تفسير القرطبي وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(34)
[سورة البقرة (2): آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ
(34)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِذْ قُلْنا) أَيْ وَاذْكُرْ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي
عُبَيْدَةَ: إِنَّ" إِذْ" زَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ،
لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ" قُلْنا"
وَلَمْ يَقُلْ قُلْتُ لِأَنَّ الْجَبَّارَ الْعَظِيمَ يُخْبِرُ
عَنْ نَفْسِهِ بِفِعْلِ الْجَمَاعَةِ تَفْخِيمًا وَإِشَادَةً
بِذِكْرِهِ. وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ، وقد تقدم «2».
وتقدم القول أيضا في آدم واشتقاقه «3» فلا معنى لإعادته.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّهُ ضَمَّ
تَاءَ التَّأْنِيثِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِتْبَاعًا لِضَمِّ
الْجِيمِ فِي" اسْجُدُوا". وَنَظِيرُهُ" الْحَمْدُ لِلَّهِ".
الثَّانِيَةُ- قوله تعالى (اسْجُدُوا) السُّجُودُ مَعْنَاهُ
فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، قال الشاعر:
يجمع تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الْأُكْمَ
فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
الْأُكْمُ: الْجِبَالُ الصِّغَارُ. جَعَلَهَا سُجَّدًا
لِلْحَوَافِرِ لِقَهْرِ الْحَوَافِرِ إِيَّاهَا وَأَنَّهَا لَا
تَمْتَنِعُ عَلَيْهَا. وَعَيْنٌ سَاجِدَةٌ، أَيْ فَاتِرَةٌ
عَنِ النَّظَرِ، وَغَايَتُهُ وَضْعُ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سَجَدَ إِذَا تَطَامَنَ، وَكُلُّ مَا
سَجَدَ فَقَدْ ذَلَّ. وَالْإِسْجَادُ: إِدَامَةُ النَّظَرِ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال: «4»
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ ... سُجُودَ النَّصَارَى
لِأَحْبَارِهَا
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَأَنْشَدَنِي أَعْرَابِيٌّ مِنْ
بَنِي أَسَدٍ:
وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا
يَعْنِي الْبَعِيرَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَدَرَاهِمُ
الْإِسْجَادِ: دَرَاهِمُ كَانَتْ عَلَيْهَا صُوَرٌ كَانُوا
يَسْجُدُونَ لَهَا، قَالَ:
وَافَى بها كدراهم الاسجاد
__________
(1). راجع المسألة الاولى ص 261.
(2). راجع المسألة الثانية ص 262.
(3). راجع المسألة الاولى ص 279.
(4). هو حميد بن ثور يصف نساء. يقول: لما ارتحلن ولوين فضول
أزمة جمالهن على معاصمهن أسجدت- طأطأت رءوسها- لهن. (عن اللسان
وشرح القاموس).
(1/291)
الثَّالِثَةُ- اِسْتَدَلَّ مَنْ فَضَّلَ
آدَمَ وَبَنِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:"
اسْجُدُوا لِآدَمَ". قَالُوا: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى"
اسْجُدُوا لِآدَمَ" اسْجُدُوا لِي مُسْتَقْبِلِينَ وَجْهَ
آدَمَ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ" [الاسراء: 78] أَيْ عِنْدَ دُلُوكِ
الشَّمْسِ وَكَقَوْلِهِ:" وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ" [ص: 72] أَيْ فَقَعُوا لِي عِنْدَ
إِتْمَامِ خَلْقِهِ وَمُوَاجَهَتِكُمْ إِيَّاهُ سَاجِدِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ لَا يَكُونُ
أَفْضَلَ مِنَ السَّاجِدِ بِدَلِيلِ الْقِبْلَةِ. فَإِنْ
قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فَمَا
الْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لَهُ؟ قِيلَ لَهُ:
إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا اسْتَعْظَمُوا بِتَسْبِيحِهِمْ
وَتَقْدِيسِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ
لِيُرِيَهُمُ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَيَّرُوا آدَمَ وَاسْتَصْغَرُوهُ وَلَمْ
يَعْرِفُوا خَصَائِصَ الصُّنْعِ بِهِ فَأُمِرُوا بِالسُّجُودِ
لَهُ تَكْرِيمًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى
أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لَهُ مُعَاقَبَةً لَهُمْ عَلَى
قَوْلِهِمْ:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها" لَمَّا
قَالَ لَهُمْ:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"
[البقرة: 30] وَكَانَ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِنْ
خَاطَبَهُمْ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ:"
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ" [ص: 71] وَجَاعِلُهُ
خَلِيفَةً، فَإِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ. وَالْمَعْنَى: لِيَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَكُمْ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى مَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ لِي
الْآنَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى
فَضْلِ الْبَشَرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» "
[الحجر: 72]. وَأَمَّنَهُ مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ:"
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ «2» " [الفتح: 2]. وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ:" وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ
جَهَنَّمَ «3» " [الأنبياء: 29]. قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا لَمْ
يُقْسِمْ بِحَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا لَمْ يُقْسِمْ
بِحَيَاةِ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: لَعَمْرِي.
وَأَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى
أَنَّهُمَا أَرْفَعُ قَدْرًا مِنَ الْعَرْشِ وَالْجِنَانِ
السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سُبْحَانَهُ:" وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ" [الأنبياء: 29]
فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ" [الزمر: 65] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 10 ص 39.
(2). راجع ج 16 ص 62.
(3). راجع ج 11 ص 282
(1/292)
الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
كَيْفِيَّةِ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ بَعْدَ
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ،
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كَانَ هَذَا أَمْرًا لِلْمَلَائِكَةِ
بِوَضْعِ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ، كَالسُّجُودِ
الْمُعْتَادِ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ
السُّجُودِ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ:
كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ تَكْرِيمًا لِآدَمَ وَإِظْهَارًا
لِفَضْلِهِ، وَطَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ آدَمُ
كَالْقِبْلَةِ لَنَا. وَمَعْنَى" لِآدَمَ": إِلَى آدَمَ، كَمَا
يُقَالُ صَلَّى لِلْقِبْلَةِ، أَيْ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: لَمْ يَكُنْ هَذَا السُّجُودَ الْمُعْتَادَ الْيَوْمَ
الَّذِي هُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُ
مُبْقًى عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ، فَهُوَ مِنَ التَّذَلُّلِ
وَالِانْقِيَادِ، أَيِ اخْضَعُوا لِآدَمَ وَأَقِرُّوا لَهُ
بِالْفَضْلِ. (فَسَجَدُوا) أَيِ امْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا
بِهِ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ
خَاصًّا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ السُّجُودُ
لِغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى،
أَمْ كَانَ جَائِزًا بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ يَعْقُوبَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً «1» "
[يوسف: 100] فَكَانَ آخِرَ مَا أُبِيحَ مِنَ السُّجُودِ
لِلْمَخْلُوقِينَ؟ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ
كَانَ مُبَاحًا إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ حِينَ
سَجَدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْجَمَلُ: نَحْنُ أَوْلَى
بِالسُّجُودِ لَكَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ،
فَقَالَ لَهُمْ: (لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ إِلَّا
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي
سُنَنِهِ وَالْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنَ الشَّامِ
سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مَا هَذَا) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِمْتُ الشَّامَ
فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ
وَأَسَاقِفَتِهِمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ،
قَالَ: (فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْتُ شَيْئًا أَنْ
يَسْجُدَ لِشَيْءٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ
لِزَوْجِهَا لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى
تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا
وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ (. لَفْظُ الْبُسْتِيِّ.
وَمَعْنَى الْقَتَبِ أَنَّ الْعَرَبَ يَعِزُّ عِنْدَهُمْ
وُجُودُ كُرْسِيٍّ لِلْوِلَادَةِ فَيَحْمِلُونَ نِسَاءَهُمْ
عَلَى الْقَتَبِ «2» عِنْدَ الْوِلَادَةِ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ
مُعَاذٍ: وَنَهَى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة.
__________
(1). راجع ج 9 ص 264.
(2). القتب: رحل صغير على قدر السنام.
(1/293)
قُلْتُ: وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ
عَنْهُ قَدِ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي
سَمَاعِهِمْ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ
وَاسْتِغْفَارِهِمْ، فَيُرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا
أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ «1»
لِجَهْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْقِبْلَةِ أَمْ غَيْرِهَا
جَهَالَةً مِنْهُ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ.
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ: (إِلَّا إِبْلِيسَ) نُصِبَ عَلَى
الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ
وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي
الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ
الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ
وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ مِنَ
الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ أَبْلَسَ بَعْدُ. رَوَى
سماك ابن حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا عَصَى اللَّهَ
غَضِبَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ فَصَارَ شَيْطَانًا. وَحَكَى
الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ
صِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْجِنَّ سِبْطٌ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ،
وَخُلِقَ سَائِرُ «2» الْمَلَائِكَةِ مِنْ نُورٍ. وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: إِبْلِيسُ
أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَلَمْ
يَكُنْ مَلَكًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَقَالَ: اسْمُهُ الْحَارِثُ. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ وَبَعْضُ
الْأُصُولِيِّينَ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي
الْأَرْضِ وَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَسَبَوْهُ صَغِيرًا
وَتَعَبَّدَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَخُوطِبَ، وَحَكَاهُ
الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى
هَذَا مُنْقَطِعٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" [النساء: 157] وقوله:"
إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ" [المائدة: 3] فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ عَلَيْكَ عَطَشٌ وَلَا جُوعْ ... إِلَّا الرُّقَادَ
وَالرُّقَادُ مَمْنُوعْ
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ
عز وجل وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ:" لَا يَعْصُونَ اللَّهَ
مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم: 6]،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ"
[الكهف: 50] وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. أَجَابَ أَهْلُ
الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يَخْرُجَ إِبْلِيسُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَا سَبَقَ
فِي عِلْمِ اللَّهِ بِشَقَائِهِ عَدْلًا مِنْهُ، لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي
تَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ حِينَ غَضِبَ عَلَيْهِ مَا يَدْفَعُ
أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ
كان من جن الأرض فسبي،
__________
(1). في نسخ من الأصل:" للاقدم".
(2). في نسخ:" معاشر".
(1/294)
فَقَدْ رُوِيَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَنَّ
إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْأَرْضِ مَعَ
جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ
وَغَيْرُهُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ
الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ
السَّمُومِ، وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَكَانَ
اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ عَزَازِيلُ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ
الْحَارِثُ، وَكَانَ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ وَكَانَ رَئِيسَ
مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُهَا
وَسُلْطَانُ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ
اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، وَكَانَ يَسُوسُ مَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرَأَى لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ
شَرَفًا وَعَظَمَةً، فَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْكُفْرِ
فَعَصَى اللَّهَ فَمَسَخَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. فَإِذَا
كَانَتْ خَطِيئَةُ الرَّجُلِ فِي كِبْرٍ فَلَا تَرْجُهُ،
وَإِنْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَارْجُهُ،
وَكَانَتْ خَطِيئَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْصِيَةً،
وَخَطِيئَةُ إِبْلِيسَ كِبْرًا. وَالْمَلَائِكَةُ قَدْ
تُسَمَّى جِنًّا لِاسْتِتَارِهَا، وَفِي التَّنْزِيلِ:"
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1» "
[الصافات: 158]، وَقَالَ الشَّاعِرُ «2» فِي ذِكْرِ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا
لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ نُسِبَ
إِلَيْهَا فَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنَ اسْمِهَا، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَإِبْلِيسُ وَزْنُهُ إِفْعِيلٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ
الْإِبْلَاسِ وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَلَمْ يَنْصَرِفْ، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ وَلَا
نَظِيرَ له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أَبُو عُبَيْدَةَ
وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ لَا اشْتِقَاقَ لَهُ
فَلَمْ يَنْصَرِفْ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ، قَالَهُ
الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَبى) مَعْنَاهُ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَرَأَ
ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ [فَسَجَدَ «3»] اعْتَزَلَ
الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ- وفي رواية: يَا
وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ
الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي
النَّارُ). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. يُقَالُ: أَبَى يَأْبَى
إِبَاءً، وَهُوَ حَرْفٌ نَادِرٌ جَاءَ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ
لَيْسَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ، وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ الْأَلِفَ مُضَارِعَةٌ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ
يَقُولُ: الْقَوْلُ
__________
(1). راجع ج 15 ص 134.
(2). هو أعشى قيس، كما في تفسير الطبري وأبي حيان. [ ..... ]
(3). الزيادة من صحيح مسلم.
(1/295)
عِنْدِي أَنَّ الْأَلِفَ مُضَارِعَةٌ
لِحُرُوفِ الْحَلْقِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ
أَبَا إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ نَحْوًا غَيْرَ هَذَا
الْحَرْفِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَكْبَرَ)
الِاسْتِكْبَارُ: الِاسْتِعْظَامُ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ
السُّجُودَ فِي حَقِّهِ وَاسْتَعْظَمَهُ فِي حَقِّ آدَمَ،
فَكَانَ تَرْكُ السُّجُودِ لِآدَمَ تَسْفِيهًا لِأَمْرِ
اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَعَنْ هَذَا الْكِبْرِ عَبَّرَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مَنْ [كَانَ «1»] فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ). فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ
الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ
حَسَنَةً. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ
الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ). أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى بَطَرُ الْحَقِّ: تَسْفِيهُهُ
وَإِبْطَالُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ: الِاحْتِقَارُ لَهُمْ
وَالِازْدِرَاءُ بِهِمْ. وَيُرْوَى:" وَغَمْصُ" بِالصَّادِ
الْمُهْمَلَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، يُقَالُ: غَمَصَهُ
يَغْمِصُهُ غَمْصًا وَاغْتَمَصَهُ، أَيِ اسْتَصْغَرَهُ وَلَمْ
يَرَهُ شَيْئًا. وَغَمَصَ فُلَانٌ النِّعْمَةَ إِذَا لَمْ
يَشْكُرْهَا. وَغَمَصْتُ عَلَيْهِ قَوْلًا قَالَهُ، أَيْ
عِبْتُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ اللَّعِينُ بِهَذَا
الْمَعْنَى فَقَالَ:" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» " [ص: 76]." أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً" [الاسراء: 61]." لَمْ أَكُنْ
لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ" [الحجر: 33] فَكَفَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ. فَكُلُّ
مَنْ سَفَّهَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
أَمْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حُكْمُهُ
حُكْمَهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ
أَوَّلَ مَعْصِيَةٍ كَانَتِ الْحَسَدُ وَالْكِبْرُ، حَسَدَ
إِبْلِيسُ آدَمَ، وَشَحَّ آدَمُ فِي أَكْلِهِ مِنَ
الشَّجَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ،
عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَقَالَ: أَنَا
نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ. وَكَانَ بَدْءَ الذُّنُوبِ
الْكِبْرُ، ثُمَّ الْحِرْصُ حَتَّى أَكَلَ آدَمُ مِنَ
الشَّجَرَةِ، ثُمَّ الْحَسَدُ إِذْ حَسَدَ ابْنُ آدَمِ
أَخَاهُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) قِيلَ: كَانَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ". وَقَالَ
الشَّاعِرُ: «3»
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا
الْحَزْنِ قَدْ كانت فراخا بيوضها
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(2). راجع ج 7 ص 170.
(3). هو ابن أحمر كما في اللسان مادة" كون".
(1/296)
أَيْ صَارَتْ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ."
كَانَ" هُنَا بِمَعْنَى صَارَ خَطَأٌ تَرُدُّهُ الْأُصُولُ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمَعْنَى أَيْ كَانَ
فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَكْفُرُ، لِأَنَّ
الْكَافِرَ حَقِيقَةً وَالْمُؤْمِنَ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي
قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْمُوَافَاةَ. قُلْتُ: وَهَذَا
صَحِيحٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: (وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالْخَوَاتِيمِ). وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ عَبَدَ اللَّهَ
تَعَالَى ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأُعْطِيَ الرِّيَاسَةَ
وَالْخِزَانَةَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الِاسْتِدْرَاجِ، كَمَا
أُعْطِيَ الْمُنَافِقُونَ شَهَادَةً أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ عَلَى أَطْرَافِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَكَمَا أُعْطِيَ
بَلْعَامُ «1» الِاسْمَ الْأَعْظَمَ عَلَى طرف لسانه، فكان في
رئاسته وَالْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ مُتَمَكِّنٌ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَ يَرَى لِنَفْسِهِ أَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَى
الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ،
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعالِينَ «2» " [ص: 75] أَيِ اسْتَكْبَرْتَ وَلَا
كِبْرَ لَكَ، وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا حِينَ خَلَقْتُهُ
بِيَدَيَّ وَالْكِبْرُ لِي! فَلِذَلِكَ قال:" وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ". [ص: 74]. وَكَانَ أَصْلُ خِلْقَتِهِ مِنْ نَارِ
الْعِزَّةِ، وَلِذَلِكَ حلف بالعزة فقال:" فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" [ص: 82] فَالْعِزَّةُ
أَوْرَثَتْهُ الْكِبْرَ حَتَّى رَأَى الْفَضْلَ لَهُ عَلَى
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:
خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورِ الْعِزَّةِ وَخُلِقَ
إِبْلِيسُ مِنْ نَارِ الْعِزَّةِ. التَّاسِعَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-: وَمَنْ أَظْهَرَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ
كَرَامَاتٍ وَخَوَارِقَ لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا
عَلَى وِلَايَتِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ
وَالرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ وَلِيٌّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا مَا أَظْهَرَ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مَا أَظْهَرَ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ
الْعِلْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى
لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ
مُؤْمِنًا، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا
لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ
تَعَالَى، لِأَنَّ الْوَلِيَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ عَلِمَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلَّا بِالْإِيمَانِ.
وَلَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّنَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ
نَقْطَعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يُوَافِي
بِالْإِيمَانِ، وَلَا الرَّجُلُ نَفْسُهُ يَقْطَعُ عَلَى
أَنَّهُ يُوَافِي بِالْإِيمَانِ، عُلِمَ أن ذلك ليس
__________
(1). في تاريخ ابن الأثير والطبري إنه بلعم بن باعور من ولد
لوط، كان في عهد موسى عليه السلام، وهو من أهل كنعان. راجع
تاريخ ابن الأثير ج 1 ص 140، وتاريخ الطبري قسم أول ص 508 طبع
أوربا.
(2). راجع ج 15 ص 228
(1/297)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
يَدُلُّ عَلَى وِلَايَتِهِ لِلَّهِ.
قَالُوا: وَلَا نَمْنَعُ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ بَعْضَ
أَوْلِيَائِهِ عَلَى حُسْنِ عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ
بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ تَقْرِيعَ أَشْبَاهِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ،
وَهُمُ الْيَهُودُ الذي كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَعَ قِدَمِ
نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ.
الْعَاشِرَةُ- وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ قَبْلَ إِبْلِيسَ
كَافِرٌ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: لَا، وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَوَّلُ
مَنْ كَفَرَ. وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَهُ قَوْمٌ كُفَّارٌ وَهُمُ
الْجِنُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ. وَاخْتُلِفَ
أَيْضًا هَلْ كَفَرَ إِبْلِيسُ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا عَلَى
قَوْلَيْنِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ
كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ كُفْرِهِ. فَمَنْ
قَالَ إِنَّهُ كَفَرَ جَهْلًا قَالَ: إِنَّهُ سُلِبَ الْعِلْمَ
عِنْدَ كُفْرِهِ. وَمَنْ قَالَ كَفَرَ عِنَادًا قَالَ: كَفَرَ
وَمَعَهُ عِلْمُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكُفْرُ
[عِنَادًا «1»] مَعَ بَقَاءِ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدٌ، إِلَّا
أَنَّهُ عِنْدِي جَائِزٌ لَا يَسْتَحِيلُ مع خذل الله لمن
يشاء.
[سورة البقرة (2): آية 35]
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى-: (وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ) لَا خِلَافَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ إِبْلِيسَ عِنْدَ كُفْرِهِ
وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْجَنَّةِ، وَبَعْدَ إِخْرَاجِهِ قَالَ
لِآدَمَ: اسْكُنْ، أَيْ لَازِمِ الْإِقَامَةَ وَاتَّخِذْهَا
مَسْكَنًا، وَهُوَ مَحَلُّ السُّكُونِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ
يَسْكُنُ سُكُونًا. وَالسَّكَنُ: النَّارُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانِ
وَالسَّكَنِ: كُلُّ مَا سُكِنَ إِلَيْهِ. وَالسِّكِّينُ
مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَكِّنُ حَرَكَةَ
الْمَذْبُوحِ، وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ تَصَرُّفِهِ
وَحَرَكَتِهِ. وَسُكَّانُ «2» السَّفِينَةِ عَرَبِيُّ،
لِأَنَّهُ يُسَكِّنُهَا عَنَ الاضطراب.
__________
(1). زيادة عن تفسير ابن عطية.
(2). السكان (بالضم): ذنب السفينة التي به تعدل.
(1/298)
الثَّانِيَةُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
اسْكُنْ" تَنْبِيهٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ السُّكْنَى لَا
تَكُونُ مِلْكًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
السُّكْنَى تَكُونُ إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ تَنْقَطِعُ،
فَدُخُولُهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَانَ دُخُولَ سُكْنَى لَا
دُخُولَ إِقَامَةٍ «1». قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُونُ
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَسْكَنًا لَهُ
إِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالسُّكْنَى، وَأَنَّ لَهُ أَنْ
يُخْرِجَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِسْكَانِ. وَكَانَ
الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ دَارِي لَكَ
سُكْنَى حَتَّى تَمُوتَ فَهِيَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ،
وَإِذَا قَالَ: دَارِي هَذِهِ اسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ
فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا إِذَا مَاتَ. وَنَحْوٌ
مِنَ السُّكْنَى الْعُمْرَى، إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ فِي
الْعُمْرَى أَقْوَى مِنْهُ فِي السُّكْنَى. وَسَيَأْتِي
الْكَلَامُ فِي الْعُمْرَى فِي" هُودٍ «2» " إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْحَرْبِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ
الْإِعْرَابِيِّ يَقُولُ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَرَبُ فِي أَنَّ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا وَمَنَافِعُهَا
لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَالْإِفْقَارُ
وَالْإِخْبَالُ وَالْمِنْحَةُ وَالْعَرِيَّةُ وَالسُّكْنَى
وَالْإِطْرَاقُ. وَهَذَا حُجَّةُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي
أنه لا يملك شي مِنَ الْعَطَايَا إِلَّا الْمَنَافِعَ دُونَ
الرِّقَابِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، وَيَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ. وَالْعُمْرَى: هُوَ
إِسْكَانُكَ الرَّجُلَ فِي دَارٍ لَكَ مُدَّةَ عُمُرِكَ أَوْ
عُمُرِهِ. وَمِثْلُهُ الرُّقْبَى: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ
مُتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مُتَّ قَبْلَكَ فَهِيَ
لَكَ، وَهِيَ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ. وَالْمُرَاقَبَةُ: أَنْ
يَرْقُبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْتَ صَاحِبِهِ،
وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِجَازَتِهَا وَمَنْعِهَا،
فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ، وَكَأَنَّهَا
وَصِيَّةٌ عِنْدَهُمْ. وَمَنَعَهَا مَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ،
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُ إِلَى عِوَضٍ لَا
يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَتَمَنَّى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ
أَيْضًا بِالْإِجَازَةِ وَالْمَنْعِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَاجَهْ
فِي سُنَنِهِ، الْأَوَّلُ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا
وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا) فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي
الْحُكْمِ. الثَّانِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا
رُقْبَى فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ له حياته ومماته).
قال: والرقبى أن
__________
(1). في بعض الأصول:" لا دخول ثواب".
(2). راجع ج 9 ص 57
(1/299)
يَقُولَ هُوَ لِلْآخَرِ: مِنِّي وَمِنْكَ
مَوْتًا. فَقَوْلُهُ: (لَا رُقْبَى) نَهْيٌ يَدُلُّ عَلَى
الْمَنْعِ، وَقَوْلُهُ: (مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ)
يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَخْرَجَهُمَا أَيْضًا
النَّسَائِيُّ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا
وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا). فَقَدْ صَحَّحَ
الْحَدِيثَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ
بِأَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَنَّهَا لَا
تَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُ
الْمِيرَاثِ. وَالْإِفْقَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ فَقَارِ
الظَّهْرِ. أَفْقَرْتُكَ نَاقَتِي: أَعَرْتُكَ فَقَارَهَا
لِتَرْكَبَهَا. وَأَفْقَرَكَ الصَّيْدُ إِذَا أَمْكَنَكَ مِنْ
فَقَارِهِ حَتَّى تَرْمِيَهُ. وَمِثْلُهُ الْإِخْبَالُ،
يُقَالُ: أَخْبَلْتُ فُلَانًا إِذَا أَعَرْتُهُ نَاقَةً
يَرْكَبُهَا أَوْ فَرَسًا يَغْزُو عَلَيْهِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ... وَإِنْ
يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا
وَالْمِنْحَةُ: الْعَطِيَّةُ. وَالْمِنْحَةُ: مِنْحَةُ
اللَّبَنِ. وَالْمَنِيحَةُ: النَّاقَةُ أَوِ الشَّاةُ
يُعْطِيهَا الرَّجُلُ آخَرَ يَحْتَلِبُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ
وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ). رَوَاهُ أَبُو
أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَالْإِطْرَاقُ: إِعَارَةُ
الْفَحْلِ، اسْتَطْرَقَ فُلَانٌ فُلَانًا فَحْلَهُ: إِذَا
طَلَبَهُ لِيَضْرِبَ فِي إِبِلِهِ، فَأَطْرَقَهُ إِيَّاهُ،
وَيُقَالُ: أَطْرِقْنِي فَحْلَكَ أَيْ أَعِرْنِي فَحْلَكَ
لِيَضْرِبَ فِي إِبِلِي. وَطَرَقَ الْفَحْلُ النَّاقَةَ
يَطْرُقُ طُرُوقًا أَيْ قَعَا عَلَيْهَا. وَطَرُوقَةُ
الْفَحْلِ: أُنْثَاهُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ
لِلَّتِي بَلَغَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا الْفَحْلُ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْتَ وَزَوْجُكَ) " أَنْتَ" تَأْكِيدٌ
لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ" فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ". وَلَا يَجُوزُ اسْكُنْ وَزَوْجُكَ، وَلَا
اذْهَبْ وَرَبُّكَ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كَمَا
قَالَ:
قُلْتُ إِذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ
الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رملا «1»
__________
(1). قائله عمر بن أبي ربيعة. و" زهر" جمع زهراء، وهي البيضاء
المشرقة. والتهادي: المشي الرويد الساكن. والنعاج: بقر الوحش."
تعسفن": ركبن.
(1/300)
فَ" زُهْرٌ" مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ
فِي" أَقْبَلَتْ" وَلَمْ يُؤَكِّدْ ذَلِكَ الْمُضْمَرَ.
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى بُعْدٍ: قُمْ وَزَيْدٌ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَزَوْجُكَ" لُغَةُ
الْقُرْآنِ" زَوْجٌ" بِغَيْرِ هَاءٍ، وقد تقدم القول فيه «1».
وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:" زَوْجَةٌ" حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ قَالَ
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ
فَدَعَاهُ فَجَاءَ فَقَالَ: (يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتِي
فُلَانَةُ): فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ
بِهِ فَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ). وَزَوْجُ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا بِذَلِكَ حِينَ خُلِقَتْ مِنْ
ضِلْعِهِ «2» مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ آدَمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ
رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا انْتَبَهَ قِيلَ لَهُ:
مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ قِيلَ: وَمَا اسْمُهَا؟ قَالَ:
حَوَّاءُ، قِيلَ: وَلِمَ سُمِّيَتِ امْرَأَةً؟ قَالَ:
لِأَنَّهَا مِنَ الْمَرْءِ أُخِذَتْ، قِيلَ: وَلِمَ سُمِّيَتْ
حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ. رُوِيَ
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ لِتُجَرِّبَ
عِلْمَهُ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: أَتُحِبُّهَا يَا آدَمُ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا لِحَوَّاءَ: أَتُحِبِّينَهُ يَا
حَوَّاءُ؟ قَالَتْ: لَا، وَفِي قَلْبِهَا أَضْعَافُ مَا فِي
قَلْبِهِ مِنْ حُبِّهِ. قَالُوا: فَلَوْ صَدَقَتِ امْرَأَةٌ
فِي حُبِّهَا لِزَوْجِهَا لَصَدَقَتْ حَوَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ
مَشَى فِيهَا مُسْتَوْحِشًا، فَلَمَّا نَامَ خُلِقَتْ حَوَّاءُ
مِنْ ضِلَعِهِ الْقُصْرَى مِنْ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا وَيَأْنَسَ بِهَا، فَلَمَّا انْتَبَهَ رَآهَا
فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ خُلِقْتُ مِنْ
ضِلَعِكَ لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها" «3» [الأعراف:
189]. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ
عَوْجَاءَ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعْوَجَ وَهُوَ
الضِّلَعُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ- فِي
رِوَايَةٍ: وَإِنَّ أَعْوَجَ شي في الضلع أعلاه- لن تستقيم
__________
(1). راجع ص 240 من هذا الجزء.
(2). الضلع كعنب وجذع.
(3). راجع ج 7 ص 337 [ ..... ]
(1/301)
لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنِ
اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ [بِهَا «1»] وَبِهَا عِوَجٌ
وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا
طَلَاقُهَا). وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَيْسَتْ تُقِيمُهَا ... أَلَا
إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا
أَتَجْمَعُ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى ... أَلَيْسَ
عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى مِيرَاثِ
الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ إِذَا تَسَاوَتْ فيه علامات النساء
والرجال من الحية وَالثَّدْيِ وَالْمَبَالِ بِنَقْصِ
الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ نَقَصَتْ أَضْلَاعُهُ عَنْ أَضْلَاعِ
الْمَرْأَةِ أُعْطِيَ نَصِيبَ رَجُلٍ- رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ أَحَدِ
أَضْلَاعِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَوَارِيثِ بَيَانُ هَذَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «2». الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (الْجَنَّةُ) الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ «3» فِيهَا. وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا
ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَإِنَّمَا كَانَ
فِي جَنَّةٍ بِأَرْضِ عَدْنٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
بِدْعَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ لَمَا
وَصَلَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:" لَا
لَغْوٌ فِيها «4» وَلا تَأْثِيمٌ" [الطُّورُ: 23] وَقَالَ" لَا
يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً «5» " [النبأ: 35]
وَقَالَ:" لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً.
إِلَّا قِيلًا سَلاماً «6» " [الواقعة: 26 - 25]. وَأَنَّهُ
لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَهْلُهَا لِقَوْلِهِ:" وَما هُمْ مِنْها
بِمُخْرَجِينَ «7» " [الحجر: 48]. وَأَيْضًا فَإِنَّ جَنَّةَ
الْخُلْدِ هِيَ دَارُ الْقُدْسِ، قُدِّسَتْ عَنِ الْخَطَايَا
وَالْمَعَاصِي تَطْهِيرًا لَهَا. وَقَدْ لَغَا فِيهَا
إِبْلِيسُ وَكَذَبَ، وَأُخْرِجَ مِنْهَا آدَمُ وَحَوَّاءُ
بِمَعْصِيَتِهِمَا. قَالُوا: وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى آدَمَ
مَعَ مَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ يَطْلُبَ
شَجَرَةَ الْخُلْدِ وَهُوَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْمُلْكِ
الَّذِي لَا يَبْلَى؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
عَرَّفَ الْجَنَّةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَمَنْ قَالَ:
أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ فِي
تَعَارُفِ الْخَلْقِ إِلَّا طَلَبُ جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَلَا
يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ دُخُولُ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ
لِتَغْرِيرِ آدَمَ، وَقَدْ لَقِيَ مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ أَشْقَيْتَ
ذُرِّيَّتَكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَدْخَلَ
الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِيَدُلَّ عَلَى أنها جنة الخلد
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم.
(2). راجع ج 5 ص 65.
(3). راجع ص 239 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 17 ص 68.
(5). راجع ج 19 ص 182.
(6). راجع ج 17 ص 206.
(7). راجع ج 10 ص 34
(1/302)
الْمَعْرُوفَةُ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ
آدَمُ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَرَدَّ عَلَى مُوسَى،
فَلَمَّا سَكَتَ آدَمُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ مُوسَى صَحَّ أَنَّ
الدَّارَ الَّتِي أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا
بِخِلَافِ الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجُوا إِلَيْهَا. وَأَمَّا
مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْآيِ فَذَلِكَ إِنَّمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ فِيهَا بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ دَارَ الْخُلْدِ
لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَخْلِيدَهُ فِيهَا وَقَدْ يَخْرُجُ
مِنْهَا مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا،
وَقَدْ كَانَ مَفَاتِيحُهَا بِيَدِ إِبْلِيسَ ثُمَّ
انْتُزِعَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ دَخَلَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَأَخْبَرَ بِمَا فِيهَا
وَأَنَّهَا هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ حَقًّا. وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الْقُدْسِ وَقَدْ
طَهَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخَطَايَا فَجَهْلٌ
مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَهِيَ
الشَّامُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدَّسَهَا وَقَدْ شُوهِدَ فِيهَا الْمَعَاصِي
وَالْكُفْرُ وَالْكَذِبُ وَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيسُهَا مِمَّا
يَمْنَعُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ، وَكَذَلِكَ دَارُ الْقُدْسِ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: وَقَدْ حَكَى بَعْضُ
الْمَشَايِخِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ
جَنَّةَ الْخُلْدِ هِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ
خَالَفَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى آدَمَ فِي
كَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ يَطْلُبَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ وَهُوَ فِي
دَارِ الْخُلْدِ، فَيُعْكَسُ عَلَيْهِمْ وَيُقَالُ: كَيْفَ
يَجُوزُ عَلَى آدَمَ وَهُوَ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ
يَطْلُبَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ فِي دَارِ الْفَنَاءِ! هَذَا مَا
لَا يَجُوزُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ،
فَكَيْفَ بِآدَمَ الَّذِي هُوَ أَرْجَحُ الْخَلْقِ عَقْلًا،
عَلَى مَا قَالَ أَبُو أُمَامَةَ عَلَى مَا يَأْتِي.
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلا مِنْها رَغَداً
حَيْثُ شِئْتُما) قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ" رَغَداً" بِفَتْحِ
الْغَيْنِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ
بِسُكُونِهَا. وَالرَّغَدُ: الْعَيْشُ الدَّارُّ الْهَنِيُّ
الذي لا عناء فيه، قال:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا ... يَأْمَنُ
الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشِ رَغَدْ «1»
وَيُقَالُ: رَغُدَ عَيْشُهُمْ وَرَغِدَ (بِضَمِّ الْغَيْنِ
وَكَسْرِهَا). وَأَرْغَدَ الْقَوْمُ: أَخْصَبُوا وَصَارُوا فِي
رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الصِّفَةِ
لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَحَيْثُ وَحَيْثَ وَحَيْثِ، وَحَوْثَ
وَحَوْثِ وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.
__________
(1). القائل هو امرؤ القيس، كما في تفسير أبي حيان والطبري.
(1/303)
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ" أَيْ لَا تَقْرَبَاهَا بِأَكْلٍ،
لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ «1» فِيهِ وَقَعَتْ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ
[بْنِ شُمَيْلٍ «2»] يَقُولُ: إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ
(بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسْ
بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ (بِضَمِّ الرَّاءِ) فَإِنَّ
مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ. وَفِي الصِّحَاحِ: قَرُبَ
الشَّيْءُ يَقْرُبُ قُرْبًا أَيْ دَنَا. وَقَرِبْتُهُ
(بِالْكَسْرِ) أَقْرَبُهُ قُرْبَانًا أَيْ دَنَوْتُ مِنْهُ.
وَقَرَبْتُ أَقْرُبُ قِرَابَةً- مِثْلُ كَتَبْتُ أَكْتُبُ
كِتَابَةً- إِذَا سِرْتَ إِلَى الْمَاءِ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
لَيْلَةٌ، وَالِاسْمُ الْقَرَبُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قُلْتُ
لِأَعْرَابِيٍّ: مَا الْقَرَبُ؟ فَقَالَ: سَيْرُ اللَّيْلِ
لِوَرْدِ الْغَدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ بَعْضُ
الْحُذَّاقِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ النَّهْيَ
عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ نَهَى عَنْهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي
الْأَكْلَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعَرَبُ وَهُوَ الْقُرْبُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مِثَالٌ بَيِّنٌ فِي سَدِّ
الذَّرَائِعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي
قَوْلُهُ:" وَلا تَقْرَبا" إِشْعَارٌ بِالْوُقُوعِ فِي
الْخَطِيئَةِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ سُكْنَاهُ
فِيهَا لَا يَدُومُ، لِأَنَّ الْمُخَلَّدَ لَا يَحْظُرُ
عَلَيْهِ شي وَلَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى
هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً" [البقرة: 30] فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْهَا.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" هذِهِ الشَّجَرَةَ"
الِاسْمُ الْمُبْهَمُ يُنْعَتُ بِمَا فِيهِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهَذَا
الرَّجُلِ وَبِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَهَذِهِ الشَّجَرَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ:" هَذِي الشَّجَرَةَ" بِالْيَاءِ
وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الْهَاءَ فِي هَذِهِ بَدَلٌ مِنْ
يَاءٍ وَلِذَلِكَ انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ فِي
الْكَلَامِ هَاءُ تَأْنِيثٍ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ سِوَاهَا،
وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهَا الياء.
__________
(1). أي من غير تلك الشجرة.
(2). في الأصول: (مجلس النظر يقول). والتصويب والزيادة عن كتاب
البحر لابي حيان. وقد عقب عليه بقوله: (وفي هذه الحكاية عن ابن
العربي من التخطيط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سَمِعْتُ
الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وبين النضر
والشاشي من السنين مئون إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر
بن شميل فيمكن). والشاشي هنا هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر
المعروف بأبي بكر الشاشي ولد بميافارقين سنة 429 هـ وتوفى سنة
507 هـ (راجع طبقات الشافعية ج 4 ص 57). أما النصر بن شميل فقد
توفى سنة ثلاث وقيل أربع ومائتين (راجع بغية الوعاة ووفيات
الأعيان). وولد أبو بكر بن العربي سنة 468 وتوفى سنة 543 هـ
(راجع طبقات المفسرين).
(1/304)
والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرى"
الشجرة" بكسر الشين. والشجرة وَالشِّجَرَةُ: مَا كَانَ عَلَى
سَاقٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَأَرْضٌ شَجِيرَةٌ وَشَجْرَاءُ
أَيْ كَثِيرَةُ الْأَشْجَارِ، وَوَادٍ شَجِيرٌ، وَلَا يُقَالُ:
وَادٍ أَشْجَرُ. وَوَاحِدُ الشَّجْرَاءِ شَجَرَةٌ، وَلَمْ
يَأْتِ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ إِلَّا أَحْرُفٌ
يَسِيرَةٌ: شَجَرَةٌ وَشَجْرَاءُ، وَقَصَبَةٌ وَقَصْبَاءُ،
وَطَرْفَةٌ وَطَرْفَاءُ، وَحَلْفَةٌ وَحَلْفَاءُ. وَكَانَ
الْأَصْمَعِيُّ يَقُولُ فِي وَاحِدِ الْحَلْفَاءِ: حَلِفَةٌ،
بِكَسْرِ اللَّامِ مُخَالَفَةً لِأَخَوَاتِهَا. وَقَالَ
سِيبَوَيْهِ: الشَّجْرَاءُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، وَكَذَلِكَ
الْقَصْبَاءُ وَالطَّرْفَاءُ وَالْحَلْفَاءُ. وَالْمَشْجَرَةُ:
مَوْضِعُ الْأَشْجَارِ. وَأَرْضٌ مَشْجَرَةٌ، وَهَذِهِ
الْأَرْضُ أَشْجَرُ مِنْ هذه أي أكثر شجرا، قال
الْجَوْهَرِيُّ. التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ
عَنْهَا فَأَكَلَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ:
هِيَ الْكَرْمُ، وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ:
هِيَ السُّنْبُلَةُ، وَالْحَبَّةُ مِنْهَا كَكُلَى الْبَقَرِ،
أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، قَالَهُ
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ
جَعَلَهَا غِذَاءً لِبَنِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ
بَعْضِ الصَّحَابَةِ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ، وَكَذَا رَوَى
سَعِيدٌ «1» عَنْ قَتَادَةَ، وَلِذَلِكَ تُعَبَّرُ فِي
الرُّؤْيَا بِالنَّدَامَةِ لِآكِلِهَا مِنْ أَجْلِ نَدَمِ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَكْلِهَا، ذَكَرَهُ السهيلي.
قال ابن عطية: وليس في شي مِنْ هَذَا التَّعْيِينِ مَا
يُعَضِّدُهُ خَبَرٌ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنْ يُعْتَقَدَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى آدَمَ عَنْ شَجَرَةٍ فَخَالَفَ
هُوَ إِلَيْهَا وَعَصَى فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَكَانَ الْإِمَامُ وَالِدِي
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: يُعْلَمُ عَلَى الْجُمْلَةِ
أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةَ الْمِحْنَةِ. الْعَاشِرَةُ-
وَاخْتَلَفُوا كَيْفَ أَكَلَ مِنْهَا مَعَ الْوَعِيدِ
الْمُقْتَرِنِ بِالْقُرْبِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ"، فَقَالَ قَوْمٌ: أَكَلَا مِنْ
غَيْرِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَتَأَوَّلَا
النَّهْيَ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ جِنْسِهَا، كَأَنَّ
إِبْلِيسَ غَرَّهُ [بِالْأَخْذِ «2»] بِالظَّاهِرِ قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ:" وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَ
مِنْ جِنْسِهِ حَنِثَ. وَتَحْقِيقُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ أَنَّ
أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَا حنث فيه. وقال
__________
(1). في نسخة: (شعبة) وكلاهما يروى عن قتادة.
(2). الزيادة من ابن العربي.
(1/305)
مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: إِنِ اقْتَضَى
بِسَاطُ الْيَمِينِ تَعْيِينَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لَمْ
يَحْنَثْ بِأَكْلِ جِنْسِهِ، وَإِنِ اقْتَضَى بِسَاطُ
الْيَمِينِ أَوْ سَبَبِهَا أَوْ نِيَّتِهَا الْجِنْسَ حُمِلَ
عَلَيْهِ وَحَنِثَ بِأَكْلِ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ
قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ
شَجَرَةٍ عُيِّنَتْ لَهُ وَأُرِيدَ بِهَا جِنْسُهَا، فَحُمِلَ
الْقَوْلُ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا فِي فَرْعٍ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا
حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَأَكَلَ خُبْزًا
مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ فِي الْكِتَابِ: يَحْنَثُ،
لِأَنَّهَا هَكَذَا تُؤْكَلُ. وَقَالَ ابْنُ المواز: لا شي
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حِنْطَةً وَإِنَّمَا أَكَلَ
خُبْزًا فَرَاعَى الِاسْمَ وَالصِّفَةَ وَلَوْ قَالَ فِي
يَمِينِهِ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَحَنِثَ
بِأَكْلِ الْخُبْزِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا". وَفِيمَا اشْتَرَى
بِثَمَنِهَا مِنْ طَعَامٍ وَفِيمَا أَنْبَتَتْ خِلَافٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: تَأَوَّلَا النَّهْيَ عَلَى النَّدْبِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَسْأَلَةً
مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فقد سقط ذلك ها هنا، لقوله:" فَتَكُونا
مِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 35] فَقَرَنَ النَّهْيَ
بِالْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" فَلا
يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى " «1» [طه: 117].
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا أَكَلَ آدَمُ بَعْدَ
أَنْ سَقَتْهُ حَوَّاءُ الْخَمْرَ فَسَكِرَ وَكَانَ فِي غَيْرِ
عَقْلِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ يَزِيدُ بْنُ قُسَيْطٍ، وَكَانَا
يَحْلِفَانِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا فَاسِدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا، أَمَّا النَّقْلُ فَلَمْ
يَصِحْ بِحَالٍ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَمْرَ
الْجَنَّةِ فَقَالَ:" لَا فِيها غَوْلٌ". وَأَمَّا الْعَقْلُ
فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مَعْصُومُونَ
عَمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ
وَاقْتِحَامِ الْجَرَائِمِ. قُلْتُ: قَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ نُبُوَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ
إِسْكَانِهِ الْجَنَّةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ" [البقرة: 33] فَأَمَرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى أَنْ يُنْبِئَ الْمَلَائِكَةَ بِمَا ليس عندهم من علم
الله عز وجل. وَقِيلَ: أَكَلَهَا نَاسِيًا، وَمِنَ الْمُمْكِنِ
أَنَّهُمَا نَسِيَا الْوَعِيدَ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ
لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ حَتْمًا
وَجَزْمًا فَقَالَ:" وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «2» " [طه: 115].
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
يَلْزَمُهُمْ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ لِكَثْرَةِ
مَعَارِفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ مَا لَا يَلْزَمُ
غَيْرَهُمْ كَانَ تَشَاغُلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النَّهْيِ
تَضْيِيعًا صَارَ بِهِ عَاصِيًا، أَيْ مُخَالِفًا. قَالَ أَبُو
أُمَامَةَ: لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ مُنْذُ خَلَقَ
اللَّهُ الْخَلْقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وُضِعَتْ فِي
كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوُضِعَ حِلْمُ آدَمَ فِي كِفَّةٍ أُخْرَى
لَرَجَحَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَمْ نَجِدْ
لَهُ عَزْماً".
