تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر تفسير سورة التين
(24/499)
وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ
الأمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)
فقال بعضهم: عُنِي بالتين: التين الذي يؤكل، والزيتون: الزيتون
الذي يُعْصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قول
الله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: تينكم هذا الذي يؤكل،
وزيتونكم هذا الذي يُعْصر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال:
سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة، قال: التين: هو التين، والزيتون:
الذي تأكلون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرِمة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: تينكم
وزيتونكم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، قال: سُئِل
عكرِمة عن قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين تينكم
هذا، والزيتون: زيتونكم هذا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال:
التين الذي يؤكل، والزيتون: الذي يعصر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
(24/501)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران؛ وحدثنا
أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال:
الفاكهة التي تأكل الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سلام بن سليم، عن خصيف، عن
مجاهد (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: هو تينكم وزيتونكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم، في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين
الذي يؤكل، والزيتون الذي يُعصر.
حدثنا بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) هو الذي ترون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادة، قال:
قال الحسن، فى قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) : التين
تينكم، والزيتون زيتونكم هذا.
وقال آخرون: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي
عبد الله، عن كعب أنه قال في قول الله: (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَالتِّينِ) قال: الجبل الذي عليه دمشق
(وَالزَّيْتُونَ) : الذي عليه بيت المقدس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) ذُكر لنا أن التين الجبل الذي عليه دمشق،
والزيتون: الذي عليه بيت المقدس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسألته عن
قول الله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين: مسجد دمشق،
والزيتون، مسجد إيلياء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر، عن عكرِمة
(وَالتِّينِ
(24/502)
وَالزَّيْتُونِ) قال: هما جبلان.
وقال آخرون: التين: مسجد نوح، والزيتون: مسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) يعني
مسجد نوح الذي بني على الجوديّ، والزيتون: بيت المقدس؛ قال:
ويقال: التين والزيتون وطور سينين: ثلاثة مساجد بالشام.
والصواب من القول في ذلك عندنا: قول من قال: التين: هو التين
الذي يُؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت، لأن
ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تينا، ولا جبل
يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالتين
والزيتون. والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت
الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك
دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه، لأن
دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
وقوله: (وَطُورِ سِينِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال
بعضهم: هو جبل موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه ومسجده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن
قتادة، عن قزعة، قال: قلت لابن عمر: إني أريد أن آتي بيت
المقدس (وَطُورِ سِينِينَ) فقال: لا تأت طور سينين، ما تريدون
أن تدعوا أثر نبيّ إلا وطئتموه. قال قتادة (وَطُورِ سِينِينَ)
: مسجد موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله.
(طُورِ سِينِينَ) قال: جبل موسى.
قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي عبد الله، عن كعب، في قوله:
(وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو الطُّور.
(24/503)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال: مسجد الطور.
وقال آخرون: الطور: هو كلّ جبل يُنْبِتُ. وقوله (سِينِينَ) :
حسن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد،
قال: ثنا عمارة، عن عكرِمة، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال:
هو الحسن، وهي لغة الحبشة، يقولون للشيء الحسن: سِينا سِينا.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء،
قال: سُئل عكرِمة، عن قوله (وَطُورِ سِينِينَ) قال: طُور: جبل،
وسِينين: حَسَنٌ بالحبشية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح بن محارب، عن سفيان، عن أبي
إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: صليت خلف عمر بن الخطاب رضى
الله عنه المغرب، فقرأ في أوّل ركعة (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو جبل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن
عكرِمة (وَطُورِ سِينِينَ) قال: سواء علي نبات السهل والجبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) قال: الجبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) : جبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) الجبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة، قال:
الطور: الجبل، والسينين: الحسن، كما ينبت في السهل، كذلك ينبت
في الجبل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ،
أما (طُورِ سِينِينَ) فهو الجبل ذو الشجر.
(24/504)
وقال آخرون: هو الجبل، وقالوا: سينين:
مبارك حسن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ) : الجبل و (سِينِينَ) قال: المبارك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَطُورِ
سِينِينَ) قال: جبل مبارك بالشام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل بالشام، مُبارك حسن.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: طور سينين: جبل
معروف، لأن الطور هو الجبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف
له، ولو كان نعتا للطور، كما قال من قال معناه حسن أو مبارك،
لكان الطور منّونا، وذلك أن الشيء لا يُضاف إلى نعته، لغير علة
تدعو إلى ذلك.
وقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) يقول: وهذا البلد الآمن
من أعدائه أن يحاربوا أهله، أو يغزوهم. وقيل: الأمين، ومعناه:
الآمن، كما قال الشاعر:
ألمْ تَعْلَمي يا أسْمَ وَيحَكِ أنَّنِي ... حَلَفْتُ يمِينا
لا أخُونُ أمِيني (1)
يريد: آمني، وهذا كما قال جلّ ثناؤه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ) .
وإنما عني بقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ)
قال: مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي عبد
الله،
__________
(1) ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1: 128 لعامر بن
الطفيل، وليس في ديوانه، فإن يكن هذليا، فلعله من شعر المتنخل،
وله قصيدة في ديوان الهذليين 2: 18 - 28، على هذه القافية.
ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3:
191.
(24/505)
عن كعب، في قول الله (وَهَذَا الْبَلَدِ
الأمِينِ) قال: البلد الحرام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: البلد الحرام.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال:
ثنا مهران، عن سفيان؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَهَذَا الْبَلَدِ
الأمِينِ) قال مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سَلام بن سليم، عن خَصيف،
عن مجاهد: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
حدثنى يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث عن
عكرِمة (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : قال: البلد الحرام.
قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله
(وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: مكة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهَذَا
الْبَلَدِ الأمِينِ) يعني: مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: المسجد الحرام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
وهذا جواب القسم، يقول تعالى ذكره: والتين والزيتون، لقد خلقنا
الإنسان في أحسن تقويم.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع
القسم ها هنا (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا
(24/506)
الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فقال
بعضهم: معناه: في أعدل خلق، وأحسن صورة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي
رَزِين، عن ابن عباس (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أعدل
خلق.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
قال: في أحسن صورة.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم،
مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: خَلْقٍ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
قال: في أحسن صورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن
أبي العالية (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يقول: في أحسن صورة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : في أحسن صورة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ) قال: أحسن خَلْقٍ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أحسن
خلق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يقول: في أحسن صورة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
هو والكلبيّ (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قالا في أحسن صورة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لقد خلقنا الإنسان، فبلغنا به استواء
شبابه وجلده وقوّته، وهو أحسن ما يكون، وأعدل ما يكون وأقومه.
(24/507)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن
عكرِمة، في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ) قال: الشاب القويّ الجَلْد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: شبابه أوّل ما نشأ.
وقال آخرون: قيل ذلك لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو منكبّ
على وجهه غير الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن
عكرِمة، عن ابن عباس (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: خلق كلّ شيء منكبا على وجهه، إلا
الإنسان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن معنى ذلك: لقد
خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها؛ لأن قوله: (أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ) إنما هو نعت لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم،
فكأنه قيل: لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم.
وقوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) اختلف أهل
التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم رددناه إلى
أرذل العمر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة،
عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى
أرذل العمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو، عن عاصم، عن
أبي رزين، عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)
يقول: يرّد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله، وهم نفر رُدّوا
إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله
عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
(24/508)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي
رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ) قال: ردّوا إلى أرذل العمر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان،
عن حماد، عن إبراهيم، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: رددناه إلى
الهِرَم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال:
الهِرَم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن
عكرِمة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: الشيخ
الهَرِم، لم يضرّه كبرُه إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازيّ، عن
الربيع بن أنس، عن أبي العالية (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ) قال: في شرّ صورة في صورة خنزير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قال: إلى النار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قال: في النار.
قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
قال: إلى النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: قال الحسن: جهنم مأواه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال:
(24/509)
قال الحسن، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ
أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى النار.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، وأشبهها بتأويل الآية، قول
من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، إلى عمر الخَرْفَى،
الذين ذهبت عقولهم من الهِرَم والكِبر، فهو في أسفل من سفل في
إدبار العمر وذهاب العقل.
وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب في ذلك؛ لأن الله تعالى
ذكره، أخبر عن خلقه ابن آدم، وتصريفه في الأحوال، احتجاجا بذلك
على مُنكري قُدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول:
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يعني: بعد هذه الحُجَج.
ومحال أن يحتجّ على قوم كانوا مُنكرين معنى من المعاني بما
كانوا له مُنكرين. وإنما الحجة على كلّ قوم بما لا يقدرون على
دفعه، مما يعاينونه ويحسُّونه، أو يقرّون به، وإن لم يكونوا له
مُحسين.
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار- التي كان الله يتوعدهم
بها في الآخرة- مُنكرين، وكانوا لأهل الهِرَم والخَرَف من بعد
الشباب والجَلَد شاهدين، علم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا
له مُعاينين، من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم
الحسن والشباب والجلد، إلى الهِرَم والضعف وفناء العمر، وحدوث
الخَرَف.
وقوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
اختلف أهل التأويل في معنى هذا الاستثناء، فقال بعضهم: هو
استثناء صحيح من قوله (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)
قالوا: وإنما جاز استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم
جمع، من الهاء في قوله (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ) وهي كناية الإنسان،
والإنسان في لفظ واحد، لأن الإنسان وإن كان في لفظ واحد، فإنه
في معنى الجمع، لأنه بمعنى الجنس، كما قيل: (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) قالوا: وكذلك جاز أن يقال: (ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) فيضاف أفعل إلى جماعة،
وقالوا: ولو كان مقصودا به قصد واحد بعينه، لم يجز ذلك، كما لا
يُقال: هذا أفضل قائمين، ولكن يقال: هذا أفضل قائم
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سعيد بن سابق، عن عاصم
الأحول،
(24/510)
عن عكرِمة، قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى
أرذل العمر، ثم قرأ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: لا
يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا، فعلى هذا التأويل قوله:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) لخاصّ من الناس، غير
داخل فيهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنه مستثنى منهم.
وقال آخرون: بل الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد يدخلون في
الذين ردّوا إلى أسفل سافلين، لأن أرذل العمر قد يردّ إليه
المؤمن والكافر. قالوا: وإنما استثنى قوله: (إِلا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) من معنى مضمر في قوله:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قالوا: ومعناه: ثم
رددناه أسفل سافلين، فذهبت عقولهم وخرفوا، وانقطعت أعمالهم،
فلم تثبت لهم بعد ذلك حسنة (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ) فإن الذي كانوا يعملونه من الخير، في حال صحة
عقولهم، وسلامة أبدانهم، جار لهم بعد هرمهم وخَرَفهَم.
وقد يُحتمل أن يكون قوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ) استثناء منقطعا، لأنه يحسن أن يقال: ثم رددناه
أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم أجر غير
ممنون، بعد أن يردّ أسفل سافلين.
* ذكر من قال معنى هذا القول:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة،
عن ابن عباس (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: فأيما رجل كان يعمل
عملا صالحا وهو قوي شاب، فعجز عنه، جرى له أجر ذلك العمل حتى
يموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: إذا
كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله،
كُتب له مثل عمله الصالح، الذي كان يعمل في شبيبته، ولم يُؤاخذ
بشيء مما عمل في كبره، وذهاب عقله، من أجل أنه مؤمن، وكان يطيع
الله في شبيبته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)
قال: إلى أرذل العمر، فإذا بلغ المؤمن إلى أرذل العمر، كُتِبَ
له كأحسن ما كان يعمل في شبابه وصحته، فهو قوله: (فَلَهُمْ
(24/511)
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
حماد، عن إبراهيم (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنه يكتب له من
الأجر، مثل ما كان يعمل في الصحة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد بن أبي
سليمان، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
قال: إذا بلغ من الكبر ما يعجز عن العمل، كُتِب له ما كان
يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ) فإنه يُكتب لهم حسناتهم ويُتجاوز لهم عن
سيئاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي
رَزين عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: هم
الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بعمل عملوه في كبرهم، وهم
هَرْمَى لا يعقلون.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل
عكرمة، عن قوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: يوفيه
الله أجره أو عمله، ولا يؤاخذه إذا رُدّ إلى أرذل العمر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت الحكم
يحدّث، عن عكرِمة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: الشيخ الهرم
لم يضرّه كبره إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: من
أدركه الهرم، وكان يعمل صالحا، كان له مثل أجره إذا كان يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم رددناه أسفل سافلين في جهنم، إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون، فعلى هذا
التأويل: إلا الذين آمنوا
(24/512)
وعملوا الصالحات مستثنون من الهاء في قوله:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ) ، وجاز استثناؤهم منها إذ كانت كناية
للإنسان، وهو بمعنى الجمع، كما قال: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا) : إلا من آمن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال
الحسن، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) : في
النار (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال
الحسن: هي كقوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قول من قال: معناه: ثم
رددناه إلى أرذل العمر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في
حال صحتهم وشبابهم، فلهم أجر غير ممنون بعد هرمهم، كهيئة ما
كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم
أقوياء على العمل.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لما وصفنا من الدلالة على صحة
القول بأن تأويل قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ) إلى أرذل العمر.
اختلفوا في تأويل قوله: (غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقال بعضهم: معناه:
لهم أجر غير منقوص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول:
غير منقوص.
وقال آخرون: بل معناه: غير محسوب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن
مجاهد (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : غير محسوب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد مثله.
(24/513)
فَمَا يُكَذِّبُكَ
بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ
الْحَاكِمِينَ (8)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) قال: غير محسوب.
قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) قال: غير محسوب.
