تفسير القرطبي لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
[سورة البقرة (2): آية 198]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ
(198)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" جُناحٌ" أَيْ إِثْمٌ، وَهُوَ اسْمُ
لَيْسَ." أَنْ تَبْتَغُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ لَيْسَ،
أَيْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا. وَعَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ
وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَلَمَّا
أَمَرَ تَعَالَى بِتَنْزِيهِ الْحَجِّ عَنِ الرَّفَثِ
وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ رَخَّصَ فِي التِّجَارَةِ،
الْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلَ اللَّهِ. وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ
بِمَعْنَى التِّجَارَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ"
«1» [الجمعة: 10]. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَتْ
«2» عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي
الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ)
«3». الثَّانِيَةُ- إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ
أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى ذَلِكَ لَا
يَكُونُ شِرْكًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عن رسم
الإخلاص المفترض عليه،
__________
(1). راجع ج 18 ص 108.
(2). الذي في البخاري:" كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في
الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت ...
إلخ". وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين
مكة ثلاث ليال. وذو المجاز: خلف عرفة. ومجنة: بمر الظهران، قرب
جبل يقال له الأصغر، وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها. وهذه
أسواق للعرب. وكان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذى
القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضى عشرين يوما من ذى
القعدة، فإذا رأوا هلال ذى الحجة ذهبوا من مجنة إلى ذى المجاز،
فلبثوا به ثمان ليال، ثم يذهبون إلى عرفة. ولم تزل هذه الأسواق
قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن
الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، لما خرج الحروى بمكة مع أبى
حمزة المختار بن عوف خاف الناس أن ينتهبوا فتركت إلى ألان، ثم
ترك ذو المجاز ومجنة بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى
وبعرفة. (عن شرح القسطلاني).
(3). فوله:" في مواسم الحج" قراءة ابن عباس، كما نبه عليه
المؤلف في مقدمة الكتاب ص 83، وقال أبو حيان في البحر:" وقراء
ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير" فضلا من ربكم في مواسم الحج"
وجعل هذا تفسيرا، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه
الامة.
(2/413)
خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ «1». أَمَّا إِنَّ
الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ، لِعُرُوِّهَا «2» عَنْ
شَوَائِبِ الدُّنْيَا وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
التَّيْمِيِّ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي رَجُلٌ
أُكَرِّي فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ:
إِنَّهُ لَا حَجَّ لَكَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَهُ مِثْلَ هَذَا الَّذِي سَأَلْتَنِي، فَسَكَتَ حَتَّى
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لَكَ حَجًّا).
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ" فِيهِ سِتَّ «3» عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا أَفَضْتُمْ" أَيِ
انْدَفَعْتُمْ. وَيُقَالُ: فَاضَ الْإِنَاءُ إِذَا امْتَلَأَ
حَتَّى يَنْصَبَّ عَنْ نَوَاحِيهِ. وَرَجُلٌ فَيَّاضٌ، أَيْ
مُنْدَفِقٌ بِالْعَطَاءِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَبْيَضُ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ
مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ «4»
وَحَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ، أَيْ شَائِعٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" مِنْ عَرَفاتٍ" قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" عَرَفاتٍ"
بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُمِّيَتِ امْرَأَةٌ
بِمُسْلِمَاتٍ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ هُنَا لَيْسَ فَرْقًا
بَيْنَ مَا يَنْصَرِفُ وَمَا لَا يَنْصَرِفُ فَتَحْذِفُهُ،
وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّونِ فِي مُسْلِمِينَ. قَالَ
النَّحَّاسُ: هَذَا الْجَيِّدُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ
الْعَرَبِ حَذْفَ التَّنْوِينِ من عرفات، يقول: هَذِهِ
عَرَفَاتُ يَا هَذَا، وَرَأَيْتُ عَرَفَاتٍ يَا هَذَا،
بِكَسْرِ التَّاءِ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَ: لَمَّا
جَعَلُوهَا مَعْرِفَةً حَذَفُوا التَّنْوِينَ. وَحَكَى
الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ فَتْحَ التَّاءِ، تَشْبِيهًا
بِتَاءِ فَاطِمَةَ وَطَلْحَةَ. وَأَنْشَدُوا:
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلِهَا ... بِيَثْرِبَ
أَدْنَى دَارِهَا نَظَرً عَالِ
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَأَنَّ التَّنْوِينَ فِيهِ
عَلَى حَدِّهِ فِي مُسْلِمَاتٍ، الْكَسْرَةُ مُقَابِلَةُ
الْيَاءِ فِي مُسْلِمِينَ وَالتَّنْوِينُ مُقَابِلُ النُّونِ.
وَعَرَفَاتٍ: اسْمُ عَلَمٍ، سُمِّيَ بِجَمْعٍ كَأَذْرِعَاتٍ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ
__________
(1). لعله يريد بالفقراء الصوفية.
(2). كذا في نسخ الأصل. ومقتضى الظاهر تذكير الضمير لعوده إلى
الحج، ولعله يريد بالتأنيث هنا: الحج بمعنى العبادة. [ ..... ]
(3). يلاحظ أن الأصول اضطربت في العدد هنا.
(4). الفياض: الكثير العطاء. المعنفون: الطالبون ما عنده.
يقال: عفاه واعتفاه إذا أتاه يطلب معروفة. ما تغب فواضله: أي
عطاياه دائمة لا تنقطع.
(2/414)
بِمَا حَوْلَهُ، كَأَرْضٍ سَبَاسِبَ «1».
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ
النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ بِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ آدَمَ لَمَّا
هَبَطَ وَقَعَ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءَ بِجَدَّةَ،
فَاجْتَمَعَا بَعْدَ طُولِ الطَّلَبِ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ
عَرَفَةَ وَتَعَارَفَا «2»، فَسُمِّيَ الْيَوْمَ عَرَفَةَ،
وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ ذكره عند قول تعالى:" وَأَرِنا
مَناسِكَنا" «3» [البقرة: 128]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَهُ مُرْتَجِلٌ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ
الْبِقَاعِ. وَعَرَفَةُ هِيَ نَعْمَانُ الْأَرَاكِ، وَفِيهَا
يَقُولُ الشَّاعِرُ:
تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أراكة ... لهند ولكن لم
يُبَلِّغُهُ هِنْدًا
وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَرْفِ وَهُوَ الطِّيبُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" عَرَّفَها لَهُمْ" «4» [محمد: 6]
أَيْ طَيَّبَهَا، فَهِيَ طَيِّبَةٌ بِخِلَافِ مِنًى الَّتِي
فِيهَا الْفُرُوثُ «5» وَالدِّمَاءُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ
عَرَفَاتٍ. وَيَوْمُ الْوُقُوفِ، يَوْمَ عَرَفَةَ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَصْلُ هَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ مِنَ الصَّبْرِ،
يُقَالُ: رَجُلٌ عَارِفٌ. إِذَا كَانَ صَابِرًا خَاشِعًا.
وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: النَّفْسُ عروف وما حملتها تتحمل.
قال:
فصبرت «6» عارفة لذلك حرة
أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة:
عَرُوفُ لِمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِرُ «7»
أَيْ صَبُورٌ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، فَسُمِّيَ بِهَذَا
الِاسْمِ لِخُضُوعِ الْحَاجِّ وَتَذَلُّلِهِمْ، وَصَبْرِهِمْ
عَلَى الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَاحْتِمَالِ
الشَّدَائِدِ، لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ-
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ
يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْهَا
قَبْلَ الزَّوَالِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ
قَبْلَ الزَّوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَمَامِ حَجِّ مَنْ وقف
بعرفة
__________
(1). جاء في اللسان مادة سبسب:" وحكى اللحياني بلد سبسب، وبلد
سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبا، ثم جمعوه على هذا".
والسبسب: القفر والمفازة. وقيل: الأرض المستوية البعيدة.
(2). كل هذا يحتاج إلى التثبت.
(3). راجع ص 127 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 16 ص 231.
(5). الفروث: جمع فرث، وهو السرجين (الزبل) ما دام في الكرش.
(6). البيت لعنترة، وتمامه:
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
(7). صدر البيت:
إذا خاف شيئا وقرته طبيعة
(2/415)
بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ نَهَارًا
قَبْلَ اللَّيْلِ، إِلَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ
قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا.
وَأَمَّا مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ لَا
خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ فِي تَمَامِ حَجِّهِ. وَالْحُجَّةُ
لِلْجُمْهُورِ مُطْلَقُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ" وَلَمْ يَخُصَّ لَيْلًا مِنْ نَهَارٍ،
وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الموقف من جميع،
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ مِنْ جَبَلَيْ طئ،
أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ إِنْ
تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ «1» إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ
لِي مِنْ حَجٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى مَعَنَا
صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِجَمْعٍ وَقَدْ أَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ
ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ «2»
وَتَمَّ حَجُّهُ). أَخْرَجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو
عُمَرَ: حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ حَدِيثٌ
ثَابِتٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّعْبِيِّ الثِّقَاتِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
مُضَرِّسٍ، مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ
وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَزَكَرِيَّا بْنُ أَبِي
زَائِدَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَمُطَرِّفٌ،
كُلُّهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ
بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ
مِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ: حَدِيثٌ جَابِرٍ الطَّوِيلِ،
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى
غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى
غَابَ الْقُرْصُ. وَأَفْعَالُهُ عَلَى الْوُجُوبِ، لَا
سِيَّمَا فِي الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ: (خُذُوا عَنِّي
مَنَاسِككُمْ). الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ
فِيمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَرْجِعْ
مَاذَا عَلَيْهِ مَعَ صِحَّةِ الْحَجِّ، فَقَالَ عَطَاءٌ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وأصحاب الرأي وغيرهم:
__________
(1). في ز وبعض كتب الحديث ونهاية ابن الأثير بالحاء المهملة
المفتوحة وسكون الموحدة. قال الترمذي في سننه:" قوله: من حبل"
إذا كان من رمل يقال له حبل، وإذا كان من حجارة يقال له جبل".
وقال ابن الأثير في تفسير هذا الحديث:" الحبل: المستطيل من
الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه حبال. وقيل: الحبال في الرمل
كالجبال في غير الرمل". وقال الخطابي: الحبال ما دون الجبال في
الارتفاع.
(2). قال صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطني:" وقوله: وقضى
تفثه. قيل: المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك، والمشهور
أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق
العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل في ضمن ذلك نحر
البدن، وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى النفث إلا بعد ذلك،
واصل النفث الوسخ والقذر. قاله الشوكاني".
(2/416)
عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: عَلَيْهِ هَدْيٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ،
وَالْهَدْيُ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ قَابِلٍ، وَهُوَ كَمَنْ
فَاتَهُ الْحَجُّ. فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ حَتَّى
يَدْفَعَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ فقال الشافعي: لا شي
عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ،
وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ
وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِذَلِكَ قَالَ
أَبُو ثَوْرٍ. الْخَامِسَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنِ
الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا لِمَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ وَقَفَ إِلَى أَنْ دَفَعَ مِنْهَا
بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ،
وَهَذَا مَحْفُوظٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَحَدِيثِ
عَلِيٍّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ
جَابِرٍ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ
نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ «1»، وَجَعَلَ
حَبْلَ «2» الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ
الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ
الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ،
الْحَدِيثَ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوبِ وَقَفَ
قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ دَاعِيًا، مَا دَامَ يَقْدِرُ،
وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى الْوُقُوفِ، وَفِي الْوُقُوفِ رَاكِبًا مُبَاهَاةٌ
وَتَعْظِيمٌ لِلْحَجِّ" وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" «3» [الحج: 32]. قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ قَالَ لِي مَالِكٌ: الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْإِبِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ أَقِفَ قَائِمًا، قَالَ: وَمَنْ وَقَفَ قَائِمًا
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَرِيحَ. السَّادِسَةُ- ثَبَتَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ
عَرَفَةَ يَسِيرُ الْعَنَقُ «4» فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً
نَصَّ. قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: وَالنَّصُّ فوق العنق
__________
(1). الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل
الذي بوسط أرض عرفات.
(2). قال ابن الأثير:" وجعل حبل المشاة بين يديه، أي طريقهم
الذي يسلكونه في الرمل. وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم
تشبيها بحبل الرمل.
(3). راجع ج 12 ص 56. [ ..... ]
(4). العنق (محركة): سير سريع فسيح واسع الإبل والدابة.
والفجوة: الموضع المتسع بين شيئين.
(2/417)
وَهَكَذَا يَنْبَغِي عَلَى أَئِمَّةِ
الْحَاجِّ فَمَنْ دُونَهُمْ، لِأَنَّ فِي اسْتِعْجَالِ
السَّيْرِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ اسْتِعْجَالُ الصَّلَاةِ
بِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى تِلْكَ
اللَّيْلَةَ إِلَّا مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ،
وَتِلْكَ سُنَّتُهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- ظَاهِرُ عُمُومِ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرَفَةَ
كُلَّهَا مَوْقِفٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَوَقَفْتُ هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ). رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ. وَفِي
مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (عَرَفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ
وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفَعُوا عَنْ
بَطْنِ مُحَسِّرٍ (. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا
الْحَدِيثُ يَتَّصِلُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَكْثَرُ الْآثَارِ لَيْسَ
فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ بَطْنُ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَةَ، وَبَطْنُ
مُحَسِّرٍ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا
الْحُفَّاظُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ
فِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَابِرٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِعُرَنَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا
ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: يُهْرِيقُ دَمًا وَحَجُّهُ
تَامٌّ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ رَوَاهَا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ
عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْمُصْعَبِ أَنَّهُ كَمَنْ لَمْ
يَقِفْ وَحَجُّهُ فَائِتٌ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
إِذَا وَقَفَ بِبَطْنٍ عُرَنَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: مَنْ أَفَاضَ مِنْ عُرَنَةَ فَلَا حَجَّ لَهُ. وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ، وَذَكَرَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ وَبِهِ
أَقُولُ: لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَقِفَ بِمَكَانٍ أَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُوقَفَ
بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الِاسْتِثْنَاءُ بِبَطْنِ
عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَةَ لَمْ يَجِئْ مَجِيئًا تَلْزَمُ
حُجَّتُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ
الْإِجْمَاعِ. وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ أَبِي
الْمُصْعَبِ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَرْضٌ مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ
إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَبَطْنُ
عُرَنَةَ يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ
بِغَرْبِيِّ مَسْجِدِ عَرَفَةَ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْجِدَارَ الْغَرْبِيَّ مِنْ مَسْجِدِ
عَرَفَةَ لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ. وَحَكَى
الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ عَرَفَةَ فِي الْحِلِّ،
وَعُرَنَةَ فِي الْحَرَمِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
(2/418)
وَأَمَّا بَطْنُ مُحَسِّرٍ فَذَكَرَ
وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْضَعَ «1» فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ. الثَّامِنَةُ- وَلَا
بَأْسَ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ
بِغَيْرِ عَرَفَةَ، تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ. رَوَى
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ
صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ. يَعْنِي
اجْتِمَاعَ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ
بِالْبَصْرَةِ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ: رَأَيْتُ
عُمَرَ بْنَ حُرَيْثٍ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَقَدِ
اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ،
يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أَرْجُو أَلَّا
يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْحَسَنُ
وَبَكْرٌ وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، كَانُوا
يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. التَّاسِعَةُ- فِي
فَضْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ. يَوْمُ عَرَفَةَ فَضْلُهُ عَظِيمٌ
وَثَوَابُهُ جَسِيمٌ، يُكَفِّرُ اللَّهُ فِيهِ الذُّنُوبَ
الْعِظَامَ، وَيُضَاعِفُ فِيهِ الصَّالِحُ مِنَ الْأَعْمَالِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَوْمُ يَوْمِ
عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).
أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ
وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ (. وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) مَا مِنْ يَوْمٍ
أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَدَدًا مِنَ النَّارِ
مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُوُ عَزَّ وَجَلَّ
ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ مَا أَرَادَ
هَؤُلَاءِ (. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
كُرَيْزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (ما رؤي الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ
أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَدْحَرَ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ
فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ
تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ
الْعِظَامِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ (. قِيلَ: وَمَا
رَأَى [يَوْمَ بَدْرٍ «2» [يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:) أَمَا
إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ) «3».
قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو النَّضْرِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعِجْلِيُّ عَنْ مَالِكٍ عن
إبراهيم ابن أَبِي عَبْلَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هذا
الحديث عن أبيه غيره
__________
(1). الإيضاع: سير مثل الخبب (ضرب من العدو)، يقال: وضع البعير
يضع وصنعا، وأوضعه راكبه إيضاعا إذا حمله على سرعة السير.
(2). زيادة عن الموطأ.
(3). قوله" يزع الملائكة": يرتبهم ويستويهم ويصفهم للحرب،
فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار.
(2/419)
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَابُ مَا فِي
الْمُوَطَّأِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي
نَوَادِرِ الْأُصُولِ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ نُعَيْمِ
التَّمِيمِيُّ أَبُو رَوْحٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ السُّلَمِيُّ
قَالَ حَدَّثَنِي ابْنٌ لِكِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ
مِرْدَاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ
وَالرَّحْمَةِ، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ: إِنِّي
قَدْ فَعَلْتُ إِلَّا ظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَأَمَّا
ذُنُوبُهُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا.
قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُثِيبَ هَذَا
الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلِمَتِهِ وَتَغْفِرَ لِهَذَا
الظَّالِمِ) فَلَمْ يُجِبْهُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، فَلَمَّا
كَانَ الْغَدَاةَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ اجْتَهَدَ فِي
الدُّعَاءِ فَأَجَابَهُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ،
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: تَبَسَّمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي
سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تَتَبَسَّمُ فِيهَا؟ فَقَالَ: تَبَسَّمْتُ
مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ
اللَّهَ قَدِ اسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي أَهْوَى يَدْعُو
بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ
وَيَفِرُّ (. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحَسَنُ) 1
(بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا
مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ غَفَرَ
اللَّهُ لِلْحَاجِّ الْخَالِصِ وَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ
الْمُزْدَلِفَةِ غَفَرَ اللَّهُ لِلتُّجَّارِ وَإِذَا كَانَ
يَوْمُ مِنًى غَفَرَ اللَّهُ لِلْجَمَّالِينَ وَإِذَا كَانَ
يَوْمُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ غَفَرَ اللَّهُ لِلسُّؤَالِ وَلَا
يَشْهَدُ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ خَلْقٌ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ إِلَّا غَفَرَ لَهُ (. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ
مَحْفُوظًا عَنْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبُو
عَبْدِ الْغَنِيِّ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَا
زَالُوا يُسَامِحُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي رِوَايَاتِ
الرَّغَائِبِ وَالْفَضَائِلِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا
كَانُوا يَتَشَدَّدُونَ فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ.
الْعَاشِرَةُ- اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صَوْمَ يَوْمِ
عَرَفَةَ إِلَّا بِعَرَفَةَ. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ
لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ، وَأَرْسَلَتْ
إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ. قَالَ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (حججت
مع النبي صلى الله)
__________
(1) في نسخة ب:" الحسين". والذي يروى عن عبد الرزاق بن هشام
الحميري- أحد رجال هذا السند- هو الحسن بن على الخلال أبو على،
وقيل أبو محمد.
(2/420)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ-
يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَةَ- وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ
يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَالْعَمَلُ عَلَى
هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَحِبُّونَ
الْإِفْطَارَ بِعَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى بِهِ الرَّجُلُ عَلَى
الدُّعَاءِ، وَقَدْ صَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمَ
عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ". وَأُسْنِدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَمَعَ عُثْمَانَ
فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ
وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ:
أَصُومُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُ فِي الصَّيْفِ. وَقَالَ
يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ: يَجِبُ الْفِطْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي، الْعَاصِي وَابْنُ الزُّبَيْرِ
وَعَائِشَةُ يَصُومُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: الْفِطْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ أَحَبُّ
إِلَيَّ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّوْمُ بِغَيْرِ عَرَفَةَ أَحَبُّ
إِلَيَّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ:
(يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ). وَقَدْ
رُوِينَا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ
عَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ
أَجْرِ الصَّائِمِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ"
أَيِ اذْكُرُوهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَيُسَمَّى جَمْعًا لِأَنَّهُ
يَجْمَعُ ثَمَّ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ آدَمُ فِيهِ مَعَ حَوَّاءَ، وَازْدَلَفَ
إِلَيْهَا، أَيْ دَنَا مِنْهَا، وَبِهِ سُمِّيَتْ
الْمُزْدَلِفَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: سُمِّيَتْ بِفِعْلِ
أَهْلِهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ
يَتَقَرَّبُونَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا. وَسُمِّيَ مَشْعَرًا مِنَ
الشِّعَارِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْحَجِّ
وَالصَّلَاةِ وَالْمَبِيتِ بِهِ، وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُ مِنْ
شَعَائِرِ الْحَجِّ. وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لِحُرْمَتِهِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ- لَا
اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ- أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَجْمَعَ
الْحَاجُّ بِجَمْعٍ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. واختلفوا
فيمن صلاها؟ أَنْ يَأْتِيَ جَمْعًا، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ
وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَدَفَعَ بِدَفْعِهِ فَلَا يُصَلِّي
حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ فَيَجْمَعُ بَيْنَهَا،
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكُ
). قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُزْدَلِفَةَ دون
(2/421)
عُذْرٍ يُعِيدُ مَتَى مَا عَلِمَ،
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ صَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكَ). وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ،
إِلَّا أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ
فَيُعِيدُ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ،
وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ،
وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاتَانِ سُنَّ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِمَا،
وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ، كَالْجَمْعِ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ. وَاخْتَارَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَعْقُوبَ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ،
فَإِنْ أَدْرَكَهُ نِصْفُ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُزْدَلِفَةَ صَلَّاهُمَا. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَمَنْ
أَسْرَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ
فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَجَّلَ إِلَى
الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، [لَا لِإِمَامٍ
وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ «1»]، لقوله عليه
السلام: (لصلاة أَمَامَكَ) ثُمَّ صَلَّاهَا بِالْمُزْدَلِفَةِ
بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ. [وَمِنْ جِهَةِ «2» الْمَعْنَى
أَنَّ وَقْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ]،
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ
لَهَا وَقْتٌ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ لَمَا أُخِّرَتْ
عَنْهُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا مَنْ أَتَى عَرَفَةَ
بَعْدَ دَفْعِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِمَّنْ
وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: مَنْ
وَقَفَ بَعْدَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ كُلَّ صَلَاةٍ
لِوَقْتِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ
يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ: إِنَّهُ يُصَلِّي
إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ وَقَفَ بَعْدَ الْإِمَامِ:
إِنْ رَجَا أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ ثُلُثَ اللَّيْلِ
فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ،
وَإِلَّا صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا. فَجَعَلَ ابْنُ
الْمَوَّازِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ
لِمَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَاعَى
مَالِكٌ الْوَقْتَ دُونَ الْمَكَانِ، وَاعْتَبَرَ ابْنُ
الْقَاسِمِ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ لِلصَّلَاةِ وَالْمَكَانَ،
فَإِذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ بَطَلَ
اعْتِبَارُ الْمَكَانِ، وَكَانَ مُرَاعَاةُ وقتها المختار
أولى.
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ج.
(2). ما بين المربعين ساقط من ج.
(2/422)
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ.
وَالْآخَرُ: هَلْ يَكُونُ جَمْعُهُمَا مُتَّصِلًا لَا يُفْصَلُ
بَيْنَهُمَا بِعَمَلٍ، أَوْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بَيْنَهُمَا
وَحَطُّ الرِّحَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَذَانُ
وَالْإِقَامَةُ فَثَبَتَ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ.
أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ،
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّيهِمَا بِأَذَانَيْنِ
وَإِقَامَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ
بِعَرَفَةَ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ
بِإِجْمَاعٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ فِيمَا قَالَهُ
مَالِكٌ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّهُ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِمَالِكٍ فِي
هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةِ
وَعَرَفَةَ أَنَّ الْوَقْتَ لَهُمَا جَمِيعًا وَقْتٌ وَاحِدٌ،
وَإِذَا كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا وَكَانَتْ كُلُّ صَلَاةٍ
تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا
أَوْلَى بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مِنَ الْأُخْرَى، لِأَنَّ
لَيْسَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا تُقْضَى، وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاةٌ
تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي
وَقْتِهَا سُنَّتُهَا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ فِي
الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
آخَرُونَ: أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا فَتُصَلَّى بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتُصَلَّى بِلَا أَذَانٍ
وَلَا إِقَامَةٍ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ
بِالتَّأْذِينِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ تَفَرَّقُوا
لِعَشَائِهِمْ فَأَذَّنَ لِيَجْمَعَهُمْ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ
نَقُولُ إِذَا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْإِمَامِ لِعَشَاءٍ
أَوْ غَيْرِهِ، أَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ فَأَذَّنُوا
لِيَجْمَعَهُمْ، وَإِذَا أَذَّنَ أَقَامَ. قَالُوا: فَهَذَا
مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَذَكَرُوا حَدِيثَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ
يَجْعَلُ الْعَشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ،
وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى وَصَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في
شي مِنْهُمَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ
الثَّوْرِيُّ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ الصَّبَّاحِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ
ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بَيْنَ
(2/423)
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ
بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَهَبُوا فِي
ذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عن يونس ابن عُبَيْدٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ
وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ
بْنِ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَحَكَى
الْجُوزْجَانِيُّ «1» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ
بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، يُؤَذَّنُ لِلْمَغْرِبِ
وَيُقَامُ لِلْعِشَاءِ فَقَطْ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الطَّحَاوِيُّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ
وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: تُصَلَّى
بِإِقَامَتَيْنِ دُونَ أَذَانٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ،
وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ
رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَمْ
يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْآثَارُ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَثْبَتِ مَا
رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ
لِلتَّأْوِيلِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ،
فَهُوَ أَوْلَى، وَلَا مَدْخَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
لِلنَّظَرِ، وَإِنَّمَا فِيهَا الِاتِّبَاعُ. السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَمَلٍ
غَيْرِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ
الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ،
ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ
أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ
أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا
شَيْئًا. فِي رِوَايَةٍ: وَلَمْ يَحِلُّوا «2» حَتَّى أَقَامَ
الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا. وَقَدْ
ذَكَرْنَا آنِفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ
يَجْعَلُ، الْعَشَاءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَفِي هَذَا
جَوَازُ الْفَصْلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِجَمْعٍ. وَقَدْ
سُئِلَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ: أَيَبْدَأُ
بِالصَّلَاةِ أَوْ يؤخر حتى يحط عن راحلته؟ فقال:
__________
(1). الجوزجاني (بجيم وواو وزاي معجمة ثم جيم أخرى): هذه
النسبة إلى المدينة بخراسان مما يلي بلخ، وهو أبو سليمان، صاحب
الامام محمد بن الحسن بن فرقد، أخذ الفقه عنه وروى كتبه.
