تفسير القرطبي إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)
تَعْظِيمٌ لِلشُّنْعَةِ وَالذَّنْبِ الَّذِي أَتَوْهُ. فَإِنْ
قِيلَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنْ
يُقْتَلُوا بِالْحَقِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ
بِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا
مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَلَيْسَ
بِحَقٍّ، فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ نَبِيٌّ بِحَقٍّ، وَلَكِنْ
يُقْتَلُ عَلَى الْحَقِّ، فَصَرَّحَ قَوْلُهُ:" بِغَيْرِ
الْحَقِّ" عَنْ شُنْعَةِ الذَّنْبِ وَوُضُوحِهِ، وَلَمْ يَأْتِ
نَبِيٌّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِبُ قَتْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ:
كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَقَتْلِ
الْأَنْبِيَاءِ؟ قِيلَ: ذَلِكَ كَرَامَةٌ لَهُمْ وَزِيَادَةٌ
فِي مَنَازِلِهِمْ، كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ
لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لَمْ يُقْتَلْ
نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ
بِقِتَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) "
ذَلِكَ" رَدٌّ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدٌ لِلْإِشَارَةِ
إِلَيْهِ. وَالْبَاءُ فِي" بِمَا" بَاءُ السَّبَبِ. قَالَ
الْأَخْفَشُ: أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ. وَالْعِصْيَانُ: خِلَافُ
الطَّاعَةِ. وَاعْتَصَتِ النَّوَاةُ إِذَا اشْتَدَّتْ.
والاعتداء: تجاوز الحد في كل شي، وعرف في الظلم والمعاصي.
[سورة البقرة (2): الآيات 62 الى 65]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمُرَادُ
الْمُنَافِقُونَ. كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا فِي
ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِهِمْ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هادُوا)
مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودًا، نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ
أَكْبَرُ وَلَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَلَبَتِ
الْعَرَبُ الذَّالَ دَالًا، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّةَ إِذَا
عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ
(1/432)
عَنْ لَفْظِهَا. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ
لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. هَادَ: تَابَ.
وَالْهَائِدُ: التَّائِبُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أَيْ تائب. وفى التنزيل:" إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ" [الأعراف:
156] أَيْ تُبْنَا. وَهَادَ الْقَوْمُ يَهُودُونَ هَوْدًا
وَهِيَادَةً إِذَا تَابُوا. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:" هُدْنا
إِلَيْكَ" أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرِكَ. وَالْهَوَادَةُ
السُّكُونُ وَالْمُوَادَعَةُ. قال: ومنه قول تَعَالَى:" إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا". وَقَرَأَ أَبُو
السَّمَّالِ:" هَادَوْا" بِفَتْحِ الدَّالِ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّصارى) جَمْعٌ وَاحِدُهُ
نَصْرَانِيٌّ. وَقِيلَ: نَصْرَانُ بِإِسْقَاطِ الْيَاءِ،
وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالْأُنْثَى نَصْرَانَةٌ،
كَنَدْمَانَ وَنَدْمَانَةٍ. وَهُوَ نَكِرَةٌ يُعَرَّفُ
بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ ... سَاقِي
نَصَارَى قُبَيْلَ الْفِصْحِ «2» صُوَّامُ
فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُ
النَّصَارَى نَصْرِيٌّ، كَمَهْرِيٌّ وَمَهَارَى. وَأَنْشَدَ
سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْلِهِ:
تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا ... وَيُضْحِي
لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ
وَأَنْشَدَ:
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا
أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ «3»
يُقَالُ: أَسْجَدَ إِذَا مَالَ. وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ
نَصْرَانُ ونصرانة إلا بياء النَّسَبِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ وَامْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ. وَنَصَّرَهُ:
جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا. وَفِي الْحَدِيثِ: (فَأَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ). وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
يَهُودِيٌّ وَلَا نصراني
__________
(1). هو النمر بن تولب. يصف ناقة عرض عليها الماء فعافته.
(2). في نسخ الأصل: (الصبح) بالباء. والتصويب عن كتاب سيبويه.
والفصح. فطر النصارى وهو عيد لهم.
(3). البيت لابي الاخرز الحمائي يصف ناقتين طأطأتا رءوسهما من
الإعياء. فشبه رأس الناقة برأس النصرانية إذا طأطأته في
صلاتها. (عن شرح القاموس واللسان).
(1/433)
ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ
بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (. وَقَدْ جَاءَتْ
جُمُوعٌ عَلَى غَيْرِ مَا يُسْتَعْمَلُ وَاحِدُهَا،
وَقِيَاسُهُ النَّصْرَانِيُّونَ. ثُمَّ قِيلَ: سُمُّوا
بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى" نَاصِرَةَ" كَانَ يَنْزِلُهَا
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ:
عِيسَى النَّاصِرِيُّ، فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ
قِيلَ النَّصَارَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَصْرَانُ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ
يُنْسَبُ إِلَيْهَا النَّصَارَى، وَيُقَالُ نَاصِرَةٌ.
وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا،
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارًا ... شمرت عن ركبتي الإزار
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا
وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ:" مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" [آل
عمران: 52]. الرباعة- قوله تعالى: (وَالصَّابِئِينَ) جمع
صَابِئٍ، وَقِيلَ: صَابٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي
هَمْزِهِ، وَهَمَزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا نَافِعًا. فَمَنْ
هَمَزَهُ جَعَلَهُ من صبأت النجوم إذا طلعت، وصابت ثَنِيَّةُ
الْغُلَامِ إِذَا خَرَجَتْ. وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ جَعَلَهُ
مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ. فَالصَّابِئُ فِي اللُّغَةِ:
مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلِهَذَا
كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ.
فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْخَامِسَةُ- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَهْلُ كِتَابٍ وَلِأَجْلِ كِتَابِهِمْ جَازَ نِكَاحُ
نِسَائِهِمْ وَأَكْلُ طَعَامِهِمْ- عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي الْمَائِدَةِ «1» - وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ
عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي، سُورَةِ" بَرَاءَةَ" «2»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ، فَقَالَ
السُّدِّيُّ: هُمْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَهُ
إِسْحَاقُ بن رَاهْوَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ
إِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةِ نِسَائِهِمْ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ
النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوُ مَهَبِّ
الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي
نَجِيحٍ: هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ
الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لَا تُؤْكَلُ
ذَبَائِحُهُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ هُمْ قَوْمٌ
يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ
وَيَقْرَءُونَ الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد
__________
(1). راجع ج 6 ص 76.
(2). راجع ج 8 ص 110.
(1/434)
ابن أَبِي سُفْيَانَ فَأَرَادَ وَضْعَ
الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ
الْمَلَائِكَةَ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ-
فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا- أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ
مُعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ،
وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ الْقَادِرُ
بِاللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ.
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ آمَنَ) أَيْ صَدَّقَ.
وَ" مَنْ" فِي قَوْلِهِ:" مَنْ آمَنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بَدَلٌ مِنَ" الَّذِينَ". وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ" فَلَهُمْ"
دَاخِلَةٌ بِسَبَبِ الْإِبْهَامِ الذي في" مَنْ". و" فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ.
وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
بِالِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهَا الشَّرْطُ. وَ" آمَنَ" فِي
مَوْضِعِ جزم بالشرط، والفاء الجواب. و" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ"
خَبَرُ" مَنْ"، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا خَبَرُ" إِنَّ"،
وَالْعَائِدُ عَلَى" الَّذِينَ" مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ مَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ. وَفِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اندارج الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ
وَالْكُتُبِ وَالْبَعْثِ. السَّابِعَةُ- إِنْ قَالَ قائل: لم
جمع الضمير في قول تعالى:" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ" وَ" آمَنَ"
لَفْظٌ مُفْرَدٌ لَيْسَ بِجَمْعٍ، وَإِنَّمَا كَانَ
يَسْتَقِيمُ لَوْ قَالَ: لَهُ أَجْرُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ"
مَنْ" يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ،
فَجَائِزٌ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا وَمُثَنًّى
وَمَجْمُوعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ" [يونس: 42] عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَالَ:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ" عَلَى
اللَّفْظِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا ... وَقُولَا
لَهَا عُوجِيَ عَلَى مَنْ تخلفوا
وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لَا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا
ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللفظ لقال:
يصطحب وتخلف. وقال تَعَالَى:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ" فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ:" خالِدِينَ" فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ
رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ: خَالِدًا فِيهَا. وَإِذَا جَرَى مَا
بَعْدَ" مَنْ" عَلَى اللَّفْظِ فَجَائِزٌ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ
بَعْدُ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا
جَرَى مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ أَنْ
يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ
يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قوله
تعالى: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) «1».
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
__________
(1). راجع ص 329 من هذا الجزء.
(1/435)
الثَّامِنَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ قَوْلَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا"
[الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى:" يَبْتَغِ غَيْرَ
الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" [آل عمران: 85]
الْآيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَهِيَ
فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام.
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) هَذِهِ الْآيَةُ تُفَسِّرُ مَعْنَى
قَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" «1» [الأعراف: 171]. قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ
مكانه. قال: وكل شي قَلَعْتَهُ فَرَمَيْتَ بِهِ فَقَدْ
نَتَقْتَهُ. وَقِيلَ: نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ. قَالَ ابْنُ
الْأَعْرَابِيِّ: النَّاتِقُ الرَّافِعُ، وَالنَّاتِقُ
الْبَاسِطُ، وَالنَّاتِقُ الْفَاتِقُ. وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ
وَمُنْتَاقٌ: كَثِيرَةُ الْوَلَدِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ:
أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْقِ السِّقَاءِ، وَهُوَ نَفْضُهُ حَتَّى
تُقْتَلَعَ الزُّبْدَةَ مِنْهُ. قَالَ وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" قَالَ:
قُلِعَ مِنْ أَصْلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الطُّورِ، فَقِيلَ:
الطُّورُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ
التَّوْرَاةَ دُونَ غَيْرِهِ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ أَنَّ الطُّورَ
مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ
يُنْبِتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ جَبَلٍ كَانَ.
إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَدْ
مَضَى الْكَلَامُ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ
مُفْرَدَةٌ غَيْرُ مُعَرَّبَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِي
مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «2». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَزَعَمَ
الْبَكْرِيُّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ
فِي سَبَبِ رَفْعِ الطُّورِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ:
خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا. فَقَالُوا: لَا! إِلَّا أَنْ
يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ. فَصُعِقُوا ثُمَّ
أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا. فَقَالُوا لَا. فَأَمَرَ
اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا من جبال فلسطين
طوله
__________
(1). راجع ج 7 ص 313.
(2). راجع ص 68 من هذا الجزء.
(1/436)
فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ
عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظُّلَّةِ،
وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنَارٍ مِنْ قِبَلِ
وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ
الْمِيثَاقُ أَلَّا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ
الْجَبَلُ. فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ وَأَخَذُوا
التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ
الْعُلَمَاءِ: لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقٌ. وَكَانَ سُجُودُهُمْ عَلَى شِقٍّ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَلَ خَوْفًا، فَلَمَّا
رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: لَا سَجْدَةَ أَفْضَلَ مِنْ
سَجْدَةٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ وَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ،
فَأَمَرُّوا سُجُودَهُمْ عَلَى شِقٍّ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَالَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى اخْتَرَعَ وَقْتَ سُجُودِهِمُ الْإِيمَانَ [فِي
قُلُوبِهِمْ «1»] لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كُرْهًا وَقُلُوبُهُمْ
غَيْرُ مُطْمَئِنَّةٍ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوا)
أَيْ فَقُلْنَا خُذُوا، فَحُذِفَ. (مَا آتَيْناكُمْ)
أَعْطَيْنَاكُمْ. (بِقُوَّةٍ) أَيْ بجد واجتهاد، قاله ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: بِنِيَّةٍ
وَإِخْلَاصٍ. مُجَاهِدٌ: الْقُوَّةُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ.
وَقِيلَ: بِقُوَّةٍ، بِكَثْرَةِ دَرْسٍ. (وَاذْكُرُوا مَا
فِيهِ) أَيْ تَدَبَّرُوهُ وَاحْفَظُوا أَوَامِرَهُ
وَوَعِيدَهُ، وَلَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُضَيِّعُوهُ. قُلْتُ:
هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُتُبِ، الْعَمَلُ
بِمُقْتَضَاهَا لَا تِلَاوَتُهَا بِاللِّسَانِ وَتَرْتِيلُهَا،
فَإِنَّ ذَلِكَ نَبْذٌ لَهَا، عَلَى مَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ
وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ"
«2» [البقرة: 101]. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا
فَاسِقًا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شي مِنْهُ). فَبَيَّنَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ
الْعَمَلُ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. فَمَا لَزِمَ إِذًا مَنْ
قَبْلَنَا وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ لَنَا وَوَاجِبٌ
عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ" «3» [الزمر: 55]
فَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ،
لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ، كَمَا تَرَكَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى، وَبَقِيَتْ أَشْخَاصُ الْكُتُبِ وَالْمَصَاحِفِ
لَا تُفِيدُ شَيْئًا، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَطَلَبِ
الرِّيَاسَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا
أوان
__________
(1). زيادة عن تفسير ابن عطية.
(2). راجع ج 2 ص 41.
(3). راجع ج 15 ص 270)
(
(1/437)
يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ
حَتَّى لَا يقدروا منه على شي (. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ
لَبِيَدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ منا وقد قرآنا
القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.
فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ
لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا
تُغْنِي عَنْهُمْ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي.
وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ
نُفَيْرٍ أَيْضًا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ
مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِزِيَادٍ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا
زِيَادُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى). وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ لِإِنْسَانٍ:" إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ
فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ
الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ،
كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَ
فِيهِ الْخُطْبَةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ
أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ
فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ
الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ،
قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ،
وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ
قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ". وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَالَ يَحْيَى: سَأَلْتُ ابْنَ نَافِعٍ عَنْ
قَوْلِهِ: يَبْدَءُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ؟
قَالَ يَقُولُ: يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُونَ
الْعَمَلَ بِالَّذِي افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
«1». فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ) تَوَلَّى تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ
وَالْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض
عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا وَمَجَازًا.
وَقَوْلُهُ: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ
الْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ وَرَفْعُ الْجَبَلِ.
وقوله: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) " فَضْلُ"
مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَرُ
مَحْذُوفٌ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ
اسْتَغْنَتْ عَنْ إِظْهَارِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أرادوا
إظهاره جاءوا بأن، فَإِذَا جَاءُوا بِهَا لَمْ يَحْذِفُوا
الْخَبَرَ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
تَدَارَكَكُمْ. (وَرَحْمَتُهُ) عَطْفٌ عَلَى" فَضْلُ" أي
__________
(1). راجع ص 227 من هذا الجزء. [ ..... ]
(1/438)
لطفه وإمهاله. (لَكُنْتُمْ) جواب"
فَلَوْلا". (مِنَ الْخاسِرِينَ) خَبَرُ كُنْتُمْ.
وَالْخُسْرَانُ: النُّقْصَانُ، وَقَدْ تقدم «1». وقيل: فضله
قبول التوبة، و" رَحْمَتُهُ" الْعَفْوُ. وَالْفَضْلُ:
الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَجَبَ. وَالْإِفْضَالُ: فِعْلُ مَا
لَمْ يَجِبْ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْفَضْلُ
الزِّيَادَةُ وَالْخَيْرُ، وَالْإِفْضَالُ: الْإِحْسَانُ.
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ (65) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ
فِي السَّبْتِ) " عَلِمْتُمُ" مَعْنَاهُ عَرَفْتُمْ
أَعْيَانَهُمْ. وَقِيلَ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَهُمْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَوَجِّهَةٌ
إِلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى. وَالْعِلْمُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى
أَحْوَالِ الْمُسَمَّى. فَإِذَا قُلْتَ: عَرَفْتُ زَيْدًا،
فَالْمُرَادُ شَخْصُهُ. وَإِذَا قُلْتَ: عَلِمْتُ زَيْدًا،
فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ مِنْ فَضْلٍ
وَنَقْصٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى
مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ:" عَلِمْتُمُ"
بِمَعْنَى عَرَفْتُمْ. وَعَلَى الثَّانِي إِلَى مَفْعُولَيْنِ.
وَحَكَى الْأَخْفَشُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ زَيْدًا وَلَمْ أَكُنْ
أَعْلَمُهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ" [الأنفال: 60]. كُلُّ هَذَا بِمَعْنَى
الْمَعْرِفَةِ، فَاعْلَمْ." الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ" [البقرة: 65] صِلَةُ" الَّذِينَ". وَالِاعْتِدَاءُ.
التَّجَاوُزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». الثَّانِيَةُ- رَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ
يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا
النَّبِيِّ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ
سَمِعَكَ! فَإِنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ «3». فَأَتَيَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ لَهُمْ:
(لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا
تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تمشوا ببري إِلَى سُلْطَانٍ وَلَا
تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا
الْمُحْصَنَةَ وَلَا تُوَلُّوا يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ
خَاصَّةُ يَهُودَ أَلَّا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ (.
فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا: نَشْهَدُ
أَنَّكَ نَبِيٌّ. قال:) فما
__________
(1). راجع ص 248.
(2). راجع ص 432.
(3). الذي في نسخة النسائي: (لو سمعك كان له أربعة أعين) مع
تأنيث العدد أيضا.
(1/439)
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي (!.
قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا بِأَلَّا يَزَالَ مِنْ
ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ
أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ فِي
سُورَةِ" سُبْحَانَ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ- (فِي السَّبْتِ) مَعْنَاهُ فِي يَوْمِ
السَّبْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِي حُكْمِ السَّبْتِ.
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا فِيهِ
الْحِيتَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْلَالِ. وَرَوَى أَشْهَبُ
عَنْ مَالِكٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً
«2» وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ، وَفِي الطَّرَفِ
الْآخَرِ مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى
الْأَحَدِ، ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ
صَنَعَ لَا يُبْتَلَى، حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ وَمُشِيَ
بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ.
فَقَامَتْ فِرْقَةٌ فَنَهَتْ وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ
وَاعْتَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّ النَّاهِينَ قَالُوا: لَا
نُسَاكِنُكُمْ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ. فَأَصْبَحَ
النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجَالِسِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ
مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَحَدٌ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّاسِ
لَشَأْنًا، فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا
هُمْ قِرَدَةٌ، فَفَتَحُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ،
فَعَرَفَتِ الْقِرَدَةُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا
يَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ،
فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الْإِنْسِ
فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ!
فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا نَعَمْ. قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ
الشُّبَّانُ قِرَدَةً، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ، فَمَا نَجَا
إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. وَسَيَأْتِي
فِي" الْأَعْرَافِ" «3» قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا
ثَلَاثَ فِرَقٍ. وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَفْتَرِقُوا إِلَّا فِرْقَتَيْنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَالسَّبْتُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ القطع،
فقيل: إن الأشياء فيه سَبَتَتْ وَتَمَّتْ خِلْقَتُهَا.
وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّبُوتِ الَّذِي هُوَ
الرَّاحَةُ وَالدَّعَةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسِلُ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الْقِرَدَةُ مِنْهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَمْسُوخُ لَا
يَنْسِلُ وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَغَيْرُهُمَا
كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ مسخهم الله قد هلكوا
__________
(1). راجع ج 10 ص 335.
(2). الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة
تطرح في عنق الدابة أو الإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة عقدة يسهل
انحلالها كعقدة التكة عند جذبها. راجع ج 7 ص 306.
(3). راجع ج 7 ص 307
(1/440)
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَسْلٌ، لِأَنَّهُ
قَدْ أَصَابَهُمُ السُّخْطُ وَالْعَذَابُ، فَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ قَرَارٌ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ
يَنْسِلْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ أَنَّ
الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ
وَلَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قُلْتُ:
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا مَا
احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى صِحَّةِ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلَا أَرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ أَلَا
تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ
تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ
شَرِبَتْهُ (. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَبِحَدِيثِ الضَّبِّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، قَالَ جَابِرٌ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ
مِنْهُ، وَقَالَ: (لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ
الَّتِي مُسِخَتْ) فَمُتَأَوَّلٌ عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مَيْمُونٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
قِرْدَةً قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
ثَبَتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَسَقَطَ فِي
بَعْضِهَا، وَثَبَتَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ" قَدْ زَنَتْ"
وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ: وَكَأَنَّ الْبَهَائِمَ بَقِيَتْ
فِيهِمْ مَعَارِفُ الشَّرَائِعِ حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا
عَنْ سَلَفٍ إِلَى زَمَانِ عَمْرٍو؟ قُلْنَا: نَعَمْ كَذَلِكَ
كَانَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ غَيَّرُوا الرَّجْمَ فَأَرَادَ
اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي مُسُوخِهِمْ «1» حَتَّى يَكُونَ
أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ
وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحجارهم وَمُسُوخُهُمْ «2»،
حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ، وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا
يُغَيِّرُونَ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ
لَا يَشْعُرُونَ وَيَنْصُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ. قُلْتُ: هَذَا كَلَامُهُ فِي
الْأَحْكَامِ، وَلَا حجة في شي مِنْهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ
مِنْ قِصَّةِ عَمْرٍو فَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِ
الصَّحِيحَيْنِ: حَكَى أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ
لِعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ
حِكَايَةً مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنٍ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قردة
__________
(1). في الأصول: (ممسوخهم). والتصويب عن أحكام القرآن لابن
العربي.
(2). في الأصول: (ممسوخهم). والتصويب عن أحكام القرآن لابن
العربي.
(1/441)
فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
كَذَا حَكَى أَبُو مَسْعُودٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَيِّ
مَوْضِعٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ كِتَابِهِ،
فَبَحَثْنَا عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ
لَا فِي كُلِّهَا، فَذُكِرَ فِي كِتَابِ أَيَّامِ
الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ النُّعَيْمِيِّ عن
الفربري أصلا شي مِنْ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقِرَدَةِ،
وَلَعَلَّهَا مِنَ الْمُقْحَمَاتِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ.
وَالَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ:
قَالَ: لِي نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ
أَبِي بَلْجٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ:
رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا
قُرُودٌ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ. وَلَيْسَ فِيهِ"
قَدْ زَنَتْ". فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَإِنَّمَا
أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ
مَيْمُونٍ قَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَلَمْ يُبَالِ
بِظَنِّهِ الَّذِي ظَنَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ
أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ
وَأَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ" مَعْدُودٌ فِي
كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي
رَأَى الرَّجْمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْقِرَدَةِ إِنْ
صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّ رُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ. وَقَدْ
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ
حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ
مُخْتَصَرًا قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً
زَنَتْ فَرَجَمُوهَا- يَعْنِي الْقِرَدَةَ- فَرَجَمْتُهَا
مَعَهُمْ. وَرَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ حُصَيْنٍ
كَمَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ مُخْتَصَرًا. وَأَمَّا الْقِصَّةُ
بِطُولِهَا فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ، وَلَيْسَا مِمَّنْ
يُحْتَجُّ بِهِمَا. وَهَذَا عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ
مُنْكَرٌ إِضَافَةُ الزِّنَى إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ،
وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْبَهَائِمِ. وَلَوْ صَحَّ
لَكَانُوا مِنَ الْجِنِّ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ فِي الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ دُونَ غَيْرِهِمَا". وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَلَا أَرَاهَا
إِلَّا الْفَأْرَ) وَفِي الضَّبِّ: (لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ
مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ) وَمَا كَانَ مِثْلَهُ،
فَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا وَخَوْفًا لِأَنْ يَكُونَ الضَّبُّ
وَالْفَأْرُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا مُسِخَ، وَكَانَ هَذَا
حَدْسًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ
يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَسْخِ
نَسْلًا، فَلَمَّا أُوْحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ زَالَ عَنْهُ
ذَلِكَ التَّخَوُّفُ، وَعَلِمَ أَنَّ الضَّبَّ وَالْفَأْرَ
لَيْسَا مِمَّا مُسِخَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَنَا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ
عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟
فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ
قَوْمًا فَيَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلًا وَإِنَّ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ (. وَهَذَا نَصٌّ
صَرِيحٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ. وَثَبَتَتِ
النُّصُوصُ بِأَكْلِ الضَّبِّ بِحَضْرَتِهِ وَعَلَى
مَائِدَتِهِ وَلَمْ ينكر،
(1/442)
فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (66)
فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا.
وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا مُسِخَتْ
قُلُوبُهُمْ فَقَطْ، وَرُدَّتْ أَفْهَامُهُمْ كَأَفْهَامِ
الْقِرَدَةِ. وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
فِيمَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) " قِرَدَةً" خَبَرُ
كَانَ." خاسِئِينَ" نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أَوْ
حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي" كُونُوا". وَمَعْنَاهُ
مُبْعَدِينَ. يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ وَخُسِئَ،
وَانْخَسَأَ أَيْ أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى:" يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً" «1»
[الملك: 4] أي مبعدا. وقوله:" اخْسَؤُا فِيها" «2» [المؤمنون:
108] أَيْ تَبَاعَدُوا. تَبَاعُدَ سُخْطٍ. قَالَ
الْكِسَائِيُّ: خَسَأَ الرَّجُلُ خُسُوءًا، وَخَسَأْتُهُ
خَسْأً. وَيَكُونُ الْخَاسِئُ بِمَعْنَى الصاغر القمي.
يُقَالُ: قَمُؤَ الرَّجُلُ قَمَاءً وَقَمَاءَةً صَارَ
قَمِيئًا، وَهُوَ الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ. وَأَقْمَأْتُهُ:
صَغَّرْتُهُ وَذَلَّلْتُهُ، فَهُوَ قمي على فعيل.
[سورة البقرة (2): آية 66]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَعَلْناها نَكالًا) نَصْبٌ عَلَى
الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَفِي الْمَجْعُولِ نَكَالًا
أَقَاوِيلُ، قِيلَ: الْعُقُوبَةُ. وَقِيلَ: الْقَرْيَةُ، إِذْ
مَعْنَى الْكَلَامِ يَقْتَضِيهَا. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الَّتِي
مُسِخَتْ. وَقِيلَ: الْحِيتَانُ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالنَّكَالُ: الزَّجْرُ وَالْعِقَابُ. وَالنِّكْلُ
وَالْأَنْكَالُ: الْقُيُودُ. وَسُمِّيَتِ الْقُيُودُ
أَنْكَالًا لِأَنَّهَا يُنْكَّلُ بِهَا، أَيْ يُمْنَعُ.
وَيُقَالُ لِلِّجَامِ الثَّقِيلِ: نَكْلٌ «3» وَنِكْلٌ،
لِأَنَّ الدَّابَّةَ تُمْنَعُ بِهِ. وَنَكَلَ عَنِ الْأَمْرِ
يَنْكُلُ، وَنَكِلَ يَنْكَلُ إِذَا امْتَنَعَ. وَالتَّنْكِيلُ:
إِصَابَةُ الْأَعْدَاءِ بِعُقُوبَةٍ تُنَكِّلُ مَنْ
وَرَاءَهُمْ، أَيْ تُجَبِّنُهُمْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
النَّكَالُ الْعُقُوبَةُ. ابْنُ دُرَيْدٍ: وَالْمَنْكَلُ:
الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال: «4»
فارم على أقفائهم بمنكل
__________
(1). راجع ج 18 ص
(2). راجع ج 12 ص 153.
(3). هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الأصل، ومعاجم اللغة لا
تؤيده. والذي بها إنما هو بالكسر لا غير.
(4). القائل رياح المؤملي. وقبله:
يا رب أشقاني بنو مؤمل
وبعده:
بصخرة أو عرض جيش جحفل
(عن شرح القاموس).
(1/443)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ
بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
قَوْلُهُ: (لِما بَيْنَ يَدَيْها) قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: لِمَا بَيْنَ يَدَيِ
الْمَسْخَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ ذُنُوبِ الْقَوْمِ. (وَما
خَلْفَها) لِمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ تِلْكَ الذُّنُوبِ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: جُعِلَتِ الْمَسْخَةُ نَكَالًا لِمَا مَضَى مِنَ
الذُّنُوبِ، وَلِمَا يُعْمَلُ بَعْدَهَا لِيَخَافُوا الْمَسْخَ
بِذُنُوبِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ
جَيِّدٌ، وَالضَّمِيرَانِ لِلْعُقُوبَةِ. وَرَوَى الْحَكَمُ
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَنْ حَضَرَ مَعَهُمْ
وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ،
قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:" لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما
خَلْفَها" مِنَ الْقُرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ:" لِما بَيْنَ
يَدَيْها" مِنْ ذُنُوبِهِمْ" وَما خَلْفَها" مِنْ صَيْدِ
الْحِيتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) عَطْفٌ عَلَى نَكَالٍ، وَوَزْنُهَا مَفْعِلَةٌ
مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ. وَالْوَعْظُ:
التَّخْوِيفُ. وَالْعِظَةُ الِاسْمُ. قَالَ الْخَلِيلُ:
الْوَعْظُ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ
الْقَلْبُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ
وَإِنْ كَانَتْ مَوْعِظَةً لِلْعَالَمِينَ لِتَفَرُّدِهِمْ
بِهَا عَنِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَاللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ" وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ"
لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَنْتَهِكُوا مِنْ حُرَمِ اللَّهِ عز وجل مَا نَهَاهُمْ
عَنْهُ، فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ أَصْحَابَ السَّبْتِ إِذِ
انْتَهَكُوا حُرَمَ اللَّهِ فِي سَبْتِهِمْ.
[سورة البقرة (2): آية 67]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فِيهِ
أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ
قَرَأَ" يَأْمُرْكُمْ" بِالسُّكُونِ، وَحَذْفِ الضَّمَّةِ مِنَ
الرَّاءِ لِثِقَلِهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ:
لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ،
وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ
يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ." أَنْ تَذْبَحُوا" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ بِ" يَأْمُرُكُمْ" أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا." بَقَرَةً"
نَصْبٌ بِ" تَذْبَحُوا". وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» مَعْنَى الذبح
فلا معنى لإعادته.
__________
(1). راجع المسألة العاشرة ص 385 من هذا الجزء.
(1/444)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) مُقَدَّمٌ فِي
التِّلَاوَةِ وَقَوْلُهُ:" قَتَلْتُمْ نَفْساً" مُقَدَّمٌ فِي
الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْنِ
الْبَقَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون قوله:" قَتَلْتُمْ" في
النزول مقدما، والام بِالذَّبْحِ مُؤَخَّرًا. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ تَرْتِيبُ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهَا،
فَكَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ حَتَّى
ذَبَحُوهَا ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ من أَمْرِ الْقَتْلِ،
فَأُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَيَكُونُ" وَإِذْ
قَتَلْتُمْ" مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ حَسَبَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا
تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ فِي
قِصَّةِ نُوحٍ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّوفَانِ وَانْقِضَائِهِ فِي
قَوْلِهِ:" حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ
قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" إِلَى
قوله" إِلَّا قَلِيلٌ" «1» [هود: 40]. فَذَكَرَ إِهْلَاكَ مَنْ
هَلَكَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:" وَقالَ
ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها" [هود:
41]. فَذَكَرَ الرُّكُوبَ مُتَأَخِّرًا فِي الْخِطَابِ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ركوبهم كال قَبْلَ الْهَلَاكِ. وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى
عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً"
«2» [هود: 19]. وَتَقْدِيرُهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ
الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمِثْلُهُ
فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. الثَّالِثَةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ الذَّبْحَ أَوْلَى فِي الْغَنَمِ،
وَالنَّحْرَ أَوْلَى فِي الْإِبِلِ، وَالتَّخَيُّرُ فِي
الْبَقَرِ. وَقِيلَ: الذَّبْحُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الَّذِي
ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَلِقُرْبِ الْمَنْحَرِ مِنَ الْمَذْبَحِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا حَرَّمَ أَكْلَ
مَا نُحِرَ مِمَّا يُذْبَحُ، أَوْ ذُبِحَ مِمَّا يُنْحَرُ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكْرَهُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ
وَلَا يُحَرِّمُهُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ"
أَحْكَامُ الذَّبْحِ وَالذَّابِحِ وَشَرَائِطُهُمَا عِنْدَ
قَوْلِهِ تعالى:" إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ" [المائدة: 3]
مُسْتَوْفًى «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أُمِرُوا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-
بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ
مَا عَبَدُوهُ مِنَ الْعِجْلِ لِيُهَوِّنَ عِنْدَهُمْ مَا
كَانَ يَرَوْنَهُ مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَلِيَعْلَمَ
بِإِجَابَتِهِمْ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ عِبَادَتِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ
بَعِلَّةٍ فِي جَوَابِ السَّائِلِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ
أَنْ يَحْيَا الْقَتِيلُ بِقَتْلِ حَيٍّ، فَيَكُونُ أَظْهَرُ
لِقُدْرَتِهِ فِي اخْتِرَاعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أضدادها.
الرابعة- قوله تعالى: (بَقَرَةً) " بَقَرَةً" الْبَقَرَةُ
اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالثَّوْرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
نَاقَةٍ وَجَمَلٍ وَامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ. وَقِيلَ: الْبَقَرَةُ
وَاحِدُ الْبَقَرِ، الْأُنْثَى وَالذَّكَرُ سَوَاءٌ.
وَأَصْلُهُ مِنْ قولك:
__________
(1). راجع ج 9 ص 33. [ ..... ]
(2). راجع ج 10 ص 346.
(3). راجع ج 6 ص 54
(1/445)
بَقَرَ بَطْنَهُ، أَيْ شَقَّهُ،
فَالْبَقَرَةُ تَشُقُّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ وَتُثِيرُهُ.
وَمِنْهُ الْبَاقِرُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
زَيْنِ الْعَابِدِينَ، لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ وَعَرَفَ
أَصْلَهُ، أَيْ شَقَّهُ. وَالْبَقِيرَةُ: ثَوْبٌ يُشَقُّ
فَتُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ فِي عُنُقِهَا مِنْ غَيْرِ كُمَّيْنِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ الْهُدْهُدِ
(فَبَقَرَ الْأَرْضَ). قَالَ شَمِرٌ: بَقَرَ نَظَرَ مَوْضِعَ
الْمَاءِ، فَرَأَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ. قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: الْبَقَرُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ وَجَمْعُهُ «1»
بَاقِرٌ. ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ بَقِيرٌ وَبَاقِرٌ
وَبَيْقُورٌ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ يَعْمُرَ" إِنَّ
الْبَاقِرَ". وَالثَّوْرُ: وَاحِدُ الثِّيرَانِ. وَالثَّوْرُ:
السيد من الرجال. والثور القطعة من القط. وَالثَّوْرُ:
الطُّحْلُبُ. وَثَوْرٌ: جَبَلٌ. وَثَوْرٌ: قَبِيلَةٌ مِنَ
الْعَرَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (وَوَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ
يَغِبْ ثَوْرُ الشَّفَقِ) يَعْنِي انْتِشَارَهُ، يُقَالُ:
ثَارَ يَثُورُ ثَوْرًا وَثَوَرَانًا إِذَا انْتَشَرَ فِي
الْأُفُقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ
فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ). قَالَ شَمِرٌ: تَثْوِيرُ
الْقُرْآنِ قِرَاءَتُهُ وَمُفَاتَشَةُ الْعُلَمَاءِ بِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) هَذَا
جَوَابٌ مِنْهُمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ
لَهُمْ:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً" [البقرة: 67] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَتِيلًا
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قِيلَ: اسْمُهُ عَامِيلُ- وَاشْتَبَهَ
أَمْرُ قَاتِلِهِ عَلَيْهِمْ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ،
فَقَالُوا: نَقْتَتِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا،
فَأَتَوْهُ وَسَأَلُوهُ الْبَيَانَ- وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ
الْقَسَامَةِ «2» فِي التَّوْرَاةِ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ
يَدْعُوَ اللَّهَ- فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
رَبَّهُ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا
ذَلِكَ مِنْ مُوسَى وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا
سَأَلُوهُ عَنْهُ وَاحْتَكَمُوا فِيهِ عِنْدَهُ، قَالُوا:
أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا؟ وَالْهُزْءُ: اللَّعِبُ
وَالسُّخْرِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَقَرَأَ
الْجَحْدَرِيُّ" أَيَتَّخِذُنَا" بِالْيَاءِ، أَيْ قَالَ
ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِقَوْلِهِ:" أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ" [البقرة: 67] لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ جَوَابِ
السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزْءِ جَهْلٌ،
فَاسْتَعَاذَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ
تَنْتَفِي عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْجَهْلُ نَقِيضُ
الْعِلْمِ. فَاسْتَعَاذَ مِنَ الْجَهْلِ، كَمَا جَهِلُوا فِي
قَوْلِهِمْ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً،
__________
(1). في لسان العرب: فأما بقر وباقر وبقير وبيقور وباقور
وباقورة فأسماء للجميع.
(2). سيتكلم المؤلف رحمه الله على القسامة وحكمها عند قوله
تعالى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) راجع ص 457 من هذا
الجزء.
(3). راجع ص 207.
(1/446)
لِمَنْ يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ
اعْتِقَادِ مَنْ قَالَهُ. وَلَا يَصِحُّ إِيمَانُ مَنْ قَالَ
لِنَبِيٍّ قَدْ ظَهَرَتْ مُعْجِزَتُهُ،- وَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا-: أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا؟ وَلَوْ
قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَنْ بَعْضِ أَقْوَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَجَبَ
تَكْفِيرُهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ
عَلَى جِهَةِ غِلَظِ الطَّبْعِ وَالْجَفَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ،
عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ الْقَائِلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ: إِنَّ
هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. وَكَمَا
قَالَ لَهُ الْآخَرُ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ. وَفِي هَذَا
كُلِّهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ، وَأَنَّهُ
مُفْسِدٌ لِلدِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُزُواً" مَفْعُولٌ
ثَانٍ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ تَجْعَلُهَا بَيْنَ
الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ. وَجَعَلَهَا حَفْصٌ وَاوًا
مَفْتُوحَةً، لِأَنَّهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ قَبْلَهَا
ضَمَّةٌ فَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْبَدَلِ، كَقَوْلِهِ:"
السُّفَهاءُ وَلكِنْ". وَيَجُوزُ حَذْفُ الضَّمَّةِ مِنَ
الزَّايِ كَمَا تَحْذِفُهَا مِنْ عَضُدٍ، فَتَقُولُ: هُزْؤًا،
كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ" وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ". وَحَكَى الْأَخْفَشُ عَنْ عِيسَى بْنِ
عُمَرَ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ
مَضْمُومٌ فَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ،
نَحْوُ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْهُزْءِ. وَمِثْلُهُ مَا
كَانَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى فُعُلٍ كَكُتُبٍ وَكُتْبٍ،
وَرُسُلٍ وَرُسْلٍ، وَعُوُنٍ وَعُوْنٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" [الزخرف:
15] فَلَيْسَ مِثْلَ هُزْءٍ وَكُفْءٍ، لِأَنَّهُ عَلَى فُعْلٍ
مِنَ الْأَصْلِ. عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ «1» إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى مَنْعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ
الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ
جَهْلٌ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ. وَلَيْسَ
الْمُزَاحُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِسَبِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ
وَالْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ إِلَى عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ فَمَازَحَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: جُبَّتُكَ هَذِهِ مِنْ صُوفِ
نَعْجَةٍ أَوْ صُوفِ كَبْشٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا تَجْهَلْ
أَيُّهَا الْقَاضِي! فَقَالَ له عبيد الله: وأين وجدت المزاج
جَهْلًا! فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رَآهُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ
الْمَزْحَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنَ
الْآخَرِ بسبيل.
__________
(1). راجع ج 16 ص 69
(1/447)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ
ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
[سورة البقرة (2): آية 68]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) هَذَا
تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، وَلَوِ امْتَثَلُوا
الْأَمْرَ وَذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَحَصَلَ
الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" ادْعُ". وقد تقدم «1». و
(يبينن) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (مَا هِيَ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَمَاهِيَّةُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ
وَذَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ
بِبَقَرَةٍ اقْتَضَى أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَمَّا زَادَ
فِي الصِّفَةِ نَسَخَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِهِ، كَمَا
لَوْ قَالَ: فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ،
ثُمَّ نَسَخَهُ بِابْنَةِ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةٍ. وَكَذَلِكَ ها
هنا لَمَّا عَيَّنَ الصِّفَةَ صَارَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ
الْمُتَقَدِّمِ. وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ. وَقَدْ فَرَضَتْ
تَفْرِضُ فُرُوضًا، أَيْ أَسَنَّتْ. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ
الْقَدِيمِ فَارِضٌ، قَالَ الرَّاجِزُ:
شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَامِلُ «2»
فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
يَعْنِي هَرْمَى، قَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُكَ «3» قَدْ أَعْطَيْتَ جَارَكَ فَارِضًا ... تُسَاقُ
إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
أَيْ قَدِيمًا، وَقَالَ آخَرُ:
يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض
__________
(1). راجع ص 423.
(2). في الصحاح للجوهري: (محافل) بالفاء وفيه رواية أخرى رواها
ابن الاعرابي هي:
محامل بيض وقوم فرض
يريد أنهم ثقال كالمحامل. راجع اللسان مادة (فرض).
(3). رواية اللسان: (لعمري لقد) وذكر أنه لعلقمة بن عوف، وقد
عنى بقرة هرمة.
(1/448)
أَيْ قَدِيمٌ. وَ" لَا فارِضٌ" رُفِعَ
عَلَى الصفة لبقرة." وَلا بِكْرٌ" عَطْفٌ. وَقِيلَ:" لَا
فارِضٌ" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ
وَكَذَا" لَا ذَلُولٌ"، وَكَذَلِكَ" لَا تَسْقِي الْحَرْثَ"
وَكَذَلِكَ" مُسَلَّمَةٌ" فَاعْلَمْهُ. وَقِيلَ: الْفَارِضُ
الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بُطُونًا كَثِيرَةً فَيَتَّسِعُ
جَوْفُهَا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْفَارِضِ في اللغة
الواسع، قاله بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْبِكْرُ:
الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحْمِلْ. وَحَكَى الْقُتَبِيُّ
أَنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ. وَالْبِكْرُ: الْأَوَّلُ مِنَ
الْأَوْلَادِ، قَالَ:
يَا بِكْرُ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ ... أَصْبَحْتَ
مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدْ
وَالْبِكْرُ أَيْضًا فِي إِنَاثِ الْبَهَائِمِ وَبَنِي آدَمَ:
مَا لَمْ يَفْتَحِلْهُ الْفَحْلُ، وَهِيَ مَكْسُورَةُ
الْبَاءِ. وَبِفَتْحِهَا الْفَتِيِّ مِنَ الْإِبِلِ.
وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ
بَطْنَيْنِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا تَكُونُ مِنَ الْبَقَرِ
وَأَحْسَنُهُ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ
فَرَسًا:
كُمَيْتٌ بَهِيمُ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ ... وَلَا
بِعَوَانٍ ذَاتُ لَوْنٍ مُخَصَّفٍ فَرَسٌ
أَخْصَفُ: إِذَا ارْتَفَعَ الْبَلَقُ مِنْ بَطْنِهِ إِلَى
جَنْبِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَوَانُ مِنَ الْبَقَرَةِ
هِيَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَحَكَاهُ
أَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَوَانَ النَّخْلَةُ
الطَّوِيلَةُ، وَهِيَ فِيمَا زَعَمُوا لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ.
وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَ قَبْلَهَا حَرْبٌ بِكْرٌ، قَالَ
زُهَيْرٌ:
إِذَا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ
«1» النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
أَيْ لَا هِيَ صَغِيرَةٌ وَلَا هِيَ مُسِنَّةٌ، أَيْ هِيَ
عَوَانٌ، وَجَمْعُهَا" عُوْنٌ" بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ
الْوَاوِ وَسُمِعَ" عُوُنٌ" بِضَمِّ الْوَاوِ كَرُسُلٍ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَوَانِ عَوَّنَتْ
تَعْوِينًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ)
تَجْدِيدٌ لِلْأَمْرِ وَتَأْكِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَرْكِ
التَّعَنُّتِ فَمَا تَرَكُوهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ كَمَا تَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا. وَيَدُلُّ عَلَى
صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَرَهُمْ حِينَ لَمْ
يُبَادِرُوا إِلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ فقال:
__________
(1). في الأصول: (تهز) بالزاي. والتصويب عن شرح الديوان. ومعنى
(تهز الناس) أي تصيرهم يهزونها، أي يكرهونها. ولقحت: اشتدت.
ومضرة: ملحة. وضروس: عضوض سيئة الخلق. وعصل: كالحة معوجة.
(1/449)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69)
" فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ"
[البقرة: 71]. وَقِيلَ: لَا، بَلْ عَلَى التَّرَاخِي،
لِأَنَّهُ لَمْ يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال
ابن خويز منداد.
[سورة البقرة (2): آية 69]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا
مَا لَوْنُها) " مَا" اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأَةٌ وَ" لَوْنُها"
الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ نَصْبُ" لَوْنُهَا" بِ"- يُبَيِّنُ"،
وَتَكُونُ" مَا" زَائِدَةٌ. وَاللَّوْنُ وَاحِدُ الْأَلْوَانِ
وَهُوَ هَيْئَةٌ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ.
وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ. وَفُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ
لا يثبت على خلق وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، قَالَ:
كُلُّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ ... غَيْرَ هَذَا بِكَ أَجْمَلُ
وَلَوَّنَ الْبُسْرُ تَلْوِينًا: إِذَا بَدَا فِيهِ أَثَرُ
النُّضْجِ. وَاللَّوْنُ: الدَّقَلُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ
النَّخْلِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمَاعَةٌ، وَاحِدُهَا
لِينَةٌ. قَوْلُهُ: (صَفْراءُ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ
أَنَّهَا صَفْرَاءُ اللَّوْنِ، مِنَ الصُّفْرَةِ
الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ مَكِّيٌّ عَنْ بَعْضِهِمْ: حَتَّى
الْقَرْنُ وَالظَّلْفُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ:
كَانَتْ صَفْرَاءَ الْقَرْنِ وَالظَّلْفِ فَقَطْ. وَعَنِ
الْحَسَنِ أَيْضًا:" صَفْراءُ" مَعْنَاهُ سَوْدَاءُ، قَالَ
الشَّاعِرُ: «1»
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ
أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَهَذَا
شَاذٌّ لَا يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا إِلَّا فِي الْإِبِلِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ" [المرسلات: 33]
وَذَلِكَ أَنَّ السُّودَ مِنَ الْإِبِلِ سَوَادُهَا صُفْرَةٌ.
وَلَوْ أَرَادَ السَّوَادَ لَمَا أَكَّدَهُ بِالْفُقُوعِ،
وَذَلِكَ نَعْتٌ مُخْتَصٌّ بِالصُّفْرَةِ، وَلَيْسَ يُوصَفُ
السَّوَادُ بِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْوَدُ حَالِكٌ
وَحَلَكُوكٌ وَحُلْكُوكٌ، وَدَجُوجِيٌّ وَغِرْبِيبٌ،
وَأَحْمَرُ قَانِئٌ، وَأَبْيَضُ نَاصِعٌ وَلَهِقٌ وَلِهَاقٌ
وَيَقَقٌ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ، وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ، هَكَذَا
نَصَّ نقلة اللغة عن العرب. قال
__________
(1). القائل هو الأعشى كما في اللسان.
(1/450)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ فَقَعَ لَوْنُهَا
يَفْقَعُ فُقُوعًا إِذَا خَلَصَتْ صُفْرَتُهُ. وَالْإِفْقَاعُ:
سُوءُ الْحَالِ. وَفَوَاقِعُ الدَّهْرِ بَوَائِقُهُ. وَفَقَّعَ
بِأَصَابِعِهِ إِذَا صَوَّتَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ
عَبَّاسٍ: نَهَى عَنِ التَّفْقِيعِ فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ
الْفَرْقَعَةُ، وَهِيَ غَمْزُ الْأَصَابِعِ حَتَّى تُنْقِضَ
«1». وَلَمْ يَنْصَرِفْ" صَفْراءُ" فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا
نَكِرَةٍ، لِأَنَّ فِيهَا أَلِفَ التَّأْنِيثِ وَهِيَ
مُلَازَمَةٌ فَخَالَفَتِ الْهَاءَ، لِأَنَّ مَا فِيهِ الْهَاءُ
يَنْصَرِفُ فِي النَّكِرَةِ، كَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فاقِعٌ لَوْنُها) يُرِيدُ خَالِصًا
لَوْنُهَا لَا لَوْنَ فِيهَا سِوَى لَوْنِ جِلْدِهَا. (تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ) قَالَ وَهْبٌ: كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ
يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الصُّفْرَةُ تَسُرُّ النَّفْسَ. وَحَضَّ عَلَى لِبَاسِ
النِّعَالِ الصُّفْرِ، حَكَاهُ عَنْهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ
علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ لَبِسَ
نَعْلَيْ جِلْدٍ أَصْفَرَ قَلَّ هَمُّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ:" صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ" حَكَاهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَنَهَى ابْنُ
الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ لِبَاسِ
النِّعَالِ السُّودِ، لِأَنَّهَا تُهِمُّ. وَمَعْنَى" تَسُرُّ"
تُعْجِبُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ فِي
سَمْتِهَا وَمَنْظَرِهَا فَهِيَ ذَاتُ وصفين، والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 70]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ
الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا)
سَأَلُوا سُؤَالًا رَابِعًا، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ
بَعْدَ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْبَقَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى
الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:" إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ
عَلَيْنا" فَذَكَّرَهُ لِلَّفْظِ تَذْكِيرِ الْبَقَرِ. قَالَ
قُطْرُبٌ: جَمْعُ الْبَقَرَةِ بَاقِرٌ وَبَاقُورٌ وَبَقَرٌ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْبَاقِرُ جَمْعُ بَاقِرَةٍ، قَالَ:
وَيُجْمَعُ بَقَرٌ عَلَى بَاقُورَةٍ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنَّ جِنْسَ الْبَقَرِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ، وَالْأَعْرَجُ
فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ" إِنَّ الْبَقَرَ تَشَّابَهَ"
بِالتَّاءِ وَشَدِّ الشِّينِ، جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا
وَأَنَّثَهُ. وَالْأَصْلُ تَتَشَابَهُ، ثُمَّ أُدْغِمَ
التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ مجاهد" تشبه" كقراءتهما،
__________
(1). كل صوت لمفصل وإصبع فهو نقيض.
(1/451)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا
تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ (71)
إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَفِي
مُصْحَفِ أُبَيٍّ" تَشَّابَهَتْ" بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ التَّاءَ فِي هَذَا
الْبَابِ لَا تُدْغَمُ إِلَّا فِي الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" إِنَّ الْبَاقِرَ يَشَّابَهُ" جَعَلَهُ
فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا، وَذَكَرَ الْبَقَرَ وَأَدْغَمَ.
وَيَجُوزُ" إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهُ" بِتَخْفِيفِ الشِّينِ
وَضَمِّ الْهَاءِ، وَحَكَاهَا الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ.
النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ" يَشَابَهُ" بِتَخْفِيفِ الشِّينِ
وَالْيَاءِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي التَّاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ
تتشابه فحذفت لاجتماع. التائين. وَالْبَقَرُ وَالْبَاقِرُ
وَالْبَيْقُورُ وَالْبَقِيرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى، وَالْعَرَبُ
تُذَكِّرُهُ وَتُؤَنِّثُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ تَرْجِعُ مَعَانِي
الْقِرَاءَاتِ فِي" تَشابَهَ". وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا:"
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا" لِأَنَّ وُجُوهَ الْبَقَرِ
تَتَشَابَهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
ذَكَرَ (فِتَنًا كَقِطْعِ اللَّيْلِ تَأْتِي كَوُجُوهِ
الْبَقَرِ). يُرِيدُ أَنَّهَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَوُجُوهُ الْبَقَرِ تَتَشَابَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)
اسْتِثْنَاءٌ مِنْهُمْ، وَفِي اسْتِثْنَائِهِمْ فِي هَذَا
السُّؤَالِ الْأَخِيرِ إِنَابَةٌ مَا وَانْقِيَادٌ، وَدَلِيلُ
نَدَمٍ عَلَى عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ. وَرُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(لَوْ مَا اسْتَثْنَوْا مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا أَبَدًا)
«1». وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَإِنَّا لَمُهْتَدُونَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ. فَقُدِّمَ عَلَى ذِكْرِ الاهتداء اهتماما به.
و" شاءَ" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ عِنْدَ
سِيبَوَيْهِ الْجُمْلَةُ" إِنَّ" وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ.
وَعِنْدَ أَبِي العباس المبرد محذوف.
[سورة البقرة (2): آية 71]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ
فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ
لَا ذَلُولٌ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ" لَا ذَلُولٌ" بِالرَّفْعِ
عَلَى الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ:" لَا ذَلُولٌ"
نَعْتُهُ وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ" لَا ذَلُولَ" بِالنَّصْبِ عَلَى
النَّفْيِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ. وَيَجُوزُ لَا هِيَ ذَلُولٌ،
لَا هِيَ تَسْقِي الْحَرْثَ، هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَمَعْنَى" لَا
ذَلُولٌ" لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ، يُقَالُ: بَقَرَةٌ
مُذَلَّلَةٌ بَيِّنَةُ الذِّلِّ (بِكَسْرِ الذَّالِ). وَرَجُلٌ
ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ (بِضَمِّ الذَّالِ). أَيْ هِيَ
بَقَرَةٌ صَعْبَةٌ غَيْرُ رَيِّضَةٍ لَمْ تُذَلَّلْ بالعمل.
__________
(1). في نسخة من الأصل: (لولا) وروى الحديث من طرق بلفظ: (لو
لم يستثنوا).
(1/452)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُثِيرُ الْأَرْضَ) "
تُثِيرُ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ لِلْبَقَرَةِ
أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ:
وَكَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً وَلِهَذَا وَصَفَهَا
اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا
تَسْقِي الْحَرْثَ أَيْ لَا يُسْنَى بِهَا لِسَقْيِ الزَّرْعِ
وَلَا يُسْقَى عليها. والوقف ها هنا حَسَنٌ. وَقَالَ قَوْمٌ:"
تُثِيرُ" فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ وَالْمَعْنَى إِيجَابُ الْحَرْثِ
لَهَا وَأَنَّهَا كَانَتْ تَحْرُثُ وَلَا تَسْقِي. وَالْوَقْفُ
عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ" لَا ذَلُولٌ" وَالْقَوْلُ
الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ
النَّحَّاسُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" تُثِيرُ" مُسْتَأْنَفًا، لِأَنَّ
بَعْدَهُ" وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ"، فَلَوْ كَانَ
مُسْتَأْنَفًا لَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْوَاوِ وَ" لَا".
الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُثِيرُ الْأَرْضَ لَكَانَتِ
الْإِثَارَةُ قَدْ ذَلَّلَتْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ
نَفَى عَنْهَا الذُّلَّ بِقَوْلِهِ:" لَا ذَلُولٌ". قُلْتُ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ" تُثِيرُ الْأَرْضَ" فِي غَيْرِ
الْعَمَلِ مَرَحًا وَنَشَاطًا، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ
نَبَّاثِ «1» الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
فَعَلَى هذا يكون" تُثِيرُ" مستأنفا،" وَلا تَسْقِي" مَعْطُوفٌ
عَلَيْهِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ: تَحْرِيكُهَا
وَبَحْثُهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (أَثِيرُوا الْقُرْآنَ
فَإِنَّهُ «2» عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى: (مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ
الْقُرْآنَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَفِي التَّنْزِيلِ:"
وَأَثارُوا الْأَرْضَ" [الروم: 9] أَيْ قَلَّبُوهَا
لِلزِّرَاعَةِ. وَالْحَرْثُ: مَا حُرِثَ وَزُرِعَ.
وَسَيَأْتِي. مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ
عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ بِصِفَاتِهِ، وَإِذَا ضُبِطَ
بِالصِّفَةِ وَحُصِرَ بِهَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ. وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ
وَالشَّافِعِيُّ. وَكَذَلِكَ كُلُّ ما يضبط بالصفة، لوصف الله
تعالى البقرة فِي كِتَابِهِ وَصْفًا يَقُومُ مَقَامَ
التَّعْيِينِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ
لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا). أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصِّفَةَ تَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، وَجَعَلَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْخَطَأِ فِي
ذِمَّةِ مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ دَيْنًا إِلَى أَجَلٍ
وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَى الْحُلُولِ. وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ
__________
(1). قوله (نبات الهواجر) يعني الرجل الذي إذا اشتد عليه الحر
هال التراب ليصل إلى ثراه. والعسر: صاحب الإبل التي ترد خمسا.
[ ..... ]
(2). في نهاية ابن الأثير: (فإن فيه).
(3). راجع ص 449.
(1/453)
الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ حَيْثُ
قَالُوا: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَمُرَةَ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَةِ
صِفَتِهِ مِنْ مَشْيٍ وَحَرَكَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي
ثَمَنِهِ وَيَرْفَعُ مِنْ قِيمَتِهِ. وَسَيَأْتِي حُكْمُ
السَّلَمِ وَشُرُوطُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ
الدَّيْنِ «1»، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مُسَلَّمَةٌ) أَيْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، أَيْ أَنَّهَا بَقَرَةٌ مُسَلَّمَةٌ
مِنَ الْعَرَجِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ، قَالَهُ قَتَادَةُ
وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَلَا يُقَالُ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ
الْعَمَلِ لِنَفْيِ اللَّهِ الْعَمَلَ عَنْهَا. وَقَالَ
الْحَسَنُ: يَعْنِي سَلِيمَةَ الْقَوَائِمِ لَا أَثَرَ فِيهَا
لِلْعَمَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا شِيَةَ فِيها) أَيْ
لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ مُعْظَمَ لَوْنِهَا، هِيَ
صَفْرَاءُ كُلُّهَا لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا حُمْرَةَ وَلَا
سَوَادَ، كَمَا قَالَ:" فاقِعٌ لَوْنُها". وَأَصْلُ" شِيَةَ"
وَشِي حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَشِي،
وَالْأَصْلُ يُوشِي، وَنَظِيرُهُ الزِّنَةُ وَالْعِدَةُ
وَالصِّلَةُ. وَالشِّيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَشْيِ الثَّوْبِ
إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَثَوْرٌ
مُوَشًّى: فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ سَوَادٌ. قَالَ ابْنُ
عَرَفَةَ: الشِّيَةُ اللَّوْنُ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ نم: واش،
حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضُرُوبًا وَيُزَيِّنُ مِنْهُ مَا
شَاءَ. وَالْوَشْيُ: الْكَثْرَةُ. وَوَشَى بَنُو فُلَانٍ:
كَثُرُوا. وَيُقَالُ: فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَخْرَجُ،
وَتَيْسٌ أَبْرَقُ، وَغُرَابٌ أَبْقَعُ، وَثَوْرٌ أَشْيَهُ.
كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبُلْقَةِ، هَكَذَا نَصَّ أَهْلُ
اللُّغَةِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي الْبَقَرَةِ سَبَبُهَا
أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَدِينُ
اللَّهِ يُسْرٌ، وَالتَّعَمُّقُ فِي سُؤَالِ الْأَنْبِيَاءِ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَذْمُومٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ
الْعَافِيَةَ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ
رِوَايَاتٌ تَلْخِيصُهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، وَكَانَتْ لَهُ عِجْلَةٌ
فَأَرْسَلَهَا فِي غَيْضَةٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْتَوْدِعُكَ هَذِهِ الْعِجْلَةَ لِهَذَا الصَّبِيِّ.
وَمَاتَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا كَبِرَ الصَّبِيُّ قَالَتْ لَهُ
أُمُّهُ وَكَانَ بَرًّا بِهَا: إِنَّ أَبَاكَ اسْتَوْدَعَ
اللَّهَ عِجْلَةً لَكَ فَاذْهَبْ فَخُذْهَا، فَذَهَبَ فَلَمَّا
رَأَتْهُ الْبَقَرَةُ جَاءَتْ إِلَيْهِ حَتَّى أَخَذَ
بِقَرْنَيْهَا وَكَانَتْ مُسْتَوْحِشَةً فَجَعَلَ يَقُودُهَا
نَحْوَ أُمِّهِ، فَلَقِيَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَوَجَدُوا
بَقَرَةً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، فَسَامُوهُ
فَاشْتَطَّ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ قِيمَتُهَا عَلَى
__________
(1). راجع ج 3 ص 377 فما بعدها.
(1/454)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ثَلَاثَةَ
دَنَانِيرَ، فَأَتَوْا بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا اشْتَطَّ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُمْ:
أَرْضُوهُ فِي مُلْكِهِ، فَاشْتَرَوْهَا مِنْهُ بِوَزْنِهَا
مَرَّةً، قَالَهُ عُبَيْدَةُ. السُّدِّيُّ: بِوَزْنِهَا عَشْرَ
مَرَّاتٍ. وَقِيلَ: بِمِلْءِ مَسْكِهَا دَنَانِيرَ. وَذَكَرَ
مَكِّيٌّ: أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ
وَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَرِ الْأَرْضِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أَيْ
بَيَّنْتَ الْحَقَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ:"
قالُوا الْآنَ" قَطَعَ أَلِفَ الْوَصْلِ، كَمَا يُقَالُ: يَا
أَللَّهُ. وَحَكَى وَجْهًا آخَرَ" قَالُوا لَانَ" بِإِثْبَاتِ
الْوَاوِ. نَظِيرُهُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي
عَمْرٍو" عَادًا لُولَى" وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" قَالُوا
الْآنَ" بِالْهَمْزِ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" قَالُ
لَانَ" بِتَخْفِيفِ الْهَمْزِ مَعَ حَذْفِ الْوَاوِ
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:" الْآنَ"
مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِرَ مَا فِيهِ
الْأَلِفُ وَاللَّامُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ دَخَلَتَا
لِغَيْرِ عَهْدٍ، تَقُولُ: أَنْتَ إِلَى الْآنِ هُنَا،
فَالْمَعْنَى إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. فَبُنِيَتْ كَمَا بُنِيَ
هَذَا، وَفُتِحَتِ النُّونُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أَجَازَ
سِيبَوَيْهِ: كَادَ أَنْ يَفْعَلَ، تَشْبِيهًا بِعَسَى. وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ «1». وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ
تَثْبِيطِهِمْ فِي ذَبْحِهَا وَقِلَّةِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا. وَقِيلَ: خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ، قاله
وهب بن منبه.
[سورة البقرة (2): آية 72]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ
مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً
فَادَّارَأْتُمْ فِيها) هَذَا الْكَلَامُ مُقَدَّمٌ عَلَى
أَوَّلِ الْقِصَّةِ، التَّقْدِيرُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا. فَقَالَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً" [الكهف: 2 1] أي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا،
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ القصة.
__________
(1). راجع ص 222 من هذا الجزء.
(1/455)
وَفِي سَبَبِ قَتْلِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِابْنَةٍ لَهُ حَسْنَاءَ أَحَبَّ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَقَتَلَهُ
وَحَمَلَهُ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى
فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ. وَقِيلَ: أَلْقَاهُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ.
الثَّانِي: قَتَلَهُ طَلَبًا لِمِيرَاثِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ
فَقِيرًا وَادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى بَعْضِ الْأَسْبَاطِ. قَالَ
عِكْرِمَةُ: كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَسْجِدٌ لَهُ اثْنَا
عَشَرَ بَابًا لِكُلِّ بَابٍ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ مِنْهُ،
فَوَجَدُوا قَتِيلًا فِي سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ، فَادَّعَى
هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَادَّعَى هَؤُلَاءِ عَلَى
هَؤُلَاءِ، ثُمَّ أَتَوْا مُوسَى يَخْتَصِمُونَ إِلَيْهِ
فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً" [البقرة: 67] الآية. ومعنى" فَادَّارَأْتُمْ"
[البقرة: 72] الآية. اخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ. وَأَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ ثُمَّ أُدْغِمَتِ
التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ
بِالْمُدْغَمِ، لِأَنَّهُ سَاكِنٌ فَزِيدَ أَلِفُ الْوَصْلِ."
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." مَا كُنْتُمْ" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" مُخْرِجٌ"، وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ
عَلَى الْإِضَافَةِ." تَكْتُمُونَ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ
خَبَرِ كَانَ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ
تَكْتُمُونَهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ طَلَبًا
لِمِيرَاثِهِ لَمْ يَرِثْ قَاتِلُ عَمْدٍ مِنْ حِينَئِذٍ،
قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَتَلَ هَذَا الرَّجُلُ عَمَّهُ لِيَرِثَهُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَبِمِثْلِهِ جَاءَ شَرْعُنَا. وَحَكَى مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي" مُوَطَّئِهِ" أَنَّ قِصَّةَ أُحَيْحَةَ
بْنِ الْجُلَاحِ فِي عَمِّهِ هِيَ كَانَتْ سَبَبُ أَلَّا
يَرِثَ قَاتِلٌ، ثُمَّ ثَبَّتَ ذَلِكَ الْإِسْلَامُ كَمَا
ثَبَّتَ كَثِيرًا مِنْ نَوَازِلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَا
خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ قَاتِلُ
الْعَمْدِ مِنَ الدِّيَةِ وَلَا مِنَ الْمَالِ، إِلَّا
فِرْقَةٌ شَذَّتْ عَنِ الْجُمْهُورِ كُلُّهُمْ أَهْلُ بِدَعٍ.
وَيَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ مِنَ
الدِّيَةِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثور
والشافعي، لأنه لا يهتم عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ
وَيَأْخُذَ مَالَهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ
آخَرَ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً شَيْئًا
مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ
وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَرَوَاهُ
الشَّعْبِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ قَالُوا: لَا
يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً شَيْئًا. وَرُوِيَ
عَنْ مُجَاهِدٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنَ
الدِّيَةِ وَمِنَ الْمَالِ جَمِيعًا، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ.
وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
آية المواريث «1» إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 5 ص 55 فما بعدها.
(1/456)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
[سورة البقرة (2): آية 73]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)
قِيلَ: بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ آلَةُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ:
بِعَجْبِ الذَّنَبِ، إِذْ فِيهِ يُرَكَّبُ خَلْقُ
الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَخِذِ. وَقِيلَ: بِعَظْمٍ مِنْ
عِظَامِهَا، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا،
فَلَمَّا ضُرِبَ بِهِ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ثُمَّ
عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. مَسْأَلَةٌ: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ
الْقَاسِمِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ
الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي.
وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالُوا:
وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ
عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ
الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ دَمَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مَمْنُوعٌ إِبَاحَتُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ،
وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ قَوْلِ
الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَأَمَّا قَتِيلُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَكَانَتْ مُعْجِزَةً وَأَخْبَرَ تَعَالَى
أَنَّهُ يُحْيِيهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ
بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَزْمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ،
فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُعْجِزَةُ
كَانَتْ فِي إِحْيَائِهِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ
كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي
الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنَ الْعِلْمِ
لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ،
فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ وَاسْتَبْعَدَ
ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: كَيْفَ يُقْبَلُ قوله في الدم وهؤلاء
لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ. مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْحُكْمِ بِالْقَسَامَةِ، فَرُوِيَ عَنْ
سَالِمٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ «1» التَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ
بِهَا. وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ، لِأَنَّهُ أَتَى
بِحَدِيثِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ ثَابِتٌ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ بِهَا، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: يَبْدَأُ فِيهَا الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ
فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا، وَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِءُوا. هَذَا
قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ
حُوَيِّصَةَ ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت
__________
(1). في نسخة: (الحكم بن عتيبة).
(1/457)
طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ
بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُونَ
وَيَبْرَءُونَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ
وَالْكُوفِيُّونَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ شُعْبَةَ بْنِ
عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ ابن يَسَارٍ، وَفِيهِ: فَبَدَأَ
بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْيَهُودُ.
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رِجَالٍ مِنَ
الْأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ: (أَيَحْلِفُ
مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا). فَأَبَوْا، فَقَالَ
لِلْأَنْصَارِ: (اسْتَحِقُّوا) فَقَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى
الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةً عَلَى يَهُودَ،
لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ) فَعُيِّنُوا «1». قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ
الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الدَّعَاوَى الَّذِي نَبَّهَ الشَّرْعُ
عَلَى حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَوْ
يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ
رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ «2» رَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ
الْمَقَالَةِ الْأُولَى فَقَالُوا: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ
عُبَيْدٍ فِي تَبْدِيَةِ الْيَهُودِ وَهْمٌ عِنْدَ أَهْلِ
الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: وَلَمْ
يُتَابَعْ سَعِيدٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِيمَا أَعْلَمُ،
وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيثَ بَشِيرٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَحَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ وَعِيسَى بْنِ
حَمَّادٍ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ.
وَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ فَقَدْ وَصَلَهُ جَمَاعَةُ
الْحُفَّاظِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ
عُبَيْدٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ: فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُعْتَرَضَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَلَى خَبَرِ جَمَاعَةٍ،
مَعَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ فِي حَدِيثِهِ:
فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ لَا تُعْطَى
فِي الدِّيَاتِ وَلَا يُصَالَحُ بِهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِهَا،
وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ مُرْسَلٌ فَلَا تُعَارَضُ بِهِ
الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَّصِلَةُ، وَأَجَابُوا عَنِ
التَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ أَصْلٌ
بِنَفْسِهِ لِحُرْمَةِ الدِّمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِظَاهِرِ ذَلِكَ
يَجِبُ، إِلَّا أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكما في
شي مِنَ الْأَشْيَاءِ فَيُسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ هَذَا
الْخَبَرِ. فَمِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ إِلْزَامُ
الْقَاذِفِ حَدَّ الْمَقْذُوفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْقِ مَا
رُمِيَ بِهِ المقذوف وخص
__________
(1). هذه الكلمة ساقطة في بعض النسخ.
(2). كذا ورد هذا الحديث في بعض نسخ الأصل وصحيح مسلم. قال ابن
الملك: إنما ذكر اليمين فقط لأنها هي الحجة في الدعوى آخرا
وإلا فعلى المدعى إقامة البينة أولا.
(1/458)
مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ بِأَنْ أَسْقَطَ
عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ. وَمِمَّا
خَصَّتْهُ السُّنَّةُ حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْبَيِّنَةُ عَلَى
مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي
الْقَسَامَةِ). خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدِ احْتَجَّ
مَالِكٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُوَطَّئِهِ بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفُوا
أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَأَوْجَبَتْ
طَائِفَةٌ الْقَوَدَ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ
وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:
(أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ). وَرَوَى
أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَضْرِ بْنِ
مَالِكٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: نُسْخَةُ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ
أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يُصَحِّحُ حَدِيثَ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ، وَيَحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدَ بن حنبل
والحميدي وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ يَحْتَجُّونَ بِهِ قَالَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي السُّنَنِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا
قَوَدَ بِالْقَسَامَةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الدِّيَةَ. رُوِيَ
هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ
النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ
والكوفيون الشافعي وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ
مَالِكٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ لِلْأَنْصَارِ: (إِمَّا أَنْ
يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ).
قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الدِّيَةِ لَا عَلَى
الْقَوَدِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) دِيَةُ دَمِ قَتِيلِكُمْ
لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا بِأَصْحَابٍ لَهُمْ، وَمَنِ
اسْتَحَقَّ دِيَةَ صَاحِبِهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ دَمَهُ،
لِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ تُؤْخَذُ فِي الْعَمْدِ فَيَكُونُ
ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا لِلدَّمِ. مَسْأَلَةٌ: الْمُوجِبُ
لِلْقَسَامَةِ اللَّوْثُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَاللَّوْثُ:
أَمَارَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ مُدَّعِي
الْقَتْلِ، كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ
الْقَتْلِ، أَوْ يُرَى الْمَقْتُولُ يَتَشَحَّطُ «1» فِي
دَمِهِ، وَالْمُتَّهَمُ نَحْوَهُ أَوْ قُرْبَهُ عَلَيْهِ
آثَارُ الْقَتْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ وَالْقَوْلِ
بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَوْلُ الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ
فُلَانٍ. وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لَوْثٌ. كَذَا في رواية ابن
القاسم عنه.
__________
(1). يتشحط في دمه: إي يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ.
(1/459)
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
يَقْسِمُ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمَعَ
الْمَرْأَةِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ
لَوْثٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ
شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَوْثٌ دُونَ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ
الْوَاحِدَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا،
مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلِ. وَقَالَ
مُحَمَّدٌ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّ الْمَجْرُوحَ أَوِ
الْمَضْرُوبَ إِذَا قَالَ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَمَاتَ
كَانَتِ الْقَسَامَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
اللَّوْثُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، أَوْ يَأْتِي بِبَيِّنَةٍ
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَأَوْجَبَ الثَّوْرِيُّ
وَالْكُوفِيُّونَ الْقَسَامَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ فَقَطْ،
وَاسْتَغْنَوْا عَنْ مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ وَعَنِ
الشَّاهِدِ، قَالُوا: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ
قَوْمٍ وَبِهِ أَثَرٌ حَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَيَكُونُ عَقْلُهُ عَلَيْهِمْ،
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى العاقلة شي
إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَاحِدٍ. وَقَالَ
سُفْيَانُ: وَهَذَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا،
وَهُوَ قول ضعيف خالقوا فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلَا سَلَفَ
لَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
وَلِأَنَّ فِيهِ إِلْزَامَ الْعَاقِلَةِ مَالًا بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ وَلَا إِقْرَارَ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَتِيلَ
إِذَا وُجِدَ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ أَنَّهُ هَدَرٌ، لَا
يُؤْخَذُ بِهِ أَقْرَبُ النَّاسِ دَارًا، لِأَنَّ الْقَتِيلَ
قَدْ يُقْتَلُ ثُمَّ يُلْقَى عَلَى بَابِ قَوْمٍ لِيُلَطَّخُوا
بِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ
الْأَسْبَابُ الَّتِي شَرَطُوهَا فِي وُجُوبِ الْقَسَامَةِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَذَا مِمَّا
يُؤَخَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ
مَسْعَدَةَ قُلْتُ لِلنَّسَائِيِّ: لَا يَقُولُ مَالِكٌ
بِالْقَسَامَةِ إِلَّا بِاللَّوْثِ، فَلِمَ أَوْرَدَ حَدِيثَ
الْقَسَامَةِ وَلَا لَوْثَ فِيهِ؟ قَالَ النَّسَائِيُّ:
أَنْزَلَ مَالِكٌ الْعَدَاوَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْيَهُودِ بِمَنْزِلَةِ اللَّوْثِ، وَأَنْزَلَ
اللَّوْثَ أَوْ قَوْلَ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَاوَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَأَصْلُ هَذَا فِي قِصَّةِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ حِينَ أَحْيَا اللَّهُ الَّذِي ضُرِبَ بِبَعْضِ
الْبَقَرَةِ فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَبِأَنَّ
الْعَدَاوَةَ لَوْثٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا نَرَى قَوْلَ
الْمَقْتُولِ لَوْثًا، كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الشافعي:
(1/460)
إِذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَوْمٍ
عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ
الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ فِي أَحَدِ
الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَجَبَتِ
الْقَسَامَةُ فِيهِ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَتِيلِ
بوجد فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي أَكْرَاهَا أَرْبَابُهَا،
فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ
وَلَيْسَ عَلَى السكان شي، فَإِنْ بَاعُوا دُورَهُمْ ثُمَّ
وُجِدَ قَتِيلٌ فَالدِّيَةُ على المشتري وليس على السكان شي،
وَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الدُّورِ غُيَّبًا وَقَدْ أَكْرَوْا
دورهم فالقسامة والديه على أرباب الدور الغيب وَلَيْسَ عَلَى
السُّكَّانِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أظهرهم شي.
ثُمَّ رَجَعَ يَعْقُوبُ مِنْ بَيْنِهِمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ
فَقَالَ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى السُّكَّانِ فِي
الدُّورِ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانُوا عُمَّالًا
سُكَّانًا يَعْمَلُونَ فَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ. قَالَ
الثَّوْرِيُّ وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ عَلَى أَصْحَابِ
الْأَصْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الدُّورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ:
الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْقَسَامَةِ لَا
فِي الدِّيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ كُلُّهُ
سَوَاءٌ، وَلَا عَقْلَ وَلَا قَوَدَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ
تَقُومُ، أَوْ مَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ فَيُقْسِمُ
الْأَوْلِيَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا أَصَحُّ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُحْلَفُ فِي الْقَسَامَةِ أَقَلَّ مِنْ
خَمْسِينَ يَمِينًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: (يُقْسِمُ خَمْسِينَ
مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ). فَإِنْ كَانَ
الْمُسْتَحِقُّونَ خَمْسِينَ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ
نَكَلَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ عَفْوُهُ رُدَّتِ
الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدِهِمْ. وَلَا يَحْلِفُ
فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ، لَا
يَحْلِفُ فِيهِ الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا النِّسَاءِ،
يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ وَمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِمُ
الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْعَصَبَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا. هَذَا
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ. وَرَوَى مُطَرِّفٌ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
أَحَدٌ وَيَحْلِفُ هُمْ أَنْفُسُهُمْ كَمَا لَوْ كَانُوا
وَاحِدًا فَأَكْثَرَ خمسين يمينا يبرءون بِهَا أَنْفُسَهُمْ،
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
يُقْسِمُ إِلَّا وَارِثٌ، كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ
خَطَأً. وَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَالٍ وَيَسْتَحِقُّهُ إِلَّا
مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ
الْمِلْكَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَالْوَرَثَةُ يُقْسِمُونَ عَلَى
قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثور
واختاره ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَنْ
لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَتَوَجَّهُ
عَلَيْهِ فِيهِ يَمِينٌ. ثُمَّ مَقْصُودُ هَذِهِ
(1/461)
ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (74)
الْأَيْمَانِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدَّعْوَى
وَمَنْ لَمْ يُدَّعَ عليه برئ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْخَطَأِ:
يَحْلِفُ فِيهَا الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،
فَمَهْمَا كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ
أَكْثَرَ اسْتَحَقَّ الْحَالِفُ مِيرَاثَهُ، وَمَنْ نَكَلَ
لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، فَإِنْ جَاءَ مَنْ غَابَ حَلَفَ
مِنَ الْأَيْمَانِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ حَضَرَ
بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ
عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْخَطَأِ
قَسَامَةً. وَتَتْمِيمُ مَسَائِلِ الْقَسَامَةِ وَفُرُوعِهَا
وَأَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ،
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
مَسْأَلَةٌ: فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَالَ بِهِ
طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ،
وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْرٍ
الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ
أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ
الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ قَالَ الله:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"
[الانعام: 90] عَلَى مَا يَأْتِي «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قوله تعالى: (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)
أَيْ كَمَا أَحْيَا هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ،
لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ)
أَيْ عَلَامَاتِهِ وَقُدْرَتَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كَيْ تَعْقِلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». أَيْ تَمْتَنِعُونَ
مِنْ عِصْيَانِهِ. وَعَقَلْتُ نَفْسِي عَنْ كَذَا أَيْ منعتها
منه والمعاقل: الحصون.
[سورة البقرة (2): آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ
لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ) الْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ
وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ
وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وغيرهما:
__________
(1). راجع ج 7 ص 35.
(2). راجع ص 226 من هذا الجزء
(1/462)
الْمُرَادُ قُلُوبُ جَمِيعِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قُلُوبُ
وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُمْ حِينَ حَيِيَ وَأَخْبَرَ
بِقَاتِلِهِ وَعَادَ إِلَى مَوْتِهِ أَنْكَرُوا قَتْلَهُ،
وَقَالُوا: كَذَبَ، بَعْدَ مَا رَأَوْا هَذِهِ الْآيَةَ
الْعُظْمَى، فَلَمْ يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قُلُوبًا، وَلَا
أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ،
لَكِنْ نَفَذَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِهِ. رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا
تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ
كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ
لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ
الْقَاسِي (. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:)
أَرْبَعَةٌ مِنَ الشقاء جمود العين وقساء «1» الْقَلْبِ
وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا (. قَوْلُهُ
تَعَالَى:) فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ("
أَوْ" قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ:" آثِماً
أَوْ كَفُوراً" [الإنسان: 24]." عُذْراً أَوْ نُذْراً" وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا
أَيْ وَكَانَتْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ" «2» [الصافات: 147] الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ...
وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ «3»
أَيْ بَلْ أَنْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الْإِبْهَامُ عَلَى
الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ
الدُّؤَلِيِّ:
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا ... وَعَبَّاسًا
وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ ... وَلَسْتُ
بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا
وَلَمْ يَشُكَّ أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّ حُبَّهُمْ رُشْدٌ
ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَامَ. وَقَدْ قِيلَ
لِأَبِي الْأَسْوَدِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: شَكَكْتَ! قَالَ:
كَلَّا، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" «4»
[سبأ: 24] وَقَالَ: أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا!
وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة
__________
(1). القساء (بالفتح والمد): مصدر مثل القسوة والقساوة.
(2). راجع 15 ص 130.
(3). راجع البيت في خزانة الأدب في الشاهد 895. [ ..... ]
(4). راجع ج 14 ص 298
(1/463)
تُصِيبُوا، أَوْ بِأَشَدِّ مِنَ
الْحِجَارَةِ تُصِيبُوا، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: جَالِسِ
الْحَسَنَ أَوِ ابْنِ سِيرِينَ، وتعلم الفقه أو الحديث أو
النحو. وقيل: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا مِنَ الشَّكِّ،
وَمَعْنَاهَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ وَفِي
نَظَرِكُمْ أَنْ لَوْ شَاهَدْتُمْ قَسْوَتَهَا لَشَكَكْتُمْ:
أَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ؟ وَقَدْ
قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلى مِائَةِ
أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" [الصافات: 147]. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ
قَلْبُهُ كَالْحَجَرِ،. وَفِيهِمْ مَنْ قَلْبُهُ أشد من الحجر.
فالمعنى هم فرقتان. قوله تعالى: (أَوْ أَشَدُّ) " أَشَدُّ"
مَرْفُوعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ"
كَالْحِجارَةِ"، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَهِيَ مِثْلُ
الْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ. وَيَجُوزُ أَوْ" أَشَدُّ"
بِالْفَتْحِ عَطْفٌ عَلَى الْحِجَارَةِ. وَ" قَسْوَةً" نَصْبٌ
عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" قَسَاوَةً"
وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ
مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) قَدْ
تَقَدَّمَ مَعْنَى الِانْفِجَارِ «1». وَيَشَّقَّقُ أَصْلُهُ
يَتَشَقَّقُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ، وَهَذِهِ
عِبَارَةٌ عَنِ الْعُيُونِ الَّتِي لَمْ تَعْظُمْ حَتَّى
تَكُونَ أَنْهَارًا، أَوْ عَنِ الْحِجَارَةِ الَّتِي
تَتَشَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ مَاءٌ مُنْفَسِحٌ. وَقَرَأَ
ابْنُ مُصَرِّفٍ" يَنْشَقِقْ" بِالنُّونِ، وَقَرَأَ" لَمَّا
يَتَفَجَّرُ"" لَمَّا يَتَشَقَّقُ" بِتَشْدِيدِ" لَمَّا" فِي
الْمَوْضِعَيْنِ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجَهَةٍ.
وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" يَنْفَجِرُ" بِالنُّونِ
وَكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَرَ الْحِجَارَةَ
وَلَمْ يَعْذِرْ شَقِيَّ بَنِي آدَمَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
يَجُوزُ لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَمَا
تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ تَتَفَجَّرُ
أَنَّثَهُ بِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي
تَشَقَّقَ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ عَلَى
الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْهَا لَحِجَارَةً
تَتَشَقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ فَمَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ
مَا. وَالشَّقُّ وَاحِدُ الشُّقُوقِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ
مَصْدَرٌ، تَقُولُ: بِيَدِ فُلَانٍ وَرِجْلَيْهِ شُقُوقٌ،
وَلَا تَقُلْ: شِقَاقٌ، إِنَّمَا الشِّقَاقُ دَاءٌ يَكُونُ
بِالدَّوَابِّ، وَهُوَ تَشَقُّقٌ يُصِيبُ أَرْسَاغَهَا
وَرُبَّمَا ارْتَفَعَ إِلَى وَظِيفِهَا «2»، عَنْ يَعْقُوبَ.
وَالشَّقُّ: الصُّبْحُ. وَ" مَا" فِي قوله:
__________
(1). راجع ص 419 من هذا الجزء.
(2). الوظيف: مستدق الذراع والساق. وقيل: ما فوق الرسغ إلى
الساق.
(1/464)
" لَما يَتَفَجَّرُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ،
لِأَنَّهَا اسْمُ إِنَّ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ." مِنْهُ"
عَلَى لَفْظِ مَا، وَيَجُوزُ مِنْهَا عَلَى الْمَعْنَى،
وَكَذَلِكَ" وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ". وَقَرَأَ قَتَادَةُ" وَإِنْ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ،
مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ
مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) يَقُولُ إِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ قُلُوبِكُمْ،
لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا وَتَرَدِّيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ:
مَا تَرَدَّى حَجَرٌ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، وَلَا تَفَجَّرَ
نَهْرٌ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ إِلَّا مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ، نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ بَعْضُ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِ:" وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ": الْبَرَدُ الْهَابِطُ مِنَ
السَّحَابِ. وَقِيلَ: لَفْظَةُ الْهُبُوطِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا كَانَتِ الْقُلُوبُ تَعْتَبِرُ
بِخَلْقِهَا، وَتَخْشَعُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، أُضِيفَ
تَوَاضُعُ النَّاظِرِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ:
نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ، أَيْ تَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى
شِرَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ
الْخَشْيَةَ لِلْحِجَارَةِ مُسْتَعَارَةٌ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ
الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ:" يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ" وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: «1»
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُوَرُ
الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَذَكَرَ ابْنُ بَحْرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَإِنَّ مِنْها" رَاجِعٌ إِلَى الْقُلُوبِ لَا
إِلَى الْحِجَارَةِ أَيْ مِنَ الْقُلُوبِ لَمَا يَخْضَعُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ. قُلْتُ: كُلُّ مَا قِيلَ يَحْتَمِلُهُ
اللَّفْظُ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ
أَنْ يُعْطَى بَعْضَ الْجَمَادَاتِ الْمَعْرِفَةَ فَيَعْقِلُ،
كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذا خَطَبَ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ، وَثَبَتَ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ في
الجاهلية
__________
(1). نسب هذا البيت في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة
الزبير بن العوام وفي كتاب سيبويه إلى جرير. ويلاحظ أن زيد
الخيل توفى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في آخر خلافة عمر رضى الله عنه. فوفاته
إذا قبل وفاة الزبير. وقد وصف مقتل الزبير بن العوام حين أنصرف
يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة. يقول: لما وافى خبره المدينة
(مدينة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تواضعت
هي وجبالها وخشعت حزنا له.
(1/465)
إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ (. وَكَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:) قَالَ لِي ثَبِيرٌ «1» اهْبِطْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ
يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ (.
فَنَادَاهُ حِرَاءٌ: إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي
التَّنْزِيلِ:" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ" «2» [الأحزاب: 72]
الْآيَةَ. وَقَالَ:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ" «3» [الحشر: 21] يَعْنِي تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا،
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ"»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا
اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) " بِغافِلٍ" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَى
لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. والياء تَوْكِيدٌ."
عَمَّا تَعْمَلُونَ" أَيْ عَنْ عَمَلِكُمْ حَتَّى لَا
يُغَادِرَ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا يُحْصِيهَا
عَلَيْكُمْ،" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" «5»
[الزلزلة: 7، 8]. وَلَا تَحْتَاجُ" مَا" إِلَى عَائِدٍ إِلَّا
أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيُحْذَفُ الْعَائِدُ
لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ عَنِ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ" يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْمُخَاطَبَةُ
عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام.
__________
(1). ثبير: جبل معروف عند مكة.
(2). راجع ج 14 ص 253.
(3). راجع ج 18 ص 44.
(4). راجع ج 10 ص 267.
(5). راجع ج 20 ص 150.
(1/466)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
الجزء الثاني
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة البقرة]
[سورة البقرة (2): آية 75]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ" هَذَا اسْتِفْهَامٌ
فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ
إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ، أَيْ إِنْ
كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَةٌ فِي ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ
لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ لَهُمْ حِرْصٌ عَلَى
إِسْلَامِ الْيَهُودِ لِلْحِلْفِ وَالْجِوَارِ الَّذِي كَانَ
بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَيْ لَا
تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَأَخْبَرَهُ
أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّوءِ الَّذِينَ مَضَوْا. وَ" أَنْ"
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا، نُصِبَ
بِأَنْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. يُقَالُ: طَمِعَ
فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعِيَةً- مُخَفَّفٌ- فَهُوَ طَمِعٌ، عَلَى
وَزْنِ فَعِلٌ. وَأَطْمَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ فِي
التَّعَجُّبِ: طَمُعَ الرَّجُلُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- أَيْ صَارَ
كَثِيرَ الطَّمَعِ. وَالطَّمَعُ: رِزْقُ الْجُنْدِ، يُقَالُ:
أَمَرَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بِأَطْمَاعِهِمْ، أَيْ
بِأَرْزَاقِهِمْ. وَامْرَأَةٌ مِطْمَاعٌ: تُطْمِعُ وَلَا
تُمَكِّنُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَدْ كانَ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ" الْفَرِيقُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ
مِنْ لَفْظِهِ، وَجَمْعُهُ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَفْرِقَةٌ،
وَفِي الْكَثِيرِ أَفْرِقَاءُ." يَسْمَعُونَ" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ خَبَرُ" كانَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ"
مِنْهُمْ"، وَيَكُونَ" يَسْمَعُونَ" نَعْتًا لِفَرِيقٍ،
وَفِيهِ بُعْدٌ." كَلامَ اللَّهِ" قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" كَلِمَ اللَّهِ" عَلَى جَمْعِ كَلِمَةٍ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ نَاسًا مِنْ رَبِيعَةَ
يَقُولُونَ" مِنْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ إِتْبَاعًا
لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسَكَّنُ حَاجِزًا
حَصِينًا عِنْدَهُ." كَلامَ اللَّهِ" مَفْعُولٌ بِ"
يَسْمَعُونَ". وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ
اخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ
(2/1)
السَّلَامُ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ
فَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَحَرَّفُوا الْقَوْلَ فِي
إِخْبَارِهِمْ لِقَوْمِهِمْ. هَذَا قَوْلُ الرَّبِيعِ وَابْنِ
إِسْحَاقَ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ
السَّبْعِينَ سَمِعُوا مَا سَمِعَ مُوسَى فَقَدْ أَخْطَأَ،
وَأَذْهَبَ بِفَضِيلَةِ مُوسَى وَاخْتِصَاصِهِ بِالتَّكْلِيمِ.
وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُطِيقُوا
سَمَاعَهُ، وَاخْتَلَطَتْ أَذْهَانُهُمْ وَرَغِبُوا أَنْ
يَكُونَ مُوسَى يَسْمَعُ وَيُعِيدُهُ لَهُمْ، فَلَمَّا
فَرَغُوا وَخَرَجُوا بَدَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَا
سَمِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَإِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ" «1». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى
الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
قَوْمَ مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ
يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ، فَسَمِعُوا صَوْتًا كَصَوْتِ
الشَّبُّورِ: «2» " إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ بِيَدٍ
رَفِيعَةٍ وَذِرَاعٍ شَدِيدَةٍ". قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ
بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، رَوَاهُ ابْنُ مَرْوَانَ عَنِ
الْكَلْبِيِّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وإنما
الكلام شي خُصَّ بِهِ مُوسَى مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ وَلَدِ
آدَمَ، فَإِنْ كَانَ كَلَّمَ قَوْمَهُ أَيْضًا حَتَّى
أَسْمَعَهُمْ كَلَامَهُ فَمَا فَضْلُ مُوسَى عَلَيْهِمْ،
وَقَدْ قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي" «3». وَهَذَا
وَاضِحٌ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ بماذا عَرَفَ
مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ
خِطَابَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا
لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْطِيعٌ وَلَا
نَفَسٌ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ
الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامًا لَا مِنْ
جِهَةٍ، وَكَلَامُ الْبَشَرِ يُسْمَعُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ
الْجِهَاتِ السِّتِّ، عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ
الْبَشَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ صَارَ جَسَدُهُ كُلُّهُ مَسَامِعَ
حَتَّى سَمِعَ بِهَا ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ
كَلَامُ اللَّهِ. وَقِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُعْجِزَةَ دَلَّتْ
عَلَى أَنَّ مَا سَمِعَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ
ثُعْبَانًا، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الْحَالِ،
وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ له:" إِنِّي أَنَا رَبُّكَ" «4» هو
الله عز وجل. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ أَضْمَرَ فِي
نَفْسِهِ شيئا لا يقف عليه
__________
(1). راجع ج 8 ص 75.
(2). الشبور (على وزن التنور): البوق.
(3). راجع ج 7 ص 280.
(4). راجع ج 11 ص 172.
(2/2)
وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَأَخْبَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ بِذَلِكَ الضَّمِيرِ، فَعَلِمَ
أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ.
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْقَصَصِ" بَيَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ" «1» إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ" قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ
عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ
فَيَجْعَلُونَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَالْحَلَالَ حَرَامًا
اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ." مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ" أَيْ
عَرَفُوهُ وَعَلِمُوهُ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ
هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيلُ
سُوءٍ وَعِنَادٍ، فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ،
فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ!. وَدَلَّ هَذَا
الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ
الْمُعَانِدِ فِيهِ بَعِيدٌ مِنَ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ
الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَمْ ينهه ذلك عن عناده.
[سورة البقرة (2): الآيات 76 الى 77]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
آمَنَّا" هذا الْمُنَافِقِينَ. وَأَصْلُ" لَقُوا" لَقِيُوا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ «2»." وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ"
الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ
أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ،
فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ:" أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ" أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْعَذَابِ، لِيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ
مِنْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ
عَلِيًّا لَمَّا نَازَلَ قُرَيْظَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَمِعَ
سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
لَا تَبْلُغْ إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ لَهُ، فَقَالَ:" أَظُنُّكَ
سَمِعْتَ شَتْمِي مِنْهُمْ لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ
ذَلِكَ" وَنَهَضَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْسَكُوا،
فَقَالَ لَهُمْ: (أَنَقَضْتُمُ الْعَهْدَ يَا إِخْوَةَ
الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَخْزَاكُمُ الله وأنزل بكم
نقمته) فقالوا:
__________
(1). راجع ج 13 ص 281. [ ..... ]
(2). راجع ج 1 ص 206 طبعه ثانية
(2/3)
مَا كُنْتَ جَاهِلًا يَا مُحَمَّدُ فَلَا
تَجْهَلْ عَلَيْنَا، مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ مَا خَرَجَ هَذَا
الْخَبَرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِنَا! رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى
عَنْ مُجَاهِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا خَلا" الْأَصْلُ
فِي" خَلا" خَلَوَ، قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا
وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى" خَلا" فِي
أَوَّلِ السُّورَةِ «1». وَمَعْنَى" فَتَحَ" حَكَمَ.
وَالْفَتْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا
وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ"
«2» أَيِ الْحَاكِمِينَ، وَالْفَتَّاحُ: الْقَاضِي بِلُغَةِ
الْيَمَنِ، يُقَالُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ، قِيلَ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ الْمَظْلُومَ عَلَى الظَّالِمِ.
وَالْفَتْحُ: النَّصْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا"، «3»، وَقَوْلُهُ:" إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ" «4». وَيَكُونُ
بِمَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" لِيُحَاجُّوكُمْ" نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، وَإِنْ
شِئْتَ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَعَلَامَةُ النَّصْبِ، حَذْفُ
النُّونِ. قَالَ يُونُسُ: وَنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ يَفْتَحُونَ
لَامَ كَيْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّ الْفَتْحَ الْأَصْلُ.
قَالَ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ: هِيَ لُغَةُ بَنِي الْعَنْبَرِ.
وَمَعْنَى" لِيُحَاجُّوكُمْ" لِيُعَيِّرُوكُمْ، وَيَقُولُوا
نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِقَوْلِكُمْ، يَقُولُونَ كَفَرْتُمْ
بِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَفْتُمْ عَلَى صِدْقِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الرَّجُلَ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَلْقَى صَدِيقَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ لَهُ: تَمَسَّكْ بِدِينِ مُحَمَّدٍ
فَإِنَّهُ نَبِيٌّ حَقًّا." عِنْدَ رَبِّكُمْ" قِيلَ فِي
الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ:" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" «5». وَقِيلَ: عِنْدَ ذِكْرِ
رَبِّكُمْ. وَقِيلَ:" عِنْدَ" بِمَعْنَى" فِي" أَيْ
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي رَبِّكُمْ، فَيَكُونُوا أَحَقَّ به
منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عَنِ الْحَسَنِ. وَالْحُجَّةُ:
الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ
مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ. وَحَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ،
أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (فَحَجَّ
آدَمُ مُوسَى)." أَفَلا تَعْقِلُونَ" قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ
الْأَحْبَارِ لِلْأَتْبَاعِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِهَذِهِ
الْأَحْوَالِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمْ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ:"
أَوَلا يَعْلَمُونَ" الْآيَةَ. فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ
التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ"
يَعْلَمُونَ" بِالْيَاءِ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِالتَّاءِ،
خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِي أَسَرُّوهُ كُفْرُهُمْ،
وَالَّذِي أَعْلَنُوهُ الْجَحْدُ بِهِ.
__________
(1). يراجع ج 1 ص 206 طبعه ثانية
(2). راجع ج 7 ص 251.
(3). راجع ص 26 من هذا الجزء
(4). راجع ج 7 ص 386.
(5). راجع ج 15 ص 254
(2/4)
وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
[سورة البقرة (2): آية 78]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ
أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ" أَيْ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: مِنَ
الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ أُمِّيُّونَ، أَيْ مَنْ لَا
يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَاحِدُهُمْ أُمِّيٌّ، مَنْسُوبٌ
إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ
وِلَادَةِ أُمَّهَاتِهَا لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا
قِرَاءَتَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّا
أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) الْحَدِيثَ.
وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُصَدِّقُوا بِأُمِّ الْكِتَابِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ أُمِّيُّونَ
لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى
أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ. عِكْرِمَةُ
وَالضَّحَّاكُ: هُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُفِعَ كِتَابُهُمْ لِذُنُوبٍ
ارْتَكَبُوهَا فَصَارُوا أُمِّيِّينَ. عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: هُمُ الْمَجُوسُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ
أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى" لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ""
إِلَّا" هَا هُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" «1». وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ «2» ... وَلَا
عِلْمَ إِلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ" إِلَّا
أَمَانِيَ" خَفِيفَةَ الْيَاءِ، حَذَفُوا إِحْدَى الْيَاءَيْنِ
اسْتِخْفَافًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ
هَذَا النَّحْوِ وَاحِدُهُ مُشَدَّدٌ، فَلَكَ فِيهِ
التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، مِثْلُ أَثَافِيَّ وَأَغَانِيَّ
وَأَمَانِيَّ، وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَذَا كَمَا
يقال في جميع مِفْتَاحٍ: مَفَاتِيحُ وَمَفَاتِحُ، وَهِيَ يَاءُ
الْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْحَذْفُ فِي الْمُعْتَلِّ
أَكْثَرُ، كَمَا قَالَ الشاعر «3»:
وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ الْعَمَى ...
ثَلَاثُ الأثافي والرسوم البلاقع «4»
__________
(1). راجع ج 6 ص 2
(2). المثنوية: الاستثناء في اليمين
(3). هو ذو الرمة، كما في ديوانه.
(4). الأثافي (جمع أثفية، بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء
وتشديد الياء): الحج الذي توضع عليه القدر. والرسوم: بقايا
الأبنية. والبانقع (جمع بلقع)؟؟: الخراب.
(2/5)
وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ
التِّلَاوَةُ، وَأَصْلُهَا أُمْنُويَةٌ عَلَى وَزْنِ
أُفْعُولَةٍ، فَأُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ
فَانْكَسَرَتِ النُّونُ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ فَصَارَتْ
أُمْنِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِذا
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» " أَيْ
إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ. وَقَالَ
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ
لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَقَالَ آخَرُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ
دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا الْأَكَاذِيبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ
أَسْلَمْتُ، أَيْ مَا كَذَبْتُ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ
لِابْنِ دَأْبٍ وهو يحدث: أهذا شي رويته أم شي تَمَنَّيْتَهُ؟
أَيِ افْتَعَلْتَهُ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ" أَمانِيَّ" فِي الْآيَةِ.
وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ
وَيَشْتَهِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ:" إِلَّا أَمانِيَّ" يَعْنِي
أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: مُنِّيَ له أي
قدر، قال الْجَوْهَرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ، وَأَنْشَدَ
قَوْلَ الشَّاعِرِ:
لَا تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمٍ ... حَتَّى
تُلَاقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ الْمَانِي «2»
أَيْ يُقَدِّرُ لَكَ الْمُقَدِّرُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى" وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"" إِنْ" بِمَعْنَى
مَا النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنِ الْكافِرُونَ
إِلَّا فِي غُرُورٍ". و" يَظُنُّونَ" يَكْذِبُونَ
وَيُحْدِثُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ ما
يتلون، وإنما هم مقلدون لاحبارهم فيها يقرءون به. قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
يَحْيَى النَّحْوِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الظَّنَّ
عِلْمًا وَشَكًّا وَكَذِبًا، وَقَالَ: إِذَا قَامَتْ
بَرَاهِينُ الْعِلْمِ فَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ بَرَاهِينِ
الشَّكِّ فَالظَّنُّ يَقِينٌ، وَإِذَا اعْتَدَلَتْ بَرَاهِينُ
الْيَقِينِ وَبَرَاهِينُ الشَّكِّ فَالظَّنُّ شَكٌّ، وَإِذَا
زَادَتْ بَرَاهِينُ الشَّكِّ عَلَى بَرَاهِينِ الْيَقِينِ
فَالظَّنُّ كَذِبٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ" أَرَادَ إِلَّا يَكْذِبُونَ. الرَّابِعَةُ-
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: نعت الله
تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرقون فَقَالَ وَقَوْلُهُ
الْحَقُّ:" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ
بِأَيْدِيهِمْ" الآية. وذلك أنه لما درس
__________
(1). راجع ج 12 ص 79.
(2). نسب شارح القاموس هذا البيت لسويد بن عامر المصطلقي.
(2/6)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الْأَمْرُ فِيهِمْ، وَسَاءَتْ رَعِيَّةُ
عُلَمَائِهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا حِرْصًا
وَطَمَعًا، طَلَبُوا أَشْيَاءَ تَصْرِفُ وُجُوهَ النَّاسِ
إِلَيْهِمْ، فَأَحْدَثُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ وَبَدَّلُوهَا،
وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِالتَّوْرَاةِ، وَقَالُوا
لِسُفَهَائِهِمْ: هَذَا مِنْ عِنْدِ الله، ليقبلوها عنهم
فتتأكد رئاستهم وَيَنَالُوا بِهِ حُطَامَ الدُّنْيَا
وَأَوْسَاخَهَا. وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ
قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَهُمُ
الْعَرَبُ، أَيْ مَا أَخَذْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ
حِلٌّ لَنَا. وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ قَالُوا:
لَا يَضُرُّنَا ذَنْبٌ، فَنَحْنُ أَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ،
تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا كَانَ فِي
التَّوْرَاةِ" يَا أَحْبَارِي وَيَا أَبْنَاءَ رُسُلِي"
فَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا" يَا أَحِبَّائِي وَيَا أَبْنَائِي"
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ:" وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ «1» ". فَقَالَتْ: لَنْ
يُعَذِّبَنَا اللَّهُ، وَإِنْ عَذَّبَنَا فَأَرْبَعِينَ
يَوْمًا مِقْدَارَ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ
عَهْداً «2» ". قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: يَعْنِي تَوْحِيدًا،
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمنِ عَهْداً «3» " يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ". ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ فَقَالَ:"
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ «4» ". فَبَيَّنَ
تَعَالَى أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ إِنَّمَا
هُوَ بِحَسَبِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لَا بِمَا قَالُوهُ.
[سورة البقرة (2): آية 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ:" فَوَيْلٌ"
اخْتُلِفَ فِي الْوَيْلِ «5» مَا هُوَ، فَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ
أَنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ أَنَّ الْوَيْلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بين
__________
(1). راجع ج 6 ص 120.
(2). راجع ص 10 من هذا الجزء. [ ..... ]
(3). راجع ج 11 ص 153.
(4). راجع ص 11 من هذا الجزء.
(5). قال أبو حيان في البحر المحيط بعد أن ذكر الأقوال التي
وردت في معنى الويل:" لو صح في التفسير الويل شي عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجب المصير إليه،
وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظ الويل قبل أن يجئ القرآن
ولم تطلقه على شي من هذا التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره به
أهل اللغة".
(2/7)
جَبَلَيْنِ يَهْوِي فِيهِ الْهَاوِي
أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَرَوَى سُفْيَانُ وَعَطَاءُ بْنُ
يَسَارٍ: إِنَّ الْوَيْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَادٍ يَجْرِي
بِفِنَاءِ جَهَنَّمَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ:
صِهْرِيجٌ فِي جَهَنَّمَ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ
آخَرِينَ: أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: الْوَيْلُ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْوَيْلُ شِدَّةُ الشَّرِّ «1». الأصمعي:
الويل تفجع، والويح ترحم. سِيبَوَيْهِ: وَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ
فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى
الْهَلَكَةِ. ابْنُ عَرَفَةَ: الْوَيْلُ الْحُزْنُ، يُقَالُ:
تَوَيَّلَ الرَّجُلُ إِذَا دَعَا بِالْوَيْلِ، وَإِنَّمَا
يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ،" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ
بِأَيْدِيهِمْ". وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْهَلَكَةُ، وَكُلُّ مَنْ
وَقَعَ فِي هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى:" يا وَيْلَتَنا
مالِ هذَا الْكِتابِ «2» ". وَهِيَ الْوَيْلُ وَالْوَيْلَةُ،
وَهُمَا الْهَلَكَةُ، وَالْجَمْعُ الْوَيْلَاتُ، قَالَ:
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمَّ هَاشِمٍ
وَقَالَ أَيْضًا:
فَقَالَتْ لك الويلات إنك مرجلى
وارتفع" فَوَيْلٌ" بِالِابْتِدَاءِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ
بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ
فِعْلٍ، أَيْ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ فِي الْوَيْلِ" وَيْ" أَيْ حُزْنٌ،
كَمَا تَقُولُ: وَيْ لِفُلَانٍ، أَيْ حُزْنٌ لَهُ،
فَوَصَلَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ وَقَدَّرُوهَا مِنْهُ
فَأَعْرَبُوهَا. وَالْأَحْسَنُ فِيهِ إِذَا فُصِلَ عَنِ
الْإِضَافَةِ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ.
وَيَصِحُّ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ، كَمَا
ذَكَرْنَا. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ يُسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ
إِلَّا وَيْحُ وَوَيْسُ وَوَيْهُ وَوَيْكُ وَوَيْلُ وَوَيْبُ،
وَكُلُّهُ يَتَقَارَبُ فِي الْمَعْنَى. وقد فرق بينها انتصاب
المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، إذا أَدْخَلْتَ اللَّامَ
رَفَعْتَ فَقُلْتَ: وَيْلٌ لَهُ، وَوَيْحٌ له. الثانية- قوله
تعالى:" لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ" الكأبة مَعْرُوفَةٌ.
وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ وَخَطَّ بِهِ إِدْرِيسُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ،
خَرَّجَهُ الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ الْخَطَّ فَصَارَ وراثة في ولده.
__________
(1). كذا في نسخ الأصل، وكتاب البحر لابي حيان.
(2). راجع ج 10 ص 418
(2/8)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
بِأَيْدِيهِمْ" تَأْكِيدٌ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ
الْكَتْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ، فَهُوَ مِثْلُ
قَوْلِهِ:" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ"، وَقَوْلِهِ"
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ" وَقِيلَ: فَائِدَةُ"
بِأَيْدِيهِمْ" بَيَانٌ لِجُرْمِهِمْ وَإِثْبَاتٌ
لِمُجَاهَرَتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّى الْفِعْلَ أَشَدُّ
مُوَاقَعَةً مِمَّنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا
لَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ:" بِأَيْدِيهِمْ" كِنَايَةٌ
عَنْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُونَ أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً فِي كَتْبِ
أَيْدِيهِمْ. الرَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي
قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ
وَالزِّيَادَةِ فِي الشَّرْعِ، فَكُلُّ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ
أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا
يَجُوزُ فِيهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ
الشَّدِيدِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ لَمَّا
قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: (أَلَا
مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ
سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي
النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي.
فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ
فِي الدِّينِ خِلَافَ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ
سُنَّةِ أَصْحَابِهِ فَيُضِلُّوا به الناس، وقد وقع ما حدره
وشاع،. كثر وَذَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. الْخَامِسَةُ- قوله تعالى:" لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلًا" وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَأْخُذُونَهُ
بِالْقِلَّةِ، إِمَّا لِفَنَائِهِ وَعَدَمِ ثَبَاتِهِ،
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا
بَرَكَةَ فِيهِ وَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ رَبْعَةً
أَسْمَرَ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وَقَالُوا
لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمُ: انْظُرُوا إِلَى صِفَةِ
النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي
يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَيْسَ يشبهه نعت هذا، وكانت
للأحبار والعلماء رئاسة وَمَكَاسِبُ، فَخَافُوا إِنْ بَيَّنُوا
أَنْ تَذْهَبَ مَآكِلُهُمْ ورئاستهم، فَمِنْ ثَمَّ غَيَّرُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:" فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" قِيلَ مِنَ
الْمَآكِلِ. وَقِيلَ مِنَ الْمَعَاصِي. وكرر الويل تغليظا
لفعلهم.
(2/9)
وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(80)
[سورة البقرة (2): آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ
يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (80)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ." لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً" اخْتُلِفَ، فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا، فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ: (مَنْ أَهْلُ
النَّارِ). قَالُوا: نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ.
فَقَالَ: (كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا لا نخلفكم) فنزلت
هذه الآية، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا هَذِهِ
الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ النَّاسُ
فِي النَّارِ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا
يَوْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ،
وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ جَهَنَّمَ
مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي
كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً حَتَّى يُكْمِلُوهَا وَتَذْهَبَ
جَهَنَّمُ. وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي
التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ
مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى
شَجَرَةِ الزَّقُّومِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى
نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَتَذْهَبَ جَهَنَّمُ
وَتَهْلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: أَنَّ
الْيَهُودَ قَالَتْ إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ
النَّارَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَدَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ،
فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِيَةُ- فِي
هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (دَعِي
الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ) فِي أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ
مَا يُسَمَّى أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ
وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ مَا دُونَ
الثَّلَاثَةِ يُسَمَّى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، وَمَا زَادَ
عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا
يُقَالُ فِيهِ أَيَّامٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَيَّامٌ مِنَ
الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ «1» "" تَمَتَّعُوا
فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «2» "،" سَخَّرَها عَلَيْهِمْ
سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «3» "
__________
(1). راجع ص 399 من هذا الجزء
(2). راجع ج 9 ص 3
(3). راجع ج 18 ص 259.
(2/10)
بَلَى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (82)
فَيُقَالُ لَهُمْ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الصَّوْمِ:" أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ" يَعْنِي
جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَقَالَ:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «1» " يَعْنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَأَيْضًا فَإِذَا أُضِيفَتِ الْأَيَّامُ إِلَى عَارِضٍ لَمْ
يُرَدْ بِهِ تَحْدِيدُ الْعَدَدِ، بَلْ يُقَالُ: أَيَّامُ
مَشْيِكَ وَسَفَرِكَ وَإِقَامَتِكَ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ
وَعِشْرِينَ وَمَا شِئْتَ مِنَ الْعَدَدِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ
مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهَا، وَالْعَادَةُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ،
فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ"
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" اتَّخَذَ «2» " فَلَا مَعْنَى
لِإِعَادَتِهِ" عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً" أَيْ أَسْلَفْتُمْ
عَمَلًا صَالِحًا فَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ تستوجبون بِذَلِكَ
الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ أَوْ هَلْ عَرَفْتُمْ ذلك بويح
الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ" فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
توبيخ وتقريع.
[سورة البقرة (2): الآيات 81 الى 82]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" بَلى "
أي الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ"
بَلَى" وَ" نَعَمْ" اسْمَيْنِ. وَإِنَّمَا هُمَا حَرْفَانِ
مِثْلُ" بل" وغيره، وهي رد لقولهم: إن تَمَسَّنَا النَّارُ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهَا بَلِ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ
عَنِ الْأَوَّلِ، زِيدَتْ عَلَيْهَا الْيَاءُ لِيَحْسُنَ
الْوَقْفُ، وَضُمِّنَتِ الْيَاءُ مَعْنَى الْإِيجَابِ
وَالْإِنْعَامِ. فَ" بَلْ" تَدُلُّ عَلَى رَدِّ الْجَحْدِ،
وَالْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ لِمَا بَعْدُ. قَالُوا:
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَمْ تَأْخُذْ دِينَارًا؟ فَقُلْتَ:
نَعَمْ، لَكَانَ الْمَعْنَى لَا، لَمْ آخُذْ، لِأَنَّكَ
حَقَّقْتَ النَّفْيَ وَمَا بَعْدَهُ. فَإِذَا قُلْتَ: بَلَى،
صَارَ الْمَعْنَى قَدْ أَخَذْتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا
قَالَ الرَّجُلُ لصاحبه: ما لك علي شي، فَقَالَ الْآخَرُ:
نَعَمْ، كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا، لِأَنَّ لا شي
__________
(1). راجع ج 4 ص 51.
(2). راجع ج 1 ص 396 طبعه ثانية.
(2/11)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: بَلَى، كَانَ
رَدًّا لِقَوْلِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: بَلَى لِي عَلَيْكَ. وَفِي
التَّنْزِيلِ" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» " وَلَوْ
قَالُوا نَعَمْ لكفروا. الثانية- قوله تعالى:" سَيِّئَةً"
السَّيِّئَةُ الشِّرْكُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ
لِعَطَاءٍ:" مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً"؟ قَالَ: الشِّرْكُ،
وَتَلَا" وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ
فِي النَّارِ»
". وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، قَالَا:
وَالْخَطِيئَةُ الْكَبِيرَةُ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَالَ
تَعَالَى:" بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ" دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ
لَا يَتِمُّ بِأَقَلِّهِمَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
«3» " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ
أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ
اسْتَقِمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي
هَذَا الْمَعْنَى وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «4» ". وَقَرَأَ
نَافِعٌ" خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ، الْبَاقُونَ
بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى الْكَثْرَةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها
«5» ".
[سورة البقرة (2): آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ" تَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ «6». وَاخْتُلِفَ
فِي الْمِيثَاقِ هُنَا، فَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ الْمِيثَاقُ
الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ
كَالذَّرِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ
عُقَلَاءُ في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
__________
(1). راجع ج 7 ص 613.
(2). راجع ج 13 ص 245.
(3). راجع ج 15 ص 357.
(4). راجع ج 1 ص 304. [ ..... ]
(5). راجع ج 9 ص 367.
(6). راجع ج 1 ص 246، 330.
(2/12)
وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا
اللَّهَ" وَعِبَادَةُ اللَّهِ إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ،
وَتَصْدِيقُ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَنْزَلَ فِي
كُتُبِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تَعْبُدُونَ"
قَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَسَمٍ،
وَالْمَعْنَى وَإِذِ اسْتَخْلَفْنَاهُمْ وَاللَّهِ لَا
تَعْبُدُونَ، وَأَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ
وَالْفَرَّاءُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ" لَا
تَعْبُدُوا" عَلَى النَّهْيِ، وَلِهَذَا وَصَلَ الْكَلَامَ
بِالْأَمْرِ فَقَالَ:" وقُومُوا، وقُولُوا، وأَقِيمُوا،
وآتُوا". وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَهُمْ مُوَحِّدِينَ، أَوْ غَيْرَ مُعَانِدِينَ، قَالَهُ
قُطْرُبٌ وَالْمُبَرِّدُ أَيْضًا. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ
عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ"
يَعْبُدُونَ" بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ
وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
بِأَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَبِأَنْ يُحْسِنُوا
لِلْوَالِدَيْنِ، وَبِأَلَّا يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، ثُمَّ
حُذِفَتْ أَنْ وَالْبَاءُ فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ
لِزَوَالِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي «1» ". قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا خَطَأٌ،
لِأَنَّ كُلَّ مَا أُضْمِرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ
يَعْمَلُ عَمَلَهُ مُظْهَرًا، تَقُولُ: وَبَلَدٍ قَطَعْتُ،
أَيْ رُبَّ بَلَدٍ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِخَطَأٍ، بَلْ هُمَا
وَجْهَانِ صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:
ألا أيها ذا الزاجري أخضر الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ
اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي «2»
بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ،
وَالرَّفْعُ عَلَى حَذْفِهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ
بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَقَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ،
لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ
الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا قَرَنَ تَعَالَى الشُّكْرَ لَهُمَا
بِشُكْرِهِ فَقَالَ:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «3» ".
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا
بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ
أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ
مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي" الْإِسْرَاءِ «4» " إِنْ شَاءَ الله
تعالى.
__________
(1). راجع ج 15 ص 276.
(2). البيت لطرفة بن العبد في معلقته.
(3). راجع ج 14 ص 65.
(4). راجع ج 10 ص 238
(2/13)
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذِي
الْقُرْبى " عَطَفَ ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ.
وَالْقُرْبَى: بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ
كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى، أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ
بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَاتِ بِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ" الْقِتَالِ
«1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَالْيَتامى " الْيَتَامَى عُطِفَ أَيْضًا، وَهُوَ
جَمْعُ يَتِيمٍ، مِثْلُ نَدامَى جَمْعُ نَدِيمٍ. وَالَيْتُمْ
فِي بَنِي آدَمَ بِفَقْدِ الْأَبِ، وَفِي الْبَهَائِمِ
بِفَقْدِ الْأُمِّ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْيَتِيمَ
يُقَالُ فِي بَنِي آدَمَ فِي فَقْدِ الْأُمِّ، وَالْأَوَّلُ
الْمَعْرُوفُ. وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ، يُقَالُ: صَبِيٌّ
يَتِيمٌ، أي منفرد من أبيه. وبئت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده
شي مِنَ الشِّعْرِ. وَدُرَّةٌ يَتِيمَةٌ: لَيْسَ لَهَا
نَظِيرٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِبْطَاءُ، فَسُمِّيَ بِهِ
الْيَتِيمُ، لِأَنَّ الْبِرَّ يُبْطِئُ عَنْهُ. وَيُقَالُ:
يَتُمَ يَيْتُمُ يُتْمًا، مِثْلَ عَظُمَ يَعْظُمُ. وَيَتِمَ
يَيْتَمُ يُتْمًا وَيَتَمًا، مِثْلَ سَمِعَ يَسْمَعُ، ذَكَرَ
الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاءُ. وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّهُ.
وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَةِ بِالْيَتِيمِ وَالْحَضِّ
عَلَى كَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «2» ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ
أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ).
وَأَشَارَ مَالِكٌ «3» بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، رَوَاهُ
أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ
الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ
مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ أَبِي سَعِيدٍ
الْبَصْرِيِّ وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلٍ «4» قَالَ
حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِصَّانَ
«5» عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا قَعَدَ يَتِيمٌ مَعَ
قَوْمٍ عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَبَ قَصْعَتَهُمُ
الشَّيْطَانُ). وَخُرِّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ
قَيْسٍ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّحَبِيُّ «6» عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا من بين
ملمين إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا
أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا يُغْفَرُ وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ
كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ-
قَالُوا: وَمَا كَرِيمَتَاهُ؟ قَالَ:- عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ
لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَأَنْفَقَ
عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ «7» أَوْ
يَمُتْنَ غُفِرَتْ له ذنوبه البتة
__________
(1). راجع ج 16 ص 245.
(2). راجع ج 5 ص 8.
(3). مالك: أحد رواة سند هذا الحديث.
(4). لأنه ربيب دينار.
(5). في تهذيب التهذيب:" بكسر أوله وتشديد المهملة آخره نون"
وهو ابن كاهم ويقال ابن كاهن، كان أبوه كاهنا في الجاهلية".
(6). الرحبي (بفتح الراء والحاء المهملين وباء موحدة): منسوب
إلى رحبة بن زرعة.
(7). يبن: يتزوجن.
(2/14)
إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا
يُغْفَرُ) فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ
هَاجَرَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَتَيْنِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَوِ اثْنَتَيْنِ). فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا حَدَّثَ
بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ غَرَائِبِ
الْحَدِيثِ وَغُرَرِهِ. السَّادِسَةُ- السَّبَّابَةُ مِنَ
الْأَصَابِعِ هِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَكَانَتْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ تُدْعَى بِالسَّبَّابَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَسُبُّونَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ
كَرِهُوا هَذَا الِاسْمَ فَسَمَّوْهَا الْمُشِيرَةَ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ فِي
التَّوْحِيدِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالسَّبَّاحَةِ، جَاءَ
تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ
وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ اللُّغَةَ سَارَتْ بِمَا كَانَتْ
تَعْرِفُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَلَبَتْ. وَرُوِيَ عَنْ
أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْمُشِيرَةَ مِنْهَا كَانَتْ أَطْوَلَ مِنَ الْوُسْطَى،
ثُمَّ الْوُسْطَى أَقْصَرُ مِنْهَا، ثُمَّ الْبِنْصَرُ
أَقْصَرُ مِنَ الْوُسْطَى. رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ
حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي سَارَةُ بِنْتُ مِقْسَمٍ أَنَّهَا
سَمِعَتْ مَيْمُونَةَ بِنْتَ كَرْدَمٍ قَالَتْ: خَرَجْتُ فِي
حَجَّةٍ حَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَسَأَلَهُ أَبِي عَنْ أَشْيَاءَ،
فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَتَعَجَّبُ وَأَنَا جَارِيَةٌ مِنْ
طُولِ أُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ عَلَى سَائِرِ
أَصَابِعِهِ. فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَنَا وَهُوَ
كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ)، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ: (أُحْشَرُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ هَكَذَا) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ،
فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى
الْخَلْقِ فَقَالَ: نُحْشَرُ هَكَذَا وَنَحْنُ مُشْرِفُونَ،
وَكَذَا كَافِلُ الْيَتِيمِ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ رَفِيعَةً.
فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَأْنَ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَمَلَ تَأْوِيلَ
الْحَدِيثِ عَلَى الِانْضِمَامِ وَالِاقْتِرَابِ بَعْضُهُمْ
مِنْ بَعْضٍ فِي مَحَلِّ الْقُرْبَةِ. وَهَذَا مَعْنًى
بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَنَازِلَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَرَاتِبُ
مُتَبَايِنَةٌ، وَمَنَازِلُ مُخْتَلِفَةٌ. السَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَالْمَساكِينِ"" الْمَسَاكِينِ" عَطْفٌ
أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى
الْمَسَاكِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ
وَأَذَلَّتْهُمْ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى
الصَّدَقَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ
الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ
كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ-
(2/15)
وَكَالْقَائِمِ لَا «1» يَفْتُرُ
وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ (. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَكَانَ طَاوُسٌ يَرَى السَّعْيَ عَلَى الْأَخَوَاتِ أَفْضَلَ
مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الثامنة- قوله تعالى:"
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً"" حُسْناً" نُصِبَ عَلَى
الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى لِيَحْسُنْ
قَوْلُكُمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
قَوْلًا ذَا حُسْنٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لَا عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" حَسَنًا" بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَالسِّينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمَا بِمَعْنًى
وَاحِدٍ، مِثْلُ الْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، وَالرُّشْدِ
وَالرَّشَدِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ:" حُسْنَى" بِغَيْرِ
تَنْوِينٍ عَلَى فُعْلَى. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَهَذَا لَا
يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لَا يُقَالُ مِنْ هذا شي إِلَّا
بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، نَحْوُ الْفُضْلَى وَالْكُبْرَى
وَالْحُسْنَى، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ
عُمَرَ" حُسُنًا" بِضَمَّتَيْنِ، مِثْلَ" الْحُلُمِ". قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى قُولُوا لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَمُرُوهُمْ بِهَا. ابْنُ جُرَيْجٍ: قُولُوا لِلنَّاسِ
صِدْقًا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وتغيروا نَعْتَهُ. سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:
مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
أَبُو الْعَالِيَةِ: قُولُوا لَهُمُ الطَّيِّبَ مِنَ
الْقَوْلِ، وَجَازُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَا تُحِبُّونَ أَنْ
تُجَازَوْا بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ حَضٌّ عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ، فينبغي للإنسان أن يكون قول لِلنَّاسِ لَيِّنًا
وَوَجْهُهُ مُنْبَسِطًا طَلْقًا مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ،
وَالسُّنِّيِّ وَالْمُبْتَدِعِ، مِنْ غَيْرِ مُدَاهَنَةٍ،
وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامٍ يَظُنُّ
أَنَّهُ يُرْضِي مَذْهَبَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
لِمُوسَى وَهَارُونَ:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «2» ".
فَالْقَائِلُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ،
وَالْفَاجِرُ لَيْسَ بِأَخْبَثَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ
أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِاللِّينِ مَعَهُ. وَقَالَ
طَلْحَةُ بْنُ عُمَرَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ إِنَّكَ رَجُلٌ
يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ نَاسٌ ذَوُو أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ،
وَأَنَا رَجُلٌ فِيَّ حِدَّةٌ فَأَقُولُ لَهُمْ بَعْضَ
الْقَوْلِ الْغَلِيظِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ! يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً". فَدَخَلَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْحَنِيفِيِّ
«3». وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: (لَا تَكُونِي
فَحَّاشَةً فَإِنَّ الْفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ
رَجُلَ سُوءٍ). وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ:" أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «4» "
فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسنا. وحكى
__________
(1). كذا في صحيح مسلم. والذي في نسخ الأصل:" لا يفتر من صلاة
... إلخ". [ ..... ]
(2). راجع ج 11 ص 199.
(3). في بعض نسخ الأصل:" فكيف في غيرهما".
(4). راجع ج 5 ص 251.
(2/16)
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ
قَوْلَهُ:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" مَنْسُوخٌ بِآيَةِ
السَّيْفِ. وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ «1» عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ
السَّيْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خُوطِبَتْ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ
فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَمَا أُمِرُوا بِهِ فَلَا نَسْخَ فِيهِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" تَقَدَّمَ «2»
الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزَكَاتُهُمْ هِيَ الَّتِي كَانُوا
يَضَعُونَهَا فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَى مَا يُتَقَبَّلُ،
وَلَا تَنْزِلُ عَلَى مَا لَمْ يُتَقَبَّلْ، وَلَمْ تَكُنْ
كَزَكَاةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، كَمَا
ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الزَّكَاةُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا
طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ" الْخِطَابُ لِمُعَاصِرِي
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْنَدَ
إِلَيْهِمْ تَوَلِّي أَسْلَافِهِمْ إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ
بِتِلْكَ السَّبِيلِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ
مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ:" شِنْشِنَةٌ «3» أعرفها من أخزم"."
إِلَّا قَلِيلًا" كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَأَصْحَابِهِ. و" قَلِيلًا" نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ،
وَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنْصُوبٌ، لأنه مشبه
بالمفعول. وقال محمد ابن يَزِيدَ: هُوَ مَفْعُولٌ عَلَى
الْحَقِيقَةِ، الْمَعْنَى اسْتَثْنَيْتُ قَلِيلًا." وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْإِعْرَاضُ
وَالتَّوَلِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مُخَالَفٌ بَيْنَهُمَا فِي
اللَّفْظِ. وَقِيلَ: التولي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ
بِالْقَلْبِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ:" وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ"
حَالٌ، لِأَنَّ التَّوَلِّيَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى
الْإِعْرَاضِ.
__________
(1). في بعض نسخ الأصل:" عبد الرحمن".
(2). يراجع ج 1 ص 164، 343 طبعه ثانية.
(3). الشنشنة (بالكسر): الطبيعة والخليقة والسجية. قال
الأصمعي: وهذا بيت رجز تمثل به لابن أخزم الطائي، وهو:
إن بنى زملوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق آساد الرجال يكلم
قال ابن برى: كان أخزم عاقا لأبيه فمات وترك بنين وعقوا جدهم
وضربوه وأموه، فقال ذلك. (عن اللسان).
(2/17)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84)
[سورة البقرة (2): آية 84]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «1»." لَا
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ" الْمُرَادُ بَنُو إِسْرَائِيلَ،
وَدَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى مَنْ بَعْدَهُمْ." لَا
تَسْفِكُونَ" مِثْلُ" لَا تَعْبُدُونَ" «2» فِي الْإِعْرَابِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي
حَمْزَةَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَبُو نَهِيكٍ"
تُسَفِّكُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وفتح
السين. والسفك: الصب. وقد تقدم «3»." وَلا تُخْرِجُونَ"
مَعْطُوفٌ." أَنْفُسَكُمْ" النَّفْسُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ
النَّفَاسَةِ، فَنَفْسُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ.
وَالدَّارُ: الْمَنْزِلُ الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَةُ الْمَقَامِ
بِخِلَافِ مَنْزِلِ الِارْتِحَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ
مَوْضِعٍ حَلَّهُ قَوْمٌ فَهُوَ دَارٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ فِيهِ أَبْنِيَةٌ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دَارًا
لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانِهَا، كَمَا سُمِّيَ الْحَائِطُ
حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يحويه. و" أَقْرَرْتُمْ"
مِنَ الْإِقْرَارِ، أَيْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ
عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَوَائِلِكُمْ." وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"
مِنَ الشَّهَادَةِ، أَيْ شُهَدَاءُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى هَذَا
وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، أَيْ تَحْضُرُونَ
سَفْكَ دِمَائِكُمْ، وَإِخْرَاجَ أَنْفُسِكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ. الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَسْفِكُ
أَحَدٌ دَمَهُ وَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ دَارِهِ؟ قِيلَ لَهُ
لَمَّا كَانَتْ مِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً وَأَمْرُهُمْ واحد
وَكَانُوا فِي الْأُمَمِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ جُعِلَ قَتْلُ
بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا قَتْلًا
لِأَنْفُسِهِمْ وَنَفْيًا لَهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
الْقِصَاصُ، أَيْ لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ فَيُقْتَلَ قِصَاصًا،
فَكَأَنَّهُ سَفَكَ دَمَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَزْنِي وَلَا
يَرْتَدَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ الدَّمَ. وَلَا يُفْسِدْ
فَيُنْفَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ دِيَارِهِ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ
الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
وَلَا يَنْفِيَهُ وَلَا يَسْتَرِقَّهُ، وَلَا يَدَعَهُ
يَسْرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.
__________
(1). راجع ج 1 ص 436.
(2). راجع ص 13 من هذا الجزء
(3). راجع ج 1 ص 275 طبعه ثانية.
(2/18)
ثُمَّ أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قلت: وهذا كله محترم عَلَيْنَا، وَقَدْ
وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْفِتَنِ فِينَا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَفِي التَّنْزِيلِ:" أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ «1»
" وَسَيَأْتِي. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ
يَجُوزُ أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسانية نفسه، ولا يخرج
من داره سفها، كم تَقْتُلُ الْهِنْدُ أَنْفُسَهَا. أَوْ
يَقْتُلُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ جَهْدٍ وَبَلَاءٍ
يُصِيبُهُ، أَوْ يَهِيمُ فِي الصَّحْرَاءِ وَلَا يَأْوِي
الْبُيُوتَ جَهْلًا فِي دِيَانَتِهِ وَسَفَهًا فِي حِلْمِهِ:
فَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَايَعَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَزَمُوا
أَنْ يَلْبَسُوا الْمُسُوحَ، وَأَنْ يَهِيمُوا فِي
الصَّحْرَاءِ وَلَا يَأْوُوا الْبُيُوتَ: وَلَا يَأْكُلُوا
اللَّحْمَ وَلَا يَغْشَوُا النِّسَاءَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى
دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ: (مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَانَ)؟
وَكَرِهَتْ أَنْ تُفْشِيَ سِرَّ زَوْجِهَا، وَأَنْ تَكْذِبَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَكَ شي فَهُوَ
كَمَا بَلَغَكَ، فَقَالَ: (قُولِي لِعُثْمَانَ أَخِلَافٌ
لِسُنَّتِي أَمْ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِي إِنِّي أُصَلِّي
وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَغْشَى النِّسَاءَ وَآوِي
الْبُيُوتَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي) فَرَجَعَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ عَمَّا
كَانُوا عَلَيْهِ.
[سورة البقرة (2): الآيات 85 الى 86]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى
أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ"" أَنْتُمْ" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يُعْرَبُ، لِأَنَّهُ
مُضْمَرٌ. وَضُمَّتِ التَّاءُ مِنْ" أَنْتُمْ" لِأَنَّهَا
كَانَتْ مَفْتُوحَةً إِذَا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة
__________
(1). راجع ج 7 ص 9.
(2/19)
إِذَا خَاطَبْتَ وَاحِدَةً مُؤَنَّثَةً،
فَلَمَّا ثُنِّيَتْ أَوْ جُمِعَتْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
الضَّمَّةُ." هؤُلاءِ" قَالَ الْقُتَبِيُّ: التَّقْدِيرُ يَا
هَؤُلَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا خَطَأٌ عَلَى قَوْلِ
سِيبَوَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء
بمعنى الذين. و" تَقْتُلُونَ" دَاخِلٌ فِي الصِّلَةِ، أَيْ
ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تقتلون. وقيل:" هؤُلاءِ" رفع
بالابتداء، و" أَنْتُمْ" خبر مقدم، و" تَقْتُلُونَ" حَالٌ مِنْ
أُولَاءِ. وَقِيلَ:" هؤُلاءِ" نُصِبَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" تُقَتِّلُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ
مُشَدَّدًا، وَكَذَلِكَ" فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ
اللَّهِ". وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُوَاجَهِينَ لَا
يَحْتَمِلُ رَدَّهُ إِلَى الْأَسْلَافِ. نَزَلَتْ فِي بَنِي
قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ،
وَكَانَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَعْدَاءَ قُرَيْظَةَ، وَكَانَتِ
الْأَوْسُ حُلَفَاءَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالْخَزْرَجُ
حُلَفَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَالنَّضِيرُ وَالْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ إِخْوَانٌ، وَقُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَيْضًا
إِخْوَانٌ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، ثُمَّ
يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ
فَقَالَ:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ". قوله
تعالى:" تَظاهَرُونَ" مَعْنَى" تَظاهَرُونَ" تَتَعَاوَنُونَ،
مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَوِّي
بَعْضًا فَيَكُونُ لَهُ كَالظَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
تَظَاهَرْتُمْ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ «1» ... عَلَى
وَاحِدٍ لَا زِلْتُمْ قِرْنَ وَاحِدِ
وَالْإِثْمُ: الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ
صَاحِبُهُ الذَّمَّ. وَالْعُدْوَانُ: الْإِفْرَاطُ فِي
الظُّلْمِ وَالتَّجَاوُزُ فِيهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلُ مَكَّةَ" تَظَّاهَرُونَ" بِالتَّشْدِيدِ، يُدْغِمُونَ
التَّاءَ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَالْأَصْلُ
تَتَظَاهَرُونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" تَظاهَرُونَ"
مُخَفَّفًا، حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ لِدَلَالَةِ
الْأُولَى عَلَيْهَا، وَكَذَا" وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ «2»
". وَقَرَأَ قَتَادَةُ" تَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ" وَكُلُّهُ
رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى التَّعَاوُنِ، وَمِنْهُ:" وَكانَ
الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً «3» " وَقَوْلُهُ:"
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ" فَاعْلَمْهُ «4».
