تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر تفسير سورة البروج
(24/329)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه وتق24-331دست أسماؤه:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
(2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ
(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) } .
قال أبو جعفر رحمه الله: قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ) أقسم الله جلّ ثناؤه بالسماء ذات البروج.
واختلف أهل التأويل في معنى البروج في هذا الموضع، فقال بعضهم:
عُنِي بذلك: والسماء ذات القصور. قالوا: والبروج: القصور.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال ابن
عباس: قصور في السماء، قال غيره: بل هي الكواكب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (الْبُرُوجِ) يزعمون أنها قصور في
السماء، ويقال: هي الكواكب.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: والسماء ذات النجوم، وقالوا: نجومها:
بروجها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: البروج:
النجوم.
(24/331)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان،
عن ابن أبي نجيح (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: النجوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) وبروجها: نجومها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والسماء ذات الرمل والماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن قزعة، قال: ثنا حصين بن نمير، عن سفيان بن
حسين، في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: ذات
الرمل والماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معنى ذلك: والسماء ذات
منازل الشمس والقمر، وذلك أن البروج جمع برج، وهي منازل تتخذ
عالية عن الأرض مرتفعة، ومن ذلك قول الله: (وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) هي منازل مرتفعة عالية في السماء،
وهي اثنا عشر برجًا، فمسير القمر في كلّ برج منها يومان وثلث،
فذلك ثمانية وعشرون منزلا ثم يستسرّ ليلتين، ومسير الشمس في
كلّ برج منها شهر.
وقوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يقول تعالى ذكره: وأقسم
باليوم الذي وعدته عبادي لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاء الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي، عن موسى بن
عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْيَوْمُ
الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ".
قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد
الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،
مثله.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا يونس، قال: أنبأني
عمار، قال: قال أبو هريرة: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ
الْقِيَامَةِ". قال يونس، وكذلك الحسن.
(24/332)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يعني: يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) قال: القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
(الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن عبيد،
عن عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، عن أبي هريرة
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن
خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ".
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال:
ثني أبي، قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك
الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
(الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ) يوم القيامة".
وقوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) اختلف أهل التأويل في معنى
ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقسم بشاهد، قالوا: وهو يوم
الجمعة، ومشهود قالوا: وهو يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، قال:
أنبأني عمار، قال: قال أبو هريرة: الشاهد: يوم الجمعة،
والمشهود: يوم عرفة؛ قال يونس، وكذلك قال الحسن.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
أبي إسحاق، قال: سمعت حارثة بن مضرِّب، يحدّث عن عليّ رضى الله
عنه أنه قال في هذه الآية (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: يوم
الجمعة، ويوم عرفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد يوم
الجمعة،
(24/333)
والمشهود: يوم عرفة؛ ويقال: الشاهد:
الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ) : يومان عظيمان من أيام الدنيا، كنا نحدّث أن
الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود:
يوم عرفة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
الحارث، عن عليّ رضي الله عنه: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال:
الشاهد يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَشَاهِدٍ) يوم الجمعة، (وَمَشْهُودٍ) : يوم عرفة.
حدثنا أبو كريب، قال ثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن
خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:" وَشاَهِدٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ،
وَمَشْهُودٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي، عن موسى بن
عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْمَشْهُودُ:
يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ".
حدثنا سهل بن موسى، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن ابن حرملة، عن
سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ سَيدَ
الأيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْشَّاهِدُ،
وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيد، عن أيوب بن
خالد، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "الْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ،
وَالْشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لا
يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللهَ بِخَيْرٍ إلا اسْتَجَابَ
لَهُ، وَلا يَسْتَعِيذُهُ مِنْ شَرٍّ إلا أعَاذَهُ".
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثني أبي،
قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري،
قال: قال
(24/334)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإنَّ الْمَشْهُودَ يَوْمُ
عَرَفَةَ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ خِيَرةُ اللهِ لَنَا".
حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن
بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: سيد الأيام يوم الجمعة، وهو
شاهد.
وقال آخرون: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن عليّ بن زيد، عن
يوسف المكيّ، عن ابن عباس قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم
القيامة، ثم قرأ (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، قال: سأل
رجل الحسن بن عليّ، عن (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: سألتَ
أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم
الذبح ويوم الجمعة؛ قال: لا ولكن الشاهد: محمد، ثم قرأ:
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) والمشهود: يوم
القيامة، ثم قرأ: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن أبي
الضحى، عن الحسن بن عليّ، قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم
القيامة.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن
حَرْملة، عن سعيد بن المسيب: (وَمَشْهُودٍ) :يوم القيامة.
وقال آخرون: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أسباط، عن عبد الملك،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)
قال: الشاهد: ابن آدم، والمشهود يوم القيامة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وشاهد ومشهود) قال: الإنسان،
وقوله:
(24/335)
(ومشهود) قال: يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
قال: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن خالد الحذّاء، عن عكرِمة،
في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: شاهد: ابن آدم، ومشهود:
يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَشاَهِدٍ) يعني الإنسان
(وَمَشْهُودٍ) يوم القيامة، قال الله: (وَذَلِكَ يَوْمٌ
مَشْهُودٌ) .
وقال آخرون: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم الجمعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال:
الشاهد: محمد، والمشهود: يوم الجمعة، فذلك قوله: (فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ
عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) .
وقال آخرون: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَشَاهِدٍ) يقول الله: (وَمَشْهُودٍ)
يقول: يوم القيامة.
وقال آخرون: الشاهد: يوم الأضحى، والمشهود: يوم الجمعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، قال: سأل
رجل الحسن بن عليّ، عن (َشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: سألت أحدًا
قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم الذبح،
ويوم الجمعة.
وقال آخرون: الشاهد: يوم الأضحى، والمشهود، يوم عَرَفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن
(24/336)
مجاهد، عن ابن عباس: (وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة.
وقال آخرون: المشهود: يوم الجمعة، وَرَوَوْا ذلك عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال:
أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن،
عن عبادة بن نسيّ، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا عَليَّ الصَّلاةَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ
الْمَلائِكَةُ".
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن يقال: إن الله أقسم بشاهد
شهد، ومشهود شهد، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أيّ شاهد وأيّ
مشهود أراد، وكلّ الذي ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعنيّ مما
يستحقّ أن يُقال له: (َشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) .
وقوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) يقول: لعن أصحاب
الأخدود. وكان بعضهم يقول: معنى قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ
الأخْدُودِ) خبر من الله عن النار أنها قتلتهم.
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود؛ من هم؟ فقال بعضهم: قوم
كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر عن ابن أبزي،
قال: لما رجع المهاجرون من بعض غزواتهم، بلغهم نعي عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، فقال بعضهم لبعض: أيّ الأحكام تجري في
المجوس، وإنهم ليسوا بأهل كتاب، وليسوا من مشركي العرب، فقال
عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه: قد كانوا أهل كتاب، وقد كانت
الخمر أُحلَّت لهم، فشربها ملك من ملوكهم حتى ثمل منها، فتناول
أخته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر قال لها: ويحك، فما
المخرج مما ابتليتُ به؟ فقالت: اخطب الناس، فقل: يأُّيها الناس
إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات، فقام خطيبًا، فقال: يأيُّها
الناس إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات، فقال الناس: إنا نبرأ
(24/337)
إلى الله من هذا القول، ما أتانا به نبيٌّ،
ولا وجدناه في كتاب الله، فرجع إليها نادمًا، فقال لها: ويحك،
إن الناس قد أبوا عليّ أن يقرّوا بذلك، فقالت: ابسط عليهم
السِّياط، ففعل، فبسط عليهم السياط، فأبَوا أن يقرّوا، فرجع
إليها نادمًا، فقال: إنهم أبوا أن يقرّوا، فقالت: اخطبهم، فإن
أبوا فجرّد فيهم السيف، ففعل، فأبى عليه الناس، فقال لها: قد
أبى عليّ الناس، فقالت: خدّ لهم الأخدود، ثم اعرض عليها أهل
مملكتك، فمن أقرّ، وإلا فاقذفه في النار، ففعل، ثم عرض عليها
أهل مملكته، فمن لم يقرّ منهم قذفه في النار، فأنزل الله فيهم:
(قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) إلى
(أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوهم (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ
عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) فلم يزالوا
منذ ذلك يستحلون نكاح الأخوات والبنات والأمهات.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) قال: حُدِّثنا أنّ عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه كان يقول: هم ناس بمذارع اليمن، اقتتل
مؤمنوها وكفارها، فظهر مؤمنوها على كفارها، ثم اقتتلوا
الثانية، فظهر مؤمنوها على كفارها ثم أخذ بعضهم على بعض عهدًا
ومواثيق أن لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم الكفار فأخذوهم
أخذًا، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى خير،
توقدون نارًا ثم تعرضوننا عليها، فمن تابعكم على دينكم فذلك
الذي تشتهون، ومن لا اقتحم النار، فاسترحتم منه، قال: فأجَّجوا
نارًا وعُرِضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها صناديدهم، ثم بقيت
منهم عجوز كأنها نكصت، فقال لها طفل في حجرها: يا أماه امضي
ولا تنافقي. قصّ الله عليكم نبأهم وحديثهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) قال: يعني القاتلين
الذين قتلوهم يوم قتلوا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ) قال: هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودًا
في الأرض، ثم أوقدوا فيها نارًا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود
رجالا ونساء، فعُرِضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
(24/338)
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء
جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ
الأخْدُودِ) قال: كان شقوق في الأرض بنَجْرَان كانوا يعذّبون
فيها الناس.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ)
يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا ونساء،
فخدّوا لهم أخدودًا، ثم أوقدوا فيها النيران، فأقاموا المؤمنين
عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: ثنا حماد بن
سلمة، قال: ثنا ثابت البُنانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن
صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فِيمَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ، وَكَانَ لَهُ ساحِرٌ، فَأَتَى
السَّاحِرُ الْمَلِكَ فَقَالَ: قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَنَا
أجَلِي، فَادْفَعْ لِي غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ "، قال:
" فَدَفَعَ إلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ "، قَالَ: "
فَكَانَ الغُلامُ يَخْتَلِفُ إلى السَّاحِرِ، وكَانَ بَيْنَ
السَّاحِرِ وَبَيْنَ المَلِكِ رَاهِبٌ "، قال: " فَكَانَ
الغُلامُ إذَا مَرَّ بالرَّاهِبِ قَعَدَ إلَيْهِ فَسَمِعَ مِنْ
كَلامِهِ، فَأُعْجِبَ بِكَلامِهِ، فَكَانَ الغُلامُ إذَا أَتَى
السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ وَإذَا أَتَى
أَهْلَهُ قَعَدَ عِنْدَ الرَّاهِبِ يَسْمَعُ كَلامَهُ، فَإذَا
رَجَعَ إلى أَهْلِهِ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟
فَشَكَا ذَلِكَ إلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إذَا
قَالَ لَكَ السَّاحِرُ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي،
وَإذَا قَالَ أَهْلُكَ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْ حَبَسَنِي
السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ مَرَّ في طَرِيقٍ
وَإذَا دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الطَّرِيقِ قَدْ حَبَسَتِ
النَّاسَ لا تَدَعُهُمْ يَجُوزُونَ، فَقَالَ الْغُلامُ: الآنَ
أَعْلَمُ: أَمْرُ السَّاحِرِ أَرْضَى عِنْدَ اللهِ أَمْ أَمْرُ
الرَّاهِبِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا "، قَالَ: فَقَالَ: "
اللَّهُمْ إنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ
أَمْرِ السَّاحِرِ، فَإنِّي أَرْمِي بِحَجَرِي هَذَا
فَيَقْتُلَهُ وَيَمُرُّ النَّاسُ، قَالَ: فَرَمَاهَا
فَقَتَلَهَا، وَجَازَ النَّاسُ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّاهِبَ "،
قَالَ: وَأَتَاهُ الْغُلامُ فَقَالَ الرَّاهِبُ لِلْغُلامِ:
إنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي، وَإنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّنَّ
عَلَيَّ "؛ قَالَ: " وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ
وَالأبْرَصَ وَسَائِرَ الأدوَاءِ، وَكَانَ لِلْمَلِكِ جَلِيسٌ،
قَالَ: فَعَمِيَ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَاهُنَا غُلامًا
يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَسَائِرَ الأدْوَاءِ فَلَوْ
أَتَيْتَهُ؟ قَالَ: " فَاتَّخَذَ لَهُ هَدَايا "؛ قَالَ: "
ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا غُلامُ، إنْ أَبْرَأْتَنِي
فَهَذِهِ الهَدَايَا كُلُّهَا لَكَ، فَقَالَ: مَا أَنَا
بِطَبِيبٍ يشْفِيكَ، وَلَكِنَّ اللهَ يَشْفِي، فَإذَا آمَنْتَ
دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَكَ "، قَالَ: " فَآمَنَ
(24/339)
الأعْمَى، فَدَعَا اللهَ فَشَفَاهُ،
فَقَعَدَ الأعْمَى إلى الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَقْعُدُ،
فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أَلَيْسَ كُنْتَ أَعْمَى؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: فَمَنْ شَفَاكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ
رَبٌّ غَيرِي؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ "، قَالَ:
" فَأَخَدَهُ بِالْعَذَابِ فَقَالَ: لَتَدُلَّنِي عَلَى مَنْ
عَلَّمَكَ هَذَا "، قَالَ: " فَدَلَّ عَلَى الغلامِ، فَدَعَا
الغُلامَ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ "، قَالَ: " فَأَبَى
الْغُلامُ "؛ قَالَ: فَأَخَذَهُ بِالْعَذَابِ "، قَالَ: "
فَدَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأَخَذَ الرَّاهِبَ فَقَالَ:
ارْجِعْ عَنْ دِينِكِ فَأَبَى "، قَالَ: " فَوَضَعَ
المِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ فَشَقَّهُ حَتّى بَلَغَ الأرْضَ
"، قَالَ: " وَأَخَذَ الأعْمَى فَقَالَ: لَتَرْجِعَنَّ أوْ
لأقْتُلَنَّكَ "، قَالَ: " فَأَبَى الأعْمَى، فَوَضَعَ
المِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ فَشَقَّهُ حَتّى بَلَغَ الأرْضَ،
ثُمَّ قَالَ لِلْغُلامِ: لَتَرْجِعَنَّ أوْ لأقْتُلَنَّكَ "،
قال: " فَأَبَى "، قَالَ: " فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ حَتَّى
تَبْلُغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الْجَبَلِ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ
دِينِهِ، وَإلا فَدَهْدِهُوهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا بِه ذِرْوَةَ
الْجَبَلِ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا كُلُّهُمْ. وَجَاءَ الغُلامُ
يَتَلَمَّسُ حَتّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: أَيْنَ
أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهمُ اللهُ. قَالَ: فَاذْهَبُوا
بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ،
فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلا فَغَرِّقُوهُ " قال: "
فَذَهَبُوا بِهِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ قَالَ
الْغُلامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ
السَّفِينَةُ. وَجَاءَ الغُلامُ يَتَلَمَّسُ حَتّى دَخَلَ
عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ المَلِكُ: أَيْنَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ:
دَعَوْتُ اللهَ فَكَفَانِِيهمْ، قَالَ: لأقْتُلَنَّكَ، قَالَ:
مَا أَنْتَ بِقَاتِلِي حَتّى تَصْنَعَ مَا آمُرُكَ "، قَالَ: "
فَقَالَ الْغُلامُ لِلْمَلِكِ: اجْمَعِ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ
وَاحِدٍ، ثُمَّ اصْلُبْنِي، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِي فَارْمِنِي وَقُلْ: باسْمِ رَبِّ الْغُلامِ
فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي "، قَالَ: " فَجَمَعَ النَّاسَ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ "، قَالَ: " وَصَلَبَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِهِ فَوَضَعَهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ رَمَى،
فَقَالَ: باسْمِ رَبِّ الغُلامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي
صُدْغِ الْغُلامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ هَكَذَا عَلَى صُدْغِهِ
وَمَاتَ الْغُلامُ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ
الْغُلامِ، فَقَالُوا للْمَلِكِ: مَا صَنَعْتَ، الَّذي كُنْتَ
تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ
بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَأُخِذَتْ، وَخَدَّ الأخْدُودَ
وضَرَّمَ فِيهِ النِّيرَانَ، وَأَخَذَهُمْ وَقَالَ: إنْ
رَجَعُوا وَإلا فَأَلْقُوهُمْ فِي النَّارِ "، قَالَ: "
فَكَانُوا يُلْقُونَهُمْ فِي النَّارِ "، قَالَ: " فَجَاءتِ
امْرأةٌ مَعَها صَبِيٌّ لَهَا "، قَالَ: " فَلَمَّا ذَهَبَتْ
تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ، فَنَكَصَتْ "، قَالَ: "
فَقَالَ لَهَا صَبِيُّهَا يا أُمَّاهُ امْضِي فَإنَّكِ عَلَى
الْحَقِّ، فَاقْتَحَمَتْ فِي النَّارِ".