__________
(1). راجع ج 11 ص 251 وص 253
(2). راجع ج 11 ص 251 وص 253 [ ..... ]
(1/306)
قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ هَذَا
عُمُومٌ فِي جَمِيعِ بَنِي آدَمَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ
يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَوْفَرَ النَّاسِ
حِلْمًا وَعَقْلًا. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَيْضًا
حَسَنٌ، فَظَنَّا أَنَّ الْمُرَادَ الْعَيْنُ وَكَانَ
الْمُرَادُ الْجِنْسَ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ ذَهَبًا وَحَرِيرًا فَقَالَ:
(هَذَانَ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي). وَقَالَ فِي
خَبَرٍ آخَرَ: (هَذَانَ مُهْلِكَانِ أُمَّتِي). وَإِنَّمَا
أَرَادَ الْجِنْسَ لَا الْعَيْنَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ-
يُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ حَوَّاءُ
بِإِغْوَاءِ إِبْلِيسَ إِيَّاهَا- عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ- وَإِنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ كَانَ مَعَهَا
لِأَنَّهَا وَسْوَاسُ الْمِخَدَّةِ، وَهِيَ أَوَّلُ فِتْنَةٍ
دَخَلَتْ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالَ: مَا
مُنِعْتُمَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِلَّا أَنَّهَا شَجَرَةُ
الْخُلْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا
يُحِبَّانِ الْخُلْدَ، فَأَتَاهُمَا مِنْ حَيْثُ أَحَبَّا-"
حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ"- فَلَمَّا قَالَتْ
حَوَّاءُ لِآدَمَ أَنْكَرَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الْعَهْدَ،
فَأَلَحَّ عَلَى حَوَّاءَ وَأَلَحَّتْ حَوَّاءُ عَلَى آدَمَ،
إِلَى أَنْ قَالَتْ: أَنَا آكُلُ قَبْلَكَ حتى إن أصابني شي
سَلِمْتَ أَنْتَ، فَأَكَلَتْ فَلَمْ يَضُرَّهَا، فَأَتَتْ
آدَمَ فَقَالَتْ: كُلْ فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ فَلَمْ
يَضُرَّنِي، فأكل فبدت لهما سوآتهما وَحَصَلَا فِي حُكْمِ
الذَّنْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ" فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ، فَلِذَلِكَ لَمْ
تَنْزِلْ بِهَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ
عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَخَفِيَتْ عَلَى آدَمَ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ
مَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ: إِنْ دَخَلْتُمَا
الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ أَوْ حُرَّتَانِ، إِنَّ
الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُخُولِ إِحْدَاهُمَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَطْلُقَانِ وَلَا
تَعْتِقَانِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الدُّخُولِ، حَمْلًا
عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَخْذًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ
اللَّفْظِ. وَقَالَهُ سَحْنُونُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
مَرَّةً أُخْرَى: تَطْلُقَانِ جَمِيعًا وَتَعْتِقَانِ جَمِيعًا
بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّ بَعْضَ
الْحِنْثِ حِنْثٌ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَيْنِ
الرَّغِيفَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَحَدِهِمَا بَلْ
بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَشْهَبُ: تَعْتِقُ
وَتَطْلُقُ الَّتِي دَخَلَتْ وَحْدَهَا، لِأَنَّ دُخُولَ
(1/307)
كل واحدة منهما شرطا فِي طَلَاقِهَا أَوْ
عِتْقِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَعِيدٌ،
لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ شَرْطًا إِجْمَاعًا.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّ النَّهْيَ إِذَا كَانَ
مُعَلَّقًا عَلَى فِعْلَيْنِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ
إِلَّا بِهِمَا، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تَدْخُلَا
الدَّارَ، فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا مَا وُجِدَتِ الْمُخَالَفَةُ
مِنْهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى" وَلا تَقْرَبا
هذِهِ الشَّجَرَةَ" [البقرة: 35] نهي لهما" فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ" [البقرة: 35] جَوَابُهُ، فَلَا يَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ حَتَّى يَفْعَلَا، فلما أكلت لم يصبها شي،
لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا وُجِدَ كَامِلًا. وَخَفِيَ
هَذَا الْمَعْنَى عَلَى آدَمَ فَطَمِعَ وَنَسِيَ هَذَا
الْحُكْمَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ
عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ" [طه: 115] وَقِيلَ:
نَسِيَ قَوْلَهُ:" إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا
يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى " [طه: 117].
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ هَلْ وَقَعَ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-
صَغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُعَاتَبُونَ
عَلَيْهَا أَمْ لَا- بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ فِيهَا
شَيْنٌ وَنَقْصٌ إِجْمَاعًا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ
«1»، وَعِنْدَ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ «2» أَنَّ ذَلِكَ
مُقْتَضَى دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ
أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى أُصُولِهِمْ-،
فَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ: تَقَعُ الصَّغَائِرُ
مِنْهُمْ. خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَقَعَ
مِنْ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ وَثَبَتَ مِنْ تَنَصُّلِهِمْ
مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ
فِيهِ. وَقَالَ جُمْهُورٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: إِنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ كُلِّهَا كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ
الْكَبَائِرِ أَجْمَعِهَا، لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ
فِي أَفْعَالِهِمْ وَآثَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ أَمْرًا
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَرِينَةٍ، فَلَوْ
جَوَّزْنَا عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ لَمْ يُمْكِنِ
الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ
أَفْعَالِهِمْ يَتَمَيَّزُ مَقْصِدُهُ مِنَ الْقُرْبَةِ
وَالْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ الْمَرْءُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ
لَعَلَّهُ مَعْصِيَةٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَرَى
تَقْدِيمَ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ إِذَا تَعَارَضَا من
الأصوليين. قال
__________
(1). هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم أبو بكر
الباقلاني.
(2). هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأستاذ أبو إسحاق
الاسفرايني. وفي الأصول: (عند الأستاذ أبي بكر) وهو تحريف.
(راجع الكلام في عصمة الأنبياء في شرح المواقف).
(1/308)
الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني:
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّغَائِرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ
الْأَكْثَرُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ، وَصَارَ
بَعْضُهُمْ إِلَى تَجْوِيزِهَا، وَلَا أَصْلَ لِهَذِهِ
الْمَقَالَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ
ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ
يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ
ذُنُوبٍ مِنْ بَعْضِهِمْ وَنَسَبَهَا إِلَيْهِمْ وَعَاتَبَهُمْ
عَلَيْهَا، وَأَخْبَرُوا بِهَا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَتَنَصَّلُوا
مِنْهَا وَأَشْفَقُوا مِنْهَا وَتَابُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ
وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ
جُمْلَتُهَا وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ آحَادُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ
مِمَّا لَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، وَإِنَّمَا تِلْكَ
الْأُمُورُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ
وَعَلَى جِهَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ
دَعَا إِلَى ذَلِكَ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ
حَسَنَاتٌ وَفِي حَقِّهِمْ سَيِّئَاتٌ، [بِالنِّسْبَةِ] إِلَى
مَنَاصِبِهِمْ وَعُلُوِّ أَقْدَارِهِمْ، إِذْ قَدْ يُؤَاخَذُ
الْوَزِيرُ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ السَّائِسُ، فَأَشْفَقُوا
مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ
بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالسَّلَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ
الْحَقُّ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْجُنَيْدُ حَيْثُ قَالَ:
حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. فَهُمْ-
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- وَإِنْ كَانَ قَدْ
شَهِدَتِ النُّصُوصُ بِوُقُوعِ ذُنُوبٍ مِنْهُمْ فَلَمْ
يُخِلَّ ذَلِكَ بِمَنَاصِبِهِمْ وَلَا قَدْحَ فِي رُتَبِهِمْ،
بَلْ قَدْ تَلَافَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ
وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ،
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ. الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)
الظُّلْمُ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَالْأَرْضُ الْمَظْلُومَةُ: الَّتِي لَمْ تُحْفَرْ قَطُّ
ثُمَّ حُفِرَتْ. قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ
جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ...
وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ «1»
وَيُسَمَّى ذَلِكَ التُّرَابُ الظَّلِيمَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ «2» ... على العيش
مردود عليها ظليمها
__________
(1). الأواري (واحدها آري) حبل تشد به الدابة في محسبها.
واللاى: المشقة والجهد. والنوى: حفرة حول البيت لئلا يصل إليه
الماء. والجلد (بالتحريك): الأرض الصلبة. راجع خزانة الأدب في
إعرابه.
(2). الاشاحة: الحذر والخوف لمن حاول أن يدفع الموت. قال صاحب
اللسان: (يعني حفرة القبر يرد ترابها عليه بعد دفن الميت
فيها).
(1/309)
وَإِذَا نُحِرَ الْبَعِيرُ مِنْ غَيْرِ
دَاءٍ بِهِ فَقَدْ ظُلِمَ، وَمِنْهُ:
... ظَلَّامُونَ لِلْجُزُرِ «1»
وَيُقَالُ: سَقَانَا ظَلِيمَةً طَيِّبَةً، إِذَا سَقَاهُمُ
اللَّبَنَ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ. وَقَدْ ظَلَمَ «2» وَطْبَهُ،
إِذَا سَقَى مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ وَيَخْرُجَ زُبْدُهُ.
وَاللَّبَنُ مَظْلُومٌ وَظَلِيمٌ. قَالَ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى
عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ «3»
وَرَجُلٌ ظَلِيمٌ: شَدِيدُ الظُّلْمِ. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"
«4» [لقمان: 13]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلا مِنْها رَغَداً)
حُذِفَتِ النُّونُ مِنْ (كُلا) لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَحُذِفَتِ
الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَذْفُهَا شَاذٌّ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: مِنَ الْعَرَبِ من يقول أوكل، فَيُتِمُّ.
يُقَالُ مِنْهُ: أَكَلْتُ الطَّعَامَ أَكْلًا وَمَأْكَلًا.
وَالْأَكْلَةُ (بِالْفَتْحِ): الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ حَتَّى
تَشْبَعَ. وَالْأُكْلَةُ (بِالضَّمِّ): اللُّقْمَةُ تَقُولُ:
أَكَلْتُ أُكْلَةً وَاحِدَةً، أَيْ لُقْمَةً وَهِيَ
الْقُرْصَةُ أَيْضًا. وَهَذَا الشَّيْءُ أُكْلَةٌ لَكَ أَيْ
طُعْمَةٌ لَكَ. وَالْأَكْلُ أَيْضًا مَا أُكِلَ. وَيُقَالُ:
فُلَانٌ ذُو أُكُلٍ إِذَا كَانَ ذَا حَظٍّ مِنَ الدُّنْيَا
وَرِزْقٍ وَاسِعٍ. (رَغَداً) نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ
أَكْلًا رَغَدًا. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
(رَغَداً) أَيْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ. وَالرَّغَدُ فِي
اللُّغَةِ: الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يَعْنِيكَ وَيُقَالُ:
أَرْغَدَ الْقَوْمُ إِذَا وَقَعُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ «5» هَذَا الْمَعْنَى. و (حَيْثُ)
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ أَخَوَاتِهَا
الظُّرُوفَ فِي أَنَّهَا لَا تُضَافُ فَأَشْبَهَتْ قَبْلُ
وَبَعْدُ إِذَا أُفْرِدَتَا فَضُمَّتْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
لُغَةُ قَيْسَ وَكِنَانَةَ الضَّمُّ وَلُغَةُ تَمِيمٍ
الْفَتْحُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَبَنُو أَسَدٍ
يَخْفِضُونَهَا فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ وَيَنْصِبُونَهَا فِي
مَوْضِعِ النَّصْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ «6» وَتُضَمُّ
وَتُفْتَحُ. (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) الْهَاءُ مِنْ
(هَذِهِ) بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ
هَذِي. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْلَمُ فِي الْعَرَبِيَّةِ
هَاءَ تأنيث مكسورا ما قبلها
__________
(1). عجز بيت لابن مقبل وهو بتمامه:
عاد الأذلة في دار وكان بها ... هرت الشقاشق ظلامون للجزر
(2). الوطب (بفتح فسكون): الزق الذي يكون فيه السمن واللبن.
(3). ظلمت سقائي: سقيتهم إياه قبل أن يروب. والعكد (بضم العين
وفتحها وفتح الكاف جمع العكدة والعكدة): أصل اللسان.
(4). راجع ج 14 ص 62.
(5). راجع المسألة السادسة ص 303 من هذا الجزء.
(6). آية 182 سورة الأعراف. و44 سورة القلم.
(1/310)
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
إِلَّا هَاءَ (هَذِهِ). وَمِنَ الْعَرَبِ
مَنْ يَقُولُ: هَاتَا هِنْدٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَاتِي
هِنْدٌ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: هَذِهْ هِنْدٌ بِإِسْكَانِ
الْهَاءِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: وَلَا
تَقْرَبَا هَذِي الشَّجَرَةَ. وَعَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ
قَالَ: كَانَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَا
يُثْبِتَانِ الْهَاءَ فِي (هَذِهِ) فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ (رَغَداً) بِفَتْحِ الْغَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا
سَكَّنَا الْغَيْنَ. وَحَكَى سَلَمَةُ عَنِ الْفَرَّاءِ قال
يقال: هذه فعلت وهذى فعلت فإثبات ياء بعد الذال. وهذا فَعَلَتْ
بِكَسْرِ الذَّالِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاقِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ.
وَهَاتَا فَعَلَتْ. قَالَ هِشَامٌ وَيُقَالُ: تافعلت.
وَأَنْشَدَ:
خَلِيلَيَّ لَوْلَا سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أَقُمْ ... بِتَا
الدَّارِ إِلَّا عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَتَا بِإِسْقَاطِ هَا
بِمَنْزِلَةِ ذِي بِإِسْقَاطِ هَا مِنْ هَذِي وَبِمَنْزِلَةِ
ذِهِ بِإِسْقَاطِ هَا مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ:
مَنْ قال هذه قَامَتْ لَا يُسْقِطُ هَا لِأَنَّ الِاسْمَ لَا
يَكُونُ عَلَى ذَالٍ وَاحِدَةٍ." فَتَكُونا" عَطْفٌ عَلَى"
تَقْرَبا" فَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ. وَزَعَمَ
الْجَرْمِيُّ «1» أَنَّ الفاء هي الناصبة، وكلاهما جائز.
[سورة البقرة (2): آية 36]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ) فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ
عَنْها" قَرَأَ الْجَمَاعَةُ" فَأَزَلَّهُمَا" بِغَيْرِ
أَلِفٍ، مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ، أَيِ
اسْتَزَلَّهُمَا وَأَوْقَعَهُمَا فِيهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ"
فَأَزَالَهُمَا" بِأَلِفٍ، مِنَ التَّنْحِيَةِ، أَيْ
نَحَّاهُمَا. يُقَالُ: أَزَلْتُهُ فَزَالَ. قَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ: فَأَزَالَهُمَا مِنَ الزَّوَالِ، أَيْ صَرَفَهُمَا
عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى،
إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى.
يُقَالُ مِنْهُ: أَزْلَلْتُهُ فَزَلَّ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ
بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا «2» " [آل عمران: 155]، وقوله:
__________
(1). الجرمي (بفتح الجيم وسكون الراء): صالح بن إسحاق أبو عمر
مولى جرم، لغوي مشهور. (عن بغية الوعاة).
(2). راجع ج 4 ص 243
(1/311)
" فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ"
وَالْوَسْوَسَةُ إِنَّمَا هِيَ إِدْخَالُهُمَا فِي الزَّلَلِ
بِالْمَعْصِيَةِ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةٌ عَلَى
زَوَالِ أَحَدٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِنَّمَا
قُدْرَتُهُ [عَلَى] إِدْخَالِهِ فِي الزَّلَلِ، فَيَكُونُ
ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى زَوَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ
يذنبه. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَزَلَّهُمَا مِنْ زَلَّ
عَنِ الْمَكَانِ إِذَا تَنَحَّى، فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى
كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنَ الزَّوَالِ. قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
يُزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ ... وَيُلْوِي
بِأَثْوَابِ الْعَنِيفِ الْمُثَقَّلِ «1»
وَقَالَ أَيْضًا:
كُمَيْتٍ يُزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا
زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ «2»
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَخْرَجَهُما مِمَّا
كَانَا فِيهِ" إِذَا جَعَلَ أَزَالَ مِنْ زَالَ عَنِ
الْمَكَانِ فَقَوْلُهُ:" فَأَخْرَجَهُما" تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ
لِلزَّوَالِ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَا عَنْ مَكَانٍ
كَانَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ
إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْهَا، وَلِيَكُونَ
آدَمُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. وَلَمْ يَقْصِدْ إِبْلِيسُ-
لَعَنَهُ اللَّهُ- إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ
إِسْقَاطَهُ مِنْ مَرْتَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ كَمَا أُبْعِدَ
هُوَ، فَلَمْ يَبْلُغْ مَقْصِدَهُ وَلَا أَدْرَكَ مُرَادَهُ،
بَلِ ازْدَادَ سُخْنَةَ «3» عَيْنٍ وَغَيْظَ نَفْسٍ وَخَيْبَةَ
ظَنٍّ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:" ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى " «4» [طه: 122] فَصَارَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بَعْدَ
أَنْ كَانَ جَارًا لَهُ فِي دَارِهِ، فَكَمْ بَيْنَ
الْخَلِيفَةِ وَالْجَارِ! صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبِهِ
وَإِغْوَائِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
وَغَيْرِهِمْ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُتَوَلِّيَ إِغْوَاءِ
آدَمَ، وَاخْتُلِفَ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
أَغْوَاهُمَا مُشَافَهَةً، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ"
وَالْمُقَاسَمَةُ ظَاهِرُهَا الْمُشَافَهَةُ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ،: دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ وَهِيَ
ذَاتُ أَرْبَعٍ كَالْبُخْتِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ دَابَّةٍ
خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أن عرض
__________
(1). الخف (بالكسر): الخفيف. والصهوة: موضع اللبد من ظهر
الفرس. ويلوى بها: يذهب بها من شدة عدوه. والعنيف: الذي لا
يحسن الركوب، وليس له رفق بركوب الخيل. والمثقل: الثقيل.
(2). الكميت: لون ليس بأشقر ولا أدهم. والحال: موضع اللبد من
ظهر الفرس. والصفواء (جمع صفاة): الصخرة الملساء. والمتنزل:
الذي ينزل عليها فيزلق عنها. [ ..... ]
(3). سخنت عينه: نقيض قرت.
(4). راجع ج 11 ص 257
(1/312)
نَفْسَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ
فَلَمْ يُدْخِلْهُ إِلَّا الْحَيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ
الْجَنَّةَ خَرَجَ مِنْ جَوْفِهَا إِبْلِيسُ فَأَخَذَ مِنَ
الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ آدَمَ وَزَوْجَهُ عَنْهَا
فَجَاءَ بِهَا إِلَى حَوَّاءَ فَقَالَ: انْظُرِي إِلَى هَذِهِ
الشَّجَرَةِ، مَا أَطْيَبَ رِيحَهَا وَأَطْيَبَ طَعْمَهَا
وَأَحْسَنَ لَوْنَهَا! فَلَمْ يَزَلْ يُغْوِيهَا حَتَّى
أَخَذَتْهَا حَوَّاءُ فَأَكَلَتْهَا. ثُمَّ أَغْوَى آدَمَ،
وَقَالَتْ لَهُ حَوَّاءُ: كُلْ فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ فَلَمْ
يَضُرَّنِي، فَأَكَلَ مِنْهَا فبدت لهما سوآتهما وَحَصَلَا فِي
حُكْمِ الذَّنْبِ، فَدَخَلَ آدَمُ فِي جَوْفِ الشَّجَرَةِ،
فَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا هَذَا يَا
رَبِّ، قَالَ: أَلَا تَخْرُجُ؟ قَالَ أَسْتَحِي مِنْكَ يَا
رَبِّ، قَالَ: اهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتَ
مِنْهَا. وَلُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَرُدَّتْ قَوَائِمُهَا فِي
جَوْفِهَا وَجُعِلَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي
آدَمَ، وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا بِقَتْلِهَا، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ. وَقِيلَ لِحَوَّاءَ: كَمَا أَدْمَيْتِ الشَّجَرَةَ
فَكَذَلِكَ يُصِيبُكِ الدَّمُ كُلَّ شَهْرٍ وَتَحْمِلِينَ
وَتَضَعِينَ كُرْهًا تُشْرِفِينَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ
مِرَارًا. زَادَ الطَّبَرِيُّ وَالنَّقَّاشُ: وَتَكُونِي
سَفِيهَةً وَقَدْ كُنْتِ حَلِيمَةً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِلَى آدَمَ بَعْدَ
مَا أُخْرِجَ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَغْوَى بِشَيْطَانِهِ
وَسُلْطَانِهِ وَوِسْوَاسِهِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى
الدَّمِ). وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَعْرَافِ
«1» أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ بَقِيَ عُرْيَانًا وَطَلَبَ مَا
يَسْتَتِرُ بِهِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ الْأَشْجَارُ
وَبَكَّتُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَرَحِمَتْهُ شَجَرَةُ
التِّينِ، فَأَخَذَ مِنْ وَرَقِهِ فَاسْتَتَرَ بِهِ، فَبُلِيَ
بِالْعُرْيِ دُونَ الشَّجَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ:
إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِخْرَاجِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ
عِمَارَةُ الدُّنْيَا. الثَّالِثَةُ: يُذْكَرُ أَنَّ
الْحَيَّةَ كَانَتْ خَادِمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْجَنَّةِ فَخَانَتْهُ بِأَنْ مَكَّنَتْ عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ
نَفْسِهَا وَأَظْهَرَتِ الْعَدَاوَةَ لَهُ هُنَاكَ، فَلَمَّا
أُهْبِطُوا تَأَكَّدَتِ الْعَدَاوَةُ وَجُعِلَ رِزْقُهَا
التُّرَابَ، وَقِيلَ لَهَا: أَنْتِ عَدُوُّ بَنِي آدَمَ وَهُمْ
أَعْدَاؤُكِ وَحَيْثُ لَقِيَكِ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَدَخَ
رَأْسَكِ. رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ
الْمُحْرِمُ) فَذَكَرَ الْحَيَّةَ فِيهِنَّ. وَرُوِيَ أَنَّ
إِبْلِيسَ قَالَ لَهَا: أَدْخِلِينِي الْجَنَّةَ وَأَنْتِ فِي
ذِمَّتِي، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَخْفِرُوا «2»
ذِمَّةَ إِبْلِيسَ. وَرَوَتْ سَاكِنَةُ بِنْتُ الْجَعْدِ عَنْ
سَرَّاءَ «3» بِنْتِ نَبْهَانَ الْغَنَوِيَّةِ قَالَتْ:
سَمِعْتُ
__________
(1). راجع ج 7 ص 181.
(2). أي انقضوا عهده وذمامه.
(3). في التقريب: (بفتح أولها وتشديد الراء المهملة مع المد).
وفي أسد الغابة: (بفتح السين وإمالة الراء المشددة، وآخره ياء
ساكنة).
(1/313)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اقْتُلُوا) الْحَيَّاتِ صَغِيرَهَا
وَكَبِيرَهَا وَأَسْوَدَهَا وَأَبْيَضَهَا فَإِنَّ مَنْ
قَتَلَهَا كَانَتْ لَهُ فِدَاءً مِنَ النَّارِ وَمَنْ
قَتَلَتْهُ كَانَ شَهِيدًا (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا
كَانَتْ لَهُ فِدَاءً مِنَ النَّارِ لِمُشَارَكَتِهَا
إِبْلِيسَ وَإِعَانَتِهِ عَلَى ضَرَرِ آدَمَ وَوَلَدِهِ،
فَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
كَافِرًا. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي
النَّارِ أَبَدًا). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
الرَّابِعَةُ- رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ «1» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمِنًى فَمَرَّتْ حَيَّةٌ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقتلوها)
فسبقتنا إلى حجر فَدَخَلَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَاتُوا بِسَعَفَةٍ وَنَارٍ
فَأَضْرِمُوهَا عَلَيْهِ نَارًا). قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا
الْحَدِيثُ يَخُصُّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ
الْمُثْلَةِ وَعَنْ أَنْ يُعَذِّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، قَالُوا: فَلَمْ «2» يَبْقَ لِهَذَا الْعَدُوِّ
حُرْمَةٌ حَيْثُ فَاتَهُ حَتَّى أَوْصَلَ إِلَيْهِ الْهَلَاكَ
مِنْ حَيْثُ قَدَرَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُحْرَقَ
الْعَقْرَبُ بِالنَّارِ، وَقَالَ: هُوَ مُثْلَةٌ. قِيلَ لَهُ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْأَثَرُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمِلَ عَلَى
الْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ: (لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ)
فَكَانَ عَلَى هَذَا سَبِيلُ الْعَمَلِ عِنْدَهُ. فَإِنْ
قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ وقد أنزلت عليه:"
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً" [المرسلات: 1] فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا
مِنْ فِيهِ رَطْبَةً، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ،
فَقَالَ: (اقْتُلُوهَا)، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا
فَسَبَقَتْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا
وَقَاكُمْ شَرَّهَا). فَلَمْ يُضْرِمْ نَارًا وَلَا احْتَالَ
فِي قَتْلِهَا. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ
يَجِدْ نَارًا فَتَرَكَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْجُحْرُ
بِهَيْئَةٍ يُنْتَفَعُ بِالنَّارِ هُنَاكَ مَعَ ضَرَرِ
الدُّخَانِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَيَوَانِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: (وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ) أَيْ
قَتْلَكُمْ إِيَّاهَا (كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا) أي لسعها.
__________
(1). كذا في جميع نسخ الأصل. وفي غيرها من التفاسير: (عن عبد
الله بن مسعود). ويبدو أن الأصل: (عن أبي عبيدة عن أبيه عبد
الله) إلخ.
(2). الضمير للحديث، أي لم يبق هذا الحديث إلخ.
(1/314)
الْخَامِسَةُ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ
الْحَيَّاتِ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ إِلَى دَفْعِ
الْمَضَرَّةِ الْمَخُوفَةِ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَمَا كَانَ
مِنْهَا مُتَحَقَّقُ الضَّرَرِ وَجَبَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى
قَتْلِهِ، لِقَوْلِهِ: (اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا
الطُّفْيَتَيْنِ «1» وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَخْطَفَانِ
الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَلَ). فَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ
مَعَ أَنَّهُمَا دَخَلَا فِي الْعُمُومِ وَنَبَّهَ عَلَى
ذَلِكَ بِسَبَبِ عِظَمِ ضَرَرِهِمَا. وَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ
ضَرَرُهُ فَمَا كَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ قُتِلَ
أَيْضًا لِظَاهِرِ الْأَمْرِ الْعَامِّ، وَلِأَنَّ نَوْعَ
الْحَيَّاتِ غَالِبُهُ الضَّرَرُ، فَيُسْتَصْحَبُ ذَلِكَ
فِيهِ، وَلِأَنَّهُ كُلَّهُ مُرَوِّعٌ بِصُورَتِهِ وَبِمَا فِي
النُّفُوسِ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ). فَشَجَّعَ عَلَى
قَتْلِهَا. وَقَالَ فِيمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: (اقْتُلُوا
الْحَيَّاتِ [كُلَّهُنَّ «2»] فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ
فَلَيْسَ مِنِّي). وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: مَا
كَانَ مِنَ الْحَيَّاتِ فِي الْبُيُوتِ فَلَا يُقْتَلُ حَتَّى
يُؤْذَنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فإذا رأيتم منهم
شيئا فآذنوه ثلاثة أيام). وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَحْدَهَا لِإِسْلَامِ
الْجِنِّ بِهَا، قَالُوا: وَلَا نَعْلَمُ هَلْ أَسْلَمَ مِنْ
جِنِّ غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَوْ لَا، قَالَهُ ابْنُ
نَافِعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَانِ «3»
الْبُيُوتِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ،
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:" وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ" «4»
[الأحقاف: 29] الْآيَةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ
فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ)
وَفِيهِ: وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ
الْجَزِيرَةِ، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي
سُورَةِ" الْجِنِّ" «5» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا
ثبت هذا فلا يقتل شي مِنْهَا حَتَّى يُحَرِّجَ «6» عَلَيْهِ
وَيُنْذَرَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تعالى.
__________
(1). ذو الطفيتين: حية لها خطان أسودان كالطفيتين أي الخوصتين.
(2). الزيادة عن سنن أبي داود.
(3). جنان (بتشديد النون الاولى، جمع جان): ضرب من الحيات
الدقيق الخفيف يضرب إلى الصفرة ليس بسام، وهو كثير في بيوت
الناس.
(4). راجع ج 16 ص 210.
(5). راجع ج 19 ص 1 فما بعد.
(6). في هامش نسخة من الأصل: (التحريج هو أن يقول لها: أنت في
حرج- أي في ضيق- إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك
بالتتبع والطرد والقتل (. وكذلك هو في نهاية ابن الأثير
واللسان.
(1/315)
السَّابِعَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ
أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ
دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ:
فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى
يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينِ
نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ،
فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ
فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي
الدَّارِ فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ،
فَقَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ،
قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ
الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى
أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذْ عَلَيْكَ
سِلَاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ). فَأَخَذَ
الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ
الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ
لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ:
اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى
تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي! فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ
عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا
بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَّزَهُ
فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى
أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعُ مَوْتًا، الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى!
قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ
اللَّهَ يُحْيِيهِ [لَنَا «1»]، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا
لِأَخِيكُمْ «2» ثُمَّ قَالَ:- إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا
قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا
فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ
ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ (. وَفِي
طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إن لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ «3»
فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا
ثَلَاثًا فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ
كَافِرٌ- وَقَالَ لَهُمْ:- اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ
(. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا
يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْجَانَّ الَّذِي
قَتَلَهُ هَذَا الْفَتَى كَانَ مُسْلِمًا وَأَنَّ الْجِنَّ
قَتَلَتْهُ بِهِ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ
الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْجِنِّ لَكَانَ
إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهَذَا الْفَتَى
لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ،
إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ إِلَى قَتْلِ مَا سُوِّغَ قَتْلُ نَوْعِهِ شَرْعًا،
فَهَذَا قَتْلُ خَطَأٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ. فالأولى
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم. [ ..... ]
(2). في صحيح مسلم: (لصاحبكم).
(3). العوامر: الحيات التي تكون في البيوت، واحدها عامر
وعامرة.
(1/316)
أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ
أَوْ فَسَقَتَهُمْ قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد
قتلت سعد ابن عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مُغْتَسَلِهِ وَقَدِ اخْضَرَّ
جَسَدُهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا
قَائِلًا يَقُولُ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا:
قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ ... رَجِ سعد بن عباده
ورميناه بسهمين ... فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهُ
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا)
لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ
الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ
الْكَافِرِ مِنْهُمْ. رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ
جَانًّا فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ
لَهَا: لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ
مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ
إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ. فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ
بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا
وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ، فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ: الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ
الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي وَلَا تَلْتَوِي، وَعَنْ
عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ. الثَّامِنَةُ- فِي صِفَةِ الْإِنْذَارِ،
قَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ إِلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ. وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي
الْيَوْمِ مِرَارًا. وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى إِنْذَارِهِ
ثَلَاثَ مِرَارٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ فِي
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: يَكْفِي ثَلَاثَ مِرَارٍ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا)،
وَقَوْلِهِ: (حَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا) وَلِأَنَّ ثَلَاثًا
لِلْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ). وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ
مُقَيِّدٌ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَيُحْمَلُ ثَلَاثًا عَلَى
إِرَادَةِ لَيَالِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ، فَغَلَّبَ
اللَّيْلَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ التَّارِيخِ
فَإِنَّهَا تُغَلِّبُ فِيهَا التَّأْنِيثَ. قَالَ مَالِكٌ:
وَيَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكِ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا تَبْدُوا لَنَا وَلَا
تُؤْذُونَا. وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ
حَيَّاتُ الْبُيُوتِ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا
شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا: أَنْشُدُكُمْ
بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نوح
(1/317)
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْشُدُكُمْ
بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدُ
فَاقْتُلُوهُ. قُلْتُ: وَهَذَا يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ
يَكْفِي فِي الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَدِيثُ
يَرُدُّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
يَقُولُ: (أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ
عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَلَّا
تُؤْذِينَنَا وَأَلَّا تَظْهَرْنَ عَلَيْنَا). التَّاسِعَةُ-
روى جبير عن نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ-
وَاسْمُهُ جُرْثُومٌ- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْلَاثٍ
فَثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ
وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ وَثُلُثٌ يَحُلُّونَ
وَيَظْعَنُونَ). وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ- وَاسْمُهُ
عُوَيْمِرٌ- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُلِقَ الْجِنُّ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ
فَثُلُثٌ كِلَابٌ وَحَيَّاتٌ وَخَشَاشُ الْأَرْضِ وَثُلُثٌ
رِيحٌ هَفَّافَةٌ وَثُلُثٌ كَبَنِي آدَمَ لَهُمُ الثَّوَابُ
وَعَلَيْهِمُ الْعِقَابُ وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ
أَثْلَاثٍ فَثُلُثٌ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا
وَأَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَآذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ
بِهَا إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا وَثُلُثٌ أَجْسَادُهُمْ كَأَجْسَادِ بَنِي آدَمَ
وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ وَثُلُثٌ فِي ظِلِّ
اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ (. الْعَاشِرَةُ- مَا
كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ أَصْلُهُ الْإِذَايَةُ فَإِنَّهُ
يُقْتَلُ ابْتِدَاءً، لِأَجْلِ إِذَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ
خِلَافٍ، كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرِ وَالْوَزَغِ،
وَشَبَهِهِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي
الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ... ). وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَالْحَيَّةُ أَبْدَتْ جَوْهَرَهَا الْخَبِيثَ حَيْثُ خَانَتْ
آدَمَ بِأَنْ أَدْخَلَتْ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ بَيْنَ
فَكَّيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ تُبْرِزُهُ مَا تَرَكَهَا
رَضْوَانُ تَدْخُلُ بِهِ. وَقَالَ لَهَا إِبْلِيسُ أَنْتِ فِي
ذِمَّتِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا وَقَالَ: (اقْتُلُوهَا وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي الصَّلَاةِ) يَعْنِي الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ.
وَالْوَزَغَةُ «1» نَفَخَتْ عَلَى نَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الدَّوَابِّ فَلُعِنَتْ.
وَهَذَا مِنْ نَوْعِ مَا يُرْوَى فِي الْحَيَّةِ. وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: من قتل وزغة فكأنما
__________
(1). الوزغة (بالتحريك): هي التي يقال لها سام أبرص.
(1/318)
قَتَلَ كَافِرًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ
ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَفِي الثَّانِيَةِ
دُونَ ذَلِكَ وفي الثالثة دون ذلك. وفي رواية أَنَّهُ قَالَ:
(فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعُونَ حَسَنَةٍ). وَالْفَأْرَةُ
أَبْدَتْ جَوْهَرَهَا بِأَنْ عَمَدَتْ إِلَى حِبَالِ سَفِينَةِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطَعَتْهَا. وَرَوَى عَبْدُ
الرحمن بن أبي نعم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحِدَأَةَ
وَالسَّبُعَ الْعَادِيَّ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ
وَالْفُوَيْسِقَةَ). وَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَتْ فَتِيلَةً
لِتَحْرُقَ الْبَيْتَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا. وَالْغُرَابُ أَبْدَى
جَوْهَرَهُ حَيْثُ بَعَثَهُ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنَ السَّفِينَةِ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ
فَتَرَكَ أَمْرَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى جِيفَةٍ. هَذَا كُلُّهُ
فِي مَعْنَى الْحَيَّةِ، فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ. وَسَيَأْتِي
لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي التَّعْلِيلِ فِي"
الْمَائِدَةِ" «1» وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى" وَقُلْنَا اهْبِطُوا" حُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنَ"
اهْبِطُوا" فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهَا أَلِفُ وَصْلٍ.
وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ" قُلْنَا" فِي اللَّفْظِ
لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ
بْنُ مُصَفَّى عَنْ أَبِي حَيْوَةَ ضَمَّ الْبَاءِ فِي"
اهْبِطُوا"، وَهِيَ لُغَةٌ يُقَوِّيهَا أَنَّهُ غَيْرُ
مُتَعَدٍّ وَالْأَكْثَرُ فِي غَيْرِ الْمُتَعَدِّي أَنْ
يَأْتِيَ عَلَى يَفْعُلَ. وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ
وَالْحَيَّةِ وَالشَّيْطَانِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَسْوَسَةُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: بَنُو آدَمَ وَبَنُو
إِبْلِيسَ. وَالْهُبُوطُ: النُّزُولُ مِنْ فَوْقٍ إِلَى
أَسْفَلَ، فَأُهْبِطَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ فِي الْهِنْدِ بجبل
يقال له" بوذا" «2» وَمَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ فَعَلِقَ
بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا فَامْتَلَأَ مَا هُنَاكَ طِيبًا،
فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَكَانَ السَّحَابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأَصْلَعَ،
فَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ
__________
(1). راجع ج 6 ص 303.
(2). في اللسان والقاموس ومعجم البلدان ومروج الذهب: (راهون).
(1/319)
وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) الْحَدِيثَ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَسَيَأْتِي. وَأُهْبِطَتْ حَوَّاءُ
بِجَدَّةَ وَإِبْلِيسُ بِالْأُبُلَّةَ «1»، وَالْحَيَّةُ
بِبَيْسَانَ «2»، وَقِيلَ: بِسِجِسْتَانَ «3». وَسِجِسْتَانَ
أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ حَيَّاتٍ، وَلَوْلَا الْعِرْبَدُّ
«4» الَّذِي يَأْكُلُهَا وَيُفْنِي كَثِيرًا مِنْهَا
لَأُخْلِيَتْ سِجِسْتَانُ مِنْ أَجْلِ الْحَيَّاتِ، ذَكَرَهُ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيُّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى" بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" ... " بَعْضُكُمْ"
مُبْتَدَأٌ،" عَدُوٌّ" خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ وَهَذِهِ حَالُكُمْ.
وحذفت الواو من و" بَعْضُكُمْ" لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ
عَائِدًا، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُكَ السَّمَاءُ تُمْطِرُ
عَلَيْكَ. وَالْعَدُوُّ: خِلَافُ الصَّدِيقِ، وَهُوَ من عدا
إذا ظلم. وذيب عَدْوَانُ: يَعْدُو عَلَى النَّاسِ.
وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ الصُّرَاحُ. وَقِيلَ: هُوَ
مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُجَاوَزَةِ، مِنْ قَوْلِكَ: لَا يَعْدُوكَ
هَذَا الْأَمْرُ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُكَ. وَعَدَاهُ إِذَا
جَاوَزَهُ، فَسُمِّيَ عَدُوًّا لِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي
مَكْرُوهِ صَاحِبِهِ، وَمِنْهُ الْعَدْوُ بِالْقَدَمِ
لِمُجَاوَزَةِ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ،
فَإِنَّ مَنْ ظَلَمَ فَقَدْ تَجَاوَزَ. قُلْتُ: وَقَدْ حَمَلَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ تعالى:" بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ" [البقرة: 36] عَلَى الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، وَفِيهِ
بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مَعْنًى. يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا
أَصْبَحَ تَقُولُ جَوَارِحُهُ لِلِسَانِهِ اتَّقِ اللَّهَ
فِينَا فَإِنَّكَ إِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ
اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا (. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ"
عَدُوٌّ" وَلَمْ يَقُلْ أَعْدَاءٌ، فَفِيهِ جَوَابَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَعْضًا وَكُلًّا يُخْبَرُ عَنْهُمَا
بِالْوَاحِدِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى، وَذَلِكَ
فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
«5» يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً" [مريم: 95] عَلَى اللَّفْظِ،
وَقَالَ تَعَالَى:" وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ" «6» [النمل:
87] عَلَى الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ الْآخَرُ: أَنَّ عَدُوًّا
يُفْرَدُ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلًا" «7» [الكهف: 50] بِمَعْنَى أَعْدَاءٍ، وَقَالَ
تَعَالَى:" يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
الْعَدُوُّ" «8» [المنافقون: 4]. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ:
الْعَدُوُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْوَاحِدِ والاثنين والثلاثة
والتأنيث، وقد يجمع.
__________
(1). الابلة (بضم أوله وثانيه وتشديد اللام وفتحها): البلد
المعروف قرب البصرة من جانبها البحري.
(2). بيسان: بلدة بمرو وبالشام وموضع باليمامة.
(3). سجستان (بكسر أوله وثانيه وقد يفتح أوله): اسم مدينة من
مدن خراسان. (عن شرح القاموس).
(4). العربد (بكسر العين وسكون الراء وفتح الباء وكسرها وتشديد
الدال): حية تنفخ ولا يؤذي.
(5). راجع ج 11 ص 160.
(6). راجع ج 13 ص 241.
(7). راجع ج 10 ص 420.
(8). راجع ج 18 ص 125
(1/320)
الثَّالِثَةُ- لَمْ يَكُنْ إِخْرَاجُ
اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَإِهْبَاطُهُ مِنْهَا
عُقُوبَةً لَهُ لِأَنَّهُ أَهْبَطَهُ بَعْدَ أَنْ تَابَ
عَلَيْهِ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ وَإِنَّمَا أَهْبَطَهُ إِمَّا
تَأْدِيبًا وَإِمَّا تَغْلِيظًا لِلْمِحْنَةِ. وَالصَّحِيحُ
فِي إِهْبَاطِهِ وَسُكْنَاهُ فِي الْأَرْضِ مَا قَدْ ظَهَرَ
مِنَ الْحِكْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ نَشْرُ
نَسْلِهِ فِيهَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ وَيُرَتِّبَ
عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمُ الْأُخْرَوِيَّ إِذِ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ لَيْسَتَا بِدَارِ تَكْلِيفٍ فَكَانَتْ
تِلْكَ الْأَكْلَةُ سَبَبَ إِهْبَاطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. وَقَدْ قَالَ" إِنِّي
جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ
عَظِيمَةٌ وَفَضِيلَةٌ كَرِيمَةٌ شَرِيفَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ
الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّمَا أَهْبَطَهُ بَعْدَ أَنْ تَابَ
عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ ثَانِيَةً:" قُلْنَا اهْبِطُوا"
وَسَيَأْتِي «1». الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ
مَوْضِعُ اسْتِقْرَارٍ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ
زَيْدٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:" مُسْتَقَرٌّ" يَعْنِي
الْقُبُورَ. قُلْتُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ «2» قَراراً" [غافر: 64] يَحْتَمِلُ
الْمَعْنَيَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَمَتاعٌ) الْمَتَاعُ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مِنْ
أَكْلٍ وَلُبْسٍ وَحَيَاةٍ وَحَدِيثٍ وَأُنْسٍ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مُتْعَةُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا
يُتَمَتَّعُ بِهَا. وَأَنْشَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ حِينَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ أَيُّوبَ إِثْرَ
دَفْنِهِ:
وَقَفْتُ عَلَى قَبْرٍ غَرِيبٍ بِقَفْرَةٍ ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ
مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلى حِينٍ) اخْتَلَفَ
الْمُتَأَوِّلُونَ فِي الْحِينِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقَالَتْ
فِرْقَةٌ إِلَى الْمَوْتِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ:
الْمُسْتَقَرُّ هُوَ الْمُقَامُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:
إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ:
الْمُسْتَقَرُّ هُوَ الْقُبُورُ وَقَالَ الرَّبِيعُ:" إِلى
حِينٍ" إِلَى أَجَلٍ وَالْحِينُ: الْوَقْتُ الْبَعِيدُ
فَحِينَئِذٍ تَبْعِيدٌ مِنْ قَوْلِكَ الْآنَ قَالَ خُوَيْلِدٌ:
كَابِي «3» الرَّمَادِ عَظِيمُ الْقِدْرِ جَفْنَتُهُ ... حِينَ
الشِّتَاءِ كَحَوْضِ الْمَنْهَلِ اللَّقِفِ
لَقِفَ الْحَوْضُ لَقْفًا، أَيْ تَهَوَّرَ مِنْ أَسْفَلِهِ
وَاتَّسَعَ. وَرُبَّمَا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ التَّاءَ قَالَ
أَبُو وَجْزَةَ:
الْعَاطِفُونَ تَحِينُ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالْمُطْعِمُونَ
زَمَانَ أين المطعم
__________
(1). ص 327. [ ..... ]
(2). راجع ج 15 ص 328.
(3). كابي الرماد: أي عظيم الرماد.
(1/321)
وَالْحُيْنُ أَيْضًا: الْمُدَّةُ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ" «1» [الإنسان: 1] وَالْحِينُ: السَّاعَةُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ" «2»
[الزم 58] قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْحِينُ الْقِطْعَةُ مِنَ
الدَّهْرِ كَالسَّاعَةِ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَوْلُهُ"
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ «3» " [المؤمنون:
54] أي حتى تفنى آجالهم وقول تعالى" تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ
حِينٍ" «4» [إبراهيم: 25] أَيْ كُلَّ سَنَةٍ وَقِيلَ: بَلْ
كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ: بَلْ غُدْوَةً وَعَشِيًّا
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحِينُ اسْمٌ كَالْوَقْتِ يَصْلُحُ
لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ كُلِّهَا طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا
يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا الْبَتَّةَ. قَالَ: وَالْحِينُ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ. وَالْحِينُ: الْغُدْوَةُ وَالْعَشِيَّةُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى" فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ" «5» [الروم: 17] وَيُقَالُ: عَامَلْتُهُ
مُحَايَنَةً مِنَ الْحِينِ وَأَحْيَنْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا
أَقَمْتُ بِهِ حِينًا. وَحَانَ حِينَ كَذَا أَيْ قَرُبَ.
قَالَتْ بُثَيْنَةُ:
وَإِنَّ سُلُوِّيَ عَنْ جَمِيلٍ لَسَاعَةٌ ... مِنَ الدَّهْرِ
مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا
السَّابِعَةُ- لَمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ اللِّسَانِ فِي
الْحِينِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَيْضًا عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ
فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحِينُ حِينَانِ: حِينٌ لَا يُوقَفُ
عَلَى حَدِّهِ وَالْحِينُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ:" تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها"
«6» [إبراهيم: 25] سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
الْحِينُ الْمَجْهُولُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَالْحِينُ
الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ
وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ
سَنَةٌ. وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَيْمَانِ
أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى
الْأَقَلَّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ فَقَالَ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ. وَلَا معنى لقوله لان المقدرات عِنْدَهُ لَا
تَثْبُتُ قِيَاسًا وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ
مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً فَمَنْ نَذَرَ أَنْ
يُصَلِّيَ حِينًا فَيُحْمَلُ عَلَى رَكْعَةٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ قِيَاسًا عَلَى
رَكْعَةِ الْوِتْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: أَقَلُّ
النَّافِلَةِ رَكْعَتَانِ فَيُقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ
الْفِعْلِ وَذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ فِي أَحْكَامِهِ:
أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ فُلَانًا حِينًا أَوْ لَا
يَفْعَلَ كَذَا حِينًا أَنَّ الْحِينَ سَنَةٌ قَالَ:
وَاتَّفَقُوا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا
يَفْعَلَ كَذَا حينا أولا يُكَلِّمَ فُلَانًا حِينًا أَنَّ
الزِّيَادَةَ عَلَى سَنَةٍ لم تدخل في يمينه
__________
(1). راجع ج 19 ص 116.
(2). راجع ج 15 ص 272.
(3). راجع ج 12 ص 130.
(4). راجع ج 9 ص 360.
(5). راجع ج 14 ص 14
(6). راجع ج 14 ص 14
(1/322)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (37)
قُلْتُ: هَذَا الِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ
فِي الْمَذْهَبِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ حَلَفَ
أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ
دَهْرٍ، فَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةٌ. وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ
وَهْبٍ: إِنَّهُ شَكَّ فِي الدَّهْرِ أَنْ يَكُونَ سَنَةً
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ يَعْقُوبَ وَابْنِ الْحَسَنِ:
أَنَّ الدَّهْرَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَعُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى."