(2). قوله: ولم يحلوا. هو من الحل بمعنى الفك، أو من الحلول
بمعنى النزول، أي لم يفكوا ما على الجمال، أو ما نزلوا تمام
النزول الذي يريده المسافر البالغ منزلة.
(2/424)
أَمَّا الرَّحْلُ الْخَفِيفُ فَلَا بَأْسَ
أَنْ يَبْدَأَ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمَحَامِلُ
وَالزَّوَامِلُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ «1»، وَلْيَبْدَأْ
بِالصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ يَحُطُّ عَنْ رَاحِلَتِهِ. وَقَالَ
أَشْهَبُ فِي كُتُبِهِ: لَهُ حَطُّ رَحْلِهِ قَبْلَ
الصَّلَاةِ، وَحَطُّهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ
أَحَبُّ إِلَيَّ مَا لَمْ يَضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ، لِمَا
بِدَابَّتِهِ مِنَ الثِّقَلِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْعُذْرِ. وَأَمَّا التَّنَفُّلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ
أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يَتَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا
الْجَامِعُ بين الصلاتين، وفى حديث أُسَامَةَ: وَلَمْ يُصَلِّ
بَيْنَهُمَا شَيْئًا. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا
الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلَيْسَ رُكْنًا فِي الْحَجِّ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ
لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَلَمْ
يَقِفْ بِجَمْعٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا
فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ قَامَ بِهَا أَكْثَرَ لَيْلِهِ فلا شي
عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْلَةَ النَّحْرِ
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، لَا
فَرْضٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي
ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيمَنْ لَمْ يعد. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ الليل فلا
شي عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ
يَعُدْ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ افْتَدَى، وَالْفِدْيَةُ شَاةٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَرْضٌ، وَمَنْ
فَاتَهُ جَمْعٌ وَلَمْ يَقِفْ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ،
وَيُجْعَلُ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ
الثَّوْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ عَنْهُ أَنَّ الوقوف
بها سنة مؤكدة. وقال حماد ابن أَبِي سُلَيْمَانَ. مَنْ
فَاتَتْهُ الْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ،
وَلْيَتَحَلَّلْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ لِيَحُجَّ قَابِلًا.
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرامِ" وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا فَوَقَفَ مَعَ
النَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ
ذَلِكَ فَلَا حَجَّ لَهُ). ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ:
قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِجَمْعٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِي
مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ
ثُمَّ وَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيضَ وَقَدْ أَفَاضَ قَبْلَ
ذَلِكَ [مِنْ عَرَفَاتٍ] «2» لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تم
حجه وقضى تفثه).
__________
(1). عبارة الأصل." فلا أدرى، وليبدأ ... إلخ" والتصويب عن
كتاب" المنتقى" للباجى.
(2). الزيادة عن الدارقطني.
(2/425)
قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ لَمْ يَقِفْ
بِجَمْعٍ جَعَلَهَا عُمْرَةً. وَأَجَابَ مَنِ احْتَجَّ
لِلْجُمْهُورِ بِأَنْ قَالَ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ
فِيهَا عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْوُقُوفِ وَلَا الْمَبِيتِ،
إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِيهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا
مُجَرَّدُ الذِّكْرِ. وَكُلٌّ قَدْ أَجْمَعَ أَنَّهُ لَوْ
وَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَنَّ حَجَّهُ
تَامٌّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الذِّكْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ
صُلْبِ الْحَجِّ فَشُهُودُ الْمَوْطِنِ أَوْلَى بِأَلَّا
يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا
أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَ
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِجَمْعٍ، وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ
بِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ، مِمَّنْ
يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ
سُنَّةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ فَقَدْ
جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بَيَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَسَأَلُوهُ
عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ أَدْرَكَهَا
قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ
تَمَّ حَجُّهُ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ قال: أخبرنا إسحاق ابن
إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ- يَعْنِي الثَّوْرِيَّ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ
عَنْ عبد الرحمن ابن يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ ...
، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(الْحَجُّ عَرَفَاتٌ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ
يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَأَيَّامُ مِنًى
ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ (.
وَقَوْلَهُ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ:) مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا
هَذِهِ (. فَذَكَرَ الصَّلَاةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَدْ
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَوْ بَاتَ بِهَا وَوَقَفَ
وَنَامَ عَنِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ
حَتَّى فَاتَتْهُ إِنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. فَلَمَّا كَانَ
حُضُورُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ
الْحَجِّ كَانَ الْوُقُوفُ بِالْمَوْطِنِ الَّذِي تَكُونُ
فِيهِ الصَّلَاةُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالُوا:
فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَلِكَ الْفَرْضُ
إِلَّا بِعَرَفَةَ خَاصَّةً. الثَّامِنَةَ «1» عَشْرَةَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ" كَرَّرَ
الْأَمْرَ تَأْكِيدًا، كَمَا تَقُولُ: ارْمِ. ارْمِ. وَقِيلَ:
الْأَوَّلُ أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
وَالثَّانِي أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِخْلَاصِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ
وَأَمْرٌ بِشُكْرِهَا، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر
__________
(1). يلاحظ أن الأصول اضطربت في عدد هذه المسائل.
(2/426)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قَدْرَ الْإِنْعَامِ فَقَالَ:" وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ" وَالْكَافُ فِي"
كَمَا" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَ" مَا" مَصْدَرِيَّةٌ
أَوْ كَافَّةٌ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا
كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً حَسَنَةً، وَاذْكُرُوهُ كَمَا
عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَذْكُرُونَهُ لَا تَعْدِلُوا عَنْهُ. وَ"
إِنْ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، يَدُلُّ على ذلك دخول
اللام في الخبر، قال سِيبَوَيْهِ. الْفَرَّاءُ: نَافِيَةٌ
بِمَعْنَى مَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، كَمَا قَالَ:
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا ... حَلَّتْ
عَلَيْكَ عُقُوبَةُ الرَّحْمَنِ «1»
أَوْ بِمَعْنَى قَدْ، أَيْ قَدْ كُنْتُمْ، ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ. وَالضَّمِيرُ فِي" قَبْلِهِ" عَائِدٌ إِلَى
الْهُدَى. وَقِيلَ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَّا ضَالِّينَ. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كِنَايَةٌ عَنْ
غَيْرِ مَذْكُورٍ، والأول أظهر والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 199]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قِيلَ: الْخِطَابُ لِلْحُمْسِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، بَلْ كَانُوا يَقِفُونَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ، وَكَانُوا
يَقُولُونَ: نَحْنُ قَطِينُ «2» اللَّهِ، فَيَنْبَغِي لَنَا
أَنْ نُعَظِّمَ الْحَرَمَ، وَلَا نُعَظِّمَ شَيْئًا مِنَ
الْحِلِّ، وَكَانُوا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ
إِنَّ عَرَفَةَ مَوْقِفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا
يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَرَمِ، وَيَقِفُونَ بِجَمْعٍ
وَيُفِيضُونَ مِنْهُ وَيَقِفُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: أَفِيضُوا مع الجملة. و" ثم" لَيْسَتْ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ لِلتَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ جُمْلَةِ
كَلَامٍ هِيَ مِنْهَا مُنْقَطِعَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْمُخَاطَبُ بِالْآيَةِ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ
بِ" النَّاسِ" إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا
قَالَ:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ" «3» [آل عمران: 173]
وَهُوَ يُرِيدُ وَاحِدًا. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ
يُؤْمَرُوا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
تَكُونَ إِفَاضَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي مِنْ
الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَجِيءُ" ثُمَّ" عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ
عَلَى بَابِهَا، وَعَلَى هذا الاحتمال عول
__________
(1). البيت لعاتكة بنت زيد. والرواية فيه: ... عقوبة المعتمد.
راجع الكلام عليه في الشاهد 868.
(2). قطين الله: أي سكان حرمه، والقطين جمع قاطن كالقطان.
(3). راجع ج 4 ص 279. [ ..... ]
(2/427)
الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أَفَاضَ
إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ جَمْعٍ، أَيْ ثُمَّ أَفِيضُوا
إِلَى مِنًى لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ
الْإِفَاضَةِ مِنْ جَمْعٍ. قُلْتُ: وَيَكُونُ فِي هَذَا
حُجَّةً لِمَنْ أَوْجَبَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ،
لِلْأَمْرِ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ
الْقَوْلَيْنِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى
دِينِهَا وَهُمُ الْحُمْسُ يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ
يَقُولُونَ: نَحْنُ قَطِينُ اللَّهِ، وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ
يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ". هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:" ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ" قَالَتْ: كَانَ
النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ
يُفِيضُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: لَا نُفِيضُ
إِلَّا مِنْ الْحَرَمِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:" أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ" رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. وَهَذَا
نَصٌّ صَرِيحٌ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ صَحِيحٌ، فَلَا مُعَوَّلَ
عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" النَّاسِي" وَتَأْوِيلُهُ
آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تعالى:" فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً" «1» [طه: 115]. وَيَجُوزُ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ تَخْفِيفُ الْيَاءِ فَيَقُولُ النَّاسُ، كَالْقَاضِ
وَالْهَادِ. ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَّا جَوَازُهُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا جَوَازُهُ
مَقْرُوءًا بِهِ فَلَا أَحْفَظُهُ. وَأَمَرَ تَعَالَى
بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا مَوَاطِنُهُ، وَمَظَانُّ
الْقَبُولِ وَمَسَاقِطُ الرَّحْمَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
الْمَعْنَى وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِنْ فِعْلِكُمُ الَّذِي
كَانَ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي وُقُوفِكُمْ
بِقُزَحٍ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَةَ. الثَّانِيَةُ-
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ-
يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ
عَلَى قُزَحَ فَقَالَ: (هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ
وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ونحرت هاهنا وَمِنًى كُلُّهَا
مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ). فَحُكْمُ الْحَجِيجِ
إِذَا دَفَعُوا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ
يَبِيتُوا بِهَا ثُمَّ يُغَلِّسُ «2» بِالصُّبْحِ الْإِمَامُ
بِالنَّاسِ وَيَقِفُونَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَقُزَحُ
هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَلَا
يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ إِلَى قُرْبِ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ الطُّلُوعِ،
عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ
بَعْدَ الطُّلُوعِ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، كيما نغير،
أي كيما نقرب
__________
(1). راجع ج 11 ص 251.
(2). الغلس (محركة): ظلمة آخر الليل.
(2/428)
مِنَ التَّحَلُّلِ فَنَتَوَصَّلُ إِلَى
الْإِغَارَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «1» عَنْ عَمْرِو بْنُ
مَيْمُونٍ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ
ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا
يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ
ثَبِيرُ «2»، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ
الشَّمْسُ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عن
محمد بن قيس بْنِ مَخْرَمَةَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ
عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ
مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَخَّرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا
وَعَجَّلَ هَذَا، أَخَّرَ الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَعَجَّلَ
الدَّفْعَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ مُخَالِفًا هَدْي
الْمُشْرِكِينَ. الثَّالِثَةُ- فَإِذَا دَفَعُوا قَبْلَ
الطُّلُوعِ فَحُكْمُهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَلَى هَيْئَةِ
الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، وَهُوَ أَنْ يَسِيرَ الْإِمَامُ
بِالنَّاسِ سَيْرَ الْعَنَقِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَهُمْ
فُرْجَةً زَادَ فِي الْعَنَقِ شَيْئًا. وَالْعَنَقُ: مَشْيٌ
لِلدَّوَابِّ مَعْرُوفٌ لَا يُجْهَلُ. وَالنَّصُّ: فَوْقَ
الْعَنَقِ، كَالْخَبَبِ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ. وَفِي صَحِيحٌ
مُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بن زيد رضي الله عنهما وسيل: كَيْفَ
كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ: كَانَ
يَسَيِّرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ
هِشَامٌ «3»: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحَرِّكَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ
قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَرَجَ،
وَهُوَ مِنْ مِنًى. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ «4» وَغَيْرُهُ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَفَعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ
وَقَالَ لَهُمْ: (أَوْضِعُوا فِي وَادِي مُحَسِّرٍ) وَقَالَ
لَهُمْ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ). فَإِذَا أَتَوْا مِنًى
وَذَلِكَ غَدْوَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، رَمَوْا جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ بِهَا ضُحًى رُكْبَانًا إِنْ قَدَرُوا، وَلَا
يُسْتَحَبُّ الرُّكُوبُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجِمَارِ،
وَيَرْمُونَهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، كُلُّ حَصَاةٍ مِنْهَا
مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ «5» - عَلَى مَا يَأْتِيِ بَيَانُهُ-
فَإِذَا رَمَوْهَا حَلَ لَهُمْ كُلُّ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ
مِنَ اللباس
__________
(1). في ب، ج:" النحاس" وهو خطأ.
(2). ثبير (بفتح المثلثة وكسر الموحدة وسكون التحية): جبل عظيم
بالمزدلفة على يسار الذاهب منا إلى منى. هذا هو المراد، وللعرب
جبال أخر اسم كل منها ثبير. (عن زهر الربى للسيوطي).
(3). هشام هو أحد رواة سند هذا الحديث.
(4). في ج،:" الترمذي".
(5). الخذف (بالخاء المعجمة المفتوحة والذال المعجمة الساكنة):
رميك حصاة أو نواة تأخذها بين الإبهام والسابة وترمى بها.
والمراد الحصا الصغار.
(2/429)
وَالتَّفَثِ كُلِّهِ، إِلَّا النِّسَاءَ
وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ عِنْدَ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْخَفَّافِ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عُمَرَ: يحل له كل شي إِلَّا
النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. وَمَنْ تَطَيَّبَ عِنْدَ مَالِكٍ
بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ لَمْ يُرَ عَلَيْهِ
فِدْيَةٌ، لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ صَادَ عِنْدَهُ
بَعْدَ أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةَ وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ
كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شي إِلَّا
النِّسَاءَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعَةُ-
وَيَقْطَعُ الْحَاجُّ التَّلْبِيَةَ بِأَوَّلِ حَصَاةٍ
يَرْمِيهَا مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ
مُبَاحٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ قَطْعُهَا
عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، عَلَى مَا
ذَكَرَ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ: هُوَ الْأَمْرُ
عِنْدَنَا. قُلْتُ: وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ
السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ
عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ
وَغَدَاةِ جَمْعٍ «1» لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: (عَلَيْكُمْ
بِالسَّكِينَةِ) وَهُوَ كَافٌّ «2» نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ
مُحَسِّرًا (وَهُوَ مِنْ مِنًى) قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِحَصَى
الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةَ)، وَقَالَ: لَمْ
يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. فِي رِوَايَةٍ:
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده كما
يحذف الْإِنْسَانُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ
الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى
بِسَبْعٍ وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ
سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا
رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ فَقَدْ حل لكم كل شي
إِلَّا النِّسَاءَ وَحَلَّ لَكُمُ الثِّيَابُ وَالطِّيبُ).
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ
هَاتَيْنِ، حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ
أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا. وَهَذَا هُوَ
التَّحَلُّلُ الْأَصْغَرُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَالتَّحَلُّلُ
الْأَكْبَرُ: طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحِلُّ
النِّسَاءَ وَجَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَسَيَأْتِي
ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ" الْحَجِّ" «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
__________
(1). أي صباح المزدلفة.
(2). من الكف بمعنى الإسراع.
(3). راجع ج 12 ص 51.
(2/430)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)
[سورة البقرة (2): آية 200]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا
قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَاسِكُ
الذَّبَائِحُ وَهِرَاقَةُ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: هِيَ شَعَائِرُ
الْحَجِّ، لقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم). المعنى:
فَإِذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِآلَائِهِ
عِنْدَكُمْ. وَأَبُو عَمْرٍو يُدْغِمُ الْكَافَ فِي الْكَافِ،
وَكَذَلِكَ" مَا سَلَكَكُمْ" لأنهما مثلان. و" قَضَيْتُمْ"
هُنَا بِمَعْنَى أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ" «1» [الجمعة: 10] أَيْ
أَدَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ
عَمَّا فُعِلَ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ وَقْتِهَا
الْمَحْدُودِ لَهَا. الثانية- قوله تعالى:" فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ" كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ
إِذَا قَضَتْ حَجُّهَا تَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَتُفَاخِرُ
بِالْآبَاءِ، وَتَذْكُرُ أَيَّامَ أَسْلَافِهَا مِنْ بَسَالَةٍ
وَكَرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ
لَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ،
عَظِيمَ الْجَفْنَةِ «2»، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي
مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أَكْثَرَ مِنَ الْتِزَامِهِمْ ذِكْرَ آبَائِهِمْ أَيَّامَ
الْجَاهِلِيَّةِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ:
مَعْنَى الْآيَةِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الْأَطْفَالِ
آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ: أَبَهْ أُمَّهْ، أَيْ
فَاسْتَغِيثُوا بِهِ وَالْجَئُوا إِلَيْهِ كَمَا كُنْتُمْ
تَفْعَلُونَ فِي حَالِ صِغَرِكُمْ بِآبَائِكُمْ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اذْكُرُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ
وَذُبُّوا عَنْ حَرَمِهِ، وَادْفَعُوا مَنْ أَرَادَ الشِّرْكَ
فِي دِينِهِ وَمَشَاعِرِهِ، كَمَا تَذْكُرُونَ آبَاءَكُمْ
بِالْخَيْرِ إِذَا غَضَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَتَحْمُونَ
جَوَانِبَهُمْ وَتَذُبُّونَ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو
الْجَوْزَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ الْيَوْمَ لَا
يَذْكُرُ أَبَاهُ، فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ؟ قَالَ: لَيْسَ
كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَبَ لله تعالى
__________
(1). راجع ج 18 ص 108.
(2). الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع.
(2/431)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ
لِوَالِدَيْكَ إِذَا شُتِمَا. وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ"
كَذِكْرِكُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ ذِكْرًا
كَذِكْرِكُمْ." أَوْ أَشَدَّ" قَالَ الزَّجَّاجُ:" أَوْ
أَشَدَّ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِكُمْ،
الْمَعْنَى: أَوْ كَأَشَدَّ ذِكْرًا، وَلَمْ يَنْصَرِفْ
لِأَنَّهُ" أَفْعَلُ" صِفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى أَوِ اذْكُرُوهُ أَشَدَّ. و"
ذِكْراً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا"" مِنْ"
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ
بِالصِّفَةِ يَقُولُ" رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا" صِلَةٌ"
مَنْ" الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا فِي
مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَقَطْ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَ الْإِبِلَ
وَالْغَنَمَ وَالظَّفَرَ بِالْعَدُوِّ، وَلَا يَطْلُبُونَ
الْآخِرَةَ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ
الْمَخْصُوصِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَجَاءَ النَّهْيُ فِي
صِيغَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَذَا
الْوَعِيدُ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا إِذَا قَصَرَ دَعَوَاتِهِ فِي
الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا فَ" مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلاقٍ" أَيْ كَخَلَاقِ الَّذِي يَسْأَلُ الْآخِرَةَ
وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ. وَ" مِنْ" زائدة وقد تقدم.
[سورة البقرة (2): آية 201]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ
النَّارِ (201) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ" أَيْ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْحَسَنَتَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ
عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ
الْحَسْنَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْحُورُ الْعِينُ." وَقِنا
عَذابَ النَّارِ": الْمَرْأَةُ السُّوءُ. قُلْتُ: وَهَذَا
فِيهِ بُعْدٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّ النَّارَ
حَقِيقَةٌ فِي النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعِبَارَةُ
الْمَرْأَةِ عَنِ النَّارِ تَجَوُّزٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ
الْمَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ
وَالْعِبَادَةُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَتَيْنِ
نِعَمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ،
فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا كُلَّهُ، فإن" حَسَنَةً"
(2/432)
نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ، فَهُوَ
مُحْتَمِلٌ لِكُلِ حَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَلَى
الْبَدَلِ. وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ بِإِجْمَاعٍ.
وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ حَسَنَةً وَاحِدَةً، بَلْ أَرَادَ:
أَعْطِنَا فِي الدُّنْيَا عَطِيَّةً حَسَنَةً، فَحَذَفَ
الِاسْمَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقِنا عَذابَ
النَّارِ" أصل" قنا" أو قنا، حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ
فِي يَقِي وَيَشِي، لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ،
مِثْلُ يَعِدُ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ: حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْنَ اللَّازِمِ
وَالْمُتَعَدِّي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا خَطَأٌ،
لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: وَرِمَ يَرِمُ، فَيَحْذِفُونَ
الْوَاوَ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الدُّعَاءُ فِي أَلَّا
يَكُونَ الْمَرْءُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا بِمَعَاصِيهِ
وَتُخْرِجُهُ الشَّفَاعَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً
مُؤَكَّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، لِتَكُونَ
الرَّغْبَةُ فِي مَعْنَى النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ مِنَ
الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا إِنَّمَا أَقُولُ
فِي دُعَائِي: اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ وَعَافِنِي
مِنَ النَّارِ، وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتُكَ «1» وَلَا
دَنْدَنَةُ مُعَاذٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" حَوْلَهَا «2» نُدَنْدِنُ"
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ
أَيْضًا. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَوَامِعِ
الدُّعَاءِ الَّتِي عَمَّتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. قِيلَ
لِأَنَسٍ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ. قَالُوا: زِدْنَا. قَالَ: مَا تُرِيدُونَ!
قَدْ سَأَلْتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ!. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(اللَّهُمَّ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ). قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا
أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ. وَفِي
حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ
يَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. ماله هِجِّيرَى
«3» غَيْرَهَا، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَنْ يَكُونَ
أَكْثَرُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَوْقِفِ هَذِهِ
الْآيَةِ:
__________
(1). الدندنة: أن يتكلم الرجل الكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وهو
أرفع من الهينمة قليلا.
(2). في حاشية السندي على سنن ابن ماجة:" وفى بعض النسخ حولهما
بالتثنية، فعلى الأول معناه حول مقالتك، أي كلامنا قريب من
كلامك. وعلى الثاني معناه حول الجنة والنار، أي كلامنا أيضا
لطلب الجنة والتعوذ من النار". [ ..... ]
(3). الهجير والهجيرى: الدأب والعادة والديدن.
(2/433)
أُولَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
" رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ". وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِنْدَ الرُّكْنِ مَلَكًا قَائِمًا
مُنْذُ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ يَقُولُ آمِينَ،
فَقُولُوا:" رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ" وسيل عَطَاءٌ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَهُوَ
يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي أَبُو
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا فَمَنْ
قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
قَالُوا آمِينَ) الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي
السُّنَنِ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ مُسْنَدًا فِي [الْحَجِّ]
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
[سورة البقرة (2): آية 202]
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ (202)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا" هَذَا يَرْجِعُ
إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَرِيقِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَهُمْ
ثَوَابُ الْحَجِّ أَوْ ثَوَابُ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ دُعَاءَ
الْمُؤْمِنِ عِبَادَةٌ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ" أُولئِكَ" إِلَى
الْفَرِيقَيْنِ، فَلِلْمُؤْمِنِ ثَوَابُ عَمَلِهِ وَدُعَائِهِ،
وَلِلْكَافِرِ عِقَابُ شِرْكِهِ وَقِصَرِ نَظَرِهِ عَلَى
الدُّنْيَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى:" وَلِكُلٍّ
دَرَجاتٌ مِمَّا «1» عَمِلُوا" [الانعام: 132]. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ" مِنْ سَرُعَ
يَسْرُعُ- مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ- سِرْعًا وَسُرْعَةً، فَهُوَ
سَرِيعٌ." الْحِسَابُ" مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَقَدْ
يُسَمَّى الْمَحْسُوبُ حِسَابًا. وَالْحِسَابُ الْعَدُّ:
يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسَابَةً وَحُسْبَانًا
وَحِسْبَانًا وَحَسْبًا، أَيْ عَدَّ، وَأَنْشَدَ ابْنُ
الْأَعْرَابِيِّ:
يَا جُمْلٌ أُسْقَاكَ «2» بِلَا حِسَابَهْ ... سُقْيَا مَلِيكٍ
حَسَنِ الرِّبَابَهْ «3»
قَتَلْتِنِي بِالدَّلِّ والخلابة
__________
(1). راجع ج 7 ص 87.
(2). هكذا أورده الجوهري في الصحاح، وهى رواية الأصول. وفى
اللسان:" وصواب إنشاده: يا جمل أسقيت" أي أسقيت بلا حساب ولا
هنداز.
(3). في الأصول:" الرياسة". والتصويب عن الصحاح واللسان.
والرواية (بالكسر): القيام على الشيء بإصلاحه وتربية. والخلابة
(بالكسر): أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأعذبه.
(2/434)
وَالْحَسَبُ: مَا عُدَّ مِنْ مَفَاخِرِ
الْمَرْءِ. وَيُقَالُ: حَسَبُهُ دِينُهُ. وَيُقَالُ: مَالُهُ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" الْحَسَبُ الْمَالُ وَالْكَرَمُ
التَّقْوَى" رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ، وَهُوَ فِي الشِّهَابِ أَيْضًا. وَالرَّجُلُ حَسِيبٌ،
وَقَدْ حَسُبَ حَسَابَةً (بِالضَّمِّ) مِثْلُ خَطُبَ
خَطَابَةً. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَدٍّ
وَلَا إِلَى عَقْدٍ وَلَا إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ كَمَا
يَفْعَلُهُ الْحَسَّابِ، وَلِهَذَا قَالَ وَقَوْلُهُ
الْحَقُّ:" وَكَفى بِنا حاسِبِينَ" وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ
الْكِتَابِ سَرِيعَ الحساب" الحديث. فالله عز وجل عَالِمٌ
بِمَا لِلْعِبَادِ وَعَلَيْهِمْ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تذكر
وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وَعَلَيْهِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ
فِي الْحِسَابِ عِلْمُ حَقِيقَتِهِ. وَقِيلَ: سَرِيعُ
الْمُجَازَاةِ لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ،
فَيُحَاسِبُهُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا قَالَ
وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1». قَالَ الْحَسَنُ: حِسَابُهُ أَسْرَعُ
مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ، وَفِي الْخَبَرِ" إِنَّ اللَّهَ
يُحَاسِبُ فِي قَدْرِ حَلْبِ شَاةٍ". وَقِيلَ: هُوَ أَنَّهُ
إِذَا حَاسَبَ وَاحِدًا فَقَدْ حَاسَبَ جَمِيعَ الْخَلْقِ.
وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي يَوْمٍ؟ قَالَ كَمَا
يَرْزُقُهُمْ فِي يَوْمٍ! وَمَعْنَى الْحِسَابِ: تَعْرِيفُ
اللَّهِ عِبَادَهُ مَقَادِيرَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ،
وَتَذْكِيرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا قَدْ نَسَوْهُ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ «2»
". وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ سَرِيعٌ بِمَجِيءِ يَوْمِ
الْحِسَابِ، فَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ الْإِنْذَارُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، فَيَأْخُذُ
الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِي تَخْفِيفِ الْحِسَابِ عَنْهُ
بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ
فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا" هُوَ الرَّجُلُ
يَأْخُذُ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ لَهُ
ثَوَابٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَ أَبِي وَلَمْ يَحُجَّ،
أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ
فَقَضَيْتَهُ أَمَا كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي). قَالَ نَعَمْ.
قَالَ: (فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى). قَالَ:
فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا" يعني من حج
__________
(1). راجع ج 14 ص 78.
(2). راجع ج 17 ص 289.
(2/435)
عن منيت كَانَ الْأَجْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَيِّتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي أَحْكَامِهِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
نَحْوَ قَوْلِ مَالِكٍ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَذْهَبِ مَالِكٍ
أَنَّ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ،
وَالْحَجَّةُ لِلْحَاجِّ، فَكَأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ
بَدَنِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ
مَالِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَخْتَلِفُ فِي
هَذَا حُكْمُ مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
أَوْ لَمْ يَحُجَّ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَدْخُلُهَا
النِّيَابَةُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُسْتَنَابِ فِيهَا
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لَمْ
يُؤَدِّ، اعْتِبَارًا بِأَعْمَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ زَكَاةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ
أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ غَيْرِهِ
وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ
يُرَاعِ مَصَالِحَهُ فِي الدُّنْيَا يَصِحُّ أَنْ يَنُوبَ عَنْ
غَيْرِهِ مِنْ مِثْلِهَا فَتَتِمَّ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ
تَتِمَّ لِنَفْسِهِ، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه. تم الجزء
الثاني مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تعالى الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى:" وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ... " الآية.
(2/436)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
الجزء الثالث
[تتمة تفسير سورة البقرة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): آية 203]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ
الْكُوفِيُّونَ: الْأَلِفُ وَالتَّاءُ فِي" مَعْدُوداتٍ"
لِأَقَلِّ الْعَدَدِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُمَا
لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «1» " وَالْغُرُفَاتُ
كَثِيرَةٌ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ
أَيَّامُ مِنًى، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ هَذِهِ
الثَّلَاثَةَ الْأَسْمَاءَ وَاقِعَةٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ
أَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى
الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي يَتَعَجَّلُ الْحَاجُّ
مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقِفْ عَلَى
ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ «2» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ،
وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَكَذَا
حَكَى مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْأَيَّامَ
الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ. وَلَا يَصِحُّ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصْحِيفِ
النَّسَخَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْعَشْرَ الَّذِي «3»
بَعْدَ النَّحْرِ، وَفَى ذَلِكَ بُعْدٌ. الثَّانِيَةُ- أَمَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِذِكْرِهِ فِي
الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي
بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا،
لِإِجْمَاعِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ يَوْمَ
النَّفْرِ وَهُوَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ
يَوْمُ النَّحْرِ فِي الْمَعْدُودَاتِ لَسَاغَ أَنْ يَنْفِرَ
مَنْ شَاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْمَ النَّفْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ
أَخَذَ يَوْمَيْنِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ. خَرَّجَ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ ابن يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنْ
أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعرفة فسألوه،
__________
(1). آية 37 سورة سبأ.
(2). في من:" وقال الثوري".
(3). كذا في الأصول وتفسير ابن عطية، وقال في المصباح مادة"
عشر":" والعامة تذكر العشرة على أنه جمع الأيام فيقولون العشر
الأول والعشر الأخير وهو خطأ فإنه تغيير المسموع".
(3/1)
فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى:" الْحَجُّ
عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ «1» قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، أَيْ مَنْ تَعَجَّلَ مِنَ
الْحَاجِّ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى صَارَ مُقَامُهُ
بِمِنًى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَيَصِيرُ
جَمِيعُ رَمْيِهِ بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً، وَيَسْقُطُ
عَنْهُ رَمْيُ يَوْمِ الثَّالِثِ. وَمَنْ لَمْ يَنْفِرْ
مِنْهَا إِلَّا فِي آخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَصَلَ لَهُ
بِمِنًى مُقَامُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَجْلِ يَوْمِ
النَّحْرِ، وَاسْتَوْفَى الْعَدَدَ فِي الرَّمْيِ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ
مِنًى ثَلَاثَةٌ- مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ- قَوْلُ الْعَرْجِيِّ:
مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنًى ... حَتَّى يُفَرِّقَ
بَيْنَنَا النَّفْرُ
فَأَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ
مَعْلُومَاتٌ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ
يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ
وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، فَيَوْمُ النَّحْرِ مَعْلُومٌ
غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مَعْلُومَانِ
مَعْدُودَانِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ لَا
مَعْلُومٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا
كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنَ الْأَيَّامِ
الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى:" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ"
وَلَا مِنَ الَّتِي عَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ:" أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ"
فَكَانَ مَعْلُومًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:"
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ «2» "، وَلَا خِلَافَ
أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي
وَالثَّالِثِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ
مُرَادٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَعْلُوماتٍ" لِأَنَّهُ لَا
يُنْحَرُ فِيهِ وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ، فَصَارَ
مَعْدُودًا لِأَجْلِ الرَّمْيِ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ
النَّحْرِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْحَقِيقَةُ
فِيهِ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ
بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا
فِي قَوْلِهِ تعالى:" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ:
الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشْرُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَآخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، لَمْ
يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمَا فِي ذَلِكَ، وَرَوَيَا ذَلِكَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ النَّحْرِ، قَالَ
أَبُو يُوسُفَ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عمر وعلى، وإليه أذهب،
__________
(1). جمع (بفتح فسكون): علم للمزدلفة.
(2). آية 28 سورة الحج.
(3/2)
لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ". وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ
أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ: يَوْمُ الْأَضْحَى
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: فَعَلَى
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ
الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، لِأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ
الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِلَا
خِلَافٍ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ لَا
تَتَنَاوَلُ أَيَّامَ الْعَشْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ:" فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ"، وَلَيْسَ فِي الْعَشْرِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ
بِيَوْمَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتِ
أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قُلْتُ:
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ عَشْرُ ذِي
الْحِجَّةِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِمَا
ذَكَرْنَاهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ. وَجَعْلُ اللَّهِ
الذِّكْرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ
بِهِ. الثَّالِثَةُ- وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا
الذِّكْرِ هُوَ الْحَاجُّ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رمى
الحمار، وَعَلَى مَا رُزِقَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي
الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَعِنْدَ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ
دُونَ تَلْبِيَةٍ، وَهَلْ يَدْخُلُ غَيْرُ الْحَاجِّ فِي هَذَا
أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ
وَالْمَشَاهِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْبِيرِ كُلُّ أَحَدٍ- وَخُصُوصًا فِي
أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ- فَيُكَبَّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ
صَلَاةٍ- كَانَ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ-
تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، اقْتِدَاءً
بِالسَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي الْمُخْتَصَرِ:
وَلَا يُكَبِّرُ النِّسَاءُ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ. وَالْأَوَّلُ
أَشْهَرُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِحْرَامِ
كَالرَّجُلِ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ. الرَّابِعَةُ-
وَمَنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ بِإِثْرِ صَلَاةٍ كَبَّرَ إِنْ
كَانَ قَرِيبًا، وَإِنْ تَبَاعَدَ فَلَا شي عَلَيْهِ، قَالَهُ
ابْنُ الْجَلَّابِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ:
يُكَبِّرُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِذَا قام من مجلسه فلا
شي عليه. وفى المدونة من قول مالك: إنسى الْإِمَامُ
التَّكْبِيرَ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا قَعَدَ فَكَبَّرَ، وإن
تباعد فلا شي عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ وَلَمْ يُكَبِّرْ
وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فليكبروا.
(3/3)
الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي طَرَفَيْ مُدَّةِ التَّكْبِيرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:
يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى
الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ
إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يوم النحر. وخالفاه صَاحِبَاهُ
فَقَالَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَاتَّفَقُوا فِي
الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ:
يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى
صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يُكَبِّرُ
مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ:
يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ
النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ:" فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ" وَأَيَّامُهَا
ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ: يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ،
فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ
يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: إِنَّهُ
قَالَ:" فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ"، فَذِكْرُ"
عَرَفَاتٍ" دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ، هَذَا كَانَ
يَصِحُّ لَوْ كَانَ قَالَ: يُكَبِّرُ مِنَ الْمَغْرِبِ يَوْمَ
عَرَفَةَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ، فَأَمَّا
قَبْلُ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَيَلْزَمُهُ
أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ
بِمِنًى. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِ
التَّكْبِيرِ، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ
إِثْرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، رَوَاهُ زِيَادُ
بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ. وَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ:
يُقَالُ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ الثَّلَاثِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي
الْمُخْتَصَرِ عَنْ مَالِكٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ
أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ،
اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ
إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ التَّعْجِيلُ أَبَدًا لَا يَكُونُ
هُنَا إِلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ
الثَّالِثُ، لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ
إِنَّمَا وَقْتُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى
أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ لَا يُرْمَى فِيهِ غَيْرُ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَرْمِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنَ الْجَمَرَاتِ
غَيْرَهَا، وَوَقْتُهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى
الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ
الْجَمَرَاتِ فِي أيام
(3/4)
التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى
الْغُرُوبِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: جَائِزٌ رَمْيُهَا بَعْدَ الْفَجْرِ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنَا
أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَحَدٍ
بِرَمْيٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَلَا يَجُوزُ
رَمْيُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ
أَعَادَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:
لَا يَجُوزُ رَمْيُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي الرَّمْيِ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
أَنَّهَا كَانَتْ تَرْمِي بِاللَّيْلِ وَتَقُولُ: إِنَّا
كُنَّا نَصْنَعُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُرْمَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ
أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ رَمَاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنِ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا، أَوْ
كَانَتْ «1» فِيهِ سُنَّةٌ أَجْزَأَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
أَمَّا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَحُجَّتُهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَمَى الْجَمْرَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ:" خُذُوا
عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: السُّنَّةُ
أَلَّا تَرْمِيَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا
يُجْزِئُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ رَمَى
أَعَادَ، إِذْ فَاعِلُهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَنَّهُ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ. وَمَنْ
رَمَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ
لَا يُجْزِئُهُ. الثَّانِيَةُ- رَوَى مَعْمَرٌ قَالَ
أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ
سَلَمَةَ أَنْ تُصْبِحَ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ وَكَانَ
يَوْمَهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ، فَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ
أَبِيهِ مُرْسَلًا كَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ بِذَلِكَ مُسْنَدًا،
وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ
بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُسْنَدًا أَيْضًا،
وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَمَتِ
الْجَمْرَةَ بِمِنًى قَبْلَ الْفَجْرِ، لِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ
تُصْبِحَ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ
إِلَّا وقد رمت
__________
(1). في ح:" وإن أجمعوا وكانت فيه سنة أجزأه".
(3/5)
الْجَمْرَةَ بِمِنًى لَيْلًا قَبْلَ
الْفَجْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةِ لَيْلَةَ
النَّحْرِ فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ مَضَتْ
فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ [الْيَوْمَ «1»]
الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَهَا. وَإِذَا ثَبَتَ فَالرَّمْيُ بِاللَّيْلِ
جَائِزٌ لِمَنْ فَعَلَهُ، وَالِاخْتِيَارُ مِنْ طُلُوعِ
الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا،
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إِنْ رَمَاهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ ولا شي
عَلَيْهِ، إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ لَهُ
إِنْ تَرَكَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى أَمْسَى أَنْ يهريق
دما يجئ بِهِ مِنَ الْحِلِّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ
يَرْمِهَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَرَمَاهَا مِنَ اللَّيْلِ
أَوْ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ دَمٌ،
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِرَمْيِ الْجَمْرَةِ وَقْتًا، وَهُوَ
يَوْمُ النَّحْرِ، فَمَنْ رَمَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
فَقَدْ رَمَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، وَمَنْ فَعَلَ
شَيْئًا فِي الْحَجِّ بَعْدَ وَقْتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ،
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَهُ السَّائِلُ: يا رسول الله، رميت بعد ما أَمْسَيْتُ
فَقَالَ:" لَا حَرَجَ"، قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَسِيَ رَمْيَ
الْجِمَارِ حَتَّى يُمْسِيَ فَلْيَرْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ ذَكَرَ
مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَمَا يُصَلِّي أَيَّةَ سَاعَةٍ
ذَكَرَ، وَلَا يَرْمِي إِلَّا مَا فَاتَهُ خَاصَّةً، وَإِنْ
كَانَتْ جَمْرَةً وَاحِدَةً رَمَاهَا، ثُمَّ يَرْمِي مَا رَمَى
بَعْدَهَا مِنَ الْجِمَارِ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي
الْجِمَارِ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ فِي رَمْيِ
جَمْرَةٍ حَتَّى يُكْمِلَ رَمْيَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى
كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ
الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: لَيْسَ التَّرْتِيبُ بِوَاجِبٍ فِي
صِحَّةِ الرَّمْيِ، بَلْ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ كُلُّهُ فِي
وَقْتِ الْأَدَاءِ أَجْزَأَهُ. الثَّالِثَةُ- فَإِذَا مَضَتْ
أَيَّامُ الرَّمْيِ فَلَا رَمْيَ، فَإِنْ ذكر بعد ما يصدر وهو
بمكة أو بعد ما يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ،
وَسَوَاءٌ تَرَكَ الْجِمَارَ كُلَّهَا، أَوْ جَمْرَةً مِنْهَا،
أَوْ حَصَاةً مِنْ جَمْرَةٍ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى
فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تَرَكَ
الْجِمَارَ كُلَّهَا فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة
__________
(1). زيادة عن سنن أبى داود.
(3/6)
كَانَ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَصَاةٍ مِنَ
الْجَمْرَةِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، إِلَى أَنْ
يَبْلُغَ دَمًا فَيُطْعِمُ مَا شَاءَ، إِلَّا جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
يَتَصَدَّقُ إِنْ تَرَكَ حَصَاةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ:
يُطْعِمُ فِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، فإن
ترك أربعة فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: فِي
الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ دَمٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ:
إِنَّ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَفِي
حَصَاتَيْنِ مُدَّيْنِ، وَفِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ دَمٌ.
الرَّابِعَةُ- وَلَا سَبِيلَ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَى رَمْيِ
مَا فَاتَهُ مِنَ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى
غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِهَا، وَذَلِكَ الْيَوْمُ
الرَّابِعُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَكِنْ يُجْزِئُهُ الدَّمُ أَوِ
الْإِطْعَامُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا. الْخَامِسَةُ- وَلَا
تَجُوزُ الْبَيْتُوتَةُ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا عَنْ مِنًى
لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ
الْجَمِيعِ إِلَّا لِلرِّعَاءِ وَلِمَنْ وَلِيَ السِّقَايَةَ
مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ
لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى مِنْ غَيْرِ الرِّعَاءِ وَأَهْلِ
السِّقَايَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ
مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ الْعَبَّاسُ يَنْظُرُ فِي السِّقَايَةِ
وَيَقُومُ بِأَمْرِهَا، وَيَسْقِي الْحَاجَّ شَرَابَهَا
أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهُ فِي
الْمَبِيتِ عَنْ مِنًى، كَمَا أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ
مِنْ أَجْلِ حَاجَتِهِمْ لِرَعْيِ الْإِبِلِ وَضَرُورَتِهِمْ
إِلَى الْخُرُوجِ بِهَا نَحْوَ الْمَرَاعِي الَّتِي تَبْعُدُ
عَنْ مِنًى. وَسُمِّيَتْ مِنًى" مِنًى" لِمَا يُمْنَى فِيهَا
مِنَ الدِّمَاءِ، أَيْ يُرَاقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِنَّمَا سُمِّيَتْ منى لان جبريل قل لِآدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: تَمَنَّ. قَالَ: أَتَمَنَّى الْجَنَّةَ،
فَسُمِّيَتْ مِنًى. قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَمْعًا
لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهَا حَوَّاءُ وَآدَمُ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، وَالْجَمْعُ أَيْضًا هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَهُوَ
الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ «1». السَّادِسَةُ-
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ لِلْحَاجِّ
غَيْرَ الَّذِينَ رُخِّصَ لَهُمْ لَيَالِيَ مِنًى بِمِنًى مِنْ
شَعَائِرِ الْحَجِّ وَنُسُكِهِ، وَالنَّظَرُ يُوجِبُ عَلَى
كُلِّ مُسْقِطٍ لِنُسُكِهِ دَمًا، قِيَاسًا عَلَى سائر الحج
ونسكه.
__________
(1). راجع ج 2 ص 421. [ ..... ]
(3/7)
وَفِي الْمُوَطَّأِ: مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عُمَرُ: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ
مِنَ الْحَاجِّ [لَيَالِيَ مِنًى «1»] مِنْ وَرَاءِ
الْعَقَبَةِ. وَالْعَقَبَةُ الَّتِي مَنَعَ عُمَرُ أَنْ
يَبِيتَ أَحَدٌ وَرَاءَهَا هِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي عِنْدَ
الْجَمْرَةِ الَّتِي يَرْمِيهَا النَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ
مِمَّا يَلِي مَكَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي
الْمَبْسُوطِ، قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاتَ
وَرَاءَهَا لَيَالِيَ مِنًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ بَاتَ بِغَيْرِ مِنًى لَيَالِيَ مِنًى، وَهُوَ مَبِيتٌ
مَشْرُوعٌ فِي الْحَجِّ، فَلَزِمَ الدَّمُ بِتَرْكِهِ
كَالْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمَعْنَى الْفِدْيَةِ هُنَا
عِنْدَ مَالِكٍ الْهَدْيُ. قَالَ مَالِكٌ: هُوَ هَدْيٌ يُسَاقُ
مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ. السَّابِعَةُ- رَوَى مَالِكٌ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ
بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ «2» أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِرِعَاءِ
الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ
النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ
لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ،
وَكَانَ يَقُولُ: يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ- يَعْنِي
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ- ثُمَّ لَا يَرْمُونَ مِنَ الْغَدِ،
فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَتَعَجَّلُ فِيهِ
النَّفْرَ مَنْ يُرِيدُ التَّعْجِيلَ أَوْ مَنْ يَجُوزُ لَهُ
التَّعْجِيلُ رَمَوُا الْيَوْمَيْنِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا
كَانَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْئًا
إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ، هَذَا مَعْنَى مَا
فَسَّرَ بِهِ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُوَطَّئِهِ.
وَغَيْرُهُ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا
فِي حَدِيثِ مَالِكٍ، لِأَنَّهَا أَيَّامُ رَمْيٍ كُلُّهَا،
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ مَالِكٍ لِلرِّعَاءِ تَقْدِيمُ
الرَّمْيِ لِأَنَّ غَيْرَ الرِّعَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ
يَرْمُوا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ شَيْئًا مِنَ الْجِمَارِ
قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ
أَعَادَهَا، لَيْسَ لَهُمُ التَّقْدِيمُ. وَإِنَّمَا رُخِّصَ
لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بن أبي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ
بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ
يَتَعَاقَبُوا، فَيَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَدَعُوا
يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ. قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَيَسْقُطُ رَمْيُ الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ
عَمَّنْ تَعَجَّلَ. قَالَ ابْنُ أبى زمنين «3»
__________
(1). زيادة عن الموطأ.
(2). الذي في الموطأ والاستذكار لابن عبد البر:" أَنَّ أَبَا
الْبَدَّاحِ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أخبره عن أبيه".
(3). هو محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبى زمنين المري من أهل
البيرة، وهى بلدة بالأندلس. (عن التكملة لكتاب الصلة).
(3/8)
يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ
حِينَ يُرِيدُ التَّعْجِيلَ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَرْمِي
الْمُتَعَجِّلُ فِي يَوْمَيْنِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً،
كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ
رَمْيِهِ بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً، لِأَنَّهُ قَدْ
رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بِسَبْعٍ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ.
الثَّامِنَةُ- رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ
أَرْخَصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ، يَقُولُ فِي
الزَّمَنِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْبَاجِيُّ:" قَوْلُهُ فِي
الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ زَمَنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَنِ
هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ مُرْسَلٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَوَّلَ زَمَنٍ أَدْرَكَهُ
عَطَاءٌ، فَيَكُونُ مَوْقُوفًا مُسْنَدًا «1» ". وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قُلْتُ: هُوَ مُسْنَدٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ في" الْمُقْتَبَسِ فِي شَرْحِ
مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ"، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمُ
الرَّمْيُ بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ وَأَحْوَطُ
فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ رَعْيِ الْإِبِلِ، لِأَنَّ
اللَّيْلَ وَقْتٌ لَا تَرْعَى فِيهِ وَلَا تَنْتَشِرُ،
فَيَرْمُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ
فَاتَهُ الرَّمْيُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ
عَطَاءٌ: لَا رَمْيَ بِاللَّيْلِ إِلَّا لِرِعَاءِ الْإِبِلِ،
فَأَمَّا التُّجَّارُ فَلَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ الرَّمْيُ حَتَّى تَغِيبَ
الشَّمْسُ فَلَا يَرْمِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ
الْغَدِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ:
إِذَا تَرَكَهُ نَهَارًا رَمَاهُ لَيْلًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُوَطَّأِ
أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا نَسِيَ الرَّمْيَ حَتَّى
أَمْسَى يَرْمِي وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ يُرَخِّصُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ لَيْلًا. وقال
أبو حنيفة: يرمى ولا شي عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا
مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى يَأْتِيَ الْغَدُ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَرْمِيَهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا
أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا
أَهْرَقَ دَمًا. قُلْتُ: أَمَّا مَنْ رَمَى مِنْ رِعَاءِ
الْإِبِلِ أَوْ أَهْلِ السِّقَايَةِ بِاللَّيْلِ فَلَا دَمَ
يَجِبُ، لِلْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ
فَالنَّظَرُ يُوجِبُ الدَّمَ لَكِنْ مع العمد، والله أعلم.
__________
(1). في شرح الباجى:" موقوفا متصلا".
(3/9)
التَّاسِعَةُ- ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَاسْتَحَبَّ
مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَرْمِيهَا رَاكِبًا.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَالِمٌ
يَرْمُونَهَا وَهُمْ مُشَاةٌ، وَيَرْمِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ
الثَّلَاثَةِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً، يُكَبِّرُ مَعَ
كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَكُونُ وَجْهُهُ فِي حَالِ رَمْيِهِ إِلَى
الْكَعْبَةِ، وَيُرَتِّبُ الْجَمَرَاتِ وَيَجْمَعُهُنَّ وَلَا
يُفَرِّقُهُنَّ وَلَا يُنَكِّسُهُنَّ، يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ
الْأُولَى فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ رَمْيًا وَلَا
يَضَعُهَا وَضْعًا، كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، فَإِنْ طَرَحَهَا
طَرْحًا جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: لَا تُجْزِئُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ
الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَرْمِيهَا، وَلَا يَرْمِي عِنْدَهُمْ
بِحَصَاتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي مَرَّةٍ، فَإِنْ فَعَلَ
عَدَّهَا حَصَاةً وَاحِدَةً، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا تَقَدَّمَ
أَمَامَهَا فَوَقَفَ طَوِيلًا لِلدُّعَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ.
ثُمَّ يَرْمِي الثَّانِيَةَ وَهِيَ الْوُسْطَى وَيَنْصَرِفُ
عَنْهَا ذَاتَ الشِّمَالِ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ، وَيُطِيلُ
الْوُقُوفَ عِنْدَهَا لِلدُّعَاءِ. ثُمَّ يَرْمِي الثَّالِثَةَ
بِمَوْضِعِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ أَيْضًا،
يَرْمِيهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَوْ
رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا أَجْزَأَهُ، وَيُكَبِّرُ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ يَرْمِيهَا. وَسُنَّةُ الذِّكْرِ
فِي رَمْيِ الْجِمَارِ التَّكْبِيرُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ
الذِّكْرِ، وَيَرْمِيهَا مَاشِيًا بِخِلَافِ جَمْرَةِ يَوْمِ
النَّحْرِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَوْقِيفٌ رَفَعَهُ النَّسَائِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ
الَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ- مَسْجِدَ مِنًى- يَرْمِيهَا
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ،
ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ. ثُمَّ
يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ
يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَيَقِفُ
مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ ثُمَّ يَدْعُو.
ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ
فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى
بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا. قَالَ
الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ
بِهَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، لَفْظُ
الدَّارَقُطْنِيِّ. الْعَاشِرَةُ- وَحُكْمُ الْجِمَارِ أَنْ
تَكُونَ طَاهِرَةً غَيْرَ نَجِسَةٍ، وَلَا مِمَّا رُمِيَ بِهِ،
فَإِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ
مَالِكٍ، وَقَدْ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ
ذَلِكَ فِي حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ، وَنَزَلَتْ بِابْنِ
الْقَاسِمِ فَأَفْتَاهُ بِهَذَا.