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ" فِيهِ سِتُّ
مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى " شرط، وجوابه:" تُفادُوهُمْ" و" أُسارى " نُصِبَ عَلَى
الْحَالِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو
يَقُولُ: مَا صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ فهم
__________
(1). كذا في بعض نسخ الأصل. وفى البعض الأخر:" ... أستاه قوم
... إلخ". وقد وردت رواية البيت في تفسير الشوكاني هكذا:
تظاهرتم من كل أوب ووجهة
... إلخ
(2). راجع ج 18 ص 189.
(3). راجع ج 13 ص 61.
(4). راجع ج 18 ص 191 [ ..... ]
(2/20)
الْأُسَارَى، وَمَا جَاءَ مُسْتَأْسَرًا
فَهُمُ الْأَسْرَى. وَلَا يَعْرِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ مَا قَالَ
أَبُو عَمْرٍو، إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقُولُ: سُكَارَى
وَسَكْرَى. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" أُسارى " مَا عَدَا
حَمْزَةَ فَإِنَّهُ قَرَأَ" أَسْرَى" عَلَى فَعْلَى، جَمْعُ
أَسِيرٍ بِمَعْنَى مَأْسُورٍ، وَالْبَابُ- فِي تَكْسِيرِهِ
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ- فَعْلَى، كَمَا تَقُولُ: قَتِيلٌ
وَقَتْلَى، وَجَرِيحٌ وَجَرْحَى. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا
يَجُوزُ أَسَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَسَارَى
كَمَا يُقَالُ سَكَارَى، وَفُعَالَى هُوَ الْأَصْلُ،
وَفَعَالَى دَاخِلَةٌ عَلَيْهَا. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
يَزِيدَ قَالَ: يُقَالُ أَسِيرٌ وَأُسَرَاءُ، كَظَرِيفٍ
وَظُرَفَاءَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ فِي جَمْعِ أسير
أسرى وأسارى، وقرى بِهِمَا. وَقِيلَ: أَسَارَى (بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ) وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ. الثَّانِيَةُ-
الْأَسِيرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقِدُّ
الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ فَسُمِّيَ أَسِيرًا،
لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَثَاقُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ
أَسَرَ قَتَبَهُ «1»، أَيْ شَدَّهُ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ
أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُؤْسَرْ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ فِي بَيْتِهِ ... كَمَا قَيَّدَ
الْآسِرَاتُ الْحِمَارَا «2»
أَيْ أنا في بيته، يريد ذلك بُلُوغَهُ النِّهَايَةَ فِيهِ.
فَأَمَّا الْأَسْرُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ «3» " فَهُوَ الْخَلْقُ. وَأُسْرَةُ الرجل رهطه،
لأنه يتقوى بهم. الثالثة- قوله تعالى:" تُفادُوهُمْ" كَذَا
قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَالْبَاقُونَ"
تَفْدُوهُمْ" مِنَ الْفِدَاءِ. وَالْفِدَاءُ: طَلَبُ
الْفِدْيَةِ فِي الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ:" الْفِدَاءُ إِذَا كُسِرَ أَوَّلُهُ يُمَدُّ
وَيُقْصَرُ، وَإِذَا فُتِحَ فَهُوَ مَقْصُورٌ، يُقَالُ: قُمْ
فَدًى لَكَ أَبِي. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ" فِدَاءً"
بِالتَّنْوِينِ إِذَا جَاوَرَ لَامَ الْجَرِّ خَاصَّةً،
فَيَقُولُ: فِدَاءً لَكَ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ يُرِيدُونَ بِهِ
مَعْنَى الدُّعَاءِ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِلنَّابِغَةِ:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ... وَمَا
أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
وَيُقَالُ: فَدَاهُ وَفَادَاهُ إِذَا أَعْطَى فِدَاءَهُ
فَأَنْقَذَهُ. وَفَدَاهُ بِنَفْسِهِ، وَفَدَاهُ يَفْدِيهِ
إِذَا قَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَتَفَادَوْا، أَيْ فَدَى
بَعْضُهُمْ بَعْضًا". وَالْفِدْيَةُ وَالْفِدَى والفداء كله
بمعنى واحد.
__________
(1). القتب (بكسر فسكون وبالتحريك أيضا): رحل صغير على قدر
سنام البعير.
(2). الحمار: من معانيه أنه خشبة في مقدم الرحل تقبض؟ المرأة.
وقيل: العود الذي يحمل عليه الأقتاب. والاسرات: النساء اللواتي
يؤكدون الرحال بالقد ويوثقنها.
(3). راجع ج 19 ص 149
(2/21)
وَفَادَيْتُ نَفْسِي إِذَا أَطْلَقْتَهَا
بَعْدَ أَنْ دَفَعْتَ شَيْئًا، بِمَعْنَى فَدَيْتُ، وَمِنْهُ
قَوْلُ الْعَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. وَهُمَا
فِعْلَانِ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي
مِنْهُمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، تَقُولُ: فَدَيْتُ نَفْسِي
بِمَالِي وَفَادَيْتُهُ بِمَالِي، قَالَ الشَّاعِرُ:
قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا
أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ"" هُوَ" مبتدأ وهو كناية عن الإخراج،
و" مُحَرَّمٌ" خبره، و" إِخْراجُهُمْ" بَدَلٌ مِنْ" هُوَ"
وَإِنْ شِئْتَ كَانَ كِنَايَةً عَنِ الْحَدِيثِ وَالْقِصَّةِ،
وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ خَبَرُهُ، أي والامر محرم
عليكم إخراجهم. ف" إِخْراجُهُمْ" مبتدأ ثان. و" مُحَرَّمٌ"
خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ" هُوَ"، وَفِي"
مُحَرَّمٌ" ضَمِيرُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَعُودُ عَلَى
الإخراج. ويجوز أن يكون" مُحَرَّمٌ" مبتدأ، و" إِخْراجُهُمْ"
مَفْعُولَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَسُدُّ مَسَدَّ خَبَرِ"
مُحَرَّمٌ"، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ" هُوَ". وَزَعَمَ
الْفَرَّاءُ أَنَّ" هُوَ" عِمَادٌ، وَهَذَا عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ لَا مَعْنًى لَهُ، لِأَنَّ الْعِمَادَ
لَا يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ. وَيُقْرَأُ" وَهْوَ"
بِسُكُونِ الْهَاءِ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ «1»:
فَهْوَ لا تنمى «2» رميته ... ما له لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ
وَكَذَلِكَ
إِنْ جِئْتَ بِاللَّامِ وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعَةَ عُهُودٍ: تَرْكُ الْقَتْلِ، وَتَرْكُ الْإِخْرَاجِ،
وَتَرْكُ الْمُظَاهَرَةِ، وَفِدَاءُ أُسَارَاهُمْ،
فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا الْفِدَاءَ،
فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا يُتْلَى
فَقَالَ:" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ" وَهُوَ
التَّوْرَاةُ" وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ"!! قُلْتُ: وَلَعَمْرُ
اللَّهِ لَقَدْ أَعْرَضْنَا نَحْنُ عَنِ الْجَمِيعِ
بِالْفِتَنِ فَتَظَاهَرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ! لَيْتَ
بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ بِالْكَافِرِينَ! حَتَّى تَرَكْنَا
إِخْوَانَنَا أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ
الْمُشْرِكِينَ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِدَاءُ
الْأُسَارَى وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ وُجُوبَ
فَكِّ الْأَسْرَى، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْآثَارُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1). هو امرؤ القيس، كما في اللسان وشرح الديوان.
(2). أنميت الصيد فنمى يمنى، وذلك أن ترميه فتصيبه ويذهب عنك
فيموت بعد ما يغيب.
(3). يراجع ج 1 ص 261 طبعه ثانية.
(2/22)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
فَكَّ الْأُسَارَى وَأَمَرَ بِفَكِّهِمْ،
وَجَرَى بِذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَانْعَقَدَ بِهِ
الْإِجْمَاعُ. وَيَجِبُ فَكُّ الْأُسَارَى مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُمْ أَسْقَطَ
الْفَرْضَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَسَيَأْتِي «1». الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ
إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
وَالْخِزْيُ الْهَوَانُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَخَزِيَ-
بِالْكَسْرِ- يَخْزَى خِزْيًا إِذَا ذَلَّ وَهَانَ. قَالَ
ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. وَأَخْزَاهُ
اللَّهُ، وَخَزِيَ أَيْضًا يَخْزَى خِزَايَةً إِذَا
اسْتَحْيَا، فَهُوَ خَزْيَانُ. وَقَوْمٌ خَزَايَا وَامْرَأَةٌ
خَزْيَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ"" يُرَدُّونَ" بِالْيَاءِ قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُرَدُّونَ" بِالتَّاءِ
عَلَى الْخِطَابِ." إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «2»
وَكَذَلِكَ:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا" الآية «3»، فلا
معنى للإعادة." يَوْمَ" منصوب ب" يُرَدُّونَ".
[سورة البقرة (2): آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ
بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ
بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ"
يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَقَفَّيْنا" أَيْ أَتْبَعْنَا.
وَالتَّقْفِيَةُ: الْإِتْبَاعُ وَالْإِرْدَافُ، مَأْخُوذٌ مِنْ
إِتْبَاعِ الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ. تَقُولُ
اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جِئْتَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْهُ
سُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ، لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِرَ
الْكَلَامِ. وَالْقَافِيَةُ: الْقَفَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:
(يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ).
وَالْقَفِيُّ وَالْقَفَاوَةُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ اللَّبَنِ
وَغَيْرِهِ لِمَنْ تُرِيدُ إِكْرَامَهُ. وَقَفَوْتُ الرَّجُلَ:
قَذَفْتَهُ بِفُجُورٍ. وَفُلَانٌ قِفْوَتِي أَيْ تُهَمَتِي.
وَقِفْوَتِي أَيْ خِيرَتِي. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ كَأَنَّهُ
مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ
مِثْلَ قوله تعالى:" ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «4» ".
وَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى فَإِنَّمَا جَاءَ بإثبات
التوراة والامر
__________
(1). راجع ج 8 ص 52.
(2). راجع ج 1 ص 466.
(3). راجع ج 1 ص 210 طبعه ثانية.
(4). راجع ج 12 ص 125.
(2/23)
بِلُزُومِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَيُقَالُ: رُسُلٌ وَرُسْلٌ لُغَتَانِ، الْأُولَى
لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَسَوَاءٌ
كَانَ مُضَافًا أَوْ غَيْرَ مُضَافٍ. وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو
يُخَفِّفُ إِذَا أَضَافَ إِلَى حَرْفَيْنِ، وَيُثَقِّلُ إِذَا
أَضَافَ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ" أَيِ الْحُجَجَ
وَالدَّلَالَاتِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي" آلِ
عِمْرَانَ" وَ" الْمَائِدَةَ" «1»، قَالَهُ ابْنُ عباس."
أَيَّدْناهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ" آيَدْنَاهُ" بِالْمَدِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ."
بِرُوحِ الْقُدُسِ" رَوَى أَبُو مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَا: جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدُسِ
لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ رُوحًا وَأُضِيفَ
إِلَى الْقُدُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ لَهُ رُوحًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ،
وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِيسَى رُوحًا لِهَذَا. وَرَوَى غَالِبُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقُدُسُ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ: الْقُدُسُ
هُوَ اللَّهُ، وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ. وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ
الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" بِرُوحِ الْقُدُسِ" قَالَ:
هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عِيسَى الْمَوْتَى،
وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ،
وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
الْإِنْجِيلُ، سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى اللَّهُ
الْقُرْآنَ رُوحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» ". وَالْأَوَّلُ
أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْقُدُسُ:
الطَّهَارَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ"
أَيْ بِمَا لَا يُوَافِقُهَا وَيُلَائِمُهَا، وَحُذِفَتِ
الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ بِمَا لَا تَهْوَاهُ."
اسْتَكْبَرْتُمْ" عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرُّسُلِ،
وَاسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ. وَأَصْلُ الْهَوَى الْمَيْلُ
إلى الشيء، وبجمع أَهْوَاءً، كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ،
وَلَا يُجْمَعُ أَهْوِيَةً، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِي
نَدًى أَنْدِيَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لَا يُبْصِرُ
الْكَلْبُ فِي ظَلْمَائِهَا الطنبا «4»
__________
(1). راجع ج 4 ص 93، ج 6 ص 362.
(2). راجع ج 16 ص 54.
(3). راجع ج 1 ص 277 طبعه ثانية.
(4). الطنب (بضم الطاء وسكون النون وضمها): حبل الخباء
والسرادق وغيرهما. [ ..... ]
(2/24)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا
يُؤْمِنُونَ (88)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ شَاذٌّ
وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إِلَى
النَّارِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا
فِيمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَفِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِّ،
وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أُسَارَى
بَدْرٍ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: وَاللَّهِ مَا أَرَى
رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. أَخْرَجَهُمَا
مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ""
فَفَرِيقاً" مَنْصُوبٌ بِ" كَذَّبْتُمْ"، وَكَذَا" وَفَرِيقاً
تَقْتُلُونَ" فَكَانَ مِمَّنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ يَحْيَى
وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ في" سبحان «1» " إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ" قُلُوبُنا
غُلْفٌ" بِسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ أَغْلَفَ، أي عليها أغطية.
وهو مثل قول:" قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا
إِلَيْهِ «2» " أَيْ فِي أَوْعِيَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ:"
غُلْفٌ" عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا
طَابَعٌ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ غَلَّفْتُ السَّيْفَ
جَعَلْتَ لَهُ غِلَافًا، فَقُلِبَ أَغْلَفَ، أَيْ مَسْتُورٌ
عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" غُلُفٌ" بِضَمِّ اللَّامِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قُلُوبُنَا مُمْتَلِئَةٌ عِلْمًا
لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ غِلَافٍ.
مِثْلَ خِمَارٍ وَخُمُرٍ، أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ
لِلْعِلْمِ فَمَا بَالُهَا لَا تَفْهَمُ عَنْكَ وَقَدْ
وَعَيْنَا عِلْمًا كَثِيرًا! وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَكَيْفَ
يَعْزُبُ عَنْهَا عِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:"
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا
يُؤْمِنُونَ" ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُفُورِهِمْ
عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ، وَهَذَا هُوَ
الْجَزَاءُ عَلَى الذَّنْبِ بِأَعْظَمَ مِنْهُ. وَأَصْلُ
اللَّعْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ.
وَيُقَالُ لِلذِّئْبِ: لَعِينٌ. وَلِلرَّجُلِ الطَّرِيدِ:
لَعِينٌ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مقام الذئب
كالرجل اللعين
__________
(1). راجع ج 10 ص 218.
(2). راجع ج 15 ص 339.
(2/25)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
وَوَجْهُ الْكَلَامِ: مَقَامُ الذِّئْبِ
اللَّعِينِ كَالرَّجُلِ، فَالْمَعْنَى أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ
مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ.
وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَهَذَا عَامٌّ." فَقَلِيلًا"
نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَإِيمَانًا
قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: الْمَعْنَى لَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ
وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ، ويكون" فَقَلِيلًا" منصوب بنزع
حرف الصفة. و" ما" صِلَةٌ، أَيْ فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا
وَلَا كَثِيرًا، كَمَا تَقُولُ: مَا أَقَلَّ مَا يَفْعَلُ
كَذَا، أَيْ لَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلَّ
مَا تُنْبِتُ الْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ، أَيْ لا تنبت شيئا.
[سورة البقرة (2): آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ" يَعْنِي الْيَهُودَ."
كِتابٌ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ"
نَعْتٌ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ نَصْبُهُ
عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ
بِالنَّصْبِ فِيمَا رُوِيَ." لِما مَعَهُمْ" يَعْنِي
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا فيهما."
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ" أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ.
وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ. اسْتَفْتَحْتُ:
اسْتَنْصَرْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ
الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِدُعَائِهِمْ
وَصَلَاتِهِمْ «1». وَمِنْهُ" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «2» ". والنصر: فتح شي
مُغْلَقٍ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَتَحْتُ
الْبَابَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ «3» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (إنما نَصَرَ «4» اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ
بِضُعَفَائِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ
وَإِخْلَاصِهِمْ). وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
(1). الذي في نهاية ابن الأثير واللسان مادة فتح:" أي يستنصر
بهم".
(2). راجع ج 6 ص 217.
(3). يلاحظ أن راوي هذا الحديث هو سعد بن أبى وقاص، ففي سنن
النسائي (ج 1 ص 65 طبع المطبعة الميمنية) باب الاستبصار
بالضعيف: أخبرنا محمد بن إدريس ... عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه
ظن ... " إلخ.
(4). الذي في سنن النسائي:" إنما ينصر الله هذه الامة
بضعيفها".
(2/26)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
(أَبْغُونِي الضَّعِيفَ فَإِنَّكُمْ
إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ". قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ غَطَفَانَ
فَلَمَّا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ، فَعَادَتْ «1» يَهُودُ
بِهَذَا الدُّعَاءِ وَقَالُوا: إِنَّا نَسْأَلُكَ بِحَقِّ
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُخْرِجَهُ
لَنَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا تَنْصُرُنَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ: فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ
فَهَزَمُوا غَطَفَانَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا" أَيْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، إِلَى
قَوْلِهِ:" فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ". قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ" جَوَابُ" لَمَّا" الْفَاءُ
وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ:" فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا" في قول الفراء، وجواب" فَلَمَّا" الثَّانِيَةِ"
كَفَرُوا". وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: جَوَابُ" لَمَّا"
مَحْذُوفٌ لِعِلْمِ السَّامِعِ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جواب" فَلَمَّا" في قوله:" كَفَرُوا"،
وأعيدت" فَلَمَّا" الثَّانِيَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ. وَيُفِيدُ
ذَلِكَ تَقْرِيرَ الذَّنْبِ وتأكيدا له.
[سورة البقرة (2): آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا" بِئْسَ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ مُسْتَوْفِيَةٌ لِلذَّمِّ، كَمَا أَنَّ" نِعْمَ"
مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْمَدْحِ. وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا
أَرْبَعُ لُغَاتٍ: بِئْسَ بَئْسَ بَئِسَ بِئِسَ. نِعْمَ نَعْمَ
نَعِمَ نِعِمَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ" مَا" فَاعِلَةُ
بِئْسَ، وَلَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ
وَالنَّكِرَاتِ. وَكَذَا نِعْمَ، فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ
زَيْدٌ، وَنِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا اسْمٌ
بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فَهُوَ نَصْبٌ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ
فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ فَهُوَ رَفْعٌ أَبَدًا، وَنَصْبُ رَجُلٍ
عَلَى التَّمْيِيزِ. وَفِي نِعْمَ مُضْمَرٌ عَلَى شَرِيطَةِ
التَّفْسِيرِ، وَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى
خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَنِ
الْمَمْدُوحِ؟ قُلْتَ هُوَ زَيْدٌ، وَالْآخَرُ عَلَى
الِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ. وَأَجَازَ أَبُو
عَلِيٍّ أَنْ تَلِيَهَا" مَا" مَوْصُولَةً وَغَيْرَ
مَوْصُولَةٍ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُبْهَمَةً تقع على الكثرة
ولا تخص واحدا
__________
(1). في ب:" فعاذت" بالذال المعجمة.
(2/27)
بِعَيْنِهِ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ
سِيبَوَيْهِ: بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا. فَ" أَنْ يَكْفُرُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيمَا قَبْلَهُ، كَقَوْلِكَ:
بِئْسَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ
مَوْصُولَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
عَلَى التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِكَ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ،
فَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ شَيْئًا أَنْ يَكْفُرُوا. فَ"
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِفَةُ"
ما". وقال الفراء:" بِئْسَمَا" بجملته شي وَاحِدٌ رُكِّبَ
كَحَبَّذَا. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ اعْتِرَاضٌ، لِأَنَّهُ
يَبْقَى فِعْلٌ بِلَا فَاعِلٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" ما" و"
اشْتَرَوْا" بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ،
وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا.
وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَإِنَّ نِعْمَ وَبِئْسَ لَا يَدْخُلَانِ
عَلَى اسْمٍ مُعَيَّنٍ مُعَرَّفٍ، وَالشِّرَاءُ قَدْ تَعَرَّفَ
بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَأَبْيَنُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الْأَخْفَشِ
وَسِيبَوَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ:" أَنْ
يَكْفُرُوا" إِنْ شِئْتَ كَانَتْ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
رَدًّا عَلَى الْهَاءِ فِي بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيِ
اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ. فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ،
وَالْمَعْنَى: بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي اخْتَارُوا
لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَبْدَلُوا الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ،
وَالْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَغْياً"
مَعْنَاهُ حَسَدًا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ
مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَصْدَرٌ.
الْأَصْمَعِيُّ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ بَغَى
الْجُرْحُ إِذَا فَسَدَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ،
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الزَّانِيَةُ بَغِيًّا." أَنْ يُنَزِّلَ
اللَّهُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ لِأَنْ يُنَزِّلَ، أَيْ
لِأَجْلِ إِنْزَالِ اللَّهِ الْفَضْلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" أَنْ يُنْزِلَ"
مُخَفَّفًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا"
وَما نُنَزِّلُهُ" فِي" الْحِجْرِ «1» "، وَفِي"
الْأَنْعَامِ"" عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً «2» ". قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَباؤُ" أَيْ رَجَعُوا، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي
الشَّرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3»." بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ"
تَقَدَّمَ مَعْنَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ «4»، وَهُوَ
عِقَابُهُ، فَقِيلَ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ لِعِبَادَتِهِمُ
الْعِجْلَ، وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا
بِمُحَمَّدٍ، يَعْنِي الْيَهُودَ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ: الْأَوَّلُ لكفرهم
__________
(1). راجع ج 10 ص 14.
(2). راجع ج 6 ص 418.
(3). راجع ج 1 ص 430.
(4). راجع ج 1 ص 149 طبعه ثانية.
(2/28)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(91)
بِالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ
بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ التأييد وَشِدَّةُ
الْحَالِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ غَضَبَيْنِ معللين
بمعصيتين. و" مُهِينٌ" مَأْخُوذٌ مِنَ الْهَوَانِ، وَهُوَ مَا
اقْتَضَى الْخُلُودَ فِي النَّارِ دَائِمًا بِخِلَافِ خُلُودِ
الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْحِيصٌ
لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ، كَرَجْمِ الزَّانِي وَقَطْعِ يَدِ
السَّارِقِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ"
النِّسَاءِ «1» " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سعيد الخدري، إن شاء الله
تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ
وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا" أَيْ
صَدِّقُوا" بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" يَعْنِي الْقُرْآنَ" قالُوا
نُؤْمِنُ" أَيْ نُصَدِّقُ" بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا" يَعْنِي
التَّوْرَاةَ." وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" أَيْ بِمَا
سِوَاهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَتَادَةَ: بِمَا بَعْدَهُ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَرَاءَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَقَدْ تَكُونُ
بِمَعْنَى قُدَّامَ. وَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «2» " أي أمامهم،
وتصغيرها ورئية (بِالْهَاءِ) وَهِيَ شَاذَّةٌ. وَانْتَصَبَ"
وَراءَهُ" عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ
لَقِيتُهُ مِنْ وَرَاءُ، فَتَرْفَعُهُ عَلَى الْغَايَةِ إِذَا
كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ تَجْعَلُهُ اسْمًا وَهُوَ غَيْرُ
مُتَمَكِّنٍ، كَقَوْلِكَ: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ،
وَأَنْشَدَ:
إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ ...
لِقَاؤُكَ إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وراء «3»
فلت: وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ
وَرَاءَ «4»). وَالْوَرَاءُ: وَلَدُ الْوَلَدِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الْحَقُّ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ."
مُصَدِّقاً
" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ." لِما مَعَهُمْ" مَا
فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِاللَّامِ، وَ" مَعَهُمْ" صِلَتُهَا، وَ"
مَعَهُمْ" نُصِبَ بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
__________
(1). راجع ج 5 ص 87 - ويأتي أيضا في المائدة والنور، راجع ج 6
ص 159، ج 21 ص 159.
(2). راجع ج 11 ص 34.
(3). البيت لعي بن مالك العقيلي. (عن اللسان). [ ..... ]
(4). الذي في النهاية واللسان مادة (روى):" إنى كنت، إلخ،
وفيهما: هكذا يروى مبيتا على الفتح، أي من خلف حجاب".
(2/29)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ" رَدٌّ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَتَكْذِيبٌ مِنْهُ لَهُمْ
وَتَوْبِيخٌ، الْمَعْنَى: فَكَيْفَ قَتَلْتُمْ وَقَدْ
نُهِيتُمْ عَنْ ذَلِكَ! فَالْخِطَابُ لِمَنْ حَضَرَ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ
أَسْلَافُهُمْ. وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ
لِأَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ أُولَئِكَ
الَّذِينَ قَتَلُوا، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ «1» " فَإِذَا تَوَلَّوْهُمْ فَهُمْ
بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِعْلَهُمْ
فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَجَاءَ" تَقْتُلُونَ" بِلَفْظِ
الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لَمَّا ارْتَفَعَ
الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ:" مِنْ قَبْلُ". وَإِذَا لَمْ
يُشْكِلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْتِيَ الْمَاضِي بِمَعْنَى
الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ بِمَعْنَى الْمَاضِي،
قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ
الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شَهِدَ بِمَعْنَى يَشْهَدُ." إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ
إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَقِدِينَ الْإِيمَانَ فَلِمَ رَضِيتُمْ
بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ! وَقِيلَ:" إِنَّ" بِمَعْنَى مَا،
وَأَصْلُ" لِمَ" لِمَا، حُذِفَتِ الْأَلِفُ فَرْقًا بَيْنَ
الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بِلَا هَاءٍ كَانَ
لَحْنًا، وَإِنْ وقف عليه بالهاء زيد في السواد.
[سورة البقرة (2): آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ"
اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْبَيِّنَاتُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «2»
" وَهِيَ الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ،
وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ،
وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَاتُ التَّوْرَاةُ،
وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ" توبيخ، وثم أَبْلَغُ مِنَ الْوَاوِ
فِي التَّقْرِيعِ، أَيْ بَعْدَ النظر في الآيات، أو الإتيان
بِهَا اتَّخَذْتُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا
فعلوا ذلك بعد مهلة من
__________
(1). راجع ج 6 ص 254.
(2). راجع ج 10 ص 335.
(2/30)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
[سورة البقرة (2): آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا" تَقَدَّمَ «1» الْكَلَامُ فِي هَذَا وَمَعْنَى"
اسْمَعُوا" أَطِيعُوا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ
بِإِدْرَاكِ الْقَوْلِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ
اعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ وَالْتَزِمُوهُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَيْ قَبِلَ
وَأَجَابَ. قَالَ:
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلَّا ... يَكُونَ اللَّهُ
يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أَيْ يَقْبَلُ، وَقَالَ الرَّاجِزُ:
وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى
لِبَنِي تَمِيمِ
" قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا" اخْتُلِفَ هَلْ صَدَرَ مِنْهُمْ
هَذَا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فَعَلُوا فِعْلًا
قَامَ مَقَامَ الْقَوْلِ فَيَكُونُ مَجَازًا، كما قال: ز
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا
قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي
وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:" نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا". قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ" أَيْ حُبُّ الْعِجْلِ. وَالْمَعْنَى:
جُعِلَتْ قُلُوبُهُمْ تَشْرَبُهُ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَمَجَازٌ
عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ أَمْرِ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ
كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ
فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
يُقَالُ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ كَذَا، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حب داخل ... والحب تشربه فؤادك داء
__________
(1). راجع ج 1 ص 436 وما بعدها، طبعه ثانية.
(2/31)
قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ
بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ
يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى
بَاطِنِهَا، وَالطَّعَامُ مُجَاوِرٌ لَهَا غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ
فِيهَا. وَقَدْ زَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ
التَّابِعِينَ فَقَالَ فِي زَوْجَتِهِ عَثْمَةَ، وَكَانَ
عَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَطَلَّقَهَا وَكَانَ
مُحِبًّا لَهَا:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ
الْخَافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ
وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ
انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ بَرَدَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اشْرَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ،
فَشَرِبَ جَمِيعُهُمْ، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْعِجْلَ
خَرَجَتْ بُرَادَةُ الذَّهَبِ عَلَى شَفَتَيْهِ. وَرُوِيَ
أَنَّهُ مَا شَرِبَهُ أَحَدٌ إِلَّا جُنَّ، حَكَاهُ
الْقُشَيْرِيُّ. قُلْتُ: أَمَّا تَذْرِيَتُهُ فِي الْبَحْرِ
فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً «1» " وَأَمَّا شُرْبُ
الْمَاءِ وَظُهُورُ الْبُرَادَةِ عَلَى الشِّفَاهِ فَيَرُدُّهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ".
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ
بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ" أَيْ إِيمَانُكُمُ
الَّذِي زَعَمْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ
عَلَيْنا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمِرَ أَنْ
يُوَبِّخَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: بِئْسَ هَذِهِ
الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَعَلْتُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهَا
إِيمَانُكُمْ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي" بِئْسَما"
وَالْحَمْدُ «2» لِلَّهِ وحده.
[سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 95]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ دَعَاوَى بَاطِلَةً حَكَاهَا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُودَةً"، وَقَوْلُهُ:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى "
__________
(1). راجع ج 11 ص 243.
(2). راجع ص 27 من هذا الجزء.
(2/32)
، وَقَالُوا:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ «1» " أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ قُلْ لَهُمْ يَا
مُحَمَّدُ:" إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ" يَعْنِي
الْجَنَّةَ." فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"
فِي أَقْوَالِكُمْ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ
الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا، لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ
نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَيَزُولُ عَنْهُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا،
فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّي ذَلِكَ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ
لِقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكُفْرِهِمْ فِي
قَوْلِهِمْ:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"،
وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى
مُخْبِرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:" وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ. وَأَيْضًا
لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، كَمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا
وَرَأَوْا مَقَامَهُمْ «2» مِنَ النَّارِ). وَقِيلَ: إِنَّ
اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ إِظْهَارِ التَّمَنِّي، وَقَصَرَهُمْ
عَلَى الْإِمْسَاكِ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ فِي تَرْكِهِمُ التَّمَنِّي. وَحَكَى عِكْرِمَةُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ" أَنَّ
الْمُرَادَ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَكْذَبِ الْفَرِيقَيْنِ
مِنَّا وَمِنْكُمْ: فَمَا دَعَوْا لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّمَنِّي يَكُونُ بِاللِّسَانِ تَارَةً
وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى، فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ
يَتَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: نَطَقَ الْقُرْآنُ
بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ" وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً" وَلَوْ
تَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ لَأَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ
رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِبْطَالًا لِحُجَّتِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" خالِصَةً" نَصْبٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَإِنْ
شِئْتَ كَانَ حالًا، وَيَكُونُ" عِنْدَ اللَّهِ" فِي مَوْضِعِ
الْخَبَرِ." أَبَداً" ظَرْفُ زَمَانٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ، كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ، وَهُوَ هُنَا مِنْ
أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى الْمَوْتِ. و" ما" فِي قَوْلِهِ"
بِما" بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ،
وَالتَّقْدِيرُ قَدَّمَتْهُ، وَتَكُونُ مَصْدَرِيَّةً وَلَا
تَحْتَاجُ إِلَى عائد. و" أَيْدِيهِمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ،
حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا مَعَ
الْكَسْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
حَرَّكْتَهَا، لِأَنَّ النَّصْبَ خَفِيفٌ، وَيَجُوزُ
إِسْكَانُهَا فِي الشِّعْرِ." وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 120.
(2). في بعض نسخ الأصل:" مقاعدهم".
(2/33)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
[سورة البقرة (2): آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ
يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى
حَياةٍ" يَعْنِي الْيَهُودَ." وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا"
قِيلَ: الْمَعْنَى وَأَحْرَصُ، فَحُذِفَ" مِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا" لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَلَّا خَيْرَ
لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ
إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ مِنَ
الْآخِرَةِ، ألا ترى قول شاعرهم:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانِ ... مِنَ
النَّشَوَاتِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ «1»
وَالضَّمِيرُ فِي" أَحَدُهُمْ" يَعُودُ فِي هَذَا الْقَوْلِ
عَلَى الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ فِي"
حَياةٍ" ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْإِخْبَارُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ. قِيلَ: هُمُ الْمَجُوسُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي
أَدْعِيَاتِهِمْ لِلْعَاطِسِ بِلُغَاتِهِمْ بِمَا مَعْنَاهُ"
عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ". وَخَصَّ الْأَلْفَ بِالذِّكْرِ
لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعَقْدِ فِي الْحِسَابِ. وَذَهَبَ
الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ" الَّذِينَ أَشْرَكُوا" مُشْرِكُو
الْعَرَبِ، خُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْبَعْثِ، فَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ طُولَ الْعُمُرِ. وَأَصْلُ
سَنَةٍ سَنْهَةٌ. وَقِيلَ: سَنْوَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى وَلَتَجِدَنَّهُمْ
وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلَى حَيَاةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ" أَصْلُ" يَوَدُّ" يَوْدَدْ،
أُدْغِمَتْ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ
وَاحِدٍ مُتَحَرِّكَيْنِ، وَقُلِبَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ عَلَى
الْوَاوِ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ. وَحَكَى
الْكِسَائِيُّ: وَدِدْتُ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا يَوِدُّ
بِكَسْرِ الْوَاوِ. وَمَعْنَى يَوَدُّ: يَتَمَنَّى. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ
يُعَمَّرَ" اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هُوَ، فَقِيلَ: هُوَ
ضَمِيرُ الْأَحَدِ الْمُتَقَدِّمِ، التَّقْدِيرُ مَا
أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ فِي
الْمَجْرُورِ." أَنْ يُعَمَّرَ" فَاعِلٌ بِمُزَحْزِحٍ
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ التَّعْمِيرِ،
وَالتَّقْدِيرُ وَمَا التَّعْمِيرُ بِمُزَحْزِحِهِ،
وَالْخَبَرُ فِي الْمَجْرُورِ،" أَنْ يُعَمَّرَ" بَدَلٌ مِنَ
التَّعْمِيرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ
عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ:" هو" عماد.
__________
(1). البيت لامرى القيس. والنشوات (جمع نشوة): السكر.
(2/34)
قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ حَقَّ
الْعِمَادِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ،
مِثْلَ قَوْلِهِ:" إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ «1» "،
وَقَوْلُهُ:" وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ «2» "
وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقِيلَ:" مَا" عَامِلَةٌ حجازية، و" هُوَ"
اسْمُهَا، وَالْخَبَرُ فِي" بِمُزَحْزِحِهِ". وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ:" هُوَ" ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ. ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ
النُّحَاةِ أَنْ يُفَسَّرَ بِجُمْلَةٍ سَالِمَةٍ مِنْ حَرْفِ
جَرٍّ. وَقَوْلُهُ:" بِمُزَحْزِحِهِ" الزَّحْزَحَةُ:
الْإِبْعَادُ وَالتَّنْحِيَةُ، يُقَالُ: زَحْزَحْتُهُ أَيْ
بَاعَدْتُهُ فَتَزَحْزَحَ أَيْ تَنَحَّى وَتَبَاعَدَ، يَكُونُ
لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، قَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمُتَعَدِّي:
يَا قَابِضُ الرُّوحِ مِنْ نَفْسٍ إِذَا احْتُضِرَتْ ...
وَغَافِرُ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وَأَنْشَدَهُ ذُو الرُّمَّةِ:
يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا ... وَغَافِرَ
الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وَقَالَ آخَرُ فِي اللَّازِمِ:
خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لَا يَتَزَحْزَحُ ... وَمَا
بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لَا يَتَوَضَّحُ
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ زَحْزَحَ
اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا). قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ" أَيْ بِمَا
يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَنْ
يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ
فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ. قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ اللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَصَفَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ عَلَى
مَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ.
وَالْبَصِيرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ
الْخَبِيرُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ
بِالطِّبِّ، وَبَصِيرٌ بِالْفِقْهِ، وَبَصِيرٌ بِمُلَاقَاةِ
الرِّجَالِ، قَالَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ
بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَصِيرُ الْعَالِمُ، وَالْبَصِيرُ
الْمُبْصِرُ. وَقِيلَ: وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ
بَصِيرٌ عَلَى مَعْنَى جَاعِلِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْصِرَةِ
ذَوَاتِ إِبْصَارٍ، أَيْ مُدْرِكَةً لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا
خَلَقَ لَهَا مِنَ الْآلَةِ الْمُدْرِكَةِ وَالْقُوَّةِ،
فَاللَّهُ بَصِيرٌ بِعِبَادِهِ، أَيْ جَاعِلٌ عِبَادَهُ
مُبْصِرِينَ.
__________
(1). راجع ج 7 ص 398.
(2). راجع ج 16 ص 115.
(2/35)
قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
[سورة البقرة (2): آية 97]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا يَأْتِيهِ مَلَكٌ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالرِّسَالَةِ
وَبِالْوَحْيِ، فَمَنْ صَاحِبُكَ حَتَّى نُتَابِعَكَ؟ قَالَ:
(جِبْرِيلُ) قَالُوا: ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ
وَبِالْقِتَالِ، ذَاكَ عَدُوُّنَا! لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلُ
الَّذِي يَنْزِلُ بِالْقَطْرِ وَبِالرَّحْمَةِ تَابَعْنَاكَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:" لِلْكافِرِينَ"
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ" الضَّمِيرُ فِي" إِنَّهُ" يَحْتَمِلُ
مَعْنَيَيْنِ، الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ
عَلَى قَلْبِكَ. الثَّانِي: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ
بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَخُصَّ الْقَلْبُ بِالذِّكْرِ
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي
الْمَعَارِفِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شَرَفِ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَمِّ مُعَادِيهِ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى:" بِإِذْنِ اللَّهِ" أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ."
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ."
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ" تَقَدَّمَ معناه «1»،
والحمد لله.
[سورة البقرة (2): آية 98]
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ
(98)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ" شَرْطٌ،
وَجَوَابُهُ" فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ". وَهَذَا
وَعِيدٌ وَذَمٌّ لِمُعَادِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَإِعْلَانُ أَنَّ عَدَاوَةَ الْبَعْضِ تَقْتَضِي عَدَاوَةَ
اللَّهِ لَهُمْ. وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هي معصيته
واجتناب طاعته، ومعادات أَوْلِيَائِهِ. وَعَدَاوَةَ اللَّهِ
لِلْعَبْدِ تَعْذِيبُهُ وَإِظْهَارُ أَثَرِ الْعَدَاوَةِ
عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ اللَّهُ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ
قَدْ عَمَّهُمَا؟ قِيلَ لَهُ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ
تَشْرِيفًا لَهُمَا، كَمَا قَالَ:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ «2» ". وَقِيلَ: خُصًّا لِأَنَّ الْيَهُودَ
ذَكَرُوهُمَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا،
فَذِكْرُهُمَا وَاجِبٌ لِئَلَّا تَقُولَ الْيَهُودُ: إِنَّا لم
نعاد
__________
(1). يراجع ج 1 ص 160، 162، 38 2 طبعه ثانية.
(2). راجع ج 17 ص 185.
(2/36)
اللَّهَ وَجَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ، فَنَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا لِإِبْطَالِ مَا
يَتَأَوَّلُونَهُ مِنَ التَّخْصِيصِ. وَلِعُلَمَاءِ اللِّسَانِ
فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لُغَاتٌ،
فَأَمَّا التي في جبريل فعشر: الاولى- لِجِبْرِيلَ، وَهِيَ
لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا
الثَّانِيَةُ- جَبْرِيلُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ
الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ
أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقْرَأُ جَبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ فَلَا أَزَالَ أَقْرَؤُهُمَا أَبَدًا كَذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ- جَبْرَئِيلُ (بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ،
مِثَالُ جَبْرَعِيلُ)، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ،
وَأَنْشَدُوا:
شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... مَدَى
الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلُ أَمَامُهَا «1»
وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. الرَّابِعَةُ- جَبْرَئِلُ
(عَلَى وَزْنِ جَبْرَعِلَ) مَقْصُورٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. الْخَامِسَةُ- مِثْلُهَا، وَهِيَ
قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ
اللَّامَ. السَّادِسَةُ- جَبْرَائِلُ (بِأَلِفٍ بَعْدَ
الرَّاءِ ثُمَّ هَمْزَةٍ) وَبِهَا قَرَأَ عِكْرِمَةُ.
السَّابِعَةُ- مِثْلُهَا، إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ
يَاءٌ. الثَّامِنَةُ- جبرئيل (بِيَاءَيْنِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ)
وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا.
التَّاسِعَةُ- جَبْرَئِينُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ هَمْزَةٍ
مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَنُونٌ). الْعَاشِرَةُ- جبرين
(بكسر الجيم وتسكين الياء بِنُونٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ)
وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَمْ
يُقْرَأْ بِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ- وَذَكَرَ قِرَاءَةَ ابْنِ
كَثِيرٍ-:" لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَعْلِيلٌ،
وَفِيهِ فِعْلِيلٌ، نَحْوُ دِهْلِيزٌ وَقِطْمِيرٌ وَبِرْطِيلٌ،
وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ مَا
لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ
أَنْ يَكْثُرَ تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم
__________
(1). البيت لكعب بن مالك، كما في شرح القاموس. [ ..... ]
(2/37)
وَإِبْرَاهَامُ". قَالَ غَيْرُهُ:
جِبْرِيلُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ، فَلَهَا
فِيهِ هَذِهِ اللُّغَاتُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ. قُلْتُ:
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ «1» أَنَّ الصَّحِيحَ
فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَرَبِيَّةٌ نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيُجْمَعُ
جِبْرِيلُ عَلَى التَّكْسِيرِ جَبَارِيلَ. وَأَمَّا اللُّغَاتُ
التي في ميكائيل فست: الاولى- ميكائيل، قراءة نافع. وميكائيل
(بياء بعد الهمزة) قراءة حمزة. مِيكالَ، لُغَةُ أَهْلِ
الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ عَنْ
عَاصِمٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ الثَّلَاثَةُ أَوْجُهٌ،
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا مَدَدٌ ... فِيهِ مَعَ
النصر ميكال وجبريل
وقال آخر «2»:
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ ...
وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا
الرَّابِعَةُ مِيكَئِيلُ، مِثْلُ مِيكَعِيلَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
ابْنِ مُحَيْصِنٍ. الْخَامِسَةُ- مِيكَايِيلُ (بِيَاءَيْنِ)
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ.
السَّادِسَةُ- مِيكَاءَلُ، كَمَا يُقَالُ (إِسْرَاءَلُ
بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ)، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَلِذَلِكَ
لَمْ يَنْصَرِفْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جَبْرَ
وَمِيكَا وَإِسْرَافَ هِيَ كُلُّهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ
بِمَعْنَى: عَبْدٍ وَمَمْلُوكٍ. وائل: اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى،
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ حِينَ سَمِعَ سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ: هَذَا كَلَامٌ لَمْ
يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" لَا يَرْقُبُونَ
فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً" فِي أَحَدِ
التَّأْوِيلَيْنِ، وَسَيَأْتِي «3». قَالَ المارودي: إِنَّ
جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ اسْمَانِ، أَحَدُهُمَا عَبْدُ
اللَّهِ، وَالْآخَرُ عُبَيْدُ اللَّهِ، لِأَنَّ إِيلَ هُوَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَجِبْرَ هُوَ عَبْدُ، وَمِيكَا هُوَ
عُبَيْدُ، فَكَأَنَّ جِبْرِيلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلَ
عُبَيْدُ اللَّهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ لَهُ
فِي المفسرين مخالف.
__________
(1). راجع ج 1 ص 68 طبعه ثانية.
(2). هو جرير، كما في ديوانه.
(3). راجع ج 8 ص 79
(2/38)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99)
قُلْتُ: وَزَادَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:
وَإِسْرَافِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَنْ
تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ" جِبْرَ" عَبْدَ، وَ" إِلَّ" اللَّهَ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت
بجبريل، وَهَذَا لَا يُقَالُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى
الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُسَمًّى بِهَذَا. قَالَ غَيْرُهُ: وَلَوْ
كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ مَصْرُوفًا، فَتَرْكُ الصَّرْفِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ لَيْسَ
بِمُضَافٍ. وَرَوَى عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ
أَفْلَتَ بْنِ خَلِيفَةَ- وَهُوَ فُلَيْتٌ الْعَامِرِيُّ
وَهُوَ أَبُو حَسَّانَ- عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ رَبَّ
جبريل وميكائل وَإِسْرَافِيلَ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ حَرِّ
النَّارِ وَعَذَابِ القبر).
[سورة البقرة (2): آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ
بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا جَوَابٌ
لِابْنِ صُورِيَّا «1» حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَا
بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ
بَيِّنَةٍ فَنَتَّبِعَكَ بِهَا؟ فأنزل الله هذه الآية، ذكره
الطبري.
[سورة البقرة (2): آية 100]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً" الْوَاوُ
وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ
كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:" أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ «2» "،" أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ «3» "،"
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ «4» ". وَعَلَى ثُمَّ
كَقَوْلِهِ:" أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ «5» " هَذَا قَوْلُ
سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ.
وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهَا أَوْ، حُرِّكَتِ الْوَاوُ
مِنْهَا تَسْهِيلًا. وَقَرَأَهَا قَوْمٌ أَوْ، سَاكِنَةَ
الْوَاوِ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ:
لَأَضْرِبَنَّكَ، فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: أَوْ يَكْفِي اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُتَكَلَّفٌ،
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ." كُلَّما" نصب على الظرف،
والمعني
__________
(1). كذا في نسخ الأصل وتفسير الطبري وأسباب النزول للواحدي.
وفى سيرة ابن هشام (ص 379 طبع أوربا):" أبو صلوبا الفطيونى".
(2). راجع ج 6 ص 214.
(3). راجع ج 8 ص 346.
(4). راجع ج 10 ص 420.
(5). راجع ج 8 ص 351.
(2/39)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
فِي الْآيَةِ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ،
وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ الضَّيْفِ «1»، كَانَ قَدْ قَالَ:
وَاللَّهُ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْدٌ فِي كِتَابِنَا أَنْ
نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا مِيثَاقَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَاهَدُوا لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ
لَنُؤْمِنُ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي
الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ فَنَقَضُوهَا
كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، دَلِيلُهُ قول تَعَالَى:"
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي
كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ «2» ". قَوْلُهُ
تَعَالَى:" نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" النَّبْذُ: الطَّرْحُ
وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ النَّبِيذُ وَالْمَنْبُوذُ، قَالَ
أَبُو الْأَسْوَدِ:
وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ إِنَّمَا ... أَخَذْتَ
كِتَابِي مُعْرِضًا بِشِمَالِكَا
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ
نَعْلًا أَخَلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا
آخَرُ:
إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا
كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَمَا
وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنِ اسْتَخَفَّ بِالشَّيْءِ فَلَا
يَعْمَلُ بِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اجْعَلْ هَذَا خَلْفَ
ظَهْرِكَ، وَدُبُرًا مِنْكَ، وَتَحْتَ قَدَمِكَ، أَيِ
اتْرُكْهُ وَأَعْرِضْ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «3» ". وَأَنْشَدَ
الْفَرَّاءُ:
تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ
فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا «4»
" بَلْ أَكْثَرُهُمْ" ابْتِدَاءٌ." لَا يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ
مُسْتَقْبَلٌ فِي موضع الخبر.
[سورة البقرة (2): آية 101]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (101)
__________
(1). في 1 ب، ح:" الصيت" بالتاء المثناة، وفى ج:" الصيب"
بالباء. والتصويب عن سيرة ابن هشام ص 352 طبع أوربا.
(2). ج 8 ص 30.
(3). ج 9 ص 91.
(4). البيت للفرزدق، يخاطب تميم بن زيد القينى وكان على السند.
(عن النقائض ص 381) طبع أوربا.
(2/40)
وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ" نَعْتٌ
لِرَسُولٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ." نَبَذَ
فَرِيقٌ" جَوَابٌ" لَمَّا"." مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
كِتابَ اللَّهِ" نُصِبَ بِ" نَبَذَ"، وَالْمُرَادُ
التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَتَكْذِيبَهُمْ لَهُ نَبْذٌ لَهَا. قَالَ
السُّدِّيُّ: نَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ
آصِفَ، وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ
يَعْنِيَ بِهِ الْقُرْآنَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ يَقْرَءُونَهُ، وَلَكِنْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَدْرَجُوهُ فِي
الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَالَهُ وَلَمْ يُحَرِّمُوا
حَرَامَهُ، فَذَلِكَ النَّبْذُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
مُسْتَوْفًى «1»." كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" تَشْبِيهٌ
بِمَنْ لَا يَعْلَمُ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِ
فَيَجِيءُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّهُمْ كفروا على علم.
[سورة البقرة (2): آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ
اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ" هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ
الطَّائِفَةِ الَّذِينَ نَبَذُوا الْكِتَابَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا السِّحْرَ أَيْضًا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: عَارَضَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ
وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ
آصِفِ وَبِسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ: لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ قَالَ
بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ ابْنَ داود
__________
(1). في الصفحة السابقة.
(2/41)
كَانَ نَبِيًّا! وَاللَّهِ مَا كَانَ
إِلَّا سَاحِرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما
كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" أَيْ
أَلْقَتْ إِلَى بَنِي آدَمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ
مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَاسْتِسْخَارِ الطَّيْرِ
وَالشَّيَاطِينِ كَانَ سِحْرًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَتَبَتِ الشَّيَاطِينُ السِّحْرَ وَالنِّيرَنْجِيَّاتِ «1»
عَلَى لِسَانِ آصِفَ كَاتِبَ سُلَيْمَانَ، وَدَفَنُوهُ تَحْتَ
مُصَلَّاهُ حِينَ انْتَزَعَ اللَّهُ مُلْكَهُ وَلَمْ يَشْعُرْ
بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ
اسْتَخْرَجُوهُ وَقَالُوا لِلنَّاسِ: إِنَّمَا مَلَكَكُمْ
بِهَذَا فَتَعَلَّمُوهُ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا
عِلْمُ سُلَيْمَانَ! وَأَمَّا السَّفَلَةُ فَقَالُوا: هَذَا
عِلْمُ سُلَيْمَانَ، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعْلِيمِهِ
وَرَفَضُوا كُتُبَ أَنْبِيَائِهِمْ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ عُذْرَ سُلَيْمَانَ
وَأَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ فَقَالَ:"
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ". قال عطاء:" تَتْلُوا"
تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس:" تَتْلُوا" تَتْبَعُ، كَمَا
تَقُولُ: جَاءَ الْقَوْمُ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ:" اتَّبَعُوا" بِمَعْنَى فَضَّلُوا. قُلْتُ:
لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا وَجَعَلَهُ أَمَامَهُ فقد
فضله على غيره، ومعنى" تَتْلُوا" يَعْنِي تَلَتْ، فَهُوَ
بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ
الْهِجَانِ «2» وَكُلَّ طَرَفٍ سَابِحِ
وَانَضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا ... فلقد يكون
أخادم وذبائح
أي فلقد كان. و" ما" مَفْعُولُ بِ" اتَّبَعُوا" أَيِ
اتَّبَعُوا مَا تَقَوَّلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سُلَيْمَانَ
وَتَلَتْهُ. وَقِيلَ:" مَا" نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَا فِي
نِظَامِ الْكَلَامِ وَلَا في صحته، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ."
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" أَيْ عَلَى شرعه ونبوته. قال الزجاج:
المعنى عَلَى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي فِي قَصَصِهِ وَصِفَاتِهِ
وَأَخْبَارِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَصْلُحُ عَلَى وَفِي، فِي
مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ" عَلى " وَلَمْ يَقُلْ
بَعْدَ لقوله تعالى:
__________
(1). اختلفت الأصول في رسم هذه الكلمة، والذي في القاموس:"
النيرنج" قال شارح القاموس:" هكذا في سائر النسخ، والمنقول عن
نص كلام الليث:" النيرج" بإسقاط النون الثانية. وكذا ورد في
اللسان. وهو أحد كالسحر وليس به، إنما هو تشبيه وتلبيس". [
..... ]
(2). الكوم (بالضم): جمع كوماء، وهى الناقة العظيمة السنام.
والهجان من الإبل: البيض الكرام.
(2/42)
" وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» " أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَانِ وَاشْتِقَاقِهِ، فَلَا
مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ «2». وَالشَّيَاطِينُ هُنَا قِيلَ: هُمْ
شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا
الِاسْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ
الْمُتَمَرِّدُونَ فِي الضَّلَالِ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ
يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ"
تَبْرِئَةٌ مِنَ اللَّهِ لِسُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ
فِي الْآيَةِ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ،
وَلَكِنَّ الْيَهُودَ نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْرِ، وَلَكِنْ
لَمَّا كَانَ السِّحْرُ كُفْرًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ:" وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا" فَأَثْبَتَ كُفْرَهُمْ بتعليم السحر.
و" يُعَلِّمُونَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ
خَبَرٌ ثَانٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ"
وَلَكِنِ الشَّيَاطِينُ" بِتَخْفِيفِ" لَكِنْ"، وَرَفْعِ
النُّونِ مِنْ" الشَّيَاطِينِ"، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ"
وَلَكِنِ اللَّهُ رَمَى «3» " وَوَافَقَهُمِ ابْنُ عَامِرٍ.
الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ. وَ" لَكِنَّ"
كَلِمَةً لَهَا مَعْنَيَانِ: نَفْيُ الْخَبَرِ الْمَاضِي،
وَإِثْبَاتُ الْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ
مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: لَا، كِ، إِنَّ." لَا" نَفْيٌ، وَ"
الْكَافُ" خِطَابٌ، وَ" إِنَّ" إِثْبَاتٌ وَتَحْقِيقٌ،
فَذَهَبَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِثْقَالًا، وَهِيَ تُثَقَّلُ
وَتُخَفَّفُ، فَإِذَا ثُقِّلَتْ نَصَبَتْ كَإِنَّ
الثَّقِيلَةِ، وَإِذَا خُفِّفَتْ رَفَعْتَ بِهَا كَمَا
تَرْفَعُ بِإِنِ الْخَفِيفَةِ. الثَّالِثَةُ- السِّحْرُ،
قِيلَ: السِّحْرُ أَصْلُهُ التمويه بالحيل والتخائيل، وَهُوَ
أَنْ يَفْعَلَ السَّاحِرُ أَشْيَاءَ وَمَعَانِيَ، فَيُخَيَّلُ
لِلْمَسْحُورِ أَنَّهَا بِخِلَافٍ مَا هِيَ بِهِ، كَالَّذِي
يَرَى السَّرَابَ مِنْ بَعِيدٍ فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ
مَاءٌ، وَكَرَاكِبِ السَّفِينَةِ السَّائِرَةِ سَيْرًا
حَثِيثًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ مَا يَرَى مِنَ
الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ سَائِرَةٌ مَعَهُ. وَقِيلَ: هُوَ
مُشْتَقٌّ مِنْ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إِذَا خَدَعْتَهُ،
وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْتَهُ، وَالتَّسْحِيرُ مِثْلُهُ، قَالَ
لَبِيَدٌ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عصافير من
هذا الأنام المسحر
__________
(1). راجع ج 12 ص 79.
(2). راجع ج 1 ص 90 طبعه ثانية.
(3). راجع ج 7 ص 384.
(2/43)
آخر «1»:
أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ «2» ... وَنُسْحَرُ
بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
عَصَافِيرٌ وَذِبَّانٌ وَدُودٌ ... وَأَجْرَأُ مِنْ
مُجَلِّحَةِ «3» الذِّئَابِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ"
يُقَالُ: الْمُسَحَّرُ الَّذِي خُلِقَ ذَا سَحَرٍ، وَيُقَالُ
مِنَ الْمُعَلَّلِينَ، أَيْ مِمَّنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ
وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْخَفَاءُ، فَإِنَّ
السَّاحِرَ يَفْعَلُهُ فِي خُفْيَةٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ
الصَّرْفُ، يُقَالُ: مَا سَحَرَكَ عَنْ كَذَا، أَيْ مَا
صَرَفَكَ عَنْهُ، فَالسِّحْرُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ.
وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِمَالَةُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَمَالَكَ
فَقَدْ سَحَرَكَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" بَلْ نَحْنُ
قَوْمٌ مَسْحُورُونَ" أَيْ سُحِرْنَا فَأُزِلْنَا
بِالتَّخْيِيلِ عَنْ مَعْرِفَتِنَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
السِّحْرُ الْأَخْذَةُ، وَكُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ
فَهُوَ سِحْرٌ، وَقَدْ سَحَرَهُ يَسْحَرُهُ سِحْرًا.
وَالسَّاحِرُ: الْعَالِمُ، وَسَحَرَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى
خَدَعَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعِضَهَ.
وَالْعِضَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: شِدَّةُ الْبَهْتِ وَتَمْوِيهُ
الْكَذِبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ فِي عِضَهِ
الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
الرَّابِعَةُ وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا،
فَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُيُونِ الْمَعَانِي
لَهُ: أَنَّ السِّحْرَ الْمُعْتَزِلَةِ خُدَعٌ لَا أَصْلَ
لَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسْوَسَةٌ وَأَمْرَاضٌ. قَالَ:
وَعِنْدَنَا أَصْلُهُ طِلَّسْمٌ يُبْنَى عَلَى تَأْثِيرِ
خَصَائِصِ الْكَوَاكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِي زِئْبَقِ
عِصِيِّ فِرْعَوْنَ، أَوْ تَعْظِيمِ الشَّيَاطِينِ
لِيُسَهِّلُوا لَهُ مَا عَسُرَ. قُلْتُ: وَعِنْدَنَا أَنَّهُ
حَقٌّ وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا شَاءَ،
عَلَى مَا يَأْتِي. ثُمَّ مِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ
بِخِفَّةِ الْيَدِ كَالشَّعْوَذَةِ. وَالشَّعْوَذِيُّ:
الْبَرِيدُ لِخِفَّةِ سَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي
الْمُجْمَلِ: الشَّعْوَذَةُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ
الْبَادِيَةِ، وَهِيَ خِفَّةٌ فِي الْيَدَيْنِ وَأَخْذَةٌ
كَالسِّحْرِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ، وَرُقًى
مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ
الشَّيَاطِينِ، وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وأدخنة وغير ذلك.
__________
(1). هو امرؤ القيس، كما في ديوانه واللسان.
(2). موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت. وأنه قد غيب عنا
وقته، ونحن؟ عنه بالطعام والشراب.
(3). ذئب مجلح: جريء.
(2/44)
الْخَامِسَةُ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَصَاحَةَ فِي
الْكَلَامِ وَاللِّسَانَةَ فِيهِ سِحْرًا، فَقَالَ: (إِنَّ
مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَصْوِيبُ الْبَاطِلِ حَتَّى
يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ
لَسِحْرًا) خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْبَلَاغَةِ
وَالْفَصَاحَةِ، إِذْ شَبَّهَهَا بِالسِّحْرِ. وَقِيلَ: خَرَجَ
مَخْرَجَ الْمَدْحِ لِلْبَلَاغَةِ وَالتَّفْضِيلِ للبيان، قاله
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ
بَعْضٍ)، وَقَوْلُهُ: (إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ
الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ). الثَّرْثَرَةُ: كَثْرَةُ
الْكَلَامِ وَتَرْدِيدُهُ، يُقَالُ: ثَرْثَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ
ثَرْثَارٌ مِهْذَارٌ. وَالْمُتَفَيْهِقُ نَحْوُهُ. قَالَ ابْنُ
دُرَيْدٍ. فُلَانٌ يَتَفَيْهَقُ فِي كَلَامِهِ إِذَا تَوَسَّعَ
فِيهِ وَتَنَطَّعَ، قَالَ: وَأَصْلُهُ الْفَهْقُ وَهُوَ
الِامْتِلَاءُ، كَأَنَّهُ مَلَأَ بِهِ فَمَهُ. قُلْتُ:
وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَسَّرَهُ عَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ
فَقَالَا: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) فَالرَّجُلُ يَكُونُ
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ
الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ
بِالْحَقِّ وَهُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْعُلَمَاءُ
الْبَلَاغَةَ وَاللِّسَانَةَ مَا لَمْ تَخْرُجْ إِلَى حَدِّ
الْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ، وَتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي
صُورَةِ الْحَقِّ. وَهَذَا بَيِّنٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
السَّادِسَةُ- مِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ كُفْرًا مِنْ
فَاعِلِهِ، مِثْلُ مَا يَدْعُونَ مِنْ تَغْيِيرِ صُوَرِ
النَّاسِ، وَإِخْرَاجِهِمْ فِي هَيْئَةِ بَهِيمَةٍ، وَقَطْعِ
مَسَافَةِ شَهْرٍ فِي لَيْلَةٍ، وَالطَّيَرَانِ فِي
الْهَوَاءِ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لِيُوهِمَ النَّاسَ
أَنَّهُ مُحِقٌّ فَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو نَصْرٍ
عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ. قَالَ أَبُو عَمْرٌو: مَنْ
زَعَمَ أَنَّ السَّاحِرَ يَقْلِبُ الْحَيَوَانَ مِنْ صُورَةٍ
إِلَى صُورَةٍ، فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ
نَحْوَهُ، وَيَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْأَجْسَادِ وَهَلَاكِهَا
وَتَبْدِيلِهَا، فَهَذَا يَرَى قَتْلَ السَّاحِرِ لِأَنَّهُ
كَافِرٌ بِالْأَنْبِيَاءِ، يَدَّعِي مِثْلَ آيَاتِهِمْ
وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَلَا يَتَهَيَّأُ مَعَ هَذَا عِلْمُ
صِحَّةِ النُّبُوَّةِ إِذْ قَدْ يَحْصُلُ مِثْلُهَا
بِالْحِيلَةِ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ خُدَعٌ
وَمَخَارِيقُ وَتَمْوِيهَاتٌ وَتَخْيِيلَاتٌ فَلَمْ يَجِبْ
عَلَى أَصْلِهِ قَتْلُ السَّاحِرِ، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ
بِفِعْلِهِ أَحَدًا فَيُقْتَلُ به.
(2/45)
السَّابِعَةُ- ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ
إِلَى أَنَّ السِّحْرَ ثَابِتٌ وَلَهُ حَقِيقَةٌ. وَذَهَبَ
عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو إسحاق الأسترآبادي مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ
لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيهٌ وَتَخْيِيلٌ وَإِيهَامٌ
لِكَوْنِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ بِهِ، وَأَنَّهُ
ضَرْبٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالشَّعْوَذَةِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى:" يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
«1» " وَلَمْ يَقُلْ تَسْعَى عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ
قَالَ" يُخَيَّلُ إِلَيْهِ". وَقَالَ أَيْضًا:" سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ «2» ". وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّا
لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ
جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ وَرَاءَ ذَلِكَ أُمُورٌ
جَوَّزَهَا الْعَقْلُ وَوَرَدَ بِهَا السَّمْعُ، فَمِنْ ذَلِكَ
مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ السِّحْرِ
وَتَعْلِيمِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَمْ
يُمْكِنْ تَعْلِيمُهُ، وَلَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ
يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى في قصة سحرة فرعون:" وَجاؤُ بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ" وَسُورَةِ" الْفَلَقِ"، مَعَ اتِّفَاقِ
الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا كَانَ مِنْ
سِحْرِ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، وَهُوَ مِمَّا خَرَّجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي
زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيَدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَمَّا حُلَّ السِّحْرِ: (إِنَّ اللَّهَ شَفَانِي).
وَالشِّفَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِرَفْعِ الْعِلَّةِ وَزَوَالِ
الْمَرَضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقًّا وَحَقِيقَةً،
فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولُهُ عَلَى وُجُودِهِ وَوُقُوعِهِ. وَعَلَى هَذَا
أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يَنْعَقِدُ بِهِمُ
الْإِجْمَاعُ، وَلَا عِبْرَةَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ بِحُثَالَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَهْلَ الْحَقِّ. وَلَقَدْ
شَاعَ السِّحْرُ وَذَاعَ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ وَتَكَلَّمَ
النَّاسُ فِيهِ، وَلَمْ يَبْدُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ
التَّابِعِينَ إِنْكَارٌ لِأَصْلِهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ
أَبِي الْأَعْوَرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
عِلْمُ السِّحْرِ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ يُقَالُ
لَهَا:" الْفَرَمَا" فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ،
مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مُنْكِرٌ لِمَا عُلِمَ
مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا. الثَّامِنَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
لَا يُنْكَرُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ خَرْقُ
الْعَادَاتِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ مِنْ
مَرَضٍ وَتَفْرِيقٍ وَزَوَالِ عَقْلٍ وَتَعْوِيجِ عُضْوٍ إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ
كَوْنِهِ مِنْ مَقْدُورَاتِ الْعِبَادِ. قَالُوا: وَلَا
يَبْعُدُ فِي السِّحْرِ أَنْ يُسْتَدَقَّ جِسْمُ السَّاحِرِ
حَتَّى
يَتَوَلَّجَ فِي الْكُوَّاتِ وَالْخَوْخَاتِ وَالِانْتِصَابِ
عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، والجري على
__________
(1). راجع ج 11 ص 222.
(2). راجع ج 7 ص 259.
(2/46)
خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ، وَالطَّيَرَانُ فِي
الْهَوَاءِ وَالْمَشْيُ عَلَى الْمَاءِ وَرُكُوبُ كَلْبٍ
وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ السِّحْرُ
مُوجِبًا لِذَلِكَ، وَلَا عِلَّةَ لِوُقُوعِهِ وَلَا سَبَبًا
مُوَلَّدًا، وَلَا يَكُونُ السَّاحِرُ مُسْتَقِلًّا بِهِ،
وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
وَيُحْدِثُهَا عِنْدَ وُجُودِ السِّحْرِ، كَمَا يَخْلُقُ الشيع
عِنْدَ الْأَكْلِ، وَالرِّيَّ عِنْدَ شُرْبِ الْمَاءِ. رَوَى
سُفْيَانُ عَنْ عَمَّارٍ الذَّهَبِيِّ أَنَّ سَاحِرًا كَانَ
عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ يَمْشِي عَلَى الْحَبْلِ،
وَيَدْخُلُ فِي اسْتِ الْحِمَارِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ،
فَاشْتَمَلَ لَهُ جُنْدُبٌ عَلَى السَّيْفِ فَقَتَلَهُ
جُنْدُبُ- هَذَا هُوَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ
وَيُقَالُ الْبَجَلِيُّ- وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَكُونُ فِي
أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُبٌ يَضْرِبُ ضَرْبَةً
بِالسَّيْفِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ).
فَكَانُوا يَرَوْنَهُ جُنْدُبًا هَذَا قَاتِلُ السَّاحِرِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى عَنْهُ حَارِثَةَ
بْنِ مُضَرِّبٍ. التَّاسِعَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْرِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ عِنْدَهُ
إِنْزَالَ الْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَفَلْقَ
الْبَحْرِ وَقَلْبَ الْعَصَا وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى
وَإِنْطَاقَ الْعَجْمَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ
آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ
مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا
يَفْعَلُهُ اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّاحِرِ. قَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا مَنَعْنَا
ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ.
الْعَاشِرَةُ- فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السِّحْرِ
وَالْمُعْجِزَةِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: السِّحْرُ يُوجَدُ مِنَ
السَّاحِرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ
يَعْرِفُونَهُ وَيُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ. وَالْمُعْجِزَةُ لَا يُمَكِّنُ اللَّهُ أَحَدًا أَنْ
يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا وَبِمُعَارَضَتِهَا، ثُمَّ السَّاحِرُ
لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ فَالَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ
مُتَمَيِّزٌ عَنِ الْمُعْجِزَةِ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ
شَرْطُهَا اقْتِرَانُ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي
بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «1».
الحادية عشرة- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ
الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ
الْمُسْلِمَ إِذَا سَحَرَ بِنَفْسِهِ بِكَلَامٍ يَكُونُ
كُفْرًا يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا تُقْبَلُ
تَوْبَتُهُ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ بِهِ كَالزِّنْدِيقِ
وَالزَّانِي، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى السِّحْرَ
كُفْرًا بِقَوْلِهِ:" وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" وَهُوَ قَوْلُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ والشافعي
__________
(1). يراجع ج 1 ص 69 وما بعدها طبعه ثانية.
(2/47)
وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ قَتْلُ
السَّاحِرِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ
وَأَبِي مُوسَى وَقَيْسِ ابن سَعْدٍ وَعَنْ سَبْعَةٍ مِنَ
التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، انْفَرَدَ
بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ،
رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ
عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ عَنْ
الحسن عَنْ جُنْدُبٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ
رُوِّينَا عَنْ عَائِشَةَ. أَنَّهَا بَاعَتْ سَاحِرَةً كَانَتْ
سَحَرَتْهَا وَجَعَلَتْ ثَمَنَهَا فِي الرِّقَابِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ سَحَرَ
بِكَلَامٍ يَكُونُ كُفْرًا وَجَبَ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ،
وَكَذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَوَصَفَتِ
الْبَيِّنَةُ كَلَامًا يَكُونُ كُفْرًا. وَإِنْ كَانَ
الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ سَحَرَ بِهِ لَيْسَ
بِكُفْرٍ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي
الْمَسْحُورِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ اقْتُصَّ مِنْهُ
إِنْ كَانَ عَمَدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِصَاصَ
فِيهِ فَفِيهِ دِيَةٌ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجَبَ اتِّبَاعُ
أَشْبَهِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ السِّحْرُ الَّذِي أَمَرَ مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ
بِقَتْلِ السَّاحِرِ سِحْرًا يَكُونُ كُفْرًا فَيَكُونُ ذَلِكَ
مُوَافِقًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَمَرَتْ بِبَيْعِ سَاحِرَةٍ لَمْ يَكُنْ
سِحْرُهَا كُفْرًا. فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ
جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ) فَلَوْ صَحَّ
لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِقَتْلِ السَّاحِرِ الَّذِي
يَكُونُ سِحْرُهُ كُفْرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوَافِقًا
لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ... ) قُلْتُ: وَهَذَا
صَحِيحٌ، وَدِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ لَا
تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِينَ مَعَ
الِاخْتِلَافِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: إِنْ قَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ إِنَّ السِّحْرَ
لَا يَتِمُّ إِلَّا مع الكفر ولاستكبار، أَوْ تَعْظِيمِ
الشَّيْطَانِ فَالسِّحْرُ إِذًا دَالٌّ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى
هَذَا التَّقْدِيرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرُوِيَ
عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِلَّا أَنْ
يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ وَيَقُولَ تَعَمَّدْتُ الْقَتْلَ، وَإِنْ
قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدْهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَكَانَتْ فِيهِ
الدية كقتل الخطأ، وإن أضربه أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ السِّحْرَ، وَحَقِيقَتُهُ
أَنَّهُ كَلَامٌ
(2/48)
مُؤَلَّفٌ يُعَظِّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ
تَعَالَى، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ.
الثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي
كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ فَقَالَ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ"
بِقَوْلِ السِّحْرُ" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" بِهِ
وَبِتَعْلِيمِهِ، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ يَقُولَانِ:" إِنَّما
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" وَهَذَا تَأْكِيدٌ
لِلْبَيَانِ. احْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا
تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ السِّحْرَ بَاطِنٌ لَا
يُظْهِرُهُ صَاحِبُهُ فَلَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ
كَالزِّنْدِيقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ
الْكُفْرَ مُرْتَدًّا، قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ جَاءَ السَّاحِرُ
أَوِ الزِّنْدِيقُ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمَا
قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمَا، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنا «1» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ،
فَكَذَلِكَ هَذَانَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا سَاحِرُ
الذِّمَّةِ، فَقِيلَ يُقْتَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ
إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ وَيَضْمَنَ مَا جَنَى،
وَيُقْتَلُ إِنْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعَاهَدْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ
ذِمِّيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ،
فَقَالَ مَرَّةً: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا
الْحَرْبِيُّ فَلَا يُقْتَلُ إِذَا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَالَ
مَالِكٌ فِي ذِمِّيٍّ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ كَالْمُسْلِمِ.
وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سُحِرَ:
يُعَاقَبُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلَ بِسِحْرِهِ، أَوْ
أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ. وَلَا
يَرِثُ السَّاحِرُ وَرَثَتُهُ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ سِحْرُهُ لَا يُسَمَّى كُفْرًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي
الْمَرْأَةِ تَعْقِدُ زَوْجَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَوْ عَنْ
غَيْرِهَا: تُنَكَّلُ وَلَا تُقْتَلُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ-
واختلفوا هل يسئل السَّاحِرُ حَلَّ السِّحْرِ عَنِ
الْمَسْحُورِ، فَأَجَازَهُ سَعِيدُ ابن الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُزَنِيُّ
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا
بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ «2». قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي
كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ
من سدر
__________
(1). راجع ج 15 ص 336.
(2). النشرة (بالضم): ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان
يظن أن به مسا من الجن، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء،
أي يكشف ويزال.
(2/49)
أَخْضَرَ فَيَدُقَّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ
ثُمَّ يَضْرِبَهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ آيَةَ
الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ يَحْسُوَ مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ
وَيَغْتَسِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ عَنْهُ كُلَّ مَا بِهِ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا
حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- أَنْكَرَ
مُعْظَمُ الْمُعْتَزِلَةِ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، وَدَلَّ
إِنْكَارُهُمْ عَلَى قِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ وَرَكَاكَةِ
دِيَانَاتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِهِمْ مُسْتَحِيلٌ
عَقْلِيٌّ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
عَلَى إِثْبَاتِهِمْ، وَحَقُّ عَلَى اللَّبِيبِ الْمُعْتَصِمِ
بِحَبْلِ اللَّهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا قَضَى الْعَقْلُ
بِجَوَازِهِ، وَنَصَّ الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" وَقَالَ:"
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ «1» لَهُ" إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ، مِنَ الْآيِ، وَسُورَةُ" الْجِنِّ" تَقْضِي بِذَلِكَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي
مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ). وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا
الْخَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَحَالُوا رُوحَيْنِ فِي
جَسَدٍ، وَالْعَقْلُ لَا يُحِيلُ سُلُوكَهُمْ فِي الْإِنْسِ
إِذَا كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ رَقِيقَةً بَسِيطَةً عَلَى مَا
يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا
كِثَافًا لَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُمْ، كَمَا يَصِحُّ
دُخُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْفَرَاغِ مِنَ
الْجِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدِّيدَانُ قَدْ تَكُونُ فِي بَنِي
آدَمَ وهي أحياء. الخامسة عشرة- قوله تعالى:" وَما أُنْزِلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ"" مَا" نَفْيٌ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ
عَلَى قَوْلِهِ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ" وَذَلِكَ أَنَّ
الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ. وَفِي
الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَهَارُوتُ وَمَارُوتُ بَدَلٌ
مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ
كَفَرُوا". هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ
التَّأْوِيلِ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا وَلَا يُلْتَفَتُ
إِلَى سِوَاهُ، فَالسِّحْرُ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ
لِلَطَافَةِ جَوْهَرِهِمْ، وَدِقَّةِ أَفْهَامِهِمْ،
وَأَكْثَرُ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْإِنْسِ النِّسَاءُ
وَخَاصَّةً فِي حَالِ طَمْثِهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «2» ". وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ ..............
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ
اثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْعٍ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يكون على
حد المبدل منه، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ،
الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ قد يطلق عليهما اسم
__________
(1). راجع ج 11 ص 322
(2). راجع ج 20 ص 257. [ ..... ]
(2/50)
الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَإِنْ
كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ" وَلَا يَحْجُبُهَا
عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ
الْإِخْوَةِ فَصَاعِدًا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
النِّسَاءِ «1» ". الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا
الرَّأْسَ فِي التَّعْلِيمِ نَصَّ عَلَيْهِمَا دُونَ
أَتْبَاعِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ «2» " الثَّالِثُ: إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مِنْ
بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فِيهِما
فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «3» " وَقَوْلُهُ:" وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ". وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ
الْعَرَبِ، فَقَدْ يُنَصُّ بِالذِّكْرِ عَلَى بَعْضِ أَشْخَاصِ
الْعُمُومِ إِمَّا لِشَرَفِهِ وَإِمَّا لِفَضْلِهِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ «4» " وَقَوْلِهِ:" وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ"، وَإِمَّا لِطِيبِهِ كَقَوْلِهِ:" فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ"، وَإِمَّا لِأَكْثَرِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ
مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا)، وَإِمَّا لِتَمَرُّدِهِ
وَعُتُوِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" مَا" عَطْفٌ عَلَى السِّحْرِ
وَهِيَ مَفْعُولَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ" مَا" بِمَعْنَى
الَّذِي، وَيَكُونُ السِّحْرُ مُنَزَّلًا عَلَى الْمَلَكَيْنِ
فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَامْتِحَانًا، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ
عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، كَمَا امْتَحَنَ بِنَهَرِ طَالُوتَ،
وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَلَكَانِ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ،
أَيْ مِحْنَةٌ مِنَ اللَّهِ، نُخْبِرُكَ أَنَّ عَمَلَ
السَّاحِرِ كُفْرٌ فَإِنْ أَطَعْتَنَا نَجَوْتَ، وَإِنْ
عَصَيْتَنَا هَلَكْتَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ
الْأَحْبَارِ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ مَا مَعْنَاهُ:
أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْفَسَادُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذَلِكَ فِي زَمَنِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ- عَيَّرَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَكَانَهُمْ،
وَرَكَّبْتُ فِيكُمْ مَا رَكَّبْتُ فِيهِمْ لَعَمِلْتُمْ
مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا كَانَ
يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ، قَالَ: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ
خِيَارِكُمْ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ،
فَأَنْزَلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَرَكَّبَ فِيهِمَا
الشَّهْوَةَ، فَمَا مَرَّ بِهِمَا شَهْرٌ حَتَّى فُتِنَا
بِامْرَأَةٍ اسْمُهَا بِالنِّبْطِيَّةِ" بيدخت"
وَبِالْفَارِسِيَّةِ" ناهيل «5» " وَبِالْعَرَبِيَّةِ"
الزُّهَرَةُ" اخْتَصَمَتْ إِلَيْهِمَا، وَرَاوَدَاهَا عَنْ
نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَا فِي دِينِهَا
وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ، فَأَجَابَاهَا وَشَرِبَا الْخَمْرَ وَأَلَمَّا بِهَا،
فَرَآهُمَا رَجُلٌ فَقَتَلَاهُ، وَسَأَلَتْهُمَا عَنِ الِاسْمِ
الَّذِي يَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَعَلَّمَاهَا
فتكلمت به
__________
(1). راجع ج 5 ص 72.
(2). راجع ج 19 ص 77.
(3). راجع ج 17 ص 185.
(4). راجع ج 4 ص 109.
(5). في بعض نسخ الأصل:" ناهيد" بالدال المهملة بدل اللام.
(2/51)
فَعَرَجَتْ فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا. وَقَالَ
سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: فَحَدَّثَنِي
كَعْبٌ الْحَبْرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَكْمِلَا يَوْمَهُمَا
حَتَّى عَمِلَا بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. وَفِي
غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ
الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَاخْتَارَا عَذَابَ
الدُّنْيَا، فَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ فِي سَرَبٍ مِنَ
الْأَرْضِ. قِيلَ: بَابِلُ الْعِرَاقِ. وَقِيلَ: بَابِلُ
نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ
عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الزُّهَرَةَ وَسُهَيْلًا
سَبَّهُمَا وَشَتَمَهُمَا، وَيَقُولُ: إِنَّ سُهَيْلًا كَانَ
عَشَّارًا «1» بِالْيَمَنِ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَإِنَّ
الزُّهَرَةَ كَانَتْ صَاحِبَةَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. قُلْنَا:
هَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَبَعِيدُ عَنِ ابن عمر وغيره، لا يصح
منه شي، فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَدْفَعُهُ الْأُصُولُ فِي
الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى
وَحْيِهِ، وَسُفَرَاؤُهُ إِلَى رُسُلِهِ" لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «2» "."
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «3» "." يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ «4» ". وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلَا
يُنْكِرُ وُقُوعَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيُوجَدُ
مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ، وَيَخْلُقُ فِيهِمُ
الشَّهَوَاتِ، إِذْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ
مَوْهُومٍ، وَمِنْ هَذَا خَوْفُ الأنبياء والأولياء الفضلاء
العلماء، ولكن وُقُوعُ هَذَا الْجَائِزِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا
بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَصِحَّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
صِحَّتِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النُّجُومَ وَهَذِهِ
الْكَوَاكِبَ حِينَ خَلَقَ السَّمَاءَ، فَفِي الْخَبَرِ:
(أَنَّ السَّمَاءَ لَمَّا خُلِقَتْ خُلِقَ فِيهَا سَبْعَةُ
دَوَّارَةٍ زُحَلُ وَالْمُشْتَرِي وَبَهْرَامُ وَعُطَارِدُ
وَالزُّهَرَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ". وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5»
". فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الزُّهَرَةَ وَسُهَيْلًا قَدْ
كَانَا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ
الْمَلَائِكَةِ:" مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا" عَوْرَةٌ «6»: لَا
تَقْدِرُ عَلَى فِتْنَتِنَا، وَهَذَا كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْهُ وَمِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ
نَزَّهْنَاهُمْ وَهُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنْ كُلِّ مَا
ذَكَرَهُ وَنَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبْزَى وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ:"
الْمَلِكَيْنِ" بِكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا
دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. فَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ
أَيْضًا نَافِيَةٌ، وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ كَانَا
بِبَابِلَ مَلَكَيْنِ، فَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ
مَفْعُولَةٌ غَيْرُ نافية.
__________
(1). العشار: الذي يقبض عشر الأموال.
(2). راجع ج 18 ص 196.
(3). راجع ج 11 ص 281، 278.
(4). راجع ج 11 ص 281، 278.
(5). راجع ج 11 ص 281، 278.
(6). كذا في أ، ب، ج. وفي ح، ز:" عوده". وكتب على هامش
الازهرية:" لعله: تقديره". وقد تكون هذه الكلمة محرفة عن"
غوره" وغور كل شي: عمقه وبعده.
(2/52)
الثامنة عشرة- قوله تعالى:" بِبابِلَ"
بَابِلُ لَا يَنْصَرِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ
وَالْعُجْمَةِ، وَهِيَ قُطْرٌ مِنَ الْأَرْضِ، قِيلَ:
الْعِرَاقُ وَمَا وَالَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَهْلِ
الْكُوفَةِ: أَنْتُمْ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَبَابِلَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ بِالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَبَلُ نَهَاوَنْدَ،
فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ
بِبَابِلَ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لتبلبل الألسن بها حين
سقط صرح نمرود. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَلْسِنَةِ
بَنِي آدَمَ بَعَثَ رِيحًا فَحَشَرَتْهُمْ مِنَ الْآفَاقِ
إِلَى بَابِلَ، فَبَلْبَلَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا،
ثُمَّ فَرَّقَتْهُمْ تِلْكَ الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ.
وَالْبَلْبَلَةُ: التَّفْرِيقُ، قَالَ مَعْنَاهُ الْخَلِيلُ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ أَخْصَرِ مَا
قِيلَ فِي الْبَلْبَلَةِ وَأَحْسَنِهِ مَا رَوَاهُ دَاوُدُ
بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا هَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ ابْتَنَى
قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ
وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةٍ،
إِحْدَاهَا اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، وَكَانَ لَا يَفْهَمُ
بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- رَوَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْمَازِنِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا الدنيا
فوالذي نفسي بيده إنها لا سحر مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّنْيَا أَسْحَرُ
مِنْهُمَا لِأَنَّهَا تَسْحَرُكَ بِخُدَعِهَا، وَتَكْتُمُكَ
فِتْنَتَهَا، فَتَدْعُوكَ إِلَى التَّحَارُصِ عَلَيْهَا
وَالتَّنَافُسِ فِيهَا، وَالْجَمْعِ لَهَا وَالْمَنْعِ، حَتَّى
تُفَرِّقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَتُفَرِّقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْحَقِّ
وَرِعَايَتِهِ، فَالدُّنْيَا أَسْحَرُ مِنْهُمَا، تَأْخُذُ
بِقَلْبِكَ عَنِ اللَّهِ، وَعَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ،
وَعَنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَسِحْرُ الدُّنْيَا
مَحَبَّتُهَا وَتَلَذُّذُكَ بِشَهَوَاتِهَا، وَتَمَنِّيكَ
بِأَمَانِيِّهَا الْكَاذِبَةَ حَتَّى تَأْخُذَ بِقَلْبِكَ،
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ).
الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" هارُوتَ
وَمارُوتَ" لَا يَنْصَرِفُ" هَارُوتُ"، لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ
مَعْرِفَةٌ، وَكَذَا" مَارُوتُ"، وَيُجْمَعُ هَوَارِيتُ
وَمَوَارِيتُ، مِثْلُ طَوَاغِيتَ، وَيُقَالُ: هَوَارِتَةٌ
وَهَوَارٌ، وَمَوَارِتَةٌ وَمَوَارٌ، وَمِثْلُهُ جَالُوتُ
وَطَالُوتُ، فَاعْلَمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هُمَا مَلَكَانِ
أَوْ غَيْرُهُمَا؟ خِلَافٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَالَّذِي
أُنْزِلَ
(2/53)
عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَأَنَّ
الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ مِنَ
السِّحْرِ لَا تَعْلِيمَ دُعَاءٍ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَالنَّظَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ
عَلَى النَّهْيِ فَيَقُولَانِ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا،
وَلَا تَحْتَالُوا بِكَذَا لِتُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ. وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ النَّهْيُ،
كَأَنَّهُ قُولَا لِلنَّاسِ: لَا تَعْمَلُوا كَذَا، فَ"
يُعَلِّمانِ" بِمَعْنَى يُعْلِمَانِ، كَمَا قَالَ:" وَلَقَدْ
كَرَّمْنا «1» بَنِي آدَمَ" أَيْ أَكْرَمْنَا. الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما يُعَلِّمانِ مِنْ
أَحَدٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: وما
يعلمان أحدا." حَتَّى يَقُولا" نصب بحي فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ
مِنْهُ النُّونُ، وَلُغَةُ هُذَيْلٍ وَثَقِيفٍ" عتى" بالعين
غير الْمُعْجَمَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي" يُعَلِّمانِ" لِهَارُوتَ
وَمَارُوتَ. وَفِي" يُعَلِّمانِ" قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنَ التَّعْلِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ
مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ، فَ" يُعَلِّمانِ"
بِمَعْنَى، يُعْلِمَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ
وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ
وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَقَالَ الْقُطَامِيُّ:
تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ
الْغَيِّ انْقِشَاعَا
وَقَالَ زُهَيْرٌ:
تَعَلَّمْنَ هَا لَعَمْرُ اللَّهِ ذَا قَسَمًا ... فَاقْدِرْ
بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ «2»
وَقَالَ آخَرُ:
تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ
وَهُوَ الثُّبُورُ
" إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ" لَمَّا أَنْبَأَ بِفِتْنَتِهِمَا
كَانَتِ الدُّنْيَا أَسْحَرُ مِنْهُمَا حِينَ كَتَمَتْ
فِتْنَتَهَا." فَلا تَكْفُرْ" قَالَتْ فِرْقَةٌ بِتَعْلِيمِ
السِّحْرِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ. وَحَكَى
الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ اسْتِهْزَاءٌ، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا
يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تحققا ضلاله.
__________
(1). راجع ج 10 ص 293.
(2). في البيت شاهد آخر، وهو تقديم" ها" التي للتنبيه على" ذا"
وقد حال بينهما بقوله:" لعمر الله" والمعنى تعلمن الله هذا ما
أقسم به. وفى الديوان:" فاقصد بذرعك".
(2/54)
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما" قَالَ سِيبَوَيْهِ:
التَّقْدِيرُ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، قَالَ وَمِثْلُهُ" كُنْ
فَيَكُونُ". وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ" مَا
يُعَلِّمانِ"، لِأَنَّ قَوْلَهُ:" وَما يُعَلِّمانِ" وَإِنْ
دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا النَّافِيَةُ فَمُضَمَّنُهُ الْإِيجَابُ
فِي التَّعْلِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ
عَلَى قَوْلِهِ:" يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ" ...
فَيَتَعَلَّمُونَ، ويكون" فَيَتَعَلَّمُونَ" متصلة بقول"
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ" فَيَأْتُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ. قَالَ
السُّدِّيُّ: كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ جَاءَهُمَا: إِنَّما
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ
قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ فِيهِ، فَإِذَا
بَالَ فِيهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ يَسْطَعُ إِلَى السَّمَاءِ،
وَهُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ أَسْوَدُ
فَيَدْخُلُ فِي أُذُنَيْهِ وَهُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا
أَخْبَرَهُمَا بِمَا رَآهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَّمَاهُ مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَيْسَ
يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ
التَّفْرِقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ
الذَّمِّ لِلسِّحْرِ وَالْغَايَةِ فِي تَعْلِيمِهِ، فَلَوْ
كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَلَا
يُنْكَرُ أَنَّ السِّحْرَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقُلُوبِ،
بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَبِإِلْقَاءِ الشُّرُورِ حَتَّى
يُفَرِّقَ السَّاحِرُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَيَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَذَلِكَ بِإِدْخَالِ الْآلَامِ
وَعَظِيمِ الْأَسْقَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ
بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِنْكَارُهُ مُعَانَدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ"" مَا هُمْ"، إِشَارَةٌ إِلَى
السَّحَرَةِ. وَقِيلَ إِلَى الْيَهُودِ، وَقِيلَ إِلَى
الشَّيَاطِينِ." بِضارِّينَ بِهِ" أَيْ بالسخر." مِنْ أَحَدٍ"
أَيْ أَحَدًا، وَمِنْ زَائِدَةٌ." إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ"
بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى
لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" إِلَّا
بِعِلْمِ اللَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَوْلُ أَبِي
إِسْحَاقَ" إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ
غَلَطٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعِلْمِ أَذَنٌ،
وَقَدْ أَذِنْتُ أَذَنًا. وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَحِلَّ فِيمَا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَظَلُّوا يَفْعَلُونَهُ كَانَ
كَأَنَّهُ أَبَاحَهُ مجازا. الرابعة والعشرون- قوله تعالى:"
وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ" يُرِيدُ فِي الْآخِرَةِ
وَإِنْ أَخَذُوا بِهَا نَفْعًا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: يَضُرُّهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ ضَرَرَ
السِّحْرِ وَالتَّفْرِيقِ يَعُودُ
(2/55)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
عَلَى السَّاحِرِ فِي الدُّنْيَا إِذَا
عُثِرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ وَيُزْجَرُ،
وَيَلْحَقُهُ شُؤْمُ السِّحْرِ. وَبَاقِي الْآيِ بَيِّنٌ
لِتَقَدُّمِ مَعَانِيهَا. وَاللَّامُ فِي" وَلَقَدْ عَلِمُوا"
لَامُ تَوْكِيدٍ." لَمَنِ اشْتَراهُ" لَامُ يَمِينٍ، وَهِيَ
لِلتَّوْكِيدِ أَيْضًا. وَمَوْضِعُ" مَنْ" رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَ اللَّامِ
فِيمَا بعدها. و" من" بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ الْفَرَّاءُ.