وقال آخرون: بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فتنوا
المؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن عمار، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
بن أنس، قال: كان أصحاب الأخدود قومًا مؤمنين اعتزلوا الناس في
الفترة، وإن جبارًا من عَبَدَة الأوثان أرسل إليهم، فعرض عليهم
الدخول في دينه، فأبوا، فخدّ أخدودًا، وأوقد فيه نارًا، ثم
خيرهم بين الدخول في دينه، وبين إلقائهم في النار، فاختاروا
إلقاءهم في النار، على الرجوع عن دينهم، فألقوا في النار،
فنجَّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق، بأن قبض
أرواحهم قبل أن تمسهم النار، وخرجت النار إلى من على شفير
الأخدود من الكفار فأحرقتهم، فذلك قول الله: (فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في
الدنيا.
واختُلف في موضع جواب القسم بقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ) فقال بعضهم: جوابه: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع
القسم هاهنا (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) . وقال بعض
نحويي البصرة: موضع قسمها - والله أعلم - على (قتل أصحاب
الأخدود) ، أضمر اللام كما قال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ...
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يريد: إن شاء الله لقد أفلح من
زكَّاها، فألقى اللام، وإن شئت قلت على التقديم، كأنه قال: قتل
أصحاب الأخدود، والسماء ذات البروج.
وقال بعض نحويي الكوفة: يقال في التفسير: إن جواب القسم في
قوله: (قُتِلَ) كما كان قسم (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) في قوله:
(قَدْ أَفْلَحَ) هذا في التفسير، قالوا: ولم نجد العرب تدع
القسم بغير لام يستقبل بها أو "لا" أو "إن" أو "ما"، فإن يكن
ذلك كذلك، فكأنه مما ترك فيه الجواب، ثم استؤنف موضع الجواب
بالخبر، كما قيل: " يأَيُّهَا الإنسان " في كثير من الكلام.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: جواب القسم في
ذلك متروك، والخبر مستأنف؛ لأن علامة جواب القسم لا تحذفها
العرب من الكلام إذا أجابته.
(24/340)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا
قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وأولي التأويلين بقوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ
الأخْدُودِ) : لُعِنَ أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين
والمؤمنات في الأخدود.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ للذي ذكرنا عن الربيع
من العلة، وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم،
ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا، لم يكن لقوله: (وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ) معنى مفهوم، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم؛
لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الآخرة،
والأخدود: الحفرة تحفر في الأرض.
وقوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) فقوله (النار) : ردّ على
الأخدود، ولذلك خفضت، وإنما جاز ردّها عليه وهي غيره، لأنها
كانت فيه، فكأنها إذ كانت فيه هو، فجرى الكلام عليه لمعرفة
المخاطبين به بمعناه، وكأنه قيل: قتل أصحاب النار ذَاتِ
الْوَقُودِ، ويعني بقوله:: (ذَاتِ الْوَقُودِ) ذات الحطب
الجزل، وذلك إذا فتحت الواو، فأما الوقود بضم الواو، فهو
الاتقاد.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) } .
يقول تعالى ذكره: النار ذات الوقود، إذ هؤلاء الكفار من أصحاب
الأخدود عليها، يعني على النار، فقال عليها، والمعنى أنهم قعود
على حافة الأخدود، فقيل: على النار، والمعنى: لشفير الأخدود،
لمعرفة السامعين معناه.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة، قوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ
عَلَيْهَا قُعُودٌ) يعني بذلك المؤمنين، وهذا التأويل الذي
تأوّله قتادة على مذهب من قال: قُتل أصحاب الأخدود من أهل
الأيمان.
وقد دلَّلْنا على أن الصواب من تأويل ذلك غير هذا القول الذي
وجَّه تأويله قتادةُ قبله.
وقوله: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ) يعني: حضور.
(24/342)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يعني بذلك
الكفار.
وقوله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وما وجد هؤلاء الكفار الذين فتنوا
المؤمنين على المؤمنين والمؤمنات بالنار في شيء، ولا فعلوا بهم
ما فعلوا بسبب، إلا من أجل أنهم آمنوا بالله، وقال: (إلا أن
يؤمنوا بالله) لأن المعنى إلا إيمانهم بالله، فلذلك حَسُنَ في
موضعه (يؤمنوا) ، إذ كان الإيمان لهم صفة (الْعَزِيزِ) يقول:
الشديد في انتقامه ممن انتقم منه (الْحَمِيدِ) يقول: المحمود
بإحسانه إلى خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) } .
يقول تعالى ذكره: الذي له سلطان السموات السبع والأرضين وما
فيهنّ (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقول تعالى
ذكره: والله على فِعْل هؤلاء الكفار من أصحاب الأخدود
بالمؤمنين الذين فتنوهم شاهد، وعلى غير ذلك من أفعالهم وأفعال
جميع خلقه، وهو مجازيهم جزاءهم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقول: إن الذين ابْتَلَوُا المؤمنين
والمؤمنات بالله بتعذيبهم، وإحراقهم بالنار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوا المؤمنين والمؤمنات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
(24/343)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا) قَالَ: عَذَّبُوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)
قال: حرّقوهم بالنار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقول: حرّقوهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى (إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوهم.
وقوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يقول: ثم لم يتوبوا من كفرهم
وفعلهم الذي فعلوا بالمؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم بالله
(فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ) في الدنيا.
كما حُدثت عن عمار، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه،
عن الربيع (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ
بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين أقرّوا بتوحيد الله، وهم هؤلاء
القوم الذين حرّقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بطاعة الله،
وأْتَمروا لأمره، وانتهَوْا عما نهاهم عنه (لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: لهم في الآخرة عند
الله بساتين تجري من تحتها الأنهار والخمر واللبن والعسل
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) يقول: هذا الذي هو لهؤلاء
المؤمنين في الآخرة، هو الظفر الكبير بما طلبوا والتمسوا
بإيمانهم بالله في الدنيا، وعملهم بما أمرهم الله به فيها
ورضيه منهم.
وقوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن بطش ربك يا محمد لمن بطش به
من خلقه، وهو انتقامه ممن انتقم منه
(24/344)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
لشديد، وهو تحذير من الله لقوم رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم، أن يُحلّ بهم من عذابه ونقمته، نظير الذي
حلّ بأصحاب الأخدود على كفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وفتنتهم
المؤمنين والمؤمنات منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ
(13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إن الله أبدى خلقه، فهو
يبتدئ، بمعنى: يحدث خلقه ابتداء، ثم يميتهم، ثم يعيدهم أحياء
بعد مماتهم، كهيئتهم قبل مماتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) يعني: الخلق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال: يُبْدِئُ الخلق حين خلقه، ويعيده
يوم القيامة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه هو يُبْدِئُ العذاب ويعيده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال:
يُبْدِئُ العذاب ويعيده.
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، وأشبههما بظاهر ما دلّ
عليه التنزيل القولُ الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أنه
يُبْدِئُ العذاب لأهل الكفر به ويعيد، كما قال جلّ ثناؤه:
(فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في
الدنيا، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا، وهو يعيده لهم في الآخرة.
وإنما قلت: هذا أولى التأويلين بالصواب؛ لأن الله أتبع ذلك
قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) فكان للبيان عن معنى
شدّة بطشه الذي قد ذكره قبله، أشبه به بالبيان
(24/345)
عما لم يَجْرِ له ذكر، ومما يؤيد ما قلنا
من ذلك وضوحًا وصحة قوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)
فبيَّن ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدّة عقابه.
وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) يقول تعالى ذكره: وهو
ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه، وذو المحبة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (الْغَفُورُ الْوَدُودُ) يقول: الحبيب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول
الله: (الْغَفُورُ الْوَدُودُ) قال: الرحيم.
وقوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) يقول تعالى ذكره: ذو العرش
الكريم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) يقول: الكريم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (الْمَجِيدُ) فقرأته عامة
قرّاء المدينة ومكة والبصرة وبعض الكوفيين رفعًا، ردًّا على
قوله: (ذُو الْعَرْشِ) على أنه من صفة الله تعالى ذكره. وقرأ
ذلك عامه قرّاء الكوفة خفضًا، على أنه من صفة العرش.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) يقول: هو غفار لذنوب من شاء
من عباده إذا تاب وأناب منها، معاقب من أصرّ عليها وأقام، لا
يمنعه مانع، مِنْ فِعْل أراد أن يفعله، ولا يحول بينه وبين ذلك
حائل، لأن له مُلك السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
وقوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل جاءك يا محمد حديث الجنود
الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروههم؛ يقول: قد أتاك
ذلك وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياك لما نالوك به من
(24/346)
بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ
مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ (22)
مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود
عليهم من رسلي، ولا يثنيك عن تبليغهم رسالتي، كما لم يُثْن
الذين أرسلوا إلى هؤلاء، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم
إلى عطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود، ثم بين جلّ ثناؤه
عن الجنود من هم، فقال: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) يقول: (فرعون)
، فاجتزى بذكره، إذ كان رئيس جنده من ذكر جنده وأتباعه. وإنما
معنى الكلام: هل أتاك حديث الجنود، فرعون وقومه وثمود، وخفض
فرعون ردًّا على الجنود، على الترجمة عنهم، وإنما فتح لأنه لا
يجرى وثمود.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ
هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } .
يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء القوم الذين يكذّبون بوعيد الله
أنهم لم يأتهم أنباء من قبلهم من الأمم المكذّبة رسل الله
كفرعون وقومه، وثمود وأشكالهم، وما أحلّ الله بهم من النقم
بتكذيبهم الرسل، ولكنهم في تكذيبهم بوحي الله وتنزيله، إيثارًا
منهم لأهوائهم، واتِّباعًا منهم لسنن آبائهم (وَاللَّهُ مِنْ
وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) بأعمالهم مُحْصٍ لها، لا يخفى عليه منها
شيءٌ، وهو مجازيهم على جميعها.
وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) يقول - تكذيبا منه جلّ
ثناؤه للقائلين للقرآن هو شعر وسجع -: ما ذلك كذلك، بل هو قرآن
كريم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَجِيدٌ) يقول: قرآن كريم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن
جعفر، عن سعيد، في قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) قال:
كريم.
وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) يقول تعالى ذكره: هو قرآن كريم
مُثْبَت في لوح محفوظ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مَحْفُوظٍ) فقرأ ذلك مَن قرأه
مِن أهل الحجاز أبو جعفر القارئ وابن كثير، ومن قرأه من قرّاء
الكوفة عاصم والأعمش وحمزة
(24/347)
والكسائي، ومن البصريين أبو عمرو (محفوظٍ)
خفضًا على معنى أن اللوح هو المنعوت بالحفظ. وإذا كان ذلك كذلك
كان التأويل: في لوح محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما
أثبته الله فيه. وقرأ ذلك من المكِّيين ابن مُحَيْصِن، ومن
المدنيين نافع (مَحْفُوظٌ) رفعًا، ردًّا على القرآن، على أنه
من نعته وصفته. وكان معنى ذلك على قراءتهما: (بل هو قرآن مجيد)
محفوظ من التغيير والتبديل في لوح.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان في قرأة
الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وإذا كان
ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ، فتأويل القراءة التي
يقرؤها على ما بيَّنا.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان عن
منصور، عن مجاهد (فِي لَوْحٍ) قال: في أمّ الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عند الله.
وقال آخرون: إنما قيل محفوظ لأنه في جبهة إسرافيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: سمعت قرة بن سليمان، قال: ثنا حرب بن
سريج، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، في قوله:
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قال: إن
اللوح المحفوظ الذي ذكر الله، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) في جَبْهَة إسرافيل.
آخر تفسير سورة البروج
(24/348)
تفسير سورة والسماء والطارق
(24/349)
وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ
الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ
عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) } .