(3/10)
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاسْتَحَبَّ
أَهْلُ الْعِلْمِ أَخْذَهَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ لَا مِنْ
حَصَى الْمَسْجِدِ، فَإِنْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى مَا
يَحْتَاجُ وَبَقِيَ ذَلِكَ بِيَدِهِ بعد الرمي دفنه ولم يطرحه،
قال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. الثَّانِيَةَ
عَشْرَةَ- وَلَا تُغْسَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا
لِطَاوُسٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغْسِلِ
الْجِمَارَ النَّجِسَةَ أَوْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ
أَنَّهُ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
يُكْرَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ، وَيُجْزِئُ
إِنْ رَمَى بِهِ، إِذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَى
مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِعَادَةَ، وَلَا نَعْلَمُ في شي مِنَ
الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَلَ الْحَصَى وَلَا أَمَرَ
بِغَسْلِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ
يَغْسِلُهُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَلَا يُجْزِئُ فِي الجمار
المدر «1» ولا شي غَيْرُ الْحَجَرِ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَصْحَابُ
الرَّأْيِ: يَجُوزُ بِالطِّينِ الْيَابِسِ، وَكَذَلِكَ كل شي
رَمَاهَا مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ يُجْزِئُ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ: مَنْ رَمَى بِالْخَزَفِ وَالْمَدَرِ لَمْ يُعِدِ
الرَّمْيَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ
إِلَّا بِالْحَصَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ «2»
". وَبِالْحَصَى. رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتُلِفَ فِي
قَدْرِ الْحَصَى، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ أَصْغَرَ
مِنَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، وَرُوِّينَا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ
بَعْرِ الْغَنَمِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَالِكٍ: أَكْبَرُ
مِنْ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الرَّمْيَ بِمِثْلِ حَصَى
الْخَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْمَى بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ
اسْمُ حَصَاةٍ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَفْضَلُ، قَالَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا
يَجُوزُ خِلَافُهُ لِمَنِ اهْتَدَى وَاقْتَدَى. رَوَى
النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ
الْعَقَبَةِ وهو على راحلته:" هات القط لي-
__________
(1). المدر (بالتحريك): قطع الطين اليابس. وقيل: الطين العلك
الذي لا رمل فيه.
(2). الخذف (بفتح الخاء وسكون الذال): رميك بحصاة أو نواة
تأخذها بين سبابتيك وترمى بها، أو تجعل مخذفة من خشب ترمى بها
بين الإبهام والسبابة. والمراد بحصى الخذف، الحصى المائل إلى
الصغر.
(3/11)
فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى
الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ-:
بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي
الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ
الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ". فَدَلَّ قَوْلُهُ:" وَإِيَّاكُمْ
وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ" عَلَى كَرَاهَةِ الرَّمْيِ
بِالْجِمَارِ الْكِبَارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْغُلُوِّ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَمَنْ بَقِيَ فِي
يَدِهِ حَصَاةٌ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْجِمَارِ هِيَ
جَعَلَهَا مِنَ الْأُولَى، وَرَمَى بَعْدَهَا الْوُسْطَى
وَالْآخِرَةَ، فَإِنْ طَالَ اسْتَأْنَفَ جَمِيعًا.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
فِيمَنْ قَدَّمَ جَمْرَةً عَلَى جَمْرَةٍ: لَا يُجْزِئُهُ
إِلَّا أَنْ يَرْمِيَ عَلَى الْوَلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَعَطَاءٌ وَبَعْضُ النَّاسِ: يُجْزِئُهُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ
النَّاسِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا بَيْنَ يَدَيْ نُسُكٍ فَلَا
حَرَجَ- وَقَالَ:- لَا يَكُونُ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ رَجُلٍ
اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ أَوْ صِيَامٌ فَقَضَى بَعْضًا
قَبْلَ بَعْضٍ". وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي رَمْيِ الْمَرِيضِ
وَالرَّمْيِ عَنْهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُرْمَى عَنِ الْمَرِيضِ
وَالصَّبِيِّ اللَّذَيْنِ لَا يُطِيقَانِ الرَّمْيَ،
وَيَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ رَمْيِهِمْ فَيُكَبِّرُ سَبْعَ
تَكْبِيرَاتٍ لِكُلِّ جَمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِذَا
صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ،
وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ دَمٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ
الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ: يُرْمَى عَنِ الْمَرِيضِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا
هَدْيًا. وَلَا خِلَافَ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ
عَلَى الرَّمْيِ أَنَّهُ يُرْمَى عَنْهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَفْعَلُ ذَلِكَ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْجِمَارُ الَّتِي
يُرْمَى بِهَا كُلَّ عَامٍ فَنَحْسِبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ،
فَقَالَ:" إِنَّهُ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا رُفِعَ وَلَوْلَا
ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا أَمْثَالَ الْجِبَالِ". التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ
الْحَاجِّ مِنْ مِنًى شَاخِصًا إِلَى بَلَدِهِ خَارِجًا عَنِ
الْحَرَمِ غَيْرَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ
أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِذَا رَمَى فِي
الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ «1» قَبْلَ أَنْ
يُمْسِيَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَالَ:" فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ"، فَلْيَنْفِرْ
مَنْ أَرَادَ النَّفْرَ ما دام في شي من النهار. وقد روينا عن
__________
(1). في الأصول:" النفر" والتصويب عن الياجى.
(3/12)
النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا
قَالَا: مَنْ أَدْرَكَهُ الْعَصْرُ وَهُوَ بِمِنًى مِنَ
الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يَنْفِرْ
حَتَّى الْغَدِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا، وَالْقَوْلُ
الْأَوَّلُ بِهِ نَقُولُ، لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ- وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ
هَلْ يَنْفِرُونَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ، فَرُوِّينَا عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا فِي
النَّفْرِ الْأَوَّلِ، إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ فَلَا
يَنْفِرُونَ إِلَّا فِي النَّفْرِ الْآخِرِ. وَكَانَ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ: لَا يُعْجِبُنِي لِمَنْ نَفَرَ
النَّفْرَ الْأَوَّلَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ، وَقَالَ: أَهْلُ
مَكَّةَ أَخَفُّ، وَجَعَلَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعْنَى
قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ) أَيْ
أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمٍ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي أَهْلِ
مَكَّةَ: مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا
هُوَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَلَا، فَرَأَى التَّعْجِيلَ
لِمَنْ بَعُدَ قُطْرُهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْآيَةُ عَلَى
الْعُمُومِ، وَالرُّخْصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَهْلِ مَكَّةَ
وَغَيْرِهِمْ، أَرَادَ الْخَارِجُ عَنْ مِنًى الْمُقَامَ
بِمَكَّةَ أَوِ الشُّخُوصَ إِلَى بَلَدِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
هِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ
يُشْبِهُ مَذْهَبَ، الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ نَقُولُ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ: مَنْ نَفَرَ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ فَلَا حَرَجَ،
وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِثِ فَلَا حَرَجَ، فَمَعْنَى
الْآيَةِ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا
التَّقْسِيمِ اهْتِمَامًا وَتَأْكِيدًا، إِذْ كَانَ مِنَ
الْعَرَبِ مَنْ يَذُمُّ الْمُتَعَجِّلَ وَبِالْعَكْسِ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِلْجُنَاحِ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَيْضًا: مَعْنَى مَنْ
تَعَجَّلَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَقَدْ غُفِرَ
لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ
حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ
مِنْ خَطَايَاهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". فَقَوْلُهُ:"
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" نَفْيٌ عَامٌّ وَتَبْرِئَةٌ مُطْلَقَةٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَعْنَى الْآيَةِ، مَنْ تَعَجَّلَ
أَوْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَامِ
الْمُقْبِلِ. وَأُسْنِدَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَثَرٌ. وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ: لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى بَقِيَّةَ عُمُرِهِ، وَالْحَاجُّ مَغْفُورٌ لَهُ
الْبَتَّةَ، أَيْ ذَهَبَ إِثْمُهُ كُلُّهُ إِنِ اتَّقَى
اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ
وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنَ
اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَجَنُّبُهُ
فِي الْحَجِّ. وَقَالَ أَيْضًا: لِمَنِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ
فَأَتَى بِهِ تَامًّا حَتَّى كان مبرورا.
(3/13)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ-" مَنْ" فِي
قَوْلِهِ" فَمَنْ تَعَجَّلَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،
وَالْخَبَرُ" فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ". وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ
الْقُرْآنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ معنى" من" جماعة،
كما قال عز وجل:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «1»
" وَكَذَا" وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ".
وَاللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ:" لِمَنِ اتَّقى " مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْغُفْرَانِ، التَّقْدِيرُ الْمَغْفِرَةُ لِمَنِ اتَّقَى،
وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ. قَالَ
قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَغْفِرَةُ لِمَنِ اتَّقَى بَعْدَ
انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ لِمَنِ اتَّقَى. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لِمَنِ اتَّقَى يَعْنِي قَتْلَ الصَّيْدِ فِي
الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ
الْإِبَاحَةُ لِمَنِ اتَّقَى، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقِيلَ: السَّلَامَةُ لِمَنِ اتَّقَى. وَقِيلَ: هِيَ
مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّكْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَاذْكُرُوا" أَيِ الذِّكْرُ لِمَنِ اتَّقَى. وَقَرَأَ سَالِمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" فَلَا اثْمَ عَلَيْهِ" بِوَصْلِ
الْأَلِفِ تَخْفِيفًا، وَالْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُهُ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى وَذَكَّرَ
بِالْحَشْرِ والوقوف.
[سورة البقرة (2): آية 204]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصامِ (204)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ لَمَّا ذَكَرَ
الَّذِينَ قَصُرَتْ هِمَّتُهُمْ عَلَى الدُّنْيَا- فِي
قَوْلِهِ:" فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا"- وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا خَيْرَ
الدَّارَيْنِ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا
الْإِيمَانَ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ. قَالَ السُّدِّيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ
بْنِ شُرَيْقٍ، وَاسْمُهُ أُبَيٌّ، وَالْأَخْنَسُ لَقَبٌ
لُقِّبَ بِهِ، لِأَنَّهُ خَنَسَ يَوْمَ بَدْرٍ
بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ حُلَفَائِهِ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ
عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" آلِ عِمْرَانَ" بَيَانُهُ.
وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْقَوْلِ وَالْمَنْظَرِ، فَجَاءَ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ
أَنَّى صَادِقٌ، ثُمَّ هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَرَّ بِزَرْعٍ
لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِحُمُرٍ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ
وعقر الحمر. قال المهدوي: وفية نزلت
__________
(1). آية 42 سورة يونس.
(3/14)
" وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ.
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «1» " وَ" وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «2» ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ثَبَتَ
قَطُّ أَنَّ الْأَخْنَسَ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَكَلَّمُوا فِي
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ: عَاصِمُ بْنُ
ثَابِتٍ، وَخُبَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا: وَيْحَ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، لَا هُمْ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ،
وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ
الْمُسْتَشْهَدِينَ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ فِي قَوْلِهِ:"
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللَّهِ «3» ". وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُبْطِنٍ كُفْرًا أَوْ
نِفَاقًا أَوْ كَذِبًا أَوْ إِضْرَارًا، وَهُوَ يُظْهِرُ
بِلِسَانِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، فَهِيَ عَامَّةٌ، وَهِيَ تُشْبِهُ
مَا وَرَدَ فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ
اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمًا
أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ
مِنَ الصَّبِرِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ
اللِّينِ، يَشْتَرُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: أَبِي يغترون، وعلى يجترءون، فَبِي حَلَفْتُ
لَأُتِيحَنَّ «4» لَهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ منهم
حيران. وَمَعْنَى" وَيُشْهِدُ اللَّهَ" أَيْ يَقُولُ: اللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي أَقُولُ حَقًّا. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ"
وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَالْهَاءِ فِي" يَشْهَدُ"" اللَّهُ" بِالرَّفْعِ،
وَالْمَعْنَى يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُ
خِلَافَ مَا قَالَ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ" «5». وَقِرَاءَةُ ابْنِ
عَبَّاسٍ:" وَاللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ".
وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، لِأَنَّهُ
قَوِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْتِزَامُ الْكَلَامِ الْحَسَنِ، ثُمَّ
ظَهَرَ مِنْ بَاطِنِهِ خِلَافُهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ" وَيَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ"
وَهِيَ حُجَّةٌ لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَتَنْبِيهٌ
عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا، وَاسْتِبْرَاءِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ
وَالْقُضَاةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ
أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا يَبْدُو مِنْ إِيمَانِهِمْ
وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَحْوَالَ النَّاسِ، وَأَنَّ
مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي
قَبِيحًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" الْحَدِيثَ،
وَقَوْلُهُ:" فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ"
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ،
حَيْثُ كَانَ إِسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ، وَأَمَّا وَقَدْ
عَمَّ الْفَسَادُ فَلَا، قَالَهُ ابن العربي.
__________
(1). آية 10، 11 سورة ن.
(2). آية 1 سورة الهمزة ..
(3). آية 208 سورة البقرة.
(4). في من، ح:" لأسلطن عليهم".
(5). آية 1 سورة المنافقون.
(3/15)
وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الظَّاهِرَ
يُعْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، لِقَوْلِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَحْيَ قَدِ
انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا
مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا
أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سريرته شي،
اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا
سُوءًا لَمْ نُؤَمِّنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ
إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الْأَلَدُّ: الشَّدِيدُ
الْخُصُومَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَلَدُّ، وَامْرَأَةٌ لَدَّاءُ،
وَهُمْ أَهْلُ لَدَدٍ. وَقَدْ لَدِدْتَ- بِكَسْرِ الدَّالِ-
تَلَدُّ- بِالْفَتْحِ- لَدَدًا، أَيْ صِرْتَ أَلَدَّ.
وَلَدَدْتُهُ- بِفَتْحِ الدَّالِ- أَلُدُّهُ- بِضَمِّهَا-
إِذَا جَادَلْتُهُ فَغَلَبْتُهُ. وَالْأَلَدُّ مُشْتَقٌّ مِنَ
اللَّدِيدَيْنِ، وَهُمَا صَفْحَتَا الْعُنُقِ، أَيْ فِي أَيِّ
جَانِبٍ أَخَذَ مِنَ الْخُصُومَةِ غَلَبَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَلَدُّ ذِي حَنَقٍ عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... تَغْلِي
عَدَاوَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْمًا وَحَزْمًا ... وَخَصِيمًا
أَلَدَّ ذَا مِغْلَاقٍ
وَ" الْخِصَامُ" فِي الْآيَةِ مَصْدَرُ خَاصَمَ، قَالَهُ
الْخَلِيلُ. وَقِيلَ: جَمْعُ خَصْمٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ،
كَكَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَصَعْبٍ وَصِعَابٍ، وَضَخْمٍ وَضِخَامٍ.
وَالْمَعْنَى أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ خُصُومَةً، أَيْ هُوَ
ذُو جِدَالٍ، إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ رَأَيْتَ
لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ. وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ
وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى الله الألد
الخصم".
[سورة البقرة (2): آية 205]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسادَ (205)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها قِيلَ:" تَوَلَّى وسَعى " مِنْ فِعْلِ
الْقَلْبِ، فَيَجِيءُ" تَوَلَّى" بِمَعْنَى ضَلَّ وَغَضِبَ
وَأَنِفَ فِي نَفْسِهِ. وَ" سَعى " أَيْ سَعَى بِحِيلَتِهِ
وإرادته
(3/16)
الدَّوَائِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُمَا
فِعْلُ الشَّخْصِ، فَيَجِيءُ" تَوَلَّى" بِمَعْنَى أَدْبَرَ
وَذَهَبَ عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ. وَ" سَعى " أَيْ بِقَدَمَيْهِ
فَقَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَفْسَدَهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ. وَكِلَا السَّعْيَيْنِ فَسَادٌ. يُقَالُ: سَعَى
الرَّجُلُ يَسْعَى سَعْيًا، أَيْ عَدَا، وَكَذَلِكَ إِذَا
عَمِلَ وَكَسَبَ. وَفُلَانٌ يَسْعَى عَلَى عِيَالِهِ أَيْ
يَعْمَلُ فِي نَفْعِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُهْلِكَ
عُطِفَ عَلَى لِيُفْسِدَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ"
وَلِيُهْلِكَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ" وَيُهْلِكُ"
بِالرَّفْعِ، وَفِي رَفْعِهِ أَقْوَالٌ: يَكُونُ مَعْطُوفًا
عَلَى" يُعْجِبُكَ". وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مَعْطُوفٌ
عَلَى" سَعى " لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَسْعَى وَيُهْلِكُ، وَقَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ: وَهُوَ يُهْلِكُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
كَثِيرٍ" وَيَهْلِكُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وضم الكاف،" الحرث
والنسل" مرفوعان بيهلك، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ
أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي حَيْوَةَ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ،
وَرَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ
قَوْمٌ" وَيَهْلَكُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ، وَرَفْعِ
الْحَرْثِ، لُغَةُ هَلَكَ يَهْلَكُ، مِثْلَ رَكَنَ يَرْكَنُ،
وَأَبَى يَأْبَى، وَسَلَى يَسْلَى، وَقَلَى يَقْلَى،
وَشِبْهَهُ. وَالْمَعْنِيُّ فِي الْآيَةِ الْأَخْنَسُ فِي
إِحْرَاقِهِ الزَّرْعَ وَقَتْلِهِ الْحُمُرَ، قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ. قَالَ غَيْرُهُ: وَلَكِنَّهَا صَارَتْ عَامَّةً
لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِ
اسْتَوْجَبَ تِلْكَ اللَّعْنَةَ وَالْعُقُوبَةَ. قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ يَقْتُلُ حِمَارًا أَوْ يُحْرِقُ
كُدْسًا «1» اسْتَوْجَبَ الْمَلَامَةَ، وَلَحِقَهُ الشَّيْنُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ
أَنَّ الظَّالِمَ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ
الْمَطَرَ فَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ. وَقِيلَ:
الْحَرْثُ النِّسَاءُ، وَالنَّسْلُ الْأَوْلَادُ، وَهَذَا
لِأَنَّ النِّفَاقَ يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ
وَوُقُوعِ الْقِتَالِ، وَفِيهِ هَلَاكُ الْخَلْقِ، قَالَ
مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ الْمَشْيُ
بِسُرْعَةٍ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ
وَالتَّضْرِيبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي
الْحَدِيثِ:" إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ
يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ
بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ". وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ الْحَرْثُ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ، وَمِنْهُ
الْمِحْرَاثُ لِمَا يُشَقُّ بِهِ الْأَرْضُ. وَالْحَرْثُ:
كَسْبُ الْمَالِ وَجَمْعُهُ، وَفَى الْحَدِيثِ:" احْرُثْ
لدنياك كأنك
__________
(1). الكدس (بضم الكاف وفتحها وسكون الدال): العرمة من الطعام
والتمر والدراهم. [ ..... ]
(3/17)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
تَعِيشُ أَبَدًا". وَالْحَرْثُ الزَّرْعُ.
وَالْحَرَّاثُ الزَّرَّاعُ. وَقَدْ حَرَثَ وَاحْتَرَثَ، مِثْلَ
زَرَعَ وَازْدَرَعَ وَيُقَالُ: احْرُثِ الْقُرْآنَ، أَيِ
ادْرُسْهُ. وَحَرَثْتُ النَّاقَةَ وَأَحْرَثْتُهَا، أَيْ
سِرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى هَزَلَتْ وَحَرَثْتُ النَّارَ
حَرَّكْتُهَا. وَالْمِحْرَاثُ: مَا يُحَرَّكُ بِهِ نَارُ
التَّنُّورِ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَالنَّسْلُ: مَا خَرَجَ
مِنْ كُلِّ أُنْثَى مِنْ وَلَدٍ. وَأَصْلُهُ الْخُرُوجُ
وَالسُّقُوطُ، وَمِنْهُ نَسْلُ الشَّعْرِ، وَرِيشُ الطَّائِرِ،
وَالْمُسْتَقْبَلُ يَنْسِلُ، وَمِنْهُ" إِلى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ «1» "،" مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «2» ".
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ «3»
قُلْتُ: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْحَرْثِ وَزِرَاعَةِ
الْأَرْضِ، وَغَرْسِهَا بِالْأَشْجَارِ حَمْلًا عَلَى
الزَّرْعِ، وَطَلَبِ النَّسْلِ، وَهُوَ. نَمَاءُ الْحَيَوَانِ،
وَبِذَلِكَ يَتِمُّ قِوَامُ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ يَرُدُّ
عَلَى مَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ قَالَ
الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ
الْفَسَادِ في الأرض. وقال عطاء: إن رجلا كان يُقَالُ لَهُ
عَطَاءُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ فَأَمَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَنْزِعَهَا. قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِنَّا كُنَّا
نَسْمَعُ أَنْ يَشُقَّهَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ. قُلْتُ: وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا تَعُمُّ
كُلَّ فَسَادٍ كَانَ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ: مَعْنَى لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ أَيْ لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَهْلِ
الصَّلَاحِ، أَوْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْمَعْنَى لا يأمر به، والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 206]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)
__________
(1). آية 51 سورة يس.
(2). آية 96 سورة الأنبياء
(3). صدر البيت:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
يقول: إن كان في خلقي ما لا ترضينه فسلي ثيابي من ثيابك، أي
انصرفي وأخرجي أمرى من أمرك (عن شرح الديوان).
(3/18)
هَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ
الذَّاهِبِ بِنَفْسِهِ زَهْوًا، وَيُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ
يُوقِعَهُ الْحَرَجُ فِي بَعْضِ هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ
أَخُوهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ،
مِثْلُكَ يُوصِينِي «1»! وَالْعِزَّةُ: الْقُوَّةُ
وَالْغَلَبَةُ، مِنْ عَزَّهُ يَعُزُّهُ إِذَا غَلَبَهُ.
وَمِنْهُ:" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «2» " وَقِيلَ:
الْعِزَّةُ هُنَا الْحَمِيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَبًا
فِعْلَ الضَّجَرِ
وَقِيلَ: الْعِزَّةُ هُنَا الْمَنَعَةُ وَشِدَّةُ النَّفْسِ،
أَيِ اعْتَزَّ فِي نَفْسِهِ وَانْتَحَى فَأَوْقَعَتْهُ تِلْكَ
الْعِزَّةُ فِي الْإِثْمِ حِينَ أَخَذَتْهُ وَأَلْزَمَتْهُ
إِيَّاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى إِذَا قِيلَ لَهُ
مَهْلًا ازْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ،
وَالْمَعْنَى حَمَلَتْهُ الْعِزَّةُ عَلَى الْإِثْمِ. وَقِيلَ:
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِمَا يُؤْثِمُهُ، أَيِ ارْتَكَبَ
الْكُفْرَ لِلْعِزَّةِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَنَظِيرُهُ:" بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ
«3» " وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي" بِالْإِثْمِ" بِمَعْنَى
اللَّامِ، أَيْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ وَالْحَمِيَّةُ عَنْ
قَبُولِ الْوَعْظِ لِلْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ
النِّفَاقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ يَصِفُ عَرَقَ
النَّاقَةِ:
وَكَأَنَّ رُبًّا أَوْ كُحَيْلًا مُعْقَدًا ... حَشَّ
الْوَقُودُ بِهِ جَوَانِبَ قُمْقِمُ «4»
أَيْ حَشَّ الْوَقُودُ لَهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى
مَعَ، أَيْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ مَعَ الْإِثْمِ، فَمَعْنَى
الْبَاءِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ التَّأْوِيلَاتِ. وَذُكِرَ أَنَّ
يَهُودِيًّا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ،
فَاخْتَلَفَ إِلَى بَابِهِ سَنَةً، فَلَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ،
فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَجَ هَارُونُ
سَعَى حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَنَزَلَ هَارُونُ عَنْ
دَابَّتِهِ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَمَرَ
بِحَاجَتِهِ فَقُضِيَتْ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَزَلْتَ عَنْ دَابَّتِكَ لِقَوْلِ
يَهُودِيٍّ! قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
الْمِهادُ". حَسْبُهُ أَيْ كَافِيهِ مُعَاقَبَةً وَجَزَاءً،
كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كَفَاكَ مَا حَلَّ بِكَ! وَأَنْتَ
تَسْتَعْظِمُ وَتُعْظِمُ عَلَيْهِ مَا حَلَّ. وَالْمِهَادُ
جَمْعُ الْمَهْدِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ المهيأ للنوم، ومنه مهد
الصبى.
__________
(1). في ح:" أنت تأمرني! ".
(2). آية 23 سورة ص.
(3). آية 2 سورة ص.
(4). الرب (بضم الراء): الطلاء الخاير. والكحيل (مصغرا): النفط
أو القطران تطلى به الإبل. والمعقد (بفتح القاف): الذي أوقد
تحته حتى انعقد وغلظ. وحش: اتقد. والقمقم (بالضم): ضرب من
الأواني.
(3/19)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
وَسَمَّى جَهَنَّمَ مِهَادًا لِأَنَّهَا
مُسْتَقَرُّ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا بَدَلٌ لَهُمْ
مِنَ الْمِهَادِ، كَقَوْلِهِ:" فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
«1» " ونظيره من الكلام قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع «2»
[سورة البقرة (2): آية 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
ابْتِغاءَ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَمَّا
ذَكَرَ صَنِيعَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ بَعْدَهُ صَنِيعَ
الْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ «3» فَإِنَّهُ
أَقْبَلَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ
«4»، وَأَخَذَ قَوْسَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي
مِنْ أَرْمَاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ
حَتَّى أَرْمِيَ بِمَا فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُ
بِسَيْفِي مَا بَقِيَ في يدي منه شي، ثُمَّ افْعَلُوا مَا
شِئْتُمْ. فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ تَذْهَبُ عَنَّا غَنِيًّا
وَقَدْ جِئْتَنَا صُعْلُوكًا، وَلَكِنْ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ
بِمَكَّةَ وَنُخَلِّي عَنْكَ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ
فَفَعَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ" الْآيَةَ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى"، وَتَلَا
عَلَيْهِ الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ رَزِينٌ، وَقَالَهُ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ صُهَيْبًا
فَعَذَّبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ
لَا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أَمْ مِنْ غَيْرِكُمْ،
فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي وَتَذَرُونِي وَدِينِي؟
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ رَاحِلَةً
وَنَفَقَةً، فَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّاهُ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرِجَالٌ، فَقَالَ
لَهُ أَبُو بَكْرٍ: رَبِحَ بَيْعُكَ أَبَا يَحْيَى. فَقَالَ
لَهُ صُهَيْبٌ: وَبَيْعُكَ فَلَا يَخْسَرُ، فَمَا ذَاكَ؟
فَقَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا، وَقَرَأَ عَلَيْهِ
الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِ لَقِيَ الْكَافِرَ
فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فإذا قلتها
__________
(1). آية 21 سورة آل عمران.
(2). هذا عجز بيت لمعديكرب، صدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل
(3). هو صهيب بن سنان بن مالك الرومي، سبته الروم [وهو صغير]
فجلب إلى مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان. وقيل: بل هرب من
الروم فقدم مكة وحالف بن جدعان. وكان صهيب من السابقين
الأولين، شهد بدرا والمشاهد كلها. توفى بالمدينة سنة ثمان
وثلاثين. (من النجوم الزاهرة).
(4). انتثل ما في كنانته: أي استخرج ما فيها من السهام.
