا شيئًا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها، ثم
يبنون ما يخرب المسلمون، فذلك هلاكهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يعني: أهل النضير،
جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم
(23/265)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ
اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
بأيديهم وأيدي المؤمنين، ثم يبنون ما خرّب
المسلمون.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز
والمدينة والعراق سوى أَبي عمرو: (يُخْرِبُونَ) بتخفيف الراء،
بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خرابًا، وكان أبو عمرو يقرأ
ذلك (يخرّبون) بالتشديد في الراء، بمعنى يهدّمون بيوتهم. وقد
ذكر عن أَبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن
ذلك نحو قراءة أَبي عمرو. وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه
إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب: إنما هو
ترك ذلك خرابًا بغير ساكن، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم،
فيرتحلوا عنها، ولكنهم خرّبوها بالنقض والهدم، وذلك لا يكون
فيما قال إلا بالتشديد.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالتخفيف،
لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وقد كان بعض أهل المعرفة بكلام
العرب يقول: التخريب والإخراب بمعنى واحد، وإنما ذلك في اختلاف
اللفظ لا اختلاف في المعنى.
وقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأبْصَارِ) يقول تعالى ذكره:
فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود
الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته،
واعلموا أن الله وليّ من والاه، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه،
ومحلّ من نقمته به نظيرَ الذي أحلّ ببني النضير. وإنما عنى
بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها
يكون دون الإبصار بالعيون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) }
يقول تعالى ذكره: ولولا أن الله قضى وكتب على هؤلاء اليهود من
بني
(23/266)
النضير في أم الكتاب الجلاء، وهو الانتقال
من موضع إلى موضع، وبلدة إلى أخرى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : خروج
الناس من البلد إلى البلد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال ثني
أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) والجلاء: إخراجهم من أرضهم إلى أرض
أخرى، قال: ويقال: الجلاء: الفرار، يقال منه: جلا القوم من
منازلهم، وأجليتهم أنا.
وقوله: (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) يقول تعالى ذكره:
(وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) من أرضهم
وديارهم، لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسَّبْي، ولكنه رفع
العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وجعل عذابهم في الدنيا والجلاء،
(وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) مع ما حلّ بهم من
خزي الدنيا بالجلاء عن أرضهم ودورهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري،
قال: كان النضير من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله
قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذّبهم في الدنيا بالقتل
والسبي.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سَلَمَة، قال: ثني محمد بن إسحاق،
عن يزيد بن رُومان (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْجَلاءَ) ، وكان لهم من الله نقمة، (لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيَا) : أي بالسيف (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ
النَّارِ) ، مع ذلك.
(23/267)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:
(وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ
النَّارِ) قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم
على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم،
ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : أهل النضير، حاصرهم نبي الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بلغ منهم كلّ مبلغ، فأعطوا نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما أراد، ثم ذكر نحوه وزاد
فيه: فهذا الجلاء.
(23/268)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل الله
بهؤلاء اليهود ما فعل بهم من إخراجهم من ديارهم، وقذف الرعب في
قلوبهم من المؤمنين، وجعل لهم في الآخرة عذاب النار بما فعلوا
هم في الدنيا من مخالفتهم الله ورسوله في أمره ونهيه، وعصيانهم
ربهم فيما أمرهم به من اتباع محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم. (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ) يقول تعالى ذكره: ومن يخالف الله في أمره ونهيه،
فإن الله شديد العقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) }
يقول تعالى ذكره: ما قطعتم من ألوان النخل، أو تركتموها قائمة
على أصولها.
اختلف أهل التأويل في معنى اللينة، فقال بعضهم: هي جميع أنواع
النخل سوى العجوة.
(23/268)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن داود
بن أَبي هند، عن عكرِمة: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال:
النخلة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن
عكرمة أنه قال في هذه الآية: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ
أَوْ تَرَكْتُمُوهَا) قال: اللينة: ما دون العجوة من النخل.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن
رومان، في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: اللينة ما
خالف العجوة من التمر.
وحدثنا به مرة أخرى فقال: من النخل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، في قوله:
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: النخل كله ما خلا العجوة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) ، واللينة: ما خلا العجوة من
النخل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) : ألوان النخل كلها إلا العجوة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن داود بن
أَبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) قال: النخلة دون العجوة.
وقال آخرون: النخل كله لينة، العجوة منه وغير العجوة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: النخلة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح،
(23/269)
عن مجاهد، في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) قال: نخلة. قال: نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع
النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من
نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه
بإذنه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن أَبي بكير، قال: ثنا شريك،
عن أَبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) قال: النخلة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: اللينة: النخلة؛ عجوة كانت
أو غيرها، قال الله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: الذي
قطعوا من نخل النضير حين غدرت النضير.
وقال آخرون: هي لون من النخل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) قال: اللينة: لون من النخل.
وقال، آخرون: هي كرام النخل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان في (مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال: من كرام نخلهم.
والصواب من القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهن من
ألوان النخل ما لم تكن عجوة، وإياها عنى ذو الرُّمَّة بقوله:
طِرَاقُ الخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ لِيَنةٍ نَدَى لَيْلهِ فِي
رِيشِهِ يَترَقْرَقُ (1)
__________
(1) البيت لذي الرمة (اللسان: ريع) والرواية فيه "ريعه" في
موضع "لينة" واللينة: النخلة، وكل شيء من النخل سوى العجوة فهو
من اللين. وقد سبق استشهاد المؤلف بالبيت عند قوله تعالى:
"أتبنون بكل ريع آية"، وشرحناه هناك شرحًا مفصلا، فارجع إليه
في (19: 93)
(23/270)
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول:
اللينة من اللون، والليان في الجماعة واحدها اللينة. قال:
وإنما سميت لينة لأنه فعلة من فَعْل، هو اللون، وهو ضرب من
النخل، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى الياء. وكان بعضهم
ينكر هذا القول ويقول: لو كان كما قال لجمعوه: اللوان لا
الليان. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: جمع اللينة لين، وإنما
أُنزلت هذه الآية فيما ذُكر من أجل أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم لما قطع نخل بني النضير وحرّقها، قالت بنو
النضير لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنك كنت
تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتُحرقها؟ فأنزل
الله هذه الآية، فأخبرهم أن ما قطع من ذلك رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أو ترك، فعن أمر الله فعل.