أقسم ربنا بالسماء وبالطارق الذي يطرق ليلا من النجوم المضيئة،
ويخفى نهارًا، وكل ما جاء ليلا فقد طرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) قال: السماء
وما يطرق فيها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)
قال: طارق يطرق بليل، ويخفى بالنهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَالطَّارِقِ) قال: ظهور النجوم، يقول: يطرقك ليلا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (الطَّارِقِ) النجم.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم:
(24/351)
وما أشعرك يا محمد ما الطارق الذي أقسمتُ
به، ثم بين ذلك جلّ ثناؤه، فقال: هو النجم الثاقب، يعني: يتوقد
ضياؤه ويتوهَّج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني: المضيء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: هي الكواكب
المضيئة، وثقوبه: إذا أضاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: الذي
يثقب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الثَّاقِبُ) قال: الذي يتوهَّج.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثقوبه:
ضوءه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) : المضيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: كانت العرب تسمِّي الثُّريا
النجم، ويقال: إن الثاقبَ النجمُ الذي يقال له زُحَلْ. والثاقب
أيضًا: الذي قد ارتفع على النجوم، والعرب تقول للطائر - إذا هو
لحق ببطن السماء ارتفاعًا -: قد ثَقَبَ، والعرب تقول: أثقِب
نارك: أي أضئها.
وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) اختلفت
القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من قرّاء المدينة أبو جعفر، ومن
قرّاء الكوفة حمزة (لَمَّا عَلَيْهَا) بتشديد الميم. وذُكِر عن
الحسن أنه قرأ ذلك كذلك.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا حجاج، عن
هارون، عن الحسن أنه كان يقرؤها (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
عَلَيْهَا حَافِظٌ) مشدّدة، ويقول: إلا ليها حافظ، وهكذا كلّ
شيءٍ في القرآن بالتثقيل. وقرأ ذلك من أهل المدينة نافع، ومن
أهل
(24/352)
البصرة أبو عمرو: (لَمَا) بالتخفيف، بمعنى:
إن كلّ نفس لعليها حافظ، وعلى أن اللام جواب" إن" و" ما" التي
بعدها صلة. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن فيه تشديد.
والقراءة التي لا أختار غيرَها في ذلك التخفيف، لأن ذلك هو
الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعةٌ من أهل
المعرفة بكلام العرب؛ أن يكون معروفًا من كلام العرب، غير أن
الفرّاء كان يقول: لا نعرف جهة التثقيل في ذلك، ونرى أنها لغةٌ
في هذيلٍ، يجعلون " إلا " مع " إن المخففة ": لَمَّا، ولا
يجاوزون ذلك، كأنه قال: ما كلّ نفس إلا عليها حافظ، فإن كان
صحيحًا ما ذكر الفرّاء من أنها لغة هُذَيلٍ، فالقراءة بها
جائزةٌ صحيحةٌ، وإن كان الاختيار أيضًا - إذا صحّ ذلك عندنا -
القراءة الأخرى وهي التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام
العرب، ولا ينبغي أن يُترك الأعرف إلى الأنكر.
وقد حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا معاذ، عن
ابن عون، قال: قرأت عند ابن سيرين: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
عَلَيْهَا حَافِظٌ) فأنكره، وقال: سبحان الله، سبحان الله.
فتأويل الكلام إذن: إن كلّ نفس لعليها حافظ من ربها، يحفظ
عملها، ويُحصي عليها ما تكسب من خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا
عَلَيْهَا حَافِظٌ) قال: كلّ نفس عليها حفظة من الملائكة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ) : حفظة يحفظون
عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيته يا ابن آدم قُبِضت إلى ربك.
وقوله: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)
يقول تعالى ذكره: فلينظر الإنسان المكذّب بالبعث بعد الممات،
المُنكر قُدرة الله على إحيائه بعد مماته، (مِمَّ خُلِقَ)
يقول: من أيّ شيءٍ خلقه ربه، ثم أخبر جلّ ثناؤه عما خلقه منه،
فقال: (خُلِقَ
(24/353)
مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) يعني: من ماء مدفوق،
وهو مما أخرجته العرب بلفظ فاعل، وهو بمعنى المفعول، ويقال: إن
أكثر من يستعمل ذلك من أحياء العرب سكان الحجاز إذا كان في
مذهب النعت، كقولهم: هذا سرٌّ كاتم وهمٌّ ناصب، ونحو ذلك.
وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) يقول:
يخرج من بين ذلك، ومعنى الكلام: منهما، كما يقال: سيخرج من بين
هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما.
واختلف أهل التأويل في معنى الترائب وموضعها، فقال بعضهم:
الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ، قال: ثنا محمد بن ربيعة،
عن سَلَمَة بن سابور، عن عطية العَوْفِيّ، عن ابن عباس
(الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: موضع القِلادة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ) يقول: من بين ثدي المرأة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سُئل
عكرِمة عن الترائب، فقال: هذه، ووضع يده على صدره بين ثدييه.
حدثني ابن المثنى، قال: ثني سلم بن قتيبة، قال: ثني عبد الله
بن النُّعمان الحُدَانيّ، أنه سمع عكرِمة يقول: (يَخْرُجُ مِنْ
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: صُلْب الرجل، وترائب
المرأة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد
بن جبير، قال: الترائب الصدر.
قال: ثنا ابن يمان، عن مِسْعَر، عن الحكم، عن أبي عياض، قال:
(التَّرَائِبِ) : الصدر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال:
الترائب: الصدر. وهذا الصلب وأشار إلى ظهره.
(24/354)
وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين
والصدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن ثُوَير، عن
مجاهد، قال: (الترائِبِ) ما بين المنكبين والصدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (التَّرَائِبِ) قال: أسفل من التراقي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: الصُّلْب
للرجل، والترائب للمرأة، والترائب فوق الثديين.
وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ) قال: فالترائب أطراف الرجل واليدان والرجلان
والعينان، فتلك الترائب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي رَوْق، عن
الضحاك (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال:
الترائب: اليدان والرجلان.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال غيره: الترائب: ماء المرأة
وصلب الرجل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ) : عيناه ويداه ورجلاه.
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه يخرج من بين صلب الرجل ونحره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) يقول: يخرج
من بين صلب الرجل ونحره.
وقال آخرون: هي الأضلاع التي أسفل الصلب.
(24/355)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن
سعيد، في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: الأضلاع التي أسفل الصلب.
وقال آخرون: هي عصارة القلب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، أن
معمر بن أبي حَبِيبة المَدِيني حدّثه، أنه بلغه في قول الله:
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: هو
عُصَارة القلب، ومنه يكون الولد.
والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: هو موضع القِلادة
من المرأة، حيث تقع عليه من صدرها؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام
العرب، وبه جاءت أشعارهم، قال المثقَّب العبدي:
وَمِنْ ذَهَبٍ يُسَنُّ عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ العَاجِ
لَيْسَ بِذِي غُضُونِ (1)
وقال آخر:
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا شَرِقا ... بِهِ
اللَّبَّاُت والنَّحْرُ (2)
وقوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) يقول تعالى ذكره:
إن هذا الذي خلقكم أيها الناس من هذا الماء الدافق، فجعلكم
بشرًا سويًا، بعد أن كنتم ماء مدفوقًا، على رجعه لقادر.
واختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ)
على ما هي عائدةٌ، فقال بعضهم: هي عائدة على الماء. وقالوا:
معنى الكلام: إن الله على ردّ النطفة في الموضع التي خرجت منه
(لَقَادِرٌ) .
__________
(1) الأثر 170 - مضى الكلام على هذا الإسناد: 144. وأما لفظه
فلم يذكره أحد منهم.
(2) الخبر 171 - إسناده ضعيف، بيناه في: 137. وهذا الخبر والذي
بعده 172 جمعهما السيوطي 1: 14، ونسبهما أيضًا لابن أبي حاتم.
(24/356)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في
قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: إنه على رَدّه
في صُلْبه لقادر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله،
قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن عكرمة في قوله: (إِنَّهُ عَلَى
رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: لِلصُّلب.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربيّ، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى
رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: على أن يرد الماء في الإحليل.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ الوشاء، قال: ثنا أبو قَطَن
عمرو بن الهيثم، عن ورقاء، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عبد
الله بن أبي بكر، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ) قال: على ردّ النطفة في الإحليل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ)
قال: في الإحليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد
(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: ردّه في الإحليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه على ردّ الإنسان ماءً كما كان
قبل أن يخلقه منه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ)
إن شئتُ رددتُه كما خلقته من ماءٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه على حبس ذلك الماء لقادرٌ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: على رجع ذلك الماء
لقادرٌ، حتى لا يخرج، كما قدر على أن يخلق منه ما خلق قادر على
أن يرجعه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه قادر على رجع الإنسان من حال
الكبر إلى حال الصغر.
(24/357)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
مقاتل بن حيان، عن الضحاك قال: سمعته يقول في قوله: (إِنَّهُ
عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) يقول: إن شئتُ رددته من الكبر إلى
الشباب، ومن الشباب إلى الصِّبا، ومن الصبا إلى النطفة. وعلى
هذا التأويل تكون الهاء في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ) من ذكر
الإنسان.
وقال آخرون، ممن زعم أن الهاء للإنسان: معنى ذلك أنه على
إحيائه بعد مماته لقادر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) إن الله تعالى ذكره على
بعثه وإعادته قادر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: إن الله
على ردّ الإنسان المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيًّا،
كهيئته قبل مماته لقادر.
وإنما قلت: هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لقوله: (يَوْمَ
تُبْلَى السَّرَائِرُ) فكان في إتباعه قوله: (إِنَّهُ عَلَى
رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) نبأ من أنباء القيامة، دلالة على أن
السابق قبلها أيضًا منه، ومنه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)
يقول تعالى ذكره: إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يوم تُبلى
السرائر، فاليوم من صفة الرجع، لأن المعنى: إنه على رجعه يوم
تبلى السرائر لقادر.
وَعُنِي بقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)
يوم تُخْتَبَرُ سرائر العباد، فيظهر منها يومئذ ما كان في
الدنيا مستخفيًا عن أعين العباد من الفرائض التي كان الله
ألزمه إياها، وكلَّفه العمل بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن عبد الله بن صالح، عن يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن
عطاء بن أبي رباح، في قوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)
قال: ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وهو السرائر، ولو شاء أن
يقول: قد صُمْتُ، وليس بصائم، وقد صلَّيتُ، ولم يصلّ، وقد
اغتسلت، ولم يغتسل.
(24/358)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) إن هذه السرائر
مختبرة، فأسِرّوا خيرًا وأعلنوه إن استطعتم، ولا قوّة إلا
بالله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ) قال: تُخْتَبَر.
وقوله: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) يقول تعالى
ذكره: فما للإنسان الكافر يومئذ من قوّة يمتنع بها من عذاب
الله، وأليم نكاله، ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه،
وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوّةٍ من عشيرته، يمتنع بهم ممن
أراده بسوءٍ، وناصرٍ من حليفٍ ينصره على من ظلمه واضطهده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) ينصره من الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَلا نَاصِرٍ) قال: من قوّة يمتنع بها، ولا ناصر
ينصره من الله.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا ضَمْرة بن ربيعة، عن سفيان
الثوري، في قوله: (مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) قال: القوّة:
العشيرة، والناصر: الحليف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ
(11) وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
(13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) } .
يقول تعالى ذكره: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) ترْجع
بالغيوم وأرزاق العباد كلّ عام؛ ومنه قول المتنخِّل في صفة
سيف:
أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذَا ... مَا ثَاخَ فِي مُحْتَفَلٍ
يَخْتَلِي (1)
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين: 31. يصف ناقته. تباري: تجاريها
وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل.
وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير.
والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه
فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف.
(24/359)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن
عكرِمة، عن ابن عباس: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال:
السحاب فيه المطر.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن خَصِيف،
عن عكرِمة، عن ابن عباس في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ) قال: ذات السحاب فيه المطر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) يعني
بالرجع: القطر والرزق كلّ عام.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في
قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ترجع بأرزاق الناس
كلّ عام؛ قال أبو رجاء: سُئل عنها عكرِمة، فقال: رجعت بالمطر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: السحاب يمطر، ثم
يَرجع بالمطر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ترجع بأرزاق العباد كلّ
عام، لولا ذلك هلَكوا، وهلَكت مواشيهم.
(24/360)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال:
ترجع بالغيث كلّ عام.
حُدثت عن الحسين: قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ)
يعني: المطر.
وقال آخرون: يعني بذلك: أن شمسها وقمرها يغيب ويطلُع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: شمسها وقمرها ونجومها
يأتين من هاهنا.
وقوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) يقول تعالى ذكره: والأرض
ذات الصدع بالنبات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصِيف، عن
عكرِمة، عن ابن عباس (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: ذات
النبات.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) يقول:
صدعها إخراج النبات في كلّ عام.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَة، عن أبي رجاء، عن الحسن
(وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: هذه تصدع عما تحتها؛ قال أبو
رجاء: وسُئل عنها عكرِمة، فقال: هذه تصدع عن الرزق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ابن أبي نجيح، قال مجاهد:
(وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) مثل المأزم مأزم منى.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: الصدع:
مثل المأزم، غير الأودية وغير الجُرُف.
(24/361)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) تصدع عن الثمار
وعن النبات كما رأيتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: تصدع عن النبات.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) وقرأ: (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ
شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا) إلى
آخر الآية، قال: صدعها للحرث.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ)
:النبات.
وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يقول تعالى ذكره: إن هذا
القول وهذا الخبر لقول فصل: يقول: لقول يفصل بين الحقّ والباطل
ببيانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
العبارة عنه، فقال بعضهم: لقول حقّ. وقال بعضهم: لقول حكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يقول: حقّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) :أي حُكْم.
وقوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يقول: وما هو باللعب ولا
الباطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يقول: بالباطل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) قال: باللعب.
(24/362)
وقوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا)
يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله والوعد
والوعيد يمكرون مكرًا.
وقوله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا) يقول: وأمكر مكرًا؛ ومكره جلّ
ثناؤه بهم: إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به.
وقوله: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم: فمهِّل يا محمد الكافرين ولا تعجل عليهم
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) يقول: أمهلهم آنًا قليلا وأنظرهم
للموعد الذي هو وقت حلول النقمة بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) يقول: قريبًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) الرويد: القليل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) قال:
مَهِّلْهم، فلا تعجل عليهم تَرْكَهُمْ، حتى لمَّا أراد
الانتصار منهم أمره بجهادهم وقتالهم، والغلظة عليهم.
آخر تفسير سورة والسماء والطارق.
(24/363)
تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى
(24/365)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
(7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى
(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
(3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً
أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ
اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الأعْلَى) فقال بعضهم: معناه: عظم ربك الأعلى، لا ربّ أعلى منه
وأعظم، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال: سبحان ربي الأعلى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر،
عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر أنه كان يقرأ: (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأعْلَى) سبحان ربي الأعلى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)
قال: وهي في قراءة أُبيّ بن كعب كذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: سفيان، عن السدي،
عن عبد خير، قال: سمعت عليًا رضي الله عنه قرأ: (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأعْلَى) فقال: سبحان ربي الأعلى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق
الهمداني، أن ابن عباس، كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الأعْلَى) يقول: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ (لا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فأتى على آخرها (أَلَيْسَ ذَلِكَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ؟ يقول: سبحانك
اللهمّ وبَلَى.