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها" [إبراهيم: 25]
أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدٍ الْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ فِي الْحِينِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَلَا لِلْحِينِ
غَايَةٌ قَدْ يكون الحين عنده مدة الدنيا. وقال: لانحنثه
أَبَدًا، وَالْوَرَعُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ
يَوْمٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ الْحِينُ وَالزَّمَانُ
عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ يُقَالُ: قَدْ جِئْتَ مِنْ
حِينٍ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجِئْ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. قَالَ
إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ
الْحِينُ لَهُ مَصَارِفُ وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ تَعْيِينَ
مَحْمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ لَمْ
يُوضَعْ فِي اللُّغَةِ لِمَعْنًى مُعَيَّنٍ. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ فِي قول تَعَالَى:" إِلى حِينٍ" فَائِدَةُ
بِشَارَةٍ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ
غَيْرُ بَاقٍ فِيهَا وَمُنْتَقِلٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي
وُعِدَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَهِيَ لِغَيْرِ آدَمَ دَالَّةٌ
عَلَى الْمَعَادِ فَحَسْبُ والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 37]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" تَلَقَّى قِيلَ
مَعْنَاهُ: فَهِمَ وَفَطِنَ. وَقِيلَ: قَبِلَ وَأَخَذَ وَكَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ
وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَتَلَقَّى
الْحَجِيجَ أَيْ نَسْتَقْبِلُهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَى تَلَقَّى
تَلَقَّنَ. وهذا فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ التَّلَقِّي مِنَ التَّلَقُّنِ فِي الْأَصْلِ
لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ إِنَّمَا يُقْلَبُ يَاءً إِذَا
تَجَانَسَا مِثْلَ تَظَنَّى مِنْ تَظَنَّنَ وَتَقَصَّى مِنْ
تَقَصَّصَ وَمِثْلُهُ تَسَرَّيْتُ مِنْ تَسَرَّرْتُ
وَأَمْلَيْتُ مِنْ أَمْلَلْتُ وَشَبَهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَا
يُقَالُ: تَقَبَّى مِنْ تَقَبَّلَ وَلَا تَلَقَّى مِنْ
تَلَقَّنَ فَاعْلَمْ وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّهُ أُلْهِمَهَا
فَانْتَفَعَ بِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ: قَبُولُهَا تَعَلُّمُهُ
لَهَا وَعَمَلُهُ بِهَا
(1/323)
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي الْكَلِمَاتِ فَقَالَ ابن عباس والحسن وسعيد
ابن جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ هِيَ قَوْلُهُ"
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا
وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» " [الأعراف:
23]. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
رَأَى مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ" مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ" فَتَشَفَّعَ بِذَلِكَ فَهِيَ الْكَلِمَاتُ وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْبُكَاءُ وَالْحَيَاءُ
وَالدُّعَاءُ. وَقِيلَ النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ
وَالْحُزْنُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ
آدم عليه السلام لم يقل شيا إلا الاستغفار المعهود. وسيل
بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ
فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ:" رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا" الْآيَةَ وَقَالَ مُوسَى" رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" «2» [القصص: 16] وَقَالَ يُونُسُ" لَا
إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ" «3» [الأنبياء: 87]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ الْكَلِمَاتِ" سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عملت سوءا
وظلمت نفسي فاغفر لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ
أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
هِيَ قَوْلُهُ" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ
عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا
وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي
إِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" وَقِيلَ: الْكَلِمَاتُ
قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ". وَالْكَلِمَاتُ
جَمْعُ كَلِمَةٍ وَالْكَلِمَةُ تَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «4». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَتابَ عَلَيْهِ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، أَوْ
وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ
عَاشُورَاءَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَابَ الْعَبْدُ: رَجَعَ إِلَى
طَاعَةِ رَبِّهِ وَعَبْدٌ تَوَّابٌ: كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى
الطَّاعَةِ وَأَصْلُ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ يُقَالُ: تَابَ
وثاب وآب وأناب: رجع.
__________
(1). راجع ج 7 ص 181.
(2). راجع ج 13 ص 261.
(3). راجع ج 11 ص 333.
(4). راجع ص 67 من هذا الجزء.
(1/324)
الرابعة- إن قيل: لم قال" عليه" لم يَقُلْ
عَلَيْهِمَا وَحَوَّاءُ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الذَّنْبِ
بِإِجْمَاعٍ وَقَدْ قَالَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ"
[البقرة: 35] و" قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا" [الأعراف:
23] فَالْجَوَابُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
خُوطِبَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِهِ:" اسْكُنْ" خَصَّهُ
بِالذِّكْرِ فِي التَّلَقِّي فَلِذَلِكَ كُمِّلَتِ الْقِصَّةُ
بِذِكْرِهِ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ
حُرْمَةٌ وَمَسْتُورَةٌ فَأَرَادَ اللَّهُ السَّتْرَ لَهَا
وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْمَعْصِيَةِ في قوله:"
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى " [طه: 121]. وَأَيْضًا لَمَّا
كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَابِعَةً لِلرَّجُلِ فِي غَالِبِ
الْأَمْرِ لَمْ تُذْكَرْ كَمَا لَمْ يُذْكَرْ فَتَى مُوسَى
مَعَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ:" أَلَمْ أَقُلْ لَكَ" [الكهف: 75].
وَقِيلَ: إِنَّهُ دَلَّ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ
تَابَ عَلَيْهَا إِذْ أَمْرُهُمَا سَوَاءٌ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا «1» إِلَيْها" [الجمعة: 11]
أَيِ التِّجَارَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُودَ الْقَوْمِ
فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: «2»
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا
وَمِنْ فَوْقِ «3» الطَّوِيِّ رَمَانِي
وَفِي التَّنْزِيلِ" وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ" «4» [التوبة: 62] فحذف إيجازا واختصارا الخامسة-
قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وَصَفَ
نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ التَّوَّابُ
وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَاسْمًا
وَفِعْلًا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا تَوَّابٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «5» " [البقرة:
222]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلِعُلَمَائِنَا فِي وَصْفِ
الرَّبِّ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَيُدْعَى بِهِ كَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا
يُتَأَوَّلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى
الْعَبْدِ رُجُوعُهُ مِنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالِ
الطَّاعَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ تَوْبَةُ الله على العبد قبول
تَوْبَتَهُ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قَبِلْتُ تَوْبَتَكَ وَأَنْ يَرْجِعَ
إِلَى خَلْقِهِ الْإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ فِي قَلْبِ
الْمُسِيءِ وَإِجْرَاءِ الطاعات على جوارحه الظاهرة
__________
(1). راجع ج 18 ص 901.
(2). هو عمرو بن أحمر الباهلي. [ ..... ]
(3). الذي في شرح شواهد سيبويه: (ومن أجل الطوي). والطوي:
البئر المطوية بالحجارة. قال الشنتمري: (وصف في البيت رجلا
كانت بينه وبينه مشاجرة في بئر فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى
أباه بمثله على براءتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت
بينهما).
(4). راجع ج 8 ص 193.
(5). راجع ج 3 ص 91.
(1/325)
السَّادِسَةُ- لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: تَائِبٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَابَ
يَتُوبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا مَا أَطْلَقَهُ هُوَ عَلَى
نَفْسِهِ أَوْ نَبِيُّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ جَمَاعَةُ
الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمَلًا
جَائِزًا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ
اللَّهِ الْحُسْنَى). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَقَدْ تابَ
اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ" «1»
[التوبة: 117] وَقَالَ:" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ" «2» [التوبة: 104]. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: تَوَّابٌ لِمُبَالَغَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَةِ
قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يتوب إليه.
السابعة- اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُدْرَةٌ عَلَى
خَلْقِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الْأَعْمَالِ خِلَافًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ. وَكَذَلِكَ
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ مَنْ أَسْرَفَ عَلَى
نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
وَقَدْ كَفَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهَذَا الْأَصْلِ
الْعَظِيمِ فِي الدِّينِ" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ
وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" [التوبة: 31] عز
وجل وَجَعَلُوا لِمَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَبْرَ أَوِ
الرَّاهِبَ فَيُعْطِيَهِ شَيْئًا وَيَحُطُّ عَنْهُ ذُنُوبَهُ"
افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ" «3» [الانعام: 140]. الثَّامِنَةُ- قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ:" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ".
وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِ" آدَمَ" وَنَصْبِ" كَلِمَاتٍ".
وَالْقِرَاءَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى لِأَنَّ آدَمَ
إِذَا تَلَقَّى الْكَلِمَاتِ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ. وَقِيلَ:
لَمَّا كَانَتِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الْمُنْقِذَةُ لِآدَمَ
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى له لقبول إِيَّاهَا وَدُعَائِهِ
بِهَا كَانَتِ الْكَلِمَاتُ فَاعِلَةً وَكَأَنَّ الْأَصْلَ
عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ" فَتَلَقَّتْ آدَمَ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٌ" وَلَكِنْ لَمَّا بَعُدَ مَا بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ
وَفِعْلِهِ حَسُنَ حَذْفُ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. وَهَذَا أصل
يجري في كل القرآن والكلام إذا جَاءَ فِعْلُ الْمُؤَنَّثِ
بِغَيْرِ عَلَامَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَضَرَ الْقَاضِيَ
الْيَوْمَ امْرَأَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلِمَاتِ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى
الْكَلِمِ فَذُكِّرَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:" آدَمْ مِنْ
رَبِّهِ" مُدْغِمًا. وَقَرَأَ أَبُو نَوْفَلِ بْنِ أَبِي
عَقْرَبٍ:" أَنَّهُ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى
لِأَنَّهُ وَكَسَرَ الْبَاقُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَأَدْغَمَ الْهَاءَ فِي الْهَاءِ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى
وَطَلْحَةُ فِيمَا حَكَى أبو حاتم عنهم. وقيل: لا يجوز
__________
(1). راجع ج 8 ص 277.
(2). راجع ج 16 ص 26.
(3). راجع ج 7 ص 96
(1/326)
قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (38)
لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاوًا فِي اللَّفْظِ
لَا فِي الْخَطِّ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَجَازَ سِيبَوَيْهِ
أَنْ تُحْذَفَ هَذِهِ الْوَاوُ وَأَنْشَدَ:
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إِذَا طَلَبَ
الْوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ «1»
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْإِدْغَامُ وَهُوَ رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ" التَّوَّابُ" خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ"
إِنَّ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" هُوَ" تَوْكِيدًا لِلْهَاءِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ إِلَى
الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ فيها شي غَيْرَ النَّسْرِ فِي الْبَرِّ
وَالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ النَّسْرُ يَأْوِي إِلَى
الْحُوتِ فَيَبِيتُ عِنْدَهُ فَلَمَّا رَأَى النَّسْرُ آدَمَ
قَالَ: يَا حُوتُ لقد أهبط اليوم إلى الأرض شي يَمْشِي عَلَى
رِجْلَيْهِ وَيَبْطِشُ بِيَدَيْهِ! فَقَالَ الْحُوتُ: لئن كنت
صادقا مالى مِنْهُ فِي الْبَحْرِ مَنْجًى وَلَا لَكَ فِي البر
منه مخلص!.
[سورة البقرة (2): آية 38]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْنَا اهْبِطُوا) كَرَّرَ الْأَمْرَ
عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ وَتَأْكِيدِهِ، كَمَا تَقُولُ
لِرَجُلٍ: قُمْ قُمْ. وَقِيلَ: كَرَّرَ الْأَمْرَ لَمَّا
عَلَّقَ بِكُلِ أَمْرِ مِنْهُمَا حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ
الْآخَرِ فَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْعَدَاوَةَ وَبِالثَّانِي
إِتْيَانَ الْهُدَى. وَقِيلَ: الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ مِنَ
الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ
إِلَى الْأَرْضِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ كَمَا دَلَّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي «2».
(جَمِيعاً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: لَمَّا هَبَطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
الْأَرْضِ قَالَ إِبْلِيسُ لِلسِّبَاعِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ
لَكُمْ فَأَهْلِكُوهُ فَاجْتَمَعُوا وولوا أمرهم إلى الكلب
__________
(1). البيت للشماخ. وصف حمار وحش هائجا فيقول: إذا طلب وسيقته-
وهي أنثاه التي يضمها- صوت بها وكان صوته لما فيه من الزجل
والحنين ومن حسن الترجيع والتطريب صوت حاد بإبل يتغنى ويطربها
أو صوت مزمار. والزجل: صوت فيه حنين وترنم. (عن شرح الشواهد).
(2). راجع ج 10 ص 205
(1/327)
وَقَالُوا: أَنْتَ أَشْجَعُنَا وَجَعَلُوهُ
رَئِيسًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
تَحَيَّرَ فِي ذَلِكَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ لَهُ: امْسَحْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِ الْكَلْبِ فَفَعَلَ
فَلَمَّا رَأَتِ السِّبَاعُ أَنَّ الْكَلْبَ أَلِفَ آدَمَ
تَفَرَّقُوا. وَاسْتَأْمَنَهُ الْكَلْبُ فَأَمِنَهُ آدَمُ
فَبَقِي مَعَهُ وَمَعَ أَوْلَادِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ نَحْوَ هَذَا وَأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى
السِّبَاعِ فَأَشْلَاهُمْ «1» عَلَى آدَمَ لِيُؤْذُوهُ وَكَانَ
أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَأُمِيتَ فُؤَادُهُ فَرُوِيَ
فِي الْخَبَرِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُ
أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَوَضَعَهَا فَاطْمَأَنَّ
إِلَيْهِ وَأَلِفَهُ فَصَارَ مِمَّنْ يَحْرُسُهُ وَيَحْرُسُ
وَلَدَهُ ويألفهم. ويموت فُؤَادِهِ يَفْزَعُ مِنَ
الْآدَمِيِّينَ فَلَوْ رُمِيَ بِمَدَرٍ وَلَّى هَارِبًا ثُمَّ
يَعُودُ آلِفًا لَهُمْ. فَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ إِبْلِيسَ
وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ مَسْحَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَهُوَ بِشُعْبَةِ إِبْلِيسَ يَنْبَحُ وَيَهِرُّ وَيَعْدُو
عَلَى الْآدَمِيِّ وَبِمَسْحَةِ آدَمَ مَاتَ فُؤَادُهُ حَتَّى
ذَلَّ وَانْقَادَ وَأَلِفَ بِهِ وَبِوَلَدِهِ يَحْرُسُهُمْ
وَلَهَثُهُ «2» عَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ مِنْ مَوْتِ فُؤَادِهِ
وَلِذَلِكَ شَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْعُلَمَاءَ السُّوءَ بِالْكَلْبِ عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" الْأَعْرَافِ" «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَصَا الَّتِي
جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لِمُوسَى فَكَانَ يَطْرُدُ بِهَا
السِّبَاعَ عَنْ نَفْسِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى
قَوْلِهِ" هُدىً" فَقِيلَ: كِتَابُ اللَّهِ قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: التَّوْفِيقُ لِلْهِدَايَةِ. وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: الْهُدَى الرُّسُلُ وَهِيَ إِلَى آدَمَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ وَإِلَى بَنِيهِ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَخَرَّجَهُ الْآجُرِّيُّ. وَفِي
قَوْلِهِ" مِنِّي" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ
خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ «4» وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ"
هُدَيَّ" وَهُوَ لُغَةُ هُذَيْلٍ يَقُولُونَ: هُدَيَّ
وَعَصَيَّ وَمَحْيَيَّ. وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ لِأَبِي
ذُؤَيْبٍ يَرْثِي بَنِيهِ:
سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا
وَلِكُلِ جنب مصرع «5»
__________
(1). أشلاهم: أغراهم.
(2). لهث الكلب: إِذَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ
الْعَطَشِ.
(3). راجع ج 7 ص 323.
(4). راجع المسألة الثالثة ص 186 من هذا الجزء.
(5). (هوي): يريد هواى أي ماتوا قبلي وكنت أحب أن أموت قبلهم.
(وأعنقوا لهواهم) جعلهم كأنهم هووا الذهاب إلى المنية لسرعتهم
إليها وهم لم يهووها. (فتخرموا) أي أخذوا واحدا واحدا.
(1/328)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (39)
قَالَ النَّحَّاسُ: وَعِلَّةُ هَذِهِ
اللُّغَةِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ سَبِيلَ
يَاءِ الْإِضَافَةِ أَنْ يُكْسَرَ مَا قَبْلَهَا فَلَمَّا لَمْ
يَجُزْ أَنْ تَتَحَرَّكَ الْأَلِفُ أُبْدِلَتْ يَاءً
وَأُدْغِمَتْ وَ" مَا" فِي قَوْلِهِ" إِمَّا" زَائِدَةٌ عَلَى"
إِنْ" الَّتِي لِلشَّرْطِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ الْفَاءُ مَعَ
الشَّرْطِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ" فَمَنْ تَبِعَ". وَ" مَنْ"
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَ" تَبِعَ" فِي مَوْضِعِ
جَزْمٍ بِالشَّرْطِ." فَلا خَوْفٌ" جَوَابُهُ. قَالَ
سِيبَوَيْهِ: الشَّرْطُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ هُمَا جَوَابُ
الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ"
جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الْخَوْفُ هُوَ
الذُّعْرُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَخَاوَفَنِي فُلَانٌ فَخُفْتُهُ أَيْ كُنْتُ أَشَدَّ خَوْفًا
مِنْهُ وَالتَّخَوُّفُ: التَّنَقُّصُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ" «1» [النحل:
47]. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ
وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ:" فَلَا خَوْفَ" بِفَتْحِ
الْفَاءِ عَلَى التَّبْرِئَةِ. وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ
النَّحْوِيِّينَ الرَّفْعُ وَالتَّنْوِينُ عَلَى الِابْتِدَاءِ
لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعْرِفَةٌ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا
الرَّفْعُ لِأَنَّ" لَا" لَا تَعْمَلُ فِي مَعْرِفَةٍ
فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّلِ الرَّفْعَ أَيْضًا لِيَكُونَ
الْكَلَامُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون" لا" في
قولك: فَلَا خَوْفٌ بِمَعْنَى لَيْسَ. وَالْحُزْنُ
وَالْحَزَنُ: ضِدُّ السُّرُورِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى
مَاضٍ. وَحَزِنَ الرَّجُلُ (بِالْكَسْرِ) فَهُوَ حَزِنٌ
وَحَزِينٌ وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْلُ
أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ وَمَحْزُونٌ بُنِيَ عَلَيْهِ. قَالَ
الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَحْزَنَهُ لُغَةْ
تَمِيمٍ وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ
بِمَعْنًى. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ أَهْوَالِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَخَوْفِهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ
إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفُهُ عَنِ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا
صَارُوا إِلَى رَحْمَتِهِ فكأنهم لم يخافوا. والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
__________
(1). راجع ج 10 ص 109 [ ..... ]
(1/329)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا"
أَيْ أَشْرَكُوا، لِقَوْلِهِ: (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ" الصُّحْبَةُ: الِاقْتِرَانُ بِالشَّيْءِ
فِي حَالَةٍ مَّا فِي زمان ما فان كانت الملازمة والخلطة فهو
كَمَالُ الصُّحْبَةِ وَهَكَذَا هِيَ صُحْبَةُ أَهْلِ النَّارِ
لَهَا. وَبِهَذَا الْقَوْلِ يَنْفَكُّ الْخِلَافُ فِي
تَسْمِيَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذْ
مَرَاتِبُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي"
بَرَاءَةَ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَاقِي أَلْفَاظِ
الْآيَةِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْحَمْدُ لله.
[سورة البقرة (2): آية 40]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ) نِدَاءٌ مُضَافٌ
عَلَامَةُ النَّصْبِ فِيهِ الْيَاءُ وَحُذِفَتْ مِنْهُ
النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. الْوَاحِدُ ابْنُ وَالْأَصْلُ فِيهِ
بَنِي وَقِيلَ: بَنُو فَمَنْ قَالَ: الْمَحْذُوفُ مِنْهُ وَاوٌ
احْتَجَّ بِقَوْلِهِمُ: الْبُنُوَّةُ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ
فِيهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: الْفُتُوَّةُ وَأَصْلُهُ
الْيَاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَحْذُوفُ مِنْهُ عِنْدِي
يَاءٌ كَأَنَّهُ مِنْ بَنَيْتُ. الْأَخْفَشُ: اخْتَارَ أَنْ
يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ الْوَاوَ لِأَنَّ حَذْفَهَا
أَكْثَرُ لِثِقَلِهَا. وَيُقَالُ: ابْنٌ بَيِّنُ الْبُنُوَّةِ
وَالتَّصْغِيرُ بُنَيٌّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: يَا
بُنَيِّ وَيَا بُنَيَّ لُغَتَانِ مِثْلَ يَا أَبَتِ ويا أبت
وقرى بِهِمَا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ وَضْعُ
الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِابْنُ فَرْعٌ لِلْأَبِ وَهُوَ
مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ. وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ
أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ
مَنْ لَهُ اسْمَانِ غَيْرُهُ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لَهُ أَسْمَاءً
كَثِيرَةً. ذَكَرَهُ فِي كتاب" الْآثَارِ" لَهُ. قُلْتُ:
وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ
رُوحًا وَكَلِمَةً، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ أَبِيلَ
الْأَبِيلِينَ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" عَنِ
الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ذَوُو
اسْمَيْنِ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ وَإِسْرَائِيلُ
وَيَعْقُوبُ وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ وَإِلْيَاسُ وَذُو
الْكِفْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 8 ص 148
(1/330)
قُلْتُ: ذَكَرْنَا أَنَّ لِعِيسَى
أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ بَيَانُهَا فِي
مَوَاضِعِهَا. وَإِسْرَائِيلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَلِذَلِكَ
لَمْ يَنْصَرِفْ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ.
وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ: إِسْرَائِيلُ وَهِيَ لُغَةُ
الْقُرْآنِ وَإِسْرَائِيلُ بِمَدَّةٍ مَهْمُوزَةٍ مُخْتَلَسَةٍ
حَكَاهَا شَنَبُوذَ عن ورش. وإسرائيل بِمَدَّةٍ بَعْدَ
الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ
وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ والزهري بغير همز ولا
مد. وإسرائيل بِغَيْرِ يَاءٍ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ.
وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ. وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ:
إِسْرَائِينُ بِالنُّونِ. وَمَعْنَى إِسْرَائِيلُ: عَبْدُ
اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِسْرَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ
هُوَ عبد وائل هُوَ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِسْرَا هُوَ صَفْوَةُ
اللَّهِ وائل هُوَ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِسْرَا مِنَ الشَّدِّ
فَكَأَنَّ إِسْرَائِيلُ الَّذِي شَدَّهُ اللَّهُ وَأَتْقَنَ
خَلْقَهُ ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ
سُمِّيَ إِسْرَائِيلُ لِأَنَّهُ أَسْرَى ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ
هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ إِسْرَائِيلَ أَيْ
أَسْرَى إِلَى اللَّهِ وَنَحْوَ هَذَا فَيَكُونُ بَعْضُ
الِاسْمِ عِبْرَانِيَّا وَبَعْضُهُ مُوَافِقًا للعرب والله
أعلم قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ) الذِّكْرُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، فَالذِّكْرُ
بِالْقَلْبِ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ
ضِدُّ الْإِنْصَاتِ. وَذَكَرْتُ الشَّيْءَ بِلِسَانِي
وَقَلْبِي ذِكْرًا. وَاجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذُكْرٍ (بِضَمِّ
الذَّالِ) أَيْ لَا تَنْسَهُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كَانَ
بِالضَّمِيرِ فَهُوَ مَضْمُومُ الذَّالِ وَمَا كَانَ
بِاللِّسَانِ فَهُوَ مَكْسُورُ الذَّالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: ذِكْرٌ وَذُكْرٌ، وَمَعْنَاهُمَا
وَاحِدٌ. وَالذَّكَرُ (بِفَتْحِ الذَّالِ) خِلَافُ الْأُنْثَى
وَالذِّكْرُ أَيْضًا الشَّرَفُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» " [الزخرف 44]. قَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ اذْكُرُوا شُكْرَ
نِعْمَتِي فَحَذَفَ الشُّكْرَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ النِّعْمَةِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ أَيْ لَا تَغْفُلُوا عَنْ نِعْمَتِي الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَلَا تَنَاسَوْهَا وَهُوَ حَسَنٌ.
وَالنِّعْمَةُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ فَهِيَ مُفْرَدَةٌ بِمَعْنَى
الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوها «2» " [إبراهيم: 34] أَيْ نِعَمَهُ.
وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْجَاهُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ وَجَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ عليهم
الكتب والمن والسلوى وفجر لهم
__________
(1). راجع ج 16 ص 93.
(2). راجع ج 9 ص 367
(1/331)
من الْحَجَرِ الْمَاءَ إِلَى مَا
اسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ
وَرِسَالَتُهُ. وَالنِّعَمُ عَلَى الْآبَاءِ نِعَمٌ عَلَى
الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ يَشْرُفُونَ بِشَرَفِ آبَائِهِمْ.
تَنْبِيهٌ- قَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي: رَبَطَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ
وَأَسْقَطَهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى ذِكْرِهِ فقال" فَاذْكُرُونِي «1»
أَذْكُرْكُمْ" [البقرة 52 1] لِيَكُونَ نَظَرُ الْأُمَمِ مِنَ
النِّعْمَةِ إِلَى الْمُنْعِمِ وَنَظَرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنْعِمِ إِلَى
النِّعْمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ) أَمْرٌ وَجَوَابُهُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ"
أُوَفِّ" (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَشَدِّ الْفَاءِ) لِلتَّكْثِيرِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَهْدِ مَا هُوَ فَقَالَ الْحَسَنُ
عهده قوله" خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ" «2» [البقرة: 63]
وَقَوْلُهُ:" وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً" «3»
[المائدة: 12]. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ:" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «4» " [آل عمران: 187]. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ:" أَوْفُوا بِعَهْدِي" الَّذِي عَهِدْتُ
إِلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" بِمَا
ضَمِنْتُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَوْفَيْتُمْ بِهِ فَلَكُمُ
الْجَنَّةُ. وَقِيلَ:" أَوْفُوا بِعَهْدِي" فِي أَدَاءِ
الْفَرَائِضِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْإِخْلَاصِ" أُوفِ"
بِقَبُولِهَا مِنْكُمْ وَمُجَارَاتِكُمْ عَلَيْهَا. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ:" أَوْفُوا بِعَهْدِي" فِي الْعِبَادَاتِ" أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ" أَيْ أُوصِلُكُمْ إِلَى مَنَازِلِ
الرِّعَايَاتِ. وَقِيلَ" أَوْفُوا بِعَهْدِي" فِي حِفْظِ
آدَابِ الظَّوَاهِرِ" أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" بِتَزْيِينِ
سَرَائِرِكُمْ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ وَوَصَايَاهُ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي
التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَعَهْدُهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى هُوَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَمَا
طُلِبَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ هُوَ
مَطْلُوبٌ مِنَّا قال الله تعالى:" أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"
[المائدة: 1] " أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ" [النحل: 91]، وهو
كثير. وفأوهم بِعَهْدِ اللَّهِ أَمَارَةٌ لِوَفَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى لَهُمْ لَا عِلَّةَ لَهُ بَلْ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ
مِنْهُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) أَيْ خَافُونِ. وَالرُّهْبُ وَالرَّهَبُ
وَالرَّهْبَةُ الْخَوْفُ. وَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِهِ
مَعْنَى التَّهْدِيدِ. وَسَقَطَتِ الْيَاءُ بَعْدَ النُّونِ
لِأَنَّهَا رأس أية. وقرا ابن
__________
(1). راجع ج 2 ص 171.
(2). راجع ص 437 من هذا الجزء
(3). راجع ج 6 ص 112.
(4). راجع ج 4 ص 304
(1/332)
وَآمِنُوا بِمَا
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
أَبِي إِسْحَاقَ" فَارْهَبُونِي"
بِالْيَاءِ وَكَذَا" فَاتَّقُونِي" عَلَى الْأَصْلِ."
وَإِيَّايَ" مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَكَذَا
الِاخْتِيَارُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ
التَّقْدِيرُ: وَإِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ. وَيَجُوزُ
فِي الْكَلَامِ وَأَنَا فَارْهَبُونِ عَلَى الِابْتِدَاءِ
وَالْخَبَرِ. وَكَوْنُ" فَارْهَبُونِ" الْخَبَرَ عَلَى
تَقْدِيرِ الحذف المعنى وأنا ربكم فارهبون.
[سورة البقرة (2): آية 41]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا
تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أَيْ
صَدِّقُوا، يَعْنِي بِالْقُرْآنِ. (مُصَدِّقاً) حَالٌ مِنَ
الضَّمِيرِ فِي" أَنْزَلْتُ"، التَّقْدِيرُ بِمَا أَنْزَلْتُهُ
مُصَدِّقًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ أَنْزَلْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ حَالًا مِنْ مَا وَالْعَامِلُ فِيهِ آمِنُوا
التَّقْدِيرُ آمِنُوا بِالْقُرْآنِ مُصَدِّقًا. وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً التَّقْدِيرُ آمِنُوا بِإِنْزَالٍ.
(لِما مَعَكُمْ) يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) الضَّمِيرُ
فِي" بِهِ" قِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ إِذْ
تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:" بِما أَنْزَلْتُ". وَقِيلَ: عَلَى
التَّوْرَاةِ، إِذْ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ:" لِما مَعَكُمْ".
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ" كافِرٍ" وَلَمْ يَقُلْ كَافِرِينَ
قِيلَ: التَّقْدِيرُ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ فَرِيقٍ كَافِرٍ
بِهِ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ
عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَوَّلُ مَنْ
كَفَرَ بِهِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ هُوَ أَظْرَفُ الْفِتْيَانِ
وَأَجْمَلُهُ وَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ هُوَ أَظْرَفُ فَتًى
وَأَجْمَلُهُ. وَقَالَ:" أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" وَقَدْ كَانَ
قَدْ كَفَرَ قَبْلَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ
إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُمْ حُجَّةٌ مَظْنُونٌ
بِهِمْ عِلْمٌ. وَ" أَوَّلَ" عِنْدَ سِيبَوَيْهِ نُصِبَ عَلَى
خَبَرِ كَانَ. وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُنْطَقْ مِنْهُ بِفِعْلٍ
وَهُوَ عَلَى أَفْعَلَ عَيْنُهُ وَفَاؤُهُ وَاوٌ. وَإِنَّمَا
لَمْ يُنْطَقْ مِنْهُ بِفِعْلٍ لِئَلَّا يَعْتَلَّ مِنْ
جِهَتَيْنِ: الْعَيْنِ وَالْفَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ
الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مِنْ وَأَلَ
إِذَا نَجَا فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ
وَأُبْدِلَتْ وَاوًا وَأُدْغِمَتْ
(1/333)
فَقِيلَ أَوَّلُ كَمَا تُخَفَّفُ هَمْزَةُ
خَطِيئَةٍ. قَالَ الجوهري:" والجمع الأوائل والاولى أَيْضًا
عَلَى الْقَلْبِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ وَوَّلُ عَلَى
فَوْعَلٍ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى هَمْزَةً وَإِنَّمَا
لَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَوَاوِلَ لِاسْتِثْقَالِهِمُ اجْتِمَاعَ
الْوَاوَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفُ الْجَمْعِ". وَقِيلَ: هُوَ
أَفْعَلُ مِنْ آل يئول فأصله أول قُلِبَ فَجَاءَ أَعْفَلَ
مَقْلُوبًا مِنْ أَفْعَلَ فَسُهِّلَ وَأُبْدِلَ وَأُدْغِمَ.
مَسْأَلَةٌ- لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَنْ يَمْنَعُ
الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَمَنْ
وَافَقَهُمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ النَّهْيُ
عَنِ الْكُفْرِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَخُصَّ الْأَوَّلُ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ «1» فِيهِ أَغْلَظُ، فَكَانَ
حُكْمُ الْمَذْكُورِ وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَاحِدًا، وَهَذَا
وَاضِحٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً قَلِيلًا) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَشْتَرُوا" مَعْطُوفٌ عَلَى
قَوْلِهِ:" وَلا تَكُونُوا". نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا
أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ وَأَلَّا يَأْخُذُوا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ
ثَمَنًا أَيْ عَلَى تَغْيِيرِ صفة محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رشى. وَكَانَ الْأَحْبَارُ يَفْعَلُونَ
ذَلِكَ فَنُهُوا عَنْهُ قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ
التَّأْوِيلِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ
لَهُمْ مَآكِلُ يَأْكُلُونَهَا عَلَى الْعِلْمِ كَالرَّاتِبِ
فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَحْبَارَ كَانُوا
يُعَلِّمُونَ دِينَهُمْ بِالْأُجْرَةِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي كُتُبِهِمْ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا
عُلِّمْتَ مَجَّانًا أَيْ بَاطِلًا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ قَالَهُ
أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَشْتَرُوا
بِأَوَامِرِي وَنَوَاهِيَّ وَآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا يَعْنِي
الدُّنْيَا ومدتها والثمن الَّذِي هُوَ نَزْرٌ لَا خَطَرَ لَهُ
فَسُمِّيَ مَا اعْتَاضُوهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنًا لِأَنَّهُمْ
جَعَلُوهُ عِوَضًا فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الثَّمَنِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ ذَنْبًا أَوْ ظَفِرْتَ بِهِ ... فَمَا
أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ.
فَمَنْ أخذ رشوة على تغير حَقٍّ أَوْ إِبْطَالِهِ أَوِ
امْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيمِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ أَدَاءِ
مَا عَلِمَهُ
__________
(1). في نسخة من الأصل. ( ... لان النقل منه أعظم).
(1/334)
وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ
عَلَيْهِ أَجْرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى
بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا
لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ
الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي رِيحَهَا.
الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ
الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ- لِهَذِهِ
الْآيَةِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا- فَمَنَعَ ذَلِكَ
الزُّهْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ
أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ
تَعْلِيمَهُ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ
فِيهَا إِلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ وَالْإِخْلَاصِ فَلَا
يُؤْخَذُ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً
قَلِيلًا". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ
شِرَارُكُمْ أَقَلُّهُمْ رَحْمَةً باليتيم وأغلظهم على
المسكين) روى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْمُعَلِّمِينَ؟ قَالَ:
(دِرْهَمُهُمْ حَرَامٌ وَثَوْبُهُمْ سُحْتٌ وَكَلَامُهُمْ
رِيَاءٌ) وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: عَلَّمْتُ
نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ،
فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَقُلْتُ: لَيْسَتْ
بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسَأَلْتُ
عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: (إِنْ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ
نَارٍ فَاقْبَلْهَا). وَأَجَازَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى
تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- حَدِيثِ الرُّقْيَةِ-:
(إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ
اللَّهِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ نَصٌّ يَرْفَعُ
الْخِلَافَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا
احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ
ثُمَّ إِنَّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ
وَالصَّوْمَ عِبَادَاتٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْفَاعِلِ وَتَعْلِيمُ
الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ
فَتَجُوزُ الْأُجْرَةُ عَلَى مُحَاوَلَتِهِ النَّقْلَ
كَتَعْلِيمِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَأَبُو حَنِيفَةَ يُكْرَهُ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ بِأُجْرَةٍ
وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلَ يَكْتُبُ لَهُ لَوْحًا
أَوْ شِعْرًا أَوْ غِنَاءً مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ
فَيُجَوِّزُ الْإِجَارَةَ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ
وَيُبْطِلُهَا فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ.
(1/335)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ-
فَالْمُرَادُ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَشَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا، فِيهِ خِلَافٌ، وَهُوَ لَا
يَقُولُ بِهِ. جَوَابٌ ثَانٍ- وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ
فِيمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ فَأَبَى حَتَّى
يَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ
فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ فِي
ذَلِكَ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ
عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عِيَالِهِ
فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ وَلَهُ أَنْ يُقْبِلَ
عَلَى صَنْعَتِهِ وَحِرْفَتِهِ. وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ
أَنْ يُعِينَ لِإِقَامَةِ الدِّينِ إِعَانَتَهُ وَإِلَّا
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ وَعُيِّنَ لَهَا لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُقِيمُ بِهِ أَهْلَهُ فَأَخَذَ ثِيَابًا
وَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:
وَمِنْ أَيْنَ أُنْفِقُ عَلَى عِيَالِي! فَرَدُّوهُ وَفَرَضُوا
لَهُ كِفَايَتَهُ. وأما الأحاديث فليس شي مِنْهَا يَقُومُ
عَلَى سَاقٍ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شي عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالنَّقْلِ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ سَعِيدُ
بْنُ طَرِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ وَسَعِيدٌ مَتْرُوكٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ
عَاصِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سلمة عَنْ أَبِي جُرْهُمٍ عَنْهُ
وَأَبُو جُرْهُمٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَلَمْ يَرْوِ
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَحَدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو
جُرْهُمٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ وَهُوَ
مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ أَيْضًا وَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ
الْمَوْصِلِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنِ الْأَسْوَدِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْهُ وَالْمُغِيرَةُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ «1»
أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ لَهُ مَنَاكِيرُ هَذَا مِنْهَا
قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ
الْقَوْسِ فَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ أبي وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَحَدِيثُ
عُبَادَةَ وَأُبَيٍّ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لِأَنَّهُ
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَّمَهُ لِلَّهِ ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِ
أَجْرًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ وَخَيْرُ مَنْ
يَمْشِي عَلَى جديد الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ كُلَّمَا خَلُقَ
الدِّينُ جَدَّدُوهُ أَعْطُوهُمْ وَلَا تَسْتَأْجِرُوهُمْ
فَتُحْرِجُوهُمْ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا قَالَ لِلصَّبِيِّ
قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ
الصَّبِيُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ
اللَّهُ
بَرَاءَةً لِلصَّبِيِّ وَبَرَاءَةً لِلْمُعَلِّمِ وَبَرَاءَةً
لِأَبَوَيْهِ مِنَ النار
__________
(1). في نسخة: (معروف بحمل العلم).
(1/336)
الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي بِأُجْرَةٍ فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنِ
اسْتُؤْجِرَ فِي رَمَضَانَ يَقُومُ لِلنَّاسِ فَقَالَ: أَرْجُو
أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً لَهُ فِي
الْفَرِيضَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو
ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَلَا بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا صَلَاةَ لَهُ. وَكَرِهَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ معلقة من التي قبلها
واصلها وَاحِدٌ. قُلْتُ: وَيَأْتِي لِهَذَا أَصْلٌ آخَرُ مِنَ
الْكِتَابِ فِي" بَرَاءَةَ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ
الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا بَأْسَ
بِالْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالرَّسَائِلِ
وَأَيَّامِ الْعَرَبِ ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنى
وَالْهِجَاءُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: وَيَلْزَمُ
عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُجِيزَ الْإِجَارَةَ عَلَى كُتُبِهِ
وَيُجِيزَ بَيْعَ كُتُبِهِ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ
فَمَمْنُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ الرَّابِعَةُ: رَوَى
الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حدثنا محمد ابن عُمَرَ بْنِ
الْكُمَيْتِ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ وَهْبٍ
الْهَمْدَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مُوسَى
قَالَ: مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بِالْمَدِينَةِ- وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ- فَأَقَامَ بِهَا
أَيَّامًا فَقَالَ: هَلْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَدْرَكَ
أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَالُوا لَهُ: أَبُو حَازِمٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا
هَذَا الْجَفَاءُ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي؟ قَالَ:
أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ تَأْتِنِي! قَالَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ
مَا لَمْ يَكُنْ مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ وَلَا
أنا رأيتك! قال: فالتفت إلى محمد ابن شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ
فَقَالَ: أَصَابَ الشَّيْخُ وَأَخْطَأْتَ. قَالَ سُلَيْمَانُ:
يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟! قَالَ:
لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا
فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى
الْخَرَابِ قَالَ أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ فَكَيْفَ
الْقُدُومُ غَدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: أَمَّا
الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَّا
الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلَاهُ. فَبَكَى
سُلَيْمَانُ وَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي! مَا لَنَا عِنْدَ
اللَّهِ؟ قَالَ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ: وَأَيُّ مَكَانٍ أجده؟ قال:
(1/337)
" إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" «1» [الانفطار: 14 - 13]. قَالَ
سُلَيْمَانُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبُ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: يَا أَبَا حَازِمٍ
فَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أُولُو الْمُرُوءَةِ
وَالنُّهَى. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: فَأَيُّ الْأَعْمَالِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ مَعَ
اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: فَأَيُّ
الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ دُعَاءُ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ
لِلْمُحْسِنِ. فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
لِلسَّائِلِ الْبَائِسِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ «2» لَيْسَ فِيهَا
مَنٌّ وَلَا أَذًى. قَالَ: فَأَيُّ الْقَوْلِ أَعْدَلُ؟ قَالَ:
قَوْلُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَرْجُوهُ. قَالَ:
فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: رَجُلٌ عَمِلَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ وَدَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا. قَالَ: فَأَيُّ
الْمُؤْمِنِينَ أَحْمَقُ؟ قَالَ: رَجُلٌ انْحَطَّ فِي هَوَى
أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ
قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: أَصَبْتَ فَمَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ
فِيهِ؟ قَالَ يَا أمير المؤمنين أو تعفيني؟ قَالَ لَهُ
سُلَيْمَانُ: لَا! وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ آبَاءَكَ قَهَرُوا
النَّاسَ بِالسَّيْفِ وَأَخَذُوا هَذَا الْمُلْكَ عَنْوَةً
عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رِضَاهُمْ
حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةَ عَظِيمَةً فَقَدِ
ارْتَحَلُوا عَنْهَا فَلَوْ شَعَرْتَ مَا قَالُوهُ وَمَا قِيلَ
لَهُمْ!. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: بِئْسَ مَا
قُلْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ! قَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَذَبْتَ
إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْعُلَمَاءِ ليبيننه للناس ولا
تكتمونه. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: فَكَيْفَ لَنَا أَنْ
نُصْلِحَ؟ قَالَ: تَدَعُونَ الصَّلَفَ وَتُمْسِكُونَ
بِالْمُرُوءَةِ وَتَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ لَهُ
سُلَيْمَانُ: فَكَيْفَ لَنَا بِالْمَأْخَذِ بِهِ؟ قَالَ أَبُو
حَازِمٍ: تَأْخُذُهُ مِنْ حِلِّهِ وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ.
قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا حَازِمٍ أَنْ
تَصْحَبَنَا فَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ؟ قَالَ
أَعُوَذُ بِاللَّهِ! قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: وَلِمَ ذَاكَ؟
قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا
فَيُذِيقُنِي اللَّهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ.
قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ قَالَ:
تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ وَتُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ
لَهُ سُلَيْمَانُ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ! قَالَ له أَبُو
حَازِمٍ: فَمَا لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ غَيْرَهَا. قَالَ:
فَادْعُ لِي. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ فَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ
إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ قَطُّ!
قال أبو حازم: قد أوجزت وأكثرت
__________
(1). راجع ج 19 ص 247.
(2). جهد المقل: أي قدر ما يحتمله حال القليل المال.
(1/338)
إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ أَرْمِيَ عَنْ
قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ أَوْصِنِي
قَالَ سَأُوصِيكَ وَأُوجِزُ: عَظِّمْ رَبَّكَ وَنَزِّهْهُ أَنْ
يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ
دِينَارٍ وَكَتَبَ [إِلَيْهِ] «1» أَنْ أَنْفِقْهَا وَلَكَ
عِنْدِي مِثْلُهَا كَثِيرٌ قَالَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ
يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا أَوْ رَدِّي عَلَيْكَ
بَذْلًا «2» وَمَا أَرْضَاهَا لَكَ فَكَيْفَ [أَرْضَاهَا] «3»
لِنَفْسِي! إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ رِعَاءً يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمْ جَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ [فَسَأَلَهُمَا فَقَالَتَا
لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ] «4» فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ
فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا خَائِفًا لَا
يَأْمَنُ فَسَأَلَ رَبَّهُ وَلَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ فَلَمْ
يَفْطِنِ الرِّعَاءُ وَفَطِنَتِ الْجَارِيَتَانِ فَلَمَّا
رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا أخبرتاه بالقصة وبقوله. فقال
أبوهما وهو شعب عليه السلام هذا رجل جائع. فقال إحداهما:
اذْهَبِي فَادْعِيهِ. فَلَمَّا أَتَتْهُ عَظَّمَتْهُ وَغَطَّتْ
وَجْهَهَا وَقَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَشَقَّ عَلَى مُوسَى حِينَ
ذَكَرَتْ" أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا" وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا
مِنْ أَنْ يَتْبَعَهَا لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْجِبَالِ
جَائِعًا مُسْتَوْحِشًا. فَلَمَّا تَبِعَهَا هَبَّتِ الرِّيحُ
فَجَعَلَتْ تُصَفِّقُ ثِيَابَهَا عَلَى ظَهْرِهَا فَتَصِفُ
لَهُ عَجِيزَتَهَا- وَكَانَتْ ذَاتَ عَجُزٍ- وَجَعَلَ مُوسَى
يُعْرِضُ مَرَّةً وَيَغُضُّ أُخْرَى فَلَمَّا عِيلَ صَبْرُهُ
نَادَاهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ كُونِي خَلْفِي وَأَرِينِي
السَّمْتَ بِقَوْلِكِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ إِذْ
هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأٌ فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ اجْلِسْ
يَا شَابُّ فتعشى فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَعُوَذُ بِاللَّهِ! فَقَالَ لَهُ شُعَيْبُ: لِمَ؟ أَمَا
أَنْتَ جَائِعٌ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ
هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ لَهُمَا وَأَنَا مِنْ أَهْلِ
بَيْتٍ لَا نَبِيعُ شَيْئًا مِنْ دِينِنَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ
ذَهَبًا فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ لَا يَا شَابُّ. وَلَكِنَّهَا
عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نَقْرِي الضَّيْفَ وَنُطْعِمُ
الطَّعَامَ فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ
الْمِائَةَ دِينَارٍ عِوَضًا لِمَا حَدَّثْتُ فَالْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ
أَحَلُّ مِنْ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ لِحَقٍّ فِي بَيْتِ الْمَالِ
فَلِي فِيهَا نُظَرَاءُ فَإِنْ سَاوَيْتَ بَيْنَنَا وإلا فليس
لي فيها حاجة
__________
(1). الزيادة عن مسند الدارمي.
(2). بذلا: أي راجيا بذلك وعطاءك.
(3). الزيادة عن مسند الدارمي. [ ..... ]
(4). الزيادة عن مسند الدارمي.
(1/339)
وَلَا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (42)
قُلْتُ: هَكَذَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ
بِالْكِتَابِ وَالْأَنْبِيَاءِ انْظُرُوا إِلَى هَذَا
الْإِمَامِ الْفَاضِلِ وَالْحَبْرِ الْعَالِمِ كَيْفَ لَمْ
يَأْخُذْ عَلَى عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَا عَلَى وَصِيَّتِهِ
بَدَلًا وَلَا عَلَى نَصِيحَتِهِ صَفَدًا «1» بَلْ بَيَّنَ
الْحَقَّ وَصَدَعَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ خَوْفٌ وَلَا
فَزَعٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ أحد أن يقول
أو يقوم بِالْحَقِّ حَيْثُ كَانَ). وَفِي التَّنْزِيلِ"
يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ
لائِمٍ" «2» [المائدة 54]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التقوى «3» وقرى"
فَاتَّقُونِي" بِالْيَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ سَهْلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ" وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ" قَالَ
مَوْضِعُ عِلْمِي السَّابِقُ فِيكُمْ." وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ" قَالَ مَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ «4»
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ
لا يَعْلَمُونَ" «5» [الأعراف: 182] وقوله:" فَلا يَأْمَنُ
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ" «6» [الأعراف:
99] فما استثنى نبيا ولا صديقا.
[سورة البقرة (2): آية 42]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
قوله تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ)
اللَّبْسُ: الْخَلْطُ. لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ
أَلْبِسْهُ، إِذَا مَزَجْتُ بَيِّنَهُ بِمُشْكِلِهِ وَحَقَّهُ
بِبَاطِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ
ما يَلْبِسُونَ" «7» [الانعام: 9]. وَفِي الْأَمْرِ لُبْسَةٌ
أَيْ لَيْسَ بِوَاضِحٍ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْحَارِثِ بْنِ حَوْطٍ يَا
حَارِثُ إِنَّهُ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ، إِنَّ الْحَقَّ لَا
يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، اعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ.
وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
تَرَى الْجَلِيسَ يَقُولُ الْحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْدًا
وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... وَالْبَسْ عليه
أمورا مثل ما لبسا
__________
(1). الصفد (بالتحريك): العطاء.
(2). راجع ج 6 ص 220.
(3). راجع ص 161 وما بعدها.
(4). العبارة هاهنا غير واضحة. والذي في البحر لابي حيان:
(وقال سهل:) وإياي فارهبون) موضع اليقين بمعرفته (وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ) موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
(5). راجع ج 7 ص 329 وص 254.
