تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر تفسير سورة العاديات
(24/555)
وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ
صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا
فِي الْقُبُورِ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ
صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعًا (5) إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا
فِي الْقُبُورِ (9) } .
(24/557)
وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ
(11)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا
فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَخَبِيرٌ (11) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
فقال بعضهم: عُني بالعاديات ضبحا: الخيل التي تعدو، وهي تحمحم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال:
الخيل، وزعم غير ابن عباس أنها الإبل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال
ابن عباس: هو في القتال.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة في قوله:
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال الخيل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال:
سُئل عكرِمة، عن قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: ألم تر
إلى الفرس إذا جرى كيف يضبح؟
(24/557)
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا
سفيان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: ليس شيء من الدوابّ يضبح
غير الكلب والفرس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال:
الخيل تضبح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل، عدت حتى ضبحت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل تعدو حتى
تضبح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة
مثل حديث بشر، عن يزيد؛ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال:
ثنا سعيد، قال: سمعت سالما يقرأ: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
قال: هي الخيل عدت ضبحا.
قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
قال: الخيل.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن
عباس، قال: ما ضبحت دابة قط إلا كلب أو فرس.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي
الخيل.
حدثني سعيد بن الربيع الرازي. قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن
عَمْرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: هي الخيل.
وقال آخرون: هي الإبل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب. قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن عبد الله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي
الإبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
عبد الله، مثله.
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى
الرملي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله.
(24/558)
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن
مُغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
قال: هي الإبل إذا ضبحت تنفست.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا أبو صخر، عن أبي
معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس حدثه قال: بينما
أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل،
فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن
أبي طالب رضى الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن
(الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) فقال: سألتَ عنها أحدًا قبلي؟ قال:
نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله،
قال: اذهب فادعه لي; فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما
لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر، وما كان
معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد فكيف تكون العاديات
ضبحا! إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى مزدلفة إلى منى ; قال
ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله
عنه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: الإبل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال:
قال ابن مسعود: هو في الحج.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن
دينار، عن عبيد بن عمير، قال: هي الإبل، يعني (وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: قال ابن مسعود: هي الإبل.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: عني
بالعاديات: الخيل، وذلك أن الإبل لا تضبح، وإنما تضبح الخيل،
وقد أخبر الله تعالى أنها تعدو ضبحا، والضبح: هو ما قد ذكرنا
قبل. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/559)
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو معاوية، عن
إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: قال علي رضى الله عنه:
الضبح من الخيل: الحمحمة، ومن الإبل: النفس.
قال: ثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس
يصف الضبح: أحْ أحْ.
وقوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)
اختلف أهل التأويل، في ذلك، فقال بعضهم: هي الخيل توري النار
بحوافرها.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو
رجاء، قال: سئل عكرِمة، عن قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)
قال: أورت وقدحت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هي الخيل; وقال الكلبي: تقدح
بحوافرها حتى يخرج منها النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: أورت النار بحوافرها.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) توري
الحجارة بحوافرها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الخيل هجن الحرب بين أصحابهن
وركبانهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هجن الحرب بينهم وبين عدوهم.
حدثنا ابن حميد، فال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هجن الحرب بينهم وبين عدوهم.
وقال آخرون: بل عني بذلك: الذين يورون النار بعد انصرافهم من
الحرب.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن أبي
معاوية
(24/560)
البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: سألني علي بن أبي طالب رضى الله عنه، عن (وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) فقلت له: الخيل تغير في سبيل
الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم ويورون نارهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مكر الرجال.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: المكر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح. عن مجاهد، في قول الله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال:
مكر الرجال.
وقال آخرون: هي الألسنة
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حماد بن
سلمة، عن سماك بن حرب، عن عكرِمة قال: يقال في هذه الآية
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هي الألسنة.
وقال آخرون: هي الإبل حين تسير تنسف بمناسمها الحصى.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد
الله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: إذا نسفت الحصى
بمناسمها، فضرب الحصى بعضه بعضا، فيخرج منه النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره
أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا; فالخيل توري بحوافرها،
والناس يورونها بالزند، واللسان - مثلا - يوري بالمنطق،
والرجال يورون بالمكر - مثلا -، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين
أهلها: إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد
من ذلك بعض دون بعض فكل ما أورت النار قدحا، فداخلة فيما أقسم
به، لعموم ذلك بالظاهر.
وقوله: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال
(24/561)
بعضهم: معنى ذلك: فالمغيرات صبحا على
عدوّها علانية.
*ذكر من قال ذلك:
29259 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو
صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: سألني رجل عن المغيرات صبحا، فقال: الخيل تغير في سبيل
الله.
29260 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال:
أخبرنا أبو رجاء، قال: سألت عكرِمة، عن قوله (فَالْمُغِيرَاتِ
صُبْحًا) قال: أغارت على العدو صبحا.
29261 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا
عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: هي
الخيل.
29262 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: هي الخيل.
29263 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغار القوم بعد ما أصبحوا على
عدوهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغارت حين أصبحوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغار القوم حين أصبحوا.
وقال آخرون: عني بذلك الإبل حين تدفع بركبانها من "جمع" يوم
النحر إلى "منى".
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد
الله (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) حين يفيضون من جمع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله جل ثناؤه أقسم
بالمغيرات صبحا، ولم يخصص^ من ذلك مغيرة دون مغيرة، فكل مغيرة
صبحا، فداخلة فيما أقسم به ; وقد كان زيد بن أسلم يذكر تفسير
هذه الأحرف ويأباها، ويقول: إنما
(24/562)
هو قسم أقسم الله به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هذا
قسم أقسم الله به. وفي قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال:
كل هذا قسم، قال: ولم يكن أبي ينظر فيه إذا سئل عنه، ولا
يذكره، يريد به القسم.