(24/367)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) ذُكر لنا أن نبيّ
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحان ربي
الأعلَى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن داود، عن زياد
بن عبد الله، قال: سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب:
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) سبحان ربي الأعلَى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: نزه يا محمد اسم ربك الأعلى، أن تسمي
به شيئًا سواه، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من
تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزّى.
وقال غيرهم: بل معنى ذلك: نزه الله عما يقول فيه المشركون كما
قال: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقالوا: معنى
ذلك: سبح ربك الأعلى؛ قالوا: وليس الاسم معنيًا.
وقال آخرون: نزه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه أن
تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل؛ قالوا: وإنما عُنِي بالاسم:
التسمية، ولكن وُضع الاسم مكان المصدر.
وقال آخرون: معنى قوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) :
صلّ بذكر ربك يا محمد، يعني بذلك: صلّ وأنت له ذاكر، ومنه وجل
خائف.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معناه: نزه
اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان، لما ذكرت من الأخبار، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا
قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، فَبَيَّن بذلك أن معناه
كان عندهم معلوما: عظم اسم ربك ونزهه.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) يقول: الذي خلق الأشياء
فسوىّ خلقها، وعدّلها، والتسوية التعديل.
وقوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) يقول تعالى ذكره: والذي
قدّر خلقه فهدى.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُنِي بقوله: (فَهَدَى) ،
فقال بعضهم: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ، والبهائم
للمراتع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث،
(24/368)
قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قَدَّرَ فَهَدَى) قال: هدى
الإنسان للشِّقوة والسعادة، وهَدى الأنعام لمراتعها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، هدى الذكور لمأتى الإناث. وقد ذكرنا
الرواية بذلك فيما مضى.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله عمّ بقوله: (فَهَدَى)
الخبر عن هدايته خلقه، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى، وقد
هداهم لسبيل الخير والشرّ، وهدى الذكور لمأتى الإناث، فالخبر
على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة، دالّ على خصوصه.
واجتمعت قرّاء الأمصار على تشديد الدال من قدّر، غير الكسائي
فإنه خفَّفها.
والصواب في ذلك التشديد، لإجماع الحجة عليه.
وقوله: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) يقول: والذي أخرج من
الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن مكرم، قال ثنا الحفري، قال ثنا سفيان، عن
منصور، عن أبي رزين (أَخْرَجَ الْمَرْعَى) قال النبات.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ... ) الآية، نبت كما رأيتم
بين أصفر وأحمر وأبيض.
وقوله: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) يقول تعالى ذكره: فجعل
ذلك المرعى غُثاء، وهو ما جفّ من النبات ويبس، فطارت به الريح؛
وإنما عُني به هاهنا أنه جعله هشيمًا يابسًا متغيرًا إلى
الحُوَّة، وهي السواد من بعد البياض أو الخضْرة، من شدّة
اليبس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (غُثَاءً أَحْوَى) يقول: هشيمًا متغيرًا
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد،
(24/369)
قوله: (غُثَاءً أَحْوَى) قال: غثاء السيل
أحوى، قال: أسود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(غُثَاءً أَحْوَى) قال: يعود يبسًا بعد خُضرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) قال: كان بقلا ونباتًا أخضر، ثم
هاج فيبُس، فصار غُثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول. وكان بعض
أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخَّر الذي معناه
التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى: أي أخضر
إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك، ويعتلّ لقوله ذلك بقول ذي
الرُّمة:
حَوَّاءُ قَرْحاءُ أشْراطِيَّةٌ وَكَفَتْ ... فِيهَا
الذِّهَابُ وَحَفَّتْهَا الْبَرَاعِيمُ (1)
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدّت خضرته من
النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل
التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم
والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه، أو
تأخيره، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال
لمعناه بالتقديم والتأخير.
وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ)
يقول تعالى ذكره: سنقرئك
__________
(1) في المخطوطة: "الموطن"، وهو قريب المعنى.
(24/370)
يا محمد هذا القرآن فلا تنساه، إلا ما شاء
الله.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (فَلا تَنْسَى إِلا مَا
شَاءَ اللَّهُ) فقال بعضهم: هذا إخبار من الله نبيه عليه
الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه، ونهي منه أن
يعجل بقراءته كما قال جلّ ثناؤه: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) قال: كان
يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فقال قائلو هذه المقالة:
معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان، ومعنى الكلام: فلا
تنسى، إلا ما شاء الله أن تنساه، ولا تذكُرَه، قالوا: ذلك هو
ما نسخه الله من القرآن، فرفع حكمه وتلاوته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى
شيئًا (إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) .
وقال آخرون: معنى النسيان في هذا الموضع: الترك؛ وقالوا: معنى
الكلام: سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء
الله أن تترك العمل به، مما ننسخه.
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: لم يشأ الله أن تنسى شيئًا،
وهو كقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء. قال: وأنت قائل
في الكلام: لأعطينك كلّ ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن
أمنعك، والنية أن لا تمنعه، ولا تشاء شيئًا. قال: وعلى هذا
مجاري الأيمان، يستثنى فيها، ونية الحالف: اللمام.
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: فلا
تنسى إلا أن نشاء نحن أن نُنسيكه بنسخه ورفعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك أظهر معانيه.
وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) يقول تعالى
ذكره: إن الله يعلم الجهر
(24/371)
وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا
يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
يا محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته (وَمَا
يَخْفَى) يقول: وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته، يقول: هو
يعلم جميع أعمالك سرّها وعلانيتها؛ يقول: فاحذره أن يطلع عليك
وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا
يَحْيَا (13) } .
يقول تعالى ذكره: ونسهلك يا محمد لعمل الخير وهو اليُسرَى،
واليُسرَى: هو الفُعلى من اليسر.
وقوله: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يقول تعالى ذكره:
فذكِّر عباد الله يا محمد عظمته، وعِظْهم، وحذّرهم عقوبته
(إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يقول: إن نفعت الذكرى الذين قد
آيستُك من إيمانهم، فلا تنفعهم الذكرى. وقوله: (فَذَكِّرْ) أمر
من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير جميع الناس، ثم قال:
إن نفعت الذكرى هؤلاء الذين قد آيستك من إيمانهم.
وقوله: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) يقول جلّ ثناؤه:
سَيَذَّكَّرُ يا محمد إذا ذكرت الذين أمرتك بتذكيرهم من يخشى
الله، ويخاف عقابه (وَيَتَجَنَّبُهَا) يقول: ويتجنَّب الذكرى
(الأشْقَى) يعني: أشقى الفريقين (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى) وهم الذين لم تنفعهم الذكرى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشَى) فاتقوا الله، ما خشي الله عبد قطّ إلا ذكره
(وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى) فلا والله لا يتنكَّب عبد هذا
الذكر زهدًا فيه وبُغضًا لأهله، إلا شَقِيٌّ بَيِّن الشقاء.
وقوله: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) يقول: الذي
يَرِد نار جهنم، وهي النار
(24/372)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
الكبرى، ويعني بالكبرى لشدّة الحرّ والألم.
وقوله: (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا) يقول: ثم لا
يموت في النار الكبرى ولا يحيا، وذلك أن نفس أحدهم تصير فيها
في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من
الجسم فيحيا. وقيل: لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة
تنفعه.
وقال آخرون: قيل ذلك؛ لأن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في
شدة شديدة، قالوا: لا هو حيّ، ولا هو ميت، فخاطبهم الله بالذي
جرى به ذلك من كلامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) } .
(24/373)
بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
(17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى (18)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } .
يقول تعالى ذكره: قد نجح وأدرك طلبته من تطهَّر من الكفر
ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدّى فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) يقول: مَنْ
تَزَكَّى من الشرك.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري،
قال: ثنا هشام، عن الحسن، في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) قال: من كان عمله زاكيًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: يعمل وَرِعًا.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عُمر
العَدَنيّ، عن الحكم، عن عكرِمة، في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) من قال: لا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قد أفلح من أدّى زكاة ماله.
(24/373)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عليّ بن الأقمر،
عن أبي الأحوص (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: من استطاع
أن يرضَخَ فليفعل، ثم ليقم فليصلّ.
حدثنا محمد بن عمارة الرازي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا
سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) قال: من رَضَخَ (1) .
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عثمان بن سعيد بن مرَّة، قال:
ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: إذا أتى أحدكم
سائل وهو يريد الصلاة، فليقدّم بين يدي صلاته زكاته، فإن الله
يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى) فمن استطاع أن يقدّم بين يدي صلاته زكاةً فليفعل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) تزكى رجل من ماله، وأرضى خالقه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك زكاة الفطر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان بن معاوية،
عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: إذا غَدَوت
غدًا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئا؟
قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال:
فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك
لهذا، ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال: إن أهل المدينة لا يَرَونَ صدقة أفضل
منها ومن سِقَاية الماء.
وقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) اختلف أهل التأويل
في تأويل قوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فقال بعضهم:
معنى ذلك: وحَّد الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) يقول: وحَّد الله
سبحانه وتعالى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وذكر الله ودعاه ورغب إليه.
__________
(1) الخبر 172 - هو بالإسناد الضعيف قبله. وأشرنا إليه هناك.
(24/374)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: وذكر
الله فوحَّده، ودعاه ورغب إليه؛ لأن كلّ ذلك من ذكر الله، ولم
يُخصص الله تعالى من ذكره نوعًا دون نوع.
وقوله: (فَصَلَّى) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال
بعضهم: عُنِي به: فصلى الصلوات الخمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَصَلَّى) يقول: صلَّى الصلوات الخمس.
وقال آخرون: عُنِيَ به: صلاة العيد يوم الفطر.
وقال آخرون: بل عُنِيَ به: وذكر اسم ربه فدعا، وقالوا: الصلاة
هاهنا: الدعاء.
والصواب من القول أن يقال: عُنِيَ بقوله: (فَصَلَّى) :
الصلوات، وذكر الله فيها بالتحميد والتمجيد والدعاء.
وقوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
يقول للناس: بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على
الآخرة (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ) لكم (وَأَبْقَى) يقول: وزينة
الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى، لأن الحياة الدنيا فانية،
والآخرة باقية، لا تنفَدُ ولا تفنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فاختار الناس العاجلة إلا
من عصم الله. وقوله: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ) في الخير
(وَأَبْقَى) في البقاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن
عطاء، عن عَرْفَجَة الثقفي، قال: استقرأت ابن مسعود (سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) ، فلما بلغ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ترك القراءة وأقبل على أصحابه، وقال:
آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا؛
لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُوِيت عنا
الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الأمصار: (بَلْ
تُؤْثِرُونَ) بالتاء، إلا أبا عمرو فإنه قرأه بالياء، وقال:
يعني الأشقياء.
(24/375)
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء،
لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وذُكر أن ذلك في قراءة أُبي:
(بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ) فذلك أيضًا شاهد لصحة القراءة
بالتاء.
وقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) اختلف أهل
التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا، فقال بعضهم: أُشير به
إلى الآيات التي في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى) يقول: الآيات التي في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الأعْلَى) .
وقال آخرون: قصة هذه السورة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن
أبي العالية (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) قال: قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن هذا الذي قصّ الله تعالى في هذه
السورة (لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) قال: إن هذا
الذي قصّ الله في هذه السورة، لفي الصحف الأولى (صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) .
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أن قوله: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى) في الصحف الأولى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) قال: تتابعت كتب الله
كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى) قال: في الصحف التي أنزلها الله
(24/376)
على إبراهيم وموسى أن الآخرة خير من
الأولى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن قوله: (قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم خليل الرحمن، وصحف
موسى بن عمران.
وإنما قلت: ذلك أولى بالصحة من غيره؛ لأن هذا إشارة إلى حاضر،
فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها أولى من أن يكون إشارة إلى
غيره. وأما الصحف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِي بها: كتب
إبراهيم وموسى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي
الخلد، قال: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت
التوراة لستّ ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة
ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين.
آخر تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى
(24/377)
تفسير سورة الغاشية
(24/379)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ
(6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ
(6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (هَلْ
أَتَاكَ) يا محمد (حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) يعني: قصتها وخبرها.
واختلف أهل التأويل في معنى الغاشية، فقال بعضهم: هي القيامة
تغشي الناس بالأهوال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (الْغَاشِيَةِ) من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله،
وحذّره عباده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: الغاشية: الساعة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ) قال: الساعة.
وقال آخرون: بل الغاشية: النار تغشَى وجوه الكَفَرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن سعيد، في
قوله:
(24/381)
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال:
غاشية النار.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله قال لنبيه صلى الله
عليه وسلم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) لم يخبرنا أنه
عنى غاشية القيامة، ولا أنه عنى غاشية النار. وكلتاهما غاشية،
هذه تغشى الناس بالبلاء والأهوال والكروب، وهذه تغشي الكفار
باللفح في الوجوه، والشُّواظ والنحاس، فلا قول في ذلك أصحّ من
أن يقال كما قال جلّ ثناؤه، ويعمّ الخبر بذلك كما عمه.
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: وجوه
يومئذ، وهي وجوه أهل الكفر به
خاشعة، يقول: ذليلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) : أي ذليلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (خَاشِعَةٌ) قال: خاشعة في النار.
وقوله: (عَامِلَةٌ) يعني: عاملة في النار. وقوله: (ناصِبَةٌ)
يقول: ناصبة فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) فإنها تعمل
وَتَنْصَب من النار.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت
الحسن، قرأ: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: لم تعمل لله في
الدنيا، فأعملها في النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ) تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في
النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: عاملة ناصبة في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: لا أحد أنصَبُ ولا أشدّ من أهل
النار.
(24/382)
وقوله: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) يقول
تعالى ذكره: ترد هذه الوجوه نارًا حامية قد حميت واشتد حرها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة
(تَصْلَى) بفتح التاء، بمعنى: تصلى الوجوه. وقرأ ذلك أبو عمرو
(تُصْلَى) بضم التاء اعتبارًا بقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ) ، والقول في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) يقول: تسقى أصحاب هذه
الوجوه من شَرَاب عين قد أنى حرّها، فبلغ غايته في شدة الحرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)
قال: هي التي قد أطال أنينها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في
قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: أنَى طبخها منذ يوم
خلق الله الدنيا.
حدثني به يعقوب مرّة أخرى، فقال: منذ يوم خلق الله السموات
والأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: قد
بلغت إناها، وحان شربها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) يقول: قد أنَى طبخها منذ خلق
الله السموات والأرض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن،
في قوله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: من عين أنَى حرّها: يقول:
قد بلغ حرّها.