(6). راجع ج 7 ص 329 وص 254.
(7). راجع ج 6 ص 394.
(1/340)
وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ
وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ في قوله:" وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ" [البقرة: 42]، يَقُولُ: لَا تَلْبِسُوا
الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدْ
عَلِمْتُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ- الَّذِي لَا يَقْبَلُ
غَيْرَهُ ولا يجزئ إِلَّا بِهِ- الْإِسْلَامُ وَأَنَّ
الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ مِنَ
اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ
أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
مِنَ اللِّبَاسِ. وَقَدْ قِيلَ هَذَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ،
أَيْ لَا تُغَطُّوا. وَمِنْهُ لَبِسَ الثَّوْبَ يُقَالُ
لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ وَلِبَاسُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ
وَزَوْجُهَا لِبَاسُهَا قَالَ الْجَعْدِيُّ:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ
فَكَانَتْ لِبَاسَا
وَقَالَ الْأَخْطَلُ:
وَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى
تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلَا
وَاللَّبُوسُ: كُلُّ مَا يُلْبَسُ مِنْ ثِيَابٍ وَدِرْعٍ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى" وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ" «1»
[الأنبياء: 80]. وَلَابَسْتُ فُلَانًا حَتَّى عَرَفْتُ
بَاطِنَهُ وَفِي فُلَانٍ مَلْبَسٌ أَيْ مُسْتَمْتَعٌ قَالَ:
أَلَا إِنَّ بَعْدَ الْعُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْوَةً «2» ...
وَبَعْدَ الْمَشِيبِ طُولَ عُمَرٍ وَمَلْبَسَا
وَلِبْسُ الْكَعْبَةِ وَالْهَوْدَجِ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ
لِبَاسٍ (بِكَسْرِ اللَّامِ). قَوْلُهُ تَعَالَى" بِالْباطِلِ"
الْبَاطِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافُ الْحَقِّ
وَمَعْنَاهُ الزَّائِلُ قال لبيد:
ألا كل شي مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ
وَبَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بُطْلًا وَبُطُولًا وَبُطْلَانًا
[ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسَرًا «3»] وَأَبْطَلَهُ غَيْرُهُ.
وَيُقَالُ ذَهَبَ دَمُهُ بُطْلًا أَيْ هَدَرًا وَالْبَاطِلُ
الشَّيْطَانُ وَالْبَطَلُ الشُّجَاعُ سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ يُبْطِلُ شَجَاعَةَ صَاحِبِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُمْ لِوَاءٌ بِأَيْدِي مَاجِدٍ بَطَلٍ ... لَا يَقْطَعُ
الْخِرَقَ إِلَّا طرفه سامي
__________
(1). راجع ج 11 ص 320.
(2). القنوة (بكسر الأول وضمه): الكسبة.
(3). الزيادة عن اللسان.
(1/341)
وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
(43)
والمرأة بطله. وقد بطل الرجل (بِالضَّمِّ)
يَبْطُلُ بُطُولَةً وَبَطَالَةً «1» أَيْ صَارَ شُجَاعًا
وَبَطَلَ الْأَجِيرُ (بِالْفَتْحِ) بَطَالَةُ أَيْ تَعَطَّلَ
فَهُوَ بَطَّالٌ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي
الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ" الْحَقَّ بِالْباطِلِ" فَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ لَا تَخْلِطُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ
الْحَقِّ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ
وَالتَّبْدِيلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَتِ
الْيَهُودُ مُحَمَّدٌ مَبْعُوثٌ وَلَكِنْ إِلَى غَيْرِنَا
فَإِقْرَارُهُمْ بِبَعْثِهِ حَقٌّ وَجَحْدُهُمْ أَنَّهُ بُعِثَ
إِلَيْهِمْ بَاطِلٌ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْمُرَادُ
بِالْحَقِّ التَّوْرَاةُ وَالْبَاطِلُ مَا بَدَّلُوا فِيهَا
مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ لَا تَخْلِطُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ
بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْوَبُ لِأَنَّهُ عَامٌّ
فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى" تَلْبِسُوا" فَيَكُونَ
مَجْزُومًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ
أَنْ التَّقْدِيرُ لَا يَكُنْ مِنْكُمْ لَبْسُ الْحَقِّ
وَكِتْمَانُهُ أَيْ وَأَنْ تَكْتُمُوهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي كِتْمَانَهُمْ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ سِيرِينَ: نَزَلَ عِصَابَةٌ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ
يَثْرِبَ لَمَّا أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَصَابَهُمْ
مِنْ ظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَالذِّلَّةِ وَتِلْكَ
الْعِصَابَةُ هُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ يَوْمَئِذٍ
فَأَقَامُوا بِيَثْرِبَ يَرْجُونَ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ
وَهُمْ مُؤْمِنُونَ مُصَدِّقُونَ بِنُبُوَّتِهِ فَمَضَى
أُولَئِكَ الْآبَاءُ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ وَخَلَفَ الْأَبْنَاءُ
وَأَبْنَاءُ الْأَبْنَاءِ فَأَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ وَهُمْ
يَعْرِفُونَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى" فَلَمَّا
جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" «2» [البقرة: 89].
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جُمْلَةٌ فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَقٌّ فَكُفْرُهُمْ كَانَ كُفْرَ عِنَادٍ وَلَمْ يَشْهَدْ
تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ
مَا عَلِمُوا. وَدَلَّ هَذَا عَلَى تَغْلِيظِ الذَّنْبِ عَلَى
مَنْ وَاقَعَهُ عَلَى عِلْمٍ وَأَنَّهُ أَعْصَى مِنَ
الْجَاهِلِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" «3» [البقرة:
44] الآية.
[سورة البقرة (2): آية 43]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43)
فيه أربع وثلاثون مسألة:
__________
(1). في تاج العروس: (والبطالة بالكسر والضم لغتان في البطالة
بالفتح بمعنى الشجاعة. الكسر نقله الليث والضم حكاه بعض ونقله
صاحب المصباح.
(2). راجع ج 2 ص 26
(3). ص 365. [ ..... ]
(1/342)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوُجُوبُ وَلَا
خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى
إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَاشْتِقَاقِهَا وَفِي جُمْلَةٍ مِنْ
أَحْكَامِهَا «1»، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتُوا الزَّكاةَ) أَمْرٌ أَيْضًا
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَالْإِيتَاءُ الْإِعْطَاءُ. آتَيْتُهُ:
أَعْطَيْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" لَئِنْ آتانا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ" [التوبة: 75]. وَأَتَيْتُهُ-
بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ- جِئْتُهُ فَإِذَا كَانَ
الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مُدَّ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: (وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ) وَسَيَأْتِي.
الثَّالِثَةُ- الزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَكَا الشَّيْءُ
إِذَا نَمَا وَزَادَ يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ وَالْمَالُ
يَزْكُو إِذَا كَثُرَ وَزَادَ. وَرَجُلٌ زَكِيٌّ أَيْ زَائِدُ
الْخَيْرِ. وَسُمِّيَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمَالِ زَكَاةً
وَهُوَ نَقْصٌ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ يَنْمُو بِالْبَرَكَةِ أَوْ
بِالْأَجْرِ الَّذِي يُثَابُ بِهِ الْمُزَكِّي وَيُقَالُ
زَرْعٌ زَاكٍ بَيِّنُ الزَّكَاءِ. وَزَكَأَتِ النَّاقَةُ
بِوَلَدِهَا تَزْكَأُ بِهِ إِذَا رَمَتْ بِهِ مِنْ بَيْنِ
رِجْلَيْهَا. وَزَكَا الْفَرْدُ إِذَا صَارَ زَوْجًا
بِزِيَادَةِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ شَفْعًا قَالَ
الشَّاعِرُ:
كَانُوا خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ ... لَمْ
يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِجُ
جَمْعُ جَدٍّ وَهُوَ الْحَظُّ وَالْبَخْتُ تَعْتَلِجُ أَيْ
تَرْتَفِعُ. اعْتَلَجَتِ الْأَرْضُ طَالَ نَبَاتُهَا فَخَسَا
الْفَرْدُ وَزَكَا: الزَّوْجُ. وَقِيلَ: أَصْلُهَا الثَّنَاءُ
الْجَمِيلُ وَمِنْهُ زَكَّى الْقَاضِي الشَّاهِدَ. فَكَأَنَّ
مَنْ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ يُحَصِّلُ لِنَفْسِهِ الثَّنَاءَ
الْجَمِيلَ وَقِيلَ: الزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّطْهِيرِ
كَمَا يُقَالُ: زَكَا فُلَانٌ أَيْ طَهُرَ مِنْ دَنَسِ
الْجَرْحَةِ وَالْإِغْفَالِ «2» فَكَأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ
الْمَالِ يُطَهِّرُهُ مِنْ تَبِعَةِ الْحَقِّ الَّذِي جَعَلَ
اللَّهُ فِيهِ لِلْمَسَاكِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَا يَخْرُجُ مِنَ
الزَّكَاةِ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى" خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِها" «3» [التوبة: 103] الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي
الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا فَقِيلَ: الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ لِمُقَارَنَتِهَا بِالصَّلَاةِ وَقِيلَ:
صَدَقَةُ الْفِطْرِ قاله مالك في سماع ابن القاسم
__________
(1). راجع ص 177 - 164 من هذا الجزء.
(2). في نسخة: (أو الأنفال) وكذا في تفسير ابن عطية.
(3). راجع ج 8 ص 244.
(1/343)
قُلْتُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ- فَالزَّكَاةُ فِي الْكِتَابِ
مُجْمَلَةٌ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ (لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صدقة حتى يبلغ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ «1» وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ «2»
صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ) وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ (خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ) وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ
وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا «3» الْعُشْرُ وَمَا
سُقِيَ بِالنَّضْحِ «4» نِصْفُ الْعَشْرِ) وَسَيَأْتِي بَيَانُ
هَذَا الْبَابِ فِي" الْأَنْعَامِ" «5» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَيَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ" زَكَاةُ الْعَيْنِ
وَالْمَاشِيَةِ وَبَيَانُ الْمَالِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ
مِنْهُ زَكَاةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً" «6» [التوبة: 103] وَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ
فَلَيْسَ لَهَا فِي الْكِتَابِ نَصٌّ عَلَيْهَا إِلَّا مَا
تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى" قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ تَزَكَّى «7» وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى" [الأعلى:
15]. وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي
سُورَةِ" الْأَعْلَى"، وَرَأَيْتُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي
هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى آيِ الصِّيَامِ
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ الْحَدِيثَ.
وَسَيَأْتِي فَأَضَافَهَا إِلَى رَمَضَانَ. الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَارْكَعُوا) الرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ
الِانْحِنَاءُ بِالشَّخْصِ وَكُلُّ مُنْحَنٍ رَاكِعٌ. قَالَ
لَبِيَدٌ:
أخبِّر أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أدبُّ
كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الرَّكْعَةُ الْهُوَّةُ فِي الْأَرْضِ
لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ وَقِيلَ الِانْحِنَاءُ يَعُمُّ الرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ وَيُسْتَعَارُ أَيْضًا فِي الِانْحِطَاطِ فِي
الْمَنْزِلَةِ قَالَ:
وَلَا تُعَادِ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أن ... تركع يوما والدهر قد
رفعه
__________
(1). الوسق (بالفتح): ستون صاعا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند
أهل الحجاز.
(2). الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: ما بين
الثلاث إلى العشر. واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها.
(3). العثري (بفتح المهملة والثاء المثلثة المخففة وكسر الراء
وتشديد الياء). قال ابن الأثير: (هو من النخيل الذي يشرب
بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة. وقيل: هو العذي (الزرع
الذي لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده من المياه وقيل فيه غير
ذلك). وقيل: هو ما يسقى سيحا والأول أشهر.
(4). النضح (بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة): ما سقى من
الآبار.
(5). راجع ج 7 ص 99.
(6). راجع ج 8 ص 244.
(7). راجع ج 20 ص 21.
(1/344)
السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
تَخْصِيصِ الرُّكُوعِ بِالذِّكْرِ فَقَالَ قَوْمٌ: جُعِلَ
الرُّكُوعُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عِبَارَةً
عَنِ الصَّلَاةِ قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا
بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ فَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ الْقِرَاءَةَ
[عِبَارَةً «1»] عَنِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودَ عِبَارَةً عَنِ
الرَّكْعَةِ بِكَمَالِهَا فَقَالَ" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ" أَيْ
صَلَاةَ الْفَجْرِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنَ الصَّلَاةِ
فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ
عَلَى الرَّكْعَةِ سَجْدَةً. وَقِيلَ إِنَّمَا خَصَّ
الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ
يَكُنْ فِي صَلَاتِهِمْ رُكُوعٌ. وقيل: لأنه كان أثقل عل
الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ
مَنْ أَسْلَمَ أَظُنُّهُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَلَّا أَخِرَّ
إِلَّا قَائِمًا. فَمِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ
فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ
بِذَلِكَ نَفْسُهُ وَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ
الرُّكُوعِ السَّابِعَةُ- الرُّكُوعُ الشَّرْعِيُّ هُوَ أَنْ
يَحْنِيَ الرَّجُلُ صُلْبَهُ وَيَمُدَّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ
وَيَفْتَحَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَقْبِضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
ثُمَّ يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي
الْعَظِيمَ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ
والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ إِذَا
رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ «2»
وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ
يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ
يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ «3» ظَهْرَهُ
الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةُ- الرُّكُوعُ فَرْضٌ، قُرْآنًا
وَسُنَّةً، وَكَذَلِكَ السُّجُودُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي
آخِرِ الْحَجِّ" ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا" «4» [الحج: 77].
وَزَادَتِ السُّنَّةُ الطُّمَأْنِينَةَ فِيهِمَا وَالْفَصْلَ
بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ
وَبَيَّنَّا صِفَةَ الرُّكُوعِ آنِفًا. وَأَمَّا السُّجُودُ
فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ
مِنَ الْأَرْضِ وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ
كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطُ أحدكم
ذراعيه
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). الإشخاص: الرفع والتصويب: الخفض.
(3). هصر ظهره: إي ثناه إلى الأرض.
(4). راجع ج 12 ص 98 [ ..... ]
(1/345)
انْبِسَاطَ الْكَلْبِ (. وَعَنِ الْبَرَاءِ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ
مَرْفِقَيْكَ). وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سَجَدَ خَوَّى
بِيَدَيْهِ- يَعْنِي جَنَّحَ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ
مِنْ وَرَائِهِ- وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذِهِ
الْيُسْرَى. التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ
وَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي السُّجُودِ دُونَ أَنْفِهِ أَوْ
أَنْفَهُ دُونَ جَبْهَتِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْجُدُ عَلَى
جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ،
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُهُ
السُّجُودُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو خَيْثَمَةَ «1» وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. قَالَ
إِسْحَاقُ: إِنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى كُلُّهُمْ أَمَرَ بِالسُّجُودِ عَلَى
الْأَنْفِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُجْزِئُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى
جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ، هَذَا قَوْلُ. عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ
وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَيَعْقُوبُ
وَمُحَمَّدٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ قَائِلٌ: إِنْ
وَضَعَ جَبْهَتَهُ وَلَمْ يَضَعْ أَنْفَهُ أَوْ وَضَعَ
أَنْفَهُ وَلَمْ يَضَعْ جَبْهَتَهُ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ
تَامَّةٌ، هَذَا قَوْلُ النُّعْمَانِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى هَذَا
الْقَوْلِ وَلَا تَابَعَهُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ فِي
السُّجُودِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ، لِحَدِيثِ أَبِي
حُمَيْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ-
وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ
وَلَا نَكْفِتَ «2» الثِّيَابَ وَالشَّعْرَ (. وَهَذَا كُلُّهُ
بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الصَّلَاةِ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْزِيهِ
أَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ، كَقَوْلِ
عَطَاءٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا قَوْلُهُ
الْأَوَّلُ وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ
عَلَى جَبْهَتِهِ.
__________
(1). كذا في بعض نسخ الأصل وتفسير العلامي نقلا عن القرطبي.
وفي نسخة: (أبو حنيفة).
(2). قوله: (ولا نكفت): أي لا نضمها ونجمعها. يريد جمع الثوب
باليدين عند الركوع والسجود.
(1/346)
الْعَاشِرَةُ- وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى
كَوْرِ الْعِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ طَاقَةً أَوْ طَاقَتَيْنِ
مِثْلَ الثِّيَابِ الَّتِي تَسْتُرُ الرُّكَبَ وَالْقَدَمَيْنِ
فَلَا بَأْسَ، وَالْأَفْضَلُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ أَوْ مَا
يُسْجَدُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَا يُؤْذِيهِ
أَزَالَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ فَلْيَمْسَحْهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً. وَرَوَى مُسْلِمٌ
عَنْ مُعَيْقِيبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ
حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ (إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةٌ)
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ
يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ
عَلَيْهِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- لما قال تعالى:" ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا" [الحج: 77] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا
وَغَيْرُهُمْ يَكْفِي مِنْهَا مَا يُسَمَّى رُكُوعًا
وَسُجُودًا، وَكَذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ. وَلَمْ يَشْتَرِطُوا
الطُّمَأْنِينَةَ فِي ذَلِكَ فَأَخَذُوا بِأَقَلِّ الِاسْمِ
فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَحَادِيثَ
الثَّابِتَةَ فِي إِلْغَاءِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: وَلَا يُجْزِي رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا وُقُوفٌ
بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا جُلُوسٌ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
حَتَّى يَعْتَدِلَ رَاكِعًا وَوَاقِفًا وَسَاجِدًا وَجَالِسًا.
وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأَثَرِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ
وَهْبٍ وَأَبِي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ تَكَاثَرَتِ
الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ بِوُجُوبِ
الْفَصْلِ وَسُقُوطِ الطُّمَأْنِينَةِ وَهُوَ وَهْمٌ عَظِيمٌ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَعَلَهَا وَأَمَرَ بِهَا وَعَلَّمَهَا. فَإِنْ كَانَ لِابْنِ
الْقَاسِمِ عُذْرٌ أَنْ كَانَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا فَمَا
لَكُمْ أَنْتُمْ وَقَدِ انْتَهَى الْعِلْمُ إِلَيْكُمْ
وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَيْكُمْ! رَوَى النَّسَائِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ
رَجُلٌ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى
الصَّلَاةَ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) وَجَعَلَ يُصَلِّي وَجَعَلْنَا
نَرْمُقُ صَلَاتَهُ لَا نَدْرِي مَا يَعِيبُ مِنْهَا فَلَمَّا
جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ). قَالَ هَمَّامٌ «1»: فَلَا نَدْرِي
أَمَرَهُ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثلاثا فقال له الرجل:
__________
(1). همام هذا أحد رجال سند هذا الحديث.
(1/347)
مَا أَلَوْتُ فَلَا أَدْرِي مَا عِبْتَ
عَلَيَّ من صلاتي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ
حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَيَغْسِلَ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ وَيَمْسَحَ
بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرَ
اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقْرَأَ أُمَّ
الْقُرْآنِ وَمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ ثُمَّ
يُكَبِّرَ فَيَرْكَعَ فَيَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَيَسْتَرْخِيَ ثُمَّ يَقُولَ
سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَسْتَوِيَ قَائِمًا حَتَّى
يقيم صلبه ويأخذ كل عظيم مأخذه ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْجُدَ
فَيُمَكِّنَ وَجْهَهُ- قَالَ هَمَّامٌ: وَرُبَّمَا قَالَ:
جَبْهَتَهُ- مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ
وَيَسْتَرْخِيَ ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى
مَقْعَدِهِ وَيُقِيمَ صُلْبَهُ- فَوَصَفَ الصَّلَاةَ هَكَذَا
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ قَالَ- لَا تَتِمُّ
صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ) وَمِثْلُهُ
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ
تَقَدَّمَ. قُلْتُ: فَهَذَا بَيَانُ الصَّلَاةِ الْمُجْمَلَةِ
فِي الْكِتَابِ بِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهَا جَمِيعَ الْأَنَامِ فَمَنْ لَمْ
يَقِفْ عِنْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَأَخَلَّ بِمَا فَرَضَ
عَلَيْهِ الرَّحْمَنُ وَلَمْ يَمْتَثِلْ مَا بَلَغَهُ عَنْ
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
دَخَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ" [مريم:
59] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ «1» إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ
قَالَ رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا
السُّجُودَ فَقَالَ: مَا صَلَّيْتَ وَلَوْ مُتَّ لَمُتَّ عَلَى
غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الثامنة
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعَ الرَّاكِعِينَ) " مَعَ"
تَقْتَضِي الْمَعِيَّةَ وَالْجَمْعِيَّةَ وَلِهَذَا قَالَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِالْقُرْآنِ: إِنَّ
الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَقْتَضِ شُهُودَ
الْجَمَاعَةِ فَأَمَرَهُمْ بِقَوْلِهِ" مَعَ" شُهُودِ
الْجَمَاعَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شُهُودِ
الْجَمَاعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَالَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَدْمَنَ التَّخَلُّفَ عَنْهَا مِنْ
غَيْرِ عُذْرٍ الْعُقُوبَةُ. وَقَدْ أَوْجَبَهَا بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْتَمَعَ عَلَى تَعْطِيلِ
الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا مِنَ الْجَمَاعَاتِ فَإِذَا قَامَتِ
الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فِي
بَيْتِهِ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (صَلَاةُ
الْجَمَاعَةِ أفضل من صلاة الفذ «2» بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ
دَرَجَةً) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله
__________
(1). راجع ج 11 ص 121.
(2). الفذ: المنفرد.
(1/348)
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ
وَعِشْرِينَ جُزْءًا). وَقَالَ دَاوُدُ: الصَّلَاةُ فِي
الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّتِهِ
كَالْجُمُعَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ)
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُرَخِّصُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى
الْجَمَاعَةِ فِي تَرْكِ إِتْيَانِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ
لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ
فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ:" [هَلْ [«1»] تَسْمَعُ
النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ" قَالَ نَعَمْ قَالَ (فَأَجِبْ)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (لَا أَجِدُ لَكَ
رُخْصَةً). خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ السَّائِلَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من سَمِعَ
النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِتْيَانِهِ عُذْرٌ-
قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ- لَمْ
تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى (. قَالَ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ: هَذَا يَرْوِيهِ مَغْرَاءُ
الْعَبْدِيُّ وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
(مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ)
عَلَى أَنَّ قَاسِمَ بْنَ أَصْبَغَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ
فَقَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي
قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا
صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ) وَحَسْبُكَ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ صِحَّةً وَمَغْرَاءُ الْعَبْدِيُّ رَوَى عَنْهُ
أَبُو إِسْحَاقَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ
رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَا
يَسْتَطِيعُونَهُمَا) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَقَدْ
رُوِّينَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا (مَنْ
سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا
صَلَاةَ لَهُ) مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم.
(1/349)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَتِي
فَيَجْمَعُوا حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا
يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ لَهُمْ عِلَّةٌ
فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ). هَذَا مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ
أَوْجَبَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فَرْضًا وَهِيَ
ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ وَحَمَلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى
تَأْكِيدِ أَمْرِ شُهُودِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ
بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَمَلُوا
قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ
(لَا صَلَاةَ لَهُ) عَلَى الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ
(فَأَجِبْ) عَلَى النَّدْبِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(لَقَدْ هَمَمْتُ) لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ الْحَتْمِ
لِأَنَّهُ هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ وَإِنَّمَا مَخْرَجُهُ
مَخْرَجُ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ
الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ
وَالْجُمُعَةِ. يُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ
يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى
هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ
اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ
الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا
يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ
سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ
يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمَدُ إِلَى
مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا
دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ
رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ
يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ «1» حَتَّى يُقَامَ فِي
الصَّفِّ (. فَبَيَّنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ
أَنَّ الِاجْتِمَاعَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَتَرْكَهُ
ضَلَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ:
اخْتُلِفَ فِي التَّمَالُؤِ عَلَى تَرْكِ ظَاهِرِ السنن، هل
يقاتل عليها أولا، وَالصَّحِيحُ قِتَالُهُمْ، لِأَنَّ فِي
التَّمَالُؤِ عَلَيْهَا إِمَاتَتَهَا. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا
إِذَا أُقِيمَتِ السُّنَّةُ وَظَهَرَتْ جَازَتْ صَلَاةُ
الْمُنْفَرِدِ وَصَحَّتْ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ
عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا
تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا
يَنْهَزُهُ «2» إِلَّا الصَّلَاةُ لَا يُرِيدُ إِلَّا
الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بها
درجة
__________
(1). معناه: يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما.
(2). النهز: الدفع. أي لا يقيمه من موضعه وهو بمعنى قوله
بعده:" لا يريد إلا الصلاة".
(1/350)
وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى
يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي
الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ
وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي
مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ
مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ (. قِيلَ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ: مَا يُحْدِثُ؟ قَالَ: يَفْسُو أَوْ
يَضْرِطُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي هَذَا الْفَضْلِ الْمُضَافِ لِلْجَمَاعَةِ هَلْ لِأَجْلِ
الْجَمَاعَةِ فَقَطْ حَيْثُ كَانَتْ أَوْ إِنَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ الْفَضْلُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي
الْمَسْجِدِ لِمَا يُلَازِمُ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالٍ تَخْتَصُّ
بِالْمَسَاجِدِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُوَ الْوَصْفُ
الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا
كان من إكثار الخطا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَقَصْدِ الْإِتْيَانِ
إِلَيْهَا وَالْمُكْثِ فِيهَا فَذَلِكَ زِيَادَةُ ثَوَابٍ
خَارِجٌ عَنْ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَفْضُلُ
جَمَاعَةٌ جَمَاعَةً بِالْكَثْرَةِ وَفَضِيلَةِ الْإِمَامِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ نَعَمْ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صَلَاةُ
الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ
وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ
الرَّجُلِ وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) رَوَاهُ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي
إِسْنَادِهِ لِينٌ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا
أَيْضًا فمن صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ هَلْ يُعِيدُ صَلَاتَهُ
تِلْكَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ إِنَّمَا يُعِيدُ
الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ صَلَّى
وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ
وَأَمَّا مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ فَإِنَّهُ
لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا أَقَلَّ
وقال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: جَائِزٌ لِمَنْ صَلَّى فِي جماعة ووجد
جماعة أُخْرَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ
إِنْ شَاءَ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَسُنَّةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَصِلَةَ بْنِ زُفَرَ
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ. احْتَجَّ مَالِكٌ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُصَلَّى
صَلَاةٌ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا
تُصَلُّوا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
وَاتَّفَقَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى
(1/351)
هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُصَلِّي
الْإِنْسَانُ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ يَقُومَ فَيُصَلِّيَهَا
ثَانِيَةً يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ مَرَّةً أُخْرَى فَأَمَّا
إِذَا صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ
تَطَوُّعٌ فَلَيْسَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ
أَمَرَهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ (إِنَّهَا
لَكُمْ نَافِلَةٌ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ
كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ
فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ
هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً
فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ
فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ عَلَى
تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ (سِنًّا)
مَكَانَ (سِلْمًا) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: قَالَ
شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِإِسْمَاعِيلَ مَا تَكْرِمَتُهُ؟ قَالَ:
فِرَاشُهُ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثُ أَبِي
مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ
أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ
أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ
وَقَالُوا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ إِذَا أَذَّنَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لِغَيْرِهِ
فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ. وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ
وَقَالُوا: السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ صَاحِبُ الْبَيْتِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رُوِّينَا عَنِ الْأَشْعَثِ ابن
قَيْسٍ أَنَّهُ قَدَّمَ غُلَامًا وَقَالَ إِنَّمَا أُقَدِّمُ
الْقُرْآنَ وَمِمَّنْ قَالَ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمُ
ابْنُ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِهَذَا نَقُولُ لِأَنَّهُ
مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ وَقَالَ مَالِكٌ يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ
أَعْلَمُهُمْ إِذَا كَانَتْ حَالُهُ حَسَنَةً وَإِنَّ
لِلسِّنِّ حَقًّا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَؤُمُّهُمْ
أَفْقَهُهُمْ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
إِذَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَقِيهَ
أَعْرَفُ بِمَا يَنُوبُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الصَّلَاةِ
وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْأَقْرَأَ مِنَ
الصَّحَابَةِ كَانَ الْأَفْقَهَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَفَقَّهُونَ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ كَانَ مِنْ عُرْفِهِمُ
الْغَالِبِ تَسْمِيَتُهُمُ الْفُقَهَاءَ بِالْقُرَّاءِ
وَاسْتَدَلُّوا بِتَقْدِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبَا
بَكْرٍ لِفَضْلِهِ وَعِلْمِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ إِنَّمَا
قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَتُهُ بَعْدَهُ ذَكَرَهُ أَبُو
عُمَرَ فِي التَّمْهِيدِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله
(1/352)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا سَافَرْتُمْ
فَلْيَؤُمَّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَكُمْ
وَإِذَا أَمَّكُمْ فَهُوَ أَمِيرُكُمْ) قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ
يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قُلْتُ: إِمَامَةُ الصَّغِيرِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ قَارِئًا
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَلَمَةَ
قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ «1» مَمَرَّ النَّاسِ وَكَانَ يَمُرُّ
بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا
الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ
أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا! أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا! فَكُنْتُ
أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَكَأَنَّمَا يُقَرُّ «2» فِي
صَدْرِي وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ «3» بِإِسْلَامِهَا
فَيَقُولُونَ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ
عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ
الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ وَبَدَرَ
أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ:
جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ نَبِيِّ اللَّهِ حَقًّا،
قَالَ: (صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَإِذَا
حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ
أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا). فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
أَكْثَرَ مِنِّي قُرْآنًا لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ
الرُّكْبَانِ فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ
سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلِيَّ بُرْدَةٌ إِذَا
سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ «4» عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ!
فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ
فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ. وَمِمَّنْ أَجَازَ إِمَامَةَ
الصَّبِيِّ غَيْرِ الْبَالِغِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
إِذَا عَقَلَ الصَّلَاةَ وَقَامَ بِهَا لِدُخُولِهِ فِي
جُمْلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَؤُمُّ
الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ) وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَلِحَدِيثِ عمرو
ابن سَلَمَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
يَؤُمُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يَؤُمُّ فِي
الْجُمُعَةِ وَقَدْ كَانَ قَبْلُ يَقُولُ وَمَنْ أَجْزَأَتْ
إِمَامَتُهُ فِي الْمَكْتُوبَةِ أَجْزَأَتْ إِمَامَتُهُ فِي
الْأَعْيَادِ غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُ فِيهَا إِمَامَةَ غَيْرِ
الْوَالِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ
فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ حَتَّى يَحْتَلِمَ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ قَوْمٌ لَيْسَ معهم من القرآن شي فَإِنَّهُ
يَؤُمُّهُمُ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
إِنَ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ أَمَّهُمْ. وَمَنَعَ ذَلِكَ جُمْلَةً
مَالِكٌ والثوري وأصحاب الرأي. السابعة عشرة- الإتمام بِكُلِّ
إِمَامٍ بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَلَى اسْتِقَامَةٍ جَائِزٌ
مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ حُدُودَ الصَّلَاةِ
وَلَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ لَحْنًا يُخِلُّ
بِالْمَعْنَى مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ الكاف
__________
(1). بتشديد الراء مجرورة صفة لماء، ويجوز فتحها أي موضع
مرورهم.
(2). يقر (بقاف مفتوحة) من القرار. وفي رواية (يقرا) بألف
مقصورة أي يجمع، أو بهمزة من القراءة. وفي رواية (يغري) أي
يلصق.
(3). تلوم: تنتظر.
(4). في الأصول: (ألا تغطوا ... ) بحذف النون ولا مقتضى له.
(1/353)
من" إِيَّاكَ نَعْبُدُ" [الفاتحة: 5]
وَيَضُمَّ التَّاءَ فِي" أَنْعَمْتَ" وَمِنْهُمْ مَنْ رَاعَى
تَفْرِيقَ الطَّاءِ مِنَ الضَّادِ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَهُمَا لَا تَصِحَّ إِمَامَتُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا
يَخْتَلِفُ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا
كَانَ جَاهِلًا بِالْقِرَاءَةِ وَأَمَّ مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ
الإتمام بِامْرَأَةٍ وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٍ وَلَا كَافِرٍ
وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا أُمِّيٍّ وَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْ
هَؤُلَاءِ إِمَامًا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِلَّا الْأُمِّيَّ
لِمِثْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ
الْأُمِّيِّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ مَعَ حُضُورِ
الْقَارِئِ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ
الشَّافِعِيُّ. فَإِنْ أَمَّ أُمِّيًّا مِثْلَهُ صَحَّتْ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ إِذَا صَلَّى الْأُمِّيُّ بِقَوْمٍ يَقْرَءُونَ
وَبِقَوْمٍ أُمِّيِّينَ فَصَلَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فَاسِدَةٌ.
وخالقه أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَا
يَقْرَأُ تَامَّةٌ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ صَلَاتَهُمْ كُلُّهُمْ
جَائِزَةٌ لِأَنَّ كُلًّا مُؤَدٍّ فَرْضَهُ وَذَلِكَ مِثْلُ
الْمُتَيَمِّمِ يُصَلِّي بِالْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ
وَالْمُصَلِّي قَاعِدًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ قِيَامٍ صَلَاتُهُمْ
مُجْزِئَةٌ فِي قَوْلِ مَنْ خَالَفَنَا لان كلا مؤد فرضي نفسه.
قلت: وقد يحتج لهذا القول بقول عَلَيْهِ السَّلَامُ (أَلَا
يَنْظُرُ الْمُصَلِّي [إِذَا صَلَّى [«1»] كَيْفَ يُصَلِّي
فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَإِنَّ
صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَيْسَتْ مُرْتَبِطَةٌ بِصَلَاةِ
الْإِمَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هي وَتَقْرَأُ هِيَ
فَإِذَا فَرَغَتْ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ
وَهِيَ خَلْفَهُ تُصَلِّي وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ
قَتَادَةَ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ وَلَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ
الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْأَشَلِّ وَالْأَقْطَعِ
وَالْخَصِيِّ وَالْعَبْدِ إِذَا كَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَالِمًا بِالصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ لَا أَرَى أَنْ
يَؤُمَّ الْأَقْطَعُ وَالْأَشَلُّ لِأَنَّهُ مُنْتَقِصٌ عَنْ
دَرَجَةِ الْكَمَالِ وَكُرِهَتْ إِمَامَتُهُ لِأَجْلِ
النَّقْصِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ
الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا يَمْنَعُ فَقْدُهُ فَرْضًا
مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ فَجَازَتِ الْإِمَامَةُ الرَّاتِبَةُ
مَعَ فَقْدِهِ كَالْعَيْنِ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ
ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى،
(وَكَذَا الْأَعْرَجُ وَالْأَقْطَعُ وَالْأَشَلُّ وَالْخَصِيُّ
قِيَاسًا وَنَظَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَعْمَى: (وَمَا
حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ! وكان ابن عباس وعتبان ابن مَالِكٍ
يَؤُمَّانِ وَكِلَاهُمَا أَعْمَى، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ
الْعُلَمَاءِ.
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم.
(1/354)
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي
إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَى فَقَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ أَنْ
يَكُونَ إِمَامًا رَاتِبًا وَكَرِهَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ لَهُ
أَنْ يَؤُمَّ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَتُجْزِئُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ
وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَكْرَهُ
أَنْ يُنَصَّبَ إِمَامًا رَاتِبًا مَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ
وَمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَجْزَأَهُ وَقَالَ عِيسَى بْنُ
دِينَارٍ لَا أَقُولُ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إِمَامَةِ وَلَدِ
الزِّنَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِ أَبَوَيْهِ شي
وَنَحْوَهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِذَا كَانَ فِي
نَفْسِهِ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
يَؤُمُّ لِدُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَؤُمُّ الْقَوْمَ
أَقْرَؤُهُمْ) وقال أبو عمر ليس في شي مِنَ الْآثَارِ
الْوَارِدَةِ فِي شَرْطِ الْإِمَامَةِ مَا يدل على مراعاة نسب
وإنما فيها دلالة عَلَى الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاحِ
فِي الدِّينِ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَأَمَّا الْعَبْدُ
فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ
الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعَصَبَةَ- مَوْضِعٌ
بِقُبَاءٍ- قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. وَعَنْهُ قَالَ:
كَانَ سالم مولى أبي حذيفة يؤو الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ
وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
مسجد قباء فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر ابن رَبِيعَةَ
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ
الْمُصْحَفِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَمَّ أَبُو سَعِيدٍ
مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ وَهُوَ عَبْدٌ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ. وَرَخَّصَ فِي إِمَامَةِ
الْعَبْدِ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَرِهَ ذَلِكَ
أَبُو مِجْلَزٍ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَؤُمُّهُمْ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ الْعَبْدُ قَارِئًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْرَارِ
لَا يَقْرَءُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عِيدٍ أَوْ جُمُعَةٍ
فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَؤُمُّهُمْ فِيهَا وَيُجْزِئُ عِنْدَ
الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ صَلَّوْا وَرَاءَهُ قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ الْعَبْدُ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَؤُمُّ الْقَوْمَ
أَقْرَؤُهُمْ). الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَأَمَّا
الْمَرْأَةُ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ:
لَمَّا بَلَغَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ (لَنْ
يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ
(1/355)
امْرَأَةً (. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا قَالَ وَجَعَلَ
لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ
أَهْلَ دَارِهَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَأَنَا رَأَيْتُ
مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى مِنَ
الرِّجَالِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ لَا
إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ.
قُلْتُ: وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا لَا تَصِحُّ إِمَامَتُهَا
لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ. وَرَوَى ابْنُ «1» أَيْمَنَ
جَوَازَ إِمَامَتِهَا لِلنِّسَاءِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى
الْمُشْكِلُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ
وَيَؤُمُّ النِّسَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ إِمَامًا
بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. الثَّانِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ- الْكَافِرُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ
كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يَؤُمُّ الْمُسْلِمِينَ
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِكُفْرِهِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ يقولان لا يجزئهم ويعيدون وقاله مالك وأصحاب
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: يُعَاقَبُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
وَالْمُزَنِيُّ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ
وَلَا يَكُونُ بِصَلَاتِهِ مُسْلِمًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُجْبَرُ عَلَى
الْإِسْلَامِ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَأَمَّا أَهْلُ
الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَالْمُعْتَزِلَةِ
وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ
الْحَسَنِ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا
يُصَلَّى خَلْفَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِذَا كَانَ
دَاعِيَةً إِلَى هَوَاهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَيُصَلَّى خَلْفَ
أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ
مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
كُلُّ مَنْ أَخْرَجَتْهُ بِدْعَتُهُ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ
تَجُزِ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَأَمَّا
الْفَاسِقُ بِجَوَارِحِهِ كَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيهِ فَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ مَنْ صَلَّى وَرَاءَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ
يُعِيدُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي
تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ
صَلَّى خَلْفَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ سَكْرَانَ.
قاله
__________
(1). في نسخة:" ابن أبي أيمن". [ ..... ]
(1/356)
مَنْ لَقِيتُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
عَلَى الْمِنْبَرِ (لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَلَا
يَؤُمَّنَّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا وَلَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ
بَرًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَا سُلْطَانٍ) قَالَ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ هَذَا يَرْوِيهِ عَلِيُّ بْنُ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
وَالْأَكْثَرُ يُضَعِّفُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ سَرَّكُمْ
أَنْ تُزَكُّوا صَلَاتَكُمْ فَقَدِّمُوا خِيَارَكُمْ) فِي
إِسْنَادِهِ أَبُو الْوَلِيدِ خَالِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ قال الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ فِيهِ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ كَانَ يَضَعُ
الْحَدِيثَ عَلَى ثِقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَحَدِيثُهُ هَذَا
يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَلَّامِ بْنِ
سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلُوا
أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ فَإِنَّهُمْ وَفْدٌ فِيمَا
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ عُمَرُ
هَذَا هُوَ عِنْدِي عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ قَاضِي الْمَدَائِنِ
وَسَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَيْضًا مَدَائِنِيٌّ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ. الْخَامِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ- رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّمَا جُعِلَ
الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ
فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا
وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ
فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا
أجمعون) وقد اختلف العلماء فيمن وكع أَوْ خَفَضَ قَبْلَ
الْإِمَامِ عَامِدًا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ
صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيهَا كُلِّهَا أَوْ
فِي أَكْثَرِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ. ذَكَرَ سُنَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي
الْوَرْدِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ
عُمَرَ فَجَعَلْتُ أَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَأَضَعُ
قَبْلَهُ فَلَمَّا سَلَّمَ الامام أخذ ابن عمر بيدي فلو اني
وجذبني فقلت مالك! قَالَ مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: فُلَانُ بْنُ
فُلَانٍ قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ صِدْقٍ! فَمَا
يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ؟ قُلْتُ: أَوَمَا رَأَيْتَنِي إِلَى
جَنْبِكَ! قَالَ: قَدْ رَأَيْتُكَ تَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ
وَتَضَعُ قَبْلَهُ وَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ خَالَفَ
الْإِمَامَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فِيمَنْ رَكَعَ أَوْ
سَجَدَ قَبْلَ الْإِمَامِ ثُمَّ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ أَوْ
سُجُودِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ أو يسجد:
(1/357)
لَمْ يَعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجْزِهِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ
أَسَاءَ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي
صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالِائْتِمَامِ فِيهَا بِالْأَئِمَّةِ
سُنَّةٌ حَسَنَةٌ فَمَنْ خَالَفَهَا بَعْدَ أَنْ أَدَّى فَرْضَ
صَلَاتِهِ بِطَهَارَتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا
وَفَرَائِضِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا وَإِنْ
أَسْقَطَ بَعْضَ سُنَنِهَا لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ
يَنْفَرِدَ فَصَلَّى قَبْلَ إِمَامِهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ
أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَبِئْسَ مَا فَعَلَ فِي تَرْكِهِ
الْجَمَاعَةَ قَالُوا: وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ
فَرَكَعَ بِرُكُوعِهِ وَسَجَدَ بِسُجُودِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي
رَكْعَةٍ وَإِمَامُهُ فِي أُخْرَى فَقَدِ اقْتَدَى وَإِنْ
كَانَ يَرْفَعُ قَبْلَهُ وَيَخْفِضُ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ
بِرُكُوعِهِ يَرْكَعُ وَبِسُجُودِهِ يَسْجُدُ وَيَرْفَعُ
وَهُوَ فِي ذَلِكَ تَبَعٌ لَهُ إلا أنه مسي فِي فِعْلِهِ
ذَلِكَ لِخِلَافِهِ سُنَّةَ الْمَأْمُومِ الْمُجْتَمَعِ
عَلَيْهَا. قُلْتُ: مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ عَنِ
الْجُمْهُورِ يُنْبِئُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ
عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُرْتَبِطَةٍ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ
الِاتِّبَاعَ الْحِسِّيَّ وَالشَّرْعِيَّ مَفْقُودٌ وَلَيْسَ
الْأَمْرُ هَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَالصَّحِيحُ فِي
الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ
الْإِمَامَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ
بِأَفْعَالِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً" «1» [البقرة: 124] أَيْ يَأْتَمُّونَ بِكَ
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هَذَا حَقِيقَةُ الْإِمَامِ
لُغَةً وَشَرْعًا فَمَنْ خَالَفَ إِمَامَهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيَّنَ فَقَالَ: (إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) الْحَدِيثَ.
فَأَتَى بِالْفَاءِ الَّتِي تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَهُوَ
الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ. ثُمَّ أَوْعَدَ مَنْ
رَفَعَ أَوْ رَكَعَ قَبْلُ وَعِيدًا شَدِيدًا فَقَالَ (أَمَا
يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ
يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ صُورَتَهُ
صُورَةَ حِمَارٍ) أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ وَالْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ إِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ. وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ
عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) يعني مردود
فَمَنْ تَعَمَّدَ خِلَافَ إِمَامِهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ باتباعه منهم عَنْ مُخَالَفَتِهِ فَقَدِ اسْتَخَفَّ
بِصَلَاتِهِ وَخَالَفَ مَا أمر به فواجب ألا تجزي عَنْهُ
صَلَاتُهُ تِلْكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ سَاهِيًا
قَبْلَ الْإِمَامِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ:
السُّنَّةُ فِيمَنْ سَهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي رُكُوعٍ أَوْ
فِي سُجُودٍ أَنْ يَرْجِعَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا
وَيَنْتَظِرَ الْإِمَامَ وَذَلِكَ خَطَأٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
(إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ به
__________
(1). راجع ج 2 ص 107
(1/358)
فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا لَا يُوجِبُ
الْإِعَادَةَ على من فعله عامدا لقوله:" وذلك خطاء ممن فعله"،
لان الساهي عَنْهُ مَوْضُوعٌ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ-
وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَدَا تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامَ أَمَّا السَّلَامُ فَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَ الْمَأْمُومِ لَا
يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ إِلَّا مَا رُوِيَ
عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ إِنْ
كَبَّرَ قَبْلَ إِمَامِهِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ أَجْزَأَتْ
عَنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى الصَّلَاةِ
فَلَمَّا كَبَّرَ انْصَرَفَ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ- أَيْ كَمَا
أَنْتُمْ- ثُمَّ خَرَجَ ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ
فَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (إِنِّي كُنْتُ
جُنُبًا فَنَسِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ). وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
(فَكَبَّرَ وَكَبَّرْنَا مَعَهُ) وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا
عِنْدَ قوله تعالى:" وَلا جُنُباً" في" النساء «1» "
[النِّسَاءِ: 43] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّامِنَةُ
وَالْعِشْرُونَ- وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ (اسْتَوُوا
وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ لِيَلِنِي
مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (. قَالَ أَبُو
مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا. زَادَ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ «2»
الْأَسْوَاقِ). وَقَوْلُهُ (اسْتَوُوا) أَمْرٌ بِتَسْوِيَةِ
الصُّفُوفِ وَخَاصَّةً الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي
يَلِي الْإِمَامَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ"
الْحِجْرِ «3» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُنَاكَ
يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ بِحَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْجُلُوسِ فِي الصَّلَاةِ
لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ: يُفْضِي الْمُصَلِّي بِأَلْيَتَيْهِ إِلَى
الْأَرْضِ وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيَثْنِي رِجْلَهُ
الْيُسْرَى، لِمَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ
فِي التَّشَهُّدِ فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَثَنَى
رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ
وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك.
__________
(1). راجع ج 5 ص 204
(2). الهيشة (مثل الهوشة): الاختلاط والمنازعة وارتفاع
الأصوات.