وقد قيل: إن معنى ذلك: فلهم أجر غير مقطوع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: فلهم أجر غير
منقوص، كما كان له أيام صحته وشبابه، وهو عندي من قولهم: جبل
مَنِين: إذا كان ضعيفا؛ ومنه قول الشاعر:
أعْطَوْا هُنَيْدَة يَحْدُوها ثَمَانِيَة ... ما فِي عَطائِهمُ
مَنٌّ وَلا سَرَف (1)
يعني: أنه ليس فيه نقص، ولا خطأ.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
} .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ)
فقال بعضهم معناه: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذه الحجج التي
احتججنا بها، بالدين، يعني: بطاعة الله، وما بعثك به من الحقّ،
وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: "ما" في معنى "مَنْ"، لأنه
عُنِيَ به ابن آدم، ومن بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما يكذّبك أيها الإنسان بعد هذه
الحجج بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، قال: قلت لمجاهد: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ) عني به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ
الله! عُني به الإنسان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عمن سمع مجاهدا
يقول: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) قلت: يعني به:
النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله! إنما يعني به
الإنسان.
__________
(1) رواه القرطبي في تفسيره 1: 128 "الصراط الواضح".
(24/514)
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن
سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ) أعني به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ
الله! إنما عُنِيَ به الإنسان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) ؟ إنما يعني الإنسان،
يقول: خلقتك في أحسن تقويم، فما يكذّبك أيها الإنسان بعد
بالدين.
وقال آخرون: إنما عني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل
له: استيقن مع ما جاءك من الله من البيان، أن الله أحكم
الحاكمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) أي استيقن بعد ما جاءك
من الله البيان (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى "ما" معنى
"مَنْ"، ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذبك يا محمد بعد الذي
جاءك من هذا البيان من الله بالدين؟ يعني: بطاعة الله،
ومجازاته العباد على أعمالهم. وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية
بمعنى: فما الذي يكذّبك بأن الناس يدانون بأعمالهم؟ وكأنه قال:
فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما تبين له خلقنا
الإنسان على ما وصفنا.
واختلفوا في معنى قوله: (بِالدِّينِ) فقال بعضهم: بالحساب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود الطُّفاوي، قال: ثنا محمد بن
ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرِمة، في قوله: (فَمَا
يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) قال: الحساب.
وقال آخرون: معناه: بحكم الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)
يقول: ما يكذّبك بحكم الله.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الدين في هذا
الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أن أحد معانى الدين في كلام
العرب: الجزاء والحساب؛ ومنه قولهم:
(24/515)
كما تدين تُدان. ولا أعرف من معاني الدين
"الحكم" في كلامهم، إلا أن يكون مرادا بذلك: فما يكذّبك بعد
بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه؟ فيكون ذلك.
وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) يقول
تعالى ذكره: أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه، وفصل
قضائه بين عباده؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ
ذلك فيما بلغنا قال: بَلى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: "بلى، وأنا على ذلك من
الشاهدين".
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن
سعيد بن جُبير، قال: كان ابن عباس إذا قرأ: (أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) قال: سبحانك اللهمّ، وبلى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان
قتادة إذا تلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)
قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفع ذلك؛ وإذا
قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى) ؟ قال: بلى، وإذا تلا (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ) قال: آمنت بالله، وبما أنزل.
آخر تفسير سورة والتين
(24/516)
تفسير سورة اقرأ باسم ربك
(24/517)
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
(4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ
الإنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ
إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) } .
يعني جل ثناؤه بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) محمدا صلى
الله عليه وسلم يقول: اقرأ يا محمد بذكر ربك (الَّذِي خَلَقَ)
ثم بين الذي خلق فقال: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) يعني:
من الدم، وقال: من علق؛ والمراد به من علقة، لأنه ذهب إلى
الجمع، كما يقال: شجرة وشجر، وقصَبة وَقصَب، وكذلك علقة
وعَلَق. وإنما قال: من علق والإنسان في لفظ واحد، لأنه في معنى
جمع، وإن كان في لفظ واحد، فلذلك قيل: من عَلَق.
وقوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ) يقول: اقرأ يا محمد وربك
الأكرم (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) خَلْقَهُ للكتابة والخط.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) قرأ حتى بلغ
(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) قال: القلم: نعمة من الله عظيمة، لولا
ذلك لم يقم، ولم يصلح عيش. وقيل: إن هذه أوّل سورة نزلت في
القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن عثمان البصري، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا
أبي،
(24/519)
قال: سمعت النعمان بن راشد يقول عن
الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أنها قالت كان أوّل ما ابتدئ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة؛ كانت
تجيء مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان بغار حراء
يتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ثم
يرجع إلى أهله فيتزوّد لمثلها، حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا
محمد أنت رسول الله، قال رسول الله: "فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتيَّ
وأنا قائِمٌ، ثُمَّ رَجَعْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، ثُمَّ
دَخَلْتُ عَلى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي،
حتى ذَهَبَ عنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أتانِي فَقالَ: يا
مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيُل وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، قال: فَلَقَدْ
هَمَمْت أنْ أطْرَحَ نَفسِي مِنْ حالِقٍ [مِنْ جَبَلٍ] ،
فَتَمَثَّل إليَّ حِينَ هَمَمْتُ بذلكَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ،
أنا جِبْرِيلُ، وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قالَ: اقْرأ،
قُلْتُ: ما أقْرأ؟ قال: فأخَذَنِي فَغطَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ قالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فَقَرأتُ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ،
فَقَلْتُ: لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلى نَفْسِي، فأخْبَرْتُها
خَبرِي، فَقالَتْ: أبْشِرْ، فَوَاللهِ لا يُخْزِيكَ الله
أبدًا، وَوَاللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ
الحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأمانَةَ، وَتحْمِلُ الكَلَّ،
وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلى نَوَائِبِ الْحَقّ، ثُمَّ
انْطَلَقَتْ بِي إلى وَرَقَةَ بنِ نَوْفَل بنِ أسَدٍ، قالَتْ:
اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ، فَسأَلنِي، فأخْبَرْتُهُ خَبَرِي،
فَقالَ: هَذا النَّامُوسُ الَّذِي أُنزلَ عَلَى مُوسَى صَلى
اللهُ عَليهِ وسلَّمَ، لَيْتَنِي فِيها جَذَعٌ، لَيْتَنِي
أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قُلْتُ: أوَ
مُخْرِجيَّ هُمْ؟ قال: نَعَمْ، إنَّهُ لَمْ يَجِئ رَجُلٌ قَطّ
بِمَا جِئْتَ بِهِ، إلا عُودِيَ، وَلَئِنْ أدْرَكَنِي يَوْمُك
أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ كانَ أوَّل ما نزلَ
عَليَّ مِنَ القُرْآنِ بَعْدَ (اقرأ) : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) و (يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا
سَجَى) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن
شهاب، قال: ثني عروة أن عائشة أخبرته، وذكر نحوه، غير أنه لم
يقل:" ثم كان أوّل ما أنزل عليّ من القرآن ... الكلام إلى
آخره.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا سليمان
الشيباني، قال: ثنا عبد الله بن شدّاد، قال: أتى جبريل محمدا،
فقال: يا محمد اقرأ، فقال:
(24/520)
"وما أقرا؟ " قال: فضمه، ثم قال: يا محمد
اقرأ، قال: "وما اقرأ؟ " قال: (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ) حتى بلغ (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
قال: فجاء إلى خديجة، فقال: "يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي"،
قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك، وما أتيت فاحشة قطّ؛
قال: فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر، قال: لئن كنت صادقة إن
زوجك لنبيّ، ولَيَلْقَينّ من أمته شدة، ولئن أدركته لأومننّ
به، قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا
قد قلاك، فأنزل الله: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ،
عن عروة، عن عائشة- قال إبراهيم: قال سفيان: حفظه لنا ابن
إسحاق- إن أوّل شيء أُنزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ) .
حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، قال: ثنا سفيان،
عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ عن عروة، عن عائشة، أن أوّل سورة
أُنزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عمرو بن
دينار، عن عُبيد بن عُمير، قال: أوّل سورة نزلت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
.
قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال. ثنا شعبة، عن عمرو بن
دينار، قال: سمعت عُبيد بن عُمير يقول، فذكر نحوه.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال. أخبرنا النضر بن شميل، قال: ثنا
قرّة، قال: أخبرنا أبو رجاء العُطارديّ، قال: كنا في المسجد
الجامع، ومقرئنا أبو موسى الأشعري، كأني أنظر إليه بين بُردين
أبيضين؛ قال أبو رجاء: عنه أخذت هذه السورة: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وكانت أوّل سورة نزلت على محمد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن
بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: أوّل سورة نزلت من القرآن
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي، قالا ثنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أوّل ما نزل من
القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)
(24/521)
وزاد ابن مهدي: و (ن وَالْقَلَمِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن دينار،
قال: سمعت عُبيد بن عُمير يقول: أوّل ما أنزل من القرآن
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) .
قال ثنا وكيع، عن قُرّة بن خالد، عن أبي رجاء العُطارديّ، قال:
إني لأنظر إلى أبي موسى وهو يقرأ القرآن في مسجد البصرة، وعليه
بُردان أبيضان، فأنا أخذت منه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ) ، وهي أوّل سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه
وسلم.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن
أوّل سورة أُنزلت: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) .
ثم (ن وَالْقَلَمِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله.
وقوله: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) يقول تعالى
ذكره: علَّم الإنسان الخطّ بالقلم، ولم يكن يَعْلَمُهُ، مع
أشياء غير ذلك، مما علمه ولم يكن يعلمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) قال: علَّم الإنسان
خطا بالقلم.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان
أن يُنْعِم عليه ربُّه بتسويته خَلقه، وتعليمه ما لم يكن يعلم،
وإنعامه بما لا كُفءَ له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك، ويطغى
عليه، أن رآه استغنى.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)
يقول: إن الإنسان ليتجاوز حدّه، ويستكبر على ربه، فيكفر به،
لأن رأى نفسه استغنت. وقيل: إن رآه استغنى لحاجة "رأى" إلى اسم
وخبر، وكذلك تفعل العرب في كل فعل اقتضى الاسم والفعل، إذا
أوقعه المخبر عن نفسه على نفسه، مكنيا عنها فيقول: متى تراك
خارجا؟ ومتى تحسبك سائرا؟ فإذا كان الفعل لا يقتضي إلا منصوبا
واحدا، جعلوا موضع المكنى نفسه، فقالوا: قتلت نفسك، ولم
يقولوا: قتلتك ولا قتلته.
وقوله: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) : يقول: إن إلى ربك
يا محمد مَرْجِعَه، فذائق من
(24/522)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
أليم عقابه ما لا قبل له به.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)
عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) } .
ذُكر أن هذه الآية وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام، وذلك
أنه قال فيما بلغنا: لئن رأيت محمدا يصلي، لأطأنّ رقبته؛ وكان
فيما ذُكر قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي، فقال
الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أرأيت يا محمد أبا جهل
الذي يَنْهاك أن تصلي عند المقام، وهو مُعرض عن الحقّ، مكذّب
به. يُعجِّب جلّ ثناؤه نبيه والمؤمنين من جهل أبي جهل، وجراءته
على ربه، في نهيه محمدا عن الصلاة لربه، وهو مع أياديه عنده
مكذّب به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح. عن مجاهد. في قول الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى
عَبْدًا إِذَا صَلَّى) قال: أبو جهل، يَنْهي محمدا صلى الله
عليه وسلم إذا صلى.
حدثنا بشر. قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد. عن قتادة
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) نزلت في
عدوّ الله أبي جهل، وذلك لأنه قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ
على عنقه، فأنزل الله ما تسمعون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قول الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا
صَلَّى) قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم
يصلي، لأطأنّ على عنقه؛ قال: وكان يقال: لكل أمة فرعون، وفرعون
هذه الأمة أبو جهل.
حدثنا إسحاق بن شاهين الواسطيّ، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن
داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول صلى الله عليه
وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه أن يصلي، فأنزل الله:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ...
(24/523)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ
عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ
يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
إلى قوله: (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى
الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) } .
يقول تعالى ذكره: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ) محمد (عَلَى
الْهُدَى) يعني: على استقامة وسَدَاد في صلاته لربه (أَوْ
أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أو أمر محمد هذا الذي ينهي عن الصلاة،
باتقاء الله، وخوف عقابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوَى) قال محمد: كان على الهدى، وأمر بالتقوى.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (13) } .
يقول تعالى ذكره: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) أبو جهل بالحق
الذي بعث به محمدًا (وَتَوَلَّى) يقول: وأدبر عنه، فلم يصدِّّق
به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني: أبا جهل.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ
يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا
لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } .
يقول تعالى ذكره: ألم يعلم أبو جهل إذ ينهى محمدا عن عبادة
ربه، والصلاة له، بأن الله يراه فيخاف سطوته وعقابه. وقيل:
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى،
(24/524)
أرأيت إن كان على الهدى، فكررت أرأيت مرات
ثلاثًا على البدل. والمعنى: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى، وهو
مكذب متول عن ربه، ألم يعلم بأن الله يراه.
وقوله: (كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يقول: ليس كما قال: إنه
يطأ عنق محمد، يقول: لا يقدر على ذلك، ولا يصل إليه.
قوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يقول: لئن لم ينته أبو جهل عن
محمد (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) يقول: لنأخذنّ بمقدم رأسه،
فلنضمنه ولنُذلنه؛ يقال منه: سفعت بيده: إذا أخذت بيده. وقيل:
إنما قيل (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) والمعنى: لنسوّدنّ
وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه كله، إذ كانت الناصية في
مقدم الوجه. وقيل: معنى ذلك: لنأخذنّ بناصيته إلى النار، كما
قال: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ) .
وقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) فخفض ناصية ردّا على
الناصية الأولى بالتكرير، ووصف الناصية بالكذب والخطيئة،
والمعنى لصاحبها.
وقوله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) يقول تعالى ذكره: فليدع أبو جهل
أهل مجلسه وأنصاره، من عشيرته وقومه، والنادي: هو المجلس.