وقال آخرون: بل نزل ذلك لاختلاف كان من المسلمين في قطعها
وتركها.
* ذكر من قال: نزل ذلك لقول اليهود للمسلمين ما قالوا:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا محمد بن
إسحاق، قال: ثنا يزيد بن رومان، قال: لما نزل رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بهم، يعني ببني النضير تحصنوا منه في
الحصون، فأمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقطع
النخل، والتحريق فيها، فنادوْه: يا محمد، قد كنت تنهى عن
الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فأنزل
الله عزّ وجلّ: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) .
* ذكر من قال: نزل ذلك لاختلاف كان بين المسلمين في أمرها:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا) ... الآية،
أي ليعظهم، فقطع المسلمون يومئذ النخل، وأمسك آخرون كراهية أن
يكون إفسادًا، فقالت اليهود: آلله أذن لكم في الفساد؟ فأنزل
الله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) .
(23/271)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء
جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ
مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)
قال: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي
مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من
قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه.
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي، قال ابن المبارك، عن موسى
بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قطع رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم نخل بني النضير، وفي ذلك نزلت (مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) ... الآية، وفي ذلك يقول حسان بن
ثابت:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةَ بَنِي لُؤَيّ حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ
مُسْتَطِيرُ (1)
وقوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) يقول: فبأمر الله قطعتم ما قطعتم،
وتركتم ما تركتم، وليغيظ بذلك أعداءه، ولم يكن فسادًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن
رومان (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) : أي فبأمر الله قطعت، ولم يكن
فسادًا، ولكن نقمة من الله، وليخزي الفاسقين.
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت (معجم ما استعجم للبكري: رسم البويرة
285) قال البويرة، بضم أوله، وبالراء المهملة، على لفظ
التصغير، وهي من تيماء. قال أبو عبيدة في كتاب الأموال: أحرق
رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، وقطع زهو
البويرة، فنزل فيهم: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على
أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين". قال حسان: "هان على سراة
... البيت". قال ذلك حسان، لأن قريشًا هم الذين حملوا كعب بن
أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة، على نقض العقد بينه وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج معهم إلى الخندق، وعند ذلك
اشتد البلاء والخوف على المسلمين. اهـ
(23/272)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وقوله: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)
وليذلّ الخارجين عن طاعة الله عزّ وجلّ، المخالفين أمره ونهيه،
وهم يهود بني النضير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) }
يقول تعالى ذكره: والذي ردّه الله على رسوله منهم، يعني من
أموال بني النضير. يقال منه: فاء الشيء على فلان: إذا رجع
إليه، وأفأته أنا عليه: إذا رددته عليه. وقد قيل: إنه عنى بذلك
أموال قُرَيظة (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا
رِكَابٍ) يقول: فما أوضعتم فيه من خيل ولا في إبل وهي الركاب.
وإنما وصف جلّ ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف
عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حربًا، ولا
كلفوا فيه مئونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن
فيه إيجاف خيل ولا ركاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) ... الآية،
يقول: ما قطعتم إليها واديًا، ولا سرتم إليها سيرًا، وإنما كان
حوائط لبني النضير طعمة أطعمها الله رسوله، ذُكر لنا أن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: "أيُّمَا
قَرْيَةٍ أَعْطَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَهِيَ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ، وَأيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَهَا المُسْلِمُونَ
عَنْوَةً فَإنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِرَسُولِهِ وَمَا بَقِيَ
غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري،
في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا
رِكَابٍ) قال: صالح النبي صَلَّى الله
(23/273)
عَلَيْهِ وَسَلَّم أهل فدك وقرى قد سماها
لا أحفظها، وهو محاصر قومًا آخرين، فأرسلوا إليه بالصلح، قال:
(فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يقول:
بغير قتال. قال الزهريّ: فكانت بنو النضير للنبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم خالصة لم يفتحوها عنوة، بل على صلح، فقسمها
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بين المهاجرين لم يعط
الأنصار منها شيئًا، إلا رجلين كانت بهما حاجة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن
يزيد بن رومان (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ) ، يعني: بني النضير (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ
رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) قال: يذكر ربهم أنه نصرهم، وكفاهم بغير
كراع، ولا عدة في قريظة وخيبر، ما أفاء الله على رسوله من
قريظة، جعلها لمهاجرة قريش.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قال: أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير، وليس
للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، فجعل ما أصاب رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن
يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف: أن يوضعوا السير،
وهي لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكان من ذلك
خيبر وَفَدَك وَقُرًى عَرَبَيةً، وأمر الله رسوله أن يعد
لينبع، فأتاها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسَّمها، فأنزل الله عزّ وجلّ
عذره، فقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
(23/274)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (7)
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ) ثم قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ... الآية.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول، في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يعني: يوم قريظة.
وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ) أعلمك أنه كما سلَّط محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم على بني النضير، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله
عليه من أموال لم يُوجف المسلمون بالخيل والركاب، من الأعداء
مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى. يقول: فمحمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح
لا عنوة، فتقع فيها القسمة. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) يقول: والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يُعجزه
شيء، وبقُدرته على ما يشاء سلَّط نبيه محمدًا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما سلط عليه من أموال بني النضير، فحازه
عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (7) }
يعني بقوله جلّ ثناؤه: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من
أموال مشركي القرى.
واختلف أهل العلم في الذي عنى بهذه الآية من الألوان، فقال
بعضهم:
(23/275)
عني بذلك الجزية والخراج.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن
عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: قرأ عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ) حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثم قال: هذه
لهؤلاء، ثم قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)
... الآية، ثم قال: هذه الآية لهؤلاء، ثم قرأ: (مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) حتى بلغ
(لِلْفُقَرَاءِ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) ، ثم قال: استوعبت هذه الآية
المسلمين عامة، فليس أحد إلا له حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين
الراعي وهو يسير حُمُرَه نصيبهُ، لم يعرق فيها جبينه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، قال: ثنا معمر في
قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى) حتى (1) بلغني أنها الجزية، والخراج: خَراج أهل
القرى.
وقال آخرون: عنى بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم
من أهل الحرب بالقتال عنوة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن
رومان (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ما يوجف عليه المسلمون
بالخيل والركاب، وفتح بالحرب عنوة، (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ) قال: هذا قسم آخر فيما أصيب
__________
(1) لعل لفظ "حتى" زائد من النساخ.