(3). راجع ج 10 ص 20
(1/359)
قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ. كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ
الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ
وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى
يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا وَكَانَ
يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ
يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى
وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ «1» الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى
أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ،
وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ. قُلْتُ:
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ
الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ
بْنِ حي: ينصب اليمنى ويقعد عَلَى الْيُسْرَى (، لِحَدِيثِ
وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي الْجِلْسَةِ الْوُسْطَى. وَقَالُوا
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ أَوِ
الْمَغْرِبِ أَوِ الْعِشَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ لِحَدِيثِ أَبِي
حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ
جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ
يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهَرَهُ فَإِذَا
رَفَعَ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ
فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا
قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ
الْقِبْلَةَ وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى
رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى وَإِذَا جَلَسَ فِي
الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ
الْيُمْنَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ:
إِنْ فَعَلَ هَذَا فَحَسَنٌ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمُوفِيَةُ
الثَّلَاثِينَ- مَالِكٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ
بِالْحَصْبَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَهَانِي
فَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ قُلْتُ وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَ:
كَانَ (إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى
عَلَى فخذه اليمنى وقبض أصابعه
__________
(1). عقبة الشيطان: قال ابن الأثير: (هو أن يضع أليتيه على
عقبيه بين السجدتين وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وقيل:
هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء (.) (
(1/360)
كُلَّهَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي
تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى
فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ (. قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمَا وَصَفَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ
وَضْعِ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبْضِ
أَصَابِعِ يَدِهِ تِلْكَ كُلِّهَا إِلَّا السَّبَّابَةَ
مِنْهَا فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهَا وَوَضْعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى
عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى مَفْتُوحَةً مَفْرُوجَةَ
الْأَصَابِعِ، كُلُّ ذَلِكَ سُنَّةٌ فِي الْجُلُوسِ في الصلاة
مجمع عليه لا خِلَافَ عَلِمْتُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا
وَحَسْبُكَ بِهَذَا إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
تَحْرِيكِ أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى
تَحْرِيكَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ
مَرْوِيٌّ فِي الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْمُسْنَدَةِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعُهُ
مُبَاحٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ بِمَعْنَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَزَادَ فِيهِ: قَالَ
سُفْيَانُ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَاهُ عَنْ
مُسْلِمٍ ثُمَّ لَقِيتُهُ فَسَمِعْتُهُ مِنْهُ وَزَادَنِي
فِيهِ قَالَ (هِيَ مَذَبَّةُ الشَّيْطَانِ لَا يَسْهُو
أَحَدُكُمْ مَا دَامَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ
هَكَذَا). قُلْتُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُشِيرُ
بِإِصْبَعِهِ إِذَا دَعَا وَلَا يُحَرِّكُهَا. وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ فَمَنَعَ مِنْ تَحْرِيكِهَا
وَبَعْضُ عُلَمَائِنَا رَأَوْا أَنَّ مَدَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى
دَوَامِ التَّوْحِيدِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ إِلَى تَحْرِيكِهَا إِلَّا
أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُوَالَاةِ بِالتَّحْرِيكِ عَلَى
قَوْلَيْنِ تَأَوَّلَ مَنْ وَالَاهُ بِأَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ
يُذَكِّرُ بِمُوَالَاةِ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ
وَبِأَنَّهَا مَقْمَعَةٌ وَمَدْفَعَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَلَى مَا
رَوَى سُفْيَانُ وَمَنْ لَمْ يُوَالِ رَأَى تَحْرِيكَهَا
عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَتَأَوَّلَ
فِي الْحَرَكَةِ كَأَنَّهَا نُطْقٌ بِتِلْكَ الْجَارِحَةِ
بِالتَّوْحِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْحَادِيَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي جُلُوسِ الْمَرْأَةِ فِي
الصَّلَاةِ فَقَالَ مَالِكٌ هِيَ كَالرَّجُلِ وَلَا
تُخَالِفُهُ فِيمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ إِلَّا فِي اللِّبَاسِ
وَالْجَهْرِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَسْدُلُ الْمَرْأَةُ
جِلْبَابَهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَرَوَاهُ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ: تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ كَأَيْسَرَ مَا يَكُونُ
لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ تَقْعُدُ كَيْفَ تَيَسَّرَ
لَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجْلِسُ بِأَسْتَرِ مَا يَكُونُ
لها.
(1/361)
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ قُلْنَا
لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ،
فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ
جَفَاءً بِالرَّجُلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [بَلْ [«1»] هِيَ
سُنَّةُ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في صفة الإقعاء ما هو فَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: الْإِقْعَاءُ جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ
نَاصِبًا فَخِذَيْهِ مِثْلُ إِقْعَاءِ الْكَلْبِ وَالسَّبُعِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا إِقْعَاءٌ مُجْتَمَعٌ
عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَهَذَا تَفْسِيرُ
أَهْلِ اللُّغَةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ
يَجْعَلُونَ الْإِقْعَاءَ أَنْ يَجْعَلَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى
عَقِبَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ
وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ الْإِقْعَاءِ الَّذِي
قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ الَّذِي
فَسَّرَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ وَضْعِ الْأَلْيَتَيْنِ عَلَى
الْعَقِبَيْنِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَكَذَا جَاءَ
مُفَسَّرًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ السنة أن تمس عقبك إلى
أليتك رواه إبراهيم بن مسرة عَنْ طَاوُسٍ عَنْهُ ذَكَرَهُ
أَبُو عُمَرَ قَالَ الْقَاضِيُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَفْعَلُونَهُ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ عَامَّةُ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ وَسَمَّوْهُ إِقْعَاءً. ذَكَرَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ
الزُّبَيْرِ يَقْعُونَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. الثَّالِثَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- لَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ قَالَ مِنَ
الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَبِعَدَمِ وُجُوبِهِ
أَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ إِلَّا
مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ
التَّسْلِيمَتَيْنِ مَعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ: لَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى التَّسْلِيمَتَيْنِ أَنَّ
الثَّانِيَةَ مِنْ فَرَائِضِهَا غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: مِنْ حُجَّةِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي إِيجَابِهِ
التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا- وَقَوْلِهِ: إِنَّ مَنْ أَحْدَثَ
بَعْدَ الْأُولَى وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ-
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَحْلِيلُهَا
التَّسْلِيمُ". ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ التَّسْلِيمُ فَكَانَ
يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. وَمِنْ حُجَّةِ
مَنْ أَوْجَبَ التَّسْلِيمَةَ الْوَاحِدَةَ دُونَ الثَّانِيَةِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَحْلِيلُهَا
التَّسْلِيمُ" قَالُوا: وَالتَّسْلِيمَةُ الْوَاحِدَةُ يَقَعُ
عليها اسم تسليم.
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم.
(1/362)
قُلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى الْأَخْذِ بِأَقَلِّ الِاسْمِ أَوْ بِآخِرِهِ وَلَمَّا
كَانَ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ
بِإِجْمَاعٍ فَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ
وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ تَوَارَدَتِ «1» السُّنَنُ
الثَّابِتَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَهُوَ
أَكْثَرُهَا تَوَاتُرًا- وَمِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ
الْحَضْرَمِيِّ وَحَدِيثِ عَمَّارٍ وَحَدِيثٍ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ. رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وعبد العزيز ابن مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى
الْمَازِنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ
عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ:
حَدِّثْنِي عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ؟ فَذَكَرَ التَّكْبِيرَ
كُلَّمَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَكُلَّمَا خَفَضَهُ وَذَكَرَ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ،
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَسَارِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا إِسْنَادٌ مَدَنِيٌّ
صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ الْمَشْهُورُ بِالْمَدِينَةِ
التَّسْلِيمَةُ الْوَاحِدَةُ وَهُوَ عَمَلٌ قَدْ تَوَارَثَهُ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَمِثْلُهُ يَصِحُّ
فِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَمَلِ فِي كُلِّ بَلَدٍ لِأَنَّهُ
لَا يَخْفَى لِوُقُوعِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا.
وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْكُوفَةِ وَغَيْرِهَا مُسْتَفِيضٌ
عِنْدَهُمْ بالتسليمتين ومتوارث عندهم أَيْضًا. وَكُلُّ مَا
جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْمُبَاحِ
كَالْأَذَانِ وَكَذَلِكَ لَا يُرْوَى عَنْ عَالِمٍ
بِالْحِجَازِ وَلَا بِالْعِرَاقِ وَلَا بِالشَّامِ وَلَا
بِمِصْرَ إِنْكَارُ التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا
إِنْكَارُ التَّسْلِيمَتَيْنِ بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
مَعْرُوفٌ وَحَدِيثُ التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ رَوَاهُ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَأَنَسٌ إِلَّا
أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لَا يُصَحِّحُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ
بِالْحَدِيثِ. الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ- رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنَ
السُّنَّةِ أَنْ يُخْفِيَ التَّشَهُّدَ. وَاخْتَارَ مَالِكٌ
تَشَهُّدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَهُوَ. التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّكِيَّاتُ لِلَّهِ
الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ تَشَهُّدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا
يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَانَ يَقُولُ:
(التَّحِيَّاتُ المباركات الصلوات الطيبات
__________
(1). في نسخة: (تواترت).
(1/363)
أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا
النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ
عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ) وَاخْتَارَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ
الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي
الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى
فُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ
فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلِ
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ- فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ
[لِلَّهِ [«1»] صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ
مَا شَاءَ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ بِالْأَنْدَلُسِ يَخْتَارُهُ
وَيَمِيلُ إِلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا نَحْوُ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِلَافٌ فِي مباح ليس شي مِنْهُ عَلَى
الْوُجُوبِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ
مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ تَضَمَّنَهَا
قَوْلُهُ عز وجل" وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة:
43]. وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ
عِنْدَ قوله تعالى" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" «2» [البقرة:
238]. وَيَأْتِي هُنَاكَ حُكْمُ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَيَأْتِي فِي" آلِ
عِمْرَانَ" «3» حُكْمُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْإِمَامِ
وَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ" «4» فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ حُكْمُ
الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ"
مَرْيَمَ" «5» حُكْمُ الْإِمَامِ يُصَلِّي أَرْفَعَ مِنَ
الْمَأْمُومِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْقَاتِ
وَالْأَذَانِ وَالْمَسَاجِدِ وَهَذَا كُلُّهُ بَيَانٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي أَوَّلِ السُّورَةِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِهَا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذلك.
[سورة البقرة (2): آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
فيه تسع مسائل:
__________
(1). الزيادة عن مسلم.
(2). راجع ج 3 ص 213.
(3). راجع ج 4 ص 311.
(4). راجع ج 5 ص 351.
(5). راجع ج 11 ص 85
(1/364)
الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) هَذَا استفهام معناه
التَّوْبِيخِ وَالْمُرَادُ فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
عُلَمَاءُ الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَهُودُ
الْمَدِينَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لِصِهْرِهِ وَلِذِي
قَرَابَتِهِ وَلِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ اثْبُتْ عَلَى الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا
يَأْمُرُكَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ فَكَانُوا
يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانَ الْأَحْبَارُ يَأْمُرُونَ
مُقَلِّدِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ
وَكَانُوا يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ
كَانَ الْأَحْبَارُ يحضون في طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانُوا هُمْ
يُوَاقِعُونَ الْمَعَاصِيَ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانُوا
يَحُضُّونَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ الْمَعْنَى
أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ
تُخَالِفُونَ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا! الثَّانِيَةُ- فِي
شِدَّةِ عَذَابِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ رَوَى حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى نَاسٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ
بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ
هَؤُلَاءِ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ
الدُّنْيَا «1» يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ
أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا
يَعْقِلُونَ) وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ
يَجُرُّونَ قَصَبَهُمْ «2» فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُقَالُ
لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ كُنَّا
نَأْمُرُ النَّاسَ بِالْخَيْرِ وَنَنْسَى أَنْفُسَنَا).
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ، لِأَنَّ
فِي سَنَدِهِ الْخَصِيبَ بْنَ جَحْدَرٍ كَانَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ يَسْتَضْعِفُهُ وَكَذَلِكَ ابْنُ مَعِينٍ يَرْوِيهِ
عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ
عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ وَأَبُو غَالِبٍ هُوَ فِيمَا حَكَى
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَزَوَّرُ الْقُرَشِيُّ مَوْلَى خَالِدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن أَسِيدٍ وَقِيلَ: مَوْلَى بَاهِلَةَ
وَقِيلَ: مَوْلَى عَبْدِ الرحمن الحضرمي كان يختلف إلى
__________
(1). كذا في مسند الامام أحمد بن حنبل (ج 3 ص 120) وتفسير
الفخر الرازي (ج 1 ص 496). وفي الأصول: (من أمتك).
(2). سيأتي معنى (القصب). [ ..... ]
(1/365)
الشَّامِ فِي تِجَارَتِهِ. قَالَ يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ: هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ فَقَدْ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ
بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ
[بِالرَّحَى] «1» فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ
فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ [تَكُنْ] «2»
تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ
بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ
وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. الْقُصْبُ (بِضَمِّ
الْقَافِ) الْمِعَى وَجَمْعُهُ أَقْصَابٌ. وَالْأَقْتَابُ:
الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قِتْبٌ. وَمَعْنَى" فَتَنْدَلِقُ":
فَتَخْرُجُ بِسُرْعَةٍ. وَرُوِّينَا" فَتَنْفَلِقُ". قُلْتُ:
فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ
عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ
وَبِالْمُنْكَرِ وَبِوُجُوبِ الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشَدُّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَإِنَّمَا
ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَهِينِ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى وَمُسْتَخِفٍّ بِأَحْكَامِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا
يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ).
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. الثَّالِثَةُ- اعْلَمْ
وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ
بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ
بِالْبِرِّ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ
قَوْمًا كَانُوا يَأْمُرُونَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَا
يَعْمَلُونَ بِهَا وَبَّخَهُمْ بِهِ تَوْبِيخًا يُتْلَى عَلَى
طُولِ الدَّهْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ"
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" الْآيَةَ. وَقَالَ
مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ فَأَحْسَنَ:
إِنَّ قَوْمًا يَأْمُرُونَا ... بِالَّذِي لَا يَفْعَلُونَا
لَمَجَانِينٌ وَإِنْ هُمْ ... لَمْ يَكُونُوا يُصْرَعُونَا
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقًى ... وَرِيحُ
الْخَطَايَا مِنْ ثيابك تسطع
__________
(1). الزيادة من صحيح مسلم.
(2). الزيادة من صحيح مسلم.
(1/366)
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ
عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِنِ
انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ
مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ أَبِي
عُثْمَانَ الْحِيرِيِّ الزَّاهِدِ فَخَرَجَ وَقَعَدَ عَلَى
مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ يَقْعُدُ عَلَيْهِ لِلتَّذْكِيرِ،
فَسَكَتَ حَتَّى طَالَ سُكُوتُهُ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ كَانَ
يُعْرَفُ بِأَبِي الْعَبَّاسِ: تَرَى أَنْ تَقُولَ فِي
سُكُوتِكَ شَيْئًا؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ
يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ
قَالَ: فَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ وَالضَّجِيجِ.
الرَّابِعَةُ- قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنِّي
لَأَكْرَهُ الْقَصَصَ لِثَلَاثِ آيَاتٍ، قَوْلِهِ تَعَالَى:"
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" [البقرة: 44] الْآيَةَ،
وَقَوْلِهِ:" لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" «1» [الصف:
2]، وَقَوْلِهِ:" وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا
أَنْهاكُمْ عَنْهُ" «2» [هود: 88]. وَقَالَ سَلْمُ بْنُ
عَمْرٍو «3»:
مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ ... يُزَهِّدُ
النَّاسَ وَلَا يَزْهَدُ
لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا ... أَضْحَى وَأَمْسَى
بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ
إِنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ ... يَسْتَمْنِحُ
النَّاسَ وَيَسْتَرْفِدُ
وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى ... يَنَالُهُ «4»
الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ
وَقَالَ الْحَسَنُ لِمُطِّرِفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: عِظْ
أَصْحَابَكَ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا
أَفْعَلُ، قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا
يَقُولُ! وَيَوَدُّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا،
فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ
مُنْكَرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَوْ
كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى
عَنِ الْمُنْكَرِ حتى لا يكون فيه شي، ما أمر
__________
(1). راجع ج 18 ص 77.
(2). راجع ج 9 ص 89.
(3). كذا في الأصول. والصحيح أن الأبيات للجماز، وهو ابن أخت
سلم بن عمرو الخاسر. يراجع الأغاني (ج 4 ص 76) طبع دار الكتب
المصرية.
(4). كذا في الأغاني. وفي الأصول: (يسعى له).
(1/367)
أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ
مُنْكَرٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ
فِيهِ «1» شي!. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِالْبِرِّ)
الْبِرُّ هُنَا الطَّاعَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَالْبِرُّ: الصِّدْقُ. وَالْبِرُّ: وَلَدُ الثَّعْلَبِ.
وَالْبِرُّ: سَوْقُ الْغَنَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:" لَا
يَعْرِفُ هِرًّا مِنْ بِرٍّ" أَيْ لَا يَعْرِفُ دُعَاءَ
الْغَنَمِ مِنْ سَوْقِهَا. فَهُوَ مُشْتَرَكٌ، وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
لَا هُمَّ رَبِّ إِنَّ بِكْرًا «2» دُونَكَا ... يَبَرُّكَ
النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا
أَرَادَ بِقَوْلِهِ" يَبَرُّكَ النَّاسُ": أَيْ يُطِيعُونَكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْبِرَّ الْفُؤَادُ فِي قَوْلِهِ:
أَكُونُ مَكَانَ الْبِرِّ مِنْهُ وَدُونَهُ «3» ... وَأَجْعَلُ
مَالِي دُونَهُ وَأُوَامِرُهُ
وَالْبُرُّ (بِضَمِّ الْبَاءِ) مَعْرُوفٌ، وَ (بِفَتْحِهَا)
الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ، وَمِنْهُ وَلَدٌ بَرٌّ وَبَارٌّ،
أَيْ يُعَظِّمُ وَالِدَيْهِ وَيُكْرِمُهُمَا. السَّادِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أَيْ
تَتْرُكُونَ. وَالنِّسْيَانُ (بِكَسْرِ النُّونِ) يَكُونُ
بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي قوله
تعالى:" نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" «4» [التوبة: 67]،
وقوله:" فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ" «5» [الانعام:
44]، وقوله:" وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" «6»
[البقرة: 237]. وَيَكُونُ خِلَافَ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ).
وَسَيَأْتِي. يُقَالُ: رَجُلٌ نَسْيَانٌ (بِفَتْحِ النُّونِ):
كَثِيرُ النِّسْيَانِ لِلشَّيْءِ. وَقَدْ نَسِيتُ الشَّيْءَ
نِسْيَانًا، وَلَا تَقُلْ نَسَيَانًا (بِالتَّحْرِيكِ)،
لِأَنَّ النَّسَيَانَ إِنَّمَا هُوَ تَثْنِيَةُ نَسَا
الْعِرْقِ. وَأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، جَمْعُ قِلَّةٍ.
وَالنَّفْسُ: الرُّوحُ، يُقَالُ: خَرَجَتْ نَفْسُهُ، قَالَ
أَبُو خِرَاشٍ:
نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ
يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا
أَيْ بِجَفْنِ سَيْفٍ وَمِئْزَرٍ. وَمِنَ الدليل في أَنَّ
النَّفْسَ الرُّوحُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" «7» [الزمر: 42] يُرِيدُ
الْأَرْوَاحَ فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التأويل على ما
يأتي. وذلك
__________
(1). في نسخة: (عليه).
(2). كذا في البحر المحيط لابي حيان. وفي الأصول: (بكوا)
بالواو. وفي تفسير الشوكاني: (إن يكونوا).
(3). كذا في الأصول واللسان مادة (برر). وفي شرح القاموس: يكون
مكان البر مني ودونه
(4). راجع ج 8 ص 199.
(5). راجع ج 6 ص 426.
(6). راجع ج 3 ص 208.
(7). راجع ج 15 ص 260
(1/368)
بَيِّنٌ فِي قَوْلِ بِلَالٍ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ:
أَخَذَ بِنَفْسِي يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَ
بِنَفْسِكَ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا
وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا).
رَوَاهُمَا مَالِكٌ وَهُوَ أَوْلَى مَا يُقَالُ بِهِ.
وَالنَّفْسُ أَيْضًا الدَّمُ يُقَالُ سَالَتْ نَفْسُهُ قَالَ
الشَّاعِرُ «1»:
تسيل على حد السيوف «2» نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى
غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ
سَائِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ
فِيهِ. وَالنَّفْسُ أَيْضًا الْجَسَدُ قَالَ الشَّاعِرُ «3»:
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ... أَبْيَاتَهُمْ
تَامُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ
وَالتَّامُورُ أَيْضًا: الدَّمُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ
لِمَنْ فَهِمَ." وتَتْلُونَ": تَقْرَءُونَ." الْكِتابَ":
التَّوْرَاةَ. وَكَذَا مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ كَانَ
مِثْلَهُمْ وَأَصْلُ التِّلَاوَةِ الِاتِّبَاعُ وَلِذَلِكَ
اسْتُعْمِلَ فِي الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ يُتْبِعُ بَعْضَ
الْكَلَامِ بِبَعْضٍ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى
نَسَقِهِ يُقَالُ: تَلَوْتُهُ إِذَا تَبِعْتُهُ تُلُوًّا
وَتَلَوْتُ الْقُرْآنَ تِلَاوَةً. وَتَلَوْتُ الرَّجُلَ
تُلُوًّا إِذَا خَذَلْتُهُ. وَالتَّلِيَّةُ وَالتُّلَاوَةُ
(بِضَمِّ التَّاءِ): الْبَقِيَّةُ يُقَالُ: تَلِيَتْ لِي مِنْ
حَقِّي تُلَاوَةٌ وَتَلِيَّةٌ أَيْ بَقِيَتْ. وَأَتْلَيْتُ:
أَبْقَيْتُ. وَتَتَلَّيْتُ حَقِّي إِذَا تَتَبَّعْتُهُ حَتَّى
تَسْتَوْفِيَهُ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَلَّى الرَّجُلُ إِذَا
كَانَ بِآخِرِ رمق. الثامنة- قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)
أَيْ أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ
هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ لَكُمْ. وَالْعَقْلُ: الْمَنْعُ
وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ
الْحَرَكَةِ وَمِنْهُ الْعَقْلُ لِلدِّيَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ
وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَنْ قَتْلِ الْجَانِي وَمِنْهُ
اعْتِقَالُ الْبَطْنِ وَاللِّسَانِ وَمِنْهُ يُقَالُ
لِلْحِصْنِ: مَعْقِلٌ. وَالْعَقْلُ. نَقِيضُ الْجَهْلِ
وَالْعَقْلُ ثَوْبٌ أَحْمَرُ تَتَّخِذُهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ
تُغَشِّي بِهِ الْهَوَادِجُ قَالَ عَلْقَمَةُ:
عَقْلًا وَرَقْمًا تَكَادُ الطَّيْرُ تَخْطَفُهُ ... كَأَنَّهُ
مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ
__________
(1). هو السموأل. [ ..... ]
(2). في اللسان: (حد الظبات).
(3). هو أوس بن حجر يحرض عمرو بن هند على بني حنيفة وهم قتلة
أبيه المنذر بن ماء السماء. أي حملوا دمه إلى أبياتهم. (عن
اللسان).
(1/369)
الْمَدْمُومُ (بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ)
الْأَحْمَرُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَدْمُومُ
الْمُمْتَلِئُ شَحْمًا مِنَ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ وَيُقَالُ:
هُمَا ضَرْبَانِ مِنَ الْبُرُودِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ:
وَالْعَقْلُ مِنْ شِيَاتِ الثِّيَابِ مَا كَانَ نَقْشُهُ
طُولًا وَمَا كَانَ نَقْشُهُ مُسْتَدِيرًا فَهُوَ الرَّقْمُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَاقِلُ مَنْ عَمِلَ بِمَا أَوْجَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهُوَ جَاهِلٌ.
التَّاسِعَةُ- اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ
كَائِنٌ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَلَا مَعْدُومٍ لِأَنَّهُ
لو كان معدوما لما اختص بالإنصاف بِهِ بَعْضُ الذَّوَاتِ دُونَ
بَعْضٍ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُ فَيَسْتَحِيلُ الْقَوْلُ
بِقِدَمِهِ، إِذِ الدَّلِيلُ قَدْ قَامَ عَلَى أَنْ لَا
قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَقَدْ صَارَتِ الْفَلَاسِفَةُ إِلَى أَنَّ
الْعَقْلَ قَدِيمٌ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ صَارَ إِلَى أَنَّهُ
جَوْهَرٌ لَطِيفٌ فِي الْبَدَنِ يَنْبَثُّ شُعَاعُهُ مِنْهُ
بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ فِي الْبَيْتِ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ
حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ
جَوْهَرٌ بَسِيطٌ أَيْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا
فِي مَحَلِّهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَحَلَّهُ
الدِّمَاغُ لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى مَحَلَّهُ الْقَلْبُ لِأَنَّ الْقَلْبَ
مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ. وَهَذَا
الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ فَاسِدٌ مِنْ
حَيْثُ إِنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ كَانَ
جَوْهَرٌ عَقْلًا لَكَانَ كُلُّ جَوْهَرٍ عَقْلًا. وَقِيلَ:
إِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمُدْرِكُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا
هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعَانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ
وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ فَيَبْعُدُ عَنِ
الصَّوَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ
الْحَيِّ وَالْعَقْلُ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا
يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَذًّا وَمُشْتَهِيًا وَقَالَ
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الأشعري والأستاذ أبو إسحاق
الاسفرايني وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْعَقْلُ هُوَ
الْعِلْمُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ عَقَلْتُ وَمَا
عَلِمْتُ أَوْ عَلِمْتُ وَمَا عَقَلْتُ وَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرٍ الْعَقْلُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِوُجُوبِ
الْوَاجِبَاتِ وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ وَاسْتِحَالَةِ
الْمُسْتَحِيلَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْمَعَالِي فِي
الْإِرْشَادِ وَاخْتَارَ فِي الْبُرْهَانِ أَنَّهُ صِفَةٌ
يَتَأَتَّى بِهَا دَرْكُ الْعُلُومِ وَاعْتَرَضَ عَلَى
مَذْهَبِ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ
وَحُكِيَ فِي الْبُرْهَانِ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ
الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ وَحَكَى الأستاذ
(1/370)
وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45)
أَبُو بَكْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْعَقْلُ
آلَةُ التَّمْيِيزِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ
الْقَلَانِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ قُوَّةُ التَّمْيِيزِ
وَحُكِيَ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ
أَنْوَارٌ وَبَصَائِرُ ثُمَّ رَتَّبَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ
وَحَمَلَهَا عَلَى مَحَامِلَ فَقَالَ وَالْأَوْلَى أَلَّا
يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنِ ابْنِ
مُجَاهِدٍ فَإِنَّ الْآلَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي
الْآلَةِ الْمُثْبَتَةِ «1» وَاسْتِعْمَالُهَا فِي
الْأَعْرَاضِ مَجَازٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ
قُوَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَّا
الْقُدْرَةُ وَالْقَلَانِسِيُّ أَطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ
تَوَسُّعًا فِي الْعِبَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُحَاسِبِيُّ.
وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِصُورَةٍ وَلَا نُورٍ وَلَكِنْ
تُسْتَفَادُ بِهِ الْأَنْوَارُ وَالْبَصَائِرُ وَسَيَأْتِي فِي
هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ فَائِدَتِهِ فِي آيَةِ «2»
التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 45]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصَّبْرُ:
الْحَبْسُ فِي اللُّغَةِ وَقُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا أَيْ
أُمْسِكَ وَحُبِسَ حَتَّى أُتْلِفَ وَصَبَّرْتُ نَفْسِي عَلَى
الشَّيْءِ حَبَسْتُهَا. وَالْمَصْبُورَةُ الَّتِي نُهِيَ
عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ عَلَى الْمَوْتِ
وَهِيَ الْمُجَثَّمَةُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا
نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
الثَّانِيَةُ- أَمَرَ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ
وَعَنِ الْمُخَالَفَةِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ" وَاصْبِرُوا"
يُقَالُ فُلَانٌ صَابِرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِذَا صَبَرَ عَنِ
الْمَعَاصِي فَقَدْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ هَذَا أَصَحُّ مَا
قِيلَ قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُقَالُ لِمَنْ صَبَرَ عَلَى
الْمُصِيبَةِ: صَابِرٌ إِنَّمَا يُقَالُ صَابِرٌ عَلَى كَذَا.
فَإِذَا قُلْتَ صَابِرٌ مُطْلَقًا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» " [الزمر: 10] الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالصَّلاةِ" خَصَّ الصَّلَاةَ
بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ تَنْوِيهًا
بِذِكْرِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا حَزَبَهُ «4»
أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ
__________
(1). في بعض نسخ الأصل: (في الآلة المبنية).
(2). راجع ج 2 ص 191.
(3). راجع ج 15 ص 24.
(4). حزبه: أي نزل به مهم أو أصابه غم.
(1/371)
ابن عَبَّاسٍ نُعِيَ لَهُ أَخُوهُ قُثَمُ-
وَقِيلَ بِنْتٌ لَهُ- وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَاسْتَرْجَعَ
وَقَالَ: عَوْرَةٌ سترها الله، ومئونة كَفَاهَا اللَّهُ،
وَأَجْرٌ سَاقَهُ اللَّهُ. ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ
وَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ:"
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ" (فَالصَّلَاةُ عَلَى
هَذَا التَّأْوِيلِ هِيَ الشَّرْعِيَّةُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ
الدُّعَاءُ عَلَى عُرْفِهَا فِي اللُّغَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ
عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُشْبِهَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى"
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ"
[الأنفال 45] لِأَنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الصَّبْرُ وَالذِّكْرَ
هُوَ الدُّعَاءُ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الصَّوْمُ وَمِنْهُ قِيلَ لِرَمَضَانَ
شَهْرُ الصَّبْرِ فَجَاءَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ الصِّيَامَ
يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا
وَالصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَتَخَشُّعٌ وَيُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ الَّذِي يُذَكِّرُ
الْآخِرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- الصَّبْرُ عَلَى
الْأَذَى وَالطَّاعَاتِ مِنْ بَابِ جِهَادِ النَّفْسِ
وَقَمْعِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ تَطَاوُلِهَا
وَهُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ
يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ الصَّبْرُ أَلَّا تَتَمَنَّى حَالَةً
سِوَى مَا رَزَقَكَ اللَّهُ وَالرِّضَا بِمَا قَضَى اللَّهُ
مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّبْرُ مِنَ
الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ قَالَ
الطَّبَرِيُّ وَصَدَقَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَلِكَ
أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ
بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ
عَلَى الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِيمَانَ
بِالْإِطْلَاقِ. فَالصَّبْرُ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ
نَظِيرُ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي لَا
تَمَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ. الْخَامِسَةُ- وَصَفَ اللَّهُ
تَعَالَى جَزَاءَ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ لَهَا نِهَايَةً
وَحَدًّا فَقَالَ" مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها" «1» [الانعام 160] وَجَعَلَ جَزَاءَ الصَّدَقَةِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوْقَ هَذَا فَقَالَ" مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ" «2» [البقرة: 261] الْآيَةَ. وَجَعَلَ أَجْرَ
الصَّابِرِينَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمَدَحَ أَهْلَهُ فَقَالَ"
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ
" [الزمر: 10] وَقَالَ" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" «3» [الشورى: 43] وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّابِرِينَ فِي قَوْلِهِ" إِنَّما
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ" [الزمر: 10] أَيِ الصَّائِمُونَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصِّيَامُ لِي وَأَنَا
أَجْزِي بِهِ) فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا مُقَدَّرًا كَمَا لَمْ
يَذْكُرْهُ فِي الصَّبْرِ. وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). راجع ج 7 ص 150.
(2). راجع ج 3 ص 302.
(3). راجع ج 16 ص 44.
(1/372)
السَّادِسَةُ- مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ
وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ
أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ (ليس أحد أو ليس شي أَصْبَرَ عَلَى أَذًى
سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ
وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى
بِالصَّبْرِ إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْحِلْمِ وَمَعْنَى
وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِلْمِ هُوَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ
عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ
لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ
أَبِي مُوسَى وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ
الْحِلْمِ قَالَهُ ابْنُ فُورَكَ وَغَيْرُهُ. وَجَاءَ فِي
أَسْمَائِهِ" الصَّبُورُ" لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحِلْمِ
عَمَّنْ عَصَاهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) اخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي عَوْدِ
الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:" وَإِنَّها"، فَقِيلَ: عَلَى
الصَّلَاةِ وَحْدَهَا خَاصَّةً لِأَنَّهَا تَكْبُرُ عَلَى
النُّفُوسِ مَا لَا يَكْبُرُ الصَّوْمُ وَالصَّبْرُ هُنَا:
الصَّوْمُ فَالصَّلَاةُ فِيهَا سِجْنُ النُّفُوسِ وَالصَّوْمُ
إِنَّمَا فِيهِ مَنْعُ الشَّهْوَةِ فَلَيْسَ مَنْ مَنَعَ
شَهْوَةً وَاحِدَةً أَوْ شَهْوَتَيْنِ كَمَنْ مَنَعَ جَمِيعَ
الشَّهَوَاتِ. فَالصَّائِمُ إِنَّمَا مَنَعَ شَهْوَةَ
النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثُمَّ يَنْبَسِطُ فِي
سَائِرِ الشَّهَوَاتِ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَشْيِ وَالنَّظَرِ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُلَاقَاةِ الْخَلْقِ فَيَتَسَلَّى
بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَمَّا مُنِعَ. وَالْمُصَلِّي
يَمْتَنِعُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَجَوَارِحُهُ كُلُّهَا
مُقَيَّدَةٌ بِالصَّلَاةِ عَنْ جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ. وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَصْعَبَ عَلَى النَّفْسِ
وَمُكَابَدَتُهَا أَشَدَّ فَلِذَلِكَ قَالَ" وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ" وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ
الْأَغْلَبِ وَهُوَ الصَّلَاةُ كَقَوْلِهِ" وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي
سَبِيلِ اللَّهِ" «1» [التوبة: 34] وَقَوْلُهُ:" وَإِذا
رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها" «2»
[الجمعة: 11] فَرَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْفِضَّةِ
لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ وَالْأَعَمُّ وَإِلَى التِّجَارَةِ
لِأَنَّهَا الْأَفْضَلُ وَالْأَهَمُّ وَقِيلَ: إِنَّ الصبر لما
كان داخل فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ"
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ" «3» [التوبة:
62] وَلَمْ يَقُلْ: يُرْضُوهُمَا لِأَنَّ رِضَا الرَّسُولِ
دَاخِلٌ في رضا الله عز وجل ومنه قول الشاعر «4»:
إن شرخ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْ ... وَدَ مَا لَمْ
يُعَاصَ كان جنونا
__________
(1). راجع ج 8 ص 123 و127.
(2). راجع ج 18 ص 109.
(3). راجع ج 8 ص 193.
(4). هو حسان بن ثابت.
(1/373)
وَلَمْ يَقُلْ يُعَاصَيَا رَدٌّ إِلَى
الشَّبَابِ لِأَنَّ الشَّعْرَ دَاخِلٌ فِيهِ. وَقِيلَ: رَدَّ
الْكِنَايَةَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ حُذِفَ
اخْتِصَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» " [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين
ومنه قول الشاعر «2»:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي
وَقَيَّارٌ بها لغريب
وقال آخر «3»:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالصُّبْحُ
وَالْمُسْيُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ
أَرَادَ: لَغَرِيبَانِ، لَا فَلَاحَ معهم وَقِيلَ: عَلَى
الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ
الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ وَهِيَ
الِاسْتِعَانَةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا قَوْلُهُ"
وَاسْتَعِينُوا" وَقِيلَ عَلَى إِجَابَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ وَقِيلَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ
بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهَا" وَكَبِيرَةٌ" مَعْنَاهُ
ثَقِيلَةٌ شَاقَّةٌ خَبَرُ" إِنَّ" وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ
الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَكَبِيرَةٌ" إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ" فَإِنَّهَا خَفِيفَةٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ
أَرْبَابُ الْمَعَانِي إِلَّا عَلَى مَنْ أُيِّدَ فِي
الْأَزَلِ بِخَصَائِصِ الِاجْتِبَاءِ وَالْهُدَى.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى الْخاشِعِينَ)
الْخَاشِعُونَ جَمْعُ خَاشِعٍ وَهُوَ الْمُتَوَاضِعُ.
وَالْخُشُوعُ: هَيْئَةٌ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي
الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ الْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ
فِي الصَّلَاةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى
أَثَرُ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ كَخُشُوعِ الدَّارِ
بَعْدَ الْإِقْوَاءِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ قَالَ النَّابِغَةُ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ ... وَنُؤْيٌ
كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
وَمَكَانٌ خَاشِعٌ: لَا يُهْتَدَى لَهُ. وَخَشَعَتِ
الْأَصْوَاتُ أَيْ سَكَنَتْ. وَخَشَعَتْ خَرَاشِيُّ صَدْرِهِ
إِذَا أَلْقَى بُصَاقًا لَزِجًا. وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ إِذَا
غَضَّهُ. وَالْخُشْعَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ رَخْوَةٌ
وَفِي الْحَدِيثِ: (كَانَتْ خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ
دُحِيَتْ بَعْدُ «4» وَبَلْدَةٌ خَاشِعَةٌ: مُغْبَرَّةٌ لَا
مَنْزِلَ
__________
(1). راجع ج 12 ص 126. [ ..... ]
(2). هو ضابئ البرجمي كما في اللسان مادة (قير) والكامل للمبرد
(ج 1 ص 181 طبع أوربا.
(3). هو الأضبط بن قريع السعدي عن اللسان مادة (مسا).
(4). الذي في نهاية ابن الأثير مادة (خشع): (كانت الكعبة خشعة
على الماء فدحيت منها الأرض).
(1/374)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
(46)
بِهَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ عَنِ الْخُشُوعِ فَقَالَ يَا ثَوْرِيُّ
أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَلَا
تَعْرِفُ الْخُشُوعَ! سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ عَنِ
الْخُشُوعِ فَقَالَ: أُعَيْمِشُ! تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
إِمَامًا لِلنَّاسِ وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ! لَيْسَ
الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْخَشِنِ وَلُبْسِ الْخَشِنِ
وَتَطَأْطُؤِ الرَّأْسِ! لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى
الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً وَتَخْشَعُ
لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ افْتُرِضَ عَلَيْكَ وَنَظَرَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى شَابٍّ قَدْ نَكَسَ رَأْسَهُ فَقَالَ
يَا هَذَا! ارْفَعْ رَأَسَكَ فَإِنَّ الْخُشُوعَ لَا يَزِيدُ
عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ كَفَّيْكَ
لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَأَلَّا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِكَ.
وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ" «1» [المؤمنون: 2 - 1] فَمَنْ أَظْهَرَ
لِلنَّاسِ خُشُوعًا فَوْقَ مَا فِي قلبه فإنما أظهر نفاقا علو
نِفَاقٍ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يَكُونُ
خَاشِعًا حَتَّى تَخْشَعَ كُلُّ شَعْرَةٍ عَلَى جَسَدِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ" «2» [الزمر: 23].
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْخُشُوعُ الْمَحْمُودُ لِأَنَّ الْخَوْفَ
إِذَا سَكَنَ الْقَلْبَ أَوْجَبَ خُشُوعَ الظَّاهِرِ فَلَا
يَمْلِكُ صَاحِبُهُ دَفْعَهُ فَتَرَاهُ مُطْرِقًا مُتَأَدِّبًا
مُتَذَلِّلًا وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَجْتَهِدُونَ فِي سَتْرِ
مَا يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَذْمُومُ فَتَكَلُّفُهُ
وَالتَّبَاكِي وَمُطَأْطَأَةُ الرَّأْسِ كَمَا يَفْعَلُهُ
الْجُهَّالُ لِيُرَوْا بِعَيْنِ الْبِرِّ وَالْإِجْلَالِ
وَذَلِكَ خَدْعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلٌ مِنْ نَفْسِ
الْإِنْسَانِ. رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَجُلًا تَنَفَّسَ عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَأَنَّهُ يَتَحَازَنُ فَلَكَزَهُ
عُمَرُ أَوْ قَالَ لَكَمَهُ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ وَإِذَا مَشَى أَسْرَعَ
وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ وَكَانَ نَاسِكًا صِدْقًا وَخَاشِعًا
حَقًّا وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ
الْخَاشِعُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.
[سورة البقرة (2): آية 46]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) " الَّذِينَ" فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ لِلْخَاشِعِينَ، وَيَجُوزُ
الرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ. وَالظَّنُّ هُنَا فِي قَوْلِ
الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى"
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ" «3» [الحاقة: 20]
وقوله:" فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها" «4» [الكهف: 53].
قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي
المسرد
__________
(1). راجع ج 12 ص 102.
(2). راجع ج 15 ص 248.
(3). راجع ج 18 ص 270.
(4). راجع ج 11 ص 3
(1/375)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ:
رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ ... وَغُيُوبٍ كَشَفْتَهَا
بِظُنُونِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ فِي الْآيَةِ يَصِحُّ أَنْ
يَكُونَ عَلَى بَابِهِ وَيُضْمَرُ فِي الْكَلَامِ
بِذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَهُ
مُذْنِبِينَ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَعَسُّفٌ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ
أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَقَعُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ وَلَا
يَعْرِفُ ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ. وَأَصْلُ الظَّنِّ
وَقَاعِدَتُهُ الشَّكُّ مَعَ مَيْلٍ إِلَى أَحَدِ
مُعْتَقَدَيْهِ وَقَدْ يُوقَعُ مَوْقِعَ الْيَقِينِ كَمَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّهُ لَا يُوقَعُ فِيمَا
قَدْ خَرَجَ إِلَى الْحِسِّ لَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ
مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا وَإِنَّمَا تَجِدُ
الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إلى الحس بمعنى كَهَذِهِ
الْآيَةِ وَالشِّعْرِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى" فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مُواقِعُوها" وقد يجئ الْيَقِينُ بِمَعْنَى الظَّنِّ
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ وَتَقُولُ
سُؤْتُ بِهِ ظَنًّا وَأَسَأْتُ بِهِ الظَّنَّ يُدْخِلُونَ
الْأَلِفَ إِذَا جَاءُوا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. ومعنى
(مُلاقُوا رَبِّهِمْ) جَزَاءَ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: جَاءَ عَلَى
الْمُفَاعَلَةِ وَهُوَ مِنْ وَاحِدٍ، مِثْلَ عَافَاهُ اللَّهُ.
(وَأَنَّهُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ
وَيَجُوزُ" وَإِنَّهُمْ" بِكَسْرِهَا عَلَى الْقَطْعِ.
(إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى رَبِّهِمْ وَقِيلَ إِلَى جَزَائِهِ.
(راجِعُونَ) إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ والعرض على
الملك الأعلى.
[سورة البقرة (2): آية 47]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) تقدم «1» و
(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) يُرِيدُ عَلَى
عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَأَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ عَالَمٌ.
وَقِيلَ: عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ بِمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.
[سورة البقرة (2): آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
__________
(1). راجع ص 330 من هذا الجزء.
(1/376)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا يَوْماً
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أَمْرٌ مَعْنَاهُ
الْوَعِيدُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي التَّقْوَى «1»."
يَوْماً" يُرِيدُ عَذَابَهُ وَهَوْلَهُ وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ. وَانْتَصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِ"- اتَّقُوا"
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ يَوْمَ لَا تَجْزِي عَلَى
الْإِضَافَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ
فِيهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّقْدِيرُ
يَوْمًا لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئا ثم حذف فيه
كما قال:
يوما شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا «2»
أَيْ شَهِدْنَا فِيهِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هَذَا خَطَأٌ لَا
يَجُوزُ حَذْفُ" فِيهِ" وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ وَاتَّقُوا
يَوْمًا لَا تَجْزِيهِ نَفْسٌ ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ
وَإِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُ الْهَاءِ لِأَنَّ الظُّرُوفَ
عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ
تَقُولَ هَذَا رَجُلًا قَصَدْتُ وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا
أَرْغَبُ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ
قَالَ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الَّذِي تَكَلَّمْتُ زَيْدٌ
بِمَعْنَى تَكَلَّمْتُ فِيهِ زَيْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ
يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ الْهَاءُ وَفِيهِ وَحَكَى
الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَائِزَانِ عِنْدَ سيبويه
والأخفش والزجاج وَمَعْنَى" لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً": أَيْ لَا تُؤَاخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ أُخْرَى وَلَا
تَدْفَعُ عَنْهَا شَيْئًا تَقُولُ جَزَى عَنِّي هَذَا
الْأَمْرُ يَجْزِي كَمَا تَقُولُ قَضَى عَنِّي وَاجْتَزَأْتُ
بِالشَّيْءِ اجْتِزَاءً إِذَا اكْتَفَيْتُ بِهِ قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الْغَدْرَ فِي الْأَقْوَامِ عَارٌ ... وَإِنَّ
الْحُرَّ يَجْزَأُ بِالْكُرَاعِ
أَيْ يَكْتَفِي بِهَا. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ (إِذَا أَجْرَيْتُ
الْمَاءَ عَلَى الْمَاءِ جَزَى عَنْكَ) يُرِيدُ إِذَا صَبَبْتَ
الْمَاءَ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْأَرْضِ فَجَرَى عَلَيْهِ
طَهُرَ الْمَكَانُ وَلَا حَاجَةَ بِكَ إِلَى غَسْلِ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ وَتَنْشِيفِ الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا
كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَفِي صَحِيحِ
الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ فِي
الْأُضْحِيَّةِ: (لَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) أَيْ
لَنْ تُغْنِيَ فَمَعْنَى لَا تَجْزِي: لَا تَقْضِي وَلَا
تُغْنِي وَلَا تكفي إن لم يكن عليها شي فإن كان فإنها تجزي
وتقضي وتغني
__________
(1). راجع ص 161 من هذا الجزء.
(2). سليم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان
(1/377)
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا مِنْ حَسَنَاتِهَا
مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ
مِنْ عِرْضِهِ أو شي فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ
قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ
لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ
صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ (. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ فِي الْمُفْلِسِ وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ فِي التَّذْكِرَةِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «1». وقرى"
تُجْزِئُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَالْهَمْزِ. وَيُقَالُ: جَزَى
وَأَجْزَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
قَوْمٌ فَقَالُوا جَزَى بِمَعْنَى قَضَى وَكَافَأَ وَأَجْزَى
بِمَعْنَى أَغْنَى وَكَفَى أَجْزَأَنِي الشَّيْءُ يُجْزِئُنِي
أَيْ كَفَانِي قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَجْزَأْتَ أَمْرَ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ ...
لِيُجْزِئَ إِلَّا كَامِلٌ وَابْنُ كَامِلِ
الثَّالِثَةُ «2» - قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
شَفاعَةٌ) الشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ وَهُمَا
الِاثْنَانِ تَقُولُ كَانَ وَتْرًا فَشَفَعْتُهُ شَفْعًا
وَالشُّفْعَةُ مِنْهُ لِأَنَّكَ تَضُمُّ مِلْكَ شَرِيكِكَ
إِلَى مِلْكِكَ. وَالشَّفِيعُ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ وَصَاحِبُ
الشَّفَاعَةِ وَنَاقَةٌ شَافِعٌ إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا حَمْلٌ
وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا تَقُولُ مِنْهُ: شَفَعَتِ النَّاقَةُ
شَفْعًا وَنَاقَةٌ شَفُوعٌ وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ
مِحْلَبَيْنِ فِي حَلَبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاسْتَشْفَعْتُهُ إِلَى
فُلَانٍ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَشْفَعَ لِي إِلَيْهِ.