وإنما قيل ذلك فيما بلغنا، لأن أبا جهل لما نهى النبيّ صلى
الله عليه وسلم عن الصلاة عند المقام، انتهره رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأغلظ له، فقال أبو جهل: علام يتوعدني محمد
وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟ فقال الله جلّ ثناؤه: (لَئِنْ
لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) ، فليدع حينئذ
ناديه، فإنه إن دعا ناديه، دعونا الزبانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار، وقال أهل التأويل.
* ذكر الآثار المروية في ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر؛ وحدثنا أبو كُرَيب،
قال: ثنا الحكم بن جميع، قال: ثنا عليّ بن مُسْهِر، جميعا عن
داود بن أبي هند، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فمرّ به أبو جهل بن هشام،
فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ وتوعَّده، فأغلظ له رسول الله
صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد بأيّ شيء تهددني؟
أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فأنزل الله:
(فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال ابن عباس:
لو دعا ناديه، أخذته زبانية العذاب من ساعته.
(24/525)
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن
عبد الله، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه أن يصلي،
فأنزل الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا
صَلَّى) ... إلى قوله: (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) فقال: لقد علم
أني أكثر هذا الوادي نَادِيا، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم،
فتكلم بشيء، قال داود: ولم أحفظه، فأنزل الله: (فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) فقال ابن عباس: فوالله لو
فعل لأخذته الملائكة من مكانه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن أبيه، قال: ثنا
نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال أبو
جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل نعم، قال: فقال:
واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك، لأطأنّ على رقبته، لأعفرنّ
وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على
عَقبيه، ويتقي بيديه؛ قال: فقيل له: مالك؟ قال: فقال: إن بيني
وبينه خَنْدقا من نار، وهَوْلا وأجنحة؛ قال: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ
المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" قال: وأنزل الله، لا أدري في
حديث أبي هريرة أم لا (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ
عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني أبا جهل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ
اللَّهَ يَرَى كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ
بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ) يدعو قومه (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) الملائكة
(كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: أخبرنا يونس بن
أبي إسحاق، عن الوليد بن العَيْزار، عن ابن عباس، قال: قال أبو
جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه، فأنزل الله:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) حتى بلغ هذه الآية: (لَنَسْفَعَنْ
بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) ، فجاء النبيّ صلى الله
عليه وسلم وهو يصلي، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: "قد اسودّ ما
بيني وبينه من الكتائب" ... قال ابن عباس: والله لو تحرّك
لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا زكريا بن عديّ، قال: ثنا عبيد الله
بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو
جهل: لئن رأيت
(24/526)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند
الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لَوْ فَعَلَ لأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ عِيانا".
وبالذي قلنا في معنى النادي قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن مسعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)
يقول: فليدع ناصره.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال: الملائكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي سنان، عن
عبد الله بن أبي الهذيل: الزبانية أرجلهم في الأرض، ورءوسهم في
السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن قتادة، في
قوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال النبيّ صلى الله عليه
وسلم: "لَوْ فَعَلَ أبُو جَهْلٍ لأخَذَتْهُ الزَّبانِيَةُ
المَلائِكَةُ عِيانًا".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ) قال: الملائكة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: الزبانية، قال: الملائكة.
وقوله: (كُلا) يقول تعالى ذكره: ليس الأمر كما يقول أبو جهل،
إذ ينهي محمدًا عن عبادة ربه، والصلاة له (لا تُطِعْهُ) يقول
جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تُطع أبا جهل
فيما أمرك به من ترك الصلاة لربك (وَاسْجُدْ) لِرَبّكَ
(وَاقْتَرَبَ) منه، بالتحبب إليه بطاعته، فإن أبا جهل لن يقدر
على ضرّك، ونحن نمنعك منه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا لا
تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ذكر لنا أنها نزلت في أبي
جهل، قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأنّ عنقه، فأنزل الله:
(كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) قال نبي الله صلى
الله عليه وسلم حين بلغه الذي قال أبو جهل، قال: "لو فعل
لاختطفته الزبانية".
آخر تفسير سورة اقرأ باسم ربك، والحمد لله وحده.
(24/527)
تفسير سورة القدر
(24/529)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
(3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنزلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ
كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) }
.
يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء
الدنيا في ليلة القَدْر، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها
قضاء السنة؛ وهو مصدر من قولهم: قَدَرَ الله عليّ هذا الأمر،
فهو يَقْدُر قَدْرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن
عكرِمة، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن كله مرة واحدة في ليلة
القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث
في الأرض شيئًا أنزله منه حتى جمعه.
حدثنا ابن المثنى قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا
في ليلة القدر، وكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه،
فهو قوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) .
قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، فذكر
نحوه، وزاد فيه. وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة.
قال ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا المعتمر بن سليمان
التيميّ، قال: ثنا عمران أبو العوّام، قال: ثنا داود بن أبي
هند، عن الشعبيّ، أنه قال في قول الله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: نزل أول القرآن في ليلة القدر.
(24/531)
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا
حصين، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في ليلة
من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فُرِّق في
السنين، وتلا ابن عباس هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ) قال: نزل متفرّقا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن الشعبيّ، في
قوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: بلغنا
أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل،
عن مسلم، عن سعيد بن جُبير: أنزل القرآن جملة واحدة، ثم أنزل
ربنا في ليلة القدر: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) .
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في
قوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: أنزل
القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، إلى السماء الدنيا، فكان
بموقع النجوم، فكان الله ينزله على رسوله، بعضه في أثر بعض، ثم
قرأ: (وقالوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (ليلة القدر) : ليلة الحكم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال:
ليلة الحكم.
ثنا وكيع. عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جُبير: يؤذن
للحجاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا
يغادر منهم أحد، ولا يُزاد فيهم، ولا ينقص منهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم،
قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان
هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كلّ رمضان،
وإنها لليلة القدر، (فيها يُفرق كلّ أمر حكيم)
(24/532)
فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق، إلى
مثلها.
حدثنا أبو كُرَيب. قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
سعيد بن جُبير، عن ابن عمر. قال: ليلة القدر في كلّ رمضان.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يقول: وما
أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر.
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: العمل
في ليلة القدر بما يرضي الله، خير منَ العمل في غيرها ألف شهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: بلغني عن
مجاهد (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال:
عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر.
قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، قوله:
(خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال: عملٌ فيها خير من عمل ألف
شهر.
وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها
ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّام بن
سلم، عن المُثَنَّى بن الصَّبَّاح، عن مجاهد قال: كان في بني
إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى
يُمْسِيَ، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية: (لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قيام تلك الليلة خير من
عمل ذلك الرجل.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سهيل، قال:
ثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: ثنا القاسم بن الفضل، عن عيسى بن
مازن، قال: قلت للحسن بن عليّ رضى الله عنه: يا مسوّد وجوه
المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل، فبايعت له، يعني معاوية بن أبي
سفيان، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه
بني أميَّة يعلون منبره حليفة خليفة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل
الله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) و (إِنَّا
أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) يعني ملك
(24/533)
بني أمية؛ قال القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني
أمية، فإذا هو ألف شهر.