وقوله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا)
يقول تعالى ذكره: فرفعن بالوادي غبارا; والنقع: الغبار، ويقال:
إنه التراب. والهاء في قوله "به" كناية اسم الموضع، وكنى عنه،
ولم يجر له ذكر، لأنه معلوم أن الغبار لا يثار إلا من موضع،
فاستغنى بفهم السامعين بمعناه من ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: الخيل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء وابن زيد،
قال: النقع: الغبار.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: هي أثارت الغبار، يعني الخيل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، قال: سئل
عكرِمة، عن قوله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: أثارت التراب
بحوافرها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سعيد، عن قتادة (فَأَثَرْنَ
بِهِ نَقْعًا) قال: أثرن بحوافرها نقع التراب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: أثرن به غبارا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن أبي
(24/563)
معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال: قال لي علي: إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى
المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) :
الأرض حين تطؤها بأخفافها وحوافرها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد
الله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: إذا سرن يثرن التراب.
وقوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)
يقول تعالى ذكره: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم
بالتخفيف، ووسطته بالتشديد، وتوسطته: بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، قال: سئل
عكرِمة، عن قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع الكفار.
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال جمع القوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: هو جمع
القوم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع العدو.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع هؤلاء
وهؤلاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) فوسطن جمع القوم.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعًا) فوسطن بالقوم جمع العدو.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: وسطن جمع القوم.
(24/564)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعًا) الجمع: الكتيبة.
وقال آخرون: بل عني بذلك (فَوَسَطْنَ بِهِ) مزدلفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد
الله (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) يعني: مزدلفة.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
يقول: إن الإنسان لكفور لنعم ربه. والأرض الكنود: التي لا تنبت
شيئا، قال الأعشى:
أحْدِثْ لَهَا تُحْدِثْ لِوَصْلِكَ إنَّها ... كُنُدٌ لوَصْلِ
الزَّائِرِ المُعْتادِ (1)
وقيل: إنما سميت كندة: لقطعها أباها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال:
ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
قال: لربه لكفور.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) تراجمة القرآن: جمع ترجمان: وأراد المفسرين، وانظر ما مضى:
70 تعليق: 1
(24/565)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان،
عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مهدي بن ميمون، عن شعيب
بن الحبحاب، عن الحسن البصري: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ
لَكَنُودٌ) قال: هو الكفور الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه.
حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، قال: الكنود: الكفور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال الحسن:
(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) يقول: لوام لربه يعد
المصائب
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال:
ثنا شعبة، عن سماك أنه قال: إنما سميت كندة: أنها قطعت أباها
(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن جعفر بن
الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: "
لَكَفُورٌ، الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ،
وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: الكنود: الكفور،
وقرأ: (إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ) .
حدثنا الحسن بن علي بن عياش، قال: ثنا أبو المغيرة عبد القدوس،
قال: ثنا حريز بن عثمان، قال: ثني حمزة بن هانيء، عن أبي أمامة
أنه كان يقول: الكنود: الذي ينزل وحده، ويضرب عبده، ويمنع
رفده.
حدثني محمد بن إسماعيل الصوارى، قال: ثنا محمد بن سوار، قال:
أخبرنا
(24/566)
أبو اليقظان، عن سفيان عن هشام، عن الحسن،
في قوله (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لوام
لربه، يعد المصائب، وينسى النعم.
وقوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)
يقول تعالى ذكره: إن الله على كنوده ربه لشهيد: يعني لشاهد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قال: يقول: إن الله على ذلك لشهيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) في بعض القراءات "إن الله على ذلك
لشهيد".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَإِنَّهُ عَلَى
ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) يقول: وإن الله عليه شهيد.
وقوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)
يقول تعالى ذكره: وإن الإنسان لحب المال لشديد.
واختلف أهل العربية في وجه وصفه بالشدة لحب المال، فقال بعض
البصريين: معنى ذلك: وإنه من أجل حب الخير لشديد: أي لبخيل;
قال: يقال للبخيل: شديد ومتشدد. واستشهدوا لقوله ذلك ببيت طرفة
بن العبد البكري:
أرَى المَوْتَ يَعْتامُ النُّفُوسَ ويَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ
مالِ الباخِلِ المُتَشَددِ (1)
وقال آخرون: معناه: وإنه لحب الخير لقوي.
وقال بعض نحويي الكوفة: كان موضع (لِحُبِّ) أن يكون بعد شديد،
وأن يضاف شديد إليه، فيكون الكلام: وإنه لشديد حب الخير; فلما
تقدم الحب في
__________
(1) الحديث 174 - إسناده ضعيف جدًا. موسى بن عبد الرحمن
المسروقي: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة،
وغيرهم. مات سنة 258، مترجم في التهذيب. حسين الجعفي: هو حسين
بن علي بن الوليد، ثقة معروف، روى عنه أحمد، وابن معين،
وغيرهم، بل روى عنه ابن عيينة وهو أكبر منه. وأخرج له أصحاب
الكتب الستة. حمزة الزيات: هو حمزة بن حبيب، القارئ المعروف.
وتكلم في رواية بعضهم، والحق أنه ثقة، وأخرج له مسلم في صحيحه.
أبو المختار الطائي: قيل اسمه: سعد، وهو مجهول، جهله المديني
وأبو زرعة. ابن أخي الحارث الأعور: أشد جهالة من ذلك، لم يسم
هو ولا أبوه. عمه الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني،
وهو ضعيف جدا. وقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا، حتى وصفه
الشعبي وغيره بأنه "كان كذابًا"، وقد رجحت في شرح الحديث 565
وغيره من المسند أنه ضعيف جدا.