والكنانة: جعبة السهام، تتخذ من جلود لا خشب غيها، أو من خشب
لا جلود فيها.
(3/20)
عَصَمْتَ مَالَكَ وَنَفْسَكَ، فَأَبَى أَنْ
يَقُولَهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَاللَّهِ لَأَشْرِيَنَّ
نَفْسِي لِلَّهِ، فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ، أَيْ قَالَ
الْمُغَيِّرُ «1» لِلْمُفْسِدِ: اتَّقِ اللَّهَ، فَأَبَى
الْمُفْسِدُ وَأَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، فَشَرَى الْمُغَيِّرُ
نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ وَقَاتَلَهُ فَاقْتَتَلَا. وَقَالَ
أَبُو الْخَلِيلِ: سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْسَانًا
يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ. وَقِيلَ:
إِنَّ عُمَرَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اقْتَتَلَ
الرَّجُلَانِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ هَذِهِ الْآيَةَ،
فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَ فَفَسَّرَ لَهُ هَذَا التَّفْسِيرَ،
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ، لِلَّهِ تِلَادُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ!
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ. حَمَلَ
هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ فِي
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَرَأَ
أَبُو هُرَيْرَةَ" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ"، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ غَزْوَةِ الرَّجِيعِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقِيلَ:
نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَرَكَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَاشِهِ
لَيْلَةَ خَرَجَ إِلَى الْغَارِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
فِي" بَرَاءَةٌ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ:
الْآيَةُ عَامَّةٌ، تَتَنَاوَلُ كُلَّ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، أَوْ مُسْتَشْهِدٍ فِي ذَاتِهِ أَوْ مُغَيِّرِ
مُنْكَرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ مَنْ حَمَلَ عَلَى الصَّفِّ
«2»، وَيَأْتِي ذِكْرُ الْمُغَيِّرِ لِلْمُنْكَرِ وَشُرُوطِهِ
وَأَحْكَامِهِ فِي" آلِ عِمْرَانَ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَ" يَشْرِي" مَعْنَاهُ يَبِيعُ، وَمِنْهُ"
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «3» " أَيْ بَاعُوهُ، وَأَصْلُهُ
الِاسْتِبْدَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «4» ". وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنْ كَانَ رَيْبُ الدَّهْرِ أمضاك في الاولى ... شَرَوْا
هَذِهِ الدُّنْيَا بِجَنَّاتِهِ الْخُلْدِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ
هَامَهْ
الْبُرْدُ هُنَا اسْمُ غُلَامٍ. وَقَالَ آخَرُ:
يُعْطِي بِهَا ثَمَنًا فَيَمْنَعُهَا ... وَيَقُولُ صَاحِبُهَا
أَلَا فأشر
__________
(1). في ح" المتقى".
(2). راجع المسألة الثانية ج 2 ص 363.
(3). آية 20 سورة يوسف. [ ..... ]
(4). آية 111 سورة التوبة.
(3/21)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (208)
وَبَيْعُ النَّفْسِ هُنَا هُوَ بَذْلُهَا
لِأَوَامِرِ اللَّهِ." ابْتِغاءَ" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ.
وَوَقَفَ الْكِسَائِيُّ عَلَى" مَرْضاتِ" بِالتَّاءِ،
وَالْبَاقُونَ بِالْهَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقَفَ
الْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ إِمَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ:
طَلْحَتْ وَعَلْقَمَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَلْ جوز تيهاء كَظَهْرِ الْحَجَفَتِ «1»
وَإِمَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا المضاف إليه في ضمن
اللفظة ولا بد أَثْبَتَ التَّاءَ كَمَا ثَبَتَتْ فِي الْوَصْلِ
لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُرَادٌ. وَالْمَرْضَاةُ
الرِّضَا، يُقَالُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَمَرْضَاةً. وَحَكَى
قَوْمٌ أَنَّهُ يُقَالُ: شَرَى بِمَعْنَى اشْتَرَى،
وَيَحْتَاجُ إِلَى هَذَا مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ فِي
صُهَيْبٍ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالِهِ وَلَمْ
يَبِعْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَرْضَ
صُهَيْبٍ عَلَى قِتَالِهِمْ بَيْعٌ لِنَفْسِهِ مِنَ اللَّهِ.
فَيَسْتَقِيمُ اللَّفْظُ عَلَى مَعْنَى باع.
[سورة البقرة (2): آية 208]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى مُؤْمِنٍ
وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ فَقَالَ: كُونُوا عَلَى مِلَّةٍ
وَاحِدَةٍ، وَاجْتَمِعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَاثْبُتُوا
عَلَيْهِ. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مُجَاهِدٌ، وَرَوَاهُ
أَبُو مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ الْكِنْدِيِّ:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأَيْتُهُمْ
تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا
أَيْ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا ارْتَدَّتْ كِنْدَةُ بَعْدَ
وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، وَلِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا قَطُّ بِالدُّخُولِ فِي
الْمُسَالَمَةِ الَّتِي هِيَ الصُّلْحُ، وَإِنَّمَا قِيلَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْنَحَ
لِلسِّلْمِ إِذَا جَنَحُوا لَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ
بِهَا فَلَا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: أَمَرَ مَنْ
آمَنَ بِأَفْوَاهِهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بِقُلُوبِهِمْ.
وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: ادْخُلُوا فِي أَمْرِ الدِّينِ.
سُفْيَانُ الثوري: في أنواع البر كلها. وقرى" السلم" بكسر
السين.
__________
(1). الحجفة (بالتحريك وبتقديم الحاء على الجيم): الترس إذا
كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. (انظر اللسان مادة حجف).
(3/22)
قَالَ الْكِسَائِيُّ: السِّلْمُ
وَالسَّلْمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْبَصْرِيِّينَ، وَهُمَا جَمِيعًا يَقَعَانِ لِلْإِسْلَامِ
وَالْمُسَالَمَةِ. وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ
بَيْنَهُمَا، فَقَرَأَهَا هُنَا:" ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ"
وَقَالَ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَرَأَ الَّتِي فِي"
الْأَنْفَالِ" وَالَّتِي فِي سُورَةِ" مُحَمَّدٍ" صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" السَّلْمُ" بِفَتْحِ السِّينِ،
وَقَالَ: هِيَ بِالْفَتْحِ الْمُسَالَمَةُ. وَأَنْكَرَ
الْمُبَرِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ. وَقَالَ عَاصِمٌ
الْجَحْدَرِيُّ: السِّلْمُ الْإِسْلَامُ، وَالسَّلْمُ
الصُّلْحُ، وَالسَّلَمُ الِاسْتِسْلَامُ. وَأَنْكَرَ مُحَمَّدُ
بْنُ يَزِيدَ هَذِهِ التَّفْرِيقَاتِ وَقَالَ: اللُّغَةُ لَا
تُؤْخَذُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالسَّمَاعِ لَا
بِالْقِيَاسِ، وَيَحْتَاجُ مَنْ فَرَّقَ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَدْ
حَكَى الْبَصْرِيُّونَ: بَنُو فُلَانٍ سِلْمٌ وَسَلْمٌ
وَسَلَمٌ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَالسِّلْمُ الصُّلْحُ، يُفْتَحُ وَيُكْسَرُ، وَيُذَكَّرُ
وَيُؤَنَّثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ
وَالِانْقِيَادِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلصُّلْحِ: سِلْمٌ. قَالَ
زُهَيْرٌ:
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا ...
بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ نَسْلَمِ
وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ حَمْلَ اللَّفْظَةِ عَلَى مَعْنَى
الْإِسْلَامِ بِمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ
الْيَمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ
أَسْهُمٍ، الصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ،
وَالصَّوْمُ سَهْمٌ، وَالْحَجُّ سَهْمٌ، وَالْعُمْرَةُ سَهْمٌ،
وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ،
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا
سَهْمَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى، يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى ادْخُلُوا فِي
الْإِسْلَامِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَافَّةً. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثم
[يموت «1» و] لَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". وَ (كَافَّةً) مَعْنَاهُ
جَمِيعًا، فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ السِّلْمِ أَوْ
مِنْ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ
قَوْلِهِمْ: كَفَفْتُ أَيْ مَنَعْتُ، أَيْ لَا يَمْتَنِعُ
مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْكَفُّ
الْمَنْعُ، وَمِنْهُ كُفَّةُ الْقَمِيصِ- بِالضَّمِّ-
لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الثَّوْبَ مِنَ الِانْتِشَارِ، وَمِنْهُ
كِفَّةُ الْمِيزَانِ- بِالْكَسْرِ- الَّتِي تَجْمَعُ
الْمَوْزُونَ وَتَمْنَعُهُ أَنْ يَنْتَشِرَ، وَمِنْهُ كَفُّ
الإنسان الذي يجمع
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(3/23)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
مَنَافِعَهُ وَمَضَارَّهُ، وَكُلُّ
مُسْتَدِيرٍ كِفَّةٌ، وَكُلُّ مُسْتَطِيلٍ كُفَّةٌ. وَرَجُلٌ
مَكْفُوفُ الْبَصَرِ، أَيْ مُنِعَ عَنِ النَّظَرِ،
فَالْجَمَاعَةُ تُسَمَّى كَافَّةً لِامْتِنَاعِهِمْ عَنِ
التَّفَرُّقِ. وَلا تَتَّبِعُوا نَهْيٌ. خُطُواتِ الشَّيْطانِ
مَفْعُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
اسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ بِأَنْ
يَقْرَءُوا التَّوْرَاةَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا
بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَنَزَلَتْ" وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ" فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أولى بعد
ما بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ
الَّذِي يدعوكم إليه الشيطان، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
ظاهر العداوة، وقد تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 209]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أَيْ تَنَحَّيْتُمْ عَنْ طَرِيقِ
الِاسْتِقَامَةِ. وَأَصْلُ الزَّلَلِ فِي الْقَدَمِ، ثُمَّ
يُسْتَعْمَلُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، يُقَالُ: زَلَّ يَزِلُّ زَلًّا وَزَلَلًا وَزُلُولًا،
أَيْ دَحَضَتْ قَدَمُهُ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَالِ
الْعَدَوِيُّ" زَلِلْتُمْ" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُمَا
لُغَتَانِ. وَأَصْلُ الْحَرْفِ، مِنَ الزَّلَقِ، وَالْمَعْنَى
ضَلَلْتُمْ وَعِجْتُمْ عَنِ الْحَقِّ. مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيِ الْمُعْجِزَاتُ وَآيَاتُ
الْقُرْآنِ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ
كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَالْبَيِّنَاتُ مَا
وَرَدَ فِي شَرْعِهِمْ مِنَ الْإِعْلَامِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعْرِيفِ بِهِ. وَفِي
الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الْعَالِمِ
بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْجَاهِلِ بِهِ، وَمَنْ
لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كَافِرًا
بِتَرْكِ الشَّرَائِعِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ كَعْبَ
الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ كَانَ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ،
فَأَقْرَأَهُ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ" فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" فَقَالَ كَعْبٌ: إِنِّي
لَأَسْتَنْكِرُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا، وَمَرَّ بِهِمَا رَجُلٌ
فَقَالَ كَعْبٌ: كَيْفَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ؟ فَقَالَ
الرَّجُلُ:" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فقال
كعب: هكذا ينبغي. وعَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا
يُرِيدُهُ. حَكِيمٌ فِيمَا يفعله.
__________
(1). راجع المسألة الثالثة ج 2 ص 208.
(2). تراجع المسألة الرابعة ج 2 ص 209
(3/24)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (210)
[سورة البقرة (2): آية 210]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
هَلْ يَنْظُرُونَ يَعْنِي التَّارِكِينَ الدُّخُولَ فِي
السِّلْمِ «1»، وَ" هَلْ" يُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَحْدُ، أَيْ
مَا يَنْتَظِرُونَ: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). نَظَرْتُهُ
وَانْتَظَرْتُهُ بِمَعْنًى. وَالنَّظَرُ الِانْتِظَارُ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ
الْقَعْقَاعِ وَالضَّحَّاكُ" فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ".
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" وَالْمَلَائِكَةِ" بِالْخَفْضِ
عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ، وَتَقْدِيرُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ،
تَقُولُ الْعَرَبُ: أَقْبَلَ الْأَمِيرُ فِي الْعَسْكَرِ، أَيْ
مَعَ الْعَسْكَرِ." ظُلَلٌ" جَمْعُ ظُلَّةٍ فِي التَّكْسِيرِ،
كَظُلْمَةٍ وَظُلَمٍ وَفِي التَّسْلِيمِ ظُلُلَاتٌ، وَأَنْشَدَ
سِيبَوَيْهِ:
إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلُلَاتِهَا ...
سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أَظْهَرَا «2»
وَظُلَّاتٌ وَظِلَالٌ، جَمْعُ ظِلٍّ فِي الْكَثِيرِ،
وَالْقَلِيلُ أَظْلَالٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظِلَالٌ
جَمْعَ ظُلَّةٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلَّةٍ وَقِلَالٍ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ:
مَمْزُوجَةٌ بِمَاءِ الْقِلَالِ «3»
قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: وَ" الْمَلَائِكَةِ" بِالْخَفْضِ
بِمَعْنَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ،
كَمَا قَالَ:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلائِكَةُ «4» "،" وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا «5» ". قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ
اللَّهِ" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ
وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ". قَالَ
قَتَادَةُ: الْمَلَائِكَةُ يَعْنِي تَأْتِيهِمْ لِقَبْضِ
أَرْوَاحِهِمْ، وَيُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ
أَظْهَرُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: تَأْتِيهِمُ
الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَيَأْتِيهِمُ
اللَّهُ فِيمَا شَاءَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ:
لَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ،
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يَأْتِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ.
وَقِيلَ: أَيْ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ
فِي ظُلَلٍ، مِثْلَ:" فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا «6» " أَيْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، هَذَا
قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ سَعِيدٍ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِتْيَانِ رَاجِعًا
إِلَى الجزاء، فسمى
__________
(1). في من" الإسلام".
(2). البيت للجعدى. ومعنى أظهر: صار في وقت الظهيرة. وصف سيره
في الهاجرة إذا استكن الوحش من حر الشمس واحتدامها ولحق بكنسه.
(3). القلال (بالكسر جمع قلة بالضم): الجرة، وقيل، هو إناء
للعرب كالجرة.
(4). آية 158 سورة الانعام.
(5). آية 22 سورة الفجر.
(6). آية 2 سورة الحشر.
(3/25)
الْجَزَاءَ إِتْيَانًا كَمَا سَمَّى
التَّخْوِيفَ وَالتَّعْذِيبَ فِي قِصَّةِ نُمْرُوذَ إِتْيَانًا
فَقَالَ:" فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «1» ". وَقَالَ
فِي قِصَّةِ النَّضِيرِ:" فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ"، وَقَالَ:"
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها «2»
". وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْإِتْيَانُ هَذِهِ الْمَعَانِي
لِأَنَّ أَصْلَ الْإِتْيَانِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ
الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلًا
مِنَ الْأَفْعَالِ مَعَ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ يَقْصِدُ إِلَى
مُجَازَاتِهِمْ وَيَقْضِي فِي أَمْرِهِمْ مَا هُوَ قَاضٍ،
وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْدَثَ فِعْلًا سَمَّاهُ
نُزُولًا وَاسْتِوَاءً كَذَلِكَ يُحْدِثُ فِعْلًا يُسَمِّيهِ
إِتْيَانًا، وَأَفْعَالُهُ بِلَا آلَةٍ وَلَا عِلَّةٍ،
سُبْحَانَهُ! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي
صَالِحٍ: هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ.
وَقَدْ سَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، وَتَأَوَّلَهَا
بَعْضُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: الْفَاءُ بِمَعْنَى
الْبَاءِ، أَيْ يَأْتِيهِمْ بِظُلَلٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:"
يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةٍ" أَيْ بِصُورَةٍ امْتِحَانًا
لَهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ
مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ
الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالزَّوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ
مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ وَالْأَجْسَامِ، تَعَالَى اللَّهُ
الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ عَنْ
مُمَاثَلَةِ الْأَجْسَامِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالْغَمَامُ:
السَّحَابُ الرَّقِيقُ الْأَبْيَضُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ يَغُمُّ، أَيْ يَسْتُرُ، كَمَا تَقَدَّمَ «3».
وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ" وَقَضَاءُ الْأَمْرِ". وَقَرَأَ
يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ" وَقُضِيَ الْأُمُورُ" بِالْجَمْعِ.
وَالْجُمْهُورُ" وَقُضِيَ الْأَمْرُ" فَالْمَعْنَى وَقَعَ
الْجَزَاءُ وَعُذِّبَ أَهْلُ الْعِصْيَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" تَرْجِعُ الْأُمُورُ"
عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ،
دَلِيلُهُ" أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «4» "،"
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ «5» ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ"
تُرْجَعُ" عَلَى بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ أَيْضًا
قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، دَلِيلُهُ" ثُمَّ تُرَدُّونَ «6» "،"
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ «7» "،" وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى
رَبِّي «8» " وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ بِمَعْنًى،
وَالْأَصْلُ الْأُولَى، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ تَوَسُّعٌ
وَفَرْعٌ، وَالْأُمُورُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ
قَبْلُ وَبَعْدُ. وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي
يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى زَوَالِ مَا كان منها إلى الملوك في
الدنيا
__________
(1). آية 26 سورة النحل.
(2). آية 47 سورة الأنبياء.
(3). تراجع المسألة الاولى ج 1 ص 405. [ ..... ]
(4). آية 53 سورة الشورى.
(5). آية 48، 105 سورة المائدة.
(6). آية 94 سورة التوبة.
(7). آية 62 سورة الانعام.
(8). آية 36 سورة الكهف.
(3/26)
سَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
[سورة البقرة (2): آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ
وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ
مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ" سَلْ" مِنَ السُّؤَالِ: بِتَخْفِيفِ
الْهَمْزَةِ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ السِّينُ لَمْ يَحْتَجْ
إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ لِلْعَرَبِ فِي
سُقُوطِ أَلِفِ الوصل في" سَلْ" وثبوتها في" واسئل"
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- حَذْفُهَا فِي إِحْدَاهُمَا
وَثُبُوتُهَا فِي الْأُخْرَى، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا،
فَاتَّبِعْ خَطَّ الْمُصْحَفِ فِي إِثْبَاتِهِ لِلْهَمْزَةِ
وَإِسْقَاطِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي- أَنَّهُ يَخْتَلِفُ
إِثْبَاتُهَا وَإِسْقَاطُهَا بِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ
الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، فَتُحْذَفُ الْهَمْزَةُ فِي الْكَلَامِ
الْمُبْتَدَإِ، مِثْلَ قَوْلِهِ:" سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ"،
وَقَوْلِهِ:" سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «1» ". وثبت
في العطف، مثل قول:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» "،" وَسْئَلُوا
اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «3» " قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ"
اسْأَلْ" عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ" اسَلْ" عَلَى
نَقْلِ الْحَرَكَةِ إِلَى السِّينِ وَإِبْقَاءِ أَلِفِ
الْوَصْلِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: الْأَحْمَرُ. وَ" كَمْ"
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لآتيناهم.
وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ كَمْ آتَيْنَا
آتَيْنَاهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الْفِعْلُ
لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ." مِنْ آيَةٍ" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ،
وَعَلَى الثَّانِي مفعول ثان لآتيناهم، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي
آتَيْنَاهُمْ، وَيَصِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى كَمْ،
تَقْدِيرُهُ: كَمْ آتَيْنَاهُمُوهُ، وَلَمْ يُعْرَبْ وَهِيَ
اسْمٌ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرُوفِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ
مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَإِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ كَمْ
وَبَيْنَ الِاسْمِ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ تَأْتِيَ بِمِنْ
كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ حَذَفْتَهَا نَصَبْتَ فِي
الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، وَيَجُوزُ الْخَفْضُ فِي
الْخَبَرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ «4» نَالَ الْعُلَا ... وكريم بخله قد
وضعه
__________
(1). آية 40 سورة ن.
(2). آية 82 سورة يوسف.
(3). آية 32 سورة النساء.
(4). المقرف: النذل اللئيم الأب.
(3/27)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ كَمْ جَاءَهُمْ
فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ آيَةٍ
مُعَرِّفَةٍ بِهِ دَالَّةٍ عَلَيْهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ
وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ
بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ
وَالظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ وَالْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِسُؤَالِهِمْ
عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَتْهُ
لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ
إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا مَا فِي
كُتُبِهِمْ وَجَحَدُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاللفظ «1» مُنْسَحِبٌ عَلَى كُلِّ
مُبَدِّلٍ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
النِّعْمَةُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ
الْأَوَّلِ. وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا كُفَّارُ
قُرَيْشٍ، فَإِنَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، فَبَدَّلُوا
قَبُولَهَا وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا كُفْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ
الْوَعِيدَ. وَالْعِقَابُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِبِ، كَأَنَّ
الْمُعَاقِبَ يَمْشِي بِالْمُجَازَاةِ لَهُ فِي آثَارِ
عَقِبِهِ، وَمِنْهُ عُقْبَةُ «2» الرَّاكِبِ وَعُقْبَةُ
الْقِدْرِ «3». فَالْعِقَابُ وَالْعُقُوبَةُ يَكُونَانِ
بِعَقِبِ الذَّنْبِ، وَقَدْ عَاقَبَهُ بذنبه.
[سورة البقرة (2): آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا
وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ
الدُّنْيا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْمُرَادُ
رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدُ بْنُ
قَيْسٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ
قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، لِأَنَّهُ لم يتقد لِلْفَاعِلِ ذِكْرٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" زُيِّنَتْ" بِإِظْهَارِ
الْعَلَامَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ
حَقِيقِيٍّ، وَالْمُزَيِّنُ هُوَ خَالِقُهَا وَمُخْتَرِعُهَا
وَخَالِقُ الْكُفْرِ، وَيُزَيِّنُهَا أَيْضًا الشَّيْطَانُ
بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَخَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالذِّكْرِ لِقَبُولِهِمُ التَّزْيِينَ جُمْلَةً،
وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ
الْآخِرَةِ بِسَبَبِهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مَا عَلَى
الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ الخلق أيهم أحسن عملا،
__________
(1). في من" فالجحود".
(2). عقبة الراكب (بضم فسكون): الموضع يركب منه.
(3). في هامش ب" في الصحاح: والعقبة أيضا شي من المرق يرده
مستعير القدر إذا ردها".
(3/28)
فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى
سُنَنِ الشَّرْعِ لَمْ تَفْتِنْهُمُ الزِّينَةُ، وَالْكُفَّارُ
تَمَلَّكَتْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ غَيْرَهَا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حِينَ قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا
نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لَنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِشَارَةٌ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا
يُعَظِّمُونَ حَالَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَيَغْتَبِطُونَ
بِهَا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي طَلَبِهِمُ
الْآخِرَةَ. وَقِيلَ: لِفَقْرِهِمْ وَإِقْلَالِهِمْ، كَبِلَالٍ
وَصُهَيْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى خَفْضِ مَنْزِلَتِهِمْ
لِقَبِيحِ فِعْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَرَوَى عَلِيٌّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنِ
اسْتَذَلَّ مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَةً أَوْ حَقَّرَهُ
لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ شَهَّرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ فَضَحَهُ وَمَنْ بَهَتَ مُؤْمِنًا أَوْ
مُؤْمِنَةً أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيهِ وَإِنَّ عِظَمَ
الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْ
مَلَكٍ مقرب وليس شي أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ
تَائِبٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ تَائِبَةٍ وَإِنَّ الرَّجُلَ
الْمُؤْمِنَ يُعْرَفُ فِي السَّمَاءِ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ
أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ". ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى" وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ" أَيْ فِي
الدَّرَجَةِ، لِأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْكُفَّارُ فِي
النَّارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَوْقِ الْمَكَانُ،
مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالنَّارَ فِي
أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
التَّفْضِيلُ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ زَعْمُ الْكُفَّارِ،
فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَإِنْ كَانَ مَعَادٌ فَلَنَا فِيهِ
الْحَظُّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكُمْ، وَمِنْهُ حَدِيثُ خَبَّابٍ
«1» مَعَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ خَبَّابٌ: كَانَ لِي
عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ
أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ
فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ
ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ
الْمَوْتِ؟! فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ
وَوَلَدٍ، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى «2». وَيُقَالُ: سَخِرْتُ مِنْهُ وَسَخِرْتُ
بِهِ، وَضَحِكْتُ مِنْهُ وَضَحِكْتُ بِهِ، وَهَزِئْتُ مِنْهُ
وَبِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُقَالُ، حكاه الأخفش. والاسم
__________
(1). خباب (بفتح الخاء وتشديد الباء): بن الإرث، شهد بدرا،
وكان فينا في الجاهلية ومن الهاجرين الأولين.
(2). راجع ج 11 ص 145 [ ..... ]
(3/29)
كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
السُّخْرِيَةُ وَالسُّخْرِيُّ
وَالسِّخْرِيُّ، وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى:"
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1» " وَقَوْلُهُ:"
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا «2» ". وَرَجُلٌ سُخْرَةٌ.
يُسْخَرُ مِنْهُ، وَسُخَرَةٌ- بِفَتْحِ الْخَاءِ- يَسْخَرُ
مِنَ النَّاسِ. وَفُلَانٌ سُخْرَةٌ يَتَسَخَّرُ فِي الْعَمَلِ،
يُقَالُ: خَادِمُهُ سُخْرَةٌ، وَسَخَّرَهُ تَسْخِيرًا
كَلَّفَهُ عَمَلًا بِلَا أُجْرَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قَالَ
الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مِنْ غَيْرِ تَبِعَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ،
أَيْ يَرْزُقُهُمْ عُلُوَّ الْمَنْزِلَةِ، فَالْآيَةُ
تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَ
رِزْقَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ دائم لا يتناهى،
فهو لا ينفد. وَقِيلَ. إِنَّ قَوْلَهُ" بِغَيْرِ حِسابٍ"
صِفَةٌ لِرِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يُصْرَفُ، إِذْ هُوَ
جَلَّتْ قُدْرَتُهُ لَا يُنْفِقُ بَعْدٍّ، فَفَضْلُهُ كُلُّهُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالَّذِي بِحِسَابٍ مَا كَانَ عَلَى عَمَلٍ
قَدَّمَهُ الْعَبْدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" جَزاءً مِنْ
رَبِّكَ عَطاءً حِساباً «3» ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ احْتِسَابٍ
مِنَ الْمَرْزُوقِينَ، كَمَا قال:" وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لا يَحْتَسِبُ «4» ".