(23/276)
بالحرب بين المسلمين على ما وضعه الله
عليه.
وقال آخرون: عنى بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل
والركاب، وأخذت بالغلبة، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام
لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الآيات دون المرجفين عليها، ثم
نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة، في قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قال: كان
الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال، فقال:
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فنسخت هذه ما كان قبلها
في سورة الأنفال، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر،
وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها،
ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس، فخمس لله وللرسول، وخمس
لقرابة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في حياته،
وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل؛ فلما قضى رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجه أَبو بكر وعمر رضي
الله عنهما هذين السهمين: سهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، وسهم قرابته، فحملا عليه في سبيل الله صدقة عن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: عنى بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من
أموالهم، وقالوا: قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ... الآيات،
بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية،
وذلك قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ
فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) وهذا
قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين.
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم
الآية
(23/277)
التي قبلها، وذلك أن الآية التي قبلها مال
جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة
دون غيره، لم يجعل فيه لأحد نصيبًا، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري،
عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فدخلت عليه، فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك
وإنا قد أمرنا لهم برضخ، فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين
مر بذلك غيري، قال: اقبضه أيها المرء فبينا أنا كذلك، إذ جاء
يرفأ مولاه، فقال: عبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان، وسعد
يستأذنون، فقال: ائذن لهم؛ ثم مكث ساعة، ثم جاء فقال: هذا عليّ
والعباس يستأذنان، فقال: ائذن لهما؛ فلما دخل العباس قال: يا
أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الغادر الخائن الفاجر، وهما
جاءا يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أعمال بني النضير،
فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين، وأرح كلّ واحد منهما
من صاحبه، فقد طالت خصومتهما، فقال: أنشدكم الله الذي بإذنه
تقوم السموات والأرض، أتعلمون أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "لا نُورَثُ ما تَرَكْنَاهْ صَدَقَةٌ"
قالوا: قد قال ذلك؛ ثم قال لهما: أتعلمان أن رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال ذلك؟ قالا نعم؛ قال: فسأخبركم بهذا
الفيء، إن الله خصّ نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشيء
لم يعطه غيره، فقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا
رِكَابٍ) فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة،
فوالله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها دونكم، ولقد قسمها
عليكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ينفق على أهله منه سنتهم، ثم يجعل ما بقي في
مال الله، فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال
الذي خصّ الله به رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولم
يجعل لأحد معه شيئًا، وكانت هذه الآية خبرًا عن المال الذي
جعله الله لأصناف شتى، كان معلومًا بذلك أن المال الذي جعله
لأصناف من خلقه غير المال الذي
(23/278)
جعله للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
خاصة، ولم يجعل له شريكًا.
وقوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى) يقول: ولذي قرابة رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بني هاشم وبني المطلب
واليتامى، وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم؛
والمساكين: وهم الجامعون فاقة وذلّ المسألة؛ وابن السبيل: وهم
المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ.
وقد ذكرنا الرواية التي جاءت عن أهل التأويل بتأويل ذلك فيما
مضى من كتابنا.
وقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ) يقول جلّ ثناؤه. وجعلنا ما أفاء على رسوله من أهل
القرى لهذه الأصناف، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله
الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه، وهذا مرّة
في أبواب البرّ وسُبلُ الخير، فيجعلون ذلك حيث شاءوا، ولكننا
سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سِوى
أَبي جعفر القارئ (كَيْلا يَكُونَ) (دُولَةً) نصبًا على ما
وصفت من المعنى، وأن يكون ذكر الفيء. وقوله: (دُولَةً) نصب خبر
يكون، وقرأ ذلك أَبو جعفر القارئ (كَيْلا تَكُونَ دُولَةٌ) على
رفع الدولة مرفوعة بتكون، والخبر قوله: (بَيْنَ الأغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ) ، وبضمّ الدال من (دُولَةً) قرأ جميع قرّاء الأمصار،
غير أنه حُكي عن أَبي عبد الرحمن الفتح فيها.
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك، إذا ضمت الدال
أو فُتحت، فقال بعض الكوفيين: معنى ذلك: إذا فتحت الدولة وتكون
للجيش يهزم هذا هذا، ثم يهزم الهازم، فيقال: قد رجعت الدولة
على هؤلاء؛ قال: والدولة برفع الدال في الملك والسنين التي
تغير وتبدّل على الدهر، فتلك الدولة والدول. وقال بعضهم: فرق
ما بين الضمّ والفتح أن الدولة: هي اسم الشيء الذي يتداول
بعينه، والدولة الفعل.
(23/279)
لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك:
(كَيْلا يَكُونَ) بالياء (دُولَةً) ، بضم الدال ونصب الدولة
على المعنى الذي ذكرت في ذلك لإجماع الحجة عليه، والفرق بين
الدُّولة والدَّولة بضم الدال وفتحها ما ذكرت عن الكوفيّ في
ذلك.
وقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) يقول تعالى
ذكره: وما أعطاكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مما
أفاء عليه من أهل القرى فخذوه (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ) ، من
الغلول وغيره من الأمور (فَانْتَهُوا) . وكان بعض أهل العلم
يقول نحو قولنا في ذلك، غير أنه كان يوجه معنى قوله: (وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) إلى ما آتاكم من الغنائم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عديّ، عن عوف، عن الحسن، في
قوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا) قال: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) يقول: وخافوا الله، واحذروا عقابه
في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه، ومعصيتكم إياه
(إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، يقول: إن الله شديد
عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره: كيلا يكون ما أفاء الله على رسوله دُولة بين
الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وقيل: عُني
بالمهاجرين: مهاجرة قريش.
(23/280)
وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن
ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ) من قريظة جعلها لمهاجرة قريش.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن
جُبَير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزى، قالا كان ناس من
المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها
ويغزو، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ) ... إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
قال: هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين
والعشائر، خرجوا حبًا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما
فيه من الشدّة، حتى لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على
بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في
الشتاء ماله دثار غيرها.
وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ) ، وقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا) موضع يبتغون نصب، لأنه في موضع الحال؛ وقوله:
(وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول: وينصرون دين الله
الذي بعث به رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) يقول: هؤلاء الذين وصف
صفتهم من الفقراء المهاجرين هم الصادقون فيما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9) }
(23/281)
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالإيمَانَ) يقول: اتخذوا المدينة مدينة الرسول
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فابتنوها منازل، (وَالإيمَانَ)
بالله ورسوله (مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني: من قبل المهاجرين،
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) : يحبون من ترك منزله،
وانتقل إليهم من غيرهم، وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال: الأنصار نعت. قال محمد بن
عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عندما روى عنهم
من ذلك، وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ
فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) يقول: مما أعطوا
إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار، أسلموا في ديارهم، فابتنوا
المساجد والمسجد، قبل قدوم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك، وهاتان الطائفتان
الأوّلتان من هذه الآية، أخذتا بفضلهما، ومضتا على مَهَلهما،
وأثبت الله حظهما في الفيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله
الله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ) قال: هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر
إليهم من المهاجرين.
وقوله: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا) يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من
قبلهم، وهم الأنصار في صدورهم حاجة، يعني
(23/282)
حسدا مما أوتوا، يعني مما أوتي المهاجرين
من الفيء، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين
الأوّلين دون الأنصار، إلا رجلين من الأنصار، أعطاهما لفقرهما،
وإنما فعل ذلك لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن
عبد الله بن أَبي بكر، أنه حدّث أنّ بني النضير خَلَّوا
الأموال لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكانت
النضير لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة، يضعها
حيث يشاء، فقسمها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على
المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حُنيف وأبا
دُجانة سمِاك بن خَرَشَة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)
المهاجرون. قال: وتكلم في ذلك: (يعني أموال بني النضير) بعضُ
من تكلمَّ من الأنصار، فعاتبهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال:
(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . قال، قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم لهم: "إنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا
الأمْوَالَ وَالأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ" فقالوا: أموالنا
بينهم قطائع، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"أو غَيْرَ ذَلِكَ؟ " قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: "هُمْ
قَوْمٌ لا يعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونَهُمْ
وَتُقَاسِمُونَهُمْ الثَّمَر"، فقالوا: نعم يا رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قال أهل التأويل.
(23/283)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا سليمان أَبو داود، قال: ثنا
شعبة، عن أَبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قال: الحسد.
قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أَبي رجاء، عن الحسن
(حَاجَةً فِي صُدُورِهِمْ) قال: حسدًا في صدورهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن
الحسن مثله.
وقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) يقول تعالى ذكره:
وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل
المهاجرين (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) يقول: ويعطون
المهاجرين أموالهم إيثارًا لهم بها على أنفسهم، (وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا
به من أموالهم على أنفسهم، والخصاصة: مصدر، وهي أيضًا اسم، وهو
كلّ ما تخلَّلته ببصرك كالكوة والفرجة في الحائط، تجمع
خَصَاصَات وخِصَاص، كمال قال الراجز:
قَدْ عَلِمَ المَقَاتِلاتُ هَجَّا (1) والنَّاظراتُ مِنْ
خَصَاصٍ لَمْجا
لأورِيَنْهَا دُلَجا أوْ مُنْجَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أَبي حازم، عن
__________
(1) هذه ثلاثة أبيات من مشطور الرجز لم أجدها في معاني القرآن
للفراء ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة، ولا في اللسان. وليست
على بينة من صحة بعض ألفاظها. والمؤلف استشهد بها في هذه
الموضع على أن الخصاص جمع خصاصة. وفي (اللسان: الخصاص) : الفرج
بين الأثافي والأصابع، وقالوا لخروق المصفاة والمنخل خصاص.
وخصاص المنخل والباب والبرقع وغيره: خلله، واحدته: خصاصة (وكله
بفتح الخاء) .
(23/284)
أَبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال:
"ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار يقال له
أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نوّمي الصبية، وأطفئي
المصباح وأريه بأنك تأكلين معه، واتركيه لضيف رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ففعلت فنزلت (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن فضيل، عن غزوان، عن أَبي
حازم، عن أَبي هريرة، أن رجلا من الأنصار بات به ضيف، فلم يكن
عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نَوَّمِي الصِّبْيَة
وأطفئي المصباح، وقرّبي للضيف ما عندك، قال: فنزلت هذه الآية
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) يقول تعالى ذكره: من وقاه الله
شحّ نفسه (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المخلَّدون في
الجنة. والشحّ في كلام العرب: البخل، ومنع الفضل من المال؛
ومعه قول عمرو بن كلثوم:
تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أُمِرَّتْ عَلَيْهِ لِمَالِهِ
فِيهَا مُهِينًا (1)
يعني بالشحيح: البخيل، يقال: إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ، وفيه
شحة شديدة وشحاحة. وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا
الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا المسعودي،
عن أشعث، عن أَبي الشعثاء، عن أبيه، قال: أتى رجل ابن مسعود
فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله
يقول: (وَمَنْ
__________
(1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي (انظره في شرحي
الزوزني والتبريزي على المعلقات) واللحز: الضيق الصدر السيىء
الخلق اللئيم. والشحيح: البخيل: الحريص. والجمع الأشحة
والأشحاء، والفعل: شح يشح. والمصدر: الشح، وهو البخل معه حرص.
يقول: ترى الإنسان الضيق الصدر البخيل الحريص مهينا لما له
فيها، أي في شربها، إذا أمرت عليه الخمر، أي أديرت عليه. وقد
استشهد المؤلف بالبيت عند قوله تعالى: "ومن يوق شح نفسه فأولئك
هم المفلحون".
(23/285)
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل شحيح لا
يكاد يخرج من يدي شيء، قال: ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في
القرآن، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ذلك البخل، وبئس
الشيء البخل.
حدثني يحي بن إبراهيم، قال: ثني أَبي، عن أبيه، عن جده، عن
الأعمش، عن جامع، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله
بن مسعود، فقال يا أبا عبد الرحمن، إني أخشى أن تكون أصابتني
هذه الآية (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) والله ما أعطي شيئًا أستطيع منعه، قال: ليس
ذلك بالشحّ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه، ولكن ذلك
البخل.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا
سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جُبَير، عن أَبي
الهياج الأسدي، قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهمّ
قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال. إني إذا وقيت
شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئًا، وإذا الرجل عبد
الرحمن بن عوف.
حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي،
قال: ثنا إسماعيل بن عياش، قال: ثنا مجمع بن جارية الأنصاري،
عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "برئ مِنَ الشُّحِّ مَنْ
أَدَّّى الزَّكَاةَ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَأعْطَى في
النَّائِبَةِ"
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا زياد بن يونس
أبو سلامة، عن نافع بن عمر المكي، عن ابن أَبي مليكة، عن عبد
الله بن عمر، قال: إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو. قال عبد الله
بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ، قال: أخرج المال العظيم، فأخرجه
ضرارًا، ثم أقول: أقرض ربي هذه الليلة، ثم تعود نفسي فيه حتى
أعيده من حيث أخرجته، وإن نجوت
(23/286)
من شأن عثمان، قال ابن صفوان: أما عثمان
فقُتل يوم قُتل، وأنت تحبّ قتله وترضاه، فأنت ممن قتله؛ وأما
أنت فرجل لم يقك الله شحّ نفسك، قال: صدقت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قال: من وقي شحّ
نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئًا، ولم يقربه، ولم يدعه الشحّ أن
يحبس من الحلال شيئًا، فهو من المفلحين، كما قال الله عزّ وجل.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قال: من لم يأخذ شيئًا لشيء
نهاه الله عزّ وجلّ عنه، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئًا من
شيء أمره الله به، فقد وقاه الله شحّ نفسه، فهو من المفلحين.
(23/287)
وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
يقول تعالى ذكره: والذين جاءوا من بعد الذين تبوّءوا الدار
والإيمان من قبل المهاجرين الأوّلين (يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإيمَانِ) من الأنصار. وعنى بالذين جاءا من بعدهم المهاجرون
أنهم يستغفرون لإخوانهم من الأنصار.
وقوله: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ
آمَنُوا) يعني غمرا وضغنا.
وقيل: عني بالذين جاءوا من بعدهم: الذين أسلموا من بعد الذين
تبوّءوا الدار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
(23/287)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) قال: الذين أسلموا نعتوا أيضًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم
ذكر الله الطائفة الثالثة، فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا)
حتى بلغ (إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) إ نما أمروا أن يستغفروا
لأصحاب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يؤمروا
بسببهم.
وذكر لنا أن غلامًا لحاطب بن أَبي بلتعة جاء نبيّ الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا نبيّ الله ليدخلن حاطب في حيّ
النار، قال: "كذبت إنه شهد بدرًا والحُديبية" وذُكر لنا أن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه أغلظ لرجل من أهل بدر، فقال نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ
لَعَلَّه قَدْ شَهِدَ مَشْهَدًا اطَّلَعَ اللهُ فِيهِ إلَى
أَهْلِهِ، فأشْهَدَ مَلائِكَتَهُ إني قَدْ رَضِيتُ عَنْ
عِبَادِي هَؤُلاءِ، فَلْيَعْمَلُوا ما شَاءُوا" فما زال بعضُنا
منقبضا من أهل بدر، هائبًا لهم، وكان عمر رضي الله عنه يقول:
وإلى أهل بدر تهالك المتهالكون، وهذا الحيّ من الأنصار، أحسن
الله عليهم الثناء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا)
قال: لا تورث قلوبنا غلا لأحد من أهل دينك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس
بن مسلم، عن ابن أَبي ليلى، قال: كان الناس على ثلاث منازل:
المهاجرون الأوَّلون: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وأحسن
ما يكون أن يكون بهذه المنزلة.
وقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
يقول جلّ ثناؤه مخبرًا عن قيل الذين جاءوا من بعد الذين
تبوّءوا الدار والإيمان أنهم قالوا: لا تجعل
(23/288)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
في قلوبنا غلا لأحد من أهل الإيمان بك يا
ربنا.
قوله: (إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) يقول: إنك ذو رأفة بخلقك، وذو
رحمة بمن تاب واستغفر من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(11) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
ألم تنظر بعين قلبك يا محمد، فترى إلى الذين نافقوا وهم فيما
ذُكر عبد الله بن أَُبي ابن سلول، ووديعة ومالك، ابنا نوفل،
وسُوَيد وداعس، بَعَثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم للحرب أن اثبتُوا وتمنَّعوا،
فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم، خرجنا
معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم
الرعب، فسألوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن
يجليهم، ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم
إلا الحلقة.
حدثنا بذلك ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن
إسحاق، عن يزيد بن رُومان.
وقال مجاهد في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو
عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا) قال: عبد الله بن أُبيّ بن
سلول، ورفاعة أو رافعة بن تابوت. وقال الحارث: رفاعة بن تابوت،
ولم يشكّ فيه، وعبد الله بن نَبْتل، وأوس بن قَيْظِيّ.
(23/289)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (12)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن محمد
بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرِمة، أو عن سعيد بن
جُبَير، عن ابن عباس، قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا) يعني عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه، ومن كان
منهم على مثل أمرهم.
وقوله: (يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ) يعني بني النضير.
كما حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
بن أَبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس
(يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ) يعني: بني النضير.
وقوله: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) يقول:
لئن أخرجتم من دياركم ومنازلكم، وأُجليتم عنها لنخرجن معكم،
فنُجلى عن منازلنا وديارنا معكم.
وقوله: (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا) يقول: ولا نطيع
أحدًا سألنا خذلانكم، وترك نصرتكم، ولكنا نكون معكم، (وَإِنْ
قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) يقول: وإن قاتلكم محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومن معه لننصرنَّكم معشرَ النضير
عليهم.
وقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يقول:
والله يشهد إن هؤلاء المنافقين الذين وعدوا بني النضير النصرة
على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (لَكَاذِبُونَ) في
وعدهم إياهم مَا وَعَدُوهم من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ
(12) }
يقول تعالى ذكره: لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم، فأَجْلوا
عنها لا
(23/290)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا
إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْقِلُونَ (14)
يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم الخروج
من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا
ينصرهم المنافقون الذين وعدوهم النصر، ولئن نصر المنافقون بني
النضير ليولُّنّ الأدبار منهزمين عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وأصحابه هاربين منهم، قد خذلوهم (ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ) يقول: ثم لا ينصر الله بني النضير على محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه، بل يخذلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي
صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى
مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور
اليهود من بني النضير من الله، يقول: هم يرهبونهم أشدّ من
رهبتهم من الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)
يقول تعالى ذكره: هذه الرهبة التي لكم في صدور هؤلاء اليهود
التي هي أشدّ من رهبتهم من الله من أجل أنهم قوم لا يفقهون،
قدر عظمة الله، فهم لذلك يستخفُّون بمعاصيه، ولا يرهبون عقابه
قدر رهبته منكم.