وأما متن الحديث: فقد رواه -بمعناه- ابن أبي حاتم، عن الحسن بن
عرفة عن يحيى بن يمان عن حمزة الزيات، بهذا الإسناد، فيما نقل
ابن كثير 1: 50 ووقع فيه تحريف الإسناد هناك. وهو جزء من حديث
طويل، في فضل القرآن - رواه الترمذي (4: 51 - 52 من تحفة
الأحوذي) ، عن عبد بن حميد عن حسين الجعفي، بهذا الإسناد. وقال
الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات،
وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال". كذلك رواه الدارمي في
سننه 2: 435 عن محمد بن يزيد الرفاعي عن حسين الجعفي. ونقله
السيوطي 1: 15 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن الأنباري في
المصاحف والبيهقي في شعب الإيمان. وأشار إليه الذهبي في
الميزان 3: 380 في ترجمة أبي المختار الطائي، قال: "حديثه في
فضائل القرآن منكر". ونقله ابن كثير في الفضائل: 14 - 15 عن
الترمذي، ونقل تضعيفه إياه، ثم قال: "لم ينفرد بروايته حمزة بن
حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي
عن الحارث الأعور. فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف
الحديث، فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث
الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه
واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث - فلا. وقصارى هذا
الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد
وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح ".
وسيأتي 175، 176 بإسنادين آخرين، موقوفًا، من كلام علي رضي
الله عنه.
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها ابن كثير- هي حديث أحمد في
المسند: 565. عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن
إسحاق. وقد ضعفنا إسناده هناك، بالحارث الأعور، وبانقطاعه بين
ابن إسحاق ومحمد بن كعب. وليس فيه الحرف الذي هنا، في تفسير
"الصراط المستقيم".
(24/567)
الكلام، قيل: شديد، وحذف من آخره، لما جرى
ذكره في أوله ولرءوس الآيات، قال: ومثله في سورة إبراهيم:
(كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)
والعصوف لا يكون لليوم، إنما يكون للريح; فلما جرى ذكر الريح
قبل اليوم طرحت من آخره، كأنه قال: في يوم عاصف الريح، والله
أعلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) قال: الخير: الدنيا;
وقرأ: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) قال: فقلت له: (إن
ترك خيرا) : المال؟ قال: نعم، وأي شيء هو إلا المال؟ قال: وعسى
أن يكون حراما، ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا، لأن
الناس يسمونه خيرا في الدنيا، وعسى أن يكون خبيثا، وسمي القتال
في سبيل الله سوءا، وقرأ قول الله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) قال: لم
يمسسهم قتال; قال: وليس هو عند الله بسوء، ولكن يسمونه سوءا.
وتأويل الكلام: إن الإنسان لربه لكنود، وإنه لحب الخير لشديد،
وإن الله على ذلك من أمره لشاهد. ولكن قوله: (وَإِنَّهُ عَلَى
ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قدم، ومعناه التأخير، فجعل معترضا بين قوله:
(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ، وبين قوله:
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (إِنَّ
الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ
لَشَهِيدٌ) قال: هذا في مقاديم الكلام، قال: يقول: إن الله
لشهيد أن الإنسان لحب الخير لشديد.
وقوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)
يقول: أفلا يعلم هذا الإنسان الذي هذه صفته، إذا أثير ما في
القبور، وأخرج ما فيها من الموتى وبحث.
وذكر أنها في مصحف عبد الله: "إذا بحث ما في القبور"، وكذلك
تأول ذلك أهل التأويل.
(24/568)
*ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، في قوله: (بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) بحث. وللعرب
في (بُعْثِرَ) لغتان: تقول: بعثر، وبحثر، ومعناهما واحد.
وقوله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)
يقول: وميز وبين، فأبرز ما في صدور الناس من خير وشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، قوله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) يقول: أبرز.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ) يقول: ميز.
وقوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)
يقول: إن ربهم بأعمالهم، وما أسرّوا في صدورهم، وأضمروه فيها،
وما أعلنوه بجوارحهم منها، عليم لا يخفى عليه منها شيء، وهو
مجازيهم على جميع ذلك يومئذ.
آخر تفسير سورة: والعاديات
(24/569)
تفسير سورة القارعة
(24/571)
الْقَارِعَةُ (1) مَا
الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ
يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ
الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {الْقَارِعَةُ
(1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ
(3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا
مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ
(7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ
هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ
حَامِيَةٌ (11) } .
يقول تعالى ذكره: (الْقَارِعَةُ) : الساعة التي يقرع قلوب
الناس هولُها، وعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، وذلك صبيحة
لا ليل بعدها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (الْقَارِعَةُ) من أسماء يوم القيامة،
عظَّمه الله وحذّره عباده.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قي قوله (الْقَارِعَةُ مَا
الْقَارِعَةُ) قال: هي الساعة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) قال: هي الساعة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: سمعت أن القارعة
والواقعة والحاقة: القيامة.
وقوله: (مَا الْقَارِعَةُ) يقول تعالى ذكره معظما شأن القيامة
والساعة التي يقرع
(24/573)
العباد هولها: أيّ شيء القارعة، يعني بذلك:
أيّ شيء الساعة التي يقرع الخلق هولها: أي ما أعظمها وأفظعها
وأهولها.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء
القارعة.
وقوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)
يقول تعالى ذكره: القارعة يوم يكون الناس كالفراش، وهو الذي
يتساقط في النار والسراج، ليس ببعوض ولا ذباب، ويعني بالمبثوث:
المفرّق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ
يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) هذا الفراش الذي
رأيتم يتهافت في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) قال: هذا
شَبَه شبهه الله، وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: كغوغاء
الجراد، يركب بعضه بعضا، كذلك الناس يومئذ، يجول بعضهم في بعض.
وقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) يقول
تعالى ذكره: ويوم تكون الجبال كالصوف المنفوش؛ والعِهْن: هو
الألوان من الصوف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) قال: الصوف
المنفوش.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: هو الصوف. وذُكر أن الجبال تسير على الأرض وهي في صورة
الجبال كالهباء.
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) يقول: فأما من
ثقُلَت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك
عندي درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان
دارك ووزن دارك، يراد: حذاء دارك. قال الشاعر:
(24/574)
قدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقائِكُمْ ذَا مِرَّة
... عِندِي لِكُلِّ مُخاصِمٍ مِيزَانُهُ (1)
يعني بقوله: لكلّ مخاصم ميزانه: كلامه، وما ينقض عليه حجته.
وكان مجاهد يقول: ليس ميزان، إنما هو مثل ضرب.
حدثنا بذلك أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يقول: في عيشة
قد رضيها في الجنة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يعني: في الجنة.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ
هَاوِيَةٌ) يقول: وأما من خفّ وزن حسناته، فمأواه ومسكنه
الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا
مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) وهي النار هي
مأواهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: مصيره إلى النار، هي الهاوية. قال
قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد، قال:
هوت أمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الأشعث
بن عبد الله الأعمى، قال: إذا مات المؤمن ذُهب بروحه إلى أرواح
المؤمنين، فيقولون: روّحوا أخاكم، فإنه كان في غمّ الدنيا؛
قال: ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جاءكم؟ فيقولون:
ذهبوا به إلى أمِّه الهاوية.
حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: ثنا عليّ بن مُسْهِر، قال:
ثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال:
يهوون في النار على رءوسهم.
__________
(1) الحديث 175 - هو الحديث السابق بإسناد آخر. وهذا الإسناد
جيد إلى الحارث الأعور، ثم يضعف به الحديث جدا، كما قلنا من
قبل.
ومحمد بن سلمة: هو الباهلي الحراني، وهو ثقة، روى عنه أحمد بن
حنبل وغيره، وأخرج له مسلم في صحيحه، مات سنة 191. وشيخه أبو
سنان: وهو سعيد بن سنان الشيباني، وهو ثقة، ومن تكلم فيه إنما
يكون من جهة خطئه بعض الخطأ، وقال أبو داود: "ثقة من رفعاء
الناس"، وأخرج له مسلم في الصحيح. وعمرو بن مرة: هو المرادي
الجملي، ثقة مأمون بلا خلاف، قال مسعر: "عمرو من معادن الصدق
". وأبو البختري - بفتح الباء الموحدة والتاء المثناة بينهما
خاء معجمة ساكنة: هو سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، تابعي ثقة
معروف.
(24/575)
حدثنا ابن سيف، قال: ثنا محمد بن سَوَّار،
عن سعيد، عن قتادة (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: يهوي في النار
على رأسه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: الهاوية: النار، هي أمُّه ومأواه
التي يرجع إليها، ويأوي إليها، وقرأ: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) وهو مثلها، وإنما
جعل النار أمَّه، لأنها صارت مأواه، كما تؤوي المرأة ابنها،
فجعلها إذ لم يكن له مأوى غيرها، بمنزلة أمّ له.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: وما أشعرك يا محمد ما الهاوية، ثم
بَيَّن ما هي، فقال: (نَارٌ حَامِيَةٌ) ، يعني بالحامية: التي
قد حميت من الوقود عليها.
(24/576)
تفسير سورة ألهاكم
(24/577)
أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) } .
يقول تعالى ذكره: ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال
والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) قال:
كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدّ من بني فلان،
وهم كلّ يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى
صاروا من أهل القبور كلهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو
فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كلام يدلّ على أن معناه
التكاثر بالمال.
* ذكر الخبر بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن
قتادة، عن
(24/579)
مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه
أنه انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) قال:
"ابن آدم، ليس لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبِست فأبليت،
أو تصدّقت فأمضيت".
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، قال: ثنا حماد بن
سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن أُبيّ بن كعب، قال:
كنا نرى أن هذا الحديث من القرآن: "لو أن لابن آدم واديين من
مال، لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم
يتوب الله على من تاب" حتى نزلت هذه السورة: (أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ) إلى آخرها. وقوله صلى الله عليه وسلم بعقب
قراءته "ألهاكم" ليس لك من مالك إلا كذا وكذا، ينبئ أن معنى
ذلك عنده: ألهاكم التكاثر: المال.
وقوله: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يعني: حتى صرتم إلى
المقابر فدفنتم فيها؛ وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر،
لأن الله تعالى ذكره، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم
التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيدا منه
لهم وتهدّدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن حجاج، عن
المنهال، عن زِرّ، عن عليّ، قال: كنا نشكّ في عذاب القبر، حتى
نزلت هذه الآية: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ... إلى: (كَلا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في عذاب القبر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي
ليلى، عن المنهال، عن زِرّ، عن عليّ، قال: نزلت (أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ) في عذاب القبر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن الحجاج، عن
المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن عليّ، قال: ما زلنا نشكّ في عذاب
القبر، حتى نزلت: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ) .
وقوله: (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني تعالى ذكره بقوله: كلا
ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يُلْهِيَكُم التكاثر.
وقوله: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يقول جلّ ثناؤه: سوف تعلمون إذا
زرتم المقابر، أيها الذين ألهاهم التكاثر، غبّ فعلكم،
واشتغالكم بالتكاثر في الدنيا عن طاعة الله ربكم.