وقال بعضهم: عُنِيَ بقوله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) من عين
حاضرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: آنية: حاضرة.
(24/383)
وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ
ضَرِيعٍ) يقول: ليس لهؤلاء الذين هم أصحاب الخاشعة العاملة
الناصبة يوم القيامة طعام، إلا ما يطعمونه من ضَرِيع. والضريع
عند العرب: نبت يُقال له الشِّبْرِق، وتسميه أهل الحجاز
الضَّريع إذا يبس، ويسميه غيرهم: الشِّبْرق، وهو سمّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ
ضَرِيعٍ) قال: الضريع: الشِّبْرق.
حدثني محمد بن عُبيد المحاربيّ، قال: ثنا عباد بن يعقوب
الأسديّ، قال محمد: ثنا، وقال عباد: أخبرنا محمد بن سليمان، عن
عبد الرحمن الأصبهانيّ، عن عكرِمة في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ
طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الشِّبرق.
حدثني يعقوب، قال: ثنا إسماعيل بن عُلَية، عن أبي رجاء، قال:
ثني نجدة، رجل من عبد القيس عن عكرمة، في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ
طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: هي شجرة ذات شوك، لاطئة
بالأرض، فإذا كان الربيع سمَّتها قريش الشِّبرق، فإذا هاج
العود سمتها الضَّريع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث،
عن مجاهد (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال:
الشبرق.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مِهران، عن سفيان، عن ليث، عن
مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ضَرِيعٍ) قال: الشِّبرق اليابس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: هو الشبرق إذا يبس يسمى الضريع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) يقول: من شرّ
الطعام، وأبشعه وأخبثه.
حدثني محمد بن عبيد، قال: ثنا شريك بن عبد الله، في قوله:
(لَيْسَ لَهُمْ
(24/384)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ
عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا
عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الشبرق.
وقال آخرون: الضَّرِيع: الحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن جعفر، عن سعيد، في
قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال:
الحجارة.
وقال آخرون: الضَّرِيع: شجر من نار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ)
يقول: شجر من نار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الضريع:
الشَّوك من النار. قال: وأما في الدنيا فإنَّ الضريع: الشوك
اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة
شوك من نار
وقوله: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) يقول: لا يُسمن
هذا الضريع يوم القيامة أكلته من أهل النار، (ولا يُغني من
جوع) يقول: ولا يُشْبعهم من جوع يصيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا
تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) }
.
يقول تعالى ذكره: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني: يوم القيامة
(نَاعِمَةٌ) يقول: هي ناعمة بتنعيم الله أهلها في جناته، وهم
أهل الإيمان بالله.
وقوله: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) يقول: لعملها الذي عملت في
الدنيا من طاعة ربها راضية، وقيل: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)
والمعنى: لثواب سعيها في الآخرة راضية.
(24/385)
وقوله: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) وهي بستان،
عالية يعني: رفيعة.
وقوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) يقول: لا تسمع هذه
الوجوه - المعنى: لأهلها فيها في الجنة العالية - لاغية. يعني
باللاغية: كلمة لغو واللَّغو: الباطل، فقيل للكلمة التي هي لغو
لاغية، كما قيل لصاحب الدرع: دارع، ولصاحب الفرس: فارس، ولقائل
الشعر شاعر، وكما قال الحُطيئة:
أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّ ... كَ لابِنٌ بِالصَّيْفِ
تَامِرْ (1)
يعني: صاحب لبن، وصاحب تمر. وزعم بعض الكوفيين أن معنى ذلك: لا
تسمع فيها حالفة على الكذب ولذلك قيل: لاغية؛ ولهذا الذي قاله
مذهب ووجه، لولا أن أهل التأويل من الصحابة والتابعين على
خلافه، وغير جائز لأحد خلافهم فيما كانوا عليه مجمعين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً)
يقول: لا تسمع أذًى ولا باطلا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) قال:
شتمًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا
تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) : لا تسمع فيها باطلا ولا شاتمًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن
قتادة، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض
قرّاء المدينة وهو أبو جعفر (لا تَسْمَعُ) بفتح التاء، بمعنى:
لا تسمع الوجوه. وقرأ ذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو (لا
تُسْمَعُ) بضم التاء، بمعنى ما لم يسمّ فاعله ويؤنَّث تسمع
لتأنيث لاغية. وقرأ ابن محيصن بالضم أيضًا، غير أنه كان يقرؤها
بالياء على وجه التذكير.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن كلّ ذلك قراءات معروفات
صحيحات
__________
(1) في المطبوعة: "حكم الله وأمره عبده"، وفي المخطوطة: "حكم
الله امره" بغير واو. والذي أثبتناه أصوب. والحكم: الحكمة، كما
مر مرارًا
(24/386)
المعاني، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) يقول: في الجنة العالية عين
جارية في غير أخدود.
وقوله: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) والسرر: جمع سرير، مرفوعة
ليرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما خوّله ربه من النعيم والملك
فيها، ويلحق جميع ذلك بصره.
وقيل: عُنِي بقول مرفوعة: موضونة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) يعني:
موضونة، كقوله: سُرر مصفوفة، بعضها فوق بعض.
وقوله: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) وهي جمع كوب، وهي الأباريق
التي لا آذان لها. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى، وذكرنا ما فيه من
الرواية بما أغنى عن إعادته.
وَعُنِي بقوله: (مَوْضُوعَةٌ) : أنها موضوعة على حافة العين
الجارية، كلما أرادوا الشرب وجدوها ملأى من الشراب.
وقوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يعني بالنمارق: الوسائد
والمرافق؛ والنمارق: واحدها نُمْرُقة، بضم النون. وقد حُكي عن
بعض كلب سماعًا نِمْرِقة، بكسر النون والراء. وقيل: مصفوفة؛
لأن بعضها بجنب بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يقول: المرافق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يعني
بالنمارق: المجالس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) والنمارق: الوسائد.
وقوله: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) يقول تعالى ذكره: وفيها
طنافس وبُسُط كثيرة مبثوثة مفروشة، والواحدة: زِرْبية، وهي
الطِّنفسة التي لها خمل رقيق.
(24/387)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ
كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن سفيان،
قال: ثنا توبة العنبريّ، عن عكرِمة بن خالد، عن عبد الله بن
عمار، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي على عبقريّ،
وهو الزرابيّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : المبسوطة.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ (20) } .
يقول تعالى ذكره لمُنكري قدرته على ما وصف في هذه السورة من
العقاب والنكال الذي أعدّه لأهل عداوته، والنعيم والكرامة التي
أعدّها لأهل ولايته: أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على
هذه الأمور، إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم وذَلَّلها وجعلها
تحمل حملها باركة، ثم تنهض به، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن
يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار، يقول جلّ ثناؤه:
أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القُدرة التي
قدر بها على خلقها، لن يُعجزه خلق ما شابهها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما
نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله:
(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فكانت
الإبل من عيش العرب ومن خوَلهم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
أبي إسحاق عمن سمع شريحا يقول: اخرجوا بنا ننظر إلى الإبل كيف
خُلقت.
وقوله: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) يقول جلّ ثناؤه:
أفلا ينظرون أيضا إلى
(24/388)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ
الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
السماء كيف رفعها الذي أخبركم أنه معِدّ
لأوليائه ما وصف، ولأعدائه ما ذكر، فيعلموا أن قُدرته القدرة
التي لا يُعجزه فعل شيء أراد فعله.
وقوله: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)
يقول: وإلى الجبال كيف أقيمت منتصبة لا تسقط، فتنبسط في الأرض،
ولكنها جعلها بقدرته منتصبة جامدة، لا تبرح مكانها، ولا تزول
عن موضعها.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) تصاعد إلى الجبل
الصَّيخود عامة يومك، فإذا أفضيت إلى أعلاه، أفضيت إلى عيون
متفجرة، وثمار متهدلة ثم لم تحرثه الأيدي ولم تعمله، نعمة من
الله، وبُلغة الأجل.
وقوله: (وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) يقول: وإلى الأرض
كيف بُسطت، يقال: جبل مُسَطَّح: إذا كان في أعلاه استواء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِلَى
الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : أي بُسطت، يقول: أليس الذي خلق هذا
بقادر على أن يخلق ما أراد في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ
مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلا مَنْ
تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ
الأكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَذَكِّرْ)
يا محمد عبادي بآياتي، وعظهم بحججي وبلِّغهم رسالتي (إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ) يقول: إنما أرسلتك إليهم مذكرا لتذكرهم
نعمتي عندهم، وتعرّفهم اللازم لهم، وتعظهم.
وقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) يقول: لست عليهم
بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد. يقول: كِلهم إليّ،
ودعهم وحكمي فيهم؛ يقال: قد
(24/389)
تسيطر فلان على قومه: إذا تسلط عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) يقول: لست
عليهم بجبار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) : أي كِلْ إليّ عبادي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِمُسَيْطِرٍ) قال: جبار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)
قال: لست عليهم بمسلط أن تكرههم على الإيمان، قال: ثم جاء بعد
هذا: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ) وقال (اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) وارصدوهم
لا يخْرُجُوا فِي البِلاد (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال: فنسخت (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ) قال: جاء اقتله أو يُسْلِم؛ قال: والتذكرة كما
هي لم تنسخ وقرأ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي
الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا:
لا إلَهَ إلا اللهُ، فإذَا قالُوا: لا إلَهَ إلا اللهُ،
عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّها،
وحِسابُهُمْ على اللهِ" ثم قرأ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي الزبير محمد
بن مسلم، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: سمعت النبيّ صلى
الله عليه وسلم يقول، فذكر مثله، إلا أنه قال: قال أبو
الزّبير: ثم قرأ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) .
حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي
الزّبير،
(24/390)
عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
مثله.
وقوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) يتوجَّه لوجهين: أحدهما:
فذكر قومك يا محمد، إلا من تولى منهم عنك، وأعرض عن آيات الله
فكفر، فيكون قوله "إلا" استثناء من الذين كان التذكير عليهم،
وإن لم يذكروا، كما يقال: مضى فلان، فدعا إلا من لا تُرْجَى
إجابته، بمعنى: فدعا الناس إلا من لا ترجى إجابته. والوجه
الثاني: أن يجعل قوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) منقطعا
عما قبله، فيكون معنى الكلام حينئذ لست عليهم بمسيطر، إلا من
تولى وكفر، يعذّبه الله، وكذلك الاستثناء المنقطع يمتحن بأن
يحسن معه إنّ، فإذا حسنت معه كان منقطعا، وإذا لم تحسن كان
استثناء متصلا صحيحا، كقول القائل: سار القوم إلا زيدا، ولا
يصلح دخول إن هاهنا لأنه استثناء صحيح.
وقوله: (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ) : هو
عذاب جهنم، يقول: فيعذبه الله العذاب الأكبر على كفره في
الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة.
وقوله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) يقول: إن إلينا رجوع من
كفر ومعادهم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) يقول: ثم إن
على الله حسابه، وهو يجازيه بما سلف منه من معصية ربه،
يُعْلِمُ بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه المتولي
عقوبته دونه، وهو المجازي والمعاقب، وأنه الذي إليه التذكير
وتبليغ الرسالة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قال:
حسابه على الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)
يقول: إن إلى الله الإياب وعليه الحساب.
آخر تفسير سورة الغاشية
(24/391)
تفسير سورة الفجر
(24/393)
وَالْفَجْرِ (1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ
(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي
(4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) } .
هذا قسم، أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفجر، وهو فجر الصبح.
واختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بذلك، فقال بعضهم: عُنِي به
النهار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ
المِنقريّ، عن خليفة بن الحصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس،
قوله: (وَالْفَجْرِ) قال: النهار.
وقال آخرون: عُنِيَ به صلاة الصبح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْفَجْرِ) يعني: صلاة الفجر.
وقال آخرون: هو فجر الصبح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول،
عن عكرِمة، في قوله: (وَالْفَجْرِ) قول: الفجر: فجر الصبح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن
محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير أنه قال:
(وَالْفَجْرِ) قال: الفجر: قسم أقسم الله به.
وقوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) اختلف أهل التأويل في هذه الليالي
العشر أيّ ليال هي،
(24/395)
فقال بعضهم: هي ليالي عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب ومحمد بن
جعفر، عن عوف، عن زرارة، عن ابن عباس، قال: إن الليالي العشر
التي أقسم الله بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) : عشر الأضحى؛ قال:
ويقال: العشر: أولَ السنة من المحرم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن
محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
أوّل ذي الحجة إلى يوم النحر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عوف، قال: ثنا
زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: إن الليالي العشر اللاتي
أقسم الله بهنّ: هن الليالي الأوَل من ذي الحجة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن
أبي إسحاق، عن مسروق (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي الحجة،
وهي التي وعد الله موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول،
عن عكرِمة (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ
المنقريّ، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر الأضحى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي
الحجة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَيَالٍ
عَشْرٍ) قال: كنا نحدَّث أنها عشر الأضحى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثَور، عن معمر، عن يزيد بن
أبي زياد، عن مجاهد، قال: ليس عمل في ليال من ليالي السنة أفضل
منه في ليالي العشر، وهي
(24/396)
عشر موسى التي أتمَّها الله له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبى
إسحاق، عن مسروق، قال: ليال العشر، قال: هي أفضل أيام السنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) يعني: عشر
الأضحى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: أوّل ذي الحجة؛ وقال: هي عشر المحرّم
من أوّله.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة
من أهل التأويل عليه، وأن عبد الله بن أبي زياد القَطْوانيّ،
حدثني قال: ثني زيد بن حباب، قال: أخبرني عياش بن عقبة، قال:
ثني جُبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال:
عَشْرُ الأضْحَى".
وقوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ) اختلف أهل التأويل في الذي عُنِيَ به
من الوتر بقوله: (والْوَتْرِ) فقال بعضهم: الشفع: يوم النحر،
والوتر: يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ وعبد الوهاب ومحمد بن
جعفر، عن عوف، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عباس، قال: الوتر: يوم
عرفة، والشفع: يوم الذبح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عوف، قال: ثنا
زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: الشفع: يوم النحر، والوَتر:
يوم عرفة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، عن
قتادة، قال: قال عكرِمة، عن ابن عباس: الشفع: يوم النحر،
والوَتر: يوم عرفة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله،
عن عكرِمة (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: يوم النحر،
والوتر: يوم عرفة.
وحدثنا به مرّة أخرى، فقال: الشفع: أيام النحر، وسائر الحديث
مثله.