[سورة البقرة (2): آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ عَلَى
دِينٍ وَاحِدٍ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ زَيْدٍ:
الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ
نَسَمًا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَقَرُّوا له بالوحدانية. قال
مُجَاهِدٌ: النَّاسُ آدَمُ وَحْدَهُ، وَسُمِّيَ الْوَاحِدُ
بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسْلِ. وَقِيلَ:
آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ:
الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْقُرُونُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ
آدَمَ وَنُوحٍ، وَهِيَ عَشَرَةٌ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى
اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: منذ خلق الله
__________
(1). آية 32 سورة الزخرف.
(2). آية 110 سورة المؤمنون.
(3). آية 26 سورة النبأ.
(4). آية 3 سورة الطلاق.
(3/30)
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةُ
آلَافِ سَنَةٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ أَلْفُ سَنَةٍ
وَمِائَتَا سَنَةٍ. وَعَاشَ آدَمُ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ أَهْلَ مِلَّةٍ
وَاحِدَةٍ، مُتَمَسِّكِينَ بِالدِّينِ، تُصَافِحُهُمُ
الْمَلَائِكَةُ، وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ رُفِعَ
إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاخْتَلَفُوا. وَهَذَا فِيهِ
نَظَرٌ، لِأَنَّ إِدْرِيسَ بَعْدَ نُوحٍ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْكَلْبِيُّ وَالْوَاقِدِيُّ:
الْمُرَادُ نُوحٌ وَمَنْ فِي السَّفِينَةِ، وَكَانُوا
مُسْلِمِينَ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاةِ نُوحٍ اخْتَلَفُوا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى
الْكُفْرِ، يُرِيدُ فِي مُدَّةِ نُوحٍ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّةً وَاحِدَةً، كُلُّهُمْ كُفَّارٌ،
وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ
تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَ"
كَانَ" عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى بَابِهَا مِنَ
الْمُضِيِّ الْمُنْقَضِي. وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَ النَّاسَ فِي
الْآيَةِ مُؤْمِنِينَ قَدَّرَ فِي الْكَلَامِ فَاخْتَلَفُوا
فَبَعَثَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ:" وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ" أَيْ كَانَ النَّاسُ عَلَى
دِينِ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ،
مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَى. وَكُلُّ
مَنْ قَدَّرَهُمْ كُفَّارًا كَانَتْ بَعْثَةُ النَّبِيِّينَ
إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ" كانَ" لِلثُّبُوتِ،
وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمُ
الْجِنْسُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي
خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ، وَجَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ،
لَوْلَا مَنُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَفَضُّلُهُ بِالرُّسُلِ
إِلَيْهِمْ. فَلَا يَخْتَصُّ" كانَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ
بِالْمُضِيِّ فَقَطْ، بَلْ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ:"
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» ". وَ" أُمَّةً"
مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَمْتُ كَذَا، أَيْ
قَصَدْتُهُ، فَمَعْنَى" أُمَّةً" مَقْصِدُهُمْ وَاحِدٌ،
وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ: أُمَّةٌ، أَيْ مَقْصِدُهُ غَيْرُ
مَقْصِدِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ:" يُحْشَرُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ". وَكَذَلِكَ قال في زيد
بن عمر وابن نُفَيْلٍ. وَالْأُمَّةُ الْقَامَةُ، كَأَنَّهَا
مَقْصِدُ سَائِرِ الْبَدَنِ. وَالْإِمَّةُ (بِالْكَسْرِ):
النِّعْمَةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ قَصْدَهَا.
وَقِيلَ: إِمَامٌ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ قَصْدَ مَا
يَفْعَلُ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ:"
كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً" وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ"
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
وَجُمْلَتُهُمْ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا،
وَالرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ،
وَالْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وأول الرسل آدم، على
__________
(1). آية 96، 100، 152 سورة النساء.
(3/31)
مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ،
أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ.
وَقِيلَ: نُوحٌ، لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ
يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَقِيلَ:
إِدْرِيسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي" الْأَعْرَافِ" «1»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى الْكُتُبِ. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: الْأَلِفُ واللام في الكتاب للعهد، والمراد
التوراة. ولِيَحْكُمَ مُسْنَدٌ إِلَى الْكِتَابِ فِي قَوْلِ
الْجُمْهُورِ، وَهُوَ نَصْبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، أَيْ لِأَنْ
يَحْكُمَ، وَهُوَ مَجَازٌ مِثْلَ" هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ
عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «2» ". وَقِيلَ: أَيْ لِيَحْكُمَ كُلُّ
نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ، وَإِذَا حَكَمَ بِالْكِتَابِ
فَكَأَنَّمَا حَكَمَ الْكِتَابُ. وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ
الْجَحْدَرِيِّ" لِيُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ" عَلَى مَا لَمْ
يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَحْكُمَ
اللَّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي" فِيهِ" عَائِدٌ عَلَى" مَا" مِنْ
قَوْلِهِ:" فِيمَا" وَالضَّمِيرُ فِي" فِيهِ" الثَّانِيَةِ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ وَمَا
اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ.
مَوْضِعُ" الَّذِينَ" رَفْعٌ بِفِعْلِهِمْ. وَ" أُوتُوهُ"
بِمَعْنَى أُعْطُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُنَزَّلِ
عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ وَمَا اخْتَلَفَ فِي
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا الَّذِينَ أُعْطُوا
عِلْمَهُ. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ
لَهُ، أَيْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا لِلْبَغْيِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ «3» مَعْنَاهُ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى
السَّفَهِ «4» في فعلهم، والقبح الذي واقعوه. و" فَهَدَى"
مَعْنَاهُ أَرْشَدَ، أَيْ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ
إِلَى الْحَقِّ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ
مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ
أَنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَ بَعْضُهُمْ كِتَابَ بَعْضٍ، فَهَدَى
اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلتَّصْدِيقِ
بِجَمِيعِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ اللَّهَ هَدَى
الْمُؤْمِنِينَ لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ
الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ
يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مِنْ قِبْلَتِهِمْ، فَإِنَّ
الْيَهُودَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالنَّصَارَى إِلَى
الْمَشْرِقِ، وَمِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" هَذَا الْيَوْمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ
فَلِلْيَهُودِ غَدٌ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" وَمِنْ
صِيَامِهِمْ، وَمِنْ جَمِيعِ ما اختلفوا فيه. وقال ابن زيد:
__________
(1). راجع ج 7 ص 232.
(2). آية 29 سورة الجاثية.
(3). راجع ج 2 ص 28.
(4). في ب، من:" الشنعة".
(3/32)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَجَعَلَتْهُ
الْيَهُودُ لِفِرْيَةٍ، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا،
فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلُوهُ عبد الله.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ- وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ- قَالَ: وَتَقْدِيرُهُ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا لِلْحَقِّ لِمَا «1» اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفُ أَنْ
يَحْتَمِلَ اللَّفْظُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ
فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ، وَعَسَاهُ غَيْرَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، نَحَا إِلَى
هَذَا الطَّبَرِيُّ فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الْفَرَّاءِ،
وَادِّعَاءُ الْقَلْبِ عَلَى لَفْظِ كِتَابِ اللَّهِ دُونَ
ضَرُورَةٍ تَدْفَعُ إِلَى ذَلِكَ عَجْزٌ وَسُوءُ نَظَرٍ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهِهِ
وَوَصْفِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:" فَهَدَى" يَقْتَضِي أَنَّهُمْ
أَصَابُوا الْحَقَّ، وَتَمَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:" فِيهِ"
وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ:" مِنَ الْحَقِّ" جِنْسُ مَا وَقَعَ
الْخِلَافُ فِيهِ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقُدِّمَ لَفْظُ
الِاخْتِلَافِ عَلَى لَفْظِ الْحَقِّ اهْتِمَامًا، إِذِ
الْعِنَايَةُ إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الِاخْتِلَافِ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِقَوِيٍّ. وَفِي
قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" لِمَا اخْتَلَفُوا
عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ" أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَ
(بِإِذْنِهِ) قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْمَعْنَى بِأَمْرِهِ،
وَإِذَا أَذِنْتَ فِي الشَّيْءِ فَقَدْ أَمَرْتَ بِهِ، أَيْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأن أمرهم بما يجب أن
يستعملوه. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي
قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَبْدَ يستبد بهداية نفسه.
[سورة البقرة (2): آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ
اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ" حَسِبْتُمْ" مَعْنَاهُ ظَنَنْتُمْ. قَالَ
قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ
الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ،
وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَسُوءِ الْعَيْشِ، وَأَنْوَاعِ
الشَّدَائِدِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «2» ". وَقِيلَ: نَزَلَتْ
فِي حَرْبِ أحد، نظيرها- في آل عمران-
__________
(1). في ز، ج:" وما اختلفوا فيه" وفى تفسير الطبري:" فيما ...
".
(2). آية 10 سورة الأحزاب.
(3/33)
" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا
مِنْكُمْ «1» ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتِ الْآيَةُ
تَسْلِيَةً لِلْمُهَاجِرِينَ حِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَآثَرُوا رِضَا
اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَسَرَّ قَوْمٌ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ النِّفَاقَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ" أَمْ حَسِبْتُمْ".
وَ" أَمْ" هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، بِمَعْنَى بَلْ، وَحَكَى بَعْضُ
اللغويين أنها قد تجئ بِمَثَابَةِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ
لِيُبْتَدَأَ بِهَا، وَ" حَسِبْتُمْ" تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ،
فَقَالَ النُّحَاةُ:" أَنْ تَدْخُلُوا" تَسُدُّ مَسَدَّ
الْمَفْعُولَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ
«2»: أَحَسِبْتُمْ دُخُولَكُمُ الْجَنَّةَ وَاقِعًا. وَ"
لَمَّا" بِمَعْنَى لَمْ. وَ" مَثَلُ" مَعْنَاهُ شَبَهُ، أَيْ
وَلَمْ تُمْتَحَنُوا بِمِثْلِ مَا امْتُحِنَ بِهِ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ فَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا. وَحَكَى النَّضْرُ
بْنُ شُمَيْلٍ «3» أَنَّ" مَثَلُ" يَكُونُ بِمَعْنَى صِفَةٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَمَّا يُصِبْكُمْ
مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ مِنَ
الْبَلَاءِ. قَالَ وَهْبٌ: وُجِدَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مَوْتَى، كَانَ سَبَبُ
مَوْتِهِمُ الْجُوعَ وَالْقُمَّلَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ"
الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ «4» " عَلَى مَا يَأْتِي، فَاسْتَدْعَاهُمْ
تَعَالَى إِلَى الصَّبْرِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ
بِالنَّصْرِ فَقَالَ: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ التَّحْرِيكِ، تَكُونُ فِي
الْأَشْخَاصِ وَفِي الْأَحْوَالِ، يُقَالُ: زَلْزَلَ اللَّهُ
الْأَرْضَ زَلْزَلَةً وَزِلْزَالًا- بِالْكَسْرِ-
فَتَزَلْزَلَتْ إِذَا تَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ، فَمَعْنَى"
زُلْزِلُوا" خُوِّفُوا وَحُرِّكُوا. وَالزَّلْزَالُ-
بِالْفَتْحِ- الِاسْمُ. وَالزَّلَازِلُ: الشَّدَائِدُ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الزَّلْزَلَةِ مِنْ زَلَّ الشَّيْءُ عَنْ
مَكَانِهِ، فَإِذَا قُلْتُ: زَلْزَلْتُهُ فَمَعْنَاهُ
كَرَّرْتُ زَلَلَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ
أَنَّ زَلْزَلَ رُبَاعِيٌّ كَدَحْرَجَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ"
حَتَّى يَقُولُ" بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ.
وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي" حَتَّى" أَنَّ النَّصْبَ فِيمَا
بَعْدَهَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَالرَّفْعُ مِنْ جِهَتَيْنِ،
تَقُولُ: سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ الْمَدِينَةَ- بِالنَّصْبِ-
عَلَى أَنَّ السَّيْرَ وَالدُّخُولَ جَمِيعًا قَدْ مَضَيَا،
أَيْ سِرْتُ إِلَى أَنْ أَدْخُلَهَا، وَهَذِهِ غَايَةٌ،
وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ. وَالْوَجْهُ
الآخر في النصب في غير الآية
__________
(1). آية 142 سورة آل عمران.
(2). كذا في الأصول، وفى ابن عطية: تقديره أحسبتم.
(3). في بعض نسخ الأصل:" وحكى البصريون". [ ..... ]
(4). آية 1، 2، 3 سورة العنكبوت.
(3/34)
سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَهَا، أَيْ كَيْ
أَدْخُلَهَا. وَالْوَجْهَانِ فِي الرَّفْعِ سِرْتُ حَتَّى
أَدْخُلُهَا، أَيْ سِرْتُ فَأَدْخُلُهَا، وَقَدْ مَضَيَا
جَمِيعًا، أَيْ كُنْتُ سِرْتُ فدخلت. ولا تعمل حتى ها هنا
بِإِضْمَارِ أَنْ، لِأَنَّ بَعْدَهَا جُمْلَةً، كَمَا قَالَ
الْفَرَزْدَقُ:
فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي «1»
قَالَ النَّحَّاسُ: فَعَلَى هَذَا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ
أَبْيَنُ وَأَصَحُّ مَعْنًى، أَيْ وَزُلْزِلُوا حَتَّى
الرَّسُولُ يَقُولُ، أَيْ حَتَّى هَذِهِ حَالُهُ، لِأَنَّ
الْقَوْلَ إِنَّمَا كَانَ عَنِ الزَّلْزَلَةِ غَيْرَ
مُنْقَطِعٍ مِنْهَا، وَالنَّصْبُ عَلَى الْغَايَةِ لَيْسَ
فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. وَالرَّسُولُ هُنَا شَعْيَا فِي
قَوْلِ مُقَاتِلٍ، وَهُوَ الْيَسَعُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
هَذَا فِي كُلِّ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أُمَّتِهِ وَأُجْهِدَ
فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟. وَرُوِيَ
عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: يَعْنِي، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ نُزُولُ الْآيَةِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي غَيْرِ الْآيَةِ
سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلُهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّيْرُ قَدْ
مَضَى وَالدُّخُولُ الْآنَ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَرِضَ
حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، أَيْ هُوَ الْآنَ لَا يُرْجَى،
وَمِثْلُهُ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلُهَا لَا أُمْنَعُ.
وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَشَيْبَةُ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْحَسَنُ
وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَشِبْلٌ
وَغَيْرُهُمْ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ
جَمَاعَةَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ"
وَزُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرَّسُولُ" بِالْوَاوِ بَدَلَ حَتَّى.
وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" وَزُلْزِلُوا ثُمَّ
زُلْزِلُوا وَيَقُولُ". وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى
أَنَّ الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ
وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بَلَغَ الْجَهْدُ بِهِمْ حَتَّى
اسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ
الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ استعجال النصر لا على شك وارتياب.
والرسول اسْمُ جِنْسٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى يَقُولَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، فَيَقُولُ
الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فَقُدِّمَ
الرَّسُولُ فِي الرُّتْبَةِ لِمَكَانَتِهِ، ثم قدم قول
المؤمنين
__________
(1). وتمام البيت:
كأن أباها نهشل أو مجاشع
هجا كليب بن يربوع رهط جرير، وجعلهم من الضعة بحيث لا يسابون
مثله لشرفه. ونهشل ومجاشع: رهط الفرزدق، وهما ابنا دارم (عن
شرح الشواهد).
(3/35)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
لِأَنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَكُّمٌ، وَحَمْلُ
الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِهِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ. وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ" أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" إِخْبَارًا
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْتَنِفًا بَعْدَ تَمَامِ ذِكْرِ
الْقَوْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَتى نَصْرُ اللَّهِ رُفِعَ
بِالِابْتِدَاءِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ
أَبِي الْعَبَّاسِ رُفِعَ بِفِعْلٍ، أَيْ مَتَى يَقَعُ نَصْرُ
اللَّهِ. وَ" قَرِيبٌ" خَبَرُ" أَنْ". قَالَ النَّحَّاسَ:
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" قَرِيبًا" أَيْ مَكَانًا
قَرِيبًا. وَ" قَرِيبٌ" لَا تُثَنِّيهِ الْعَرَبُ وَلَا
تَجْمَعُهُ وَلَا تُؤَنِّثُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ «1» ". وَقَالَ الشَّاعِرُ «2»:
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ
وَلَا بَسْبَاسَةُ بْنَةُ يَشْكُرَا
فَإِنْ قُلْتَ: فُلَانٌ قَرِيبٌ لِي ثَنَّيْتَ وَجَمَعْتَ،
فَقُلْتَ: قَرِيبُونَ وَأَقْرِبَاءُ وقرباء.
[سورة البقرة (2): آية 215]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَسْئَلُونَكَ إِنْ خَفَّفْتَ الْهَمْزَةَ أَلْقَيْتَ
حَرَكَتَهَا عَلَى السِّينِ فَفَتَحْتَهَا وَحَذَفْتَ
الْهَمْزَةَ فَقُلْتَ: يَسَلُونَكَ. وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي
عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ، فبماذا أتصدق،
وعلى من أنفق؟ فنزلت" يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ".
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: مَاذَا يُنْفِقُونَ" مَا"
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" ذَا" الْخَبَرُ،
وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ
الِاسْمِ، أَيْ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ، وَإِنْ شِئْتَ
كَانَتْ" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يُنْفِقُونَ" و" ذا"
مع" ما" بمنزلة شي وَاحِدٍ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَمِيرٍ،
وَمَتَى كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ، إِلَّا ما جاء في قول الشاعر:
__________
(1). آية 56 سورة الأعراف.
(2). هو امرؤ القيس، كما في ديوانه.
(3/36)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (216)
وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ
يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ
فَإِنَّ" عَسَى" لَا تعمل فيه، ف"لماذا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
وَهُوَ مُرَكَّبٌ، إِذْ لَا صِلَةَ لِ" ذَا". الثَّالِثَةُ-
قِيلَ: إِنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمَعْنَى
يَسْأَلُونَكَ مَا هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي يُنْفِقُونَ
فِيهَا، وَأَيْنَ يَضَعُونَ مَا لَزِمَ إِنْفَاقُهُ. قَالَ
السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ فَرْضِ
الزَّكَاةِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَهَمَ الْمَهْدَوِيُّ عَلَى
السُّدِّيِّ فِي هَذَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ثُمَّ نُسِخَ
مِنْهَا الْوَالِدَانِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ:
هِيَ نَدْبٌ، وَالزَّكَاةُ غَيْرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَعَلَى
هَذَا لَا نَسْخَ فِيهَا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِمَصَارِفِ
صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ الْغَنِيِّ
أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ مَا
يُصْلِحُهُمَا فِي قَدْرِ حَالِهِمَا مِنْ حَالِهِ، مِنْ
طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ، لَيْسَ
عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ
عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، كَانَتْ أُمَّهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً،
وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ
أَبَاهُ لِأَنَّهُ رَآهُ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّزْوِيجِ
غَالِبًا، وَلَوِ احْتَاجَ حَاجَةً مَاسَّةً لَوَجَبَ أَنْ
يُزَوِّجَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ
يُنْفِقَ عَلَيْهِمَا. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ
بِالْعِبَادَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُعْطِيَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ يَغْزُو، وَعَلَيْهِ أَنْ
يُخْرِجَ عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ
بِالنَّفَقَةِ وَالْإِسْلَامِ." الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِ" أَنْفَقْتُمْ" وَكَذَا" وَما تُنْفِقُوا" وَهُوَ شَرْطٌ
وَالْجَوَابُ" فَلِلْوالِدَيْنِ"، وَكَذَا" وَما تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ" وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْيَتِيمِ
وَالْمِسْكِينِ «1» وَابْنِ السَّبِيلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ
الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ «2» ". وَقَرَأَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ" يَفْعَلُوا" بِالْيَاءِ عَلَى ذِكْرِ
الْغَائِبِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْخَبَرُ، وهى تتضمن الوعد
بالمجازاة.
[سورة البقرة (2): آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
__________
(1). تراجع المسألة الخامسة وما بعدها ج 2 ص 14.
(2). آية 38 سورة الروم.
(3/37)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ مَعْنَاهُ فُرِضَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
«1» مِثْلُهُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ" كتب عليكم القتل"، وقال الشاعر
«2»:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى
الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
هَذَا هُوَ فَرْضُ الْجِهَادِ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ
هَذَا مِمَّا امْتُحِنُوا بِهِ وَجُعِلَ وَصْلَةً إِلَى
الْجَنَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقِتَالِ قِتَالُ الْأَعْدَاءِ
مِنَ الْكُفَّارِ، وَهَذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ
بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ مُدَّةَ
إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ أُذِنَ لَهُ فِي
قِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ
تَعَالَى:" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا «3» " ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ
عَامَّةً. وَاخْتَلَفُوا مَنِ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ،
فَقِيلَ: أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ الْقِتَالُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ،
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ صار على الكفاية، قال عَطَاءٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ:
أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟
فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ مِنَ الْأُمَّةِ: أَوَّلُ فَرْضِهِ إِنَّمَا
كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، غَيْرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
اسْتَنْفَرَهُمْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ النَّفِيرُ لِوُجُوبِ
طَاعَتِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ
الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي عَيْنِهِ أَبَدًا،
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي
اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَنَّ الْجِهَادَ عَلَى
كُلِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ قَامَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ
الْعَدُوُّ بِسَاحَةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ حِينَئِذٍ فَرْضُ
عَيْنٍ، وَسَيَأْتِي هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ
«4» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْجِهَادُ
تَطَوُّعٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ
عِنْدِي إِنَّمَا هِيَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ وَقَدْ قِيمَ
بِالْجِهَادِ، فَقِيلَ لَهُ: ذَلِكَ تَطَوُّعٌ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ،
وَهُوَ كُرْهٌ فِي الطِّبَاعِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:
الْكُرْهُ الْمَشَقَّةُ، وَالْكَرْهُ- بِالْفَتْحِ- مَا
أُكْرِهْتَ عَلَيْهِ، هَذَا هو الاختيار،
__________
(1). تراجع المسألة الثانية ج 2 ص 244.
(2). هو عمر بن أبى ربيعة.
(3). آية 39 سورة الحج.
(4). راجع ج 6 ص 136.
(3/38)
وَيَجُوزُ الضَّمُّ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ
فَيَكُونَانِ لُغَتَيْنِ، يُقَالُ: كَرِهْتُ الشَّيْءَ كَرْهًا
وَكُرْهًا وَكَرَاهَةً وَكَرَاهِيَةً، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَيْهِ
إِكْرَاهًا. وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَادُ كُرْهًا لِأَنَّ
فِيهِ إِخْرَاجَ الْمَالِ وَمُفَارَقَةَ الْوَطَنِ
وَالْأَهْلِ، وَالتَّعَرُّضَ بِالْجَسَدِ لِلشِّجَاجِ
وَالْجِرَاحِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ وَذَهَابِ النَّفْسِ،
فَكَانَتْ كَرَاهِيَتُهُمْ لِذَلِكَ، لَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا
فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ: إِنَّهُمْ كَرِهُوهُ ثُمَّ أَحَبُّوهُ وَقَالُوا:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ
يَتَضَمَّنُ مَشَقَّةً، لَكِنْ إِذَا عُرِفَ الثَّوَابُ هَانَ
فِي جَنْبِهِ مُقَاسَاةُ الْمَشَقَّاتِ. قُلْتُ: وَمِثَالُهُ
فِي الدُّنْيَا إِزَالَةُ مَا يُؤْلِمُ الْإِنْسَانَ وَيَخَافُ
مِنْهُ كَقَطْعِ عُضْوٍ وَقَلْعِ ضِرْسٍ وَفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ
ابْتِغَاءَ الْعَافِيَةِ وَدَوَامِ الصِّحَّةِ، وَلَا نَعِيمَ
أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ فِي دَارِ الْخُلْدِ
وَالْكَرَامَةِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً قِيلَ:" عَسَى"
بِمَعْنَى قَدْ، قَالَهُ الْأَصَمُّ. وَقِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ.
وَ" عَسَى" مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ
إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:" عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ
أَنْ يُبْدِلَهُ «1» ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:" عَسَى"
مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ، وَالْمَعْنَى عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
فِي أَنَّكُمْ تَغْلِبُونَ وَتَظْفَرُونَ وَتَغْنَمُونَ
وَتُؤْجَرُونَ، وَمَنْ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا، وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا الدَّعَةَ وَتَرْكَ الْقِتَالِ وَهُوَ شَرُّ لَكُمْ
فِي أَنَّكُمْ تُغْلَبُونَ وَتَذِلُّونَ وَيَذْهَبُ
أَمْرُكُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ،
كَمَا اتَّفَقَ فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، تَرَكُوا
الْجِهَادَ وَجَبُنُوا عَنِ الْقِتَالِ وَأَكْثَرُوا مِنَ
الْفِرَارِ، فَاسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى الْبِلَادِ،
وَأَيُّ بِلَادٍ؟! وَأَسَرَ وَقَتَلَ وَسَبَى وَاسْتَرَقَّ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيَنَا وَكَسَبَتْهُ! وَقَالَ الْحَسَنُ فِي
مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَكْرَهُوا الْمُلِمَّاتِ الْوَاقِعَةَ،
فَلَرُبَّ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ فِيهِ نَجَاتُكَ، وَلَرُبَّ
أَمْرٍ تُحِبُّهُ فِيهِ عَطَبُكَ، وَأَنْشَدَ أَبُو سَعِيدٍ
الضَّرِيرُ:
رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ ... جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ منه ... وبدا المكروه فيه
__________
(1). آية 5 سورة التحريم.
(3/39)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
[سورة البقرة (2): الآيات 217 الى 218]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ
قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «1».
وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا
خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
مَسْأَلَةً كُلُّهُنَّ في القرآن:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ"،" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ"،"
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى "، ما كانوا يسألونك إِلَّا
عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي
الْحَدِيثِ مِنَ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً إِلَّا
ثَلَاثٌ. وَرَوَى أَبُو الْيَسَارِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ
الْحَارِثِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ
لِيَنْطَلِقَ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأَ
الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ:
وَلَا تُكْرِهَنَّ أَصْحَابَكَ عَلَى الْمَسِيرِ، فَلَمَّا
بَلَغَ الْمَكَانَ قَرَأَ الْكِتَابَ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ:
سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَ: فَرَجَعَ
رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ
الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ
الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَتَلْتُمْ
فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى:"
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" الْآيَةَ. وَرُوِيَ
أَنَّ سَبَبَ نزولها أن
__________
(1). راجع ص 36 من هذا الجزء.