(24/580)
وقوله: (ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)
يقول: ثم ما هكذا ينبغي أن تفعلوا أن يلهيكم التكاثر بالأموال،
وكثرة العدد، سوف تعلمون إذا زرتم المقابر، ما تلقون إذا أنتم
زرتموها، من مكروه اشتغالكم عن طاعة ربكم بالتكاثر. وكرّر
قوله: (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) مرتين، لأن العرب إذا أرادت
التغليظ في التخويف والتهديد كرّروا الكلمة مرتين.
ورُوي عن الضحاك في ذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران،
عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)
قال: الكفار (ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال: المؤمنون.
وكذلك كان يقرأها.
وقوله: (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) يقول تعالى
ذكره: ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التكاثر أيها الناس،
لو تعلمون أيها الناس علما يقينا، أن الله باعثكم يوم القيامة
من بعد مماتكم من قبوركم ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم،
ولسارعتم إلى عبادته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ورفض الدنيا
إشفاقا على أنفسكم من عقوبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) كنا نحدَّث أن علم اليقين: أن
يعلم أنَّ الله باعثه بعد الموت.
وقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) اختلفت القراء في قراءة ذلك؛
فقرأته قراء الأمصار: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بفتح التاء من
(لَتَرَوُنَّ) في الحرفين كليهما، وقرأ ذلك الكسائي بضم التاء
من الأولى، وفتحها من الثانية.
والصواب عندنا في ذلك الفتح فيهما كليهما، لإجماع الحجة عليه.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: لترونّ أيها المشركون جهنم
يوم القيامة، ثم لترونها عيانا لا تغيبون عنها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ) يعني: أهل الشرك.
وقوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
يقول: ثم ليسألنكم الله عزّ وجلّ عن النعيم الذي كنتم فيه في
الدنيا: ماذا عملتم فيه، من أين وصلتم إليه، وفيم أصبتموه،
وماذا عملتم به.
(24/581)
واختلف أهل التأويل في ذلك النعيم ما هو؟
فقال بعضهم: هو الأمن والصحة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباد بن يعقوب، قال. ثنا محمد بن سليمان، عن ابن أبي
ليلى، عن الشعبيّ، عن ابن مسعود، في قوله: (ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبيّ،
عن عبد الله، مثله.
حدثني علي بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا محمد بن مروان، عن ليث،
عن مجاهد (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
قال: الأمن والصحة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم. قال: ثنا سفيان، قال:
بلغني في قوله: (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
قال: الأمن والصحة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد
العزيز بن عبد الله، قال: سمعت الشعبيّ يقول: النعيم المسئول
عنه يوم القيامة: الأمن والصحة.
قال: ثنا مهران، عن خالد الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن عامر
الشعبيّ، عن ابن مسعود، مثله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم لَيُسْئَلُنّ يومئذ عما أنعم الله
به عليهم مما وهب لهم من السمع والبصر وصحة البدن.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ) قال: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، قال:
يسأل الله العباد فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم، وهو
قوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) .
حدثني إسماعيل بن موسى الفَزاريُّ، قال: أخبرنا عمر بن شاكر،
عن الحسن قال: كان يقول في قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: السمع والبصر، وصحة البدن.
(24/582)
وقال آخرون: هو العافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباد بن يعقوب، قال: ثنا نوح بن درّاج، عن سعد بن طريف،
عن أبي جعفر (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
قال: العافية.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: بعض ما يطعمه الإنسان، أو يشربه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن بكير
بن عتيق، قال: رأيت سعيد بن جُبَير أُبِيَ بشربة عسل، فشربها،
وقال: هذا النعيم الذي تُسألون عنه.
حدثني عليّ بن سهل الرملي، قال: ثنا الحسن بن بلال، قال: ثنا
حماد بن سلمة، عن عَمَّار (1) بن أبي عمار، قال: سمعت جابر بن
عبد الله يقول: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وعمرُ رضي الله عنهما، فأطعمناهم رطبا، وسقيناهم ماء، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي
تُسألون عَنْهُ".
حدثنا جابر بن الكرديّ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد
بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، قال: سمعت جابر بن عبد الله
يقول: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثني الحسن بن عليّ الصُدائي، قال: ثنا الوليد بن القاسم، عن
يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: بينما أبو بكر
وعمر رضى الله عنهما جالسان، إذ جاء النبيّ صلى الله عليه
وسلم، فقال: "ما أجْلَسَكُما ها هُنا؟ " قالا الجوع، قال:
"وَالَّذِي بَعَثَنِي بالْحَقّ ما أخْرَجَنِي غَيرُهُ"،
فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة،
فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أيْنَ فُلانُ؟ " فقالت:
ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحبا، ما
زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم، فعلق قربته بكَرَب
نخلة، وانطلق فجاءهم بعِذْق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"ألا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ؟ " فقال: أحببت أن
__________
(1) الخبر 176 - هو الحديث السابق بالإسنادين قبله، بمعناه.
ولكنه هنا موقوف على ابن أبي طالب. والإسناد إليه منهار انهيار
الإسناد 174، من أجل الحارث الأعور وابن أخيه. أما من دونهما،
فأبو المختار الطائي وحمزة مضيا في 174، وأبو أحمد الزبيري
وأحمد بن إسحاق مضيا في 159.
(24/583)
تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ
الشفرة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكَ
والْحَلُوبَ"، فذبح لهم يومئذ، فأكلوا، فقال النبيّ صلى الله
عليه وسلم: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ،
أخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حتى
أصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال ثنا شيبان
بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن عُمَير، عن أبي سَلَمة، عن أبي
هريرة، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:
"انْطَلِقُوا بِنا إلى أبي الهَيْثَم بنِ التَّيَّهانِ
الأنْصَارِيّ"، فانطلق بهم إلى ظلّ حديقته، فبسط لهم بساطا، ثم
انطلق إلى نخلة، فجاء بِقِنْوٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "فَهَلا تَنَقَّيْتَ لَنا مِنْ رُطَبِهِ؟ " فقال: أردت
أن تَخَيَّرُوا من رطبه وبُسره، فأكلوا وشربول من الماء؛ فلما
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هَذَا وَالَّذِي
نَفْسِي بِيدهِ مِنَ النَّعِيمِ، الَّذِي أنْتُمْ فِيهِ
مَسْئُولُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ، هَذَا الظِّلُّ
البارِدُ، والرُّطَبُ البارِدُ، عَلَيْهِ الماءُ البارِدُ".
حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال:
ثنا شيبان، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه،
إلا أنه قال في حديثه: "ظِلٌّ بارِدٌ، ورُطَبٌ بارِدٌ، وَماءٌ
بارِدٌ".
حدثنا عليّ بن عيسى البزاز، قال: ثنا سعيد بن سليمان، عن حشرج
بن نباتة، قال: ثنا أبو بصيرة عن أبي عسيب، مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى دخل
حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: "أطْعِمْنا بُسْرًا"،
فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
ثم دعا بماء بارد فشرب، فقال: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا
يَوْمَ القِيامَةِ"، فأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر
البسر، ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا؟ قال:
"نَعَمْ، إلا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِها جَوْعَةٌ، أوْ حُجْرٌ
يُدْخَلُ فِيه مِنَ الحَرِّ والقَرِّ".
حدثني سعيد بن عمرو السكونيّ، قال: ثنا بقية، عن حشرج بن
نباتة، قال: حدثني أبو بصيرة، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: مرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم،
فدعاني وخرجت ومعه أبو بكر وعمر
(24/584)
رضى الله عنهما، فدخل حائطا لبعض الأنصار،
فأُتِيَ بِبُسْرِ عِذْق منه، فوُضِع بين يديه، فأكل هو
وأصحابه، ثم دعا بما بارد، فشرب، ثم قال: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ
هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ"، فقال عمر: عن هذا يوم القيامة؟
فقال: "نَعَمْ، إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِها
عَوْرَتَهُ، أو كِسْرَةٍ سَدُّ بِها جَوْعَتَةُ، أوْ جُحْرٍ
يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرِّ والقَرّ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، عن الجريريّ، عن أبي بصيرة،
قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وناس من أصحابه أكلة من
خبز شعير لم يُنْخَل، بلحم سمين، ثم شربوا من جدول، فقال: "هذا
كله من النعيم الذي تُسْأَلُونَ عنه يوم القيامة".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا محمد بن عمرو،
عن صفوان بن سليم، عن محمد بن محمود بن لبيد، قال: "لما نزلت
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فقرأها حتى بلغ: (لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا: يا رسول الله، عن أيّ
النعيم نسأل، وإنما هو الأسودان: الماء، والتمر، وسيوفنا على
عواتقنا، والعدوّ حاضر! قال: "إن ذلكَ سَيَكُونُ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسين بن عليّ الصدائي، قالا ثنا
شبابة بن سوّار، قال: ثني عبد الله بن العلاء أبو رَزِين
الشامي، قال: ثنا الضحاك بن عَرْزَم، قال: سمعت أبا هريرة
يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أولَ ما
يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ
أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ
الماءِ البارِدِ"؟.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ليث، عن مجاهد،
قال: قال أبو معمر عبد الله بن سخبرة: ما أصبح أحد بالكوفة إلا
ناعماً، إن أهونهم عيشا الذي يأكل خبز البرّ، ويشرب ماء
الفرات، ويستظلّ من الظلّ، وذلك من النعيم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد
الرحمن بن الحارث التميميّ، عن ثابت البناني، عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم قال: "النَّعِيم: المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ
القِيامَةِ: كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ، وَماءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ
يُوَارِيهِ".
قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن بشر بن عبد الله بن
بشار، قال: سمعت بعض أهل يمن يقول: سمعت أبا أُمامة يقول:
النعيم المسئول عنه يوم القيامة: خبز البرّ، والماء العذب.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن بكير بن عتيق العامري، قال:
أُتِيَ سعيد
(24/585)
بن جُبير بشَربة عسل، فقال: أما إن هذا
النعيم الذي نسأل عنه يوم القيامة (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن بكير بن عتيق،
عن سعيد بن جُبير، أنه أتي بشربة عسل، فقال: هذا من النعيم
الذي تُسألون عنه.
وقال آخرون: ذلك كلّ ما التذّه الإنسان في الدنيا من شيء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ) قال: عن كل شيء من لذّة الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) إن الله عزّ
وجل سائل كلّ عبد عما استودعه من نِعَمه وحقه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: إن
الله تعالى ذكره سائل كلّ ذي نعمة فيما أنعم عليه.
وكان الحسن وقتادة يقولان: ثلاث لا يُسأَل عنهنّ ابن آدم، وما
خلاهنّ فيه المسألة والحساب إلا ما شاء الله: كسوة يواري بها
سوْأته، وكسرة يشدّ بها صلبه، وبيت يظله.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله أخبر أنه سائل
هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من
النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم
كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض.
آخر تفسير سورة ألهاكم
(24/586)
تفسير سورة العصر
(24/587)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَالْعَصْرِ (1)
إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالْعَصْرِ) فقال بعضهم:
هو قسم أقسم ربنا تعالى ذكره بالدهر، فقال: العصر: هو الدهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَالْعَصْرِ) قال: العصر: ساعة من ساعات
النهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(وَالْعَصْرِ) قال: هو العشيّ.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر
(وَالْعَصْرِ) اسم للدهر، وهو العشيّ والليل والنهار، ولم يخصص
مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكلّ ما لزِمه هذا الاسم،
فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) يقول: إن ابن آدم لفي
هلَكة ونقصان.