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عملٌ في ليلة
القدر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر. وأما الأقوال
الأخر، فدعاوى معان باطلة، لا دلالة عليها من خبر ولا عقل، ولا
هي موجودة في التنزيل.
وقوله: (تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: تنزل
الملائكة وجبريل معهم، وهو الروح في ليلة القدر (بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) يعني بإذن ربهم، من كلّ أمر قضاه
الله في تلك السنة، من رزق وأجل وغير ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال: يقضى فيها ما يكون في السنة
إلى مثلها.
فعلى هذا القول منتهى الخبر، وموضع الوقف من كلّ أمر.
وقال آخرون: (تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ) لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلَّموا عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن يحيى بن زياد الفرّاء، قال: ثني أبو بكر بن عياش، عن
الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: "من كل امرئ
سلام" وهذه القراءة من قرأ بها وجَّه معنى من كلّ امرئ: من كلّ
ملَك؛ كان معناه عنده: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من
كلّ ملك يسلم على المؤمنين والمؤمنات؛ ولا أرى القراءة بها
جائزة، لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها، وأنها خلاف لما في
مصاحف المسلمين، وذلك أنه ليس في مصحف من مصاحف المسلمين في
قوله "أمر" ياء، وإذا قُرِئت: (مِنْ كُلّ امْرِئ) لحقتها همزة،
تصير في الخطّ ياء.
والصواب من القول في ذلك: القول الأوّل الذي ذكرناه قبل، على
ما تأوّله قتادة.
وقوله: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سلام ليلة
القدر من الشرّ كله من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/534)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(سَلامٌ هِيَ) قال: خير (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنْ
كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن
مجاهد (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال: من كلّ
أمر سلام.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول
الله: (سَلامٌ هِيَ) قال: ليس فيها شيء، هي خير كلها (حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد الحمانيّ،
عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى، في قوله:
(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ) قال: لا يحدث فيها أمر.
وعُنِي بقوله: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) : إلى مطلع الفجر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)
فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار، سوى يحيى بن وثاب والأعمش
والكسائي (مَطْلَعِ الْفَجْرِ) بفتح اللام، بمعنى: حتى طلوع
الفجر؛ تقول العرب: طلعت الشمس طلوعا ومطلعا. وقرأ ذلك يحيى بن
وثاب والأعمش والكسائي: (حتى مَطْلِعِ الْفَجْرِ) بكسر اللام،
توجيها منهم ذلك إلى الاكتفاء بالاسم من المصدر، وهم ينوون
بذلك المصدر.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: فتح اللام لصحة معناه في
العربية، وذلك أن المطلع بالفتح هو الطلوع، والمطلع بالكسر: هو
الموضع الذي تطلع منه، ولا معنى للموضع الذي تطلع منه في هذا
الموضع.
آخر تفسير سورة القدر
(24/535)
تفسير سورة لم يكن
(24/537)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) فقال بعضهم:
معنى ذلك: لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل،
والمشركون من عَبدة الأوثان (مُنْفَكِّينَ) يقول: منتهين حتى
يأتيهم هذا القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله: (مُنْفَكِّينَ) قال: لم يكونوا
ليَنتهوا حتى يتبين لهم الحق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (مُنْفَكِّينَ) قال: منتهين عما هم فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي هذا
القرآن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول
الله:
(24/539)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ (5)
(وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) قال: لم
يكونوا منتهين حتى يأتيهم; ذلك المنفكّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون، لم
يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم، حتى بُعث، فلما بُعث
تفرّقوا فيه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين
كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى
تأتيهم البيِّنة، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه، رسول من
الله. وقوله. (مُنْفَكِّينَ) في هذا الموضع عندي من انفكاك
الشيئين أحدهما من الآخر، ولذلك صَلُح بغير خبر، ولو كان بمعنى
ما زال، احتاج إلى خبر يكون تماما له، واستؤنف قوله (رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ) هي نكرة على البيِّنة، وهي معرفة، كما قيل: (ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ) فقال: حتى يأتيهم بيان أمر
محمد أنه رسول الله، ببعثة الله إياه إليهم، ثم ترجم عن
البيِّنة، فقال: تلك البينة
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً) يقول:
يقرأ صحفا مطهرة من الباطل
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يقول: في الصحف المطهرة كتب من الله
قيمة عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ، لأنها من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً) يذكر القرآن بأحسن
الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يقول: وما تفرّق
اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فكذّبوا به،
إلا من بعد ما جاءتهم البينة، يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء
اليهود والنصارى البينة، يعني: أن بيان أمر محمد أنه رسول
بإرسال الله إياه إلى خلقه، يقول: فلما بعثه الله تفرّقوا فيه،
فكذّب به بعضهم، وآمن بعضهم، وقد كانوا قبل أن يُبعث غير
مفترقين فيه أنه نبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا
الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
(5) } .
(24/540)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
يقول تعالى ذكره: وما أمر الله هؤلاء
اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله
مخلصين له الدين; يقول: مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم
ربهم بشرك، فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عُزَيرا ابن الله،
والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم.
وقوله: (حُنَفَاءَ) قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل
بشواهده المُغنية عن إعادتها، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل
من الأخبار في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ) يقول: حجاجا مسلمين غير مشركين، يقول: ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويحجوا وذلك دين القيمة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ) والحنيفية: الختان، وتحريم الأمهات
والبنات والأخوات والعمات والخالات والمناسك.
وقوله: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)
يقول: وليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة.
وقوله: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل
الكتاب والمشركين، هو الدين القيمة، ويعني بالقيِّمة:
المستقيمة العادلة، وأضيف الدين إلى القيِّمة، والدين هو
القَيِّم، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما. وهي في قراءة عبد الله
فيما أرى فيما ذُكر لنا: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
وأُنِّثت القيمة، لأنها جعلت صفة للملة، كأنه قيل: وذلك الملة
القيِّمة، دون اليهودية والنصرانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) هو الدين الذي بعث الله به
رسوله، وشرع لنفسه، ورضي به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) قال: هو
واحد; قيِّمة: مستقيمة معتدلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ
(24/541)
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم، فجحدوا نبوّته، من اليهود والنصارى والمشركين
جميعهم (فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين
لابثين فيها (أَبَدًا) لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها
(أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء
الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هم شرّ من برأه الله
وخلقه، والعرب لا تهمز البرية، وبترك الهمز فيها قرأتها قراء
الأمصار، غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم، فإنه حكى بعضهم
عنه أنه كان يهمزها، وذهب بها إلى قول الله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا) [الحديد: 22] وأنها فعيلة من ذلك. وأما الذين لم
يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا
تركوا الهمز فيها، كما تركوه من الملك، وهو مفعل من ألك أو
لأك، ومِن يرى، وترى، ونرى، وهو يفعل من رأيت. والآخر: أن
يكونوا وجَّهوها إلى أنها فعيلة من البري وهو التراب. حكي عن
العرب سماعا: بفيك البري، يعني به: التراب.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)
يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، وعبدوا
الله مخلصين له الدين حنفاء، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة،
وأطاعوا الله فيما أمر ونهى (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ) يقول: من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية. وقد:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن
محمد بن عليّ (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ".