(3/40)
رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ لَقِيَا
عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ
أَنَّهُمَا كَانَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ
فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَتَلَهُمَا فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ
نُزُولَهَا فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَكْثَرُ
وَأَشْهَرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ تِسْعَةِ رَهْطٍ، وَقِيلَ
ثَمَانِيَةٍ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ
بِشَهْرَيْنِ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ- فِي
كِتَابِ الدُّرَرِ لَهُ-: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ كُرْزِ بْنِ
جَابِرٍ- وَتُعْرَفُ تِلْكَ الْخَرْجَةُ بِبَدْرٍ الْأُولَى-
أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ جُمَادَى الْآخِرَةِ
وَرَجَبٍ، وَبَعَثَ فِي رَجَبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ
بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيَّ وَمَعَهُ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمْ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ،
وَعُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ،
وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ بُكَيْرٍ اللَّيْثِيُّ.
وَكَتَبَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ
أَلَّا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ
يَنْظُرُ فِيهِ [فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ «1» بِهِ] وَلَا
يَسْتَكْرِهُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَمِيرَهُمْ،
فَفَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَا أَمَرَهُ بِهِ،
فَلَمَّا فَتَحَ الْكِتَابَ وَقَرَأَهُ وَجَدَ فِيهِ:" إِذَا
نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً
بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا،
وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ". فَلَمَّا قَرَأَ
الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ أَخْبَرَ
أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَسْتَكْرِهُ أَحَدًا
مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ نَاهِضٌ لِوَجْهِهِ بِمَنْ أَطَاعَهُ،
وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُطِعْهُ أَحَدٌ مَضَى وَحْدَهُ، فَمَنْ
أَحَبَّ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ، وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ
فَلْيَرْجِعْ. فَقَالُوا: كُلُّنَا نَرْغَبُ فِيمَا تَرْغَبُ
فِيهِ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ سَامِعٌ مُطِيعٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَنَهَضُوا مَعَهُ، فَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، وَشَرَدَ
لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ
جَمَلٌ كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ،
وَنَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَعَ سَائِرِهِمْ
لِوَجْهِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ بِهِمْ عِيرٌ
لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَتِجَارَةً فِيهَا عَمْرُو بْنُ
الْحَضْرَمِيِّ- وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّادٍ مِنَ الصَّدَفِ، وَالصَّدَفُ بَطْنٌ مِنْ
حَضْرَمَوْتَ- وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن المغيرة،
وأخوه نوفل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةَ
الْمَخْزُومِيَّانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى بَنِي
الْمُغِيرَةِ، فَتَشَاوَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: نَحْنُ
فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنْ
نَحْنُ قَاتَلْنَاهُمْ هَتَكْنَا حُرْمَةَ الشَّهْرِ الحرام:
وإن
__________
(1). زيادة عن سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. راجع سرية عبد
الله بن جحش.
(3/41)
تَرَكْنَاهُمُ اللَّيْلَةَ دَخَلُوا
الْحَرَمَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى لِقَائِهِمْ، فَرَمَى
وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَأَسَرُوا عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمُوا بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ،
وَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: اعْزِلُوا مِمَّا
غَنِمْنَا الْخُمُسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ فِي
الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ:" وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» "
فَأَقَرَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِعْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَحْشٍ وَرَضِيَهُ وَسَنَّهُ لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غُنِمَتْ فِي
الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ أَمِيرٍ، وَعَمْرُو بْنُ
الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلُ قَتِيلٍ. وَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ ابْنِ
الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَسَقَطَ فِي
أَيْدِي الْقَوْمِ، فأنزل الله عز وجل:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ" إِلَى قَوْلِهِ:" هُمْ
فِيها خالِدُونَ". وَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسِيرَيْنِ، فَأَمَّا
عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَمَاتَ بِمَكَّةَ كَافِرًا،
وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى
اسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَرَجَعَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ
إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ انْطِلَاقَ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ فِي طَلَبِ
بَعِيرِهِمَا كَانَ عَنْ إِذْنٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَحْشٍ، وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَأَصْحَابَهُ
لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَابُوهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَحْشٍ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ فَزِعُوا مِنْكُمْ، فَاحْلِقُوا
رَأْسَ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيَتَعَرَّضْ لَهُمْ، فَإِذَا
رَأَوْهُ مَحْلُوقًا أَمِنُوا وَقَالُوا: قَوْمٌ عُمَّارٌ لَا
بَأْسَ عَلَيْكُمْ، وَتَشَاوَرُوا فِي قِتَالِهِمُ،
الْحَدِيثَ. وَتَفَاءَلَتِ الْيَهُودُ وَقَالُوا: وَاقِدٌ
وَقَدَتِ الْحَرْبُ، وَعَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ،
وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ. وَبَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ
فِي فَدَاءِ أَسِيرَيْهِمْ، فَقَالَ «2»: لَا نَفْدِيهِمَا
حَتَّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدَمَا
قَتَلْنَاهُمَا بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَا فَادَاهُمَا،
فَأَمَّا الْحَكَمُ فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ
حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا
عُثْمَانُ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا،
وَأَمَّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ
الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ فَتَحَطَّمَا جَمِيعًا
فَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ
جِيفَتَهُ بِالثَّمَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُذُوهُ فَإِنَّهُ خَبِيثُ
الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ" فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ".
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قتل
__________
(1). آية 41 سورة الأنفال. [ ..... ]
(2). أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في تفسير
الطبري.
(3/42)
عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ فِي
آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ
أَشْهَرُ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ،
وَالْمُسْلِمُونَ يَظُنُّونَهَا مِنْ جُمَادَى. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَذَكَرَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي رِسَالَتِهِ
الْمَعْرُوفَةِ بِالْأَسَدِيَّةِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جَحْشٍ سُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
لِكَوْنِهِ مُؤَمَّرًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَسْخِ هَذِهِ
الْآيَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِهَا، وَأَنَّ قِتَالَ
الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُبَاحٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
نَسَخَهَا" وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «1» ".
وَقِيلَ: نَسَخَهَا غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِغْزَاؤُهُ
أَبَا عَامِرٍ «2» إِلَى أَوْطَاسٍ «3» فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ. وَقِيلَ: نَسَخَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى
الْقِتَالِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ
قَتْلُ عُثْمَانَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى
حَرْبِهِ بَايَعَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دَفْعِهِمْ
لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِقِتَالِهِمْ. وَذَكَرَ
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ
حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ في أثر قصة الحضرمي: فأنزل
عز وجل" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ"
الْآيَةَ، قَالَ: فَحَدَّثَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ
الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا كَانَ،
وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ
أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
حِينَ يَسْجُنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ
«4» أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَصَدِّهِمُ
الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُمْ سُكَّانُهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَفِتْنَتِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الدِّينِ،
فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَقَلَ «5» ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَحَرَّمَ
الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ، حَتَّى
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ". وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ،
وَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ،
وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وردت
بعدها عامة في الأزمنة، وهذا
__________
(1). آية 36 سورة التوبة.
(2). هو أبو عامر الأشعري، ابن عم أبى موسى الأشعري.
(3). أوطاس: واد في ديار هوازن، وفية كانت وقعة حنين. راجع
طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام في غزوة حنين.
(4). في بغض النسخ:" يسحبونهم".
(5). عقل القتيل: أعطى وريته ديته بعد قتله.
(3/43)
خَاصٌّ وَالْعَامُّ لَا يَنْسَخُ الْخَاصَّ
بِاتِّفَاقٍ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى «1».
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قِتالٍ فِيهِ) " قِتَالٍ"
بَدَلٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ
السُّؤَالَ اشْتَمَلَ عَلَى الشَّهْرِ وَعَلَى الْقِتَالِ،
أَيْ يَسْأَلُكَ الْكُفَّارُ تَعَجُّبًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ
الشَّهْرِ، فَسُؤَالَهُمْ عَنِ الشَّهْرِ إِنَّمَا كَانَ
لِأَجْلِ الْقِتَالِ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَلْ يَجُوزُ؟ فَأَبْدَلَ قِتَالًا مِنَ
الشَّهْرِ، وأنشد سيبويه:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ
بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا «2»
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْلٌ" بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِمَا. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَعَنْ
قِتَالٍ فِيهِ، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَكُونُ
مَخْفُوضًا بِعَنْ عَلَى التَّكْرِيرِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَلَى نِيَّةِ عَنْ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَلَى الْجِوَارِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ الشَّيْءُ عَلَى
الْجِوَارِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا في شي مِنَ الْكَلَامِ،
وَإِنَّمَا الْجِوَارُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ في شي
شَاذٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ،
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي
التَّثْنِيَةِ: هَذَانَ: جُحْرَا ضَبٍّ خَرِبَانِ، وَإِنَّمَا
هَذَا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شي مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ عَلَى هَذَا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِأَفْصَحِ
اللُّغَاتِ وَأَصَحِّهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ خَفْضٌ عَلَى الْجِوَارِ، وقوله هذا
خطأ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ عَنْ،
وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّهُ بَدَلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ"
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيهِ"
بِالرَّفْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ غَامِضٌ فِي
الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَجَائِزٌ قِتَالٌ فِيهِ؟ فَقَوْلُهُ:"
يَسْئَلُونَكَ" يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ:
__________
(1). كذا في تفسير الفخر الرازي وكثير من كتب التفسير، وفى
الأصول:" إلا أن يغزى أو يغزو". وفى الطبري:" إلا أن يغزى أو
يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ".
(2). البيت لعبدة بن الطبيب، رثى فيه قيس بن عاصم المنقري،
وكان سيد أهل الوبر من تميم. (عن كتاب سيبويه ج 1 ص 77 طبع
بولاق).
(3/44)
أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ
... كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ «1»
وَالْمَعْنَى: أَتَرَى بَرْقًا، فَحَذَفَ أَلِفَ
الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ الَّتِي فِي" أَصَاحِ"
تَدُلُّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْفَ نِدَاءٍ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تبتكر
وَالْمَعْنَى: أَتَرُوحُ، فَحَذَفَ الْأَلِفَ لِأَنَّ أَمْ
تَدُلُّ عَلَيْهَا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ
قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ
مُسْتَنْكَرٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ كَانَ ثَابِتًا يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانَ
الِابْتِدَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالشَّهْرُ فِي الْآيَةِ
اسْمُ جِنْسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ قِوَامًا تَعْتَدِلُ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ
لَا تَسْفِكُ دَمًا، وَلَا تُغَيِّرُ فِي الْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ، وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ
وَالْمُحَرَّمُ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ «2» وَوَاحِدُ فَرْدٌ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" الْمَائِدَةِ»
" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ابْتِدَاءٌ
(وَكُفْرٌ بِهِ) عُطِفَ عَلَى" صَدٌّ" (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) عُطِفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ
مِنْهُ) عُطِفَ عَلَى صَدٌّ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ (أَكْبَرُ
عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقِتَالِ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِطُولِ مَنْعِ النَّاسِ عَنِ الْكَعْبَةِ
أَنْ يُطَافَ بِهَا." وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ،
وَقِيلَ:" وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِالْحَجِّ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ." وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ" أَيْ
أَعْظَمُ عُقُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:" صَدٌّ" عُطِفَ
عَلَى" كَبِيرٌ"." والْمَسْجِدِ" عُطِفَ عَلَى الْهَاءِ فِي"
بِهِ"، فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَسَقًا مُتَّصِلًا غَيْرَ
مُنْقَطِعٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّ
الْمَعْنَى يَسُوقُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ:" وَكُفْرٌ بِهِ"
أَيْ بِاللَّهِ عُطِفَ أَيْضًا عَلَى" كَبِيرٌ"، وَيَجِيءُ
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ
أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عند الله، وهذا بين
__________
(1). الوميض: لمع البرق. قوله: كلمع اليدين. أراد كحركة اليدين
وتقليبهما. والحبى: ما ارتفع من السحاب. وقيل: هو الذي يعترض
اعتراض الجبل قيل أن يطبق السماء. والمكلل من السحاب: الملمع
بالبرق. ويقال: هو الذي حوله قطع من السحاقب.
(2). الثلاثة السرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والسرد
التتابع. والواحد الفرد: رجب، وصار فردا لأنه يأتي بعده شعبان
وشهر رمضان وشوال.
(3). راجع ج 6 ص 39
(3/45)
فَسَادُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى
قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّكُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ
تَسْتَعْظِمُونَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ، وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ مِنَ الصَّدِّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْ
كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ وَإِخْرَاجِكُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ
مِنْهُ، كَمَا فَعَلْتُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ
اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً ... وَأَعْظَمُ
مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ... وَكُفْرٌ بِهِ
وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ ... لِئَلَّا
يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ
فَإِنَّا وَإِنْ غَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ ... وَأَرْجَفَ
بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ
سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا ...
بِنَخْلَةٍ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ
دَمًا وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا ...
يُنَازِعُهُ غُلٌّ مِنَ الْقِدِّ عَانِدُ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: قَوْلُهُ
تَعَالَى:" قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ:"
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً" وَبِقَوْلِهِ:"
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» ". وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمْ
يُنْسَخْ، وَلَا يَنْبَغِي الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) قَالَ
مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْفِتْنَةُ هُنَا الْكُفْرُ، أَيْ
كُفْرُكُمْ أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِنَا أُولَئِكَ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: مَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا فِتْنَتُهُمُ
الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا، أَيْ أَنَّ
ذَلِكَ أَشَدُّ اجْتِرَامًا مِنْ قَتْلِكُمْ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
يَزالُونَ) ابْتِدَاءُ «2» خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَتَحْذِيرٌ مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرِّ الْكَفَرَةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: يعنى كفار قريش. و" يَرُدُّوكُمْ" نُصِبَ
بِحَتَّى، لِأَنَّهَا غَايَةٌ مُجَرَّدَةٌ. الثَّامِنَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يَرْتَدِدْ" أَيْ يَرْجِعُ عَنِ
الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ) أَيْ
بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ، وَمِنْهُ الْحَبَطُ وَهُوَ فَسَادٌ
يَلْحَقُ الْمَوَاشِيَ فِي بُطُونِهَا مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهَا
الْكَلَأَ فَتَنْتَفِخُ أَجْوَافُهَا، وَرُبَّمَا تَمُوتُ مِنْ
ذَلِكَ، فَالْآيَةُ تَهْدِيدٌ للمسلمين ليثبتوا على دين
الإسلام.
__________
(1). آية 5 سورة التوبة.
(2). في ا" ابتداء وخبر .. ".
(3/46)
التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْمُرْتَدِّ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْبَطُ
عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا، إِلَّا عَلَى
الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ؟ وَهَلْ يُورَثُ أَمْ لَا؟
فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَتْ طَائِفَةٌ:
يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ
شَهْرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، عَلَى مَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
يُسْتَتَابُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
يُقْتَلُ دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ طَاوُسٍ وَعُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ. وَذَكَرَ سَحْنُونُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ
بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونَ كَانَ يَقُولُ: يُقْتَلُ
الْمُرْتَدُّ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ
وَأَبِي مُوسَى، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى
الْيَمَنِ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ قَالَ: انْزِلْ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ وِسَادَةً،
وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ:
هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ
دِينَ السُّوءِ فَتَهَوَّدَ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى
يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ.
قَالَ: [نَعَمْ «1»] لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَأَمَرَ بِهِ
فَقُتِلَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ أَبُو
يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعْرَضُ
عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ
مَكَانَهُ، إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ، فَإِنْ
طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْمَشْهُورُ
عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ
حَتَّى يُسْتَتَابَ. وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ
سَوَاءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَتُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ وَلَا
يُسْتَتَابُونَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا أَوَّلَ" الْبَقَرَةِ «2»
". وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُتَعَرَّضُ
لَهُ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي
الِابْتِدَاءِ لَأُقِرَّ عَلَيْهِ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"
وَلَمْ يَخُصَّ مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ:
مَعْنَى الْحَدِيثِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى
الْكُفْرِ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ
فَلَمْ يُعْنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا
ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّ الْمُبَدِّلَ لدينه
من أهل الذمة يلحقه الامام
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم. [ ..... ]
(2). راجع ج 1 ص 198
(3/47)
بِأَرْضِ الْحَرْبِ وَيُخْرِجُهُ مِنْ
بَلَدِهِ وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ مَعَ أَمْوَالِ
الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غَلَبَ عَلَى الدَّارِ، لِأَنَّهُ
إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الذِّمَّةَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ
عَلَيْهِ فِي حِينِ عَقْدِ الْعَهْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي
الْمُرْتَدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُقْتَلُ كَمَا
يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ
الْحَدِيثِ:" مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". وَ" مَنْ"
يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْتَلُ
الْمُرْتَدَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ
بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
لَمْ يَقْتُلِ الْمُرْتَدَّةَ، وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا كَانَ
أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ.
وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ...
" فَعَمَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَهُوَ
أَصَحُّ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَنِ
ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْبَطْ
عَمَلُهُ وَلَا حَجُّهُ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ، بَلْ إِنْ
مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ فَحِينَئِذٍ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَيَظْهَرُ
الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ
أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّ
الْأَوَّلَ قَدْ حَبِطَ بِالرِّدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ.
وَاسْتَظْهَرَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» ". قَالُوا: وَهُوَ
خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا. وَقَالَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ: بَلْ هُوَ خِطَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى
الْأُمَّةِ، وَبَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ
لَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَكَيْفَ أَنْتُمْ! لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ
لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا قَالَ:" يَا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «2» " وَذَلِكَ لِشَرَفِ
مَنْزِلَتِهِنَّ، وَإِلَّا فلا يتصور إتيان مِنْهُنَّ
صِيَانَةً لِزَوْجِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ، ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ
الْمُوَافَاةَ شَرْطًا ها هنا لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا
الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً، فَمَنْ وَافَى عَلَى
الْكُفْرِ خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ،
وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بالآية الأخرى، فهما آيتان
__________
(1). آية 65 سورة الزمر.
(2). آية 30 سورة الأحزاب.
(3/48)
مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَحُكْمَيْنِ
مُتَغَايِرَيْنِ. وَمَا خُوطِبَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَهُوَ لِأُمَّتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ، وَمَا
وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ
لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكَانِ
أَحَدُهُمَا لِحُرْمَةِ الدِّينِ، وَالثَّانِي لِحُرْمَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلِّ
هَتْكِ حُرْمَةٍ عِقَابٌ، وَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ
عَصَى فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يُضَاعَفُ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنَ الْحُرُمَاتِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَهِيَ اخْتِلَافُ
الْعُلَمَاءِ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ عَلَيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ
وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ:
مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ
الْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ:
مَا اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَهُوَ
لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا
اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ فِي حال الردة فهو في، وَمَا كَانَ
مُكْتَسَبًا فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يَرِثُهُ
وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَّا ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ،
وَمُطْلَقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا وِرَاثَةَ
بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ" يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ
قَوْلِهِمْ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ
الْكُفَّارِ لَا يَرِثُونَهُ، سِوَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ قَالَ: يَرِثُونَهُ. الثَّانِيَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية. قال جندب ابن عَبْدِ اللَّهِ
وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا: لَمَّا قَتَلَ
وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَوَقَّفَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَخْذِ
خُمُسِهِ الَّذِي وُفِّقَ فِي فَرْضِهِ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَحْشٍ وَفِي الْأَسِيرَيْنِ، فَعَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَأَصْحَابَهُ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، فَتَلَافَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ
الْآيَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ،
وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ ثَوَابَ مَنْ هَاجَرَ وَغَزَا،
فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا" ثُمَّ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي كُلِّ
(3/49)
مَنْ فَعَلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقِيلَ «1»: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا
فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَالْهِجْرَةُ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى
مَوْضِعٍ، وَقَصْدُ تَرْكِ الْأَوَّلِ إِيثَارًا لِلثَّانِي.
وَالْهَجْرُ ضِدَّ الْوَصْلِ. وَقَدْ هَجَرَهُ هَجْرًا
وَهِجْرَانًا، وَالِاسْمُ الْهِجْرَةُ. وَالْمُهَاجَرَةُ مِنْ
أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ تَرْكُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ.
وَالتَّهَاجُرُ التَّقَاطُعُ. وَمَنْ قَالَ: الْمُهَاجَرَةُ
الِانْتِقَالُ مِنَ الْبَادِيَةِ إِلَى الْحَاضِرَةِ فَقَدْ
أَوْهَمَ، بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الْأَغْلَبَ فِي
الْعَرَبِ، وَلَيْسَ أَهْلُ مَكَّةَ مهاجرين على قوله."
وَجاهَدُوا" مُفَاعَلَةٌ مِنْ جَهَدَ إِذَا اسْتَخْرَجَ
الْجَهْدَ، مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا. وَالِاجْتِهَادُ
وَالتَّجَاهُدُ: بَذْلُ الْوُسْعِ وَالْمَجْهُودِ.
وَالْجَهَادُ (بالفتح): الأرض الصلبة." وَيَرْجُونَ" مَعْنَاهُ
يَطْمَعُونَ وَيَسْتَقْرِبُونَ. وَإِنَّمَا قَالَ" يَرْجُونَ"
وَقَدْ مَدَحَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ بَلَغَ
فِي طَاعَةِ اللَّهِ كُلَّ مَبْلَغٍ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ. وَالثَّانِي-
لِئَلَّا يَتَّكِلَ عَلَى عَمَلِهِ، وَالرَّجَاءُ يَنْعَمُّ،
وَالرَّجَاءُ أَبَدًا معه خوف ولا بد، كَمَا أَنَّ الْخَوْفَ
مَعَهُ رَجَاءٌ. وَالرَّجَاءُ مِنَ الْأَمَلِ مَمْدُودٌ،
يُقَالُ: رَجَوْتُ فُلَانًا رَجْوًا وَرَجَاءً ورجاؤه، يقال:
ما أتيتك إلا رجاؤه الْخَيْرِ. وَتَرَجَّيْتُهُ
وَارْتَجَيْتُهُ وَرَجَيْتُهُ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى رَجَوْتُهُ،
قَالَ بِشْرٌ يُخَاطِبُ بِنْتَهُ:
فَرَجِّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي إِيَابِي ... إِذَا مَا
الْقَارِظُ الْعَنَزِيُّ آبَا
وَمَا لِي فِي فُلَانٍ رَجِيَّةٌ، أَيْ مَا أَرْجُو. وَقَدْ
يَكُونُ الرَّجْوُ وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً
«2» " أَيْ لَا تَخَافُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ، قَالَ أَبُو
ذُؤَيْبٍ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ...
وَخَالَفَهَا «3» فِي بَيْتِ نُوَبٍ عَوَامِلِ
أَيْ لَمْ يَخَفْ وَلَمْ يُبَالِ. وَالرَّجَا- مَقْصُورٌ-:
نَاحِيَةُ الْبِئْرِ وَحَافَّتَاهَا، وَكُلُّ نَاحِيَةٍ رَجَا.
وَالْعَوَامُّ مِنَ النَّاسِ يُخْطِئُونَ فِي قَوْلِهِمْ: يَا
عَظِيمَ الرَّجَا، فيقصرون ولا يمدون.
__________
(1). يريد أن المسلمين واهل السرية لما فرج الله عنهم ما كانوا
فيه من أمر قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام بإنزال قوله
تعالى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" الآية، ظنوا
أنه إنما نفى عنهم الإثم فقط ولا أجر لهم فطمعوا فيه فقالوا:
يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر
المجاهدين؟ وفى رواية: أن لم يكونوا أصابوا وزرا فلا أجر لهم؟
فأنزل الله تعالى قوله:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هاجَرُوا" الآية، فوضعهم الله في ذلك على أعظم رجاء.
(2). آية 13 سورة نوح.
(3). خالفها (بالخاء المعجمة): خلفها إلى عسلها وهى غائبة فقد
سرحت ترعى. يروى:" حالفها- عواسل" بالحاء المهملة، أي لازمها.
والنوب: النحل، وهو جمع نائب، لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها.
(3/50)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
[سورة البقرة (2): آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). فِيهِ تسع مسائل: الاولى- قوله
تعالى: (يَسْئَلُونَكَ) «1» السَّائِلُونَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَمْرُ مَأْخُوذَةٌ
مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ. وكل
شي غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ" خَمِّرُوا
آنِيَتَكُمْ" فَالْخَمْرُ تَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ تُغَطِّيهِ
وَتَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ
لَهُ: الْخَمَرُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا
تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَخَمَرَتِ الْأَرْضُ
كَثُرَ خَمَرُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرَا ... فَقَدْ
جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أَيْ سِيرَا مُدِلِّينَ فَقَدْ جَاوَزْتُمَا الْوَهْدَةَ
الَّتِي يَسْتَتِرُ بِهَا الذِّئْبُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ
الْعَجَّاجُ يَصِفُ جَيْشًا يَمْشِي بِرَايَاتٍ وَجُيُوشٍ
غَيْرَ مُسْتَخْفٍ:
فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ «2» لَا يَمْشِي الْخَمَرْ ...
يُوَجِّهُ الْأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَخَلَ فِي غُمَارِ النَّاسِ
وَخُمَارِهِمْ، أَيْ هُوَ فِي مَكَانٍ خَافٍ. فَلَمَّا كَانَتِ
الْخَمْرُ تَسْتُرُ الْعَقْلَ وَتُغَطِّيهِ سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا
لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ، كَمَا يُقَالُ: قَدِ
اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، أَيْ بَلَغَ إِدْرَاكُهُ. وَخُمِرَ
الرَّأْيُ، أَيْ تُرِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا
تُخَالِطُ الْعَقْلَ، مِنَ الْمُخَامَرَةِ وَهِيَ
الْمُخَالَطَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَخَلْتُ فِي خُمَارِ
النَّاسِ، أَيِ اخْتَلَطْتُ بِهِمْ. فَالْمَعَانِي
الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ، فَالْخَمْرُ تُرِكَتْ وَخُمِرَتْ
حَتَّى أَدْرَكَتْ، ثُمَّ خَالَطَتِ الْعَقْلَ، ثُمَّ
خَمَرَتْهُ، وَالْأَصْلُ الستر.
__________
(1). راجع ص 37 من هذا الجزء.
(2). العقبان (جمع عقاب): الرايات. وقوله:" بوجه الأرض" أي لا
يمر بشيء إلا جعله جهة واحدة، فيكون وجهه مع وجهه حيث يذهب.