وَتَشَفَّعْتُ إِلَيْهِ فِي فُلَانٍ فَشَفَّعَنِي فِيهِ
فَالشَّفَاعَةُ إِذًا ضَمُّ غَيْرِكَ إِلَى جَاهِكَ
وَوَسِيلَتِكَ فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِظْهَارٌ
لِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمُشَفَّعِ وَإِيصَالُ
مَنْفَعَتِهِ لِلْمَشْفُوعِ. الرَّابِعَةُ- مَذْهَبُ أَهْلِ
الْحَقِّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ وَأَنْكَرَهَا
الْمُعْتَزِلَةُ وَخَلَّدُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ
الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ فِي الْعَذَابِ.
وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ
الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أُمَمِ
النَّبِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمْ شَفَاعَةُ
الشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَقَدْ تَمَسَّكَ الْقَاضِي
عَلَيْهِمْ فِي الرَّدِّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا
الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ فِي
الْمَعْنَى. وَالثَّانِي الْإِجْمَاعُ مِنَ السَّلَفِ عَلَى
تَلَقِّي هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يبد من
__________
(1). راجع صحيح مسلم باب تحريم الظلم (ج 2 ص 283) طبع بولاق.
(2). يلاحظ أن جميع نسخ الأصل التي بأيدينا لم تذكر المسألة
الاولى والثانية في هذه الآية.
(1/378)
أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرٍ مِنَ
الْأَعْصَارِ نَكِيرٌ فَظُهُورُ رِوَايَتِهَا وَإِطْبَاقُهُمْ
عَلَى صِحَّتِهَا وَقَبُولُهُمْ لَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى
صِحَّةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفَسَادِ دِينِ
الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنْ قَالُوا قَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ مِنَ
الْكِتَابِ بِمَا يُوجِبُ رَدَّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِثْلُ
قَوْلِهِ" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ
يُطاعُ" [غافر: 18]. قَالُوا: وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ
ظَالِمُونَ. وَقَالَ:" مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" «1»
[النساء: 123] " وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ" [البقرة: 48]
قُلْنَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةً فِي كُلِّ ظَالِمٍ
وَالْعُمُومُ لَا صِيغَةَ لَهُ فَلَا تَعُمُّ هَذِهِ الْآيَاتُ
كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا وَكُلَّ نَفْسٍ وَإِنَّمَا
الْمُرَادُ بِهَا الْكَافِرُونَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ
بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَأَيْضًا
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ شَفَاعَةً لِأَقْوَامٍ
وَنَفَاهَا عَنْ أَقْوَامٍ فَقَالَ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ"
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ" «2» [المدثر: 48]
وقال" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " «3»
[الأنبياء: 28] وَقَالَ" وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" «4» [سبأ: 23]. فَعَلِمْنَا
بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى"
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ
" النَّفْسُ الْكَافِرَةُ لَا كُلُّ نَفْسٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ
قُلْنَا بِعُمُومِ الْعَذَابِ لِكُلِّ ظَالِمٍ عَاصٍ فَلَا
نَقُولُ إِنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ
الَّتِي رُوِّينَاهَا وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ" وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" «5» [النساء: 48] وَقَوْلِهِ"
إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ" [يوسف: 87]. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ
تَعَالَى" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى "
وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُرْتَضًى قُلْنَا لَمْ يَقُلْ لِمَنْ لَا
يَرْضَى وَإِنَّمَا قَالَ" لِمَنِ ارْتَضى " وَمَنَ ارْتَضَاهُ
اللَّهُ لِلشَّفَاعَةِ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ" لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «6» " [مريم 87]. وَقِيلَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَهْدُ
اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ قَالَ (أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَا
يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلَّا
مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قَالُوا
الْمُرْتَضَى هُوَ التَّائِبُ الَّذِي اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ
عَهْدًا بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ اسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَقَالَ" فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" [غافر: 7]
وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ التَّوْبَةِ دُونَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ
قُلْنَا: عِنْدَكُمْ يجب على الله تعالى قبول التوبة
__________
(1). راجع ج 5 ص 396.
(2). راجع ج 19 ص 86. [ ..... ]
(3). راجع ج 11 ص 281.
(4). راجع ج 14 ص 295.
(5). راجع ج 5 ص 245.
(6). راجع ج 11 ص 153
(1/379)
فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ
الْمُذْنِبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ وَلَا إِلَى
الِاسْتِغْفَارِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا" أَيْ
مِنَ الشِّرْكِ" وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" أَيْ سَبِيلَ
الْمُؤْمِنِينَ. سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ
لَهُمْ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَالَ
تَعَالَى" وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" [النساء:
48] فَإِنْ قَالُوا جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَرْغَبُونَ فِي
شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَوْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ خَاصَّةً بَطَلَ
سُؤَالُهُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَطْلُبُ كُلُّ مُسْلِمٍ
شَفَاعَةَ الرَّسُولِ وَيَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ
تَنَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ سالم من الذنوب ولا
قاسم لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ بَلْ
كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّقْصِ فَهُوَ
لِذَلِكَ يَخَافُ الْعِقَابَ وَيَرْجُو النَّجَاةَ وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا
بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي
اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ) الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
يُقْبَلُ" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" تُقْبَلُ"
بِالتَّاءِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ مُؤَنَّثَةٌ. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ لِأَنَّهَا
بِمَعْنَى الشَّفِيعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حَسُنَ
التَّذْكِيرُ لِأَنَّكَ قَدْ فَرَّقْتَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
قَوْلِهِ" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" «1»
[البقرة: 37] السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُؤْخَذُ
مِنْها عَدْلٌ) أَيْ فِدَاءٌ وَالْعَدْلُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ)
الْفِدَاءُ وَ (بِكَسْرِهَا) الْمِثْلُ يُقَالُ عِدْلٌ
وَعَدِيلٌ لِلَّذِي يُمَاثِلُكَ فِي الْوَزْنِ وَالْقَدْرِ
وَيُقَالُ عَدْلُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسَاوِيهِ قِيمَةً
وَقَدْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ وَالْعِدْلُ
(بِالْكَسْرِ) هُوَ الَّذِي يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ
وَفِي جِرْمِهِ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ
مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ فَأَمَّا
وَاحِدُ الْأَعْدَالِ فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ يُعَانُونَ.
وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ وَالْأَنْصَارُ الْأَعْوَانُ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ" «2» [آل عمران: 52]
أَيْ مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَتِي وَانْتَصَرَ
الرَّجُلُ: انْتَقَمَ وَالنَّصْرُ: الْإِتْيَانُ يُقَالُ:
نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلان أتيتها قال الشاعر «3»:
__________
(1). راجع ص 326.
(2). راجع ج 18 ص 89
(3). هو الراعي يخاطب خيلا (عن اللسان).
(1/380)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ
فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
وَالنَّصْرُ الْمَطَرُ يُقَالُ نُصِرَتِ الْأَرْضُ مُطِرَتْ
وَالنَّصْرُ الْعَطَاءُ قَالَ:
إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ
نَصْرًا نَصْرَا
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرُوا أَنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ وَسَيَشْفَعُ لَنَا آبَاؤُنَا
فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ قيه الشَّفَاعَاتُ وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ
فِدْيَةٌ. وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّفَاعَةَ وَالْفِدْيَةَ
وَالنَّصْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي
اعْتَادَهَا بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ
فِي الشِّدَّةِ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِأَنْ يشفع له أو ينصر
أو يفتدي.
[سورة البقرة (2): آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) " إِذْ"
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفٌ عَلَى" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ".
وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ تَذْكِيرٌ بِبَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي
كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي
بِإِنْجَائِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ
فِيكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمَوْجُودِينَ وَالْمُرَادُ مَنْ
سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ كَمَا قَالَ" إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ
" «1» [الحاقة: 11] أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَقِيلَ
إِنَّمَا قَالَ" نَجَّيْناكُمْ" لِأَنَّ نَجَاةَ الْآبَاءِ
كَانَتْ سَبَبًا لِنَجَاةِ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ
وَمَعْنَى" نَجَّيْناكُمْ" أَلْقَيْنَاكُمْ عَلَى نَجْوَةٍ
مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا هَذَا هُوَ
الْأَصْلُ ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ فَائِزٍ نَاجِيًا. فَالنَّاجِي
من خرج من ضيق إلى سعة وقرى" وَإِذْ نَجَّيْتُكُمْ" عَلَى
التَّوْحِيدِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ) " آلُ فِرْعَوْنَ" قَوْمُهُ وَأَتْبَاعُهُ
وَأَهْلُ دِينِهِ. وَكَذَلِكَ آلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ فِي
عَصْرِهِ وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ سَوَاءٌ كَانَ نَسِيبًا لَهُ
أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِهِ
وَمِلَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْ آلِهِ وَلَا أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ
نَسِيبَهُ وَقَرِيبَهُ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالَتْ
إِنَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فاطمة
__________
(1). راجع ج 18 ص 263
(1/381)
وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَقَطْ.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى" وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ"
[البقرة: 50] " أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ"
«1» [غافر: 46] أَيْ آلَ دِينِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ
وَلَا بِنْتٌ وَلَا أَبٌ وَلَا عَمٌّ ولا أخ ولا عصبة. ولأنه
لا خوف أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا مُوَحِّدٍ
فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا
لَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يُقَالُ إِنَّ أَبَا لَهَبٍ وَأَبَا
جَهْلٍ لَيْسَا مِنْ آلِهِ وَلَا مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي ابْنِ نُوحٍ" إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ" «2» [هود: 46]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ
[أَلَا] «3» إِنَّ آلَ أَبِي- يَعْنِي فُلَانًا «4» لَيْسُوا
[لِي] «5» بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ آلُ مُحَمَّدٍ
أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ خَاصَّةً لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ
عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَهْلُ
مَعْلُومٌ وَالْآلُ الْأَتْبَاعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ (اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَيْهِمْ) فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) الثَّالِثَةُ-
اخْتَلَفَ النُّحَاةُ هَلْ يُضَافُ الْآلُ إِلَى الْبُلْدَانِ
أَوْ لَا؟ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ إِنَّمَا يُقَالُ آلُ فُلَانٍ
وَآلُ فُلَانَةٍ وَلَا يُقَالُ فِي الْبُلْدَانِ هُوَ مِنْ آلِ
حِمْصَ وَلَا مِنْ آلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْأَخْفَشُ
إِنَّمَا يُقَالُ فِي الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ نَحْوَ آلِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِ فِرْعَوْنَ
لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ. قَالَ وَقَدْ
سَمِعْنَاهُ فِي الْبُلْدَانِ قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
__________
(1). راجع ج 15 ص 319.
(2). راجع ج 9 ص 46.
(3). الزيادة عن صحيح مسلم.
(4). قوله: يعني فلانا. وروى" ألا إن آل أبي فلان". قال
النووي: (هذه الكناية هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب
عليه مفسدة وفتنة ... قال القاضي عياض: قيل إن المكنى عنه
هاهنا هو الحكم بن أبي العاص". والحكم هذا من النفر الذين
كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في بيته. راجع سيرة ابن هشام (ج 1 ص 276) طبع أوربا.
(5). الزيادة عن صحيح مسلم.
(1/382)
الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ
أَيْضًا هَلْ يُضَافُ الْآلُ إِلَى الْمُضْمَرِ أَوْ لَا؟
فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَالزُّبَيْدِيُّ
وَالْكِسَائِيُّ فَلَا يُقَالُ إِلَّا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَلَا يُقَالُ وَآلِهِ وَالصَّوَابُ
أَنْ يُقَالَ: أَهْلِهِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى
أَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ مِنْهُمُ ابْنُ السَّيِّدِ وَهُوَ
الصَّوَابُ لِأَنَّ السَّمَاعَ الصَّحِيحَ يُعَضِّدُهُ
فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي قَوْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
لاهمّ إن العبد يمن ... ع رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ «1»
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي ... بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ
آلَكْ
وَقَالَ نُدْبَةُ:
أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي
كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا
الْحَقِيقَةُ (بِقَافَيْنِ): مَا يَحِقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ
أَنْ يَحْمِيَهُ أَيْ تَجِبُ عَلَيْهِ حِمَايَتُهُ.
الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَصْلِ آلِ فَقَالَ
النَّحَّاسُ أَصْلُهُ أَهْلٌ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْهَاءِ
أَلِفًا فَإِنْ صَغَّرْتَهُ رَدَدْتَهُ إِلَى أَصْلِهِ
فَقُلْتَ: أُهَيْلٌ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَصْلُهُ أَوْلٌ.
وَقِيلَ: أَهْلٌ قُلِبَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ أُبْدِلَتِ
الْهَمْزَةُ أَلِفًا. وَجَمْعُهُ آلُوَنَ وَتَصْغِيرُهُ
أُوَيْلٌ فِيمَا حَكَى الْكِسَائِيُّ. وحكى غيره أهيل وقد
ذكرناه عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
كَيْسَانَ: إِذَا جَمَعْتَ آلًا قُلْتَ آلُونَ فَإِنْ جَمَعْتَ
آلًا الَّذِي هُوَ السَّرَابُ قُلْتَ آوَالٌ مِثْلَ مَالٍ
وَأَمْوَالٍ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِرْعَوْنَ) "
فِرْعَوْنَ" قِيلَ إِنَّهُ اسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِعَيْنِهِ.
وَقِيلَ اسْمُ كُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَمَالِقَةِ
مِثْلَ كِسْرَى لِلْفُرْسِ وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ
وَالنَّجَاشِيِّ لِلْحَبَشَةِ وَإِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ مُوسَى
قَابُوسٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الكتاب. وقال وهب أسمه الوليد ابن
مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ وَيُكَنَّى أَبَا مُرَّةَ وَهُوَ
مِنْ بَنِي عِمْلِيقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ
بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَكُلُّ
مَنْ وَلِيَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ فَهُوَ فِرْعَوْنُ. وَكَانَ
فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ
لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: فِرْعَوْنُ لَقَبُ الْوَلِيدِ بْنِ مُصْعَبٍ
مَلِكُ مِصْرَ وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْنُ وَالْعُتَاةُ
الْفَرَاعِنَةُ وَقَدْ تفر عن
__________
(1). الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم
سكان الحرم. [ ..... ]
(1/383)
وَهُوَ ذُو فَرْعَنَةٍ أَيْ دَهَاءٍ
وَنُكْرٍ. وَفِي الحديث (أخذنا فرعون هذه الامة)." وفرعون" فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ لِعُجْمَتِهِ
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسُومُونَكُمْ) قِيلَ:
مَعْنَاهُ يُذِيقُونَكُمْ وَيُلْزِمُونَكُمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكُمْ يُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةُ
خَسْفٍ إِذَا أَوْلَاهُ إِيَّاهَا ومنه قول عمرو ابن
كُلْثُومٍ:
إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أبينا أن نقر
الخسف فِينَا
وَقِيلَ: يُدِيمُونَ تَعْذِيبَكُمْ. وَالسَّوْمُ: الدَّوَامُ
وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْغَنَمِ لِمُدَاوَمَتِهَا الرَّعْيَ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى
الِابْتِدَاءِ «1» وَإِنْ شِئْتَ كان في موضع نصب غلى الْحَالِ
أَيْ سَائِمِينَ لَكُمْ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(سُوءَ الْعَذابِ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ" يَسُومُونَكُمْ"
وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
بِمَعْنَى سَوْمِ الْعَذَابِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
نَعْتًا بِمَعْنَى سَوْمًا سَيِّئًا. فَرُوِيَ أَنَّ
فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا وَخَوَلًا
وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ فَصِنْفٌ يَبْنُونَ وَصِنْفٌ
يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ وَصِنْفٌ يَتَخَدَّمُونَ وَكَانَ
قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي
عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ
الْجِزْيَةُ فَذَلِكَ سُوءُ الْعَذَابِ التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ... " يُذَبِّحُونَ"
بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ"
يَسُومُونَكُمْ" كَمَا قَالَ أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ
حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ" يُذَبِّحُونَ" بِغَيْرِ وَاوٍ
عَلَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ" يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ" [البقرة: 49] كَمَا تَقُولُ أَتَانِي الْقَوْمُ
زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ فِي زَيْدٍ
وَنَظِيرُهُ:" وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ
لَهُ الْعَذابُ" «2» [الفرقان: 69 - 68] وَفِي سُورَةِ
إِبْرَاهِيمَ" وَيُذَبِّحُونَ" بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمَعْنَى
__________
(1). يريد أنها مستأنفة. وعبارة البحر لابي حيان: (يحتمل أن
تكون هذه الجملة مستأنفة وهي حكاية حال ماضية ويحتمل أن تكون
في موضع الحال أي سائميكم).
(2). راجع ج 13 ص 76.) (
(1/384)
يُعَذِّبُونَكُمْ بِالذَّبْحِ وَبِغَيْرِ
الذَّبْحِ فَقَوْلُهُ" وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ" جِنْسٌ
آخَرُ مِنَ الْعَذَابِ لَا تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ"
وَالْوَاوُ قَدْ تُزَادُ كَمَا قَالَ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيْ قَدِ انْتَحَى وَقَالَ آخَرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ
الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
أَرَادَ إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ ابْنِ الْهُمَامِ لَيْثِ
الْكَتِيبَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يُذَبِّحُونَ) قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى
التَّكْثِيرِ وقرا ابن محيضن" يَذْبَحُونَ" بِفَتْحِ الْبَاءِ.
وَالذَّبْحِ: الشَّقُّ. وَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ.
وَالذُّبَاحُ: تَشَقُّقٌ فِي أُصُولِ الْأَصَابِعِ وَذَبَحْتُ
الدَّنَّ بَزَلْتُهُ أَيْ كَشَفْتُهُ وَسَعْدٌ الذَّابِحٌ:
أَحَدُ السُّعُودِ. وَالْمَذَابِحُ: الْمَحَارِيبُ.
وَالْمَذَابِحُ: جَمْعُ مَذْبَحٍ وَهُوَ إِذَا جَاءَ السَّيْلُ
فَخَدَّ فِي الْأَرْضِ فَمَا كَانَ كَالشِّبْرِ وَنَحْوِهُ
سُمِّيَ مَذْبَحًا فَكَانَ فِرْعَوْنُ يَذْبَحُ الْأَطْفَالَ
وَيُبْقِي الْبَنَاتَ وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ النِّسَاءِ
بِالْمَآلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ" يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ"
يَعْنِي الرِّجَالَ وَسُمُّوا أَبْنَاءً لَمَّا كَانُوا
كَذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ"
نِساءَكُمْ" وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الْأَظْهَرُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- نَسَبَ اللَّهُ
تَعَالَى الْفِعْلَ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ إِنَّمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ بِأَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ لِتَوَلِّيهِمْ
ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلِيُعْلِمَ أَنَّ الْمُبَاشِرَ
مَأْخُوذٌ بِفِعْلِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَيَقْتَضِي أَنَّ
مَنْ أَمَرَهُ ظَالِمٌ بِقَتْلِ أَحَدٍ فَقَتَلَهُ
الْمَأْمُورُ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ. قُلْتُ: وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ يُقْتَلَانِ جَمِيعًا هَذَا بِأَمْرِهِ
وَالْمَأْمُورُ بِمُبَاشَرَتِهِ هَكَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي تَفْصِيلٍ لَهُمَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا
بِقَتْلِ رَجُلٍ وَالْمَأْمُورُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أُمِرَ
بِقَتْلِهِ ظُلْمًا كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْإِمَامِ
الْقَوَدُ كَقَاتِلَيْنِ مَعًا وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ
عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ ظُلْمًا كَانَ عَلَى
الْإِمَامِ الْقَوَدُ وَفِي المأمور
(1/385)
قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ
الْقَوَدَ وَالْآخَرُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا لَا
يَخْلُو الْمَأْمُورُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ طَاعَةُ
الْآمِرِ وَيَخَافُ شَرَّهُ كَالسُّلْطَانِ وَالسَّيِّدِ
لِعَبْدِهِ فَالْقَوَدُ فِي ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُمَا أَوْ
يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فَيُقْتَلُ
الْمُبَاشِرُ وَحْدَهُ دُونَ الْآمِرِ وَذَلِكَ كَالْأَبِ
يَأْمُرُ وَلَدَهُ أَوِ الْمُعَلِّمِ بَعْضَ صِبْيَانِهِ أَوِ
الصَّانِعِ بَعْضَ مُتَعَلِّمِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَلِمًا
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَلِمٍ فَالْقَتْلُ عَلَى الْآمِرِ
وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَقَالَ ابْنُ
نَافِعٍ: لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ
وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا بِقَتْلِ إِنْسَانٍ قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ وَبِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَقُولُ إِنَّ الْقَتْلَ
عَلَيْهِمَا فَأَمَّا أَمْرُ مَنْ لَا خَوْفَ عَلَى
الْمَأْمُورِ فِي مُخَالَفَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَقُ
بِالْإِكْرَاهِ بَلْ يُقْتَلُ الْمَأْمُورُ دُونَ الْآمِرِ
وَيُضْرَبُ الْآمِرُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي
السَّيِّدِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا: يُقْتَلُ
السَّيِّدُ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ
عَلِيٌّ وَيُسْتَوْدَعُ الْعَبْدُ السِّجْنَ. وَقَالَ أَحْمَدُ
وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ وَيُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ يُعَزَّرُ السَّيِّدُ وَقَالَ الْحَكَمُ
وَحَمَّادٌ يُقْتَلُ الْعَبْدُ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقْتَلَانِ
جَمِيعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ
فَصِيحًا يَعْقِلُ قُتِلَ الْعَبْدُ وَعُوقِبَ السَّيِّدُ
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْجَمِيًّا فَعَلَى السَّيِّدِ
الْقَوَدُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَا يُقْتَلُ
الْآمِرُ وَلَكِنْ تَقْطَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُعَاقَبُ
وَيُحْبَسُ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَيُقْتَلُ
الْمَأْمُورُ للمباشرة. كذلك قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ
وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي
الرَّجُلِ يَأْمُرُ الرَّجُلَ بِقَتْلِ الرَّجُلِ وَذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ حَكَاهُ أَبُو
الْمَعَالِي فِي الْبُرْهَانِ وَرَأَى أَنَّ الْآمِرَ
وَالْمُبَاشِرَ لَيْسَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا
فِي الْقَوَدِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ
الْجُمْهُورُ" يُذَبِّحُونَ" بِالتَّشْدِيدِ عَلَى المبالغة
وقرا ابن محيصن" يذبحون" بالتخفيف والاولى أَرْجَحُ إِذِ
الذَّبْحُ مُتَكَرِّرٌ وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى مَا رُوِيَ
قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ نَارًا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَأَحْرَقَتْ بُيُوتَ مِصْرَ فَأُوِّلَتْ لَهُ
رُؤْيَاهُ أَنَّ مَوْلُودًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْشَأُ
فَيَكُونُ خَرَابُ مُلْكِهِ عَلَى يَدَيْهِ وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
(1/386)
وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَفِي ذلِكُمْ)
إِشَارَةٌ إِلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ إِذْ هو خبر فهو كمنفرد
حَاضِرٍ أَيْ وَفِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِكُمْ بَلَاءٌ أَيِ
امْتِحَانٌ وَاخْتِبَارٌ وَ" بَلَاءٌ" نِعْمَةٌ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ
بَلاءً حَسَناً" [الأنفال: 17] قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ
الْبَلَاءُ يَكُونُ حَسَنًا وَيَكُونُ سَيِّئًا وَأَصْلُهُ
الْمِحْنَةُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَبْلُو عَبْدَهُ
بِالصُّنْعِ الْجَمِيلِ لِيَمْتَحِنَ شُكْرَهُ وَيَبْلُوَهُ
بِالْبَلْوَى الَّتِي يَكْرَهُهَا لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ
فَقِيلَ لِلْحَسَنِ بَلَاءٌ وَلِلسَّيِّئِ بَلَاءٌ حَكَاهُ
الْهَرَوِيُّ وَقَالَ قَوْمٌ الْإِشَارَةُ بِ" ذلِكُمْ" إِلَى
التَّنْجِيَةِ فَيَكُونُ الْبَلَاءُ عَلَى هَذَا فِي الْخَيْرِ
أَيْ تَنْجِيَتُكُمْ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الذَّبْحِ وَنَحْوِهِ
وَالْبَلَاءُ هُنَا فِي الشَّرِّ وَالْمَعْنَى: وَفِي الذبح
مكروه
وامتحان. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ
أَبْلَاهُ اللَّهُ وَبَلَاهُ وَأَنْشَدَ
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ...
وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو «1»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ وَالْأَكْثَرُ فِي الْخَيْرِ
أَبْلَيْتُهُ وَفِي الشَّرِّ بَلَوْتُهُ وَفِي الِاخْتِبَارِ
ابْتَلَيْتُهُ وَبَلَوْتُهُ قاله النحاس.
[سورة البقرة (2): آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ
فَأَنْجَيْناكُمْ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَ" فَرَقْنَا"
فَلَقْنَا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيِ
الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَأَصْلُ الْفَرْقِ الْفَصْلُ وَمِنْهُ
فَرْقُ الشَّعْرِ وَمِنْهُ الْفُرْقَانُ لِأَنَّهُ يَفْرُقُ
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ يَفْصِلُ وَمِنْهُ"
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً" «2» [المرسلات: 4] يَعْنِي
الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ ومنه" يَوْمَ الْفُرْقانِ" «3» [الأنفال: 41]
يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الحق والباطل
ومنه" وَقُرْآناً فَرَقْناهُ" «4» [الاسراء: 106] أَيْ
فَصَّلْنَاهُ وَأَحْكَمْنَاهُ وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ:"
فَرَّقْنَا" بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ جَعَلْنَاهُ فِرَقًا
وَمَعْنَى" بِكُمُ" أَيْ لَكُمْ فَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ
وَقِيلَ الْبَاءُ فِي مَكَانِهَا أَيْ فَرَقْنَا الْبَحْرَ
بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ أَيْ صَارُوا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ
فَصَارَ الْفَرْقُ بِهِمْ وَهَذَا أولى يبينه" فَانْفَلَقَ"
__________
(1). قائله زهير
(2). راج ج 19 ص 153.
(3). راجع ج 8 ص 20.
(4). راجع ج 10 ص 339
(1/387)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْبَحْرَ) الْبَحْرُ
مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّسَاعِهِ. وَيُقَالُ: فَرَسٌ
بَحْرٌ إِذَا كَانَ وَاسِعَ الْجَرْيِ أَيْ كَثِيرُهُ. وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ (وَإِنْ
وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمَلِحُ.
وَيُقَالُ: أَبْحَرَ الْمَاءُ: مَلُحَ قَالَ نُصَيْبٌ:
وَقَدْ عَادَ مَاءُ الْأَرْضِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... إِلَى
مَرَضِي أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ
وَالْبَحْرُ: الْبَلْدَةُ يُقَالُ: هَذِهِ بَحْرَتُنَا أَيْ
بَلْدَتُنَا. قَالَهُ الْأُمَوِيُّ. وَالْبَحْرُ: السُّلَالُ
«1» يُصِيبُ الْإِنْسَانَ. وَيَقُولُونَ: لَقِيتُهُ صَحْرَةً
بَحْرَةً أَيْ بَارِزًا مَكْشُوفًا. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا يُقَالُ
لَهُ: صَنْدَفَايِيلُ الْبِحَارُ كُلُّهَا فِي نَقْرَةِ
إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور ابن يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ
مَعْدَانَ عَنْ كَعْبٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنْجَيْناكُمْ)
أَيْ أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهُ يُقَالُ نَجَوْتُ مِنْ كَذَا
نِجَاءً مَمْدُودٌ وَنَجَاةً مَقْصُورٌ والصدق منجاة وأنجيت
غيري ونجيته وقرى بِهِمَا" وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ" ... "
فَأَنْجَيْناكُمْ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) يُقَالُ: غَرِقَ فِي الْمَاءِ غَرَقًا فَهُوَ
غَرِقٌ وَغَارِقٌ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
مِنْ بَيْنِ مَقْتُولٍ وَطَافٍ غَارِقِ «2»
وَأَغْرَقَهُ غَيْرُهُ وَغَرَّقَهُ فَهُوَ مُغْرَّقٌ
وَغَرِيقٌ. وَلِجَامٌ مُغَرَّقٌ بِالْفِضَّةِ أَيْ مُحَلًّى.
وَالتَّغْرِيقُ: الْقَتْلُ قَالَ الْأَعْشَى:
ألا ليت قيسا عرقته الْقَوَابِلُ «3»
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَابِلَةَ كَانَتْ تُغَرِّقُ الْمَوْلُودَ
فِي مَاءِ السَّلَى عَامَ الْقَحْطِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ قتل تغريقا ومنه
قول ذي الرمة
__________
(1). السلال (كغراب): قرحة تحدث في الرئة أو زكام ونوازل أو
سعال طويل وتلزمها حمى هادئة. (عن القاموس).
(2). صدر البيت:
فأصبحوا في الماء والخنادق
(3). المراد به قيس بن مسعود الشيباني. وصدر البيت:
أطورين في عام غزاة ورحلة
(1/388)
إِذَا غَرَّقَتْ أَرْبَاضُهَا ثِنْيَ
بَكْرَةٍ ... بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُومًا سَلُوبُهَا
وَالْأَرْبَاضُ: الْحِبَالُ. وَالْبَكْرَةُ: النَّاقَةُ
الْفَتِيَّةُ وَثِنْيُهَا: بَطْنُهَا الثَّانِي وَإِنَّمَا
لَمْ تَعْطِفْ عَلَى وَلَدِهَا لِمَا لَحِقَهَا مِنَ
التَّعَبِ.
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ
إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يُسْرِيَ مِنْ مِصْرَ بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا
الْحُلِيَّ وَالْمَتَاعَ مِنَ الْقِبْطِ وَأَحَلَّ اللَّهُ
ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَرَى بِهِمْ مُوسَى مِنْ
أَوَّلِ اللَّيْلِ فَأُعْلِمَ فِرْعَوْنُ فَقَالَ: لَا
يَتْبَعُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى تَصِيحَ الدِّيَكَةُ فَلَمْ يَصِحْ
تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمِصْرَ دِيكٌ وَأَمَاتَ اللَّهُ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ كَثِيرًا مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ فَاشْتَغَلُوا
فِي الدَّفْنِ وَخَرَجُوا فِي الْأَتْبَاعِ مشرقين كما قال
تعالى" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" «1» [الشعراء: 60].
وَذَهَبَ مُوسَى إِلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَهُ.
وَكَانَتْ عِدَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَيِّفًا عَلَى
سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَكَانَتْ عِدَّةُ فِرْعَوْنَ أَلْفَ
أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ
اتَّبَعَهُ فِي أَلْفِ أَلْفِ حِصَانٍ سِوَى الْإِنَاثِ
وَقِيلَ دَخَلَ إِسْرَائِيلُ- وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِصْرَ فِي سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ نَفْسًا مِنْ
وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ فَأَنْمَى اللَّهُ عَدَدَهُمْ
وَبَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْبَحْرِ
يَوْمَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ سِوَى الشُّيُوخِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ
يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حين أسرى إِسْرَائِيلَ
بَلَغَ فِرْعَوْنَ فَأَمَرَ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ:
لَا وَاللَّهِ لَا يُفْرَغُ مِنْ سَلْخِهَا حَتَّى تَجْتَمِعَ
لِي سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ: فَانْطَلَقَ
مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ لَهُ افْرُقْ
فَقَالَ لَهُ الْبَحْرُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرْتَ يَا مُوسَى!
وَهَلْ فَرَقْتُ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ فَأَفْرُقَ لَكَ!
قَالَ: وَمَعَ مُوسَى رَجُلٌ عَلَى حِصَانٍ لَهُ قَالَ فَقَالَ
لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟
قال ما أمر ت إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: فَأَقْحَمَ
فَرَسَهُ فَسَبَحَ فَخَرَجَ. فَقَالَ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا
نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ
قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ ثُمَّ اقْتَحَمَ
الثَّانِيَةَ فَسَبَحَ بِهِ حَتَّى خَرَجَ فَقَالَ أَيْنَ
أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ مَا أُمِرْتُ
__________
(1). راجع ج 13 ص 105.
(1/389)
إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَاللَّهِ
مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ" أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ" [الأعراف 160]
فَضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ" فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ" [الشعراء 63] فَكَانَ فِيهِ اثْنَا
عَشَرَ فَرْقًا لِاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا لِكُلِّ سِبْطٍ
طَرِيقٌ يَتَرَاءَوْنَ وَذَلِكَ أَنَّ أَطْوَادَ الْمَاءِ
صَارَ فِيهَا طِيقَانًا وَشَبَابِيكَ يَرَى مِنْهَا بَعْضُهُمْ
بَعْضًا فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى وَقَامَ أَصْحَابُ
فِرْعَوْنَ الْتَطَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ
وَيُذْكَرُ أَنَّ الْبَحْرَ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ وَأَنَّ
الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَى الْفَرَسِ هُوَ
فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى
إِلَى الْبَحْرِ أَنَ انْفَرِقْ لِمُوسَى إِذَا ضَرَبَكَ
فَبَاتَ الْبَحْرُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَضْطَرِبُ فَحِينَ
أَصْبَحَ ضَرَبَ الْبَحْرَ وَكَنَّاهُ «1» أَبَا خَالِدٍ.
ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا. وَقَدْ أَكْثَرَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي قَصَصِ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا
ذَكَرْنَاهُ كَافٍ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" يُونُسَ
وَالشُّعَرَاءِ" «2» زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْجَاءَ وَالْإِغْرَاقَ
وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ فِيهِ
فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ
فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ) فَقَالُوا هَذَا
يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ
وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا
فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى
مِنْكُمْ) فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ (أَنْتُمْ
أَحَقُّ بِمُوسَى منهم فصوموا).
مسألة [في صوم يوم عاشوراء]
ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَامَ عَاشُورَاءَ
وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ اقْتِدَاءً بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَى ما أخبر بِهِ الْيَهُودُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا
رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ
يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ
صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ
تَرَكَ صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ
وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم
__________
(1). أي كنى موسى البحر.
(2). راجع ج 8 ص 377 وج 12 ص 105.
(1/390)
فَإِنْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
قُرَيْشٌ إِنَّمَا صَامَتْهُ بِإِخْبَارِ الْيَهُودِ لَهَا
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
عِنْدَهُمْ أَهْلَ عِلْمٍ فَصَامَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ بِمَكَّةَ
فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَوَجَدَ الْيَهُودَ
يَصُومُونَهُ قَالَ (نَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى
مِنْكُمْ) فَصَامَهُ اتِّبَاعًا لِمُوسَى (وَأَمَرَ
بِصِيَامِهِ) أَيْ أَوْجَبَهُ وَأَكَّدَ أَمْرَهُ حَتَّى
كَانُوا يَصُومُونَهُ الصِّغَارُ. قُلْنَا: هَذِهِ شُبْهَةُ
مَنْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى
وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الانعام
«1» " عند قول تعالى" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" [الانعام: 90].
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَلْ هُوَ
التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوِ الْعَاشِرُ؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ التَّاسِعُ لِحَدِيثِ
الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ
رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ
صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ
الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبَحْ يَوْمَ التَّاسِعِ
صَائِمًا. قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى
أَنَّهُ الْعَاشِرُ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ
الْحَكَمِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِصِحَّةٍ وَلَا حُسْنٍ ثُمَّ
أَرْدَفَهُ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ. قَالَ
أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا
الْيَهُودَ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ. قَالَ غَيْرُهُ
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلسَّائِلِ: (فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ
يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا) لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
تَرْكِ صَوْمِ الْعَاشِرِ بَلْ وَعَدَ أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ
مُضَافًا إِلَى الْعَاشِرِ. قَالُوا: فَصِيَامُ الْيَوْمَيْنِ
جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
لِلْحَكَمِ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ مَعْنَاهُ
أَنْ لَوْ عَاشَ وَإِلَّا فَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ التَّاسِعَ قَطُّ.
يُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ
وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَئِنْ
بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ اليوم التاسع).
__________
(1). راجع ج 7 ص 35.
(1/391)
فَضِيلَةٌ
- رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي
قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا
نَعْلَمُ في شي مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ (صِيَامُ
يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ) إِلَّا فِي حَدِيثِ
أَبِي قَتَادَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ بِأَبْصَارِكُمْ
فَيُقَالُ إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ طَفَوْا عَلَى الْمَاءِ
فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ يَغْرَقُونَ وَإِلَى أَنْفُسِهِمْ
يَنْجُونَ فَفِي هَذَا أَعْظَمُ الْمِنَّةِ وَقَدْ قِيلَ
إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا لَهُمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ فَهَذِهِ
مِنَّةٌ بَعْدَ مِنَّةٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى" وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ" أَيْ بِبَصَائِرِكُمُ الِاعْتِبَارُ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا فِي شُغْلٍ عَنِ الْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ
بِالْأَبْصَارِ وَقِيلَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ بِحَالِ مَنْ
يَنْظُرُ لَوْ نَظَرَ كَمَا تُقُولُ هَذَا الْأَمْرُ مِنْكَ
بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ أَيْ بِحَالٍ تَرَاهُ وَتَسْمَعُهُ إِنْ
شِئْتَ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَوَالِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ فِيمَا
صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ
الْبَحْرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَاهُمْ
وَغَرَّقَ عَدُوَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ قُلُوبَنَا
لَا تَطْمَئِنُّ إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَرِقَ! حَتَّى أَمَرَ
اللَّهُ الْبَحْرَ فَلَفَظَهُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ. ذَكَرَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ
أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَتْ: مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ وَمَا
كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا! قَالَ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ «1»
اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَمَى
بِهِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ
يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا
وَبُعِثُوا مِنْ طَرِيقِ الْبَرِّ إِلَى مَدَائِنِ فِرْعَوْنَ
حَتَّى نَقَلُوا كُنُوزَهُ وَغَرِقُوا فِي النِّعْمَةِ رَأَوْا
قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ حَتَّى
زَجَرَهُمْ مُوسَى وَقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ
إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ عَالَمِي
زَمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي كَانَتْ مَسَاكِنَ آبَائِهِمْ
وَيَتَطَهَّرُوا مِنْ أَرْضِ فِرْعَوْنَ. وَكَانَتِ الْأَرْضُ
الْمُقَدَّسَةُ فِي أَيْدِي الْجَبَّارِينَ قَدْ غُلِبُوا
عَلَيْهَا فَاحْتَاجُوا إِلَى دَفْعِهِمْ عَنْهَا بِالْقِتَالِ
فَقَالُوا أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَنَا لُحْمَةً
لِلْجَبَّارِينَ! فَلَوْ أَنَّكَ تَرَكْتَنَا فِي يَدِ فرعون
كان خيرا لنا قال" يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" [المائدة: 21]
إِلَى قَوْلِهِ" قاعِدُونَ" حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ
وَسَمَّاهُمْ فَاسْقِينَ فَبَقُوا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ
سَنَةً عُقُوبَةً ثُمَّ رَحِمَهُمْ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ
بِالسَّلْوَى وَبِالْغَمَامِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
ثُمَّ سَارَ مُوسَى إِلَى طور سيناء
__________
(1). في نسخة: (فلم يعد أن سمع الله ... ) إلخ. [ ..... ]
(1/392)
وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
لِيَجِيئَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّخَذُوا
الْعِجْلَ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «1» - ثُمَّ قِيلَ
لَهُمْ: قَدْ وَصَلْتُمْ إِلَى بيت المقدس ف ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ عَلَى مَا يَأْتِي وَكَانَ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْحَيَاءِ سَتِيرًا فَقَالُوا:
إِنَّهُ آدَرُ «2». فَلَمَّا اغْتَسَلَ وَضَعَ عَلَى الْحَجَرِ
ثَوْبَهُ فَعَدَا الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ إِلَى مَجَالِسِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى عَلَى أَثَرِهِ عُرْيَانُ وَهُوَ يقول
يا حجر ثوبي! فذلك قول تَعَالَى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قالُوا" [الأحزاب: 69] عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ «3» ثُمَّ لَمَّا مَاتَ هَارُونُ قَالُوا لَهُ:
أَنْتَ قَتَلْتَ هَارُونَ وَحَسَدْتَهُ حَتَّى نَزَلَتِ
الْمَلَائِكَةُ بِسَرِيرِهِ وَهَارُونُ مَيِّتٌ عَلَيْهِ-
وَسَيَأْتِي فِي الْمَائِدَةِ «4» - ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ
يَعْلَمُوا أية في قبول قربانهم فجعلت نار تجئ مِنَ السَّمَاءِ
فَتَقْبَلُ قُرْبَانَهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ بَيِّنْ لَنَا
كَفَّارَاتِ ذُنُوبِنَا فِي الدُّنْيَا فَكَانَ مَنْ أَذْنَبَ
ذَنْبًا أَصْبَحَ عَلَى بَابِهِ مَكْتُوبٌ (عَمِلْتَ كَذَا
وَكَفَّارَتُهُ قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِكَ) يُسَمِّيهِ
لَهُ وَمَنْ أَصَابَهُ بَوْلٌ لَمْ يَطْهُرْ حَتَّى يَقْرِضَهُ
وَيُزِيلَ جِلْدَتَهُ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَّلُوا
التَّوْرَاةَ وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَتَبُوا
بِأَيْدِيهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ عَرَضًا ثُمَّ صَارَ
أَمْرُهُمْ إِلَى أَنْ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُسُلَهُمْ.
فَهَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَسِيرَتُهُمْ فِي
دِينِهِمْ وَسُوءُ أَخْلَاقِهِمْ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ
فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْفُصُولِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي
أَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِهَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مِنْ
عِلْمِ الْعَرَبِ وَلَا وَقَعَتْ إِلَّا فِي حَقِّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَائِمٌ عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة البقرة (2): آية 51]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ
(51)
فِيهِ سِتُّ مسائل:
__________
(1). راجع ج 7 ص 273.
(2). الأدرة (بالضم): نفخة في الخصية.
(3). راجع ج 14 ص 250.
(4). راجع ج 6 ص 130
(1/393)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ
واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو"
وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
وَرَجَّحَهُ وَأَنْكَرَ" واعَدْنا" قَالَ: لِأَنَّ
الْمُوَاعَدَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ فَأَمَّا الله
عز وجل فَإِنَّمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ. عَلَى هَذَا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ، كَقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ" «1»
(إِبْرَاهِيمَ: 22) وَقَوْلُهُ:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" «2» (الْفَتْحِ:
29) وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ" [الأنفال: 7]. قَالَ
مَكِّيٌّ: وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فِيهِ وَعْدٌ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، وَلَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ مِنْ
مُوسَى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَاحِدِ، لِظَاهِرِ
النَّصِّ أَنَّ الْفِعْلَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَحْدَهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ وَأَبِي
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَرَأَ
قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عِنْدَنَا" وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ،
لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ بَيْنَ
الْمَخْلُوقِينَ وَالْمُتَكَافِئِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَعِدُ صَاحِبَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِيعَادُ:
الْمُوَاعَدَةُ وَالْوَقْتُ وَالْمَوْضِعُ. قَالَ مَكِّيٌّ:
الْمُوَاعَدَةُ أَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَأْتِي
الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالُوا:
طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَعَاقَبْتُ
اللِّصَّ، وَالْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ. فَيَكُونُ لَفْظُ
الْمُوَاعَدَةِ مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً لِمُوسَى كَمَعْنَى
وَعَدْنَا، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
والاختبار" واعَدْنا" بِالْأَلِفِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى"
وَعَدْنَا" فِي أَحَدِ معنييه، ولأنه لأبد لِمُوسَى مِنْ
وَعْدٍ أَوْ قَبُولٍ يَقُومُ مَقَامَ الْوَعْدِ فَتَصِحُّ
الْمُفَاعَلَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ" واعَدْنا"
بِالْأَلِفِ أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ
وَالْأَعْرَجِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَعْمَشِ
وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" من هذا في شي، لِأَنَّ" واعَدْنا
مُوسى " إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُوَافَاةِ، وَلَيْسَ
هَذَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي شي، وَإِنَّمَا هُوَ
مِنْ قَوْلِكَ: مَوْعِدُكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَوْعِدُكَ
مَوْضِعَ كَذَا. وَالْفَصِيحُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ:
وَاعَدْتُهُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ:" واعَدْنا"
هَا هُنَا بِالْأَلِفِ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي القبول
بمنزلة المواعدة، فمن الله عز وجل وَعْدٌ، وَمِنْ مُوسَى
قَبُولٌ وَاتِّبَاعٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمُوَاعَدَةِ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ. وَرَجَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ" وَعَدْنَا"
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَبُولَ مُوسَى لِوَعْدِ الله
والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
__________
(1). راجع ج 9 ص 356.
(2). راجع ج 12 ص 297
(1/394)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُوسى)
مُوسَى اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ
وَالتَّعْرِيفِ. وَالْقِبْطُ عَلَى- مَا يُرْوَى- يَقُولُونَ
لِلْمَاءِ: مُو، وَلِلشَّجَرِ: شَا «1». فَلَمَّا وُجِدَ
مُوسَى فِي التَّابُوتِ عِنْدَ مَاءٍ وَشَجَرٍ سُمِّيَ مُوسَى.
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ
جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ- كَمَا
أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا- فَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ بَيْنَ
أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي
آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَهُ،
فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ
وَغَيْرُهُ: أَنَّ اسْمَ الَّذِي الْتَقَطَتْهُ صَابُوثُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ
بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ ابن لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ
إِسْرَائِيلَ اللَّهِ «2» بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" أَرْبَعِينَ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ
الثَّانِي، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ قَالَ الْأَخْفَشُ:
التَّقْدِيرُ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى تَمَامَ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً كَمَا قَالَ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" وَالْأَرْبَعُونَ
كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمِيعَادِ. وَالْأَرْبَعُونَ فِي
قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشَرَةٌ
مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جاوز البحر
وسأل قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى
تَمَامِ أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرين عِشْرِينَ
يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَقَالُوا قَدْ أَخْلَفَنَا
مَوْعِدَهُ. فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَقَالَ لَهُمُ
السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى
فَاطْمَأَنُّوا إِلَى قَوْلِهِ وَنَهَاهُمْ هَارُونُ وَقَالَ"
يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ
الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ
نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى "
«3» (طه: 90). فَلَمْ يَتَّبِعْ هَارُونَ وَلَمْ يُطِعْهُ فِي
تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا
فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ. وَتَهَافَتَ فِي عِبَادَتِهِ
سَائِرُهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ فَلَمَّا
رَجَعَ مُوسَى وَوَجَدَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَلْقَى
الْأَلْوَاحَ فَرُفِعَ مِنْ جُمْلَتِهَا سِتَّةُ أَجْزَاءٍ
وَبَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمَا
يَحْتَاجُونَ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ
فَشَرِبُوا مِنْ مَائِهِ حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة
__________
(1). كذا في بعض نسخ الأصل وفي بعضها: (سا) بالسين المهملة.
وفي القاموس وشرحه: ( ... وسا الشجر كذا في سائر النسخ وقال
ابن الجواليقي: هو بالشين المعجمة).
(2). كذا في الأصول واسم الجلالة زائد ولا يبعد أن يكون الأصل:
عبد الله وهو معنى إسرائيل. راجع ص 331 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 11 ص 236.