(24/542)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى جل جلاله وتقدست
أسماؤه: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ (8) } .
يقول تعالى ذكره: ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند
ربهم يوم
(24/542)
القيامة (جَنَّاتِ عَدْنٍ) يعني بساتين
إقامَة لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين فيها أبدًا، لا يخرجون عنها، ولا
يموتون فيها
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا
لخلاصهم من عقابه في ذلك
(وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الثواب يومئذ، على طاعتهم
ربهم في الدنيا، وجزاهم عليها من الكرامة.
وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)
يقول تعالى ذكره: هذا الخير الذي وصفته، ووعدته الذين آمنوا
وعملوا الصالحات يوم القيامة، لمن خشي ربه; يقول: لمن خاف الله
في الدنيا في سرّه وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب
معاصيه، وبالله التوفيق.
آخر تفسير سورة لم يكن
(24/543)
تفسير سورة إذا زلزلت
(24/545)
إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ
زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا
أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
(8) } .
يقول تعالى ذكره: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ) لقيام الساعة
(زِلْزَالَهَا) فرُجَّت رجًّا; والزلزال: مصدر إذا كسرت الزاي،
وإذا فتحت كان اسما; وأضيف الزلزال إلى الأرض وهو صفتها، كما
يقال: لأكرمنك كرامتك، بمعنى: لأكرمنك كرامة. وحسن ذلك في
زلزالها، لموافقتها رءوس الآيات التي بعدها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن
سعيد، قال: (زُلْزِلَتِ الأرْضُ) على عهد عبد الله، فقال لها
عبد الله: مالك، أما إنها لو تكلَّمت قامت الساعة.
وقوله: (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) يقول: وأخرجت
الأرض ما في بطنها من الموتى أحياء، والميت في بطن الأرض ثقل
لها، وهو فوق ظهرها حيا ثقل عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن
عكرِمة، عن ابن عباس (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) قال:
الموتى.
(24/547)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني
عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَأَخْرَجَتِ
الأرْضُ أَثْقَالَهَا) قال: يعني الموتى.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبى نجيح، عن مجاهد (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) من في
القبور.
وقوله: (وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا) يقول تعالى ذكره: وقال
الناس إذا زلزلت الأرض لقيام الساعة: ما للأرض وما قصتها
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
كان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني ابن سنان القزّاز، قال: ثنا
أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس، (وَقَالَ
الإنْسَانُ مَا لَهَا) قال الكافر: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَا)
يقول: يومئذ تحدث الأرض أخبارها، وتحديثها أخبارها، على القول
الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود، أن تتكلم فتقول: إن الله
أمرني بهذا، وأوحى إليّ به، وأذن لي فيه.
وأما سعيد بن جبير، فإنه كان يقول في ذلك ما حدثنا به أبو
كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، قال: سمعت
سعيد بن جبير يقرأ في المغرب مرة: (يَوْمَئِذٍ تُنَبِّئُ
أَخْبَارَها) ومرة: (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
فكأن معنى تحدّث كان عند سعيد: تُنَبِّئُ، وتنبيئها
أخبَارَهَا: إخراجها أثقالها من بطنها إلى ظهرها. وهذا القول
قول عندي صحيح المعنى، وتأويل الكلام على هذا المعنى: يومئذ
تبين الأرض أخبارها بالزلزلة والرجة، وإخراج الموتى من بطونها
إلى ظهورها، بوحي الله إليها، وإذنه لها بذلك، وذلك معنى قوله:
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ
أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ
تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال:
أمرها، فألقَت ما فيها وتخلَّت.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال:
أمرها.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك: (يَوْمَئِذٍ تُنْبِّئُ
أَخْبَارَها) وقيل: معنى
(24/548)
ذلك أن الأرض تحدث أخبارها من كان على
ظهرها من أهل الطاعة والمعاصي، وما عملوا عليها من خير أو شرّ.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يَوْمَئِذٍ
تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: ما عمل عليها من خير أو شرّ،
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال: أعلمها ذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: ما كان فيها، وعلى
ظهرها من أعمال العباد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)
قال: تخبر الناس بما عملوا عليها.
وقيل: عنى بقوله: (أَوْحَى لَهَا) : أوحى إليها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن
عكرِمة، عن ابن عباس (أَوْحَى لَهَا) قال: أوحى إليها.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) قيل: إن
معنى هذه الكلمة التأخير بعد (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) قالوا:
ووجه الكلام: يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها، لِيُرَوْا
أعمالهم، يومئذ يصدر الناس أشتاتا. قالوا: ولكنه اعترض بين ذلك
بهذه الكلمة.
ومعنى قوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) عن
موقف الحساب فِرَقا متفرقين، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ
ذات الشمال إلى النار.
وقوله: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) يقول: يومئذ يصدر الناس
أشتاتا متفرّقين، عن اليمين وعن الشمال، ليروا أعمالهم، فيرى
المحسن في الدنيا، المطيع لله عمله وما أعد الله له يومئذ من
الكرامة، على طاعته إياه كانت في الدنيا، ويرى المسيء العاصي
لله عمله وجزاء عمله وما أعدّ الله له من الهوان والخزي في
جهنم على معصيته إياه كانت في الدنيا، وكفره به.
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)
يقول: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير، يرى ثوابه هنالك
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يقول: ومن
كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه هنالك، وقيل: ومن
يعمل والخبر
(24/549)
عنها في الآخرة، لفهم السامع معنى ذلك، لما
قد تقدم من الدليل قبل، على أن معناه: فمن عمل; ذلك دلالة
قوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا
أَعْمَالَهُمْ) على ذلك. ولكن لما كان مفهوما معنى الكلام عند
السامعين، وكان في قوله: (يَعْمَلْ) حث لأهل الدنيا على العمل
بطاعة الله، والزجر عن معاصيه، مع الذي ذكرت من دلالة الكلام
قبل ذلك، على أن ذلك مراد به الخبر عن ماضي فعله، وما لهم على
ذلك، أخرج الخبر على وجه الخبر عن مستقبل الفعل.
وبنحو الذي قلنا من أن جميعهم يرون أعمالهم، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني على، قال: ثنا بو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، في قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ) قال: ليس مؤمن ولا كافر عمِل خيرا ولا شرا في الدنيا،
إلا آتاه الله إياه. فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته، فيغفر
الله له سيئاته. وأما الكافر فيردّ حسناته، ويعذّبه بسيئاته.