وقوله: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى
مُحَصَّنَةٍ) يقول جلّ ثناؤه: يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير
مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون، لا يبرزون لكم بالبراز،
(أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) يقول: أو من خلف حيطان.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة
والمدينة (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) على الجِمَاع بمعنى
الحيطان. وقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة: (مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)
على التوحيد بمعنى الحائط.
(23/291)
* والصواب من القول عندي في ذلك أنهما
قرءاتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يقول جلّ ثناؤه: عداوة
بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضًا شديدة (تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعًا) يعني المنافقين وأهل الكتاب، يقول: تظنهم مؤتلفين
مجتمعة كلمتهم، (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) يقول: وقلوبهم مختلفة
لمعاداة بعضهم بعضًا.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) يقول جلّ
ثناؤه: هذا الذي وصفت لكم من أمر هؤلاء اليهود والمنافقين،
وذلك تشتيت أهوائهم، ومعاداة بعضهم بعضًا من أجل أنهم قوم لا
يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ
مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) قال: تجد أهل الباطل
مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون
في عداوة أهل الحقّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال: المنافقون يخالف دينهم دين النضير.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد
(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال: هم
المنافقون وأهل الكتاب.
(23/292)
كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، مثل ذلك.
حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن
مجاهد (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال:
المشركون وأهل الكتاب.
وذُكر أنها في قراءة عبد الله (وقلوبهم أشتُّ) بمعنى: أشدّ
تشتتًا: أي أشدّ اختلافًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره: مثل هؤلاء اليهود من بني النضير والمنافقين
فيما الله صانع بهم من إحلال عقوبته بهم (كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: كشبههم.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا الذين من قبلهم، فقال بعضهم:
عنى بذلك بنو قَيْنُقَاع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
أَبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قوله:
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني: بني قينُقاع.
وقال آخرون: عني بذلك مشركو قريش ببدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد في قوله: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) قال: كفار قريش.
(23/293)
وأولى الأقوال بالصواب إن يقال: إن الله
عزّ وجلّ مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من
نكاله بالذين من قبلهم من مكذّبي رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، الذين أهلكهم بسخطه، وأمر بني قينقاع ووقعة بدر،
كانا قبل، جلاء بني النضير، وكلّ أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم،
ولم يخصص الله عز وجلّ منهم بعضًا في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض،
وكلّ ذائق وبال أمره، فمن قربت مدته منهم قبلهم، فهم ممثلون
بهم فيما عُنُوا به من المثل.
وقوله: (ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) يقول: نالهم عقاب الله
على كفرهم به.
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: ولهم في الآخرة مع ما
نالهم في الدنيا من الخزي عذاب أليم، يعني: موجع.
وقوله: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)
يقول تعالى ذكره: مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من
النضير، النصرة إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل
النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد، وإسلامهم إياهم عند
شدّة حاجتهم إليهم، وإلى نُصرتهم إياهم، كمثل الشيطان الذي غرّ
إنْسانًا، ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة
إليه، فكفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نُصرته أسلمه
وتبرأ منه، وقال له: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ) في نُصرتك.
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله جلّ ثناؤه
(إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ) هو إنسان بعينه، أم أريد به
المثل لمن فعل الشيطان ذلك به، فقال بعضهم: عُنِي بذلك إنسان
بعينه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا
شعبة، عن أَبي إسحاق، قال: سمعت عبد الله بن نهيك، قال: سمعت
عليًا رضي الله عنه يقول: إن راهبًا تعبَّد ستين سنة، وأن
الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى
(23/294)
امرأة فأجنها، ولها إخوة، فقال لإخوتها:
عليكم بهذا القسّ فيداويها، فجاءوا بها، قال: فداواها، وكانت
عنده؛ فبينما هو يوما عندها إذا أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد
إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك،
إن أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعتُ بك، اسجد
لي سجدة، فسجد له؛ فلما سجد له قال: إني بريء منك، (إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) فذلك قوله: (كَمَثَلِ
الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ) .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أَبي، عن أبيه، عن
جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن زيد، عن عبد الله
بن مسعود في هذه الآية (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) قال: كانت
امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى
صومعة راهب، قال: فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فآتاه الشيطان،
فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدّق يسمع كلامك، فقتلها
ثم دفنها؛ قال: فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم: إن
الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم؛ فلما أحبلها قتلها، ثم دفنها
في مكان كذا وكذا؛ فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت
البارحة رؤيا وما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: لا بل
قُصَّها علينا؛ قال: فقصها، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت
ذلك؛ قالوا: فما هذا إلا لشيء، فانطلقوا فاستعدوْا مَلِكَهُم
على ذلك الراهب، فأتَوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان
فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي
سجدة واحدة وأنا أنجيك مما أوقعتك فيه؛ قال: فسجد له؛ فلما
أتَوا به ملكَهم تبرأ منه، وأُخِذ فقتل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ
(23/295)
اكْفُرْ) ... إلى (وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ) قال عبد الله بن عباس: كان راهب من بني إسرائيل
يعبد الله فيحسن عبادته، وكان يُؤتى من كلّ أرض فيُسئل عن
الفقه، وكان عالمًا، وإن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن
الناس، وإنهم أرادوا أن يسافروا، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة،
فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها؛ فقال أحدهم: أدلكم على من
تتركونها عنده؟ قالوا: من هو؟ قال: راهب بني إسرائيل، إن ماتت
قام عليها، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه؛ فعمدوا إليه
فقالوا: إنا نريد السفر، ولا نجد أحدًا أوثق فى أنفسنا، ولا
أحفظ لما وُلِّيً منك لما جعل عندك، فإن رأيت أن نجعل أختنا
عندك فإنها ضائعة شديدة الوجع، فإن ماتت فقم عليها، وإن عاشت
فأصلح إليها حتى نرجع، فقال: أفيكم إن شاء الله؛ فانطلقوا فقام
عليها فداواها حتى بَرَأَت، وعاد إليها حسنها، فاطلع إليها
فوجدها متصنعة، فلم يزل به الشيطان حتى يزين له أن يقع عليها
حتى وقع عليها، فحملت، ثم ندمه الشيطان فزين له قتلها؛ قال: إن
لم تقتلها افتضحت وعرف شبهك في الولد، فلم يكن لك معذرة، فلم
يزل به حتى قتلها؛ فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلت؟ قال: ماتت
فدفنتها، قالوا: قد أحسنت، ثم جعلوا يرون في المنام، ويخبرون
أن الراهب هو قتلها، وأنها تحت شجرة كذا وكذا، فعمدوا إلى
الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت، فعمدوا إليه فأخذوه، فقال له
الشيطان: أنا زيَّنت لك الزنا وقتلها بعد الزنا، فهل لك أن
أنجيك؟ قال: نعم، قال: أفتطيعني؟ قال: نعم قال: فاسجد لي سجدة
واحدة، فسجد له ثم قتل، فذلك قوله: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكَ) الآية
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن
طاوس، عن أبيه قال: "كان رجل من بني إسرائيل عابدًا، وكان ربما
داوى المجانين، فكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجيء بها
إليه، فتركت عنده، فأعجبته فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان
فقال: إن عُلم بهذا افتضحت، فاقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها
ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه، فقال:
(23/296)
ماتت، فلم يتهموه لصلاحه فيهم، فجاءهم
الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكنه وقع عليها فقتلها ودفنها في
بيته في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها، فقالوا: ما نتهمك، فأخبرنا
أين دفنتها، ومن كان معك، فوجدوها حيث دفنها، فأُخذ وسُجن،
فجاءه الشيطان فقال: إن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فتخرج
منه، فاكفر بالله، فأطاع الشيطان، وكفر بالله، فأُخذ وقُتل،
فتبرأ الشيطان منه حينئذ. قال: فما أعلم هذه الآية إلا نزلت
فيه (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) .
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الناس كلهم، وقالوا: إنما هذا مثل
ضُرِب للنضير فى غرور المنافقين إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلإنْسَانِ اكْفُرْ) عامة الناس.
(23/297)
فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره: فكان عُقبى أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه،
فكفر بالله أنهما خالدان في النار ماكثان فيها أبدًا،
(وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) يقول: وذلك ثواب اليهود من
النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكلُّ كافر بالله ظالم
لنفسه على كفره به أنهم في النار مخلَّدون.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا) فقال
بعض نحوِّيي البصرة: نصب على الحال، وفي النار الخبر؛ قال: ولو
كان في الكلام
(23/297)
لكان الرفع أجود في "خالدين" قال: وليس
قولهم: إذا جئت مرّتين (1) فهو نصب لشيء، إنما فيها توكيد جئت
بها أو لم تجيء بها فهو سواء، إلا أن العرب كثيرًا ما تجعله
حالا إذا كان فيها للتوكيد وما أشبهه في غير مكان؛ قال: (إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) وقال بعض نحويي
الكوفة: في قراءة عبد الله بن مسعود (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَانِ فِيهَا) ؛ قال: وفي أنهما
في النار خالدين فيها نصب؛ قال: ولا أشتهي الرفع وإن كان يجوز،
فإذا رأيت الفعل بين صفتين قد عادت إحداهما على موضع الأخرى
نصبت، فهذا من ذلك؛ قال: ومثله في الكلام قولك: مررت برجل على
نابِه متحملا به؛ ومثله قول الشاعر:
والزعفران على ترائبها شرقا به اللَّبَّات والنَّحْر (2)
لأن الترائب هي اللبات، ها هنا، فعادت الصفة باسمها الذي وقعت
عليه، فإذا اختلفت الصفتان جاز الرفع والنصب على حُسْن، من ذلك
قولك: عبد الله في الدار راغب فيك، ألا ترى أن "في" التي في
الدار مخالفة لفي التي تكون في الرغبة؛ قال: والحجة ما يُعرف
به النصب من الرفع أن لا ترى الصفة الآخرة تتقدم قبل الأولى،
ألا ترى أنك تقول: هذا أخوك في يده درهم قابضًا عليه، فلو قلت:
هذا أخوك قابضًا عليه في يده درهم لم يجز، إلا ترى أنك تقول:
هذا رجل قائم إلى زيد في يده درهم، فهذا يدل على أن المنصوب
إذا
__________
(1) تحرر هذه العبارة فإن فيها من التحريف والتصحيف ما لا
يخفى.
(2) البيت في (اللسان: ترب) غير منسوب. والرواية فيه "شرق"
بالرفع. والمؤلف أورده منصوبًا، وأعربه حالا، والزعفران: مما
يستعمله العرب في الطيب وزينة النساء. والترائب: موضع القلادة
من الصدر. واللباب: جمع لبة، وهي موضع النحر. والثغرة ثغرة
النحر، وهي الهزمة بين الترقوتين. وقال: "والزعفران ...
البيت". والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 330)
قال عند قوله تعالى: "فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين
فيها": وهي في قراءة عبد الله بن مسعود "خالدان في النار"، وفي
قراءتنا "خالدين فيها" نصب، ولا أشتهى الرفع وإن كان يجوز، وقد
نقل المؤلف كلام الفراء كله في توضيح المسألة، على مذهب أهل
الكوفة، فنكتفي بهذه الإشارة هنا.
(23/298)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ
النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
امتنع تقديم الآخر، ويدل على الرفع إذا سهل
تقديم الآخر.
وقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) يقول
تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ووحدوه، اتقوا الله
بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وقوله: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يقول:
ولينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات
التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
: ما زال ربكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغدٌ يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني يوم
القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، وقرأ قول
الله عزّ وجلّ (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
يعني يوم القيامة الخير والشرّ؛ قال: والأمس في الدنيا، وغدٌ
في الآخرة، وقرأ (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ) قال: كأن لم
تكن في الدنيا.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) يقول: وخافوا الله بأداء فرائضه،
واجتناب معاصيه (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بأعمالكم خيرها وشرّها، لا يخفى
عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
نَسُوا اللَّهَ
(23/299)
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره: ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ الله الذي
أوجبه عليهم (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) يقول: فأنساهم الله
حظوظ أنفسهم من الخيرات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) قال: نَسُوا حقّ الله، فأنساهم
أنفسَهم؛ قال: حظّ أنفسهم.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء
الذين نسوا الله، هم الفاسقون، يعني الخارجون من طاعة الله إلى
معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ
وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره: لا يعتدل أهل النار وأهل الجنة، أهل الجنة هم
الفائزون، يعني أنهم المُدرِكون ما طلبوا وأرادوا، الناجون مما
حذروا.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ
عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) }
وقوله: (لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ
لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)
يقول جلّ ثناؤه: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، وهو حجر،
لرأيته يا محمد يا خاشعًا؛ يقول: متذللا متصدّعا من خشية الله
على قساوته، حذرًا من أن لا يؤدّي حقّ الله المفترض عليه في
تعظيم القرآن، وقد أنزل على
(23/300)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
ابن آدم وهو بحقه مستخفٌّ، وعنه عما فيه من
العِبَر والذكر مُعْرض، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أََبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لَوْ أَنزلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ... إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) قال، يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل
حملته إياه تصدّع وخشع من ثِقله، ومن خشية الله، فأمر الله عزّ
وجلّ الناس إذا أنزل عليهم القرآن، أن يأخذوه بالخشية الشديدة
والتخشع، قال: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ... الآية، يعذر
الله الجبل الأصمّ، ولم يعذر شقيّ ابن آدم، هل رأيتم أحدًا قط
تصدّعت جوانحه من خشية الله (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الأشياء نشبهها للناس، وذلك
تعريفه جلّ ثناؤه إياهم أن الجبال أشدّ تعظيمًا لحقه منهم مع
قساوتها وصلابتها.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يقول: يضرب الله لهم هذه
الأمثال ليتفكروا فيها، فينيبوا، وينقادوا للحق.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ
إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ (22) }
يقول تعالى ذكره: الذي يتصدّع من خشيته الجبل أيها الناس هو
المعبود،
(23/301)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له،
عالم غيب السموات والأرض، وشاهد ما فيهما مما يرى ويحسّ (هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) يقول: هو رحمن الدنيا والآخرة، رحيم
بأهل الإيمان به.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ
إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: هو المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له،
الملك الذي لا ملك فوقه، ولا شيء إلا دونه، القدّوس، قيل: هو
المبارك.
وقد بيَّنت فيما مضى قبل معنى التقديس بشواهده، وذكرت اختلاف
المختلفين فيه بما أغنى عن إعادته.
* ذكر من قال: عُنِيَ به المبارك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(الْقُدُّوسُ) : أي المبارك.
وقوله: (السَّلامَ) يقول: هو الذي يسلم خلقه من ظلمه، وهو اسم
من أسمائه.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمّر، عن
قتادة (السَّلامَ) : الله السلام.
حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد
الله، يعني العَتكي، عن جابر بن زيد قوله: (السَّلامَ) قال: هو
الله، وقد ذكرت الرواية فيما مضى، وبيَّنت معناه بشواهده،
فأعنى ذلك عن إعادته. وقوله: (الْمُؤْمِنُ) يعني بالمؤمن: الذي
يؤمن خلقه من ظلمه.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
(23/302)
سعيد، عن قتادة (الْمُؤْمِنُ) : أمن بقوله
أنه حقّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الْمُؤْمِنُ) : آمن بقوله أنه حقّ.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جُوَيبر عن
(23/303)
الضحاك (الْمُؤْمِنُ) قال: المصدق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:
(الْمُؤْمِنُ) قال: المؤمن: المصدّق الموقن، آمن الناس بربهم
فسماهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريم لهم بإيمانهم صدّقهم أن يسمى
بذلك الاسم.
وقوله: (الْمُهَيْمِنُ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال
بعضهم: المهيمن الشهيد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (الْمُهَيْمِنُ) قال: الشهيد، وقال مرّة
أخرى: الأمين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (الْمُهَيْمِنُ) قال: الشهيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(الْمُهَيْمِنُ) قال: أنزل الله عزّ وجلّ كتابًا فشهد عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الْمُهَيْمِنُ) قال: الشهيد عليه.
وقال آخرون: المهيمن: الأمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جُويبر، عن
الضحاك (الْمُهَيْمِنُ) الأمين. وقال آخرون: (الْمُهَيْمِنُ) :
المصدّق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(الْمُهَيْمِنُ) قال: المصدق لكلّ ما حدّث، وقرأ
(وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) قال: فالقرآن مصدّق على ما قبله من
الكتب، والله مصدّق في كلّ ما حدّث عما مضى من الدنيا، وما
بقي، وما حدّث عن الآخرة.
وقد بيَّنت أولى هذه الأقوال بالصواب فيما مضى قبل في سورة
المائدة بالعلل الدالة على صحته، فأغنى عن إعادته في هذا
الموضع.
وقوله: (الْعَزِيزُ) : الشديد في انتقامه ممن انتقم من أعدائه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(الْعَزِيزُ) أي في نقمته إذا انتقم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الْعَزِيزُ) في نقمته إذا انتقم.
وقوله: (الْجَبَّارُ) يعني: المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما
فيه صلاحهم. وكان قتادة يقول: جبر خلقه على ما يشاء من أمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الْجَبَّارُ) قال: جَبَرَ خلقه على ما يشاء.
وقوله: (الْمُتَكَبِّرُ) قيل: عُنِيَ به أنه تكبر عن كلّ شرّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(الْمُتَكَبِّرُ) قال: تكبر عن كلّ شر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
مثله.
(23/304)
هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن
علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: ثني رجل، عن جابر بن زيد،
قال: إن اسم الله الأعظم هو الله، ألم تسمع يقول: (هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يقول:
تنزيهًا لله وتبرئة له عن شرك المشركين به.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (24) }
يقول تعالى ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له
العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم
بقدرته، المصوّر خلقه كيف شاء، وكيف يشاء.
قوله: (لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) يقول تعالى ذكره: لله
الأسماء الحسنى، وهي هذه الأسماء التي سمى الله بها نفسه، التي
ذكرها في هاتين الآيتين. (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول: يسبح له جميع ما في السموات
والأرض، ويسجد له طوعًا وكرهًا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) يقول: وهو
الشديد الانتقام من أعدائه (الْحَكِيمُ) في تدبيره خلقه،
وصرفهم فيما فيه صلاحهم.
آخر تفسير سورة الحشر
(23/305)
|