(1/395)
وَوَرِمَتْ بُطُونُهُمْ فَتَابُوا وَلَمْ
تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ دُونَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" [البقرة: 54] فَقَامُوا
بِالْخَنَاجِرِ وَالسُّيُوفِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ
لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَقَتَلَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَسْأَلُ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا
وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ وَلَا أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ كُلُّ مَنَ اسْتَقْبَلَهُ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ
وَضَرَبَهُ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ حَتَّى عَجَّ مُوسَى إِلَى
اللَّهِ صَارِخًا: يَا رَبَّاهُ قَدْ فَنِيَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ! فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَادَ عَلَيْهِمْ
بِفَضْلِهِ فَقَبِلَ تَوْبَةَ مَنْ بَقِيَ وَجَعَلَ مَنْ
قُتِلَ فِي الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي. الرَّابِعَةُ-
إِنْ قِيلَ لِمَ خَصَّ اللَّيَالِي بِالذِّكْرِ دُونَ
الْأَيَّامِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ اللَّيْلَةَ أَسْبَقُ مِنَ
الْيَوْمِ فَهِيَ قَبْلَهُ فِي الرُّتْبَةِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ
بِهَا التَّارِيخُ فَاللَّيَالِي أَوَّلُ الشُّهُورِ
وَالْأَيَّامُ تَبَعٌ لَهَا. الْخَامِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى صِلَةِ الصَّوْمِ
لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَ الْأَيَّامَ لَأَمْكَنَ أَنْ
يُعْتَقَدَ أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا نَصَّ
عَلَى اللَّيَالِي اقْتَضَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاصَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
بِلَيَالِيِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الزَّاهِدَ الْإِمَامَ الْوَاعِظَ
أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعِظُ
النَّاسَ فِي الْخَلْوَةِ بِاللَّهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ فِي
الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ كُلِّ
طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَيَقُولُ أَيْنَ حَالُ مُوسَى فِي
الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ! وَوِصَالِ ثَمَانِينَ مِنَ الدَّهْرِ
مِنْ قول حِينَ سَارَ إِلَى الْخَضِرِ لِفَتَاهُ فِي بَعْضِ
يوم" آتِنا غَداءَنا" [الكهف: 62]. قُلْتُ: وَبِهَذَا
اسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْوِصَالِ وَأَنَّ
أَفْضَلَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي
الْوِصَالِ فِي آيِ الصِّيَامِ «1» مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْتِي فِي" الْأَعْرَافِ"
«2» زِيَادَةُ أَحْكَامٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى" وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً" [الأعراف:
142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخوارة وَفِي" طه" «3»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أَيِ
اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَأَصْلُ
اتَّخَذْتُمُ ائْتَخَذْتُمْ مِنَ الْأَخْذِ وَوَزْنُهُ
افْتَعَلْتُمْ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ
لِامْتِنَاعِ هَمْزَتَيْنِ فَجَاءَ ايتَخَذْتُمْ فَاضْطَرَبَتِ
الْيَاءُ فِي التَّصْرِيفِ جَاءَتْ أَلِفًا فِي يَاتَخِذُ
وواوا في موتخذ
__________
(1). راجع ج 2 ص 329.
(2). راجع ج 7 ص 274 وص 284.
(3). راجع ج 11 ص 235
(1/396)
ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
فَبُدِّلَتْ بِحَرْفٍ جَلْدٍ ثَابِتٍ مِنْ
جِنْسِ مَا بعدها وهي التاء وأدغمت ثم أجلبت أَلِفُ الْوَصْلِ
لِلنُّطْقِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا إِذَا كَانَ مَعْنَى
الْكَلَامِ التَّقْرِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً" [البقرة: 80]
فَاسْتَغْنَى عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ بِأَلِفِ التَّقْرِيرِ
قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْيَاعِهِمْ خَبَرًا ... أَمْ
رَاجَعَ الْقَلْبَ مِنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ
وَنَحْوُهُ فِي القرآن" أَطَّلَعَ الْغَيْبَ" [مريم: 78] "
أَصْطَفَى الْبَناتِ" [الصافات: 153] " أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ" [ص: 75]. وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ
أَنَّ" اتَّخَذْتُمُ" مِنْ تخذلا مِنْ أَخَذَ. (وَأَنْتُمْ
ظالِمُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَعْنَى الظُّلْمِ «2». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة البقرة (2): آية 52]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (52)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) العفو: عفو الله عز وجل عَنْ
خَلْقِهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَقَبْلَهَا
بِخِلَافِ الْغُفْرَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ
عُقُوبَةٌ الْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً
فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ فَالْعَفْوُ: مَحْوُ
الذَّنْبِ أَيْ مَحَوْنَا ذُنُوبَكُمْ وَتَجَاوَزْنَا عَنْكُمْ
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ أَيْ
أَذْهَبَتْهُ وَعَفَا الشَّيْءُ كَثُرَ فَهُوَ مِنَ
الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" حَتَّى عَفَوْا".
[الأعراف 95]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ. وَسُمِّيَ
الْعِجْلُ عِجْلًا لِاسْتِعْجَالِهِمْ عِبَادَتَهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَالْعِجَّوْلُ
مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ.
عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كَيْ تَشْكُرُوا عَفْوَ اللَّهِ
عَنْكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعَلَّ «3». وَأَمَّا
الشُّكْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الظهور من قول دَابَّةٌ
شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا
تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ وَحَقِيقَتُهُ الثَّنَاءُ على الإنسان
بمعروف يوليكه. كما تقدم
__________
(1). هو ذو الرمة.
(2). راجع ص 309. [ ..... ]
(3). راجع ص 227 من هذا الجزء.
(1/397)
فِي الْفَاتِحَةِ «1» قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ
بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ يُقَالُ: شَكَرْتُهُ
وَشَكَرْتُ لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ. وَالشُّكْرَانُ:
خِلَافُ الْكُفْرَانِ. وَتَشَكَّرْتُ لَهُ مِثْلُ شَكَرْتُ
لَهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ (لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْكَلَامُ يَتَأَوَّلُ عَلَى
مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعِهِ
كُفْرَانُ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكُ الشُّكْرِ
لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ. وَالْوَجْهُ
الْآخَرُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ شكر العبد
على إحسانه إليه إذ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إِحْسَانَ
النَّاسِ إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَعْرُوفَهُمْ لِاتِّصَالِ
أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ. الرَّابِعَةُ- فِي
عِبَارَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ فَقَالَ سَهْلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الشُّكْرُ: الِاجْتِهَادُ فِي بَذْلِ
الطَّاعَةِ مَعَ الِاجْتِنَابِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرِّ
وَالْعَلَانِيَةِ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: الشُّكْرُ هُوَ
الِاعْتِرَافُ فِي تَقْصِيرِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" «2»
[سبأ: 13] فَقَالَ دَاوُدُ: كَيْفَ أَشْكُرُكَ يَا رَبِّ
وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ! قَالَ: الْآنَ قَدْ عَرَفْتَنِي
وَشَكَرْتَنِي إِذْ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنِّي
نِعْمَةٌ قَالَ يَا رَبِّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمِكَ عَلَيَّ
قَالَ يَا دَاوُدُ تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُدُ فَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَةَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ. وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ
أَشْكُرُكَ وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا بِيَدِي مِنْ
نِعَمِكَ لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلُّهِ! فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي وَقَالَ
الْجُنَيْدُ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ
وَعَنْهُ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ
أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْرِ فَقَالَ لِي يَا
غُلَامُ مَا الشُّكْرُ؟ فَقُلْتُ أَلَّا يُعْصَى اللَّهُ
بِنِعَمِهِ فَقَالَ لِي: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ حَظُّكَ مِنَ
اللَّهِ لِسَانَكَ. قَالَ الْجُنَيْدُ فَلَا أَزَالُ أَبْكِي
عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا السَّرِيُّ لِي.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ الشُّكْرُ التَّوَاضُعُ وَالْمُحَافَظَةُ
عَلَى الْحَسَنَاتِ وَمُخَالَفَةُ الشَّهَوَاتِ وبذل الطاعات
ومراقبة جبار الأرض والسموات وَقَالَ ذُو النُّونِ
الْمِصْرِيُّ أَبُو الْفَيْضِ الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ
بِالطَّاعَةِ وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ وَلِمَنْ دُونَكَ
بالإحسان والإفضال
__________
(1). راجع ص 133 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 14 ص 276
(1/398)
وَإِذْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(53)
[سورة البقرة (2): آية 53]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (53)
" إذا" اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمَاضِي وَ" إِذَا" اسْمٌ
لِلْوَقْتِ المستقبل و" آتينا" أَعْطَيْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ
جَمِيعُ هَذَا «1». وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعٍ
مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْفُرْقَانِ فَقَالَ
الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: الْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى
التَّوْرَاةَ وَمُحَمَّدًا عليه السلام الفرقان قال النحاس:
هذا خطاء الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى أَمَّا الْإِعْرَابُ
فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّيْءِ مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَهُ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ تَعَالَى" وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
الزَّجَّاجُ: يَكُونُ الْفُرْقَانُ هُوَ الْكِتَابَ أعيد ذكره
ياسمين تَأْكِيدًا. وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
وَقَدَّمْتِ «2» الْأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... وَأَلْفَى
قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
وقال آخر «3»:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ
أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَنُسِقَ الْبُعْدُ عَلَى النَّأْيِ وَالْمَيْنُ عَلَى
الْكَذِبِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا وَمِنْهُ
قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
حُيِّيَتِ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى
وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
قال النحاس وهذا إنما يجئ فِي الشِّعْرِ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ
فِي هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَرْقًا بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ أَيِ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: الْفُرْقَانُ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ لَهُ حَتَّى صَارَ
فِرَقًا فَعَبَرُوا. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ الْفَرَجُ مِنَ
الْكَرْبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ مَعَ الْقِبْطِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقاناً" [الأنفال: 29] أَيْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحُجَّةُ وَالْبَيَانُ. قَالَهُ ابْنُ
بَحْرٍ. وَقِيلَ الْوَاوُ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ الْفُرْقَانَ وَالْوَاوُ قَدْ تُزَادُ فِي
النُّعُوتِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ حَسَنٌ وَطَوِيلٌ وَأَنْشَدَ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ
الْكَتِيبَةِ في المزدحم
__________
(1). راجع ص 261 ص 343.
(2). الرواية المشهورة في البيت: (فقددت الأديم) وهو لعدي بن
زيد. والقد: القطع. والأديم: الجلد. والراهشان: عرفان في باطن
الذراع.
(3). هو الحطيئة.
(1/399)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (54)
أَرَادَ إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ ابْنِ
الْهُمَامِ لَيْثِ الْكَتِيبَةِ وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ"
«1» [الانعام: 154] أَيْ بَيَّنَ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ
وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنْجَى هَؤُلَاءِ وَأَغْرَقَ أُولَئِكَ.
وَنَظِيرُهُ:" يَوْمَ الْفُرْقانِ". فَقِيلَ: يَعْنِي بِهِ
يَوْمَ بَدْرٍ نَصَرَ اللَّهُ فِيهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَأَهْلَكَ أَبَا جَهْلٍ
وَأَصْحَابَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لِكَيْ تَهْتَدُوا
مِنَ الضَّلَالَةِ وَقَدْ تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الْقَوْمُ:
الْجَمَاعَةُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى" لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ" [الحجرات: 11] ثم
قال" وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" [الحجرات: 11] وَقَالَ
زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ
حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَقَالَ تَعَالَى:" وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ" [الأعراف:
80] أَرَادَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ
الْقَوْمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى" إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ" [نوح: 1]
وَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٌ إِلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ
جَمِيعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا قَوْمِ) مُنَادَى مُضَافٌ
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ فِي" يَا قَوْمِ" لِأَنَّهُ مَوْضِعُ
حَذْفٍ وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ
التَّنْوِينِ فَحَذَفْتَهَا كَمَا تَحْذِفُ التَّنْوِينَ مِنَ
الْمُفْرَدِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ إِثْبَاتُهَا
سَاكِنَةً فَتَقُولُ يَا قَوْمِي لِأَنَّهَا اسْمٌ وَهِيَ فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَهَا وَإِنْ شِئْتَ
أَلْحَقْتَ مَعَهَا هَاءً فَقُلْتَ يَا قَوْمِيَهْ. وَإِنْ
شِئْتَ أَبْدَلْتَ مِنْهَا أَلِفًا لِأَنَّهَا أَخَفُّ
فَقُلْتَ يَا قَوْمًا وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ يَا قَوْمُ
بِمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ وَإِنْ جَعَلْتَهُمْ
نَكِرَةً نَصَبْتَ وَنَوَّنْتَ وَوَاحِدُ الْقَوْمِ امْرُؤٌ
عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ وَتَقُولُ قَوْمٌ وَأَقْوَامٌ
وَأَقَاوِمُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَوْمِ
عَبَدَةُ الْعِجْلِ وَكَانَتْ مُخَاطَبَتُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لهم بأمر من الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 7 ص 142.
(2). راجع ص 160 من هذا الجزء.
(1/400)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ) اسْتَغْنَى بِالْجَمْعِ الْقَلِيلِ عَنِ
الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرُ نُفُوسٌ وَقَدْ يُوضَعُ الْجَمْعُ
الْكَثِيرُ مَوْضِعَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْقَلِيلُ مَوْضِعَ
الكثرة قال الله تعالى" ثَلاثَةَ قُرُوءٍ"" [البقرة: 228]
وقال" وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ" [الزخرف: 71].
وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَعُودُ عَلَيْهِ
ضَرَرُهُ: إِنَّمَا أَسَأْتَ إِلَى نَفْسِكَ. وَأَصْلُ
الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى: (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) قَالَ بَعْضُ
أَرْبَابِ الْمَعَانِي عِجْلُ كُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسُهُ فَمَنْ
أَسْقَطَهُ وَخَالَفَ مُرَادَهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ظُلْمِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ هُنَا عِجْلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ
عَبَدُوهُ كَمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) لَمَّا قَالَ
لَهُمْ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ قَالُوا: كَيْفَ؟ قَالَ"
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَالَ أَرْبَابُ الْخَوَاطِرِ:
ذَلِّلُوهَا بِالطَّاعَاتِ وَكُفُّوهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ.
والصحيح أنه قل عَلَى الْحَقِيقَةِ هُنَا. وَالْقَتْلُ:
إِمَاتَةُ الْحَرَكَةِ. وَقَتَلْتُ الْخَمْرَ: كَسَرْتُ
شِدَّتَهَا بِالْمَاءِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:
التَّوْبَةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا
عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ
وَكَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتْلَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
عَبَدَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ قَالَ
الزُّهْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَامُوا صَفَّيْنِ وَقَتَلَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا فَكَانَ
ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَرْسَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَقِيلَ وَقَفَ
الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ صَفًّا وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ
يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ وَقِيلَ:
قَامَ السَّبْعُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى فَقَتَلُوا
إِذْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ.
وَيُرْوَى أَنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ
مُحْتَبُونَ فَقَالَ مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ أَوْ
مَدَّ طَرَفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ
رِجْلٍ فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ
مِنْهُمْ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ
مَنْ يَلِيهِ. ذَكَرُهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. وَإِنَّمَا
عُوقِبَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ بِقَتْلِ
أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُغَيِّرُوا الْمُنْكَرَ حِينَ عَبَدُوهُ وَإِنَّمَا
اعْتَزَلُوا وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا
مَنْ عَبَدَهُ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ إِذَا
فَشَا الْمُنْكَرُ وَلَمْ يُغَيَّرْ عُوقِبَ الْجَمِيعُ. رَوَى
جَرِيرٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ
(1/401)
بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ
وَأَمْنَعُ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ
بِعِقَابٍ (. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا اسْتَحَرَّ «1» فِيهِمُ الْقَتْلُ
وَبَلَغَ سَبْعِينَ أَلْفًا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُمْ
أَعْطَوُا الْمَجْهُودَ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمَا
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ نِعْمَةً بَعْدَ
الْإِسْلَامِ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَقَرَأَ
قَتَادَةُ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِقَالَةِ أَيِ
اسْتَقْبِلُوهَا مِنَ الْعَثْرَةِ بِالْقَتْلِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" بارِئِكُمْ" الْبَارِئُ: الْخَالِقُ وَبَيْنَهُمَا
فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِئَ هُوَ الْمُبْدِعُ
الْمُحْدِثُ. وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ
حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ وَهِيَ فَعِيلَةٌ
بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ وَقَرَأَ
أَبُو عَمْرٍو" بَارِئْكُمْ" بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ
وَيُشْعِرْكُمْ وَيَنْصُرْكُمْ وَيَأْمُرْكُمْ. وَاخْتَلَفَ
النُّحَاةُ فِي هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُ الضَّمَّةَ
وَالْكَسْرَةَ فِي الْوَصْلِ وَذَلِكَ فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: لَا يَجُوزُ التَّسْكِينُ
مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فِي
كَلَامٍ وَلَا شِعْرٍ وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ قَالَ
النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ
الْقُدَمَاءُ الْأَئِمَّةُ وَأَنْشَدُوا:
إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ ... بِالدَّوِّ
أَمْثَالَ السَّفِينِ الْعُوَّمِ «2»
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ
اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ «3»
وَقَالَ آخَرُ:
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا
وَقَالَ الْآخَرُ:
رُحْتِ وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
__________
(1). استحر: اشتد وكثر.
(2). الدو (بفتح الدال وتشديد الواو): الصحراء. وأراد بأمثال
السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفن البحر.
(3). المستحقب: المتكسب. والواغل: الذي يدخل على القوم في
طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه. يقول هذا حين قتل أبوه ونذر
ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا
يأثم بشربها إذ وفى بنذره فيها.
(1/402)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (56)
فَمَنْ أَنْكَرَ التَّسْكِينَ فِي حَرْفِ
الْإِعْرَابِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ
حَيْثُ كَانَ عَلَمًا لِلْإِعْرَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ
فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ.
وَأَصْلُ بَرَأَ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ
وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ. فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ
الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمِنْهُ بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ
بَرْءًا (بِالْفَتْحِ) كَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ.
وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ بَرِئْتُ مِنَ الْمَرَضِ بُرْءًا
(بِالضَّمِّ) وَبَرِئْتُ مِنْكَ وَمِنَ الدُّيُونِ
وَالْعُيُوبِ بَرَاءَةً وَمِنْهُ الْمُبَارَأَةُ لِلْمَرْأَةِ.
وَقَدْ بَارَأَ شَرِيكَهُ وَامْرَأَتَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَتابَ عَلَيْكُمْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ
فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَيْ فَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ
أَيْ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْكُمْ. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) تقدم «1» معناه والحمد لله.
[سورة البقرة (2): الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ)
مَعْطُوفٌ" يَا مُوسى " نِدَاءٌ مُفْرَدٌ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ"
أَيْ نُصَدِّقَكَ" حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً" قِيلَ: هُمُ
السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْمَعَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى
قَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" [البقرة: 55]
وَالْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ بَعْدَ ظُهُورِ
مُعْجِزَاتِهِمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا مِنَ
السَّمَاءِ فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ
فَأَحْيَاهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى" ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة: 56] وَسَتَأْتِي قِصَّةُ
السَّبْعِينَ فِي الْأَعْرَافِ «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى قَالَ ابْنُ فُورَكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
مُعَاقَبَتُهُمْ لِإِخْرَاجِهِمْ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ عَنْ
طَرِيقِهِ بقولهم لموسى" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" [النساء:
153] وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورِ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ
تَعَالَى فَأَكْثَرُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَى إِنْكَارِهَا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ
عَلَى جَوَازِهَا فِيهِمَا وَوُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ
فَعَلَى هَذَا لَمْ يَطْلُبُوا مِنَ الرؤية
__________
(1). راجع ص 103 فما بعدها وص 325.
(2). راجع ج 7 ص 294
(1/403)
مُحَالًا وَقَدْ سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الرُّؤْيَةِ فِي"
الْأَنْعَامِ" وَ" الْأَعْرَافِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَهْرَةً)
مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ عَلَانِيَةٌ
وَقِيلَ عِيَانًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَصْلُ الْجَهْرِ
الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ
إِظْهَارُهَا. وَالْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي: الْمُظَاهَرَةُ
بِهَا. وَرَأَيْتُ الْأَمِيرَ جِهَارًا وَجَهْرَةً أَيْ غَيْرَ
مُسْتَتِرٍ بِشَيْءٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" جَهَرَةً"
بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ زَهْرَةٍ
وَزَهَرَةٍ. وَفِي الْجَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ
صِفَةٌ لِخِطَابِهِمْ لِمُوسَى أَنَّهُمْ جَهَرُوا بِهِ
وَأَعْلَنُوا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ
وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ قُلْتُمْ جَهْرَةً يَا مُوسَى.
الثَّانِي- أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا سَأَلُوهُ مِنْ رُؤْيَةِ
اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله
نَسَقِهِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ. وَأُكِّدَ
بِالْجَهْرِ فَرْقًا بَيْنَ رُؤْيَةِ الْعِيَانِ وَرُؤْيَةِ
الْمَنَامِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَعْنَى
الصَّاعِقَةِ «2» وَقَرَأَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ"
الصَّعْقَةُ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فِي جَمِيعِ
الْقُرْآنِ. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَمُوتُونَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: دُورُ آلِ فُلَانٍ
تَرَاءَى أَيْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقِيلَ
الْمَعْنَى" تَنْظُرُونَ" أَيْ إِلَى حَالِكُمْ وَمَا نَزَلَ
بِكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَآثَارِ الصَّعْقَةِ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ) أَيْ أَحْيَيْنَاكُمْ قال قتادة ماتوا وذهبت
أرواحهم ثم ودوا لِاسْتِيفَاءِ آجَالِهِمْ قَالَ النَّحَّاسُ
وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْبَعْثِ مِنْ
قُرَيْشٍ وَاحْتِجَاجٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ خُبِّرُوا
بِهَذَا وَالْمَعْنَى" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" مَا فُعِلَ
بِكُمْ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ مَاتُوا
مَوْتَ هُمُودٍ يَعْتَبِرُ بِهِ الْغَيْرُ ثُمَّ أُرْسِلُوا
وَأَصْلُ الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ. وَقِيلَ: بَلْ أَصْلُهُ
إِثَارَةُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلِّهِ يُقَالُ: بَعَثْتُ
النَّاقَةَ: أَثَرْتُهَا أَيْ حَرَّكَتُهَا قَالَ امرؤ القيس:
__________
(1). راجع ج 7 ص 54 وص 278. [ ..... ]
(2). راجع ص 219 من هذا الجزء.
(1/404)
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَفَتَيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ
بِسُحْرَةٍ «1» ... فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عَاثٍ
وَنَشْوَانَ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَصَحَابَةٍ شُمِّ الْأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلًا وَقَدْ
مَالَ الْكَرَى بِطِلَاهَا «2»
وقال بعضهم" بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة:
56] عَلَّمْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ جَهْلِكُمْ. قُلْتُ:
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ
مَوْتَ عُقُوبَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ
حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْياهُمْ" عَلَى مَا يأتي «3» [البقرة: 243]. الْخَامِسَةُ-
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ
مَنْ أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمُعَايَنَةِ الْأَحْوَالِ
الْمُضْطَرَّةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- بَقَاءُ تَكْلِيفِهِمْ لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ
مِنْ تَعَبُّدٍ. الثَّانِي: سُقُوطُ تَكْلِيفِهِمْ مُعْتَبَرًا
بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ رَأَوُا الْجَبَلَ
فِي الْهَوَاءِ سَاقِطًا عَلَيْهِمْ وَالنَّارَ مُحِيطَةً
بِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا اضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ
وَبَقَاءُ التَّكْلِيفِ ثَابِتٌ عَلَيْهِمْ وَمِثْلُهُمْ
قَوْمُ يُونُسَ. وَمُحَالٌ أَنْ يكونوا غير مكلفين. والله
أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ
وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أَيْ جَعَلْنَاهُ
عَلَيْكُمْ كَالظُّلَّةِ. وَالْغَمَامُ جَمْعُ غَمَامَةٍ
كَسَحَابَةٍ وَسَحَابٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ غَمَائِمُ وَهِيَ السَّحَابُ
لِأَنَّهَا تَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ تَسْتُرُهَا وَكُلُّ
مُغَطًّى فَهُوَ مَغْمُومٌ وَمِنْهُ الْمَغْمُومُ على عقله.
وغم الهلال
__________
(1). السحرة (بضم أوله): السحر. وقيل: أعلى السحر. وقيل: هو من
ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر.
(2). الطلى (بضم ففتح): الأعناق.
(3). راجع ج 3 ص 230
(1/405)
إِذَا غَطَّاهُ الْغَيْمُ وَالْغَيْنُ
مِثْلُ الْغَيْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي). قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ:
غِينَ عَلَيْهِ: غُطِّيَ عَلَيْهِ. وَالْغَيْنُ: شَجَرٌ
مُلْتَفٌّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَمَامُ السَّحَابُ
الْأَبْيَضُ. وَفَعَلَ هَذَا بِهِمْ لِيَقِيَهُمْ حَرَّ
الشَّمْسِ نَهَارًا وَيَنْجَلِي فِي آخِرِهِ لِيَسْتَضِيئُوا
بِالْقَمَرِ لَيْلًا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا
جَرَى فِي التِّيهِ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ لَمَّا
امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ
وَقِتَالِهِمْ وَقَالُوا لِمُوسَى" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا" «1» [المائدة: 42]. فَعُوقِبُوا فِي ذَلِكَ
الْفَحْصِ «2» أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي خَمْسَةِ
فَرَاسِخَ أَوْ سِتَّةٍ. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ
النَّهَارَ كُلَّهُ وَيَنْزِلُونَ لِلْمَبِيتِ فَيُصْبِحُونَ
حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كَانُوا بِأَجْمَعِهِمْ فِي التِّيهِ
قَالُوا لِمُوسَى: مَنْ لَنَا بِالطَّعَامِ! فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. قَالُوا: مَنْ
لَنَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ! فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ.
قَالُوا: فَبِمَ نَسْتَصْبِحُ! فَضَرَبَ لَهُمْ عَمُودَ نُورٍ
فِي وَسَطِ مَحِلَّتِهِمْ وَذَكَرَ مَكِّيٌّ عَمُودٌ مِنْ
نَارٍ. قَالُوا مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ! فَأَمَرَ مُوسَى
بِضَرْبِ الْحَجَرِ قَالُوا مَنْ لَنَا بِاللِّبَاسِ!
فَأُعْطُوا أَلَّا يَبْلَى لَهُمْ ثَوْبٌ وَلَا يَخْلَقَ وَلَا
يَدْرَنَ وَأَنْ تَنْمُوَ صِغَارُهَا حَسَبَ نُمُوِّ
الصِّبْيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)
اخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ مَا هُوَ وَتَعْيِينُهُ عَلَى
أَقْوَالٍ فَقِيلَ التَّرَّنْجَبِينُ «3» - بِتَشْدِيدِ
الرَّاءِ وَتَسْكِينِ النُّونِ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَيُقَالُ
الطَّرَّنْجَبِينُ بِالطَّاءِ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ وَقِيلَ عَسَلٌ:
وَقِيلَ شَرَابٌ حُلْوٌ. وَقِيلَ: خُبْزُ الرِّقَاقِ عَنْ
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقِيلَ:" الْمَنُّ" مَصْدَرٌ يَعُمُّ
جَمِيعَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ
تَعَبٍ وَلَا زَرْعٍ وَمِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ
الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَاؤُهَا
شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) فِي رِوَايَةٍ (مِنَ الْمَنِّ الَّذِي
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْكَمْأَةَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَيْ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التِّيهِ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ لِأَنَّهُ لَا
مَئُونَةَ فِيهَا بِبَذْرٍ وَلَا سَقْيٍ وَلَا عِلَاجٍ فَهِيَ
مِنْهُ أَيْ مِنْ جِنْسٍ مَنِّ
__________
(1). راجع ج 6 ص 128.
(2). الفحص: كل موضع يسكن. وفي حديث كعب: (إن الله بارك في
الشام وخص بالتقديس من فحص الأردن إلى رفح ... ) وفحصه ما بسط
منه وكشف من نواحيه. (عن القاموس والنهاية).
(3). الترنجبين: طل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد
متحبب (عن مفردات ابن البيطار).
(1/406)
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَنَّهُ كَانَ
دُونَ تَكَلُّفٍ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ
مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ كَالثَّلْجِ
فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِهِ فَإِنِ
ادَّخَرَ مِنْهُ شَيْئًا فَسَدَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدَّخِرُونَ لِيَوْمِ
السَّبْتِ فَلَا يَفْسُدُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ
يَوْمُ عِبَادَةٍ وَمَا كَانَ ينزل عليهم يوم السبت شي.
الثَّالِثَةُ- لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ
مَاءَ الْكَمْأَةِ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالطِّبِّ: إِمَّا لِتَبْرِيدِ الْعَيْنِ مِنْ
بَعْضِ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُسْتَعْمَلُ
بِنَفْسِهَا مُفْرَدَةً وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ
فَمُرَكَّبَةٌ مَعَ غَيْرِهَا. وَذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا بَحْتًا فِي
جَمِيعِ مَرَضِ الْعَيْنِ. وَهَذَا كَمَا اسْتَعْمَلَ أَبُو
وَجْزَةَ الْعَسَلَ فِي جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ كُلِّهَا حَتَّى
فِي الْكُحْلِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ"
النَّحْلِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَهْلُ
اللُّغَةِ: الْكَمْءُ وَاحِدٌ وَكَمْآنُ اثْنَانِ وَأَكْمُؤٌ
ثَلَاثَةٌ فَإِذَا زَادُوا قَالُوا- كَمْأَةٌ- بِالتَّاءِ-
عَلَى عَكْسِ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ. وَالْمَنُّ اسْمُ جِنْسٍ لَا
وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَهُ
الْأَخْفَشُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّلْوى)
اخْتُلِفَ فِي السَّلْوَى فَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى بِعَيْنِهِ
قَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السَّلْوَى طير
بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي «2» فَقَالَ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ
السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
ظَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلَ. قُلْتُ: مَا ادَّعَاهُ مِنَ
الْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّجُ «3»
أَحَدُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْعَسَلُ
وَاسْتَدَلَّ بِبَيْتِ الْهُذَلِيِّ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَلِكَ
بِلُغَةِ كِنَانَةَ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسْلَى بِهِ
وَمِنْهُ عَيْنُ السُّلْوَانِ «4»، وَأَنْشَدَ:
لَوْ أَشْرَبُ السُّلْوَانَ مَا سَلَيْتُ ... مَا بِي غِنًى
عَنْكِ وإن غنيت «5»
__________
(1). راجع ج 10 ص 136.
(2). هو خالد بن زهير.
(3). هو مؤرج بن عمر السدوسي ويكنى أبا فيد. كان من أصحاب
الخليل بن أحمد مات سنة خمس وتسعين ومائة.
(4). عين السلوان: عين نضاخة يتبرك بها ويستشفى منها بالبيت
المقدس. (عن معجم ياقوت).
(5). البيت لرؤبة.
(1/407)
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالسَّلْوَى
الْعَسَلُ وَذَكَرَ بَيْتَ الْهُذَلِيِّ:
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَلَمْ يَذْكُرْ غَلَطًا. وَالسُّلْوَانَةُ (بِالضَّمِّ):
خَرَزَةٌ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا صُبَّ عَلَيْهَا مَاءُ
الْمَطَرِ فَشَرِبَهُ الْعَاشِقُ سَلَا قَالَ:
شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءَ مُزْنَةٍ ... فَلَا
وَجَدِيدُ الْعَيْشِ يَا مَيَّ مَا أَسْلُو
وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ السُّلْوَانُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
السُّلْوَانُ دَوَاءٌ يُسْقَاهُ الْحَزِينُ فَيَسْلُو
وَالْأَطِبَّاءُ يُسَمُّونَهُ الْمُفَرِّحَ. يُقَالُ: سَلَيْتُ
وَسَلَوْتُ لُغَتَانِ. وَهُوَ فِي سَلْوَةٍ مِنَ الْعَيْشِ
أَيْ فِي رَغَدٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتُلِفَ
فِي السَّلْوَى هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ فَقَالَ
الْأَخْفَشُ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلُ
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ
سَلْوَى مِثْلُ جَمَاعَتِهِ كَمَا قَالُوا: دِفْلَى «1»
لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَسُمَانَى وَشُكَاعَى «2» فِي
الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُهُ سلواة
وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هِزَّةٌ «3» ... كَمَا انْتَفَضَ
السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ
سَلَاوِي. السَّادِسَةُ-" السَّلْوَى" عَطْفٌ عَلَى" الْمَنِّ"
وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْإِعْرَابُ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ.
وَوَجَبَ هَذَا فِي الْمَقْصُورِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ. قَالَ
الْخَلِيلُ: وَالْأَلِفُ حَرْفٌ هَوَائِيٌّ لَا مُسْتَقَرَّ
لَهُ فَأَشْبَهَ الْحَرَكَةَ فَاسْتَحَالَتْ حَرَكَتُهُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ حُرِّكَتِ الْأَلِفُ صَارَتْ
هَمْزَةً. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ) ... " كُلُوا" فِيهِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظَّاهِرِ
عَلَيْهِ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قَدْ جَمَعَتِ الْحَلَالَ
واللذيذ.
__________
(1). الدفلى (كذكرى): شجر مر أخضر حسن المنظر يكون في الأودية.
(2). الشكاعى (كحبارى وقد تفتح) من دق النبات وهي دقيقة
العيدان صغيرة خضراء والناس يتداوون بها. [ ..... ]
(3). في الأصول: (سلوة) وهو تحريف.
(1/408)
وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا
حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (58)
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما
ظَلَمُونا) يُقَدَّرُ قَبْلَهُ فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا
النِّعَمَ بِالشُّكْرِ. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) لمقابلتهم النعم بالمعاصي.
[سورة البقرة (2): آية 58]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً
وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (58)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) حُذِفَتِ
الْأَلِفُ مِنْ" قُلْنَا" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الدَّالِ
بَعْدَهَا وَالْأَلِفُ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا قَبْلَ
الدَّالِ أَلِفُ وَصْلٍ لِأَنَّهُ مِنْ يَدْخُلُ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هذِهِ الْقَرْيَةَ) أَيْ
الْمَدِينَةَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقَرَّتْ أَيْ
اجْتَمَعَتْ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ
جَمَعْتُهُ وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ قِرًى (بِكَسْرِ الْقَافِ)
مَقْصُورٌ. وَكَذَلِكَ مَا قُرِيَ بِهِ الضَّيْفُ قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ. وَالْمِقْرَاةُ لِلْحَوْضِ. وَالْقَرِيُّ
لِمَسِيلِ الْمَاءِ. وَالْقَرَا لِلظَّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
«1»:
لَاحِقُ بَطْنٍ بِقَرًا سَمِينِ
وَالْمَقَارِي: الْجِفَانُ الْكِبَارُ قَالَ:
عِظَامُ الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لَا يُفَزَّعُ
وَوَاحِدُ الْمَقَارِي مِقْرَاةٌ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى
الْجَمْعِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَالْقِرْيَةُ (بِكَسْرِ
الْقَافِ) لُغَةُ الْيَمَنِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ:
أَرِيحَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ
شَبَّةَ: كَانَتْ قَاعِدَةَ وَمَسْكَنَ مُلُوكٍ. ابْنُ
كَيْسَانَ الشَّامُ. الضَّحَّاكُ: الرَّمْلَةُ وَالْأُرْدُنُّ
وَفِلَسْطِينُ وَتَدْمُرُ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ
أَنَّهُ أَبَاحَ لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
__________
(1). هو حميد الأرقط. وصف فرسا بضمور البطن ثم نفى أن تكون
ضمره من هزال فقال: (بقرا سمين). واللاحق الضامر. (عن شرح
الشواهد).
(1/409)
الثالثة- قوله تعالى (فَكُلُوا) إباحة. و
(رَغَداً) كَثِيرًا وَاسِعًا وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ أَيْ أكلا رغد. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَانَتْ أَرْضًا مُبَارَكَةً
عَظِيمَةَ الْغَلَّةِ فَلِذَلِكَ قَالَ" رَغَداً"
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً) الْبَابُ يُجْمَعُ أَبْوَابًا وَقَدْ قَالُوا: أبوبه
للازدواج قال الشاعر «1»:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ ... يَخْلِطُ
بِالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا
وَلَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَجُزْ. وَمِثْلُهُ قول عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ- أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ
خَزَايَا وَلَا نَدَامَى). وَتَبَوَّبْتُ بَوَّابًا
اتَّخَذْتُهُ وَأَبْوَابٌ مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا
شي مِنْ بَابَتِكَ أَيْ يَصْلُحُ لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَعْنَى السُّجُودِ «2» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. والباب الذي أمروا بدخول هُوَ بَابٌ فِي
بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِ"- بَابِ حِطَّةٍ"
عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي
كَانَ يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَ"
سُجَّداً" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين
خشوعا لا على هية مُتَعَيِّنَةٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَقُولُوا) عَطْفٌ عَلَى ادْخُلُوا. (حِطَّةٌ)
بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى إِضْمَارِ
مُبْتَدَأٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَوْ يَكُونُ
حِكَايَةً. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَتْ" حِطَّةً"
بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَحْطِطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا
حِطَّةً. قَالَ النَّحَّاسُ: الْحَدِيثُ «3» عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا
مَغْفِرَةً تَفْسِيرٌ لِلنَّصْبِ أَيْ قُولُوا شَيْئًا يَحُطُّ
ذُنُوبَكُمْ كَمَا يُقَالُ قُلْ خَيْرًا وَالْأَئِمَّةُ مِنَ
الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ وَهُوَ أَوْلَى فِي اللُّغَةِ
لِمَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى بَدَّلَ قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: يُقَالُ بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ
وَلَمْ أُزِلْ عَيْنَهُ. وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُ عَيْنَهُ
وَشَخْصَهُ كَمَا قَالَ «4»:
عزل الأمير للأمير المبدل
__________
(1). هو القلاخ بن جناب. وقيل: هو ابن مقبل. (عن اللسان)
(2). راجع ص 345.
(3). في الأصول: (قال النحاس جاء الحديث ... ) والتصويب عن
إعراب القرآن للنحاس. و (الحديث) مبتدأ وخبره (تفسير).
(4). هو أبو النجم. (عن إعراب القرآن للنحاس).
(1/410)
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" قالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ
هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ" [يونس: 15]. وَحَدِيثُ «1» ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالُوا" حِطَّةٌ" تَفْسِيرٌ عَلَى الرَّفْعِ. هَذَا
كُلُّهُ قَوْلُ النَّحَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ:"
حِطَّةٌ" بِمَعْنَى حُطَّ ذُنُوبَنَا أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِيَحُطَّ بِهَا ذُنُوبَهُمْ
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ. أَبَانُ
بْنُ تَغْلِبَ: التَّوْبَةُ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّ ... هُـ بِهَا ذَنْبَ
عَبْدِهِ مَغْفُورًا
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ" حِطَّةٌ" كَلِمَةٌ
أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَوْ قَالُوهَا لَحُطَّتْ
أَوْزَارُهُمْ. وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ أَيْضًا فِي
الصِّحَاحِ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَعَبَّدُوا
بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ
الْحَدِيثِ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قِيلَ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا
حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [فَبَدَّلُوا] «2»
فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ
وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ). وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَقَالَ (فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي
شَعْرَةٍ). فِي غَيْرِ الصحيحين" حنطة في شعر". وقيل: قالوا
هطاسمهاثا. وَهِيَ لَفْظَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تَفْسِيرُهَا:
حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ حَكَاهَا ابْنُ قُتَيْبَةَ وَحَكَاهُ
الْهَرَوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَكَانَ
قَصْدُهُمْ خِلَافَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَعَصَوْا
وَتَمَرَّدُوا وَاسْتَهْزَءُوا فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ
بِالرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ
طَاعُونًا أَهْلَكَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ
أَنَّ الْبَابَ جُعِلَ قَصِيرًا لِيَدْخُلُوهُ رُكَّعًا
فَدَخَلُوهُ مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ
يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا أَوْ بِمَعْنَاهَا فَإِنْ
كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ
تَبْدِيلُهَا لِذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ مَا
أَمَرَهُ بِقَوْلِهِ. وَإِنْ وَقَعَ بِمَعْنَاهَا جَازَ
تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا
يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ.
__________
(1). في الأصل: (ولحديث ابن مسعود). والتصويب عن النحاس.
(2). الزيادة عن صحيح مسلم.
(1/411)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ
بِمَوَاقِعِ الْخِطَابِ الْبَصِيرِ بِآحَادِ كَلِمَاتِهِ
نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لَكِنْ بِشَرْطِ
الْمُطَابَقَةِ لِلْمَعْنَى بكمال وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ
ابْنُ سِيرِينَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَرَجَاءُ بْنُ
حَيْوَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: انْقُصْ مِنَ الْحَدِيثِ إِنْ
شِئْتَ وَلَا تَزِدْ فِيهِ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
يُشَدِّدُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التَّاءِ وَالْيَاءِ وَنَحْوِ هَذَا.
وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا
يَرَوْنَ إِبْدَالَ اللَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرَهُ حَتَّى
إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَلْحُونًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا
يُغَيِّرُونَهُ. وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ
عَبَّادٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ سَمِعَ
حَدِيثًا فَحَدَّثَ بِهِ كَمَا سَمِعَ فَقَدْ سَلِمَ. وَرُوِيَ
نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ
وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ
يَعْتَدُّ بِالْمَعْنَى وَلَا يَعْتَدُّ بِاللَّفْظِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ وَلَا يُفَارِقُ
اللَّفْظَ. وَذَلِكَ هُوَ الْأَحْوَطُ فِي الدِّينِ
وَالْأَتْقَى وَالْأَوْلَى وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ
عَلَى خِلَافِهِ وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ هُوَ الصَّحِيحُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ
سِيرَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَرْوُونَ الْوَقَائِعَ الْمُتَّحِدَةَ بِأَلْفَاظٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا
يَصْرِفُونَ عِنَايَتَهُمْ لِلْمَعَانِي وَلَمْ يَلْتَزِمُوا
التَّكْرَارَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَلَا كَتْبِهَا وَرُوِيَ
عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ
مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَقَلْنَاهُ إِلَيْكُمْ حَسْبُكُمُ الْمَعْنَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى: لَقِيتُ
عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ وَاجْتَمَعُوا
فِي الْمَعْنَى. وَكَانَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ
وَالشَّعْبِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ
عَلَى الْمَعَانِي وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَصَبْتَ
الْمَعْنَى أَجْزَأَكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ
كَمَا سَمِعْتُ فَلَا تُصَدِّقُونِي إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى.
وَقَالَ وَكِيعٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى
وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ
عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ
وَتَرْجَمَتِهِ لَهُمْ وَذَلِكَ هُوَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى.
وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِيمَا قَصَّ مِنْ
أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَلَفَ فَقَصَّ قَصَصًا ذَكَرَ بَعْضَهَا
فِي مَوَاضِعَ بألفاظ مختلقة وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَنَقَلَهَا
مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ
مُخَالِفٌ لَهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ والحذف
والإلغاء
(1/412)
وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَإِذَا
جَازَ إِبْدَالُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَلَأَنْ
يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى. احْتَجَّ بِهَذَا
الْمَعْنَى الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي
الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ
مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا) وَذِكْرُ
الْحَدِيثِ. وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ
مَضْجَعِهِ فِي دُعَاءٍ عَلَّمَهُ (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ
الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) فَقَالَ
الرَّجُلُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنَبِيِّكَ الَّذِي
أَرْسَلْتَ). قَالُوا: أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ
لِمَنْ عَلَّمَهُ الدُّعَاءَ مُخَالَفَةَ اللَّفْظِ وَقَالَ:
(فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا). قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُهُ
(فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا لَا
لَفْظُهَا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ حُكْمُهُ
قَوْلُهُ (فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ
حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ). ثُمَّ إِنَّ
هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ قَدْ نُقِلَ بِأَلْفَاظٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يَكُونَ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَكِنِ
الْأَغْلَبُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ نُقِلَ بألفاظ مختلفة
وذلك أدل دليل عَلَى الْجَوَازِ. وَأَمَّا رَدُّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الرَّجُلَ مِنْ قَوْلِهِ (وَرَسُولِكَ إِلَى
قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ) لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْدَحُ وَلِكُلِّ نَعْتٍ مِنْ
هَذَيْنِ النَّعْتَيْنِ مَوْضِعٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ
الرَّسُولِ يَقَعُ عَلَى الْكَافَّةِ وَاسْمُ النَّبِيِّ لَا
يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ!
وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ. فَلَمَّا
قَالَ: (وَنَبِيِّكَ) جَاءَ بِالنَّعْتِ الْأَمْدَحِ ثُمَّ
قَيَّدَهُ بِالرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ (الَّذِي أَرْسَلْتَ).
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَقْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَرَسُولِكَ إِلَى
قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ) لِيَجْمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ
وَالرِّسَالَةِ. وَمُسْتَقْبَحٌ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ:
هَذَا رَسُولُ فُلَانٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَهَذَا قَتِيلُ
زَيْدٍ الَّذِي قَتَلَهُ لِأَنَّكَ تَجْتَزِئُ بِقَوْلِكَ:
رَسُولُ فُلَانٍ وَقَتِيلُ فلان عن إعادة المرسل
والقاتل إِذْ كُنْتَ لَا تُفِيدُ بِهِ إِلَّا الْمَعْنَى
الْأَوَّلَ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَسُولُ
عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى عَمْرٍو وَهَذَا
قَتِيلُ زَيْدٍ الَّذِي قَتَلَهُ بِالْأَمْسِ أَوْ فِي
وَقْعَةِ كَذَا. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
(1/413)
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ لِلرَّاوِي
الْأَوَّلِ تَغْيِيرُ ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني
تغير أَلْفَاظِ الْأَوَّلِ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى طَمْسِ
الْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ لِدِقَّةِ الْفُرُوقِ
وَخَفَائِهَا. قِيلَ لَهُ: الْجَوَازُ مَشْرُوطٌ
بِالْمُطَابَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ
عُدِمَتْ لَمْ يَجُزْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخِلَافُ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ
إِلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي
مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ وَأَمَّا
مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
إِذِ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ وَالْفُهُومُ قَدْ
تَبَايَنَتْ وَالْعَوَائِدُ قَدِ اخْتَلَفَتْ وَهَذَا هُوَ
الْحَقُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا:
لَقَدْ تَعَاجَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ
الْجَوَازَ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا بِالْمُطَابَقَةِ فَلَا
فَرْقَ بَيْنَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَزَمَنِ
غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يُفَصِّلْ أَحَدٌ مِنَ
الْأُصُولِيِّينَ وَلَا أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ.
نَعَمْ لَوْ قَالَ: الْمُطَابَقَةُ فِي زَمَنِهِ أَبْعَدُ
كَانَ أَقْرَبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) قِرَاءَةُ نَافِعٍ
بِالْيَاءِ مَعَ ضَمِّهَا. وَابْنِ عَامِرٍ بِالتَّاءِ مَعَ
ضَمِّهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ
بِالنُّونِ مَعَ نَصْبِهَا وَهِيَ أَبْيَنُهَا لِأَنَّ
قَبْلَهَا" وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا" فَجَرَى" نَغْفِرْ"
عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقْدِيرُ
وَقُلْنَا ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ وَلِأَنَّ
بَعْدَهُ" وَسَنَزِيدُ" بِالنُّونِ. و" خَطاياكُمْ" اتِّبَاعًا
لِلسَّوَادِ وَأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ. وَوَجْهُ مَنْ قرأ
بالتاء أنه أنث لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْخَطَايَا لِأَنَّهَا
جَمْعُ خَطِيئَةٍ عَلَى التَّكْسِيرِ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ
بِالْيَاءِ أَنَّهُ ذَكَّرَ لَمَّا حَالَ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ
وَبَيْنَ فِعْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ"
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" [البقرة: 37].