هِيَ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَالَ الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و"
من" بِمَعْنَى الَّذِي، كَمَا تَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ،
لَمَنْ جَاءَكَ مَا لَهُ عَقْلٌ." مِنْ خَلاقٍ"" مِنْ"
زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ،
وَلَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: تَكُونُ زَائِدَةً فِي الْوَاجِبِ،
وَاسْتَدَلُّوا بقوله تعالى:" لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ «1» " وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ
اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا
لِلنَّصِيبِ مِنَ الْخَيْرِ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا.
ثُمَّ قَالَ:" وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ،
فَالْجَوَابُ وَهُوَ قَوْلُ قُطْرُبٍ وَالْأَخْفَشِ: أَنْ
يَكُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الشَّيَاطِينَ، وَالَّذِينَ
شَرَوْا أَنْفُسَهُمْ- أَيْ بَاعُوهَا- هُمُ الْإِنْسُ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ سُلَيْمَانَ: الْأَجْوَدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ" وَلَقَدْ
عَلِمُوا" لِلْمَلَكَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أَوْلَى بِأَنْ
يَعْلَمُوا. وَقَالَ:" عَلِمُوا" كَمَا يُقَالُ: الزَّيْدَانِ
قَامُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ عَلِمُوا عُلَمَاءُ
الْيَهُودِ، وَلَكِنْ قِيلَ:" لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ" أَيْ
فَدَخَلُوا فِي مَحَلِّ مَنْ يُقَالُ لَهُ: لَسْتَ بِعَالِمٍ،
لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِعِلْمِهِمْ وَاسْتَرْشَدُوا
مِنَ الَّذِينَ عَمِلُوا بالسحر.
[سورة البقرة (2): آية 103]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا"
أَيِ اتَّقَوْا السِّحْرَ." لَمَثُوبَةٌ" الْمَثُوبَةُ
الثَّوَابُ، وَهِيَ جَوَابُ" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا" عند
قوم. وقال الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: لَيْسَ لِ" لَوْ" هُنَا
جَوَابٌ في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لا ثيبوا.
وَمَوْضِعُ" أَنَّ" مِنْ قَوْلِهِ:" وَلَوْ أَنَّهُمْ"
مَوْضِعُ رَفْعٍ، أَيْ لَوْ وَقَعَ إِيمَانُهُمْ، لِأَنَّ"
لَوْ" لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا،
لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الشَّرْطِ إِذْ كَانَ لَا
بدله مِنْ جَوَابٍ، وَ" أَنَّ" يَلِيهِ فِعْلٌ. قَالَ محمد بن
يزيد:
__________
(1). راجع ج 16 ص 217. [ ..... ]
(2/56)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(104)
وإنما لم يجاز ب" لو" لِأَنَّ سَبِيلَ
حُرُوفِ الْمُجَازَاةِ كُلَّهَا أَنْ تَقْلِبَ الْمَاضِي إِلَى
مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي"
لَوْ" لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجَازَى بها.
[سورة البقرة (2): آية 104]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا
وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ
أَلِيمٌ (104)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا" ذَكَرَ
شَيْئًا آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِ الْيَهُودِ وَالْمَقْصُودُ
نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَحَقِيقَةُ"
راعِنا" فِي اللُّغَةِ ارْعَنَا وَلْنَرْعَكَ، لِأَنَّ
الْمُفَاعَلَةَ مِنَ اثْنَيْنِ، فَتَكُونُ مِنْ رَعَاكَ
اللَّهُ، أَيِ احْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْكَ، وَارْقُبْنَا
وَلْنَرْقُبْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرِعْنَا
سَمْعَكُ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكُ لِكَلَامِنَا. وَفِي
الْمُخَاطَبَةِ بِهَذَا جَفَاءٌ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَتَخَيَّرُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَحْسَنَهَا وَمِنَ
الْمَعَانِي أَرَقَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كان المسلمون
يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاعِنَا.
عَلَى جِهَةِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ- مِنَ الْمُرَاعَاةِ-
أَيِ الْتَفِتْ إِلَيْنَا، وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُودِ
سَبًّا، أَيِ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَاغْتَنَمُوهَا
وَقَالُوا: كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآنَ نَسُبُّهُ
جَهْرًا، فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
فَسَمِعَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ،
فَقَالَ لِلْيَهُودِ: عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ! لَئِنْ
سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ،
فَقَالُوا: أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ،
وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِي بِهَا الْيَهُودُ فِي
اللَّفْظِ وَتَقْصِدُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ فِيهِ.
الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا-
عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ الَّتِي فِيهَا
التَّعْرِيضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا
فَهْمُ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِهِمَا حِينَ قَالُوا: التَّعْرِيضُ مُحْتَمِلٌ
لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ. وَسَيَأْتِي فِي" النُّورِ «1» " بَيَانُ
هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الدَّلِيلُ الثَّانِي-
التَّمَسُّكُ بِسَدِ الذَّرَائِعِ «2» وَحِمَايَتِهَا وَهُوَ
مذهب مالك وأصحابه وأحمد ابن حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ،
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَالذَّرِيعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أمر
__________
(1). راجع ج 12 ص 175.
(2). الذرائع (جمع الذريعة) وهى لغة: الوسيلة والسبب إلى
الشيء.
(2/57)
غَيْرِ مَمْنُوعٍ لِنَفْسِهِ يُخَافُ مِنَ
ارْتِكَابِهِ الْوُقُوعُ فِي مَمْنُوعٍ. أَمَّا الْكِتَابُ
فَهَذِهِ الْآيَةُ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَا أَنَّ
الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهِيَ سَبٌّ
بِلُغَتِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنَعَ
مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ
لِلسَّبِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» " فَمَنَعَ مِنْ سَبِّ آلِهَتَهُمْ
مَخَافَةَ مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى:" وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ «2» "
الْآيَةَ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
الصَّيْدَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ
تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا، أَيْ ظَاهِرَةً،
فَسَدُّوا عَلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ
الْأَحَدِ، وَكَانَ السَّدُّ ذَرِيعَةً لِلِاصْطِيَادِ،
فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَذَكَرَ اللَّهُ
لَنَا ذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَأَمَّا السُّنَّةُ
فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ
وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ذكرتا كنيسة رأياها
بالحبشة فيها تصاويي [فَذَكَرَتَا «4» ذَلِكَ] لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أُولَئِكَ
إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا
عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ
أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ (. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَفَعَلَ
ذَلِكَ أَوَائِلُهُمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ
الصُّوَرِ وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالَهُمُ الصَّالِحَةَ
فَيَجْتَهِدُونَ كَاجْتِهَادِهِمْ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، فَمَضَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ
أَزْمَانٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ
جَهِلُوا أَغْرَاضَهُمْ، وَوَسْوَسَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ
آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ
الصُّورَةَ فَعَبَدُوهَا، فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ
وَالْوَعِيدَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَسَدَّ الذَّرَائِعَ
الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ: (اشْتَدَّ غَضَبُ
اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ) وَقَالَ: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ
قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ). وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْحَلَالُ
بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ
مُتَشَابِهَاتٌ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ
لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ
فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ
أَنْ يَقَعَ فِيهِ «5» (الْحَدِيثَ، فَمَنَعَ مِنَ
الْإِقْدَامِ
__________
(1). راجع ج 7 ص 61 وص 304.
(2). راجع ج 7 ص 61 وص 304.
(3). راجع ج 1 ص 304.
(4). زيادة عن صحيح البخاري.
(5). ورد هذا في صحيح مسلم كتاب البيوع ببعض اختلاف في ألفاظه.
(2/58)
عَلَى الشُّبُهَاتِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ
فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ
أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ
بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ
الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ
يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا
الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ
أُمَّهُ). فَجَعَلَ التَّعَرُّضُ لِسَبِ الْآبَاءِ كَسَبِ
الْآبَاءِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا
تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ
وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْكُمْ حَتَّى
تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ (. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
الْهَرَوِيُّ: الْعِينَةُ هُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مِنْ
رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى،
ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي
بَاعَهَا بِهِ. قَالَ: فَإِنِ اشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِبِ
الْعِينَةِ سِلْعَةً مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ
وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِبِ الْعِينَةِ بِثَمَنٍ
أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالنَّقْدِ
بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَةٌ، وَهِيَ
أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
وَسُمِّيَتْ عِينَةً لِحُصُولِ النَّقْدِ لِصَاحِبِ
الْعِينَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ هُوَ الْمَالُ
الْحَاضِرُ وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا
بِعَيْنٍ حَاضِرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ. وَرَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ
الْأَرْقَمِ ذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدٍ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى
الْعَطَاءِ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا
اشْتَرَيْتِ! أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ
جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ
بِالرَّأْيِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ الْأَعْمَالِ لَا يُتَوَصَّلُ
إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ
مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ. وَنَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ دَرَاهِمَ بدراهم بينهما حريزة
«1». قُلْتُ: فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي لَنَا عَلَى
سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَالِكِيَّةَ كِتَابَ
الْآجَالِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي الْبُيُوعِ
وَغَيْرِهَا. وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كِتَابُ
الْآجَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
__________
(1). كذا في أ. وفى ب:" جريرة". وفى ج" جريرة". وفى ح" جريزة".
ولم نوفق إلى وجه لصواب فيها.
(2/59)
عُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ،
قَالُوا: وَأَصْلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الظَّوَاهِرِ لَا عَلَى
الظُّنُونِ. وَالْمَالِكِيَّةُ جَعَلُوا السِّلْعَةَ
مُحَلَّلَةً لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى دَرَاهِمَ بِأَكْثَرَ
مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ، فَاعْلَمْهُ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تَقُولُوا راعِنا"
نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ" رَاعِنَّا" مُنَوَّنَةً. وَقَالَ: أَيْ هَجْرًا
مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَنَصْبَهُ بِالْقَوْلِ، أَيْ
لَا تَقُولُوا رُعُونَةً. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ
وَالْأَعْمَشُ" رَاعُونَا"، يُقَالُ لِمَا نَتَأَ مِنَ
الْجَبَلِ: رَعْنٌ، وَالْجَبَلُ أَرْعَنُ. وَجَيْشٌ أَرْعَنُ،
أَيْ مُتَفَرِّقٌ. وَكَذَا رَجُلُ أَرْعَنُ، أَيْ مُتَفَرِّقُ
الْحُجَجِ وَلَيْسَ عَقْلُهُ مُجْتَمِعًا، عَنِ النَّحَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: رَعُنَ الرَّجُلُ يَرْعُنُ رَعْنًا
فَهُوَ أَرْعَنُ، أَيْ أَهْوَجُ. وَالْمَرْأَةُ رَعْنَاءُ.
وَسُمِّيَتِ الْبَصْرَةُ رَعْنَاءَ لِأَنَّهَا تُشَبَّهُ
بِرَعْنِ الْجَبَلِ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ ذَلِكَ، وَأَنْشَدَ
لِلْفَرَزْدَقِ:
لَوْلَا ابْنُ عُتْبَةَ عَمْرٌو وَالرَّجَاءُ لَهُ ... مَا
كَانَتِ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنًا
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقُولُوا انْظُرْنا"
أُمِرُوا أَنْ يُخَاطِبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْنَى: أَقْبِلْ عَلَيْنَا وَانْظُرْ
إِلَيْنَا، فَحَذَفَ حَرْفَ التَّعْدِيَةِ، كَمَا قَالَ:
ظَاهِرَاتِ الْجَمَالِ وَالْحُسْنُ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا
يَنْظُرُ الْأَرَاكَ
الظِّبَاءُ أَيْ إِلَى الْأَرَاكِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْمَعْنَى فَهِّمْنَا وَبَيِّنْ لَنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ بِنَا، قَالَ «1»:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ
يَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ
وَالظَّاهِرُ اسْتِدْعَاءُ نَظَرِ الْعَيْنِ الْمُقْتَرِنِ
بِتَدَبُّرِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى رَاعِنَا،
فَبُدِّلَتِ اللَّفْظَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَالَ تَعَلُّقُ
الْيَهُودِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ" أَنْظِرْنَا"
بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ، بِمَعْنَى أَخِّرْنَا
وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ وَنَتَلَقَّى منك، قال
الشاعر «2»:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا
نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاسْمَعُوا" لَمَّا نَهَى
وأمر عز وجل، حَضَّ عَلَى السَّمْعِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ
الطَّاعَةُ. وَأَعْلَمَ أَنَّ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ
فَكَفَرَ عَذَابًا أليما.
__________
(1). القائل هو امرؤ القيس، كما في ديوانه.
(2). هو عمرو بن كلثوم.
(2/60)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (105)
[سورة البقرة (2): آية 105]
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا يَوَدُّ" أَيْ مَا يَتَمَنَّى، وَقَدْ
تَقَدَّمَ «1»." الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ" مَعْطُوفٌ عَلَى" أَهْلِ". وَيَجُوزُ:
وَلَا الْمُشْرِكُونَ، تَعْطِفُهُ عَلَى الَّذِينَ، قَالَهُ
النَّحَّاسُ." أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ"" مِنْ"
زَائِدَةٌ،" خَيْرٌ" اسْمُ مَا لَمْ يسم فاعله. وَ" أَنْ" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ بِأَنْ يُنَزَّلَ." وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ" أَيْ
بِنُبُوَّتِهِ، خَصَّ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّحْمَةُ الْقُرْآنُ
وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ
أَنْوَاعِهَا الَّتِي قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ عِبَادَهُ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يُقَالُ: رَحِمَ يَرْحَمُ إِذَا رَقَّ.
وَالرُّحْمُ وَالْمَرْحَمَةُ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى، قَالَهُ
ابْنُ فَارِسٍ. وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ: إِنْعَامُهُ
عَلَيْهِمْ وَعَفْوُهُ لَهُمْ." وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ"" ذو" بمعنى صاحب.
[سورة البقرة (2): آية 106]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها
أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها"" نُنْسِها"
عَطْفٌ عَلَى" نَنْسَخْ" وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ.
وَمَنْ قَرَأَ" نَنْسَأْهَا" حَذَفَ الضَّمَّةَ مِنَ
الْهَمْزَةِ لِلْجَزْمِ، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ." نَأْتِ"
جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهَذِهِ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ.
وَسَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ
فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَطَعَنُوا فِي
الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ
أَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، فَمَا كَانَ
هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلِهَذَا يُنَاقِضُ
بَعْضُهُ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ «2» " وأنزل" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ".
__________
(1). يراجع ص 34 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 10 ص 176.
(2/61)
الثَّانِيَةُ- مَعْرِفَةُ هَذَا الْبَابِ
أَكِيدَةٌ وَفَائِدَتُهُ عَظِيمَةٌ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا
الْجَهَلَةُ الْأَغْبِيَاءُ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ
النَّوَازِلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ مِنَ
الْحَرَامِ. رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَوِّفُ
النَّاسَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ يُذَكِّرُ
النَّاسَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ!
لَكِنَّهُ يَقُولُ أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ فَاعْرِفُونِي،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ
الْمَنْسُوخِ؟! فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْ
مَسْجِدِنَا وَلَا تُذَكِّرْ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:
أَعَلِمْتَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ!. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الثَّالِثَةُ- النَّسْخُ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- النَّقْلُ،
كَنَقْلِ كِتَابٍ مِنْ آخَرَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا، أَعْنِي مِنَ اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ وَإِنْزَالِهِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي
السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» " أَيْ نَأْمُرُ
بِنَسْخِهِ وَإِثْبَاتِهِ. الثَّانِي: الْإِبْطَالُ
وَالْإِزَالَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ
فِي اللُّغَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِبْطَالُ
الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ وَإِقَامَةُ آخَرَ مَقَامَهُ، وَمِنْهُ
نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ
مَحَلَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها". وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا
تَنَاسَخَتْ) أَيْ تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ،
يَعْنِي أَمْرَ الْأُمَّةِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّسْخُ
نَسْخُ الْكِتَابِ، وَالنَّسْخُ أَنْ تُزِيلَ أَمْرًا كَانَ
مِنْ قَبْلُ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ تَنْسَخَهُ بِحَادِثٍ
غَيْرِهِ، كَالْآيَةِ تَنْزِلُ بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شي
خَلَفَ شَيْئًا فَقَدِ انْتَسَخَهُ، يُقَالُ: انْتَسَخَتِ
الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالشَّيْبُ الشَّبَابُ. وَتَنَاسَخَ
الْوَرَثَةُ: أَنْ تَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ وَأَصْلُ
الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقْسَمْ، وَكَذَلِكَ تَنَاسُخُ
الْأَزْمِنَةِ وَالْقُرُونِ. الثَّانِي: إِزَالَةُ الشَّيْءِ
دُونَ أَنْ يَقُومَ آخَرُ مَقَامَهُ، كَقَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ
الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ
تَعَالَى" فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ «2» "
أَيْ يُزِيلُهُ فَلَا يُتْلَى وَلَا يُثْبَتُ فِي الْمُصْحَفِ
بدله.
__________
(1). راجع ج 16 ص 175.
(2). راجع ج 12 ص 79. [ ..... ]
(2/62)
وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا
النَّسْخَ الثَّانِيَ قَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّورَةَ فَتُرْفَعُ
فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَبُ. قُلْتُ: وَمِنْهُ مَا رُوِيَ
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ سُورَةَ" الْأَحْزَابِ" كَانَتْ تَعْدِلُ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ، عَلَى مَا يَأْتِي
مُبَيَّنًا هُنَاكَ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّا
يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ
الْأَنْبَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ
دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عبد الله ابن
صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يُونُسَ وَعَقِيلٍ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنِ سهل ابن
حُنَيْفٍ فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ
رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيَقْرَأ سُورَةً مِنَ القرآن
فلم يقدر على شي منها، وقام آخر فلم يقدر على شي منها، وقام
آخر فلم يقدر على شي مِنْهَا، فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ:
قُمْتُ اللَّيْلَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَقْرَأ سُورَةً
مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أقدر على شي مِنْهَا، فَقَامَ الْآخَرُ
فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَقَامَ الْآخَرُ فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللَّهُ
الْبَارِحَةَ). وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ: وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ يَسْمَعُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو أُمَامَةَ
فَلَا يُنْكِرُهُ. الرَّابِعَةُ- أَنْكَرَتْ طَوَائِفُ مِنَ
الْمُنْتَمِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَهُ،
وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ السَّابِقِ عَلَى
وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَنْكَرَتْهُ أَيْضًا طَوَائِفُ
مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا جَاءَ فِي
تَوْرَاتِهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ
السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا
لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ
الْعُشْبِ، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم قد حَرَّمَ عَلَى
مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ
الْحَيَوَانِ، وَبِمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يُزَوِّجُ الْأَخَ مِنَ الْأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى غَيْرِهِ،
وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ
الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ،
وَبِأَنَّ نُبُوَّتَهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا قَبْلَ
بَعْثِهِ، ثُمَّ تُعُبِّدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ بَلْ هُوَ
نَقْلُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَحُكْمٍ
إِلَى حُكْمٍ، لِضَرْبٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، إِظْهَارًا
لِحِكْمَتِهِ وكمال مملكته. ولا
__________
(1). راجع ج 14 ص 113.
(2/63)
خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ
شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ قُصِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ
الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ
الْبَدَاءُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَآلِ الْأُمُورِ،
وَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ
خِطَابَاتُهُ بِحَسَبِ تَبَدُّلِ الْمَصَالِحِ، كَالطَّبِيبِ
الْمُرَاعِي أَحْوَالَ الْعَلِيلِ، فَرَاعَى ذَلِكَ فِي
خَلِيقَتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ، فَخِطَابُهُ يَتَبَدَّلُ، وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ لَا
تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي جِهَةِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَجَعَلَتِ الْيَهُودُ النَّسْخَ وَالْبَدَاءَ
شَيْئًا وَاحِدًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجَوِّزُوهُ فَضَلُّوا.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ
أَنَّ النَّسْخَ تَحْوِيلُ العبادة من شي إلى شي قَدْ كَانَ
حَلَالًا فَيُحَرَّمُ، أَوْ كَانَ حَرَامًا فَيُحَلَّلُ.
وَأَمَّا الْبَدَاءُ فَهُوَ تَرْكُ مَا عُزِمَ عَلَيْهِ،
كَقَوْلِكَ: امْضِ إِلَى فُلَانٍ الْيَوْمَ، ثُمَّ تَقُولُ لَا
تَمْضِ إِلَيْهِ، فَيَبْدُو لَكَ الْعُدُولُ عَنِ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ لِنُقْصَانِهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْتَ: ازْرَعْ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
ثُمَّ قُلْتَ: لَا تَفْعَلْ، فَهُوَ الْبَدَاءُ. الْخَامِسَةُ-
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَيُسَمَّى الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا
تَجَوُّزًا، إِذْ بِهِ يَقَعُ النَّسْخُ، كَمَا قَدْ
يُتَجَوَّزُ فَيُسَمَّى الْمَحْكُومُ فِيهِ نَاسِخًا،
فَيُقَالُ: صَوْمُ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ،
فَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمُزَالُ، وَالْمَنْسُوخُ عَنْهُ هُوَ
الْمُتَعَبِّدُ بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَةِ، وَهُوَ
الْمُكَلَّفُ. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ
أَئِمَّتِنَا فِي حَدِّ النَّاسِخِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ
الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ إِزَالَةُ مَا
قَدِ اسْتَقَرَّ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ
وَارِدٍ مُتَرَاخِيًا، هَكَذَا حَدَّهُ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَزَادَا: لَوْلَاهُ
لَكَانَ السَّابِقُ ثَابِتًا، فَحَافَظًا عَلَى مَعْنَى
النَّسْخِ اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الرَّفْعِ
وَالْإِزَالَةِ، وَتَحَرُّزًا مِنَ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ،
وَذَكَرَ الْخِطَابَ لِيَعُمَّ وُجُوهَ الدَّلَالَةِ مِنَ
النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْمَفْهُومِ وَغَيْرِهِ،
وَلِيُخْرِجَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ
النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا. وَقَيَّدَا بِالتَّرَاخِي،
لِأَنَّهُ لَوِ اتَّصَلَ بِهِ لَكَانَ بَيَانًا لِغَايَةِ
الْحُكْمِ لَا نَاسِخًا، أَوْ يكون آخر الكلام يرفع أوله،
كقولك: قُمْ لَا تَقُمْ. السَّابِعَةُ- الْمَنْسُوخُ عِنْدَ
أَئِمَّتِنَا أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ
نَفْسُهُ لَا مِثْلُهُ، كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ
بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ
الثَّابِتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ
زَائِلٌ. وَالَّذِي
(2/64)
قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي
أَنَّ الْأَوَامِرَ مُرَادَةٌ، وَأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ
نَفْسِيَّةٌ لِلْحَسَنِ، وَمُرَادُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَهَذَا
قَدْ أَبْطَلَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي كُتُبِهِمْ. الثَّامِنَةُ-
اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْأَخْبَارِ هَلْ يَدْخُلُهَا
النَّسْخُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا
هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْخَبَرُ لَا
يَدْخُلُهُ النَّسْخُ لِاسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ إِذَا تَضَمَّنَ حُكْمًا
شَرْعِيًّا جَازَ نَسْخُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنْ
ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً". وَهُنَاكَ «1» يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. التَّاسِعَةُ- التَّخْصِيصُ مِنَ الْعُمُومِ
يُوهِمُ أَنَّهُ نُسِخَ وَلَيْسَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ
لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعُمُومُ قَطُّ، وَلَوْ ثَبَتَ تَنَاوُلُ
الْعُمُومِ لِشَيْءٍ مَا ثُمَّ أُخْرِجَ ذَلِكَ الشَّيْءُ عَنِ
الْعُمُومِ لَكَانَ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا،
وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ عَلَى التَّخْصِيصِ نَسْخًا
تَوَسُّعًا وَمَجَازًا. الْعَاشِرَةُ- اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ
يَرِدُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارٌ ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ
وَالِاسْتِغْرَاقُ، وَيُرَدُ تَقْيِيدُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
فَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «2» ". فَهَذَا الْحُكْمُ
ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ إِجَابَةِ كُلِّ دَاعٍ عَلَى كُلِّ
حَالٍ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا قَيَّدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ،
كَقَوْلِهِ" فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «3»
". فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا
مِنْ بَابِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ.
وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي
مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:
جَائِزٌ نَسْخُ الْأَثْقَلِ إِلَى الْأَخَفِّ، كَنَسْخِ
الثُّبُوتِ لِعَشَرَةٍ بِالثُّبُوتِ لِاثْنَيْنِ «4».
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ، كَنَسْخِ
يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ بِرَمَضَانَ،
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ «5».
وَيُنْسَخُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ ثِقَلًا وَخِفَّةً،
كَالْقِبْلَةِ. وَيُنْسَخُ الشَّيْءُ لَا إِلَى بَدَلٍ
كَصَدَقَةِ النَّجْوَى. وَيُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ.
وَالسُّنَّةُ بِالْعِبَارَةِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ
بِهَا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ الْقَطْعِيُّ. وَيُنْسَخُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَحُذَّاقُ
الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ،
وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ). وَهُوَ ظَاهِرُ مَسَائِلِ مَالِكٍ.
وَأَبَى ذَلِكَ الشافعي وأبو الفرج المالكي،
__________
(1). راجع ج 10 ص 127.
(2). ص 308 من هذا الجزء.
(3). ج 6 ص 423.
(4). وهو أن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد
بثبوته لاثنين.
(5). ص 275 من هذا الجزء.
(2/65)
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّ
الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ
اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَلْدَ
سَاقِطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي يُرْجَمُ،
وَلَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بَيِّنٌ.
وَالْحُذَّاقُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ تُنْسَخُ
بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ
الصَّلَاةَ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ «1» " فَإِنَّ رُجُوعَهُنَّ إِنَّمَا كَانَ
بِصُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِقُرَيْشٍ. وَالْحُذَّاقُ عَلَى تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد
عقلا، واختلقوا هَلْ وَقَعَ شَرْعًا، فَذَهَبَ أَبُو
الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ إِلَى وُقُوعِهِ فِي نَازِلَةِ
مَسْجِدِ قُبَاءٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2»، وَأَبَى
ذَلِكَ قَوْمٌ. وَلَا يَصِحُّ نَسْخُ نَصٍّ بِقِيَاسٍ، إِذْ
مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَلَّا يُخَالِفَ نَصًّا. وَهَذَا
كُلُّهُ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَاسْتِقْرَارِ
الشَّرِيعَةِ فَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ،
وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ
بِهِ إِذِ انْعِقَادُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَإِذَا
وَجَدْنَا إِجْمَاعًا يُخَالِفُ نَصًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ
الْإِجْمَاعَ اسْتَنَدَ إِلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَا نَعْلَمُهُ
نَحْنُ، وَأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ الْمُخَالِفَ مَتْرُوكُ
الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ نُسِخَ وَبَقِيَ سُنَّةً
يُقْرَأُ وَيُرْوَى، كَمَا آيَةُ عِدَّةِ السَّنَةِ «3» فِي
الْقُرْآنِ تُتْلَى، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ نَفِيسٌ،
وَيَكُونُ مِنْ بَابِ نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ،
وَمِثْلُهُ صَدَقَةُ النَّجْوَى. وَقَدْ تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ
دُونَ الْحُكْمِ كَآيَةِ الرَّجْمِ. وَقَدْ تُنْسَخُ
التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ مَعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَقْرَأُ" لَا تَرْغَبُوا عَنْ
آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ" وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَالَّذِي
عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ
فَهُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ، كَمَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَالْحُذَّاقُ عَلَى
جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ
فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَفِي فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً
قَبْلَ فِعْلِهَا بِخَمْسٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
الْإِسْرَاءِ «4» " وَ" الصَّافَّاتِ «5» "، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- لِمَعْرِفَةِ
النَّاسِخِ طُرُقٌ، مِنْهَا- أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كُنْتُ
نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا
وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلَّا في ظروف
__________
(1). راجع ج 18 ص 63.
(2). ج 8 ص 259.
(3). يريد قوله تعالى:" مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ ... " فإنه قد
نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. راجع ج 3 ص 226.
(4). ج 10 ص 210.
(5). ج 15 ص 107.
(2/66)
الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ
غَيْرَ أَلَّا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) وَنَحْوَهُ. وَمِنْهَا-
أَنْ يَذْكُرَ الرَّاوِي التَّارِيخَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:
سَمِعْتُ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَعْلُومًا
قَبْلَهُ. أَوْ يَقُولُ: نُسِخَ حُكْمُ كَذَا بِكَذَا.
وَمِنْهَا- أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ أَنَّهُ
مَنْسُوخٌ وَأَنَّ نَاسِخَهُ مُتَقَدِّمٌ. وَهَذَا الْبَابُ
مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، نَبَّهْنَا مِنْهُ عَلَى مَا
فِيهِ لِمَنِ اقْتَصَرَ كِفَايَةً، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ
لِلْهِدَايَةِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ"
مَا نَنْسَخْ" بِفَتْحِ النُّونِ، مِنْ نَسَخَ، وَهُوَ
الظَّاهِرُ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى مَعْنَى: مَا نَرْفَعْ مِنْ
حُكْمِ آيَةٍ وَنُبْقِي تِلَاوَتَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا نَرْفَعْ مِنْ
حُكْمِ آيَةٍ وَتِلَاوَتِهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ" نُنْسِخْ" بِضَمِ النُّونِ، مِنْ أَنْسَخْتُ
الْكِتَابَ، عَلَى مَعْنَى وَجَدْتُهُ مَنْسُوخًا. قَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: هُوَ غَلَطٌ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ أَبُو عَلِيٍّ:
لَيْسَتْ لُغَةً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: نَسَخَ وَأَنْسَخَ
بِمَعْنًى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا نَجِدُهُ
مَنْسُوخًا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ
وَأَبْخَلْتُهُ، بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا وَبَخِيلًا.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ نَجِدُهُ مَنْسُوخًا إِلَّا
بِأَنْ نَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقُ الْقِرَاءَتَانِ فِي
الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي اللَّفْظِ. وَقِيلَ:" مَا
نَنْسَخْ" مَا نَجْعَلْ لَكَ نَسْخَهُ، يُقَالُ: نَسَخْتُ
الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ، وَانْتَسَخْتُهُ غَيْرِي إِذَا
جَعَلْتَ نَسْخَهُ لَهُ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعَدِّي، لِأَنَّ الْمَعْنَى
يَتَغَيَّرُ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَا نَنْسَخُكَ مِنْ آيَةٍ
يَا مُحَمَّدُ، وَإِنْسَاخُهُ إِيَّاهَا إِنْزَالُهَا
عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَا نُنَزِّلُ عَلَيْكَ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير منها أو مثلها، فيؤول
الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ أَتَى بِخَيْرٍ
مِنْهَا، فَيَصِيرُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا وَهَذَا لَا
يُمْكِنُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ إِلَّا الْيَسِيرُ مِنَ
الْقُرْآنِ. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ
وَفَعَلَ بِمَعْنًى إِذْ لَمْ يُسْمَعْ، وَامْتَنَعَ أَنْ
تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعَدِّي لِفَسَادِ الْمَعْنَى، لَمْ
يَبْقَ مُمْكِنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَحْمَدْتُهُ
وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا أَوْ بَخِيلًا.
الرَّابِعَةَ عشرة- قوله تعالى:" أَوْ نُنْسِها" قَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ
وَالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ
وَمُجَاهِدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ
وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، مِنَ التَّأْخِيرِ، أَيْ
نُؤَخِّرُ نَسْخَ لَفْظِهَا، أَيْ نَتْرُكُهُ فِي آخِرِ «1»
أُمِّ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ «2». وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَقَالَ غَيْرُ عَطَاءٍ: مَعْنَى أَوْ نَنْسَأْهَا:
نُؤَخِّرْهَا عَنِ النَّسْخِ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، من
قولهم:
__________
(1). كذا في نسخة أوالذي في ب، ج، ح، ز:" في أم الكتاب".
(2). في ح:" فلا تكن نسخا".
(2/67)
نَسَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ إِذَا
أَخَّرْتَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: بِعْتُهُ نَسْأً إِذَا
أَخَّرْتَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيَقُولُونَ: نَسَأَ
اللَّهُ فِي أَجَلِكَ، وَأَنْسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ. وَقَدِ
انْتَسَأَ الْقَوْمُ إِذَا تَأَخَّرُوا وَتَبَاعَدُوا،
وَنَسَأْتُهُمْ أَنَا أَخَّرْتَهُمْ. فَالْمَعْنَى نُؤَخِّرُ
نُزُولَهَا أَوْ نَسْخَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ:
نُذْهِبُهَا عَنْكُمْ حَتَّى لَا تُقْرَأَ وَلَا تُذْكَرَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" نُنْسِها" بِضَمِ النُّونِ، مِنَ
النِّسْيَانِ الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ نَتْرُكُهَا
فَلَا نُبَدِّلُهَا وَلَا نَنْسَخُهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالسُّدِّيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ «1» " أَيْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ فَتَرَكَهُمْ
فِي الْعَذَابِ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَمِعْتُ
أَبَا نُعَيْمٍ الْقَارِئَ يَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ بِقِرَاءَةِ
أَبِي عَمْرٍو فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلِيَّ إِلَّا حَرْفَيْنِ،
قَالَ: قَرَأْتُ عَلَيْهِ" أَرِنا «2» " فَقَالَ: أَرِنَا،
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَحْسَبُ الْحَرْفَ الْآخَرَ" أَوْ
نَنْسَأْهَا" فَقَالَ:" أَوْ نُنْسِها". وَحَكَى
الْأَزْهَرِيُّ" نُنْسِها" نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ:
أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ
تَرَكْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أقضيها ... لست بناسيها ومنسيها «3»
أَيْ وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ
الْقِرَاءَةَ بِضَمِ النُّونِ لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى
التَّرْكِ، لَا يُقَالُ: أَنْسَى بِمَعْنَى تَرَكَ، وَمَا
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" أَوْ
نُنْسِها" قَالَ: نَتْرُكُهَا لَا نُبَدِّلُهَا، فَلَا
يَصِحُّ. وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: نَتْرُكُهَا، فَلَمْ
يَضْبِطْ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَالنَّظَرِ أَنَّ مَعْنَى" أَوْ نُنْسِها" نُبِحْ لَكُمْ
تَرْكَهَا، مِنْ نَسِيَ إِذَا تَرَكَ، ثُمَّ تُعَدِّيهِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ مُتَّجَهٌ،
لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلُكَ تَتْرُكُهَا. وَقِيلَ: مِنَ
النِّسْيَانِ عَلَى بَابِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الذِّكْرِ،
عَلَى مَعْنَى أَوْ نُنْسِكَهَا يَا مُحَمَّدُ فَلَا
تَذْكُرُهَا، نُقِلَ بِالْهَمْزِ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى
مَفْعُولَيْنِ: وَهُمَا النَّبِيُّ وَالْهَاءُ، لَكِنِ اسْمُ
النَّبِيِّ مَحْذُوفٌ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قوله تعالى:"
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها" لَفْظَةُ" بِخَيْرٍ" هُنَا صِفَةُ
تَفْضِيلٍ، وَالْمَعْنَى بِأَنْفَعِ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
فِي عَاجِلٍ إِنْ كَانَتِ النَّاسِخَةُ أَخَفَّ، وَفِي آجِلٍ
إن كانت أثقل، وبمثلها
__________
(1). راجع ج 8 ص 199. [ ..... ]
(2). سيأتي الكلام عليها في ص 127 من هذا الجزء.
(3). العقبة (بضم فسكون) من معانيها: الإبل يرعاها الرجل
ويسقها، أي أنا أسوق عقبى وأحسن رعيها.
(2/68)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
إن كانت مستوية. وقال مالك: محكمة فكان؟
مَنْسُوخَةٍ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِأَخْيَرِ
التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَتَفَاضَلُ،
وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها «1» " أَيْ فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ، أَيْ
نَفْعٌ وَأَجْرٌ، لَا الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى
الْأَفْضَلُ، وَيَدُلُّ على القول الأول قوله:" أَوْ
مِثْلِها".
[سورة البقرة (2): آية 107]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَعْلَمْ" جُزِمَ بِلَمْ،
وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ لَا تُغَيِّرُ عَمَلَ الْعَامِلِ،
وَفُتِحَتْ" أَنَّ" لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْب." لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ بِالْإِيجَادِ
وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، وَنُفُوذُ
الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ. وَارْتَفَعَ" مُلْكُ" بالابتداء،
والخبر" اللَّهَ" وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ" أَنَّ". وَالْخِطَابُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ
أُمَّتُهُ، لِقَوْلِهِ:" وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ قُلْ لَهُمْ
يَا مُحَمَّدُ ألم تعلموا أن لله سلطان السموات وَالْأَرْضِ
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ، مِنْ وَلَيْتُ
أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ قُمْتُ بِهِ، وَمِنْهُ وَلِيُّ
الْعَهْدِ، أَيِ الْقَيِّمُ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى" مِنْ دُونِ اللَّهِ" سوى لله
وَبَعْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي
الصَّلْتِ:
يَا نَفْسُ مَا لَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِ ... وَمَا عَلَى
حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ
وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" وَلا نَصِيرٍ" بِالْخَفْضِ عَطْفًا
عَلَى" وَلِيٍّ" وَيَجُوزُ" وَلَا نَصِيرٌ" بِالرَّفْعِ
عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا لَكُمْ
مِنْ دون الله ولي ولا نصير.
[سورة البقرة (2): آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ
مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ
فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ تُرِيدُونَ" هَذِهِ" أَمِ"
الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ
تُرِيدُونَ، وَمَعْنَى الكلام التوبيخ." أَنْ تَسْئَلُوا" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" تُرِيدُونَ"." كَمَا سُئِلَ" الكاف في
موضع
__________
(1). راجع ج 13 ص 244.
(2/69)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (110)
نَصْبِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ، أَيْ سُؤَالًا
كَمَا. وَ" مُوسى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا لَمْ
يُسَمَّ فَاعِلُهُ." مِنْ قَبْلُ": سُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ
يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً، وَسَأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ
يَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: سَأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا
ذَهَبًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" كَمَا سِيلَ"، وَهَذَا عَلَى
لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَلْتُ أَسْأَلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عَلَى بَدَلَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ عَلَى غَيْرِ
قِيَاسٍ فَانْكَسَرَتِ السِّينُ قَبْلَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ:
بَدَلُ الْهَمْزَةِ بعيد. والسواء من كل شي: الْوَسَطُ.
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ:" فِي سَواءِ الْجَحِيمِ". وَحَكَى عِيسَى بْنُ
عُمَرَ قَالَ: مَا زِلْتُ أَكْتُبُ حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي،
وَأَنْشَدَ قَوْلَ حَسَّانَ يَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ
الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
وَقِيلَ: السَّوَاءُ الْقَصْدُ، عَنِ الْفَرَّاءُ، أَيْ ذَهَبَ
عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ وَسَمْتِهِ، أَيْ طَرِيقِ طَاعَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ
سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خُزَيْمَةَ
وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ
نَقْرَؤُهُ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتَّبِعْكَ.
[سورة البقرة (2): الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ
بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ". فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-" وَدَّ" تَمَنَّى،
وَقَدْ تَقَدَّمَ «1»." كُفَّاراً" مَفْعُولٌ ثَانٍ بِ"
يَرُدُّونَكُمْ"." مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" قِيلَ: هُوَ
مُتَعَلِّقٌ بِ" وَدَّ". وَقِيلَ: بِ" حَسَداً"، فَالْوَقْفُ
عَلَى قوله:" كُفَّاراً". و" حَسَداً" مفعول له، أي ود. ذَلِكَ
لِلْحَسَدِ، أَوْ مَصْدَرٌ دَلَّ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى
الْفِعْلِ. وَمَعْنَى" مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" أي من
__________
(1). راجع ص 34 من هذا الجزء.
(2/70)
تِلْقَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدُوهُ
فِي كِتَابٍ وَلَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَفْظَةُ الْحَسَدِ
تُعْطِي هَذَا. فَجَاءَ (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" تَأْكِيدًا
وَإِلْزَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ «1» "،" يَكْتُبُونَ الْكِتابَ
بِأَيْدِيهِمْ"،" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» ".
وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ. الثَّانِيَةُ- الْحَسَدُ
نَوْعَانِ: مَذْمُومٌ وَمَحْمُودٌ، فَالْمَذْمُومُ أَنْ
تَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْ أَخِيكَ
الْمُسْلِمِ، وَسَوَاءٌ تَمَنَّيْتَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ
إِلَيْكَ أَوْ لَا، وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ:" أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» "
وَإِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِأَنَّ فِيهِ تَسْفِيهٌ الْحَقُّ
سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ.
وَأَمَّا الْمَحْمُودُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ
الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا حَسَدَ
إِلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ
يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٍ
آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَآنَاءَ النَّهَارِ (. وَهَذَا الْحَسَدُ مَعْنَاهُ
الْغِبْطَةُ. وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ"
بَابَ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ".
وَحَقِيقَتُهَا: أَنْ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا
لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ وَلَا
يَزُولُ عَنْهُ خَيْرُهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا
مُنَافَسَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَفِي ذلِكَ
فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «4» "." مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" أَيْ من بعد ما تبين لهم الْحَقُّ
لَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى-"
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا" فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:"
فَاعْفُوا" وَالْأَصْلُ اعْفُوُوا حُذِفَتِ الضَّمَّةُ
لِثِقَلِهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ. وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ
بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ.
صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ
ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ
وَتَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً «5» ". الثَّانِيَةُ- هَذِهِ
الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ" إِلَى قَوْلِهِ:" صاغِرُونَ «6» " عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: النَّاسِخُ لَهَا" فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ «7» ". قَالَ أبو عبيدة:
__________
(1). راجع ج 4 ص 267.
(2). ج 6 ص 419.
(3). ج 5 ص 251.
(4). ج 19 ص 264.
(5). ج 16 ص 62.
(6). ج 8 ص 109.
(7). ج 8 ص 72.
(2/71)
كُلُّ آيَةٍ فِيهَا تَرْكٌ لِلْقِتَالِ
فَهِيَ مَكِّيَّةٌ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَحُكْمُهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ
ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُعَانَدَاتِ الْيَهُودِ إِنَّمَا كَانَتْ
بِالْمَدِينَةِ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، رَوَى
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ
عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ «1» وَأُسَامَةُ
وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي
الْحَارِثِ ابن الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَسَارَا
حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
ابْنُ سَلُولَ «2» - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ- فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ
وَالْيَهُودِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ «3»
الدَّابَّةِ خَمَّرَ «4» ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ
وقال: لا تغيروا عَلَيْنَا! فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ،
فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ
سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ
إِنْ كَانَ حَقًّا! فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا،
[ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ «5» [فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ
عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا
نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَتَبَّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ
وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى
دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ([يَا سَعْدُ] «6» أَلَمْ
تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ- يُرِيدُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ- قَالَ كَذَا وَكَذَا) فَقَالَ: أَيْ
رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وأمي! اعف عنه واصفح، فو الذي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَاءَكَ
اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ
اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ «7» عَلَى أَنْ
يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ
اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ،
فَذَلِكَ فِعْلُ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا
__________
(1). فدكية: منسوبة إلى فدك (بالتحريك) قرية بالحجاز بينها
وبين المدينة يومان.
(2). سلول: أم عبد الله بن أبى.
(3). العجاج: الغبار. [ ..... ]
(4). خمر أنفه: غطاه.
(5). زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل:
المنزل.
(6). زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل:
المنزل.
(7). البحيرة (تصغير البحرة): مدينة الرسول عليه السلام، وقد
جاء في رواية مكيرا.
(2/72)
أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» "،
وَقَالَ:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ". فَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ
حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ
بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَاتِ
قُرَيْشٍ، فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ غَانِمِينَ مَنْصُورِينَ، مَعَهُمْ
أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَاتِ قُرَيْشٍ،
قَالَ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ
تَوَجَّهَ «2»، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامُ، فَأَسْلَمُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ"
يَعْنِي قَتْلَ قُرَيْظَةَ وَجَلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ." إِنَّ
اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ" تَقَدَّمَ «3». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ" جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ (أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ قَالَ النَّاسُ
مَا خَلَّفَ وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ). وَخَرَّجَ
الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنْكُمْ
مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ
مَالِهِ. مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ وَمَالُ وَارِثِكَ مَا
أَخَّرْتَ)، لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ:
قَالَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّكُمْ
مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ
إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ
وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ). وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ
«4» فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْقُبُورِ،
أَخْبَارُ مَا عِنْدَنَا أَنَّ نِسَاءَكُمْ قَدْ تَزَوَّجْنَ،
وَدُورَكُمْ قَدْ سُكِنَتْ، وَأَمْوَالَكُمْ قَدْ قُسِمَتْ.