حدثني يعقوب: قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول،
عن عكرِمة في قوله: (والشَّفْعِ) قال: يوم النحر (والْوَتْرِ)
قال: يوم عرفة.
(24/397)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن
سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة، قال: الشفع: يوم النحر، والوتر:
يوم عرفة.
قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن الضحاك (وَلَيَالٍ عَشْرٍ
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: أقسم الله بهنّ لما يعلم من
فضلهنّ على سائر الأيام، وخير هذين اليومين لما يُعلَم من
فضلهما على سائر هذه الليالي (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال:
الشفع: يوم النحر، والوَتر: يوم عرفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان
عكرِمة يقول: الشفع: يوم الأضحى، والوتر: يوم عرفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: قال عكرِمة: عرفة وَتْر، والنحر شفع، عرفة يوم التاسع،
والنحر يوم العاشر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (والشَّفْعِ) يوم النحر
(والْوَتْرِ) يوم عرفة.
وقال آخرون: الشفع: اليومان بعد يوم النحر، والوَتر: اليوم
الثالث.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: في قوله:
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: يومان بعد يوم النحر،
والوتر: يوم النَّفْر الآخرِ، يقول الله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ
فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) .
وقال آخرون: الشفع: الخلق كله، والوتر: الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الله
وتر، وأنتم شفع، ويقال: الشفع: صلاة الغداة، والوتر صلاة
المغرب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: كلّ خلق الله
شفع، السماء والأرض والبرّ والبحر والجنّ والإنس والشمس
والقمر، والله الوَتر وحده.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا ابن جُريج،
قال: قال
(24/398)
مجاهد، في قوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) قال: الكفر والإيمان، والسعادة
والشقاوة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض،
والجنّ والإنس، والوَتْر: الله؛ قال: وقال في الشفع والوتر مثل
ذلك.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا
إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) قال: خلق الله من كل شيء زوجين، والله وَتْر واحد
صَمَد.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)
قال: الشفع: الزوج، والوتر: الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الوتر: الله، وما خلق الله من
شيء فهو شفع.
وقال آخرون: عُنِيَ بذلك الخلق، وذلك أن الخلق كله شفع ووتر.
قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في
قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الخلق كله شفع ووتر،
وأقسم بالخلق.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن في ذلك: الخلق كله
شفع (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: كان أبي يقول: كلّ شيء خلق
الله شفع ووتر، فأقسم بما خلق، وأقسم بما تبصرون وبما لا
تبصرون.
وقال آخرون: بل ذلك: الصلاة المكتوبة، منها الشفع كصلاة الفجر
والظهر، ومنها الوتر كصلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: كان
عمران بن حصين يقول: (الشَّفْعِ والْوَتْرِ) : الصلاة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال عمران: هي الصلاة
المكتوبة فيها الشفع والوتر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: ذلك صلاة المغرب، الشفع:
الركعتان، والوتر: الركعة الثالثة، وقد رفع حديث عمران بن حصين
بعضهم.
(24/399)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثني أبي، قال: ثني خالد بن قيس، عن
قتادة، عن عمران بن عصام، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم - في الشفع والوتر - قال: "هيَ الصَّلاةُ
مِنْها شَفْعٌ، وَمِنْها وَتْرٌ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم قال: ثنا همام، عن
قتادة، أنه سُئل عن الشفع والوتر، فقال: أخبرني عمران بن عصام
الضُّبعي، عن شيخ من أهل البصرة، عن عمران بن حصين، عن النبيّ
صلى الله عليه وسلم، قال: "هيَ الصَّلاةُ مِنْها شَفْعٌ،
وَمنها وَتْرٌ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
همام بن يحيى، عن عمران بن عصام، عن شيخ من أهل البصرة، عن
عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه
الآية (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: "هيَ الصَّلاةُ مِنْها
شَفْعٌ، وَمِنْها وَتْرٌ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) إن من الصلاة شفعا، وإن منها وترا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، عن
قتادة، أنه سُئل عن الشفع والوتر، فقال: قال الحسن: هو العدد.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا
عن أبي الزُّبير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطْوَانيّ، قال: ثنا زيد بن
حُباب، قال: أخبرني عَياش بن عقبة، قال: ثني جبير بن نعيم، عن
أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الشَّفْع: الْيَوْمَانِ وَالْوَتْرُ: الْيَوْمُ الْوَاحِدُ".
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم
بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر دون نوع
بخبر ولا عقل، وكلّ شفع ووتر فهو مما أقسم به مما قال أهل
التأويل إنه داخل في قسمه هذا لعموم قسَمه بذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَالْوَتْرِ) فقرأته عامة
قرّاء المدينة ومكة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة بكسر الواو.
(24/400)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان
مستفيضتان معروفتان في قَرَأةِ الأمصار، ولغتان مشهورتان في
العرب، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) يقول: والليل إذا سار فذهب،
يقال منه: سرى فلان ليلا يَسْرِي: إذا سار.
وقال بعضهم: عُنِيَ بقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) ليلة
جَمْع، وهي ليلة المزدلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن
محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير (وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ) حتى يُذهِب بعضه بعضا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) يقول: إذا
ذهب.
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
أخبرنا إسرائيل، عن أبى يحيى، عن مجاهد: (وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْر) قال: إذا سار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن
أبي العاليه (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: والليل إذا سار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) يقول: إذا سار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: إذا سار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: الليل إذا يسير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: ليلة جمع.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الشام
والعراق (يَسْرِ) بغير ياء. وقرأ ذلك جماعة من القرّاء بإثبات
الياء، وحذف الياء في ذلك أعجب إلينا، ليوفق بين رءوس الآي إذ
كانت بالراء. والعرب ربما أسقطت الياء في موضع الرفع
(24/401)
مثل هذا، اكتفاء بكسرة ما قبلها منها، من
ذلك قول الشاعر:
لَيْسَ تخْفى يَسارَتِي قَدْرَ يَوْمٍ ... وَلَقَدْ تُخْفِ
شِيمَتِي إعْسَارِي (1)
وقوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) يقول تعالى
ذكره: هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر، وإنما
عُنِيَ بذلك: إن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه مما هو
أغلظ منه في الإقسام. فأما معنى قوله: (لِذِي حِجْرٍ) : فإنه
لِذِي حِجًي وذِي عقل؛ يقال للرجل إذا كان مالكا نفسه قاهرًا
لها ضابطا: إنه لذو حِجْر، ومنه قولهم: حَجَر الحاكم على فلان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال:
أخبرنا قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله:
(لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي النُّهَى والعقل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (لِذِي حِجْرٍ) قال: لأولي النُّهى.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)
قال: ذو الحِجْر والنُّهى والعقل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قابوس بن أبي
ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي
عقل، لذي نُهَي.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ المِنقريّ، عن خليفة بن
الحصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال:
لذي لُبّ، لذي حِجَى.
__________
(1) أهل القدر: هم نفاة القدر لا مثبتوه. والقائلون بالتفويض
هم القدرية والمعتزلة والإمامية. يزعمون أن الأمر فوض إلى
الإنسان (أي رد إليه) ، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان
أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده.
(24/402)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (هَلْ فِي
ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: لذي عقل، لذي رأي.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي
حِجْرٍ) قال: لذي لبّ، أو نُهى.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن هلال بن خباب،
عن مجاهد، في قوله: (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي حلم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي حجى؛ وقال الحسن: لذي لُبّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) لذي حِجى، لذي عقل
ولُبّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل، وقرأ:
(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) و (لأولِي الألْبابِ) وهم الذين عاتبهم
الله وقال: العقل واللُّبّ واحد، إلا أنه يفترق في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ
جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي
الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) } .
وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا
محمد بعين قلبك، فترى كيف فعل ربك بعاد؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إرَمَ) فقال بعضهم: هي اسم
بلدة، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك،
فقال بعضهم: عُنِيت به الإسكندرية.
(24/403)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يعقوب بن عبد
الرحمن الزهريّ، عن أبي صخر، عن القُرَظي، أنه سمعه يقول:
(إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) الإسكندرية.
قال أبو جعفر، وقال آخرون: هي دِمَشق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي من أهل البصرة، قال: ثنا عبيد
الله بن عبد المجيد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقْبري
(بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: دمشق.
وقال آخرون: عُنِي بقوله: (إرَمَ) : أمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قوله: (إرَمَ) قال: أمة.
وقال آخرون: معنى ذلك: القديمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (إرَمَ) قال: القديمة.
وقال آخرون: تلك قبيلة من عاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ) قال: كنا نحدّث أن إرم قبيلة من عاد، بيت مملكة
عاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (إرَمَ) قال: قبيلة من عاد كان يقال لهم: إرم، جدّ
عاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يقول الله: بعاد إرم،
إن عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
وقال آخرون: (إرَمَ) : الهالك.
(24/404)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ إِرَمَ) يعني بالإرم: الهالك؛ ألا ترى أنك تقول: أرم
بنو فلان؟
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِعَادٍ إِرَمَ) الهلاك؛ ألا ترى
أنك تقول أُرِمَ (1) بنو فلان: أي هَلَكوا.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن إرم إما بلدة كانت عاد
تسكنها، فلذلك ردّت على عاد للإتباع لها، ولم يجر من أجل ذلك،
وإما اسم قبيلة فلم يُجر أيضا، كما لا يُجْرى أسماء القبائل،
كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وأما اسم عاد
فلم يجر، إذ كان اسما أعجميا.
فأما ما ذُكر عن مجاهد أنه قال: عُنِيَ بذلك القديمة، فقول لا
معنى له، لأن ذلك لو كان معناه لكان محفوظا بالتنوين، وفي ترك
الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة.
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك
جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها، كما يقال:
ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل؟ فيترك إجراء نهشل، وهي قبيلة،
فترك إجراؤها لذلك، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم، ولو كانت
إرم اسم بلدة، أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد
إليها، كما يقال: هذا عمروُ زبيدٍ وحاتمُ طيئ، وأعشى هَمْدانَ،
ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى، كما قال قتادة، والله أعلم،
فلذلك أجمعت القرّاء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء.
وقوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله:
(ذَاتِ الْعِمَادِ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: ذات
الطول، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل: رجل
مُعَمَّد، وقالوا: كانوا طوال الأجسام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
__________
(1) ديوانه 1: 71.
(24/405)
عن أبيه، عن ابن عباس (ذَاتِ الْعِمَادِ)
يعني: طولهم مثل العماد.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) قال:
كان لهم جسم في السماء.
وقال بعضهم: بل قيل لهم: (ذَاتِ الْعِمَادِ) لأنهم كانوا أهل
عَمَد، ينتجِعون الغيوث، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم
يرجعون إلى منازلهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْعِمَادِ) قال: أهل عَمُود لا
يقيمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذَاتِ
الْعِمَادِ) قال: ذُكر لنا أنهم كانوا أهل عَمُود لا يقيمون،
سيارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: كانوا أهلَ عمود.
وقال آخرون: بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم، فشيَّد عَمَده،
ورفع بناءه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: عاد قوم هود بنَوها وعملوها
حين كانوا في الأحقاف، قال: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) مثل تلك
الأعمال في البلاد، قال: وكذلك في الأحقاف في حضرموت، ثم كانت
عاد، قال: وثم أحقاف الرمل، كما قال الله: بالأحقاف من الرمل،
رمال أمثال الجبال تكون مظلة مجوّفة.
وقال آخرون: قيل ذلك لهم لشدّة أبدانهم وقواهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) يعني: الشدّة
والقوّة.
وأشبه الأقوال في ذلك بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال:
عُنِيَ بذلك أنهم كانوا أهل عمود، سيارة لأن المعروف في كلام
العرب من العماد، ما عمل
(24/406)
به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل
عليها البناء، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح، بل
وجه أهل التأويل قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) إلى أنه عُنِيَ به
طول أجسامهم، وبعضهم إلى أنه عُنِيَ به عماد خيامهم، فأما عماد
البنيان، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه، وتأويل
القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ما وجد إلى ذلك
سبيلا دون الأنكر.
وقوله: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) يقول
جلّ ثناؤه: ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم التي لم يخلق مثلها
في البلاد، يعني: مثل عاد، والهاء عائدة على عاد. وجائز أن
تكون عائدة على إرم لما قد بينا قبل أنها قبيلة. وإنما عُنِيَ
بقوله: لم يُخْلق مثلها في العِظَم والبطش والأيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) ذكر أنهم
كانوا اثني عشر ذراعا طولا في السماء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في
البلاد، لم يخلق مثل الأعمدة في البلاد، وقالوا: التي لم يخلق
مثلها من صفة ذات العماد، والهاء التي في مثلها إنما هي من ذكر
ذات العماد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
فذكر نحوه. وهذا قول لا وجه له، لأن العماد واحد مذكر، والتي
للأنثى، ولا يوصف المذكر بالتي، ولو كان ذلك من صفة العماد
لقيل: الذي لم يخلق مثله في البلاد، وإن جعلت التي لإرم، وجعلت
الهاء عائدة في قوله: (مِثْلُهَا) عليها، وقيل: هي دمشق أو
إسكندرية، فإن بلاد عاد هي التي وصفها الله في كتابه فقال:
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِف)
والأحقاف: هي جمع حِقْف، وهو ما انعطف من الرمل وانحنى، وليست
الإسكندرية ولا دمشق من بلاد الرمال، بل ذلك الشِّحْرَ من بلاد
حضرموت، وما والاها.
وقوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي)
يقول: وبثمود الذين خرقوا الصخر ودخلوه فاتخذوه بيوتا، كما قال
جلّ ثناؤه: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
آمِنِينَ)
(24/407)
والعرب تقول: جاب فلان الفلاة يجوبها جوبا:
إذا دخلها وقطعها، ومنه قول نابغة:
أتاكَ أبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى ... دُجَى اللَّيلِ
جَوّابُ الفَلاةِ عَمِيمُ (1)
يعني بقوله: يجوب يدخل ويقطع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ) يقول: فخرقوها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ) يعني: ثمود قوم صالح، كانوا ينحتون من الجبال
بيوتا.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد في قوله: (الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالْوَادِ) قال: جابوا الجبال، فجعلوها بيوتا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) : جابوها
ونحتوها بيوتا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: (جَابُوا الصَّخْرَ) قال: نَقبوا الصخر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)
يقول: قَدُّوا الحجارة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) : ضربوا البيوت
والمساكن في الصخر في الجبال، حتى جعلوا فيها مساكن. جابوا:
جوّبوها تجوّبوا البيوت في الجبال، قال قائل:
ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللهَ بائِدٌ ... كمَا بادَ حَيٌّ
مِنْ شَنِيقٍ وَمارِدِ
__________
(1) في المطبوعة: "لم يمعن النظر"، بدلوها، كما فعلوا في ص:
55، تعليق: 3.