وَحَسُنَ الْيَاءُ وَالتَّاءُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ إِخْبَارٌ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ" وَإِذْ قُلْنَا"
لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْخَاطِئِينَ لَا
يَغْفِرُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَاسْتُغْنِيَ عَنِ
النُّونِ وَرُدَّ الْفِعْلُ إِلَى الْخَطَايَا الْمَغْفُورَةِ.
الثَّامِنَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ خَطَايَا جَمْعُ
خَطِيئَةٍ بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ الْخَلِيلُ: الْأَصْلُ فِي
خَطَايَا أَنْ يَقُولَ: خَطَايِئٌ ثُمَّ قُلِبَ فَقِيلَ:
خَطَائِيٌ بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ تُبْدِلُ مِنَ
الْيَاءِ أَلِفًا بَدَلًا لَازِمًا فتقول: خطاء فَلَمَّا
اجْتَمَعَتْ أَلِفَانِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ وَالْهَمْزَةُ
مِنْ جِنْسِ الْأَلِفِ صِرْتَ كَأَنَّكَ جَمَعْتَ بَيْنَ
ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ فَأَبْدَلْتَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً
فَقُلْتَ: خَطَايَا. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ
الْأَصْلَ مِثْلُ الْأَوَّلِ خَطَايِئٌ ثُمَّ وَجَبَ بِهَذِهِ
أَنْ تَهْمِزَ الْيَاءَ كَمَا هَمَزْتَهَا فِي مَدَائِنَ
فَتَقُولُ:
(1/414)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا
عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
خَطَائِئٌ وَلَا تَجْتَمِعُ هَمْزَتَانِ
فِي كَلِمَةٍ فَأَبْدَلْتَ مِنَ الثَّانِيَةِ يَاءً فَقُلْتَ:
خَطَائِي ثُمَّ عَمِلْتَ كَمَا عَمِلْتَ فِي الْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: خَطَايَا جمع خطية بلا همز، كَمَا
تَقُولُ: هَدِيَّةً وَهَدَايَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ
جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاء. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْ
جَمَعْتَهَا مَهْمُوزَةً أَدْغَمْتَ الْهَمْزَةَ فِي
الْهَمْزَةِ كَمَا قُلْتَ: دَوَابٌّ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ فِي إِحْسَانِ
مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ. وَيُقَالُ: يَغْفِرُ خَطَايَا
مَنْ رَفَعَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِلْغَدِ وَسَنَزِيدُ فِي
إِحْسَانِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ لِلْغَدِ. وَيُقَالُ: يَغْفِرُ
خَطَايَا مَنْ هُوَ عَاصٍ وَسَيَزِيدُ فِي إِحْسَانِ مَنْ هُوَ
مُحْسِنٌ أَيْ نَزِيدُهُمْ إِحْسَانًا عَلَى الْإِحْسَانِ
الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ
أَحْسَنَ. وَالْمُحْسِنُ مَنْ صَحَّحَ عَقْدَ تَوْحِيدِهِ
وَأَحْسَنَ سِيَاسَةَ نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَدَاءِ
فَرَائِضِهِ وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَفِي حَدِيثِ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَا الْإِحْسَانُ قَالَ أَنْ
تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ صدقت) وذكر الحديث. خرجه
مسلم.
[سورة البقرة (2): آية 59]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى: (فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا) ... " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ أَيْ فَبَدَّلَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا
حِطَّةٌ فَقَالُوا حِنْطَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَزَادُوا
حَرْفًا فِي الْكَلَامِ فَلَقُوا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقُوا
تَعْرِيفًا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ وَالِابْتِدَاعِ
فِي الشَّرِيعَةِ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ شَدِيدَةُ الضَّرَرِ.
هَذَا فِي تَغْيِيرِ كَلِمَةٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ
أَوْجَبَتْ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ فَمَا ظَنُّكَ
بِتَغْيِيرِ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ! هَذَا
وَالْقَوْلُ أَنْقَصُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَيْفَ بِالتَّبْدِيلِ
وَالتَّغْيِيرِ فِي الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَبَدَّلَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى بَدَّلَ وَأَبْدَلَ
وقرى" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا" عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَبْدَلْتُ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ.
وَبَدَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الخوف
(1/415)
أَمْنًا. وَتَبْدِيلَ الشَّيْءِ أَيْضًا
تَغْيِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلٍ. وَاسْتَبْدَلَ
الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ وَتَبَدَّلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَهُ
مَكَانَهُ. وَالْمُبَادَلَةُ التَّبَادُلُ. وَالْأَبْدَالُ:
قَوْمٌ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ
إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ
بِآخَرَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْوَاحِدُ بَدِيلٌ.
وَالْبَدِيلُ: الْبَدَلُ. وَبَدَلُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ
يُقَالُ: بَدَلٌ وَبِدْلٌ لُغَتَانِ مِثْلُ شَبَهٍ وَشِبْهٍ
وَمَثَلٍ وَمِثْلٍ وَنَكَلٍ وَنِكْلٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
«1»: لَمْ يُسْمَعْ فِي فَعَلٌ وَفِعْلٌ غَيْرَ هَذِهِ
الْأَرْبَعَةِ الْأَحْرُفِ. وَالْبَدَلُ: وَجَعٌ يَكُونُ فِي
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَقَدْ بَدِلَ (بِالْكَسْرِ)
يَبْدَلُ بَدَلًا الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كَرَّرَ لَفْظَ"
ظَلَمُوا" وَلَمْ يُضْمِرْهُ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ.
وَالتَّكْرِيرُ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا
اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ كَمَا فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وَقَوْلِهِ" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ" [البقرة: 79] ثُمَّ قَالَ بَعْدُ"
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ
مِمَّا كَتَبُوا وَكَرَّرَ الْوَيْلَ تَغْلِيظًا لِفِعْلِهِمْ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ نَهْسًا وَحَزَّا «2» ...
وَأَوْجَعَنِي الدَّهْرُ قَرْعًا وَغَمْزَا
أَرَادَتْ أَنَّ الدَّهْرَ أَوْجَعَهَا بِكُبْرَيَاتِ
نَوَائِبِهِ وَصُغْرَيَاتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَجِيءُ
تَكْرِيرِ الظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ قَبْلَ أَنْ
يَتِمَّ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" الْحَاقَّةُ. مَا
الْحَاقَّةُ" [الحاقة: 2 - 1] و" الْقارِعَةُ. مَا
الْقارِعَةُ" [القارعة: 2 - 1] كَانَ الْقِيَاسُ لَوْلَا مَا
أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ: الْحَاقَّةُ
مَا هِيَ وَالْقَارِعَةُ مَا هِيَ وَمِثْلُهُ" فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ". كرر" فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ" تَفْخِيمًا لِمَا يُنِيلُهُمْ مِنْ جَزِيلِ
الثَّوَابِ وكرر لفظ" أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ" لِمَا
يَنَالُهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ
قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا ... كَانَ
الْغُرَابُ مُقَطَّعُ الْأَوْدَاجِ
وَقَدْ جَمَعَ عدي بن زيد المعنيين فقال:
__________
(1). في الأصل: (أبو عبيدة) والتصويب عن اللسان وصحاح الجوهري.
(2). في بعض الأصول: (نهشا) بالشين المعجمة. والنهش: أن يتناول
المرء الشيء بفمه لبعضه فيؤثر فيه ولا يجرحه. والنهس: القبض
على اللحم ونتره أي جذبه.
(1/416)
وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
لا أرى الموت يسبق الموت شي ... نَغَّصَ
الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَكَرَّرَ لَفْظَ الْمَوْتِ ثَلَاثًا وَهُوَ مِنَ الضَّرْبِ
الْأَوَّلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ
أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَكَرَّرَ ذِكْرَ مَحْبُوبَتِهِ ثَلَاثًا تَفْخِيمًا لَهَا
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْزاً) قِرَاءَةُ
الْجَمَاعَةِ" رِجْزاً" بِكَسْرِ الرَّاءِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ
بِضَمِّ الرَّاءِ. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ (بالزاي) و
(بالسين): النتن والقذر ومنه قول تعالى" فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ، [التوبة: 125] أي نتنا إلى نتنهم قال
الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الرِّجْزُ هُوَ الرِّجْسُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا يُقَالُ السُّدْغُ وَالزُّدْغُ
وَكَذَا رِجْسٌ وَرِجْزٌ بِمَعْنًى. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرُّجْزَ (بِالضَّمِّ) اسْمُ
صَنَمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ وقرى بذلك في قول تَعَالَى"
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" «1» وَالرَّجَزُ (بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَالْجِيمِ): نَوْعٌ مِنَ الشِّعْرِ وَأَنْكَرَ الْخَلِيلُ
أَنْ يَكُونَ شِعْرًا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّجَزِ وَهُوَ
دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ فِي أَعْجَازِهَا فَإِذَا ثَارَتِ
ارْتَعَشَتْ أَفْخَاذُهَا. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ
بِفِسْقِهِمْ. وَالْفِسْقِ الْخُرُوجُ وَقَدْ تَقَدَّمَ «2».
وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ:" يفسقون" بكسر السين.
[سورة البقرة (2): آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
فِيهِ ثمان مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذِ
اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) كُسِرَتِ الذَّالُ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ. وَالسِّينُ سِينُ السُّؤَالِ مِثْلُ:
اسْتَعْلَمَ وَاسْتَخْبَرَ وَاسْتَنْصَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْ
طَلَبَ وَسَأَلَ السَّقْيَ لِقَوْمِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ:
سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال: «3»
__________
(1). راجع ج 19 ص 65.
(2). يراجع ص 245 من هذا الجزء.
(3). هو لبيد (كما في اللسان).
(1/417)
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ...
نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
وَقِيلَ: سَقَيْتُهُ مِنْ سَقْيِ الشَّفَةِ وَأَسْقَيْتُهُ
دَلَلْتُهُ عَلَى الْمَاءِ. الثَّانِيَةُ- الِاسْتِسْقَاءُ
إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عُدْمِ الْمَاءِ وَحَبْسِ الْقَطْرِ
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ إِظْهَارُ
الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالذِّلَّةِ
مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. وَقَدِ اسْتَسْقَى نَبِيُّنَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى
الْمُصَلَّى مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا مُتَخَشِّعًا
مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا وَحَسْبُكَ بِهِ! فَكَيْفَ بِنَا
وَلَا تَوْبَةَ مَعَنَا إِلَّا الْعِنَادَ وَمُخَالَفَةَ رَبِّ
الْعِبَادِ فَأَنَّى نُسْقَى! لَكِنْ قَدْ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَلَمْ
يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ
مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)
الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الثَّالِثَةُ- سُنَّةُ الِاسْتِسْقَاءِ الْخُرُوجُ إِلَى
الْمُصَلَّى- عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا-
وَالْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ
مِنْ سُنَّتِهِ صَلَاةٌ وَلَا خُرُوجٌ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ
لَا غَيْرُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ
فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ دُعَاءٌ عُجِّلَتْ إِجَابَتُهُ
فَاكْتُفِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ
بَيَانَ سُنَّةٍ وَلَمَّا قَصَدَ الْبَيَانَ بَيَّنَ
بِفِعْلِهِ حَسَبَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن زيد
الْمَازِنِيُّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ
رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَسَيَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الِاسْتِسْقَاءِ زِيَادَةٌ فِي
سُورَةِ" هُودٍ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)
الْعَصَا: مَعْرُوفٌ وَهُوَ اسْمٌ مَقْصُورٌ مُؤَنَّثٌ
وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، قَالَ: «2»
عَلَى عصويها «3» سابري مشبرق
__________
(1). لم يذكر المصنف شيئا عن الاستسقاء في سورة (هود) وإنما هو
مذكور في سورة (نوح) ج 18 ص 302. [ ..... ]
(2). هو ذو الرمة. وصدر البيت:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه
(3). عصويها: عرقوتي الدلو وهما الخشبتان اللتان يعترضان على
الدلو كالصليب. والسابري: الدقيق من الثياب. والمشبرق: المخرق.
(1/418)
وَالْجَمْعُ عُصِيٌّ وَعِصِيٌّ، وَهُوَ
فُعُولٌ وَإِنَّمَا كُسِرَتِ الْعَيْنُ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ
الْكَسْرَةِ وَأَعْصٍ أَيْضًا مِثْلُهُ مِثْلُ زَمَنٍ
وَأَزْمُنٍ وَفِي الْمَثَلِ" الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ" أَيْ
بَعْضُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُمْ" أَلْقَى عَصَاهُ"
أَيْ أَقَامَ وَتَرَكَ الْأَسْفَارَ وَهُوَ مَثَلٌ. قَالَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا
قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَفِي التَّنْزِيلِ" وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى. قالَ
هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها" [طه: 18 - 17]. وَهُنَاكَ
«1» يَأْتِي الْكَلَامُ فِي مَنَافِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى قَالَ الْفَرَّاءُ أَوَّلُ لَحْنٍ سُمِعَ
بِالْعِرَاقِ هَذِهِ عَصَاتِي. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْعَصَا
عَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَمِنْهُ يُقَالُ فِي
الْخَوَارِجِ: قَدْ شَقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ أَيْ
اجْتِمَاعَهُمْ وَائْتِلَافَهُمْ. وَانْشَقَّتِ الْعَصَا أَيْ
وَقَعَ الْخِلَافُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ...
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
أَيْ يَكْفِيكَ وَيَكْفِي الضَّحَّاكَ. وَقَوْلُهُمْ: لَا ترفع
عصاك عن أهلك براد بِهِ الْأَدَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَجَرُ مَعْرُوفٌ وَقِيَاسُ جَمْعِهِ فِي أَدْنَى
الْعَدَدِ أَحْجَارٌ وَفِي الْكَثِيرِ حِجَارٌ وَحِجَارَةٌ
وَالْحِجَارَةُ نَادِرٌ. وَهُوَ كَقَوْلِنَا: جَمَلٌ
وَجِمَالَةٌ وَذَكَرٌ وَذِكَارَةٌ كَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ
والجوهري. قلت: وفي القرآن" فَهِيَ كَالْحِجارَةِ" [البقرة:
74]." وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ" [البقرة: 74]." قُلْ كُونُوا
حِجارَةً" [الاسراء: 50]." تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ" [الفيل:
4]." وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً" [الحجر: 74] فَكَيْفَ
يَكُونُ نَادِرًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَا أَنَّهُ نادر في القياس
كثير في الاستعمال فصيح. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَانْفَجَرَتْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ
فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَقَدْ كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى
تَفْجِيرِ الْمَاءِ وَفَلْقِ الْحَجَرِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ
لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْبِطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ
حِكْمَةً مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِي وُصُولِهِمْ إِلَى الْمُرَادِ
وَلِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي
الْمَعَادِ. وَالِانْفِجَارُ: الِانْشِقَاقُ وَمِنْهُ انْشَقَّ
الْفَجْرُ. وَانْفَجَرَ الْمَاءُ انْفِجَارًا انْفَتَحَ.
وَالْفُجْرَةُ: مَوْضِعُ تَفَجُّرِ الْمَاءِ وَالِانْبِجَاسِ
أَضْيَقُ مِنَ الِانْفِجَارِ لِأَنَّهُ يَكُونُ انْبِجَاسًا
ثُمَّ يَصِيرُ انْفِجَارًا. وَقِيلَ: انْبَجَسَ وَتَبَجَّسَ
وَتَفَجَّرَ وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره
__________
(1). راجع ج 11 ص 186.
(1/419)
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اثْنَتا
عَشْرَةَ عَيْناً) ... " اثْنَتا" في موضع رفع ب"-
فَانْفَجَرَتْ" وَعَلَامَةُ الرَّفْعِ فِيهَا الْأَلِفُ
وَأُعْرِبَتْ دُونَ نَظَائِرِهَا لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ
مُعْرَبَةٌ أَبَدًا لِصِحَّةِ مَعْنَاهَا." عَيْناً" نَصْبٌ
عَلَى الْبَيَانِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى"
عَشِرَةٌ" بِكَسْرِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ
وَهَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ نَادِرٌ لِأَنَّ سَبِيلَهُمُ
التَّخْفِيفُ. وَلُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ" عَشْرَةَ"
وَسَبِيلُهُمُ التَّثْقِيلُ. قَالَ جَمِيعُهُ النَّحَّاسُ.
وَالْعَيْنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُقَالُ:
عَيْنُ الْمَاءِ وَعَيْنُ الْإِنْسَانِ وَعَيْنُ الرُّكْبَةِ
«1» وَعَيْنُ الشَّمْسِ. وَالْعَيْنُ: سَحَابَةٌ تُقْبِلُ مِنْ
نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ. وَالْعَيْنُ: مَطَرٌ يَدُومُ خَمْسًا
أَوْ سِتًّا لَا يُقْلِعُ. وَبَلَدٌ قَلِيلُ الْعَيْنِ أَيْ
قَلِيلُ النَّاسِ وَمَا بِهَا عَيَنٌ مُحَرَّكَةُ الْيَاءِ «2»
وَالْعَيْنُ: الثَّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ. وَالْعَيْنُ مِنَ
الْمَاءِ مُشَبَّهَةٌ بِالْعَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِخُرُوجِ
الْمَاءِ مِنْهَا كَخُرُوجِ الدَّمْعِ مِنْ عَيْنِ
الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ عَيْنُ الْحَيَوَانِ
أَشْرَفَ مَا فِيهِ شُبِّهَتْ بِهِ عَيْنُ الْمَاءِ لِأَنَّهَا
أَشْرَفُ مَا فِي الْأَرْضِ. السَّادِسَةُ- لَمَّا اسْتَسْقَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ أُمِرَ أن يضرب عند
استسقائه بعصاه حجرا قبل: مُرَبَّعًا طُورِيًّا (مِنَ
الطُّورِ) عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الشَّاةِ يُلْقَى فِي كَسْرِ
جُوَالِقٍ وَيُرْحَلُ بِهِ فَإِذَا نَزَلُوا وُضِعَ فِي وَسَطِ
مَحَلَّتِهِمْ وَذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَ
الْحَجَرَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَهُ فِي كُلِّ
مَرْحَلَةٍ فِي مَنْزِلَتِهِ مِنَ الْمَرْحَلَةِ الْأُولَى
وَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْآيَةِ وَالْإِعْجَازِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ اسْمَ الْحَجَرِ لِيَضْرِبَ مُوسَى
أَيَّ حَجَرٍ شَاءَ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ
حَجَرًا بِعَيْنِهِ بَيَّنَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ مُوسَى
ثَوْبَهُ لَمَّا اغْتَسَلَ وَفَرَّ بِثَوْبِهِ حَتَّى
بَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ قَوْمَهُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُنْفَصِلًا
مُرَبَّعًا تَطَّرِدُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ثَلَاثُ عُيُونٍ إِذَا
ضَرَبَهُ مُوسَى وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ ورحلوا
جفت العيون.
__________
(1). كذا في بعض نسخ الأصل. وعين الركبة (براء مضمومة وباء
موحدة): نقرة في مقدمها عند الساق ولكل ركبة عينان على التشبيه
بنقرة العين الحاسة. وفي البعض الآخر: (عين الركية) (براء
مفتوحة وياء مثناة من تحت) وهي مفجر ماء البئر ومنبعها.
(2). الذي في القاموس أن الياء تحرك وتسكن في العين بهذا
المعنى.
(1/420)
قُلْتُ: مَا أُوتِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ
وَانْفِجَارِهِ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ فِي
الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنَ
الْأَحْجَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ
وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ
لِنَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ لَحْمٍ وَدَمٍ! رَوَى
الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ وَالْفُقَهَاءُ الْأَثْبَاتُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأُتِيَ بِتَوْرٍ «1»
فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ
يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ (حَيَّ عَلَى
الطَّهُورِ). قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ
أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ
يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. لَفْظُ
النَّسَائِيِّ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ سِبْطٍ
مِنْهُمْ عَيْنًا قَدْ عَرَفَهَا لَا يَشْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَالْمَشْرَبُ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. وَقِيلَ: الْمَشْرُوبُ.
وَالْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي
الْعَرَبِ وَهُمْ ذُرِّيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادِ
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ
مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يَتَعَدَّاهَا. قَالَ عَطَاءٌ:
كَانَ لِلْحَجَرِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ
وَجْهٍ ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ لَا
يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ. وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ
سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ سِوَى خَيْلِهِمْ
وَدَوَابِّهِمْ. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ يَظْهَرُ عَلَى كُلِّ
مَوْضِعٍ مِنْ ضَرْبَةِ مُوسَى مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ
عَلَى الْحَجَرِ فَيَعْرَقُ أَوَّلًا ثُمَّ يَسِيلُ.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فِي
الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْمُتَفَجِّرَ
مِنَ الْحَجَرِ الْمُنْفَصِلِ. (وَلا تَعْثَوْا) أَيْ لَا
تُفْسِدُوا. وَالْعَيْثُ: شِدَّةُ الْفَسَادِ نَهَاهُمْ عَنْ
ذَلِكَ. يُقَالُ: عَثِيَ يَعْثَى عُثِيًّا وَعَثَا يَعْثُو
عُثُوًّا وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعُيُوثًا وَمَعَاثًا
وَالْأَوَّلُ لُغَةُ الْقُرْآنِ. وَيُقَالُ: عَثَّ يَعُثُّ فِي
الْمُضَاعَفِ: أَفْسَدَ وَمِنْهُ الْعُثَّةُ وَهِيَ السُّوسَةُ
الَّتِي تَلْحَسُ الصُّوفَ. و (مُفْسِدِينَ) حَالٌ وَتَكَرَّرَ
الْمَعْنَى تَأْكِيدًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَفِي هَذِهِ
الْكَلِمَاتِ إِبَاحَةُ النِّعَمِ وَتَعْدَادُهَا
وَالتَّقَدُّمُ في المعاصي والنهي عنها.
__________
(1). التور (بالتاء المثناة): إناء من صفرا وحجارة يشرب منه أو
يتوضأ.
(1/421)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[سورة البقرة (2): آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ
فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها
قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ
عَلى طَعامٍ واحِدٍ) كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي
التِّيهِ حِينَ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا
عَيْشَهُمُ الْأَوَّلَ بِمِصْرَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا
نَتَانَى أَهْلَ كُرَّاثٍ وَأَبْصَالٍ وَأَعْدَاسٍ فَنَزَعُوا
إِلَى عِكْرِهِمْ «1» عِكْرِ السُّوءِ وَاشْتَاقَتْ
طِبَاعُهُمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَقَالُوا:
لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. وَكَنَّوْا عَنِ الْمَنِّ
وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ
قَالُوا: طَعَامٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِهِمَا فِي
كُلِّ يَوْمٍ غِذَاءً كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى
الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ هُوَ عَلَى أَمْرٍ
وَاحِدٍ لِمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لَنْ
نَصْبِرَ عَلَى الْغِنَى فَيَكُونُ جَمِيعُنَا أَغْنِيَاءُ
فَلَا يَقْدِرُ بَعْضُنَا عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضٍ
لِاسْتِغْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ
كَانُوا فَهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْعَبِيدَ وَالْخَدَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى طَعامٍ) الطَّعَامُ يُطْلَقُ عَلَى
مَا يُطْعَمُ وَيُشْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي" وَقَالَ" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا"
[المائدة: 93] أَيْ مَا شَرِبُوهُ مِنَ الْخَمْرِ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ «2». وَإِنْ كَانَ السَّلْوَى الْعَسَلُ-
كَمَا حَكَى الْمُؤَرِّجُ- فَهُوَ مَشْرُوبٌ أَيْضًا.
وَرُبَّمَا خُصَّ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ كَمَا فِي
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ
صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا
مِنْ
__________
(1). العكر (بكسر أوله وسكون ثانيه): الأصل. وقيل: العادة
والديدن. والعكر (بالتحريك): دردي كل شي.
(2). راجع ج 6 ص 293.
(1/422)
شَعِيرٍ، الْحَدِيثَ. وَالْعُرْفُ جَارٍ
بِأَنَّ الْقَائِلَ: ذَهَبْتُ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فَلَيْسَ
يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ بَيْعِهِ دُونَ غَيْرِهِ
مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ. وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ)
هُوَ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ يُقَالُ طَعْمُهُ مُرٌّ.
وَالطَّعْمُ أَيْضًا: مَا يُشْتَهَى مِنْهُ يُقَالُ لَيْسَ
لَهُ طَعْمٌ وَمَا فُلَانٌ بِذِي طَعْمٍ إِذَا كَانَ غَثًّا.
وَالطُّعْمُ (بِالضَّمِّ): الطَّعَامُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ:
أَرُدُّ شُجَاعَ الْبَطْنِ لَوْ «1» تَعْلَمِينَهُ ...
وَأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بِالطُّعْمِ
وَأَغْتَبِقُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ فَأَنْتِهِي ... إِذَا
الزَّادُ أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ «2» ذَا طَعْمِ
أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الطَّعَامَ وَبِالثَّانِي مَا يُشْتَهَى
مِنْهُ وَقَدْ طَعِمَ يَطْعَمُ فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ
وَذَاقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي" [البقرة: 249] أَيْ مَنْ لَمْ يَذُقْهُ.
وَقَالَ" فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا" [الأحزاب: 53 [أَيْ
أَكَلْتُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي زَمْزَمَ (إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ
سُقْمٍ) «3». وَاسْتَطْعَمَنِي فُلَانٌ الْحَدِيثَ إِذَا
أَرَادَ أَنْ تُحَدِّثَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ (إِذَا
اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ). يَقُولُ: إِذَا
اسْتَفْتَحَ فَافْتَحُوا عَلَيْهِ. وَفُلَانٌ مَا يَطْعَمُ
النَّوْمَ إِلَّا قَائِمًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَعَامًا بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو ... دِ مَا تَطْعَمُ
النوم إلا صياما «4»
قوله تعالى: (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ) لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" فَادْعُ" بِكَسْرِ
الْعَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ يُجْرُونَ الْمُعْتَلَّ
مَجْرَى الصَّحِيحِ وَلَا يراعون المحذوف. و" يُخْرِجْ
" مجزوم في مَعْنَى سَلْهُ وَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ يُخْرِجُ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ
حَذْفِ
__________
(1). في ديوان الهذليين واللسان مادة (طعم): (قد تعلمينه).
(2). المزلج: من معانيه البخيل. والملزق بالقوم وليس منهم.
وكلاهما محتمل.
(3). أي يشبع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام.
(4). كذا في نسخ الأصل. ووجرة (بفتح فسكون): موضع بين مكة
والبصرة. والذي في كتب اللغة ومعاجم البلدان:
نعاما بخطمه صفر الخدو ... د لا تطعم الماء إلا صياما
وقبله:
فأما بنو عامر بالنسار ... غداة لقونا فكانوا نعاما
وهو لبشر بن أبي خازم. وخطمة (بفتح فسكون): موضع أعلى المدينة.
وفي اللسان بعد البيت: (يقول: هي صائمة منه لا تطعمه قال: وذلك
لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه).
(1/423)
اللَّامِ وَضَعَّفَهُ الزَّجَّاجُ وَ"
مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِمَّا" زَائِدَةٌ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ
وَغَيْرُ زَائِدَةٍ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ
مُوجَبٌ قَالَ النَّحَّاسُ وَإِنَّمَا دَعَا الْأَخْفَشُ إِلَى
هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَفْعُولًا لِ" يُخْرِجْ"
فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ" مَا" مَفْعُولًا وَالْأَوْلَى أَنْ
يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ
الْكَلَامِ التَّقْدِيرُ: يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ مَأْكُولًا. فَ" مِنْ" الاولى على هذا للتبعيض
والثانية للتخصيص. و (مِنْ بَقْلِها) بَدَلٌ مِنْ" مَا"
بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ. والبقل (وَقِثَّائِها) عطف عليه وكذا
ما بعده فاعلمه. والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق والشجر:
ما له ساق. وَالْقِثَّاءُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ وَقَدْ تُضَمُّ
قَافُهُ وَهِيَ قراءة يحيى بن وثاب وطلحة ابن مُصَرِّفٍ
لُغَتَانِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَقِيلَ فِي جَمْعِ قِثَّاءٍ
قَثَائِيٌّ مِثْلُ عِلْبَاءَ وَعَلَابِيٍّ إِلَّا أَنَّ
قِثَّاءً مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تَقُولُ: أَقْثَأْتُ الْقَوْمَ
أي أطعمتهم ذلك.] وقثأت «1» الْقِدْرَ سَكَنْتُ غَلَيَانَهَا
بِالْمَاءِ قَالَ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَفْثَؤُهَا
عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلَا
وَفَثَأْتُ الرَّجُلَ إِذَا كَسَرْتَهُ عَنْكَ بِقَوْلٍ أَوْ
غَيْرِهِ وَسَكَّنْتَ غَضَبَهُ وَعَدَا حَتَّى أَفْثَأَ أَيْ
أَعْيَا وَانْبَهَرَ. وَأَفْثَأَ الْحَرُّ أَيْ سَكَنَ
وَفَتَرَ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَسِيرِ مِنَ الْبِرِّ
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّثِيئَةَ تَفْثَأُ فِي الْغَضَبِ"
وَأَصْلُهُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ وَكَانَ
مَعَ غَضَبِهِ جَائِعًا فَسَقَوْهُ رَثِيئَةً فَسَكَنَ
غَضَبُهُ وَكَفَّ عَنْهُمْ. الرَّثِيئَةُ: اللَّبَنُ
الْمَحْلُوبُ عَلَى الْحَامِضِ لِيَخْثُرَ رَثَأْتُ اللَّبَنَ
رَثْأً إِذَا حَلَبْتَهُ عَلَى حامض فخثر والاسم الرثيئة.
ورتثأ اللَّبَنُ خَثُرَ [. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا
يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي
لِلسُّمْنَةِ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا
ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ فَسَمِنْتُ
كَأَحْسَنِ سمنة. وهذا إسناد صحيح.
__________
(1). الكلام الموضوع بين المربعين نقله المؤلف من معاجم اللغة
سهوا على أنه من مادة (قثا) بالقاف والواقع أنه من مادة (فثأ)
بالفاء.
(1/424)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفُومِها) اخْتُلِفَ
فِي الْفُومِ فَقِيلَ هُوَ الثُّومُ لِأَنَّهُ الْمُشَاكِلُ
لِلْبَصَلِ. رَوَاهُ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَالثَّاءُ
تُبْدَلُ مِنَ الْفَاءِ كَمَا قَالُوا مَغَافِيرُ وَمَغَاثِيرُ
«1». وَجَدَثَ وَجَدَفَ لِلْقَبْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ"
ثُومِهَا" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عن ابن
عباس. وقال أمية ابن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذال ظَاهِرَةً ... فِيهَا الْفَرَادِيسُ
وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الْفَرَادِيسُ وَاحِدُهَا فَرْدِيسٌ. وَكَرْمٌ مُفَرْدَسٌ أَيْ
مُعَرَّشٌ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ
الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يَعْنِي الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيُّ
وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَقِيلَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ: وَهُوَ
أَوْلَى وَمَنْ قَالَ بِهِ أَعْلَى وَأَسَانِيدُهُ صِحَاحٌ
وَلَيْسَ جُوَيْبِرٌ بِنَظِيرٍ لِرِوَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ
الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ قَدِ اخْتَارَا الْقَوْلَ
الْأَوَّلَ لِإِبْدَالِ الْعَرَبِ الْفَاءَ مِنَ الثَّاءِ
وَالْإِبْدَالُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِكَثِيرٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ
لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْفُومِ وَأَنَّهُ الْحِنْطَةُ قَوْلَ
أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاجِدًا ... وَرَدَ
الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَكَيْفَ يَطْلُبُ
الْقَوْمُ طَعَامًا لَا بُرَّ فِيهِ وَالْبُرُّ أَصْلُ
الْغِذَاءِ! وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو نَصْرٍ الْفُومُ
الْحِنْطَةُ وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاجِدٍ ... نَزَلَ
الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ «2»
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْفُومَةُ السُّنْبُلَةُ وَأَنْشَدَ:
وَقَالَ رَبِيئُهُمْ «3» لَمَّا أَتَانَا ... بِكَفِّهْ
فُومَةٌ أَوْ فومتان
__________
(1). المغافير: قيل: هو صمغ يسيل من شجر العرفط رائحته ليست
بطيبة. [ ..... ]
(2). في الأغاني (ج 21 ص 211) طبع أوربا: (عن زراعة فول). وقيل
البيت:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها ... حرج من الرحمن غير قليل
وعلى هذا فالقافية لامية.
(3). في بعض الأصول: (وقال رئيسهم). الربى. (ومثله الربيئة):
العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا
على جبل أو شرف ينظر منه.
(1/425)
وَالْهَاءُ فِي" كَفِّهِ" غَيْرُ
مُشْبَعَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفُومُ الْحِمَّصُ لُغَةٌ
شَامِيَّةٌ وَبَائِعُهُ فَامِيٌّ، مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ
لِأَنَّهُمْ قَدْ يُغَيِّرُونَ فِي النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا
سُهْلِيٌّ وَدُهْرِيٌّ. وَيُقَالُ: فَوِّمُوا لَنَا أي
اختبزوا. قال القراء: هِيَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ
وَقَتَادَةُ: الْفُومُ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ. مَسْأَلَةٌ-
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَمَا
لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُقُولِ. فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ،
لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ
فِي الْجَمَاعَةِ فَرْضًا- إِلَى الْمَنْعِ، وَقَالُوا: كُلُّ
مَا مَنَعَ مِنْ إِتْيَانِ الْفَرْضِ وَالْقِيَامِ بِهِ
فَحَرَامٌ عَمَلُهُ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا
خَبِيثَةً، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَبِيَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ. وَمِنَ
الْحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِبَدْرٍ
فِيهِ «1» خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا،
قَالَ: فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ
(قَرِّبُوهَا) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا
رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: (كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ
لَا تُنَاجِي). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ. فَهَذَا
بَيِّنٌ فِي الْخُصُوصِ لَهُ وَالْإِبَاحَةِ لِغَيْرِهِ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى
أَبِي أَيُّوبَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ
سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ
وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا وَلَكِنِّي
أَكْرَهُهُ). قَالَ فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا
كَرِهْتَ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُؤْتَى (يَعْنِي يَأْتِيهِ الْوَحْيُ) فَهَذَا
نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَكَلُوا الثُّومَ زَمَنَ خَيْبَرَ
وَفَتْحِهَا: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ
رِيحَهَا). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ
خَاصٌّ بِهِ، إِذْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِمُنَاجَاةِ الْمَلَكِ.
لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
بِمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي
هَذَا الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ
الْبَقْلَةِ الثُّومِ وقال مرة: من أكل البصل والثوم
__________
(1). في الأصول: (بقدر). والتصويب عن سنن أبي داود. يعنى
بالبدر الطبق شبه بالبدر لاستدارته.
(1/426)
وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ
مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا
يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (. وَقَالَ عُمَرُ ابن
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ:
إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا
أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي
الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ
أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) الْعَدَسُ
مَعْرُوفٌ. وَالْعَدَسَةُ: بَثْرَةٌ تَخْرُجُ بِالْإِنْسَانِ،
وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ
وَهَذَا تحملين طليق «1»
والعدس: شدة الوطي، وَالْكَدْحِ أَيْضًا، يُقَالُ: عَدَسَهُ.
وَعَدَسَ فِي الْأَرْضِ: ذَهَبَ فِيهَا. وَعَدَسَتْ إِلَيْهِ
الْمَنِيَّةُ أَيْ سَارَتْ، قَالَ الْكُمَيْتُ:
أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلَامِ وَلَمْ أَزَلْ ... أَخَا
اللَّيْلِ مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسًا
أَيْ يُسَارُ إِلَيَّ بِاللَّيْلِ. وَعَدَسٌ: لُغَةٌ فِي
حَدَسٍ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَيُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ
أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ
مُقَدَّسٌ وَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الدَّمْعَةَ
فَإِنَّهُ بَارَكَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ)، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْكُلُ يَوْمًا خُبْزًا
بِزَيْتٍ، وَيَوْمًا بِلَحْمٍ «2»، وَيَوْمًا بِعَدَسٍ. قَالَ
الْحَلِيمِيُّ: وَالْعَدَسُ وَالزَّيْتُ طَعَامُ
الصَّالِحِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إِلَّا
أَنَّهُ ضِيَافَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
مَدِينَتِهِ لَا تَخْلُو مِنْهُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَهُوَ مِمَّا يُخَفِّفُ الْبَدَنَ فيخف للعبادة، ولا تَثُورُ
مِنْهُ الشَّهَوَاتُ كَمَا تَثُورُ مِنَ اللَّحْمِ.
وَالْحِنْطَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُبُوبِ وَهِيَ الْفُومُ عَلَى
الصَّحِيحِ، وَالشَّعِيرُ قَرِيبٌ مِنْهَا وَكَانَ طَعَامَ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَمَا كَانَ الْعَدَسُ مِنْ طَعَامِ
قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنَ الْحَبَّتَيْنِ بِأَحَدِ النَّبِيَّيْنِ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَضِيلَةٌ. وَقَدْ روي أن النبي صلى
الله
__________
(1). البيت ليزيد بن مفرغ.
(2). في بعض نسخ الأصل: (بملح).
(1/427)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَعْ هُوَ
وَأَهْلُهُ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
مُتَتَابِعَةٍ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَى أَنْ
تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)
الِاسْتِبْدَالُ: وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ الآخر، ومنه
البدل، وقد تقدم. و" أَدْنى " مَأْخُوذٌ عِنْدَ الزَّجَّاجِ
مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ الْقُرْبِ فِي الْقِيمَةِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ مُقَارِبٌ، أَيْ قَلِيلُ الثَّمَنِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَهْمُوزٌ مِنَ
الدَّنِيءِ الْبَيِّنِ الدَّنَاءَةِ بِمَعْنَى الْأَخَسِّ،
إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ هَمْزَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ
مِنَ الدُّونِ أَيْ الْأَحَطِّ، فَأَصْلُهُ أَدْوَنُ،
أَفْعَلُ، قُلِبَ فَجَاءَ أَفْلَعُ، وَحُوِّلَتِ الْوَاوُ
أَلِفًا لِتَطَرُّفِهَا. وقرى فِي الشَّوَاذِّ" أَدْنَى" «1».
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الْبَقْلَ
وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ الَّذِي
هُوَ أَدْنَى بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجِبُ فَضْلَ الْمَنِّ
وَالسَّلْوَى عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَهِيَ
خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ- أَنَّ الْبُقُولَ لَمَّا كَانَتْ لَا
خَطَرَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى
كَانَا أَفْضَلَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الثَّانِي- لَمَّا
كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا مَنَّ اللَّهُ بِهِ
عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَكَانَ فِي اسْتِدَامَةِ
أَمْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي
الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ
الْخَصَائِلِ كَانَ أَدْنَى فِي هَذَا الْوَجْهِ. الثَّالِثُ-
لَمَّا كَانَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ أَطْيَبَ
وَأَلَذَّ مِنَ الَّذِي سَأَلُوهُ، كَانَ مَا سَأَلُوهُ
أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مَحَالَةَ. الرَّابِعُ-
لَمَّا كَانَ مَا أُعْطُوا لَا كُلْفَةَ فيه ولا تعب، والذي
طلبوه لا يجئ إِلَّا بِالْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتَّعَبِ
كَانَ أَدْنَى. الْخَامِسُ- لَمَّا كَانَ مَا يَنْزِلُ
عَلَيْهِمْ لَا مِرْيَةَ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الحبوب وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا
الْبُيُوعُ وَالْغُصُوبُ وَتَدْخُلُهَا الشُّبَهُ، كَانَتْ
أدنى من هذا الوجه.
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في كتب الشواذ: (أدنا بالهمز وهي
قراءة زهير الفرقبي).
(1/428)
مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَطَاعِمِ
الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ،
وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَسَيَأْتِي هَذَا
الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ" «1» وَ" النَّحْلِ" «2» إِنْ
شَاءَ اللَّهُ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْبِطُوا
مِصْراً) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ «3»، وَهَذَا أَمْرٌ
مَعْنَاهُ التَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً" [الاسراء: 50] لِأَنَّهُمْ كَانُوا
فِي التِّيهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ
أُعْطُوا مَا طَلَبُوهُ. وَ" مِصْراً" بِالتَّنْوِينِ
مُنَكَّرًا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ خَطُّ الْمُصْحَفِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ مِصْرًا
مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اهْبِطُوا مِصْراً" قَالَ:
مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا: أَرَادَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ
بِعَيْنِهَا. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اقْتَضَاهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِمْ دُخُولَ الْقَرْيَةِ،
وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا
الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي
الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
دِيَارَ آلِ فِرْعَوْنَ وَآثَارَهُمْ، وَأَجَازُوا صَرْفَهَا.
قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: لِخِفَّتِهَا وَشَبَهِهَا
بِهِنْدٍ وَدَعْدٍ، وَأَنْشَدَ:
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ
تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ «4»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ
وَالْفَرَّاءُ لَا يُجِيزُونَ هَذَا، لِأَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ
امْرَأَةً بِزَيْدٍ لَمْ تَصْرِفْ. وَقَالَ غَيْرُ
الْأَخْفَشِ: أَرَادَ الْمَكَانَ فَصَرَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ
وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَطَلْحَةُ:" مِصْرَ" بِتَرْكِ
الصَّرْفِ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالُوا: هِيَ مِصْرُ
فِرْعَوْنَ. قَالَ أَشْهَبُ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي
مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ
عَطِيَّةَ وَالْمِصْرُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ.
وَمِصْرُ الدَّارِ: حُدُودُهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ
وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ هَجَرَ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِهِمْ"
اشْتَرَى فُلَانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا" أَيْ حُدُودِهَا،
قَالَ عَدِيٌّ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ
النَّهَارِ وَبَيْنَ الليل قد فصلا
__________
(1). راجع ج 6 ص 263.
(2). راجع ج 10 ص 136.
(3). راجع ص 319.
(4). البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن
ويشرب. يقول هي حضريه رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا
تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد).
(1/429)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ) " مَا" نَصْبٌ بِإِنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ
وَالنَّخَعِيُّ" سِأَلْتُمْ" بِكَسْرِ السِّينِ، يُقَالُ:
سَأَلْتُ وَسَلْتُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وهو من ذوات الواو، بدليل
قولهم: يتساولون. ومعنى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ) أَيْ أُلْزِمُوهُمَا وَقُضِيَ عَلَيْهِمْ
بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْقِبَابِ، قَالَ
الْفَرَزْدَقُ فِي جَرِيرٍ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى
عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
وَضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ.
وَالذِّلَّةُ: الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ:
الْفَقْرُ. فَلَا يُوجَدُ يَهُودِيٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا
خَالِيًا مِنْ زِيِّ الْفَقْرِ وَخُضُوعِهِ وَمَهَانَتِهِ.
وَقِيلَ: الذِّلَّةُ فَرْضُ الْجِزْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ. وَالْمَسْكَنَةُ الْخُضُوعُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ
مِنَ السُّكُونِ، أَيْ قَلَّلَ الْفَقْرُ حَرَكَتَهُ، قَالَهُ
الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّلَّةُ
الصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ. وَرَوَى
الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ
الْقَبَالَاتِ «1». قوله تعالى: (وَباؤُ) أَيِ انْقَلَبُوا
وَرَجَعُوا، أَيْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قول عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ: (أَبُوءُ
بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ) أَيْ أُقِرُّ بِهَا وَأُلْزِمُهَا
نَفْسِي. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، يُقَالُ بَاءَ
بِكَذَا، أَيْ رَجَعَ بِهِ، وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ
الْمَنْزِلُ أَيْ رَجَعَ. وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ
بِالْقَوَدِ. وَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَوَاءٌ، أَيْ
سَوَاءٌ، يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ
الشَّاعِرُ: «2»
أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمَنَا
لَا يَبْوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
أَيْ لَا يَرْجِعُ الدَّمُ بِالدَّمِ فِي الْقَوَدِ. وَقَالَ:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا
بِالْمُلُوكِ «3» مُصَفَّدِينَا
أَيْ رَجَعُوا وَرَجَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الغضب في
الفاتحة «4».
__________
(1). في تفسير ابن كثير: ( .... القبالات يعني الجزية).
(2). هو جابر بن جبير التغلبي (عن شرح الشواهد).
(3). البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ولا شاهد فيه إذ
الرواية فيه: (فآبوا ... وأبنا) ومادة (آب) غير مادة (باء) وإن
كان معنى المادتين واحدا.
(4). راجع ص 149. [ ..... ]
(1/430)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ) " ذَلِكَ"
تَعْلِيلٌ. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) أَيْ
يَكْذِبُونَ- بِآياتِ اللَّهِ) أَيْ بِكِتَابِهِ وَمُعْجِزَاتِ
أَنْبِيَائِهِ، كَعِيسَى وَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ)
مَعْطُوفٌ عَلَى" يَكْفُرُونَ". وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ"
يَقْتُلُونَ" وَعَنْهُ أَيْضًا كَالْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ
نَافِعٌ" النَّبِيئِينَ" بِالْهَمْزِ حَيْثُ وَقَعَ فِي
الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي سُورَةِ
الْأَحْزَابِ:" إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ
أَرادَ" «1» [الأحزاب. 50]. و" لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلَّا" [الأحزاب: 53] فَإِنَّهُ قَرَأَ بِلَا
مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ. وَإِنَّمَا تَرَكَ هَمْزَ هَذَيْنِ
لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ. وَتَرَكَ
الْهَمْزَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. فَأَمَّا مَنْ
هَمَزَ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْبَأَ إِذَا أَخْبَرَ، واسم
فاعله منبئ. ويجمع نبئ أَنْبِيَاءَ، وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْعِ
نَبِيٍّ نُبَآءُ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
السُّلَمِيُّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ كُلُّ
هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
هَذَا مَعْنَى قِرَاءَةِ الْهَمْزِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ
بِتَرْكِ الْهَمْزِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَقَّ اشْتِقَاقَ مَنْ
هَمَزَ، ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْزَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ
مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ. فَالنَّبِيُّ مِنَ
النُّبُوَّةِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، فَمَنْزِلَةُ النَّبِيِّ
رَفِيعَةٌ. وَالنَّبِيُّ بِتَرْكِ الْهَمْزِ أَيْضًا
الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الرَّسُولُ نَبِيًّا لِاهْتِدَاءِ
الْخَلْقِ بِهِ كَالطَّرِيقِ، قَالَ الشَّاعِرُ: «2»
لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ
مِنَ الْكَاثِبِ
رَتَمْتُ الشَّيْءِ: كَسَرْتُهُ، يُقَالُ: رَتَمَ أَنْفَهُ
وَرَثَمَهُ، بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ جَمِيعًا. وَالرَّتْمُ
أَيْضًا الْمَرْتُومُ أَيْ الْمَكْسُورُ. وَالْكَاثِبُ اسْمُ
جَبَلٍ. فَالْأَنْبِيَاءُ لَنَا كَالسُّبُلِ فِي الْأَرْضِ.
وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا نبئ اللَّهِ،
وَهَمَزَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَسْتَ بنبي اللَّهِ- وَهَمَزَ- وَلَكِنِّي
نَبِيُّ اللَّهِ) وَلَمْ يَهْمِزْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
ضُعِّفَ سَنَدُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ضَعْفَهُ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْشَدَهُ الْمَادِحُ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ ...
وَلَمْ يُؤْثَرْ في ذلك إنكار.
__________
(1). ج 14 ص 210 وص 223.
(2). هو أوس بن حجر (كما في اللسان).
(1/431)
|