وكان عليّ رضى الله عنه يقرأ ذلك: (إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر
وإنه فيه إلى آخر الدهر) .
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن
دكين، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مرّ،
قال: سمعت عليا رضى الله عنه يقرأ هذا الحرف (وَالْعَصْرِ
وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنه فيه
إلى آخر الدهر) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِي
(24/589)
خُسْر) ففي بعض القراءات (وإنه فيه إلى آخر
الدهر) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
عمرو ذي مرّ، أن عليا رضى الله عنه قرأها (وَالْعَصْرِ
وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) إلا من آمن
(إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: إلا
الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة،
وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما
نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن
الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد.
وقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا
بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه، من أمره، واجتناب ما نهى
عنه فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) والحق: كتاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) قال: الحقّ كتاب الله.
حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال:
ثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح السكوني، حمصيّ لقيته
بإرمينية، قال: سمعت الحسن يقول في (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)
قال: الحقّ: كتاب الله.
وقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا
بالصبر على العمل بطاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال: الصبر: طاعة الله.
(24/590)
حدثني عمران بن بكار الكُلاعي، قال: ثنا
خطاب بن عثمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح، قال:
سمعت الحسن يقول في قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال:
الصبر: طاعة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال: الصبر: طاعة الله.
آخر تفسير سورة والعصر
(24/591)
تفسير سورة ويل لكل همزة
(24/593)
وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ
فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى
الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي
عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ
اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ
(7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ (9) } .
يعني تعالى ذكره بقوله:
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الوادي يسيل من صديد أهل النار
وقيحهم، (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) : يقول: لكل مغتاب للناس، يغتابهم
ويبغضهم، كما قال زياد الأعجم:
تُدلِي بوُدِّي إذا لاقَيْتَنِي كَذِبا ... وَإنْ أُغَيَّبْ
فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَهْ (1)
ويعني باللمزة: الذي يعيب الناس، ويطعن فيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مسروق بن أبان، قال: ثنا وكيع، عن رجل لم يسمه، عن أبي
الجوزاء،
__________
(1) الخبر 177 - هذا موقوف من كلام عبد الله بن مسعود. وقد
رواه الطبري بإسنادين إلى سفيان، وهو الثوري. أما أولهما: أحمد
بن إسحاق عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري - فإسناده صحيح،
لا كلام فيه. وأما ثانيهما: محمد بن حميد الرازي عن مهران، وهو
ابن أبي عمر العطار - فقد بينا في الإسناد 11 أن في رواية
مهران عن الثوري اضطرابًا، ولكنه هنا تابعه عن روايته حافظ
ثقة، هو أبو أحمد الزبيري. وقد رواه الثوري عن منصور، وهو ابن
المعتمر الكوفي، وهو ثقة ثبت حجة، لا يختلف فيه أحد. وأبو
وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي، من كبار التابعين الثقات، قال
ابن معين: "ثقة لا يسأل عن مثله".
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 من طريق عمر بن
سعد أبي داود الحضري عن الثوري، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وذكره
السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13.
(24/595)
قال: قلت لابن عباس: من هؤلاء هم الذين
بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين
الأحبة، الباغون أكبر العيب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن رجل من أهل
البصرة، عن أبي الجوزاء، قال: قلت: لابن عباس: من هؤلاء الذين
ندبهم الله إلى الويل؟ ثم ذكر نحو حديث مسروق بن أبان.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: الهمزة يأكل
لحوم الناس، واللمزة: الطعان.
وقد رُوي عن مجاهد خلاف هذا القول، وهو ما حدثنا به أبو
كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) قال: الهمزة: الطعان، واللمزة: الذي
يأكل لحوم الناس.
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
ورُوي عنه أيضا خلاف هذين القولين، وهو ما حدثنا به ابن بشار،
قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: أحدهما الذي يأكل
لحوم الناس، والآخر الطعان. وهذا يدلّ على أن الذي حدث بهذا
الحديث قد كان أشكل عليه تأويل الكلمتين، فلذلك اختلف نقل
الرواة عنه فيما رووا على ما ذكرت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيْلٌ
لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أما الهمزة: فأكل لحوم الناس، وأما
اللمزة: فالطعان عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة، قال: الهمزة: آكل لحوم الناس: واللمزة: الطعان عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن خثيم، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ
لُمَزَةٍ) قال: ويل لكلّ طعان مغتاب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن
أبي العالية، قال: الهمزة: يهمزه في وجهه، واللمزة: من خلفه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال:
(24/596)
يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه، ويأكل لحوم
الناس، ويطعن عليهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الهمزة باليد، واللمزة باللسان.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ
لُمَزَةٍ) قال: الهمزة: الذي يهمز الناس بيده، ويضربهم بلسانه،
واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم.
واختلف في المعنى بقوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) فقال
بعضهم: عني بذلك: رجل من أهل الشرك بعينه، فقال بعض من قال هذا
القول: هو جميل بن عامر الجُمَحِيّ. وقال آخرون منهم: هو
الأخنس بن شريق.
* ذكر من قال: عُنِي به مشرك بعينه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ
لُمَزَةٍ) قال: مشرك كان يلمز الناس ويهمزهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن رجل من أهل الرقة قال: نزلت في جميل بن عامر الجمحي.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، في قوله
(هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: ليست بخاصة لأحد، نزلت في جميع بني
عامر; قال ورقاء: زعم الرقاشي.
وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء
العام، وهي تقصد به الواحد، كما يقال في الكلام، إذا قال رجل
لأحد: لا أزورك أبدا: كل من لم يزرني، فلست بزائره، وقائل ذلك
يقصد جواب صاحبه القائل له: لا أزورك أبدا.