(24/408)
هُمُ ضَرَبُوا فِي كُلّ صَلاءَ صَعْدَةٍ
... بأيْدٍ شِدَادٍ أيِّدَاتِ السَّوَاعِدِ (1)
وقوله: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) يقول جلّ ثناؤه: ألم تر
كيف فعل ربك أيضا بفرعون صاحب الأوتاد.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ذِي الأوْتَادِ) ولم قيل له
ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ذي الجنود الذي يقوّون له أمره،
وقالوا: الأوتاد في هذا الموضع: الجنود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال:
الأوتاد: الجنود الذين يشدّون له أمره، ويقال: كان فرعون
يُوتِد في أيديهم وأرجلهم أوتادًا من حديد، يعلقهم بها.
وقال آخرون: بل قيل له ذلك لأنه كان يُوتِد الناس بالأوتاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذِي الأوْتَادِ) قال: كان يوتد الناس
بالأوتاد.
وقال آخرون: كانت مظالّ وملاعب يلعب له تحتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) ذُكر لنا أنها كانت مظال وملاعب
يلعب له تحتها من أوتاد وحبال.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ذِي الأوْتَادِ) قال: ذي البناء كانت مظال يلعب له تحتها،
وأوتادا تضرب له.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع،
قال: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا
عظيمة حتى ماتت.
وقال آخرون: بل ذلك لأنه كان يعذّب الناس بالأوتاد.
__________
(1) في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه
ابن بري ونسبه لعدي بن زيد. والمصر: الحاجز والحد بين الشيئين.
يقول: جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار.
(24/409)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا
الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن
محمود، عن سعيد بن جُبير (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال:
كان يجعل رجلا هاهنا ورجلا هاهنا، ويدا هاهنا ويدا هاهنا
بالأوتاد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذِي الأوْتَادِ) قال: كان يوتد الناس
بالأوتاد.
وقال آخرون: إنما قيل ذلك لأنه كان له بنيان يعذّب الناس عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن
رجل، عن سعيد بن جُبير (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال: كان
له منَارات يعذّبهم عليها.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُنِيَ بذلك:
الأوتاد التي تُوتَد، من خشب كانت أو حديد، لأن ذلك هو المعروف
من معاني الأوتاد، ووصف بذلك لأنه إما أن يكون كان يعذّب الناس
بها، كما قال أبو رافع وسعيد بن جُبير، وإما أن يكون كان يُلعب
له بها.
وقوله: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يعني بقوله جلّ
ثناؤه (الذين) : عادًا وثمود وفرعون وجنده، ويعني بقوله
(طَغَوْا) : تجاوزوا ما أباحه لهم ربهم، وعتوا على ربهم إلى ما
حظره عليهم من الكفر به. وقوله: (فِي الْبِلادِ) : التي كانوا
فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ (15) } .
يقول تعالى ذكره: فأكثروا في البلاد المعاصي، وركوب ما حرّم
الله عليهم (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) يقول
تعالى ذكره: فأنزل بهم يا محمد ربك عذابه، وأحلّ بهم نقمته،
بما أفسدوا في البلاد، وطغَوْا على الله فيها. وقيل: فصبّ
(24/410)
عليهم ربك سَوط عذاب. وإنما كانت نِقَما
تنزل بهم، إما ريحا تُدَمرهم، وإما رَجفا يُدَمدم عليهم، وإما
غَرَقا يُهلكهم من غير ضرب بسوط ولا عصا؛ لأنه كان من أليم
عذاب القوم الذين خوطبوا بهذا القرآن، الجلد بالسياط، فكثر
استعمال القوم الخبر عن شدّة العذاب الذي يعذّب به الرجل منهم
أن يقولوا: ضُرب فلان حتى بالسياط، إلى أن صار ذلك مثلا
فاستعملوه في كلّ معذَّب بنوع من العذاب شديد، وقالوا: صَبّ
عليه سَوْط عذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (سَوْطَ عَذَابٍ) قال: ما عذّبوا به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) قال: العذاب الذي
عذّبهم به سماه: سوط عذاب.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين
قصصت عليك قَصَصَهم، ولِضُرَبائهم من أهل الكفر، لبالمِرصاد
يرصدهم بأعمالهم في الدنيا وفي الآخرة، على قناطر جهنم،
ليكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة.
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله:
(لَبِالْمِرْصَادِ) بحيث يرى ويسمع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يقول: يَرى
ويسمع.
وقال آخرون: يعني بذلك أنه بمَرصد لأهل الظلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن المبارك بن مجاهد، عن
جُويْبِر، عن الضحاك في هذه الآية، قال: إذا كان يوم القيامة،
يأمر الربّ بكرسيه، فيوضع على
(24/411)
وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
النار، فيستوي عليه، ثم يقول: وعزّتي
وجلالي، لا يتجاوزني اليوم ذو مَظلِمة، فذلك قوله:
(لَبِالْمِرْصَادِ) .
قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: بلغني أن
على جهنم ثلاث قناطر: قنطرة عليها الأمانة، إذا مرّوا بها
تقول: يا ربّ هذا أمين، يا ربّ هذا خائن، وقنطرة عليها الرحِم،
إذا مرّوا بها تقول: يا ربّ هذا واصل، يا ربّ هذا قاطع؛ وقنطرة
عليها الربّ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
قال: حدثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
يعني: جهنم عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحمة، وقنطرة فيها
الأمانة، وقنطرة فيها الربّ تبارك وتعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) قال: مِرْصاد عمل بني آدم.
وقوله: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ)
يقول تعالى ذكره: فأما الإنسان إذا ما امتحنه ربه بالنعم
والغنى (فأكْرَمَهُ) بالمال، وأفضل عليه، (وَنَعَّمَهُ) بما
أوسع عليه من فضله (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيفرح بذلك
ويسرّ به ويقول: ربي أكرمني بهذه الكرامة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وحقّ
له.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ
عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ
أَكْلا لَمًّا (19) } .
وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ) يقول: وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر (فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ) يقول: فضيَّق عليه رزقه وقَتَّره، فلم يكثر
ماله، ولم يوسع عليه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) يقول: فيقول
ذلك الإنسان: ربي أهانني، يقول: أذلني بالفقر، ولم يشكر الله
على ما وهب له من سلامة جوارحه، ورزقه من العافية في جسمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا
إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَهَانَنِ) ما أسرع كفر ابن آدم.
(24/412)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد، قوله: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) قال: ضَيَّقه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)
فقرأت عامة قرّاء الأمصار ذلك بالتخفيف، فقَدَر: بمعنى فقتر،
خلا أبي جعفر القارئ، فإنه قرأ ذلك بالتشديد (فَقَدَّرَ) .
وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: قدّر، بمعنى يعطيه
ما يكفيه، ويقول: لو فعل ذلك به ما قال ربي أهانني.
والصواب من قراءة ذلك عندنا بالتخفيف، لإجماع الحجة من القرّاء
عليه.
وقوله: (كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (كَلا) في هذا الموضع،
وما الذي أنكر بذلك، فقال بعضهم: أنكر جلّ ثناؤه أن يكون سبب
كرامته من أكرم كثرة ماله، وسبب إهانته من أهان قلة ماله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ما أسرع ما كفر ابن آدم، يقول
الله جلّ ثناؤه: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا
أهين من أهنت بقلتها، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأُهينُ
من أهنت بمعصيتي.
وقال آخرون: بل أنكر جلّ ثناؤه حمد الإنسان ربه على نِعمه دون
فقره، وشكواه الفاقة، وقالوا: معنى الكلام، كلا أي: لم يكن
ينبغي أن يكون هكذا، ولكن كان ينبغي أن يحمده على الأمرين
جميعا، على الغنى والفقر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن قتادة
لدلالة قوله: (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) والآيات التي
بعدها، على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا
يَحُضّ على طعام المسكين، وسائر المعاني التي عدّد، وفي إبانته
عن السبب الذي من أجله أهان من أهان، الدلالة الواضحة على سبب
تكريمه من أكرم، وفي تبيينه ذلك عَقيب قوله: (فَأَمَّا
الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ) بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا.
وقوله: (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) يقول تعالى ذكره: بل
إنما أهنت من أهَنت
(24/413)
من أجل أنه لا يكرم اليتيم، فأخرج الكلام
على الخطاب، فقال: بل لستم تكرمون اليتيم، فلذلك أهنتكم (وَلا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من أهل المدينة أبو جعفر
وعامة قرّاء الكوفة (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا
تَحَاضُّونَ) بالتاء أيضا وفتحها وإثبات الألف فيها، بمعنى:
ولا يحضّ بعضكم بعضًا على طعام المسكين. وقرأ ذلك بعض قرّاء
مكة وعامة قرّاء المدينة بالتاء وفتحها وحذف الألف (وَلا
تَحُضُّون) بمعنى: ولا تأمرون بإطعام المسكين. وقرأ ذلك عامة
قرّاء البصرة (يَحُضُّون) بالياء وحذف الألف بمعنى: ولا يكرم
القائلون إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ربي أكرمني، وإذا قدر
عليه رزقه ربي أهانني - اليتيم - (ولا يحضون على طعام المسكين)
وكذلك يقرأ الذين ذكرنا من أهل البصرة (يُكْرِمُونَ) وسائر
الحروف معها بالياء على وجه الخبر عن الذين ذكرت. وقد ذُكر عن
بعضهم أنه قرأ (تُحاضُّونَ) بالتاء وضمها وإثبات الألف، بمعنى:
ولا تحافظون.
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه قراءات معروفات في قَرَأة
الأمصار، أعني: القراءات الثلاث صحيحات المعاني، فبأيّ ذلك قرأ
القارئ فمصيب.
وقوله: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) يقول تعالى
ذكره: وتأكلون أيها الناس الميراث أكلا لمًّا، يعني: أكلا
شديدًا لا تتركون منه شيئا، وهو من قولهم: لممت ما على الخِوان
أجمع، فأنا ألمه لمًّا: إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشي، قال: ثنا الأنصاري، عن
أشعث، عن الحسن (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال:
الميراث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ) أي الميراث، وكذلك في قوله:
(أَكْلا لَمًّا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا
لَمًّا) يقول: تأكلون أكلا شديدا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، عن يونس، عن الحسن، في قوله:
(24/414)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا
دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا)
قال: نصيبه ونصيب صاحبه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد قوله: (أَكْلا لَمًّا) قال: اللمّ السفّ، لفّ
كل شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَكْلا
لَمًّا) أي: شديدا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَكْلا لَمًّا) يقول: أكلا شديدا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول
الله: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال: الأكل
اللمّ: الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل، فأكل الذي له والذي
لصاحبه، كانوا لا يُوَرِّثون النساء، ولا يورّثون الصغار،
وقرأ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ
لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي: لا تورِّثونهنّ
أيضا (أَكْلا لَمًّا) يأكل ميراثه، وكلّ شيء لا يسأل عنه، ولا
يدري أحلال أو حرام.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) . يقول:
سَفًّا.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة
البستيّ، عن زُهير، عن سالم، قال: قد سمعتُ بكر بن عبد الله
يقول في هذه الآية: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا)
قال اللمّ: الاعتداء في المِيراث، يأكل ميراثه وميراث غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا
جَمًّا (20) كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ
يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)
وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبا كثيرا شديدا، من
قولهم: قد جمّ الماء في الحوض: إذا اجتمع،
(24/415)
ومنه قول زُهير بن أبي سلمى:
فَلَمَّا ورَدْنَ المَاءَ زُرْقًا جِمامُهُ ... وَضَعْنَ
عِصِيَّ الْحاضِرِ المُتَخَيَّمِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)
يقول: شديدا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)
فيحبون كثرة المال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (حُبًّا جَمًّا) قال: الجمّ: الكثير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) : أي حبا شديدا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (حُبًّا جَمًّا) : يحبون كثرة
المال.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) قال: الجمّ: الشديد.
ويعني جلّ ثناؤه بقوله: (كَلا) : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر.
ثم أخبر جلّ ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السِّيئة في الدنيا،
وتلهُّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم، فقالّ جل
ثناؤه: (إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا) يعني: إذا رجت
وزُلزلت زلزلة، وحرّكت تحريكا بعد تحريك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) ديوان الأعشين: 323، والأغاني 6: 46، 61. وأعشى همدان هو
عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح، كان أحد الفقهاء
القراء، ثم ترك ذلك وقال الشعر. يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن
قيس الكندي، وكان خرج على الحجاج، فخرج معه الفقهاء والقراء،
فلما أسر الحجاج الأعشى، قال له: ألست القائل: وأنشده البيت -
والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله. الأشج: هو الأشعث والد عبد
الحمن، وقيس جده. وبخ بخ: كلمة للتعظيم والتفخيم. وهذا البيت
والذي سبقه شاهدان على صحة تكرار "بين"، مع غير الضمير المتصل،
ومثلهما كثير. وأهل عصرنا يخطئون من يقوله، وهم في شرك الخطأ.
(24/416)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا) يقول:
تحريكها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني حرملة بن عمران،
أنه سمع عمر مولى غُفْرة يقول: إذا سمعت الله يقول: كلا فإنما
يقول: كذبت.
وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) يقول
تعالى ذكره: وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صفّ.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الوهاب، قالا
ثنا عوف، عن أبي المنهال، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ
الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد،
جنهم وإنسهم، فإذا كان ذلك اليوم قيضت (1) هذه السماء الدنيا
عن أهلها على وجه الأرض، وَلأهل السماء وحدهم أكثر من أهل
الأرض جنهم وإنسهم بضعف فإذا نثروا على وجه الأرض فزِعوا منهم،
فيقولون: أفيكم ربنا: فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا
ليس فينا، وهو آت، ثم تقاض السماء الثانية، وَلأهل السماء
الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض
بضعف جنهم وإنسهم، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل
الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان
ربنا، ليس فينا، وهو آت، ثم تقاضُ السموات سماء سماء، كلما
قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ومن
جميع أهل الأرض بضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزِع إليهم
أهل الأرض، فيقولون لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى
تقاض السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ستِّ
سموات، ومن جميع أهل الأرض بضعف، فيجيء الله فيهم والأمم جِثيّ
صفوف، وينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم
الحمادون لله على كل حال؛ قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم
ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانت
تتجافى
__________
(1) الخلف (بفتح فسكون) : الرديء من القول. يقال هذا خلف من
القول، أي رديء. وفي المثل: "سكت ألفًا ونطق خلفًا"، يقال
للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ. أي سكت دهرًا
طويلًا، ثم تكلم بخطأ. كنى بالألف عن الزمن الطويل، ألف ساعة
مثلا.