فَأَجَابَهُ هَاتِفٌ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَخْبَارُ مَا
عِنْدَنَا أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ وَجَدْنَاهُ، وَمَا
أَنْفَقْنَاهُ فَقَدْ رَبِحْنَاهُ، وَمَا خَلَّفْنَاهُ فَقَدْ
خَسِرْنَاهُ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحًا ... وَاعْمَلْ
فَلَيْسَ إِلَى الخلو سبيل
__________
(1). راجع ج 4 ص 303.
(2). أي ظهر وجهه.
(3). يراجع ج 1 ص 164 ويا بعدها، 224، 343 وما بعدها، طبعه
ثانية.
(4). بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة.
(2/73)
وَقَالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وَقَالَ آخَرُ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ
الْمَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الْأَلْسُنِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَدْتُكَ إِذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا ... وَالْقَوْمُ
حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورَا
فَاعْمَلْ لِيَوْمِ تَكُونُ فِيهِ إِذَا بَكَوْا ... فِي
يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورَا
وَقَالَ آخَرُ:
سَابِقْ إِلَى الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ ... فَإِنَّمَا
خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ
وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ ... عَلَى الَّذِي
قَدَّمَهُ يَقْدَمُ
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قول أبي العتاهية:
استعد بِمَالِكَ فِي حَيَاتِكَ إِنَّمَا ... يَبْقَى وَرَاءَكَ
مُصْلِحٌ أَوْ مُفْسِدُ
وَإِذَا تَرَكْتَ لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ ... وَأَخُو
الصَّلَاحِ قَلِيلُهُ يَتَزَيَّدُ
وَإِنِ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ لِنَفْسِكَ وَارِثًا ... إِنَّ
الْمُوَرِّثَ نَفْسَهُ لَمُسَدَّدُ
" إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" تقدم «1».
[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً
أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا
مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى " الْمَعْنَى: وَقَالَتِ
الْيَهُودُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ
يَهُودِيًّا. وَقَالَتْ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ
يَكُونَ" هُوداً" بِمَعْنَى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون
__________
(1). يراجع ص 35 من هذا الجزء.
(2/74)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
جَمْعٌ هَائِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ
سَعِيدٌ:" إِلَّا مَنْ كانَ" جَعَلَ" كَانَ" وَاحِدًا عَلَى
لَفْظِ" مَنْ"، ثُمَّ قَالَ هُودًا فَجَمَعَ، لِأَنَّ مَعْنَى"
مَنْ" جَمْعٍ. وَيَجُوزُ" تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ" وَتَقَدَّمَ
«1» الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ" أَصْلُ" هاتُوا"
هَاتِيُوا، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ
الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ
الْمُذَكَّرِ: هَاتِ، مِثْلَ رَامِ، وَفِي الْمُؤَنَّثِ:
هَاتِي، مِثْلِ رَامِي. وَالْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي
يُوقِعُ الْيَقِينَ، وَجَمْعُهُ بَرَاهِينُ، مِثْلُ قُرْبَانٍ
وَقَرَابِينَ، وَسُلْطَانٍ وَسَلَاطِينَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ:
طَلَبُ الدَّلِيلِ هُنَا يَقْضِي إِثْبَاتَ النَّظَرِ
وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ يَنْفِيهِ." إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"
يَعْنِي فِي إِيمَانِكُمْ أَوْ فِي قَوْلِكُمْ تَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ، أَيْ بَيِّنُوا مَا قُلْتُمْ بِبُرْهَانٍ، ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى:" بَلى " رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا
لَهُمْ، أَيْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ" بَلى "
مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ أَمَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ أَحَدٌ؟ فَقِيلَ:" بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ" وَمَعْنَى" أَسْلَمَ" اسْتَسْلَمَ وَخَضَعَ. وَقِيلَ:
أَخْلَصَ عَمَلَهُ. وَخَصَّ الْوَجْهَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ
أَشْرَفَ مَا يُرَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ
الْحَوَاسِّ، وَفِيهِ يَظْهَرُ الْعِزُّ وَالذُّلُّ.
وَالْعَرَبُ تُخْبِرُ بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ الشَّيْءِ.
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الْمَقْصِدَ." وَهُوَ مُحْسِنٌ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ، وَعَادَ الضَّمِيرُ فِي" وَجْهَهُ" و" لِلَّهِ"
عَلَى لَفْظِ" مَنْ" وَكَذَلِكَ" أَجْرُهُ" وَعَادَ فِي"
عَلَيْهِمْ" عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ فِي" يَحْزَنُونَ"
وَقَدْ تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ
النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
__________
(1). راجع المسألة الثانية ص 5 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 1 ص 329 طبعه ثانية.
(2/75)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
مَعْنَاهُ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ
أَنَّ صَاحِبَهُ ليس على شي، وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِرَحْمَةِ
اللَّهِ مِنْهُ." وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ" يعني التوراة
والإنجيل، والحملة في موضع الحال. وَالْمُرَادُ بِ" الَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ" فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ: كُفَّارُ
الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
الْمُرَادُ أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَعْنَى كَذَلِكَ قَالَتِ
الْيَهُودُ قَبْلَ النَّصَارَى. ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدِمَ أَهْلُ
نَجْرَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودٍ، فَتَنَازَعُوا عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ
كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ للأخرى لستم على شي، فنزلت الآية.
[سورة البقرة (2): آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا
كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ
(114)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، و"
أَظْلَمُ" خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و" أَنْ" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" مَساجِدَ"، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ، ثُمَّ
حُذِفَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا، وَحَرْفُ الْخَفْضِ يُحْذَفُ مَعَ" أَنْ"
لِطُولِ الْكَلَامِ. وَأَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ هُنَا بَيْتَ
الْمَقْدِسِ وَمَحَارِيبَهُ. وَقِيلَ الْكَعْبَةُ، وَجُمِعَتْ
لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ، وَالْوَاحِدُ
مَسْجِدٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ)، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ:
مَسْجَدٌ، (بِفَتْحِهَا). قَالَ الْفَرَّاءُ:" كُلُّ مَا كَانَ
عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ، مِثْلَ دَخَلَ يَدْخُلُ، فَالْمَفْعَلُ
مِنْهُ بِالْفَتْحِ اسْمًا كَانَ أَوْ مَصْدَرًا، وَلَا يَقَعُ
فِيهِ الْفَرْقُ، مِثْلُ دَخَلَ يَدْخُلُ مَدْخَلًا، وَهَذَا
مَدْخَلُهُ، إِلَّا أَحْرُفًا مِنَ الْأَسْمَاءِ أَلْزَمُوهَا
كَسْرَ الْعَيْنِ، مِنْ ذَلِكَ: الْمَسْجِدُ وَالْمَطْلِعُ
وَالْمَغْرِبُ وَالْمَشْرِقُ وَالْمَسْقِطُ وَالْمَفْرِقُ
وَالْمَجْزِرُ وَالْمَسْكِنُ وَالْمَرْفِقُ (مِنْ رَفَقَ
يَرْفُقُ) وَالْمَنْبِتُ وَالْمَنْسِكُ (مِنْ نَسَكَ ينسك)،
فجعلوا
(2/76)
الْكَسْرَ عَلَامَةً لِلِاسْمِ، وَرُبَّمَا
فَتَحَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الِاسْمِ". وَالْمَسْجَدُ
(بِالْفَتْحِ): جَبْهَةُ الرَّجُلِ حَيْثُ يُصِيبُهُ نَدْبُ
السُّجُودِ. وَالْآرَابُ «1»: السَّبْعَةُ مَسَاجِدَ، قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَنْ نَزَلَتْ، فَذَكَرَ
الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْتَ نَصَّرَ،
لِأَنَّهُ كَانَ أَخْرَبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي النَّصَارَى، وَالْمَعْنَى
كَيْفَ تَدَّعُونَ أَيُّهَا النَّصَارَى أَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ! وَقَدْ خَرَّبْتُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَمَنَعْتُمُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَمَعْنَى
الْآيَةِ عَلَى هَذَا: التَّعَجُّبُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ تَعْظِيمِهِمْ لَهُ، وَإِنَّمَا
فَعَلُوا مَا فَعَلُوا عَدَاوَةٌ لِلْيَهُودِ. رَوَى سَعِيدٌ
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ
النَّصَارَى، حَمَلَهُمْ إِبْغَاضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ
أَعَانُوا بُخْتَ نَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى
تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا
التَّخْرِيبَ بَقِيَ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ إِذْ مَنَعُوا
الْمُصَلِّينَ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَصَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ مَنَعَ مِنْ كُلِّ
مَسْجِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ،
لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ،
فَتَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ
ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- خَرَابُ
الْمَسَاجِدِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَتَخْرِيبِ بُخْتَ
نَصَّرَ وَالنَّصَارَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَلَى مَا ذُكِرَ
أَنَّهُمْ غَزَوْا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ بَعْضِ
مُلُوكِهِمْ- قِيلَ: اسْمُهُ نطوس «2» بْنُ اسبيسانوس
الرُّومِيُّ فِيمَا ذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ- فَقَتَلُوا
وَسَبَوْا، وَحَرَّقُوا التَّوْرَاةَ، وَقَذَفُوا فِي بَيْتِ
الْمَقْدِسِ الْعَذِرَةَ وَخَرَّبُوهُ. وَيَكُونُ مَجَازًا
كَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ
عَنِ الصَّلَاةِ وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الإسلام فيها خراب لها.
__________
(1). الآراب (جمع إرب بكسر فسكون): الأعضاء، والمراد بالسبعة:
الجبهة واليدان والركبتان والقدمان.
(2). اضطربت الأصول في رسم هذا الاسم، ففي أ، ح، ز،" بطوس"
بالباء الموحدة التحتانية. وفى ب:" تطرس" بالتاء المثناة من
فوق، وفى ح:" نطوس" بالنون.
(2/77)
الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ منع المرأة من الحج إذا كانت
ضرورة «1»، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ،
وَلَا تُمْنَعُ أَيْضًا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ مَا
لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا
تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) وَلِذَلِكَ
قُلْنَا: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا
تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ، وَلَا يُمْنَعُ
بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا الشِّقَاقَ
وَالْخِلَافَ، بِأَنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا إِلَى جَنْبِ
مَسْجِدٍ أَوْ قُرْبِهِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَفْرِيقَ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ وَخَرَابِهِ وَاخْتِلَافَ الْكَلِمَةِ،
فَإِنَّ الْمَسْجِدَ الثَّانِيَ يُنْقَضُ وَيُمْنَعُ مِنْ
بُنْيَانِهِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
فِي الْمِصْرِ جَامِعَانِ، وَلَا لِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ
إِمَامَانِ، وَلَا يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَتَانِ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا كُلِّهِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ"
بَرَاءَةٌ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي" النُّورِ
«3» " حُكْمُ الْمَسَاجِدِ وَبِنَائِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ
الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ
وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إِثْمًا.
الْخَامِسَةُ- كُلُّ مَوْضِعٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ
فِيهِ وَيُسْجَدَ لَهُ يُسَمَّى مَسْجِدًا، قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا)، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَأَجْمَعَتِ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إِذَا عُيِّنَتْ
لِلصَّلَاةِ بِالْقَوْلِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ
الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا وَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا
وَحَجَزَهُ عَلَى النَّاسِ وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ
لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ
الْمَسْجِدِيَّةِ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ كَانَ
حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ، وَخَرَجَ
عَنِ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا
خائِفِينَ"" أُولئِكَ" مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ."
خائِفِينَ" حَالٌ، يَعْنِي إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا
الْمُسْلِمُونَ وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا
يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا. فَإِنْ
دَخَلُوهَا، فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ
لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا. وَفِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ دُخُولُ
الْمَسْجِدِ بِحَالٍ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ" إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي
النَّصَارَى رَوَى أنه مر زمان
__________
(1). الصرورة: التي لم تحج قط. [ ..... ]
(2). راجع ج 8 ص 254 وص 104.
(3). ج 12 ص 265.
(2/78)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
بَعْدَ بِنَاءِ عُمَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
فِي الْإِسْلَامِ لَا يَدْخُلُهُ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا أُوجِعَ
ضَرْبًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَعَبَّدَهُمْ. وَمَنْ جَعَلَهَا
فِي قُرَيْشٍ قَالَ: كَذَلِكَ نُودِيَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ
الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ).
وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ وَمَقْصُودُهُ الْأَمْرُ، أَيْ
جَاهِدُوهُمْ وَاسْتَأْصِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ
مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِلَّا خَائِفًا،
كَقَوْلِهِ:" وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ
«1» " فَإِنَّهُ نَهْيٌ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ" قِيلَ الْقَتْلُ لِلْحَرْبِيِّ، وَالْجِزْيَةُ
لِلذِّمِّيِّ، عَنْ قَتَادَةَ. السُّدِّيُّ: الْخِزْيُ لَهُمْ
فِي الدُّنْيَا قِيَامُ الْمَهْدِيِّ، وَفَتْحُ عَمُّورِيَّةَ
وَرُومِيَّةَ وَقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
مُدُنِهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ.
وَمَنْ جَعَلَهَا فِي قُرَيْشٍ جَعَلَ الْخِزْيَ عَلَيْهِمْ
فِي الْفَتْحِ، وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ مَاتَ منهم
كافرا.
[سورة البقرة (2): آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ"" الْمَشْرِقُ" مَوْضِعُ
الشُّرُوقِ." وَالْمَغْرِبُ" مَوْضِعُ الْغُرُوبِ، أَيْ هُمَا
لَهُ مِلْكٌ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِهَاتِ
وَالْمَخْلُوقَاتِ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ، كَمَا
تَقَدَّمَ. وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ
تَشْرِيفًا، نَحْوُ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ،
وَلِأَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ، عَلَى مَا
يَأْتِي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَيْنَما
تُوَلُّوا" شَرْطٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ، وَ" أَيْنَ"
الْعَامِلَةُ، وَ" مَا" زَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ" فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تَوَلَّوْا" بِفَتْحِ
التَّاءِ وَاللَّامِ، وَالْأَصْلُ تتولوا. و" ثم" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْنَاهَا الْبُعْدُ، إِلَّا
أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ غَيْرُ مُعْرَبَةٍ
لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ، تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هُنَاكَ
لِلْبُعْدِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْقُرْبَ قُلْتَ هُنَا.
الثَّالِثَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي
نَزَلَتْ فِيهِ" فَأَيْنَما تُوَلُّوا" عَلَى خَمْسَةِ
أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى إِلَى غير القبلة في ليلة
مظلمة، أخرجه
__________
(1). راجع ج 14 ص 228.
(2/79)
التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ
الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ،
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ
لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ
حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو
الرَّبِيعِ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ
أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، قَالُوا: إِذَا صَلَّى فِي
الْغَيْمِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ اسْتَبَانَ لَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ
جَائِزَةٌ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ:
تُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى مَا
أُمِرَ، وَالْكَمَالُ يُسْتَدْرَكُ فِي الْوَقْتِ،
اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ فِيمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ
أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ
أَنَّهُ يُعِيدُ مَعَهُمْ، وَلَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ
اسْتِحْبَابًا إِلَّا مَنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ أَوْ
شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ جِدًّا مُجْتَهِدًا، وَأَمَّا مَنْ
تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ قَلِيلًا مُجْتَهِدًا فَلَا
إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَالَ
الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِيهِ، لِأَنَّ
الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَمَا قَالَهُ
مَالِكٌ أَصَحُّ، لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ
الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ، وَتُبِيحُهَا
أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يَتَنَفَّلُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ
بِهِ رَاحِلَتُهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى
رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ"
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". وَلَا خِلَافَ
بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ. وَلَا
يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الْقِبْلَةَ عَامِدًا بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، عَلَى مَا
يَأْتِي. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَرِيضِ يُصَلِّي
عَلَى مَحْمَلِهِ، فَمَرَّةً قَالَ: لَا يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ
الْبَعِيرِ فَرِيضَةً وَإِنِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ. قَالَ
سَحْنُونُ: فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ.
وَمَرَّةً قَالَ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي بِالْأَرْضِ
إِلَّا إِيمَاءً فَلْيُصَلِّ عَلَى الْبَعِيرِ بَعْدَ أَنْ
يُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ.
(2/80)
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِأَحَدٍ صَحِيحٍ أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً إِلَّا بِالْأَرْضِ
إِلَّا فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ خَاصَّةً، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُسَافِرِ سَفَرًا
لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُتَطَوَّعُ عَلَى
الرَّاحِلَةِ إِلَّا فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ
الصَّلَاةُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَسْفَارَ الَّتِي حُكِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِيهَا كَانَتْ مِمَّا تُقْصَرُ
فِيهِ الصَّلَاةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمَا وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى
الرَّاحِلَةِ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَسَوَاءٌ
كَانَ مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْ لَا، لِأَنَّ
الْآثَارَ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ سَفَرٍ مِنْ سَفَرٍ،
فَكُلُّ سَفَرٍ جَائِزٌ ذَلِكَ فِيهِ، إِلَّا أن يخص شي مِنَ
الْأَسْفَارِ بِمَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: يُصَلِّي فِي الْمِصْرِ عَلَى الدَّابَّةِ
بِالْإِيمَاءِ، لِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حِمَارٍ فِي أَزِقَّةِ
الْمَدِينَةِ يُومِئُ إِيمَاءً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَجُوزُ
لِكُلِّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا أَنْ
يَتَنَفَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ وَرَاحِلَتِهِ وَعَلَى
رِجْلَيْهِ [بِالْإِيمَاءِ]. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّ مذهبهم جواز التنقل عَلَى الدَّابَّةِ فِي
الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَضَرِ،
فَقَالَ: أَمَّا فِي السَّفَرِ فَقَدْ سَمِعْتُ، وَمَا
سَمِعْتُ فِي الْحَضَرِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَنْ
تَنَفَّلَ فِي مَحْمَلِهِ تَنَفَّلَ جَالِسًا، قِيَامُهُ
تَرَبُّعٌ، يَرْكَعُ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي
النَّجَاشِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ دَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ
إِلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا:
كَيْفَ نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ؟ وَهُوَ يُصَلِّي لِغَيْرِ
قِبْلَتِنَا، وَكَانَ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ-
وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ-
يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ
صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ،
وَنَزَلَ فِيهِ:" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «1» " فَكَانَ هَذَا عُذْرًا
لِلنَّجَاشِيِّ، وَكَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَجَازَ
الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَغْرَبِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ
عَلَى الْمَيِّتِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى
عَلَى الغائب، وقد كنت ببغداد
__________
(1). راجع ج 4 ص 322.
(2/81)
فِي مَجْلِسِ الْإِمَامِ فَخْرِ
الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ خُرَاسَانَ
فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ حَالَ فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ لَهُ: مَاتَ،
فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!
ثُمَّ يَقُولُ لَنَا: قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ، فَيَقُومُ
فَيُصَلِّي عَلَيْهِ بِنَا، وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
مِنَ الْمُدَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ سِتَّةُ
أَشْهَرِ. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ صلاة النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النَّجَاشِيِّ. وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ: النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَخْصُوصٌ لِثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ لَهُ جَنُوبًا
وَشَمَالًا حَتَّى رَأَى نَعْشَ النَّجَاشِيِّ، كَمَا دُحِيَتْ
لَهُ شَمَالًا وَجَنُوبًا حَتَّى رَأَى الْمَسْجِدَ
الْأَقْصَى. وَقَالَ الْمُخَالِفُ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي
رُؤْيَتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي لُحُوقِ بَرَكَتِهِ.
الثَّانِي- أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ هُنَاكَ
وَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُومُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُخَالِفُ: هَذَا مُحَالٌ عَادَةً! مَلِكٌ عَلَى
دِينٍ لَا يَكُونُ لَهُ أَتْبَاعٌ، وَالتَّأْوِيلُ
بِالْمُحَالِ مُحَالٌ. الثَّالِثُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّلَاةِ
عَلَى النَّجَاشِيِّ إِدْخَالَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ
وَاسْتِئْلَافَ بَقِيَّةِ الْمُلُوكِ بَعْدَهُ إِذَا رَأَوْا
الِاهْتِمَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا. قَالَ الْمُخَالِفُ:
بَرَكَةُ الدُّعَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنْ سِوَاهُ تَلْحَقُ الْمَيِّتَ بِاتِّفَاقٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي صَلَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
النَّجَاشِيِّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ وَمَنْ
آمَنَ مَعَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى
الْمَيِّتِ أَثَرٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَيَدْفِنُونَهُ
بِغَيْرِ صَلَاةٍ فَبَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ إِذَا
رَآهُ فَمَا صَلَّى عَلَى غَائِبٍ وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَى
مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ، وَالْغَائِبُ مَا لَا يُرَى. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ- قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
كَانَتِ الْيَهُودُ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ صَلَاةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَقَالُوا: مَا اهْتَدَى إِلَّا بِنَا، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى
الْكَعْبَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَنَزَلَتْ:"
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" فَوَجْهُ النَّظْمِ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَنْكَرُوا
أَمْرَ الْقِبْلَةِ بَيَّنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ لَهُ أَنْ
يَتَعَبَّدَ عِبَادُهُ بِمَا شَاءَ، فَإِنْ شَاءَ أَمَرَهُمْ
بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنْ شَاءَ
أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فِعْلٌ لَا
حُجَّةَ «1» عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
__________
(1). في ب، ج:" لا حجر".
(2/82)
القول الخامس- أن الآية منسوخة بقوله:"
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» "
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ فِي
الِابْتِدَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ كَيْفَ شَاءَ ثُمَّ
نُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّاسِخُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ"
أَيْ تِلْقَاءَهُ، حَكَاهُ أَبُو عِيسَى الترمذي. وقول سادس-
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ،
الْمَعْنَى: أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ شَرْقٍ وَغَرْبٍ فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِهِ وَهُوَ
الْكَعْبَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَابْنِ جُبَيْرٍ
لَمَّا نَزَلَتْ:" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" قَالُوا:
إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ". وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ:
أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي أَسْفَارِكُمْ وَمُنْصَرِفَاتكُمْ
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ
أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ
بِلَادَ لله أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تَسَعُكُمْ، فَلَا
يَمْنَعُكُمْ تَخْرِيبُ مَنْ خَرَّبَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ نَحْوَ قِبْلَةِ اللَّهِ أَيْنَمَا
كُنْتُمْ مِنْ أَرْضِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ صُدَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ.
فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً
فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا،
لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ. يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ مَعْنَى" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ": وَلُّوا وُجُوهكُمْ نَحْوَ وَجْهِ اللَّهِ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِذَبْحِهِ إِلَى
الْأَرْضِ. الرَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ
الْوَجْهِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، فَقَالَ الْحُذَّاقُ: ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى
الْوُجُودِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالْوَجْهِ مِنْ مَجَازِ
الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْوَجْهُ أَظْهَرَ الْأَعْضَاءِ فِي
الشَّاهِدِ وَأَجَلَّهَا قَدْرًا. وَقَالَ ابْنُ فُوْرَكَ:
قَدْ تُذْكَرُ صِفَةُ الشَّيْءِ وَالْمُرَادُ بِهَا
الْمَوْصُوفُ تَوَسُّعًا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ
عِلْمَ فُلَانٍ الْيَوْمَ، وَنَظَرْتُ إِلَى عِلْمِهِ،
وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَأَيْتُ الْعَالِمَ وَنَظَرْتُ
إِلَى الْعَالِمِ، كَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَ الْوَجْهُ هُنَا،
وَالْمُرَادُ مَنْ لَهُ الْوَجْهُ، أَيِ الْوُجُودُ. وَعَلَى
هَذَا يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ «2» " لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ الْوَجْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" إِلَّا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «3» " أَيِ الَّذِي له
الوجه. قال ابن عباس:
__________
(1). راجع ص 159، 168 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 19 ص 128.
(3). راجع ج 20 ص 88.
(2/83)
وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
الْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ،
كَمَا قَالَ:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ «1» ". وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: تِلْكَ
صِفَةٌ ثَابِتَةٌ بِالسَّمْعِ زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ
الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْقَدِيمِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَضَعَّفَ أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْقَوْلَ،
وَهُوَ كَذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ وُجُودُهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ هُنَا الْجِهَةُ الَّتِي
وُجِّهْنَا إِلَيْهَا أَيِ الْقِبْلَةُ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ
الْقَصْدُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ
الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَثَمَّ رِضَا اللَّهِ وَثَوَابُهُ، كَمَا
قَالَ:" إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ" أَيْ
لِرِضَائِهِ وَطَلَبِ ثَوَابِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يبتغي به
وجه لله بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ).
وَقَوْلُهُ: (يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ
فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ عَزَّ
وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا
فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِكَ يَا رَبَّنَا مَا
رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ إِنَّ
هَذَا كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي وَلَا أَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ
إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي) أَيْ خَالِصًا لِي،
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَثَمَّ
اللَّهُ، وَالْوَجْهُ صِلَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" وَهُوَ
مَعَكُمْ". قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالْقُتَبِيُّ، وَنَحْوُهُ
قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ" أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ
فِي دِينِهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَيْسَ فِي
وُسْعِهِمْ. وَقِيلَ:" واسِعٌ" بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسَعُ
عِلْمُهُ كُلَّ شي، كَمَا قَالَ:" وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
«2» ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَاسِعُ هُوَ الْجَوَادُ
الَّذِي يَسَعُ عَطَاؤُهُ كل شي، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «3» ". وَقِيلَ:
وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ أَيْ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ.
وَقِيلَ: مُتَفَضِّلٌ عَلَى الْعِبَادِ وَغَنِيٌّ عَنْ
أَعْمَالِهِمْ، يقال: فلان يسع ما يسئل، أَيْ لَا يَبْخَلُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ
«4» " أَيْ لِيُنْفِقِ الْغَنِيُّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ.
وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي الكتاب" الأسنى" والحمد لله.
[سورة البقرة (2): آية 116]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)
__________
(1). راجع ج 17 ص 165.
(2). راجع ج 11 ص 243.
(3). راجع ج 7 ص 296.
(4). راجع ج 18 ص 170.
(2/84)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً" هَذَا
إِخْبَارٌ عَنْ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ. وَقِيلَ عَنِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ. وَقِيلَ عَنْ كَفَرَةِ الْعَرَبِ فِي
قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ
مِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنِ الْجَهَلَةِ الْكُفَّارِ فِي"
مَرْيَمَ «1» " وَ" الْأَنْبِيَاءِ «2» ". الثَّانِيَةُ-
قوله:" سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ" الْآيَةُ. خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ
آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي
لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمُهُ
إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ
صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا". الثَّالِثَةُ-" سُبْحَانَ" مَنْصُوبٌ
عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ التَّبْرِئَةُ وَالتَّنْزِيهُ
وَالْمُحَاشَاةُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً،
بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، أَحَدٌ فِي
صِفَاتِهِ، لَمْ يَلِدْ فَيَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبَةٍ،" أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ" وَلَمْ يُولَدْ فَيَكُونُ مَسْبُوقًا، جَلَّ
وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا! " بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ" مَا" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي
الْمَجْرُورِ، أَيْ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ بِالْإِيجَادِ
وَالِاخْتِرَاعِ. وَالْقَائِلُ بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة
السموات وَالْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنًى
سُبْحَانَ اللَّهِ: بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ «3».
الرَّابِعَةُ- لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ
الْوَالِدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وهو لا يشبهه شي،
وَقَدْ قَالَ:" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «4» "، كَمَا قَالَ هُنَا:"
بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" فَالْوَلَدِيَّةُ
تَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ، وَالْقِدَمُ يَقْتَضِي
الْوَحْدَانِيَّةَ وَالثُّبُوتَ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ
الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ
الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْبُنُوَّةَ تُنَافِي
الرِّقَّ وَالْعُبُودِيَّةَ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ" مَرْيَمَ «5» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-
فَكَيْفَ يَكُونُ وَلَدَ عَبْدًا! هَذَا مُحَالٌ، وما أدى إلى
المحال محال.
__________
(1). راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.
(2). راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281. [ ..... ]
(3). راجع ج 1 ص 276 طبعه ثانية.
(4). راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.
(5). راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.
(2/85)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (117)
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُلٌّ
لَهُ قانِتُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ
كُلُّهُمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ." قانِتُونَ"
أَيْ مُطِيعُونَ وَخَاضِعُونَ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا
تَقْنُتُ لله، أي تخضع وتطبع. وَالْجَمَادَاتُ قُنُوتُهُمْ فِي
ظُهُورِ الصَّنْعَةِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ. فَالْقُنُوتُ
الطَّاعَةُ، وَالْقُنُوتُ السُّكُوتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ
الرَّجُلُ صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى نَزَلَتْ:"
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ
وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. وَالْقُنُوتُ: الصَّلَاةُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَتْلُو كُتُبَهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ
النَّاسِ اعْتَزَلَ
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ:" كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ" أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْحَسَنُ: كُلٌّ
قَائِمٌ بِالشَّهَادَةِ أَنَّهُ عَبْدُهُ. وَالْقُنُوتُ فِي
اللُّغَةِ أَصْلُهُ الْقِيَامُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:
(أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ) قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
فَالْخَلْقُ قَانِتُونَ، أَيْ قَائِمُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ
إِمَّا إِقْرَارًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَافِ
ذَلِكَ، فَأَثَرُ الصَّنْعَةِ بَيِّنٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ:
أَصْلُهُ الطَّاعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ". وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ
بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ «1» ".
[سورة البقرة (2): آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى:" بَدِيعُ
السَّماواتِ" فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَارْتَفَعَ عَلَى
خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُبْدِعٌ،
كَبَصِيرٍ مِنْ مُبْصِرٍ. أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ لَا عَنْ
مِثَالٍ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بديع السموات وَالْأَرْضِ،
أَيْ مُنْشِئُهَا وَمُوجِدُهَا وَمُبْدِعُهَا وَمُخْتَرِعُهَا
عَلَى غَيْرِ حَدٍّ وَلَا مِثَالٍ. وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ مَا
لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ مُبْدِعٌ، وَمِنْهُ
أَصْحَابُ الْبِدَعِ. وَسُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً
لِأَنَّ قَائِلَهَا ابْتَدَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ أَوْ
مَقَالِ إِمَامٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ (وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ
هَذِهِ) يَعْنِي قيام رمضان.
__________
(1). راجع ج 3 ص 213.
(2/86)
الثَّانِيَةُ- كُلُّ بِدْعَةٍ صَدَرَتْ
مِنْ مَخْلُوقٍ فَلَا يخلو أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ فِي
الشَّرْعِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ كَانَتْ
وَاقِعَةً تَحْتَ عُمُومِ مَا نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَخَصَّ
رَسُولَهُ عَلَيْهِ، فَهِيَ فِي حَيِّزِ الْمَدْحِ. وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مِثَالُهُ مَوْجُودًا كَنَوْعٍ مِنَ الْجُودِ
وَالسَّخَاءِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ، فَهَذَا فِعْلُهُ مِنَ
الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفَاعِلُ
قَدْ سُبِقَ إِلَيْهِ. وَيَعْضُدُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ «1»، لَمَّا
كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَدَاخِلَةً فِي حَيِّزِ
الْمَدْحِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهَا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَهَا
وَلَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، وَلَا جَمَعَ النَّاسَ،
عَلَيْهَا، فَمُحَافَظَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَيْهَا، وَجَمْعُ النَّاسِ لَهَا، وَنَدْبُهُمْ إِلَيْهَا،
بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ مَمْدُوحَةٌ. وَإِنْ
كانت في خلاف ما أمر لله بِهِ وَرَسُولُهُ فَهِيَ فِي حَيِّزِ
الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْخَطَّابِيُّ
وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: (وَشَرُّ الْأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) يُرِيدُ مَا لَمْ
يُوَافِقْ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، أَوْ عَمَلَ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ:
(مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ
أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شي وَمَنْ سَنَّ فِي
الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا
وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شي (. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى
مَا ابْتُدِعَ مِنْ قَبِيحٍ وَحَسَنٍ، وَهُوَ أَصْلُ هَذَا
الْبَابِ، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ، لَا رَبَّ
غَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قَضى
أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أَيْ إِذَا
أَرَادَ إِحْكَامَهُ وَإِتْقَانَهُ- كَمَا سَبَقَ فِي
عِلْمِهِ- قَالَ لَهُ كُنْ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَضَاءُ
الشَّيْءِ إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ،
وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَاضِي، لِإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فَقَدْ
فَرَغَ مِمَّا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
قَضَى فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهِ، مَرْجِعِهَا إِلَى
انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ
صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ «2»
وَقَالَ الشَّمَّاخُ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ:
قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بواثق في
أكمامها لم تفتق
__________
(1). يريد: قيام رمضان.
(2). مسرودتان: درعان مخروزتان. والصنع: الحاذق بالعمل.
(2/87)
قَالَ عُلَمَاؤُنَا:" قَضَى" لَفْظٌ
مُشْتَرَكٌ، يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «1» "
أَيْ خَلَقَهُنَّ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ «2» " أَيْ أَعْلَمْنَا. وَيَكُونُ بِمَعْنَى
الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «3» ". وَيَكُونُ بِمَعْنَى
الْإِلْزَامِ وَإِمْضَاءِ الْأَحْكَامِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ
الْحَاكِمُ قَاضِيًا. وَيَكُونُ بِمَعْنَى تَوْفِيَةِ
الْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ «4» ". وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أَيْ إذا أراد خلق شي. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ:" قَضى " مَعْنَاهُ قَدَّرَ، وَقَدْ يجئ بِمَعْنَى
أَمْضَى، وَيُتَّجَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْنَيَانِ
عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ
وَأَمْضَى فِيهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَمْضَى
عِنْدَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَمْراً" الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ
بِمَصْدَرِ أَمَرَ يَأْمُرُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْأَمْرُ
فِي الْقُرْآنِ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا:
الْأَوَّلُ- الدِّينُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" حَتَّى جاءَ
الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ «5» " يَعْنِي دِينَ اللَّهِ
الْإِسْلَامَ. الثَّانِي- الْقَوْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَإِذا جاءَ أَمْرُنا" يَعْنِي قَوْلُنَا،
وَقَوْلُهُ:" فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ" يَعْنِي
قَوْلَهُمْ. الثَّالِثُ- الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ «6» " يَعْنِي لَمَّا
وَجَبَ الْعَذَابُ بِأَهْلِ النَّارِ. الرَّابِعُ- عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِذا قَضى
أَمْراً «7» " يَعْنِي عِيسَى، وَكَانَ فِي عِلْمِهِ أَنْ
يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. الْخَامِسُ- الْقَتْلُ بِبَدْرٍ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ «8» "
يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «9» " يَعْنِي قَتْلَ
كُفَّارِ مَكَّةَ. السَّادِسُ- فَتْحُ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
«10» " يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ.
__________
(1). راجع ج 15 ص 345.
(2). راجع ج 10 ص 214، 36 2.
(3). راجع ج 10 ص 214، 36 2.
(4). راجع ج 13 ص 280.
(5). راجع ج 8 ص 157.
(6). راجع ج 9 ص 356.
(7). راجع ج 4 ص 93.
(8). راجع ج 15 ص 334. [ ..... ]
(9). راجع ج 8 ص 22.
(10). راجع ج 8 ص 95.
(2/88)
السابع- قتل قريظة وجلاء بني الضير، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ". الثَّامِنُ- الْقِيَامَةُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" أَتى أَمْرُ اللَّهِ". التَّاسِعُ- الْقَضَاءُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُدَبِّرُ الْأَمْرَ" يَعْنِي
الْقَضَاءَ. الْعَاشِرُ- الْوَحْيُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ" يَقُولُ:
يُنَزِّلُ الْوَحْيَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ،
وَقَوْلُهُ:" يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ" يَعْنِي
الْوَحْيَ. الْحَادِيَ عَشَرَ- أَمْرُ الْخَلْقِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ"
يَعْنِي أُمُورَ الْخَلَائِقِ. الثَّانِيَ عَشَرَ- النَّصْرُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
مِنْ شَيْءٍ". يَعْنُونَ النَّصْرَ،" قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ" يَعْنِي النَّصْرَ. الثَّالِثَ عَشَرَ-
الذَّنْبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها" يَعْنِي جَزَاءَ ذَنْبِهَا. الرَّابِعَ عَشَرَ-
الشَّأْنُ وَالْفِعْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" أَيْ فِعْلُهُ وَشَأْنُهُ، وَقَالَ:"
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ" أَيْ
فِعْلِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُنْ" قِيلَ:
الْكَافُ مِنْ كَيْنُونِهِ، وَالنُّونُ مِنْ نُورِهِ، وَهِيَ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَعُوَذُ
بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ).
وَيُرْوَى: (بِكَلِمَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ) عَلَى
الْإِفْرَادِ. فَالْجَمْعُ لِمَا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ
فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَإِذَا قَالَ لكل أمر كن، ولكل شي
كُنْ، فَهُنَّ كَلِمَاتٌ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: (عَطَائِي
كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي
حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ. وَالْكَلِمَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ
بِمَعْنَى الْكَلِمَاتِ أَيْضًا، لَكِنْ لَمَّا تَفَرَّقَتِ
الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْأُمُورِ فِي الْأَوْقَاتِ
صَارَتْ كَلِمَاتٍ وَمَرْجِعُهُنَّ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِنَّمَا قِيلَ" تَامَّةٌ" لِأَنَّ أَقَلَّ الْكَلَامِ
عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: حَرْفٌ
مُبْتَدَأٌ، وَحَرْفٌ تُحْشَى بِهِ الْكَلِمَةُ، وَحَرْفٌ
يُسْكَتُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَهُوَ
عِنْدُهُمْ مَنْقُوصٌ، كَيَدٍ
(2/89)
وَدَمٍ وَفَمٍ، وَإِنَّمَا نَقَصَ
لِعِلَّةٍ. فَهِيَ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْمَنْقُوصَاتِ
لِأَنَّهَا عَلَى حَرْفَيْنِ، وَلِأَنَّهَا كَلِمَةٌ
مَلْفُوظَةٌ بِالْأَدَوَاتِ. وَمِنْ رَبِّنَا تَبَارَكَ
وَتَعَالَى تَامَّةٌ، لِأَنَّهَا بِغَيْرِ الْأَدَوَاتِ،
تَعَالَى عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَيَكُونُ" قُرِئَ بِرَفْعِ النُّونِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَهُوَ يَكُونُ، أَوْ
فَإِنَّهُ يَكُونُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى"
يَقُولُ"، فَعَلَى الْأَوَّلِ كَائِنًا بَعْدَ الْأَمْرِ،
وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ
إِذَا هُوَ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَعَلَى الثَّانِي كَائِنًا مَعَ الْأَمْرِ، وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: أَمْرُهُ لِلشَّيْءِ بِ" كُنْ" لَا
يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَلَا
يَكُونُ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ
مَوْجُودٌ بِالْأَمْرِ، وَلَا مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ
مَأْمُورٌ بِالْوُجُودِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ:
وَنَظِيرُهُ قِيَامُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا
يَتَقَدَّمُ دُعَاءَ اللَّهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، كَمَا
قَالَ" ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا
أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «1» ". وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا
الْقَوْلَ وَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى،
لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ مَعَ «2» التَّكْوِينِ
وَالْوُجُودِ. وَتَلْخِيصُ الْمُعْتَقَدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ آمِرًا
لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودِهَا، قَادِرًا مَعَ
تَأَخُّرِ الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا مَعَ تَأَخُّرِ
الْمَعْلُومَاتِ. فَكُلُّ مَا فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي
الِاسْتِقْبَالَ فَهُوَ بِحَسَبِ الْمَأْمُورَاتِ، إِذِ
المحدثات تجئ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَكُلُّ مَا يُسْنَدُ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ فَهُوَ قديم لم
يَزَلْ. وَالْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ" كُنْ":
هُوَ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ
الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ: فَفِي أَيِّ حَالٍ يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ؟ أَفِي حَالِ عَدَمِهِ، أَمْ فِي حَالِ
وُجُودِهِ؟ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عَدَمِهِ اسْتَحَالَ أَنْ
يَأْمُرَ إِلَّا مَأْمُورًا، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ
الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ آمِرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ
وُجُودِهِ فَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا
بِالْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ حَادِثٌ؟
قِيلَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا-
أَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نُفُوذِ
أَوَامِرِهِ فِي خَلْقِهِ الْمَوْجُودِ، كَمَا أَمَرَ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَلَا
يَكُونُ هَذَا وَارِدًا فِي إِيجَادِ المعدومات.
__________
(1). راجع ج 14 ص 19.
(2). في أ:" من جهة التكوين".
(2/90)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا
آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
الثاني- أن الله عز وجل عالم بما هُوَ
كَائِنٌ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَكَانَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَمْ
تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَةٌ بِعِلْمِهِ قَبْلَ كَوْنِهَا
مُشَابِهَةً لِلَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ
لَهَا: كُونِي. وَيَأْمُرُهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَالِ
الْعَدَمِ إِلَى حَالِ الْوُجُودِ، لِتَصَوُّرِ جَمِيعِهَا
لَهُ وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَالِ الْعَدَمِ. الثَّالِثُ-
أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَامٌّ عَنْ
جَمِيعِ مَا يُحْدِثُهُ وَيُكَوِّنُهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ
وَإِنْشَاءَهُ كَانَ، وَوُجِدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
هُنَاكَ قَوْلٌ يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ يُرِيدُهُ،
فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا،
كَقَوْلِ أبي النجم:
قد قالت الأتساع لِلْبَطْنِ الْحَقِ
وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الظَّهْرَ
قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ، وَكَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ
الدُّوسِيِّ:
فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فراخه ... إذا رام
تطيارا يقل لَهُ قَعِ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
قَالَتْ جَنَاحَاهُ لساقيه الحقا ... ونجيا لحمكما أن يمزقا
[سورة البقرة (2): آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ
أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ. مُجَاهِدٌ: النَّصَارَى،
وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الْآيَةِ أَوَّلًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وقتادة:
مشركو العرب. و" لَوْلا" بِمَعْنَى" هَلَّا" تَحْضِيضٌ، كَمَا
قَالَ الْأَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ «1»:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي
ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنعا
__________
(1). كذا في الأصول. وقال البغدادي صاحب خزانة الأدب:" نسبه
ابن الشجري في أماليه للأشهب، والصحيح أنه من قصيدة لجرير، لا
خلاف بين الرواة أنها له، وهي جواب عن قصيدة تقدمت لفرزدق على
قافيها". وقضية عقر الإبل مشهورة في التواريخ. والنيب (بكسر
النون وسكون الياء جمع ناب): الناقة المسنة. وضوطرى: قيل:
الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء عنده. وقيل: الحمقى. والكمي:
الشجاع. والمقنع: الذي على رأسه البيضة والمغفر. راجع خزانة
الأدب في الشاهد الرابع والستين بعد المائة. وكتاب المغني في"
لولا" والنقائض ص 833 طبع أوربا، وذيل أمالى القالي.
(2/91)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ (119)
وَلَيْسَتْ هَذِهِ" لَوْلَا" الَّتِي
تُعْطِي مَنْعَ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا عِنْدَ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ أَنَّ" لَوْلَا"
بِمَعْنَى التَّحْضِيضِ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ
مُظْهَرًا أَوْ مُقَدَّرًا، وَالَّتِي لِلِامْتِنَاعِ يَلِيهَا
الِابْتِدَاءُ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِحَذْفِ الْخَبَرِ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ هَلَّا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ بِنُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعْلَمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ فَنُؤْمِنُ بِهِ، أَوْ يَأْتِينَا بِآيَةٍ
تَكُونُ عَلَامَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. والآية: الدلالة
والعلامة، وقد تقدم «1»." الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ"
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ" كُفَّارَ الْعَرَبِ، أَوِ الْأُمَمَ
السَّالِفَةَ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ" الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودَ فِي
قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" النَّصَارَى."
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" قِيلَ: فِي التَّعْنِيتِ
وَالِاقْتِرَاحِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ."
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ."
قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا
تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً"" بَشِيراً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ،" وَنَذِيراً"
عُطِفَ عَلَيْهِ، وقد تقدم معناهما «3»." وَلا تُسْئَلُ عَنْ
أَصْحابِ الْجَحِيمِ" قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنْزَلَ
اللَّهُ بَأْسَهُ بِالْيَهُودِ لَآمَنُوا)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" بِرَفْعٍ
تُسْأَلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَيَكُونُ فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ بِعَطْفِهِ عَلَى" بَشِيراً وَنَذِيراً".