وقال آخرون: بل معنيّ به، كل من كانت هذه الصفة صفته، ولم يقصد
به قصد آخر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو. قال: ثنا أبو عاصم، قاله: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد،
(24/597)
في قول الله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ
لُمَزَةٍ) قال: ليست بخاصة لأحد.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلّ
همزة لمزة، كلّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها، سبيله
سبيله كائنا من كان من الناس.
وقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ)
يقول: الذي جمع مالا وأحصى عدده، ولم ينفقه في سبيل الله، ولم
يؤد حق الله فيه، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من قرّاء أهل المدينة أبو
جعفر، وعامة قرّاء الكوفة سوى عاصم: "جَمَّعَ" بالتشديد، وقرأ
ذلك عامة قرّاء المدينة والحجاز، سوى أبي جعفر وعامة قرّاء
البصرة، ومن الكوفة عاصم، "جَمَعَ" بالتخفيف، وكلهم مجمعون على
تشديد الدال من (وَعَدَّدَهُ) على الوجه الذي ذكرت من تأويله.
وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت، أنه قرأه: "جَمَعَ
مَالا وَعَدَدَهُ" تخفيف الدال، بمعنى: جمع مالا وجمع عشيرته
وعدده. هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، بخلافها قراءة
الأمصار، وخروجها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك.
وأما قوله: (جَمَعَ مَالا) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان،
لأنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)
يقول: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في
الدنيا، فمزيل عنه الموت. وقيل: أخلده، والمعنى: يخلده، كما
يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سببا لهلاكه: عطب والله
فلان، هلك والله فلان، بمعنى: أنه يعطب من فعله ذلك، ولما يهلك
بعد ولم يعطب; وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب: دخل والله فلان
النار.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما ذلك كما ظنّ، ليس ماله
مخلِّده،
ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه هالك ومعذب على أفعاله ومعاصيه، التي
كان يأتيها في الدنيا، فقال جل ثناؤه: (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) يقول: ليُقذفنّ يوم القيامة في الحطمة، والحطمة:
اسم من أسماء النار، كما قيل لها: جهنم وسقر ولظى، وأحسبها
سميت بذلك لحطمها كلّ ما ألقي فيها، كما يقال للرجل الأكول:
الحطمة. ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك:
"لَيُنْبَذَانِّ فِي الحُطَمَةِ" يعني: هذا الهمزة اللمزة
وماله، فثنَّاه لذلك.
(24/598)
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ)
يقول: وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما الحطمة، ثم أخبره عنها ما هي،
فقال جل ثناؤه: هي (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي
تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ) يقول: التي يطلع ألمها ووهجها
القلوب; والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، حُكي عن العرب
سماعا: متى طلعت أرضنا; وطلعت أرضي: بلغت.
وقوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) يقول تعالى ذكره: إن
الحطمة التي وصفت صفتها عليهم، يعني: على هؤلاء الهمازين
اللمازين (مُؤْصَدَةٌ) : يعني: مطبقة; وهي تهمز ولا تهمز; وقد
قُرئتا جميعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن ابن ظهير، عن السديّ، عن
أبي مالك، عن ابن عباس في (مُؤْصَدَة) : قال: مطبقة.
حدثني عبيد بن أسباط، قال: ثني أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن
عطية، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: في
النار رجل في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام: يا حنان يا
حنان، فيقول رب العزة لجبريل: أخرج عبدي من النار، فيأتيها
فيجدها مطبقة، فيرجع فيقول: يا ربّ (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ) فيقول: يا حبريل فكها، وأخرج عبدي من النار،
فيفكها، ويخرج مثل الخيال، فيطرح على ساحل الجنة حتي يُنبت
الله له شعرا ولحما ودما.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن
الحسن، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مضرِّس بن عبد الله، قال:
سمعت الضحاك (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال:
عليهم مغلقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهَا
عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) : أي مطبقة.
(24/599)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال:
مطبقة، والعرب تقول: أوصد الباب: أغلق.
وقوله: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك،
فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (فِي عَمَدٍ) بفتح العين
والميم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "فِي عُمُدٍ" بضم العين
والميم. والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ
بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، ولغتان صحيحتان. والعرب
تجمع العمود: عُمُدا وعَمَدا، بضم الحرفين وفتحهما، وكذلك تفعل
في جمع إهاب، تجمعه: أُهُبا، بضم الألف والهاء، وأَهَبا
بفتحهما، وكذلك القضم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: (إنها عليهم
مؤصدة بعمد ممددة) أي مغلقة مطبقة عليهم، وكذلك هو في قراءة
عبد الله فيما بلغنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قتادة، في قراءة
عبد الله: "إنها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٍ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما دخلوا في عمد، ثم مدت عليهم تلك
العمد بعماد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال: أدخلهم في
عمد، فمدت عليهم بعماد، وفي أعناقهم السلاسل، فسدّت بها
الأبواب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (فِي
عَمَدٍ) من حديد مغلولين فيها، وتلك العمد من نار قد احترقت من
النار، فهي من نار (مُمَدَّدَةٍ) لهم.
وقال آخرون: هي عمد يعذّبون بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي
عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) كُنَّا نحدَّث أنها عمد يعذّبون بها في
النار، قال بشر: قال يزيد: في قراءة قتادة: (عَمَدٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فِي
عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال: عمود يعذبون به في النار.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: معناه: أنهم يعذّبون
بعمد في
(24/600)
النار، والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها،
ولم يأتنا خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها، ولا وضع لنا
عليها دليل، فندرك به صفة ذلك، فلا قول فيه، غير الذي قلنا
يصحّ عندنا، والله أعلم.
آخر تفسير سورة الهمزة
(24/601)
|