(24/417)
جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا
وطمعًا، ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي
الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم: أين الذين لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،
يخافون يوما تتقلَّب فيه القلوب والأبصار فيقومون فيسرحون إلى
الجنة؛ فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة خرج عُنُق من النار، فأشرف على
الخلائق، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وكلت منكم
بثلاثة: بكلّ جبار عنيد، فيلقُطهم من الصفوف لقط الطير حبّ
السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية فيقول: إني وكلت
منكم بمن آذى الله ورسوله فيلقطهم لقط الطير حبّ السمسم، فيحبس
بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة، قال عوف: قال أبو المنهال: حسبت
أنه يقول: وكلت بأصحاب التصاوير، فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير
حبّ السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن
هؤلاء ثلاثة، نُشرت الصحف، ووُضعت الموازين، ودُعي الخلائق
للحساب.
حدثني موسى بن عبد الرحمن قال: ثنا أبو أُسامة، عن الأجلح،
قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: إذا كان يوم القيامة، أمر
الله السماء الدنيا بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، وأحاطوا
بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم
الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصَفُّوا صفًا دون صفّ، ثم
ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل
الأرض ندّوا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة
صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قول
الله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ
تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِم)
، وذلك قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وقوله: (يَا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ
إِلا بِسُلْطَانٍ) وذلك قول الله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ
فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا)
.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن
إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب
القُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "تُوقفُونَ مَوْقِفا وَاحِدًا يَوْمَ
الْقِيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عاما، لا يُنْظُر إلَيْكُمْ
وَلا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ
(24/418)
عَلَيْكُمْ، فَتَبْكُونَ حتى يَنْقطِعَ
الدَّمْعُ، ثُمَّ تَدْمعُون دما وَتَبْكُون حتى يَبْلُغَ ذلكَ
مِنْكُمْ الأذْقَانَ، أوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَضُجُّونَ، ثُمَّ
تَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَنا إلى رَبِّنا، فَيَقْضِي
بَيْنَنا، فَيَقُولُونَ مَنْ أحَقُّ بِذلكَ مِنْ أبِيكُمْ،
جَعَلَ اللهُ تُرْبَتَهُ وَخَلْقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وكَلَّمَهُ قُبُلا فَيُؤْتَى آدَمُ صَلى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ فَيُطْلَبُ ذلكَ إلَيْهِ فَيأْبَى، ثُمَّ
يَسْتَقْرُونَ الأنبِياءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّما جاءُوا
نَبِيًّا أبى "قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حتى
يَأْتونِي، فإذَا جاءُونِي خَرَجْتُ حتى آتِي الفَحْص "، قال
أبو هريرة: يا رسول الله، ما الفحصُ؟ قال: "قُدَّامَ العَرْشِ،
فأخِرُّ ساجِدًا، فَلا أزَالُ ساجِدًا حتى يَبْعَثَ اللهُ
إليَّ مَلَكًا، فَيأخُذَ بعَضُدِي، فَيرْفَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ
اللهُ لِي: مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أعْلَمُ، فأقُولُ: نَعْم،
فَيَقُولُ: ما شأنُكَ؟ فأقول: يا رَبِّ وَعَدْتَنِي
الشَّفاعَةَ، شَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ فاقْضِ بَيْنَهُمْ،
فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، أنا آتِيكُمْ فأقْضِي
بَيْنَكُمْ". قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فأنصَرِفُ
حتى أقِفَ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنا نَحْنُ وَقُوفٌ، سَمِعْنا
حِسًّا مِنَ السَّماءِ شَدِيدًا، فَهالَنا، فَنزلَ أهْلُ
السَّماءِ الدُّنْيا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ
والإنسِ، حتى إذَا دنوْا مِنَ الأرْضِ، أشْرَقَتِ الأرْضُ،
بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ:
أفِيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ يَنزلُ أهْلُ
السَّماءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نزلَ مِنَ
المَلائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيها مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ،
حتى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرضُ بِنُورِهِمْ،
وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أفِيكُمْ رَبُّنا؟
قالوا: لا وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ نزلَ أهْلُ السَّمَوَاتِ عَلى
قَدْرِ ذلكَ مِنَ الضِّعْفِ حتى نزلَ الجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ
مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ
تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي المُلْكِ
وَالمَلَكُوتِ، سُبْحانَ رَبِّ العَرْشِ ذِي الجَبَرُوتِ،
سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ سُبْحانَ الَّذِي يميت
الخلائق ولا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ
والرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحانَ رَبِّنا الأعْلَى
سُبْحان ذِي الجَبرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِياءِ
والسُّلْطانِ والعَظَمَةِ سُبْحانَهُ أبَدًا أبَدًا، يَحْمِلُ
عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثمَانِيَةٌ، وَهمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ،
أقْدَامُهُم على تُخُومِ الأرْضِ السُّفْلَى، والسَّمَوَاتُ
إلى حُجَزِهِمْ، وَالعَرْشُ عَلى مَناكِبِهمْ، فَوَضَعَ الله
عَرْشَهُ حَيْثُ شَاء مِنَ الأرْض، ثُمَّ يُنادِي بِنِدَاءٍ
يُسْمِعُ الخَلائِقَ فَيَقُولُ يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ،
إنِّي قَدْ أنْصَتُّ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إلى
يَوْمِكُمْ هَذَا، أسمَعُ كَلامَكُمْ، وأُبْصِرُ أعمالَكمْ،
فَأنْصِتُوا إليَّ، فإنَّمَا هِيَ صُحُفُكُمْ وأعمالكُمْ
تُقْرأُ علَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ،
وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذلكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ، ثُمَّ
يأْمُرُ اللهُ جَهَنَّمَ فَتُخْرِجُ مِنْها عُنُقا ساطِعا
مُظْلِما، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ
يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إلى قوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ) فيتميز الناس ويَجْثُونَ، وَهِيَ التي يَقُولُ
اللهُ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ
تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ ... ) الآية، فَيَقْضِي
اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ وَالْبَهائمِ، فإنَّهُ
لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ القُرُونِ، حتى
إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدةٍ لأخْرَى قال اللهُ:
كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَني
كُنْتُ تُرَابًا، ثُمَّ يَقْضِي اللهُ سُبْحانَهُ بَينَ
الجِنِّ والإنْسِ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) صفوف الملائكة.
وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يقول تعالى ذكره:
وجاء الله يومئذ بجهنم.
كما حدثنا الحسن بن عرفة قال: ثنا مروان الفزاريّ، عن العلاء
بن خالد الأسديّ، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله بن
مسعود، في قوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال: جيء
بها تُقاد بسبعين ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك
يقودونها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)
قال: يُجاء بها يوم القيامة تُقاد بسبعين ألف زمام، مع كلّ
زمام سبعون ألف ملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن
قيس، عن قتادة، قال: جَنْبتيه: الجنة والنار؛ قال: هذا حين
ينزل من عرشه إلى كرسيه لحساب خلقه، وقرأ: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال: جيء بها مزمومة.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ) يقول تعالى ذكره:
يومئذ يتذكر الإنسان تفريطه في الدنيا في طاعة الله، وفيما
يقرّب إليه من صالح الأعمال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) يقول:
من أيّ وجه له التذكير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/419)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) يقول: وكيف له
(24/421)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا
يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ
أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي
فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } .
وقوله: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) يقول تعالى ذكره
مخبرا عن تلهُّف ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في
الصَّالِحات من الأعمال في الدنيا التي تورثه بقاء الأبد في
نعيم لا انقطاع له، يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح
الأعمال لحياتي هذه، التي لا موت بعدها، ما ينجيني من غضب
الله، ويوجب لي رضوانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) قال:
علم الله أنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها آخر ما عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) هُناكُم والله الحياة
الطويلة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)
قال: الآخرة.
وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا
يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) أجمعت القرّاء قرّاء الأمصار في
قراءة ذلك على كسر الذال من يعذّب، والثاء من يوثق، خلا
الكسائي،
(24/421)
فإنه قرأ ذلك بفتح الذال والثاء اعتلالا
منه بخبر - رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأه
كذلك - واهي الإسناد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن خالد الحذّاء،
عن أبي قِلابة، قال: ثني من أقرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وذلك
كسر الذال والثاء لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذَا كان ذلك
كذلك، فتأويل الكلام: فيومئذ لا يعذَّب بعذاب الله أحد في
الدنيا، ولا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وكذلك تأوّله
قارئو ذلك كذلك من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) ولا يوثِق كوثاق
الله أحد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ
وَثَاقَهُ أَحَدٌ) قال: قد علم الله أن في الدنيا عذابا
وَوَثاقا، فقال: فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد في الدنيا، ولا
يُوثِق وثاقه أحد في الدنيا.
وأما الذي قرأ ذلك بالفتح، فإنه وجَّه تأويله إلى: فيومئذ لا
يعذَّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا
كوثاقه يومئذ. وقد تأوّل ذلك بعض من قرأ ذلك كذلك بالفتح من
المتأخرين، فيومئذ لا يعذَّب عذاب الكافر أحَد ولا يُوثَق وثاق
الكافر أحد. وقال: كيف يجوز الكسر، ولا معذّب يومئذ سوى الله
وهذا من التأويل غلط؛ لأن أهل التأويل تأوّلوه بخلاف ذلك، مع
إجماع الحجة من القرّاء على قراءته بالمعنى الذي جاء به تأويل
أهل التأويل، وما أحسبه دعاه إلى قراءة ذلك كذلك، إلا ذهابه عن
وجه صحته في التأويل.
وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) يقول تعالى ذكره مخبرا
عن قيل الملائكة لأوليائه يوم القيامة: يا أيتها النفس
المطمئنة، يعني بالمطمئنة: التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد
أهل الإيمان به في الدنيا من الكرامة في الآخرة، فصدّقت بذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم نحو الذي قلنا
فيه.
(24/422)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) يقول:
المصدّقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) هو المؤمن اطمأنت
نفسه إلى ما وعد الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
والحسن، في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
قال: المطمئنة إلى ما قال الله، والمصدّقة بما قال.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: المصدّقة الموقِنة بأن الله ربها،
المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله:
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: النفس التي
أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
قال: أيقنت بأن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال:
المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أن الله ربها، وضربت لأمره
جأشا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: أيقنت بأن
الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (المُطْمَئِنَّةُ) قال: المُخبِتة
والمطمئنة إلى الله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: التي
قد أيقنت بأن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليَّة، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
قال: المخبِتة.
حدثني سعيد بن الرييع الرازيّ، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن
مجاهد
(24/423)
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: التي أيقنت بلقاء الله، وضربت له جأشا.
وُذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ (يا أيَّتُها النَّفْسُ
الآمِنَةُ) .
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا خلاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر، عن هارون القاري قال:
ثني هلال، عن أبي شيخ الهنائي في قراءة أُبيّ (يا أيَّتُها
النَّفْسُ الآمِنَةُ المُطْمَئِنَّةُ) وقال الكلبي: إن الآمنة
في هذا الموضع، يعني به: المؤمنة.
وقيل: إن ذلك قول الملك للعبد عند خروج نفسه مبشرة برضا ربه
عنه، وإعداده ما أعدّ له من الكرامة عنده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن جعفر، عن سعيد، قال:
قُرئت: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) عند النبيّ صلى الله
عليه وسلم فقال أبو بكر: إن هذا لحسن، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أما إنَّ المَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ
المَوتِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن أبي صالح (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً) قال هذا عند الموت (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال
هذا يوم القيامة.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان،
عن أُسامة بن زيد، عن أبيه في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: بُشِّرت بالجنة عند الموت، ويوم الجمع،
وعند البعث.
وقوله: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) اختلف أهل التأويل في تأويله،
فقال بعضهم: هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قيل الملائكة لنفس
المؤمن عند البعث، تأمرها أن ترجع في جسد صاحبها؛ قالوا:
وعُنِيَ بالردّ هاهنا صاحبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً) قال: تردّ الأرواح المطمئنة يوم القيامة في
الأجساد.
(24/424)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) يأمر الله الأرواح يوم القيامة
أن ترجع إلى الأجساد، فيأتون الله كما خلقهم أول مرّة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن عكرِمة
في هذه الآية (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)
إلى الجسد.
وقال آخرون: بل يقال ذلك لها عند الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن أبي صالح (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً) قال: هذا عند الموت (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)
قال: هذا يوم القيامة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس
والضحاك، أن ذلك إنما يقال لهم عند ردّ الأرواح في الأجساد يوم
البعث لدلالة قوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي
جَنَّتِي) .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فادخلي
في عبادي الصالحين، وادخلي جنتي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال: ادخلي في عبادي الصالحين
(وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
وقال آخرون: معنى ذلك: فادْخُلِي فِي طاعَتِي وادْخُلِي
جَنَّتِي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن نعيم بن ضمضم، عن محمد بن
مزاحم أخي الضحاك بن مُزاحم (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال: في
طاعتي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) قال: في رحمتي.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجِّه معنى قوله:
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) إلى: فادخلي في حزبي.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يتأوّل ذلك (يَاأَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
(24/425)
بالإيمان والمصدقة بالثواب والبعث ارجعي،
تقول لهم الملائكة: إذا أُعطوا كتبهم بأيمانهم (ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ) إلى ما أعدّ الله لك من الثواب؛ قال: وقد يكون أن
تقول لهم: شِبْه هذا القول ينوون ارجعوا من الدنيا إلى هذا
المرجع؛ قال: وأنت تقول للرجل ممن أنت؟ فيقول: مُضَريّ، فتقول:
كن تميميا أو قيسيا، أي: أنت من أحد هذين، فتكون كن صلة، كذلك
الرجوع يكون صلة، لأنه قد صار إلى يوم القيامة، فكان الأمر
بمعنى الخبر، كأنه قال: أيتها النفس أنت راضية مرضية.
وقد رُوي عن بعض السلف أنه كان يقرأ ذلك: (فادْخُلِي فِي عبدِي
وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج،
عن هارون، عن أبان بن أبي عياش، عن سليمان بن قَتَّةَ عن ابن
عباس، أنه قرأها (فادْخُلِي فِي عَبْدي) على التوحيد.
حدثني خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، عن هارون
القاري، قال: ثني هلال، عن أبي الشيخ الهنائي (فادْخُلِي فِي
عَبْدِي) . وفي قول الكلبي (فادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي
فِي جَنَّتِي) يعني: الروح ترجع في الجسد.
والصواب من القراءة في ذلك (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) بمعنى:
فادخلي في عبادي الصالحين. لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
آخر تفسير سورة والفجر
(24/426)
|