وقيل في ذلك غير هذا القول، فقال بعضهم: أما المؤمن، فيعجل له
عقوبة سيئاته في الدنيا، ويؤخِّر له ثواب حسناته، والكافر
يعجِّل له ثواب حسناته، ويؤخر له عقوبة سيئاته.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا محمد بن بشر،
قال: حدثنيه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن قتادة، قال:
سمعت محمد بن كعب القرظي، وهو يفسِّر هذه الآية: (فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قال: من يعمل مثقال ذرَّة من خير
من كافر ير ثوابه في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده، حتى
يخرج من الدنيا، وليس له عنده خير (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) من مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه
وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس عنده شيء.
حدثني محمود بن خِداش، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال:
ثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: سألت محمد
بن كعب القرظي، عن هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) قال: من يعمل مثقال ذرَّة من خير من كافر، ير
ثوابها في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له خير;
ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن، ير عقوبتها
(24/550)
في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج وليس له شر.
حدثني أبو الخطاب الحساني، قال: ثنا الهيثم بن الربيع، قال:
ثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنس، قال: كان
أبو بكر رضى الله عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت
هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو
بكر يده من الطعام، وقال: يا رسول الله إني أُجزَى بما عملت من
مثقال ذرة من شرّ، فقال: "يا أبا بَكر، ما رأيْتَ في الدنْيا
ممَّا تكره فمثَاقيلُ ذَرّ الشَّرّ، وَيَدَّخِرُ لَكَ اللهُ
مثَاقِيلَ الخير حتى تُوَفَّاه يَوْمَ الْقِيامَةِ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أيوب، قال: وجدنا في كتاب أبي
قِلابة، عن أبي إدريس: أن أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلى الله
عليه وسلم، فأنزلت هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده من الطعام، وقال: إني لراء ما
عملت، قال: لا أعلمه إلا قال: ما عملت من خير وشرّ، فقال
النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ما تَرَى مِمَّا تَكْرَهُ
فَهُوَ مثَاقِيلُ ذَرّ شَر كَثِيرٍ، وَيَدَّخِرُ اللهُ لَكَ
مَثَاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ حتى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا أيوب، قال: قرأت
في كتاب أبي قلابة قال: نزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) وأبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم،
فأمسك وقال: يا رسول الله، إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال:
" أرأيْتَ ما رأيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مثَاقِيلِ
ذَرّ الشَّرِ، وَيَدَّخِرُ مثَاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ، حتى
تُعْطَوْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" قال أبو إدريس: فأرى مصداقها
في كتاب الله، قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُليَة، عن داود، عن
الشعبي، قال: قالت عائشة: يا رسول الله، إن عبد الله بن
جُدْعان كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل، هل ذاك نافعه؟ قال: "لا
إنه لم يقل يوما: " رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق،
عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية
يصل الرحم، ويُطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا
يَنْفَعُهُ، إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يوما: " رب اغفر
(24/551)
لي خطيئتي يوم الدين "
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر
الشعبي، أن عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله، إن عبد الله
بن جدعان، كان يصل الرحم، ويَقْرِي الضيف، ويفكّ العاني، فهل
ذلك نافعه شيئا؟ قال: "لا إنَّهُ لَمْ يقل يوما: " رب اغفر لي
خطيئتي يوم الدين".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عامر،
عن علقمة، أن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: يا رسول الله، إن أمنا
هلكت في الجاهلية، كانت تصل الرحم، وتَقْرِي الضيف، وتفعل
وتفعل، فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: "لا".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا
المعتمر بن سليمان، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، عن علقمة بن
قيس، عن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: ذهبت أنا وأخي إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمنا كانت في
الجاهلية تقري الضيف، وتصل الرحم، هل ينفعها عملها ذلك شيئا؟
قال: "لا".
حدثني محمد بن إبراهيم بن صدران وابن عبد الأعلى، قالا ثنا
المعتمر بن سليمان، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن
علقمة، عن سلمة بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
عن محمد بن كعب، أنه قال: أما المؤمن فيرى حسناته في الآخرة،
وأما الكافر فيرى حسناته في الدنيا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا أبو
نعامة، قال: ثنا عبد العزيز بن بشير الضبي جدّه سلمان بن عامر
أن سلمان بن عامر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ
أبي كان يصل الرحم، ويفي بالذمة، ويُكرم الضيف، قال: "ماتَ
قَبْلَ الإسْلامِ"؟ قال: نعم، قال: "لَنْ يَنْفَعَهُ ذَلكَ"،
فولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَليَّ
بالشَّيْخِ"، فجاءَ، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّها لَنْ تَنْفَعَهُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ فِي عَقِبِهِ،
فَلَنْ تُخْزَوْا أبَدًا، وَلَنْ تَذِلُّوا أَبَدًا، وَلَنْ
تَفْتَقِرُوا أَبدًا".
حدثنا ابن المثنى وابن بشار، قالا ثنا أبو داود، قال: ثنا
عمران، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنُ حَسَنَةً
(24/552)
يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدنْيا،
ويُجْزى بِها فِي الآخِرَةِ; وأمَّا الكافِرُ فَيُعْطِيهِ بِها
فِي الدنْيا، فإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، لَمْ تَكُنْ
لَهُ حَسَنةٌ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ليث،
قال: ثني المعلى، عن محمد بن كعب الْقُرَظي، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحْسَنَ مِنْ مُحْسِنٍ، مُؤْمِنٍ
أوْ كَافِرٍ إلا وَقَعَ ثَوَابُهُ عَلى الله فِي عاجِل
دُنْيَاهُ، أَوْ آجِلِ آخِرَتِهِ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني
يحيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبَليِّ، عن عبد الله
بن عمرو بن العاص أنه قال: أنزلت: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ
زِلْزَالَهَا) وأبو بكر الصدّيق قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يُبْكِيكَ يا أبا بَكْرٍ؟ "
قال: يُبكيني هذه السورة، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لَوْلا أنَّكُمْ تُخْطِئونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ
اللهُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ
وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفرُ لَهُمْ".
فهذه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُنبئ عن أن
المؤمن إنما يرى عقوبة سيئاته في الدنيا، وثواب حسناته في
الآخرة، وأن الكافر يرى ثواب حسناته في الدنيا، وعقوبة سيئاته
في الآخرة، وأن الكافر لا ينفعه في الآخرة ما سلف له من إحسان
في الدنيا مع كُفره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عليّ، عن الأعمش، عن إبراهيم
التيمي، قال: أدركت سبعين من أصحاب عبد الله، أصغرهم الحارث بن
سويد، فسمعته يقرأ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا)
حتى بلغ إلى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ) قال: إن هذا إحصاء شديد.
وقيل: إن الذَّرَّة دُودة حمراء ليس لها وزن.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب العلاف ومحمد بن سنان القزّاز، قالا ثنا
أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، في
قوله: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قال ابن سنان في حديثه: مثقال ذرّة
حمراء. وقال ابن وهب في حديثه: نملة حمراء. قال إسحاق، قال
يزيد بن هارون: وزعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن.
آخر تفسير سورة إذا زلزلت الأرض.
(24/553)
|