وَالْمَعْنَى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا غَيْرَ مَسْئُولٍ. وَقَالَ سَعِيدٌ الْأَخْفَشُ:
وَلَا تَسْأَلُ (بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ)،
وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَطْفًا عَلَى" بَشِيراً
وَنَذِيراً". وَالْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْرَ سَائِلٍ عَنْهُمْ، لِأَنَّ عِلْمَ
اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ يُغْنِي عَنْ
سُؤَالِهِ عَنْهُمْ. هَذَا مَعْنَى غَيْرِ سَائِلٍ. وَمَعْنَى
غَيْرِ مَسْئُولٍ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ
بَعْدَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (لَيْتَ
شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ). فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ" وَلَا تَسْأَلْ" جَزْمًا
عَلَى النَّهْيِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نافع وحده، وفية وجهان:
__________
(1). راجع ج 1 ص 66 طبعه ثانية.
(2). راجع ج 1 ص 180 طبعه ثانية.
(3). راجع ج 1 ص 184، 238 طبعه ثانية.
(2/92)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُهِيَ عَنِ
السُّؤَالِ عَمَّنْ عَصَى وَكَفَرَ مِنَ الْأَحْيَاءِ،
لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ فَيَنْتَقِلُ عَنِ
الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى
الطَّاعَةِ. وَالثَّانِي- وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّهُ نُهِيَ
عَنِ السُّؤَالِ عَمَّنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ،
تَعْظِيمًا لِحَالِهِ وَتَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، وَهَذَا كَمَا
يُقَالُ: لَا تَسْأَلْ عَنْ فُلَانٍ! أَيْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ
مَا تَحْسِبُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَلَنْ تُسْأَلَ".
وَقَرَأَ أُبَيٌّ" وَمَا تُسْأَلُ"، وَمَعْنَاهُمَا مُوَافِقٌ
لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، نَفَى أَنْ يَكُونَ مَسْئُولًا
عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ أَيَّ أَبَوَيْهِ أَحْدَثُ
مَوْتًا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ"
التَّذْكِرَةِ" أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ
وَأُمَّهُ وَآمَنَا بِهِ، وَذَكَرْنَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِلرَّجُلِ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)
وَبَيَّنَّا ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لله.
[سورة البقرة (2): آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
(120)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ". فيه مسألتان:
الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ
وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" الْمَعْنَى:
لَيْسَ غَرَضُهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ
الْآيَاتِ أَنْ يُؤْمِنُوا، بَلْ لَوْ أَتَيْتَهُمْ بِكُلِ مَا
يَسْأَلُونَ لَمْ يَرْضَوْا عَنْكَ، وَإِنَّمَا يُرْضِيهِمْ
تَرْكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ
وَاتِّبَاعُهُمْ. يُقَالُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَرُضًا
وَرِضْوَانًا وَرُضْوَانًا وَمَرْضَاةً، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ
الْوَاوِ، وَيُقَالُ فِي التَّثْنِيَةِ: رِضَوَانٌ، وَحَكَى
الْكِسَائِيُّ: رِضَيَانٌ. وَحُكِيَ رِضَاءٌ مَمْدُودٌ،
وَكَأَنَّهُ مصدر راضي يراضي مراضاة ورضاء. و" تَتَّبِعَ"
مَنْصُوبٌ بِأَنْ وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ مَعَ حَتَّى،
قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى خَافِضَةٌ
لِلِاسْمِ، كَقَوْلِهِ:" حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" وَمَا
يَعْمَلُ فِي الِاسْمِ لَا يَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ
أَلْبَتَّةَ، وَمَا يَخْفِضُ اسْمًا لَا يَنْصِبُ شَيْئًا.
وَقَالَ النحاس:" تَتَّبِعَ" منصوب بحتى، و" حَتَّى" بَدَلٌ
مِنْ أَنْ. وَالْمِلَّةُ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ
لِعِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
(2/93)
فَكَانَتِ الْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ
سَوَاءٌ، فَأَمَّا الدِّينُ فَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْمِلَّةَ وَالشَّرِيعَةَ
مَا دَعَا اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى فِعْلِهِ، وَالدِّينُ مَا
فَعَلَهُ الْعِبَادُ عَنْ أَمْرِهِ. الثَّانِيَةُ- تَمَسَّكَ
بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أبو
حنيفة والشافعي وداود وأحمد ابن حَنْبَلٍ عَلَى أَنَّ
الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
مِلَّتَهُمْ" فَوَحَّدَ الْمِلَّةَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «1» "، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ) عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَالْكُفْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ الْكَافِرُ).
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِلَلٌ، فَلَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ
النَّصْرَانِيَّ، وَلَا يَرِثَانِ الْمَجُوسِيَّ، أَخْذًا
بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ
أَهْلُ مِلَّتَيْنِ)، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:"
مِلَّتَهُمْ" فَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ
مُوَحَّدَةً فِي اللَّفْظِ بِدَلِيلِ إِضَافَتِهَا إِلَى
ضَمِيرِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ عَنْ عُلَمَاءِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ- مَثَلًا- عِلْمَهُمْ، وَسَمِعْتُ
عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، يَعْنِي عُلُومَهُمْ
وَأَحَادِيثَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ هُوَ الْهُدى " الْمَعْنَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا
مُحَمَّدُ مِنْ هُدَى اللَّهِ الْحَقِّ الَّذِي يَضَعُهُ فِي
قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ هُوَ الْهُدَى الْحَقِيقِيُّ، لَا مَا
يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ" الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، كَمَا
تَقُولُ: جَمَلٌ وَأَجْمَالٌ، وَلَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً
جُمِعَتْ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَفْرَادِ الْمِلَّةِ لَقَالَ
هَوَاهُمْ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا-
أَنَّهُ لِلرَّسُولِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي- أَنَّهُ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ بِهِ
أُمَّتُهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ فِيهِ تَأْدِيبٌ
لِأُمَّتِهِ، إِذْ مَنْزِلَتُهُمْ دُونَ مَنْزِلَتِهِ.
وَسَبَبُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ المسالمة
والهدية، وَيَعِدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ
لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنَ الْعِلْمِ" سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ عَمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ:
كَافِرٌ، فَقِيلَ: بِمَ كَفَّرْتَهُ؟ فَقَالَ: بِآيَاتٍ مِنْ
كِتَابِ الله تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
«2» " وَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ. فمن زعم أنه مخلوق
فقد كفر.
__________
(1). راجع ج 20 ص 229.
(2). راجع ج 9 ص 326.
(2/94)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123)
[سورة البقرة (2): الآيات 121 الى 123]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ
أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها
عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ" قَالَ
قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ:
التوراة، والآية تعم. و" الَّذِينَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،"
آتَيْناهُمُ" صِلَتُهُ،" يَتْلُونَهُ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ،
وَإِنْ شِئْتَ كَانَ الْخَبَرَ" أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ".
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ"
فَقِيلَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، بِاتِّبَاعِ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ،
وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ،
قَالَهُ عِكْرِمَةُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ
اللَّهِ تَعَالَى:" وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها" أَيْ
أَتْبَعَهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ جَعَلَتْ دَلْوِي تَسْتَتْلِينِي «1»
وَرَوَى نَصْرُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ" قَالَ: (يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ). فِي
إِسْنَادِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَجْهُولِينَ فِيمَا
ذَكَرَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ، إِلَّا أَنَّ
مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ
يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ
الَّذِينَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ
اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا
مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ
رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ
__________
(1). تمامه:
ولا أريد تبع القرين
(2/95)
وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
تَعَوَّذَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ
بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إِلَى
عَالِمِهِ. وَقِيلَ: يَقْرَءُونَهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ. قُلْتُ:
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
يُرَتِّلُونَ أَلْفَاظَهُ، وَيَفْهَمُونَ مَعَانِيَهُ، فَإِنَّ
بِفَهْمِ الْمَعَانِي يَكُونُ الاتباع لمن وفق.
[سورة البقرة (2): آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
فيه عشرون مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا جَرَى ذِكْرُ
الْكَعْبَةِ وَالْقِبْلَةِ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى
الْبَيْتَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْيَهُودِ- وَهُمْ مِنْ نَسْلِ
إِبْرَاهِيمَ- أَلَّا يَرْغَبُوا عَنْ دِينِهِ.
وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَمَعْنَاهُ
أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ. وَإِبْرَاهِيمُ تَفْسِيرُهُ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ،
وَبِالْعَرَبِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَبٌ
رَحِيمٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ
الِاتِّفَاقُ بَيْنَ السُّرْيَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ أَوْ
يُقَارِبُهُ فِي اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
تَفْسِيرُهُ أَبٌ رَاحِمٌ، لِرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ،
وَلِذَلِكَ جُعِلَ هُوَ وَسَارَةُ زَوْجَتُهُ كَافِلَيْنِ
لِأَطْفَالِ المؤمنين الذين يَمُوتُونَ صِغَارًا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَا الطَّوِيلِ
عَنْ سَمُرَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ. وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَالْحَمْدُ
لله. وإبراهيم هذا هُوَ ابْنُ تَارخ بْنِ نَاخور فِي قَوْلِ
بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «1» وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي
فِي" الْأَنْعَامِ" بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ
وَمَدْيَنُ وَمَدَائِنُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقُدِّمَ عَلَى الْفَاعِلِ للاهتمام، إذ كون الرب تبارك
وتعالى
__________
(1). راجع ج 7 ص 22.
(2/96)
مُبْتَلِيًا مَعْلُومٌ، وَكَوْنُ
الضَّمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُتَّصِلًا
بِالْفَاعِلِ مُوجِبَ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّمَا
بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاهْتِمَامِ، فَاعْلَمْهُ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" إِبْراهِيمَ" بِالنَّصْبِ،" رَبُّهُ"
بِالرَّفْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْعَكْسِ، وَزَعَمَ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ أَقْرَأَهُ كَذَلِكَ. وَالْمَعْنَى دَعَا
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ وَسَأَلَ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَجْلِ
الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ:" بِكَلِماتٍ". الثَّانِيَةُ- قوله
تعالى:" بِكَلِماتٍ" الْكَلِمَاتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَيَرْجِعُ
تَحْقِيقُهَا إِلَى كَلَامِ الْبَارِي تَعَالَى، لَكِنَّهُ
عَبَّرَ عَنْهَا عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي كُلِّفَهَا
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ
تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ، كَمَا سُمِّيَ
عِيسَى كَلِمَةً، لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ كَلِمَةٍ وَهِيَ"
كُنْ". وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ
قِسْمَيِ الْمَجَازِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ
بِالْكَلِمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- شَرَائِعُ
الْإِسْلَامِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، عَشَرَةٌ مِنْهَا
فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ:" التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «1» "
إِلَى آخِرِهَا، وَعَشَرَةٌ فِي الْأَحْزَابِ:" إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «2» " إِلَى آخِرِهَا،
وَعَشَرَةٌ فِي الْمُؤْمِنُونَ:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
«3» " إِلَى قَوْلِهِ:" عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ"
وَقَوْلُهُ فِي" سَأَلَ سائِلٌ «4» ":" إِلَّا الْمُصَلِّينَ"
إِلَى قَوْلِهِ:" وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
مَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَدًا بِهِنَّ فَقَامَ بِهَا كُلِّهَا
إِلَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْتُلِيَ
بِالْإِسْلَامِ فَأَتَمَّهُ فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ
الْبَرَاءَةَ فَقَالَ:" وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «5» ".
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَدَاءِ
الرِّسَالَةِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي مُبْتَلِيكَ بِأَمْرٍ، قَالَ:
تَجْعَلُنِي لِلنَّاسِ إِمَامًا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ،
قَالَ: تَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ: وَأَمْنًا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَتُرِينَا
مَنَاسِكنَا وَتَتُوبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ:
وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ؟ قَالَ نَعَمْ. وَعَلَى
هَذَا الْقَوْلِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَتَمَّ.
وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ
__________
(1). راجع ج 8 ص 269.
(2). راجع ج 14 ص 185. [ ..... ]
(3). راجع ج 12 ص 102.
(4). راجع ج 18 ص 291.
(5). راجع ج 17 ص 113.
(2/97)
ابن طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ:" وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ" قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ،
خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ: قَصُّ
الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ،
وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الشَّعْرِ. وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ
الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالِاخْتِتَانُ، وَنَتْفُ
الْإِبْطِ، وَغَسْلُ مَكَانِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالَّذِي أَتَمَّ هُوَ
إبراهيم، وهو ظاهر القرآن. وروى مطر «1» عَنْ أَبِي الْجَلْدِ
أَنَّهَا عَشْرٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَوْضِعَ
الْفَرْقِ غَسْلَ الْبَرَاجِمِ «2»، وَمَوْضِعَ
الِاسْتِنْجَاءِ «3» الِاسْتِحْدَادَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ
مَنَاسِكُ الْحَجِّ خَاصَّةً. الْحَسَنُ: هِيَ الْخِلَالُ
السِّتُّ: الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ،
وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
الزَّجَّاجُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ،
لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْتُ: وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفُ،
وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ
الْأَظْفَارَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ
مَنْ شَابَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ قَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَذَكَرَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى
الْمَنَابِرِ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ. قَالَ غَيْرُهُ:
وَأَوَّلُ مَنْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ
بِالسَّيْفِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَاكَ، وَأَوَّلُ مَنِ
اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ.
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أَتَّخِذِ الْمِنْبَرَ فَقَدِ
اتَّخَذَهُ أَبِي إِبْرَاهِيمُ وَإِنْ أَتَّخِذِ الْعَصَا
فَقَدِ اتَّخَذَهَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ). قُلْتُ: وهذه أحكام
يجب بيانها والوقوف عَلَيْهَا وَالْكَلَامُ فِيهَا، فَأَوَّلُ
ذَلِكَ" الْخِتَانُ" وَمَا جَاءَ فِيهِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ:
الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اختتن. واختلف في السن التي
اخْتَتَنَ فِيهَا، فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَوْقُوفًا: (وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَعَاشَ
__________
(1). في ج:" مطرف".
(2). سيأتي الكلام على البراجم في المسألة العاشرة.
(3). سيذكر المؤلف معنى الاستحداد عند المسألة التاسعة.
(2/98)
بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً (.
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ رَأْيًا، وَقَدْ رَوَاهُ
الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ يحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ
مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
ثَمَانِينَ سَنَةً). ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ «1». وَرُوِيَ
مُسْنَدًا مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ يَحْيَى مِنْ
وُجُوهٍ: (أَنَّهُ اخْتَتَنَ حِينَ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً
وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ «2». كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
وَغَيْرِهِ" ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً"، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ
فِي حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ وَحَدِيثِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ
ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. قَالَ: وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ
بَعْدُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَخْتُونٌ، هَكَذَا
قال عكرمة وقاله الْمُسَيَّبُ بْنُ رَافِعٍ، ذَكَرَهُ
الْمَرْوَزِيُّ. وَ" الْقَدُومُ" يُرْوَى مُشَدَّدًا
وَمُخَفَّفًا. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الْقَدُّومُ
(مُشَدَّدًا): مَوْضِعٌ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْخِتَانِ، فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ مُؤَكَّدَاتِ السُّنَنِ وَمِنْ فِطْرَةِ
الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَسَعُ تَرْكُهَا فِي الرِّجَالِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فَرْضٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً". قَالَ
قَتَادَةُ: هُوَ الِاخْتِتَانُ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ
الْمَالِكِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَدَلَّ
ابْنُ سُرَيْجٍ «3» عَلَى وُجُوبِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى
تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَقَالَ: لَوْلَا
أَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ لَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهَا
مِنَ الْمَخْتُونِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا
يُبَاحُ لِمَصْلَحَةِ الْجِسْمِ كَنَظَرِ الطَّبِيبِ،
وَالطِّبُّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعًا، عَلَى مَا يَأْتِي
فِي" النَّحْلِ" بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَا رَوَاهُ
الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْخِتَانُ سُنَّةٌ
لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ). وَالْحَجَّاجُ لَيْسَ
مِمَّنْ يحتج به.
__________
(1). في ج:" ذكره عبد الرزاق".
(2). قال النووي:" رواة مسلم متفقون على تخفيف (القدوم)، ووقع
في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، قالوا: وآلة
النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لأغير، وأما القدوم مكان
بالشام ففيه التخفيف والتشديد. فمن رواه بالتشديد أراد القرية،
ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف
وعلى إرادة الآلة".
(3). في أ، ح:" ابن شريح".
(2/99)
قُلْتُ: أَعْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي
هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ
الِاخْتِتَانُ ... ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ
تَخْتِنُ النِّسَاءَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُنْهِكِي «1»
فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ لِلْبَعْلِ).
قَالَ أَبُو دَاوُدُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ رَاوِيهِ
مَجْهُولٌ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا رَزِينٌ: (وَلَا
تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَنْوَرُ لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ
الرَّجُلِ). السَّادِسَةُ- فَإِنْ وُلِدَ الصَّبِيُّ
مَخْتُونًا فَقَدْ كُفِيَ مُؤْنَةَ الْخِتَانِ. قَالَ
الْمَيْمُونِيُّ قَالَ لِي أَحْمَدُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا
وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مَخْتُونٌ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا
شَدِيدًا، فَقُلْتُ لَهُ: إذا كان الله قد كفاك المئونة فَمَا
غَمُّكَ بِهَذَا! السَّابِعَةُ- قَالَ أَبُو الْفَرَجِ
الْجَوْزِيُّ حُدِّثْتُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ:
خُلِقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَخْتُونِينَ:
آدَمُ وَشِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَسَامٌ وَلُوطٌ وَيُوسُفُ
وَمُوسَى وَشُعَيْبٌ وَسُلَيْمَانُ وَيَحْيَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ الْهَاشِمِيُّ: هُمْ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ
وَشُعَيْبٌ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَسُلَيْمَانُ وَزَكَرِيَّا
وَعِيسَى وَحَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ (نَبِيُّ أَصْحَابِ
الرَّسِّ) «2» وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قُلْتُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ
فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ
أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي" كِتَابِ الْحِلْيَةِ"
بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وُلِدَ مَخْتُونًا. وَأَسْنَدَ أَبُو عُمَرَ فِي
التَّمْهِيدِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ بن بادي «3» العلاف حدثنا محمد ابن أَبِي
السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ
خَتَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
سَابِعِهِ، وَجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ" مُحَمَّدًا".
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ غَرِيبٌ. قَالَ
يَحْيَى بن أيوب: طلبت
__________
(1)." لا تنهكى" أي لا تبالغي في استقصاء الختان.
(2). في اللسان:" قال الزجاج: يروى أن الرس ديار لطائفة من
ثمود، قال ويروى أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، ويروى
أنهم كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أي دسوه فيها حتى مات، ويروى
أن الرس بئر، وكل بئر عند العرب رس".
(3). في الأصول:" زياد" والتصويب عن تهذيب التهذيب.
(2/100)
هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ أَجِدْهُ عِنْدَ
أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ لَقِيتُهُ إِلَّا
عِنْدَ ابْنِ أَبِي السَّرِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولد مَخْتُونًا. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفُوا مَتَى يُخْتَنُ
الصَّبِيُّ، فَثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عثرة
سَنَةً. وَخَتَنَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ.
وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْتِنُ وَلَدَهَا
يَوْمَ السَّابِعِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَقَالَ ذَلِكَ
مِنْ عَمَلِ الْيَهُودِ. ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُخْتَنُ الصَّبِيُّ مَا
بَيْنَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ. وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ فِي
ذَلِكَ شَيْئًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ
حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَنَا يَوْمئِذٍ مَخْتُونٌ. قَالَ:
وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ أَوْ
يُقَارِبَ الِاحْتِلَامَ. وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ فِي
الرَّجُلِ الكبير يسلم أن يختتن، وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: لَا
يَتِمُّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يَخْتَتِنَ وَإِنْ بَلَغَ
ثَمَانِينَ سَنَةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ
يُرَخِّصُ لِلشَّيْخِ الَّذِي يُسْلِمُ أَلَّا يَخْتَتِنَ،
وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا وَلَا بِشَهَادَتِهِ وَذَبِيحَتِهِ
وَحَجِّهِ وَصَلَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. وَحَدِيثُ
بُرَيْدَةَ فِي حَجِّ الْأَغْلَفِ لَا يَثْبُتُ. وَرُوِيَ عن
ابن عباس وجابر ابن زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْأَغْلَفَ
لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ولا تجوز شهادته. التاسعة- قوله:
(وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ) فَالِاسْتِحْدَادُ اسْتِعْمَالُ
الْحَدِيدِ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ. وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إِذَا اطَّلَى «1» وَلِيَ عَانَتُهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا طَلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِلَى عَانَتِهِ قَالَ
لَهُ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ طَلَى عَانَتَهُ بِيَدِهِ.
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ
الشَّعْرُ عَلَى عَانَتِهِ حَلَقَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ
فِعْلِهِ كَانَ الْحَلْقُ وَإِنَّمَا تَنَوَّرَ نَادِرًا،
لِيَصِحَّ الجمع بين الحديثين.
__________
(1). اطلى: يعنى بالنورة وهى حجر يتخذ منه طلاء لازالة الشعر
من بواطن الجسد.
(2/101)
الْعَاشِرَةُ- فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ.
وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ: قَصُّهَا، وَالْقُلَامَةُ مَا
يُزَالُ مِنْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ لِلنِّسَاءِ مِنْ
قَصِّ الْأَظْفَارِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ مِثْلَ ما هو على
الرجال. ذكره الحارث ابن مِسْكِينٍ وَسَحْنُونُ عَنِ ابْنِ
الْقَاسِمِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي"
نَوَادِرِ الْأُصُولِ" لَهُ (الْأَصْلُ التَّاسِعُ
وَالْعِشْرُونَ): حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ
عُمَرَ بْنِ بِلَالٍ الْفَزَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ بِشْرِ الْمَازِنِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُصُّوا
أَظَافِيركُمْ وَادْفِنُوا قُلَامَاتكُمْ وَنَقُّوا
بَرَاجِمَكُمْ وَنَظِّفُوا لِثَاتَكُمْ مِنَ الطَّعَامِ
وَتَسَنَّنُوا وَلَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُخْرًا بُخْرًا «1»
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَحْسَنَ. قَالَ التِّرْمِذِيِّ:
فَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَخْدِشُ
وَيَخْمِشُ وَيَضُرُّ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْوَسَخِ،
فَرُبَّمَا أَجْنَبَ وَلَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى الْبَشَرَةِ
مِنْ أَجْلِ الْوَسَخِ فَلَا يَزَالُ جُنُبًا. وَمَنْ أَجْنَبَ
فَبَقِيَ مَوْضِعُ إِبْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ
غَيْرَ مَغْسُولٍ فَهُوَ جُنُبٌ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَعُمَّ
الْغُسْلُ جَسَدَهُ كُلَّهُ، فَلِذَلِكَ نَدَبَهُمْ إِلَى
قَصِّ الْأَظْفَارِ. وَالْأَظَافِيرُ جَمْعُ الْأُظْفُورِ،
وَالْأَظْفَارُ جَمْعُ الظُّفْرِ. وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سَهَا فِي
صَلَاتِهِ فَقَالَ: (وَمَا لِي لَا أُوهِمُ وَرَفْغُ «2»
أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ وَيَسْأَلُنِي
أَحَدُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَفِي أَظَافِيرِهِ
الْجَنَابَةُ وَالتَّفَثُ). وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِإلْكِيَا فِي" أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" لَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ فَرَجِ أَبِي وَاصِلٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا أَيُّوبَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَافَحْتُهُ، فَرَأَى فِي أَظْفَارِي
طُولًا فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن خبر السماء فقال: (يحي أَحَدُكُمْ
يَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأَظْفَارُهُ كَأَظْفَارِ
الطَّيْرِ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا الْوَسَخُ وَالتَّفَثُ).
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (ادْفِنُوا قُلَامَاتُكُمْ) فَإِنَّ جَسَدَ
الْمُؤْمِنِ ذُو حُرْمَةٍ، فَمَا سَقَطَ مِنْهُ وَزَالَ عَنْهُ
فَحِفْظُهُ مِنَ الْحُرْمَةِ قَائِمٌ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ
يَدْفِنَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ دُفِنَ، فَإِذَا مَاتَ
بَعْضُهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا تُقَامُ حُرْمَتُهُ بِدَفْنِهِ،
كَيْ لَا يَتَفَرَّقَ وَلَا يَقَعَ فِي النَّارِ أَوْ فِي
مَزَابِلَ قَذِرَةٍ. وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1). اضطربت الأصول في رسم هذه الكلمة، والتصويب عن" نوادر
الأصول" وسينقل المؤلف رحمه الله كلام الترمذي عن هذا الحديث.
[ ..... ]
(2). الرفع: الوسخ الذي بين الأنملة والظفر.
(2/102)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِدَفْنِ دَمِهِ حَيْثُ احْتَجَمَ كَيْ لَا تَبْحَثُ عَنْهُ
الْكِلَابُ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ:
حَدَّثَنَا الْهُنَيْدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ إِنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ
أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: (يَا
عَبْدَ اللَّهِ اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ
لَا يَرَاكَ أَحَدٌ). فَلَمَّا بَرَزَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَدَ إِلَى الدَّمِ
فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا
صَنَعْتَ بِهِ؟). قَالَ: جَعَلْتُهُ فِي أَخْفَى مَكَانٍ
ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَافِيًا عَنِ النَّاسِ. قَالَ: (لَعَلَّكَ
شَرِبْتَهُ؟) قال نعم. قال: (لم شربت الدم، [ويل للناس منك «1»
و] ويل لَكَ مِنَ النَّاسِ). حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِدَفْنِ
سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنَ الْإِنْسَانِ: الشَّعْرُ،
وَالظُّفْرُ، وَالدَّمُ، وَالْحَيْضَةُ، وَالسِّنُّ،
وَالْقَلَفَةُ، وَالْبَشِيمَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (نَقُّوا
بَرَاجِمَكُمْ) فَالْبَرَاجِمُ تِلْكَ الْغُضُونُ مِنَ
الْمَفَاصِلِ، وَهِيَ مُجْتَمَعُ الدَّرَنِ (وَاحِدُهَا
بُرْجُمَةٌ) وَهُوَ ظَهْرُ عُقْدَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، فَظَهْرُ
الْعُقْدَةِ يُسَمَّى بُرْجُمَةً، وَمَا بَيْنَ
الْعُقْدَتَيْنِ تُسَمَّى رَاجِبَةً، وَجَمْعُهَا رَوَاجِبُ،
وَذَلِكَ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهَا، وَهِيَ قَصَبَةُ
الْأُصْبُعِ، فَلِكُلِ أُصْبُعٍ بُرْجُمَتَانِ وَثَلَاثُ
رَوَاجِبَ إِلَّا الْإِبْهَامُ فَإِنَّ لَهَا بُرْجُمَةً
وَرَاجِبَتَيْنِ، فَأَمَرَ بِتَنْقِيَتِهِ لِئَلَّا يَدْرَنُ
فَتَبْقَى فِيهِ الْجَنَابَةُ، وَيَحُولُ الدَّرَنُ بَيْنَ
الْمَاءِ وَالْبَشَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (نَظِّفُوا
لِثَاتَكُمْ) فَاللِّثَةُ وَاحِدَةٌ، وَاللِّثَاتُ جَمَاعَةٌ،
وَهِيَ اللَّحْمَةُ فَوْقَ الْأَسْنَانِ وَدُونَ الْأَسْنَانِ،
وَهِيَ مَنَابِتُهَا. وَالْعُمُورُ: اللَّحْمَةُ الْقَلِيلَةُ
بَيْنَ السِّنَّيْنِ، وَاحِدُهَا عَمْرٌ. فَأَمَرَ
بِتَنْظِيفِهَا لِئَلَّا يَبْقَى فيها وضر الطَّعَامَ
فَتَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ النَّكْهَةُ وَتَتَنَكَّرُ
الرَّائِحَةُ، وَيَتَأَذَّى الْمَلَكَانِ، لِأَنَّهُ طَرِيقِ
الْقُرْآنِ، وَمَقْعَدُ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ نَابَيْهِ.
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» " قَالَ:
عِنْدَ نَابَيْهِ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
الشَّقَيْقِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَجَادَ مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّفْظَ هُوَ عَمَلُ الشَّفَتَيْنِ يلفظ
__________
(1). زيادة عن كتاب" نوادر الأصول".
(2). راجع ج 17 ص 11.
(2/103)
الْكَلَامَ عَنْ لِسَانِهِ إِلَى
الْبَرَازِ. وَقَوْلُهُ:" لَدَيْهِ" أَيْ عِنْدَهُ،
وَالَّدَى وَالْعِنْدُ فِي لُغَتِهِمُ السَّائِرَةِ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ" لَدُنْ"
فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. فَكَأَنَّ الْآيَةَ تُنَبِّئُ أَنَّ
الرَّقِيبَ عَتِيدٌ عِنْدَ مُغَلَّظِ الْكَلَامِ وَهُوَ
النَّابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (تَسَنَّنُوا) وَهُوَ
السِّوَاكُ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّنِّ، أَيْ نَظِّفُوا
السِّنَّ. وَقَوْلُهُ: (لَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُخْرًا
بُخْرًا) فالمحفوظ عندي (فحلا وَقُلْحًا). وَسَمِعْتُ
الْجَارُودَ يَذْكُرُ عَنِ النَّضْرِ قَالَ: الْأَقْلَحُ
الَّذِي قَدِ اصْفَرَّتْ أَسْنَانُهُ حَتَّى بَخِرَتْ مِنْ
بَاطِنِهَا، وَلَا أَعْرِفُ الْقَخَرَ. وَالْبَخَرُ:
الَّذِي تَجِدُ لَهُ رَائِحَةً مُنْكَرَةً لِبَشَرَتِهِ،
يُقَالُ: رَجُلٌ أَبْخَرُ، وَرِجَالٌ بُخُرٌ. حَدَّثَنَا
الْجَارُودُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ
بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَاكُوا،
مَا لَكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا). الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ- فِي قَصِّ الشَّارِبِ. وَهُوَ الْأَخْذُ مِنْهُ
حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ،
وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ نَفْسَهُ، قَالَهُ مَالِكٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ قَالَ: وَأَرَى
أَنْ يُؤَدَّبَ مَنْ حَلَقَ شَارِبَهُ. وَذَكَرَ أَشْهَبُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَلْقِ الشَّارِبِ: هَذِهِ
بِدَعٌ، وَأَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا مَنْ فَعَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ قَالَ مَالِكٌ: أَرَى
أَنْ يُوجَعَ مَنْ حَلَقَهُ ضَرْبًا. كَأَنَّهُ يَرَاهُ
مُمَثِّلًا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ بِنَتْفِهِ الشَّعْرَ،
وَتَقْصِيرِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ حَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ كَانَ ذَا لِمَّةٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْ
بَيْنِ وَافِرِ الشَّعْرِ أَوْ مُقَصِّرٍ، وَإِنَّمَا
حَلَقَ وَحَلَقُوا فِي النُّسُكِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُصُّ
أَظَافِرَهُ وَشَارِبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى
الْجُمُعَةِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ نَجِدْ عَنِ
الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا شَيْئًا مَنْصُوصًا،
وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ: الْمُزَنِيُّ
وَالرَّبِيعُ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا،
وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَأَمَّا
أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ
فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ
أَنَّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَذَكَرَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ
مَذْهَبَهُ فِي حَلْقِ الشَّارِبِ كَمَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ:
رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْفِي شَارِبَهُ
شَدِيدًا، وَسَمِعْتُهُ سُئِلَ عَنِ السُّنَّةِ فِي
إِحْفَاءِ الشَّارِبِ فَقَالَ: يُحْفَى كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحْفُوا
الشَّوَارِبَ). قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا فِي هَذَا
الْبَابِ أَصْلَانِ:
(2/104)
أَحَدُهُمَا: أَحْفُوا، وَهُوَ لَفْظٌ
مُحْتَمِلُ التَّأْوِيلِ. وَالثَّانِي- قَصُّ الشَّارِبِ،
وَهُوَ مُفَسَّرٌ، وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى
الْمُجْمَلِ، وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ
أَوْلَى مَا قِيلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ
شَارِبِهِ وَيَقُولُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ
الرَّحْمَنِ كَانَ يَفْعَلُهُ). قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الِاخْتِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ
وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ
الْإِبْطِ). وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ
وَأَوْفُوا اللِّحَى «1»). وَالْأَعَاجِمُ يَقُصُّونَ
لِحَاهُمْ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ أَوْ
يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ
وَالنَّظَافَةِ. ذَكَرَ رَزِينٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى
الْجِلْدِ، وَيَأْخُذُ هَذَيْنَ، يَعْنِي مَا بَيْنَ
الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِ لِحْيَتِهِ مَا زَادَ
عَلَى الْقَبْضَةِ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ. وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا
وَطُولِهَا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. الثَّانِيَةَ
عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْإِبْطُ فَسُنَّتُهُ النَّتْفُ،
كَمَا أَنَّ سُنَّةَ الْعَانَةِ الْحَلْقُ، فَلَوْ عُكِسَ
جَازَ لِحُصُولِ النَّظَافَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى،
لِأَنَّهُ الْمُتَيَسَّرُ الْمُعْتَادُ. الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ- وَفَرْقُ الشَّعْرِ: تَفْرِيقُهُ فِي
الْمَفْرِقِ «2»، وَفِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيصَتُهُ «3» فَرَقَ،
يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقول: إِنِ انْفَرَقَ شَعْرُ
رَأْسِهِ فَرَقَهُ فِي مَفْرِقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَرِقْ
تَرَكَهُ وَفْرَةً «4» وَاحِدَةً. خَرَّجَ النَّسَائِيُّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ
الْمُشْرِكُونَ يُفَرِّقُونَ شُعُورَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ
مُوَافَقَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ
بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ: سَدْلُ الشَّعْرِ إِرْسَالُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ
هَا هُنَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِرْسَالُهُ عَلَى
الْجَبِينِ، وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ، وَالْفَرْقُ فِي
الشَّعْرِ سُنَّةٌ
، لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الجمعة
__________
(1). إحفاء الشوارب: قص ما طال منها. وإعفاء اللحى:
توفيرها.
(2). المفرق: وسط الرأس.
(3). العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور.
(4). الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس.
(2/105)
أَقَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَرَسًا
يَجُزُّونَ نَاصِيَةَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ شَعْرَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْفَرْقَ كَانَ مِنْ سُنَّةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الشَّيْبُ فَنُورٌ
وَيُكْرَهُ نَتْفُهُ، فَفِي النَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ
مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ مَا مِنْ
مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا
كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَتَبَ اللَّهُ
لَهُ حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً). قُلْتُ: وَكَمَا
يُكْرَهُ نَتْفَهُ كَذَلِكَ يُكْرَهُ تَغْيِيرَهُ
بِالسَّوَادِ، فَأَمَّا تَغْيِيرُهُ بِغَيْرِ السَّوَادِ
فَجَائِزٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَقِّ أَبِي قُحَافَةَ- وَقَدْ جئ بِهِ وَلِحْيَتُهُ
كَالثَّغَامَةِ «1» بَيَاضًا-: (غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ
وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ). وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
يُسَوَّدُ أَعْلَاهَا وَيُبَيَّضُ أَصْلَهَا ... وَلَا
خَيْرَ فِي الْأَعْلَى إذا فسد الأصل
وقال آخر:
يَا خَاضِبَ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ تَسْتُرُهُ ... سَلِ
الْمَلِيكَ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَأَمَّا الثَّرِيدُ فَهُوَ أَزْكَى
الطَّعَامِ وَأَكْثَرُهُ بَرَكَةً، وَهُوَ طَعَامُ
الْعَرَبِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ
فَقَالَ: (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ
الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ). وَفِي صَحِيحِ
الْبُسْتِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا
كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ غَطَّتْهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ
فَوْرُهُ وَتَقُولَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّهُ
أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ). السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قُلْتُ:
وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا قَالَهُ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ. وَيَأْتِي ذِكْرُ
الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ فِي
سُورَةِ" النِّسَاءِ «2» " وَحُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ فِي"
بَرَاءَةٌ «3» " وَحُكْمُ الضِّيَافَةِ فِي" هُودٍ «4» "
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ
وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ
الْعَانَةِ أَلَّا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا تحديد في أكثر المدة،
__________
(1). الثغامة: نبت أبيض الثمر والزهر، يشبه بياض الشيب به.
(2). راجع ج 5 ص 212.
(3). راجع ج 8 ص 262.
(4). راجع ج 9 ص 64.
(2/106)
وَالْمُسْتَحَبُّ تَفَقُّدُ ذَلِكَ مِنَ
الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ
يَرْوِيهِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ. قَالَ
الْعُقَيْلِيِّ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ. وَقَالَ أَبُو
عُمَرَ فِيهِ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِسُوءِ حِفْظِهِ
وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ
قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَلَّا تَوْقِيتَ
فِي ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. السَّابِعَةَ عشرة-
قوله تعالى:" إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً"
الْإِمَامُ: الْقُدْوَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِخَيْطِ
الْبِنَاءُ: إِمَامٌ، وَلِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ، لِأَنَّهُ
يُؤَمُّ فِيهِ لِلْمَسَالِكِ، أَيْ يُقْصَدُ.
فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيَقْتَدِي
بِكَ الصَّالِحُونَ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِمَامًا
لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، فَلِذَلِكَ اجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ
عَلَى الدَّعْوَى فِيهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ
كَانَ حَنِيفًا. الثَّامِنَةَ عشرة- قوله تعالى:" وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي" دُعَاءٌ عَلَى جِهَةِ الرَّغْبَاءِ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِي يَا رَبِّ
فَاجْعَلْ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ
الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُمْ، أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَا
رَبِّ مَاذَا يَكُونُ؟ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ فِيهِمْ عَاصِيًا وَظَالِمًا لَا يَسْتَحِقُّ
الْإِمَامَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ
إِمَامٌ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ
مَنْ يَعْصِي فَقَالَ:" لَا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ". التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" أَصْلُ ذُرِّيَّةٍ،
فِعْلِيَّةٌ مِنَ الذَّرِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَالذَّرِّ حِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ
يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا خَلَقَهُمْ، وَمِنْهُ الذُّرِّيَّةُ
وَهِيَ نَسْلُ الثَّقَلَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ
تَرَكَتْ هَمْزَهَا، وَالْجَمْعُ الذَّرَارِيُّ. وَقَرَأَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" ذِرِّيَّةٌ" بِكَسْرِ الذَّالِ وَ"
ذَرِّيَّةٌ" بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَبُو
الْفَتْحِ عُثْمَانُ: يَحْتَمِلُ أَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ
أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: أَحَدُهَا- ذَرَأَ، وَالثَّانِي-
ذَرَرَ، وَالثَّالِثُ- ذَرَوَ، وَالرَّابِعُ ذَرَيَ،
فَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ،
وَأَمَّا ذَرَرَ فَمِنْ لَفْظِ الذَّرِّ وَمَعْنَاهُ،
وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (أَنَّ الْخَلْقَ
كَانَ كَالذَّرِّ) وَأَمَّا الْوَاوُ وَالْيَاءُ، فَمِنْ
ذَرَوْتُ الْحَبَّ وَذَرَيْتُهُ يُقَالَانِ جَمِيعًا،
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَصْبَحَ هَشِيماً
تَذْرُوهُ الرِّياحُ «1» " وَهَذَا لِلُطْفِهِ
وَخِفَّتِهِ، وَتِلْكَ حال لذر أيضا. قال الجوهري:
__________
(1). راجع ج 10 ص 413.
(2/107)
ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه
ذَرْوًا وَذَرْيًا أَيْ نَسَفَتْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
ذَرَى النَّاسُ الْحِنْطَةَ، وَأَذْرَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا
أَلْقَيْتُهُ، كَإِلْقَائِكَ الْحَبَّ لِلزَّرْعِ.
وَطَعَنَهُ فَأَذْرَاهُ عَنْ ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيْ
أَلْقَاهُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّمَا سُمُّوا
ذُرِّيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَرَأَهَا عَلَى
الْأَرْضِ كَمَا ذرأ الزارع البذر. وقيل: أهل ذُرِّيَّةٍ،
ذُرُّورَةٌ، لَكِنْ لَمَّا كَثُرَ التَّضْعِيفُ أُبْدِلَ
مِنْ إِحْدَى الرَّاءَاتِ يَاءٌ، فَصَارَتْ ذُرُّويَةٌ،
ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَصَارَتْ
ذُرِّيَّةً. وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ هُنَا
الْأَبْنَاءُ خَاصَّةً، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ
وَالْأَبْنَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآيَةٌ
لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «1» " يَعْنِي
آبَاءَهُمْ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قوله تعالى:" لَا
يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ
بِالْعَهْدِ، فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. مُجَاهِدٌ:
الْإِمَامَةُ. قَتَادَةُ: الْإِيمَانُ. عَطَاءٌ:
الرَّحْمَةُ. الضَّحَّاكُ: دِينُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: عَهْدُهُ أَمْرُهُ. وَيُطْلَقُ الْعَهْدُ عَلَى
الْأَمْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنا «2» " أي أمرنا. وقال:" أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ" يَعْنِي أَلَمْ أُقَدِّمْ
إِلَيْكُمُ الْأَمْرَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَهْدُ اللَّهِ
هُوَ أَوَامِرُهُ فَقَوْلُهُ:" لَا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ" أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ
مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ وَلَا «3»
يُقِيمُونَ عَلَيْهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ
هَذَا آنِفًا «4» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى
مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا
يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" قَالَ: لَا ينال عهد لله
فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا
فَقَدْ نَالَهُ الظَّالِمُ فَآمَنَ بِهِ، وَأَكَلَ وَعَاشَ
وَأَبْصَرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ،
أَيْ لَا يَنَالُ أَمَانِي الظَّالِمِينَ، أَيْ لَا
أُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: الظَّالِمُ هُنَا الْمُشْرِكُ. وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمُونَ" بِرَفْعِ الظَّالِمُونَ. الْبَاقُونَ
بِالنَّصْبِ. وَأَسْكَنَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ الْيَاءَ فِي" عَهْدِي"، وَفَتَحَهَا
الْبَاقُونَ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- اسْتَدَلَّ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ مَعَ الْقُوَّةِ عَلَى
الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُنَازِعُوا
الْأَمْرَ أَهْلَهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ «5» مِنَ
الْقَوْلِ فِيهِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْفُسُوقِ وَالْجَوْرِ
وَالظُّلْمِ
__________
(1). راجع ج 15 ص 34.
(2). راجع ج 4 ص 295. [ ..... ]
(3). في ب، ج:" ولا يفتون عليها".
(4). آنفا: ألان. وفعلت الشيء آنفا. أي في أول وقت يقرب
منى.
(5). راجع ج 1 ص 264 طبعه ثانية.
(2/108)
فَلَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" وَلِهَذَا
خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحُسَيْنُ «1» ابن عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَخَرَجَ خِيَارُ أَهْلِ
الْعِرَاقِ وَعُلَمَاؤُهُمْ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَامُوا
عَلَيْهِمْ، فَكَانَتِ الْحَرَّةُ الَّتِي أَوْقَعَهَا
بِهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ «2». وَالَّذِي عَلَيْهِ
الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى
طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَوْلَى مِنَ الْخُرُوجِ
عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ
عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ، وَإِرَاقَةَ
الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَشَنَّ
الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْفَسَادِ فِي
الْأَرْضِ. وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ،
فَاعْلَمْهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَكُلُّ مَنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ
يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً وَلَا حَاكِمًا وَلَا
مُفْتِيًا، وَلَا إِمَامَ صَلَاةٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَنْهُ
مَا يَرْوِيهِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ فِي الْأَحْكَامِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا
يُعْزَلُ بِفِسْقِهِ حَتَّى يَعْزِلَهُ أَهْلُ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِهِ مُوَافِقًا
لِلصَّوَابِ مَاضٍ غَيْرَ مَنْقُوضٍ. وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ
عَلَى هَذَا فِي الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ أَنَّ
أَحْكَامَهُمْ لَا تُنْقَضُ إِذَا أَصَابُوا بِهَا وَجْهًا
مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَخْرِقُوا الْإِجْمَاعَ، أَوْ
يُخَالِفُوا النُّصُوصَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ
لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِجَ
قَدْ خَرَجُوا فِي أَيَّامِهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ
الْأَئِمَّةَ تَتَبَّعُوا أَحْكَامَهُمْ، وَلَا نَقَضُوا
شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا أَعَادُوا أَخْذَ الزَّكَاةِ وَلَا
إِقَامَةَ الْحُدُودِ الَّتِي أَخَذُوا وَأَقَامُوا،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابُوا وَجْهَ
الِاجْتِهَادِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهِمْ.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادَ: وَأَمَّا أَخْذُ الْأَرْزَاقِ مِنَ
الْأَئِمَّةِ الظَّلَمَةِ فَلِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
إِنْ كَانَ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مَأْخُوذًا عَلَى
مُوجَبِ الشَّرِيعَةِ فَجَائِزٌ أَخْذُهُ، وَقَدْ أَخَذَتِ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ
وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا حَلَالًا وَظُلْمًا
كَمَا في أيدي
__________
(1). في ب، ج:" والحسن".
(2). الذي في الأصول:" عقبة بن مسلم" وهو تحريف. ويوم
الحرة ذكره ابن الأثير في النهاية فقال:" وهو يوم مشهور في
الإسلام أيام يزيد بن معاوية لما انتهب المدينة عسكره من
أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة
والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري في ذى الحجة سنة
ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحرة هذه: أرض بظاهر
المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها". ويراجع
تاريخ الطبري وابن الأثير والنجوم الزاهرة في حوادث سنة
ثلاث وستين.
(2/109)
|