وقوله:" يستاق الشجر" أي يمر بالرمث (مرعى من مراعى الإبل)
والعرفج وسائر الشجر فيستاقه معه، يذهب به من كثرته. وفى ب"
العقيان" بالياء، وقال:" العقيان الخالص من الذهب ويقال هو ما
ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة" وكذا في ج.
(3/51)
وَالْخَمْرُ: مَاءُ الْعِنَبِ الَّذِي
غَلَى أَوْ طُبِخَ، وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِهِ
فَهُوَ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الْقِمَارَ كُلَّهُ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمَيْسِرُ
مِنْ بَيْنِهِ فَجُعِلَ كُلُّهُ قِيَاسًا عَلَى الْمَيْسِرِ،
وَالْمَيْسِرُ إِنَّمَا كَانَ قِمَارًا فِي الْجُزُرِ
خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ كَالْخَمْرِ فَهُوَ
بِمَنْزِلَتِهَا. الثَّانِيَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ
الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ
خَمْرِ الْعِنَبِ فَمُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ،
وَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: مَا أَسْكَرَ
كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ فَهُوَ حَلَالٌ «1»،
وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ أَحَدٌ دُونَ أَنْ يَتَعَمَّدَ
الْوُصُولَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ،
وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ النَّظَرُ وَالْخَبَرُ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ «2» " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدَعْ شَيْئًا
مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْبِرِّ إِلَّا أَعْطَاهُ هَذِهِ
الْأُمَّةَ، وَمِنْ كَرَامَتِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنَّهُ لَمْ
يُوجِبْ عَلَيْهِمُ الشَّرَائِعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ
أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ
فِي أَمْرِ الْخَمْرِ، ثُمَّ بَعْدَهُ:" لَا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى " ثُمَّ قَوْلُهُ:" إِنَّما
يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ
وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"
ثُمَّ قَوْلُهُ:" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
الْمَائِدَةِ". الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالْمَيْسِرِ) الْمَيْسِرُ: قِمَارُ الْعَرَبِ
بِالْأَزْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ
فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ وَأَهْلِهِ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وعطاء وقتادة
ومعاوية ابن صَالِحٍ وَطَاوُسٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عباس أيضا: كل شي فِيهِ قِمَارٌ
مِنْ نَرْدٍ وَشِطْرَنْجٍ فَهُوَ الْمَيْسِرُ، حَتَّى لَعِبِ
الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَالْكِعَابِ «3»، إِلَّا مَا
أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَالْقُرْعَةِ فِي
إِفْرَازِ الْحُقُوقِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ مَالِكٌ:
الميسر ميسران: ميسر اللهو،
__________
(1). أي قليله.
(2). راجع ج 6 ص 285 وما بعدها، وج 10 ص 128 وما بعدها.
(3). الكعاب: فصوص النرد.
(3/52)
وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ، فَمِنْ مَيْسِرِ
اللَّهْوِ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا.
وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ
الْعَجَمِ. وَكُلُّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ عِنْدَ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَسَيَأْتِي فِي"
يُونُسَ «1» " زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَيْسِرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيَسَرِ،
وَهُوَ وُجُوبُ الشَّيْءِ لِصَاحِبِهِ، يُقَالُ: يَسَرَ لِي
كَذَا إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِرُ يَسَرًا وَمَيْسِرًا.
وَالْيَاسِرُ: اللَّاعِبُ بِالْقِدَاحِ، وَقَدْ يَسَرَ
يَيْسِرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَعِنْهُمْ وَايْسِرْ بِمَا يَسَرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمْ
نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ: الْجَزُورُ الَّذِي
كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا لِأَنَّهُ
يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ،
وَكُلُّ شي جَزَّأْتُهُ فَقَدْ يَسَرْتُهُ. وَالْيَاسِرُ:
الْجَازِرُ، لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ. قَالَ:
وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْيَاسِرِ، ثُمَّ يُقَالُ
لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِينَ عَلَى
الْجَزُورِ: يَاسِرُونَ، لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ إِذْ كَانُوا
سَبَبًا لِذَلِكَ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَيَسَرَ الْقَوْمُ
الْجَزُورَ أَيِ اجْتَزَرُوهَا وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا.
قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الْيَرْبُوعِيُّ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ
تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ «2»
كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاءٌ فَضُرِبَ عَلَيْهِ
بِالسِّهَامِ. وَيُقَالُ: يَسَرَ الْقَوْمُ إِذَا قَامَرُوا.
وَرَجُلٌ يَسَرٌ وَيَاسِرٌ بِمَعْنًى. وَالْجَمْعُ أَيْسَارٌ،
قَالَ النَّابِغَةُ:
أَنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مَثْنَى
الْأَيَادِي «3» وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الْأَدَمَا
وَقَالَ طَرَفَةُ:
وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا ... أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ
«4» أَبْدَاءَ الْجُزُرْ
وَكَانَ مَنْ تَطَوَّعَ بِنَحْرِهَا مَمْدُوحًا عِنْدَهُمْ،
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَنَاجِيَةٍ نَحَرْتُ لِقَوْمِ صِدْقٍ ... وما ناديت أيسار
الجزور
__________
(1). راجع ج 8 ص 337 وما بعدها.
(2). تيأسوا (من يئس) بمعنى علم. وزهدم (كجعفر): اسم فرس.
(3). قوله:" مثنى الايادي" هو أن يعيد معروفه مرتين أو ثلاثا.
[ ..... ]
(4). الشتوة (واحد جمعه شتاء) والعرب تجعل الشتاء مجاعة، لان
الناس يلتزمون فيه البيوت ولا يخرجون للانتجاع. وإبداء (جمع
بدء): خير عظيم في الجزور. وقيل: هو خير نصيب فيها.
(3/53)
الْخَامِسَةُ- رَوَى مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّأِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ
أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ
وَالشَّاتَيْنِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ
أَصْحَابِهِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، حَيَوَانُهُ
بِلَحْمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ «1»
وَالْغَرَرِ «2» وَالْقِمَارِ، لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى هَلْ فِي
الْحَيَوَانِ مِثْلُ اللَّحْمِ الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلُّ
أَوْ أَكْثَرُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ لَا يَجُوزُ
مُتَفَاضِلًا، فَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ
كَبَيْعِ اللَّحْمِ الْمُغَيَّبِ فِي جِلْدِهِ إِذَا كَانَا
مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالْجِنْسُ الْوَاحِدُ عِنْدَهُ
الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالظِّبَاءُ وَالْوُعُولُ
وَسَائِرُ الْوُحُوشِ، وَذَوَاتُ الْأَرْبَعِ الْمَأْكُولَاتُ
كُلُّهَا عِنْدَهُ جنس واحد، لا يجوز بيع شي مِنْ حَيَوَانِ
هَذَا الصِّنْفِ وَالْجِنْسِ كُلِّهِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ
لَحْمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ
بَابِ الْمُزَابَنَةِ، كَبَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ
وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ،
وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالطَّيْرُ عِنْدَهُ كُلُّهُ جِنْسٌ
وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ الْحِيتَانُ مِنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَرَادَ وَحْدَهُ صنف. وقال الشافعي
وأصحابه والليث ابن سَعْدٍ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ
بِالْحَيَوَانِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ جِنْسٍ
وَاحِدٍ كَانَ أَمْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، عَلَى
عُمُومِ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
فَقُسِمَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، فَقَالَ رَجُلٌ:
أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
لَا يَصْلُحُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْتُ أَعْلَمُ
لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
أَجَازَ بَيْعَ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَرِهَ
أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ، يَعْنِي الشَّاةَ
الْمَذْبُوحَةَ بِالْقَائِمَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَنَحْنُ لَا
نَرَى بِهِ بَأْسًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ لَمْ يَصِحَّ
الْحَدِيثُ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ فَالْقِيَاسُ
أَنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْقِيَاسُ وَاتُّبِعَ
الْأَثَرُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلِلْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ
جَائِزٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ حُجَجٌ كَثِيرَةٌ
مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ، إلا أنه إذا صح الأثر
بطل
__________
(1). المزابنة: بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر. وعند مالك: كل
جزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون
ومعدود، أو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو بيع مجهول بمجهول من
جنسه.
(2). الغرر: بيع السمك في الماء والطير في الهواء. وقيل: ما
كان له ظاهر يغر المشترى وباطن مجهول. وقال الأزهري: ويدخل في
بيع الغرر البيوع المجهولة التي يحيط بكنهها المتبايعان حتى
تكون معلومة.
(3/54)
الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ. وَرَوَى مَالِكٌ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن
بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا
أَعْلَمُهُ يَتَّصِلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ، وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ
مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ،
وَأَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ إِلَّا أَنَّهُ
زَعَمَ أَنَّهُ افْتَقَدَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ فَوَجَدَهَا أَوْ
أَكْثَرَهَا صِحَاحًا. فَكَرِهَ بَيْعَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ
بِأَنْوَاعِ اللُّحُومِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَعُمُومِهِ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَرٌ يَخُصُّهُ وَلَا إِجْمَاعٌ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُخَصَّ النَّصُّ بِالْقِيَاسِ.
وَالْحَيَوَانُ عِنْدَهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَعِيشُ فِي
الْبَرِّ وَالْمَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ،
كَالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَأْكُولٍ أَوْ
مَشْرُوبٍ، فَاعْلَمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ
فِيهِما) يَعْنِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ (إِثْمٌ كَبِيرٌ)
إِثْمُ الْخَمْرِ مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّارِبِ مِنَ
الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ
وَالزُّورِ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ مَا
يَجِبُ لِخَالِقِهِ، وَتَعْطِيلِ الصَّلَوَاتِ وَالتَّعَوُّقِ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ
كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ فَعَلِقَتْهُ
امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا
فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ، فَانْطَلَقَ
مَعَ جَارِيَتِهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا
أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ
وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ:
إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ
دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ
الْخَمْرِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ. قَالَ:
فَاسْقِينِي مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ
كَأْسًا. قَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِمْ «1» حَتَّى وَقَعَ
عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ،
فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ
الْخَمْرِ، إِلَّا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْأَعْشَى لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى
الْمَدِينَةِ لِيُسْلِمَ فَلَقِيَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فِي
الطَّرِيقِ فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَأَخْبَرَهُمْ
بِأَنَّهُ يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَا تَصِلُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ
يَأْمُرُكَ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنَّ خِدْمَةَ الرَّبِّ
وَاجِبَةٌ. فَقَالُوا: إِنَّهُ يَأْمُرُكَ بِإِعْطَاءِ المال
إلى الفقراء. فقال:
__________
(1). يرم (بفتح الياء وكسر الراء من رام يريم): أي فلم يبرح.
(3/55)
اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَاجِبٌ. فَقِيلَ
لَهُ: إِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الزِّنَى. فَقَالَ: هُوَ فُحْشٌ
وَقَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ صِرْتُ شَيْخًا فَلَا
أَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ
شُرْبِ الْخَمْرِ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَإِنِّي لَا
أَصْبِرُ عَلَيْهِ! فَرَجَعَ، وَقَالَ: أَشْرَبُ الْخَمْرَ
سَنَةً ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى
مَنْزِلِهِ حَتَّى سَقَطَ عَنِ الْبَعِيرِ فَانْكَسَرَتْ
عُنُقُهُ فَمَاتَ. وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ
شَرَّابًا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَى
نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ غَمَزَ عُكْنَةَ «1»
ابْنَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَسَبَّ أَبَوَيْهِ، وَرَأَى
الْقَمَرَ فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، وَأَعْطَى الْخَمَّارَ
كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ
فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهَا يَقُولُ:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ
الرَّجُلَ الْحَلِيمَا
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا ... وَلَا أُشْفَى بِهَا
أَبَدًا سَقِيمَا
وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي ... وَلَا أَدْعُو لَهَا
أَبَدًا نَدِيمَا
فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيَهَا ... وَتُجْنِيهِمْ
بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ
الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لِأَبِي
مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ قَالَهَا فِي تَرْكِهِ الْخَمْرَ،
وَهُوَ الْقَائِلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تَرْوِي
عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا
وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا
مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا «2»
وَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ عَلَيْهَا مِرَارًا، وَنَفَاهُ
إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَلَحِقَ بِسَعْدٍ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَحْبِسَهُ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ أَحَدَ
الشُّجْعَانِ الْبُهَمِ «3»، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي
حَرْبِ الْقَادِسِيَّةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ حَلَّ قُيُودَهُ
وَقَالَ: لَا نَجْلِدُكَ عَلَى الْخَمْرِ أَبَدًا. قَالَ أَبُو
مِحْجَنٍ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا، فَلَمْ
يَشْرَبْهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْ كُنْتُ
أَشْرَبُهَا إِذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ [وأطهر منها «4»]،
وأما إذ بهرجتني «5» فو الله لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا.
وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ
رَأَى قَبْرَ أَبِي مِحْجَنٍ باذر بيجان،
__________
(1). العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا.
(2). بالرفع، إما على إهمال" أن" وإما على أنها مخففة من
الثقيلة.
(3). البهم (بضم ففتح جمع البهمة): الفارس الَّذِي لَا يُدْرَى
مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ من شدة بأسه.
(4). زيادة عن كتاب" الاستيعاب".
(5). بهرجتني: أي أهدرتني بإسقاط الحد عنى.
(3/56)
أَوْ قَالَ: فِي نَوَاحِي جُرْجَانَ،
وَقَدْ نَبَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُ أُصُولِ كَرْمٍ وَقَدْ
طَالَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَهِيَ مَعْرُوشَةٌ عَلَى قَبْرِهِ،
وَمَكْتُوبٌ عَلَى الْقَبْرِ" هَذَا قَبْرُ أَبِي مِحْجَنٍ"
قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَعَجَّبُ وَأَذْكُرُ قَوْلَهُ:
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ
ثُمَّ إِنَّ الشَّارِبَ يَصِيرُ ضُحْكَةً لِلْعُقَلَاءِ،
فَيَلْعَبُ بِبَوْلِهِ وَعَذِرَتِهِ، وَرُبَّمَا يَمْسَحُ
وَجْهَهُ، حَتَّى رُئِيَ بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ
بِبَوْلِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ
التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ وَرُئِيَ
بَعْضُهُمْ وَالْكَلْبُ يَلْحَسُ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقُولُ
لَهُ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْقِمَارُ فَيُورِثُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالِ
الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أَمَّا فِي الْخَمْرِ فَرِبْحُ
التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنَ
الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ،
وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ المماكسة فِيهَا، فَيَشْتَرِي طَالِبُ
الْخَمْرِ الْخَمْرَ بِالثَّمَنِ الْغَالِي. هَذَا أَصَحُّ مَا
قِيلَ فِي مَنْفَعَتِهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنَافِعِهَا:
إِنَّهَا تَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَتُقَوِّي الضَّعْفَ،
وَتُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَتُشَجِّعَ
الْجَبَانَ، وَتَصُفِّي اللَّوْنَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
اللَّذَّةِ بِهَا. وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا
يُنَهْنِهُنَا «1» اللِّقَاءُ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَاحِهَا. وَقَالَ آخَرُ «2»:
فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ
وَالسَّدِيرِ
وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ
وَالْبَعِيرِ
وَمَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ مَصِيرُ الشَّيْءِ إِلَى
الْإِنْسَانِ فِي الْقِمَارِ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ،
فَكَانُوا يَشْتَرُونَ الْجَزُورَ وَيَضْرِبُونَ
بِسِهَامِهِمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنَ
اللَّحْمِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ،
وَمَنْ بَقِيَ سَهْمُهُ آخِرًا كَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُ
الْجَزُورِ كُلِّهِ وَلَا يَكُونُ له من اللحم شي. وَقِيلَ:
مَنْفَعَتُهُ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، فَإِنَّ مَنْ
قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْجَزُورِ وكان
يفرقه في المحتاجين.
__________
(1). النهنهة: الكف والمنع.
(2). هو المنخل اليشكري.
(3/57)
وَسِهَامُ الْمَيْسِرِ أَحَدَ عَشَرَ
سَهْمًا، مِنْهَا سَبْعَةٌ لَهَا حُظُوظٌ وَفِيهَا فُرُوضٌ
عَلَى عَدَدِ الْحُظُوظِ، وَهِيَ:" الْفَذُّ" وَفِيهِ
عَلَامَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُ نَصِيبٌ وَعَلَيْهِ نَصِيبٌ إِنْ
خَابَ. الثَّانِي-" التَّوْأَمُ" وَفِيهِ عَلَامَتَانِ وَلَهُ
وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ. الثَّالِثُ-" الرَّقِيبُ" وَفِيهِ
ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الرَّابِعُ-"
الْحِلْسُ" وَلَهُ أَرْبَعٌ. الْخَامِسُ-" النَّافِزُ"
وَالنَّافِسُ أَيْضًا وَلَهُ خَمْسٌ. السَّادِسُ-"
الْمُسْبِلُ" وَلَهُ سِتٌّ. السَّابِعُ-" الْمُعَلَّى" وَلَهُ
سَبْعٌ. فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْضًا،
وَأَنْصِبَاءُ الْجَزُورِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ.
وَبَقِيَ مِنَ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ الْأَغْفَالُ لَا
فُرُوضَ لَهَا وَلَا أَنْصِبَاءَ، وَهِيَ:" الْمُصَدَّرُ" وَ"
الْمُضَعَّفُ" وَ" الْمَنِيحُ" وَ" السَّفِيحُ". وَقِيلَ:
الْبَاقِيَةُ الْأَغْفَالُ الثَّلَاثَةُ:" السَّفِيحُ" وَ"
الْمَنِيحُ" وَ" الْوَغْدُ" تُزَادُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ
لِتَكْثُرَ السِّهَامُ عَلَى الَّذِي يُجِيلُهَا «1» فَلَا
يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا. وَيُسَمَّى
الْمُجِيلُ الْمُفِيضَ «2» وَالضَّارِبَ وَالضَّرِيبَ
وَالْجَمْعُ الضُّرَبَاءُ. وَقِيلَ: يُجْعَلُ خَلْفَهُ رَقِيبٌ
لِئَلَّا يُحَابِي أَحَدًا، ثُمَّ يَجْثُو الضَّرِيبُ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، وَيَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ
وَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الرِّبَابَةِ «3» فَيُخْرِجُ. وَكَانَتْ
عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَضْرِبَ الْجَزُورَ بِهَذِهِ
السِّهَامِ فِي الشَّتْوَةِ وَضِيقِ الْوَقْتِ وَكَلَبِ
الْبَرْدِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، يُشْتَرَى الْجَزُورُ
وَيَضْمَنُ الْأَيْسَارُ ثَمَنَهَا وَيَرْضَى صَاحِبُهَا مِنْ
حَقِّهِ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ
لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيُسَمُّونَهُ" الْبَرَمَ"
قَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاءُ لِعُرْسِهِ ... إِذَا
الْقَشْعُ مِنْ بَرْدِ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا»
ثُمَّ تُنْحَرُ وَتُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قِسْمَةِ
الْجَزُورِ، فَذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ حُظُوظِ
السِّهَامِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، ثُمَّ يُضْرَبُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَنْ فَازَ
سَهْمُهُ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الرِّبَابَةِ مُتَقَدِّمًا
أَخَذَ أَنْصِبَاءَهُ وَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ.
وَالرِّبَابَةُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ): شَبِيهَةٌ بِالْكِنَانَةِ
تُجْمَعُ فِيهَا سِهَامُ الْمَيْسِرِ، وَرُبَّمَا سَمَّوْا
جَمِيعَ السِّهَامِ رِبَابَةً، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:
__________
(1). يجيلها: هو من أجال يجيل إجالة إذا حركها، أي يضع يده في
الخريطة ويحركها مرتين أو ثلاثا.
(2). الإفاضة بالقداح: الضرب بها وإجالتها عند القمار.
(3). سيذكر المؤلف رحمه الله تعالى معنى الربابة. [ ..... ]
(4). البرم (بفتحتين): الذي يدخل مع القوم في الميسر. والقشع:
بيت من جلد.
(3/58)
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ...
يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ «1»
وَالرِّبَابَةُ أَيْضًا: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، قَالَ
الشَّاعِرُ «2»:
وَكُنْتُ امْرَأً أَفَضْتُ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ... وَقَبْلَكَ
رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ «3»
وَفِي أَحْيَانٍ رُبَّمَا تَقَامَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ
يَغْرَمُ الثَّمَنَ مَنْ لَمْ يَفُزْ سَهْمُهُ، كَمَا
تَقَدَّمَ. وَيَعِيشُ بِهَذِهِ السِّيرَةِ فُقَرَاءُ الْحَيِّ،
وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
الْمُطْعِمُو الضَّيْفِ إِذَا مَا شَتَوْا ... وَالْجَاعِلُو
الْقُوتِ عَلَى الْيَاسِرِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ «4»:
بِأَيْدِيهِمْ مَقْرُومَةٌ «5» وَمَغَالِقُ ... يَعُودُ
بِأَرْزَاقِ الْعُفَاةِ «6» مَنِيحُهَا
وَ" الْمَنِيحُ" فِي هَذَا الْبَيْتِ الْمُسْتَمْنِحُ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيرُونَ السَّهْمَ الَّذِي قَدِ
امَّلَسَ وَكَثُرَ فَوْزُهُ، فَذَلِكَ الْمَنِيحُ
الْمَمْدُوحُ. وَأَمَّا الْمَنِيحُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ
الْأَغْفَالِ فَذَلِكَ إِنَّمَا يُوصَفُ بِالْكَرِّ،
وَإِيَّاهُ أَرَادَ الْأَخْطَلُ «7» بِقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً ... كَرَّ
الْمَنِيحِ وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا
وَفِي الصِّحَاحِ:" وَالْمَنِيحُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ
الْمَيْسِرِ مِمَّا لَا نَصِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُمْنَحَ
صَاحِبُهُ شَيْئًا". وَمِنَ الْمَيْسِرِ قَوْلُ لَبِيدٍ «8»:
__________
(1). يفيض: يدفع، ومنه الإفاضة. وصدعت الشيء: أظهرته وبينته.
(2). هو علقمة بن عبدة، كما في ديوانه.
(3). ربتني أي ملكتني أرباب من الملوك فضعت حتى صرت إليك.
والربوب (جمع رب): المالك.
(4). هو عمر بن قميئة، كما في تاج العروس واللسان، مادة" غلق".
(5). المقرومة: الموسومة بالعلامات. والمغالق قداح الميسر.
وقيل: المغالق من نعوت قداح الميسر التي يكون لها الفوز، وليست
المغالق من أسمائها، وهى التي تغلق الخطر فتوجبه للمقامر
الفائز، كما يغلق الرهن لمستحقه. (عن اللسان).
(6). كذا في الأصول. والعفاة: الأضياف وطلاب المعروف. والذي في
اللسان وتاج العروس:" العيال".
(7). في الأصول:" جرير" والتصويب عن ديوان الأخطل. والبيت من
قصيدة يهجو بها جريرا مطلعها:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
راجع ديوانه ص 41 طبع بيروت.
(8). كذا في الأصول. والذي في كتاب" الميسر والقداح" لابن
قتيبة والمفضليات أنه للمرقش الأكبر، وهو من قصيدة له، مطلعها:
ألا بان جيراني ولست بعائف
راجع المفضليات ص 474 طبع أوربا.
(3/59)
إِذَا يَسَرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ
بَيْنَهُمْ ... فَوَاحِشَ ينعى ذكرها بالمصائف
فَهَذَا كُلُّهُ نَفْعُ الْمَيْسِرِ، إِلَّا أَنَّهُ أَكْلُ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ: الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أعلم الله عز وجل
أَنَّ الْإِثْمَ أَكْبَرُ مِنَ النَّفْعِ، وَأَعْوَدُ
بِالضَّرَرِ فِي الْآخِرَةِ، فَالْإِثْمُ الْكَبِيرُ بَعْدَ
التَّحْرِيمِ، وَالْمَنَافِعُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" كَثِيرٌ" بِالثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَلَعَنَ مَعَهَا
عَشَرَةً: بَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ
وَعَاصِرَهَا وَالْمَعْصُورَةَ لَهُ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا
وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ وَآكِلَ ثَمَنِهَا.
وَأَيْضًا فَجَمْعُ الْمَنَافِعِ يَحْسُنُ مَعَهُ جَمْعُ
الْآثَامِ. وَ" كَثِيرٌ" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ يُعْطِي
ذَلِكَ. وَقَرَأَ بَاقِي الْقُرَّاءِ وَجُمْهُورُ النَّاسِ"
كَبِيرٌ" بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ
الذَّنْبَ فِي الْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ
الْكَبَائِرِ، فَوَصْفُهُ بِالْكَبِيرِ أَلْيَقُ. وَأَيْضًا
فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى" أَكْبَرُ" حُجَّةٌ لِ" كَبِيرٌ"
بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى رَفْضِ" أَكْثَرُ"
بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، إِلَّا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّ فِيهِ" قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَثِيرٌ"" وَإِثْمُهُمَا أَكْثَرُ" بِالثَّاءِ مُثَلَّثَةً فِي
الْحَرْفَيْنِ. التَّاسِعَةُ- قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ
النَّظَرِ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ:" قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «1» "
فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا إِثْمًا فَهُوَ
حَرَامٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ هَذَا النَّظَرُ
بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْإِثْمَ الَّذِي فِيهَا هُوَ الْحَرَامُ،
لَا هِيَ بِعَيْنِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا النَّظَرُ.
قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا دَلَّ
عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ إِثْمًا، وَقَدْ
حُرِّمَ الْإِثْمُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْإِثْمُ أَرَادَ بِهِ الْخَمْرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ
الشَّاعِرِ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ
الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ
قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ الْخَمْرَ إِثْمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَإِنَّمَا قَالَ:" قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ" وَلَمْ
يَقُلْ: قُلْ هُمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ. وَأَمَّا آية" الأعراف"
وبئت الشِّعْرِ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا هُنَاكَ
مُبَيَّنًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ
قَتَادَةُ: إِنَّمَا في هذه
__________
(1). آية 33 سورة الأعراف.
(3/60)
الْآيَةِ ذَمُّ الْخَمْرِ، فَأَمَّا
التَّحْرِيمُ فَيُعْلَمُ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ آيَةُ"
الْمَائِدَةِ" وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ المفسرين. قوله تعالى:
(وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فِيهِ ثَلَاثُ
مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ الْعَفْوَ)
قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
وَحْدَهُ بِالرَّفْعِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَبِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي
إِسْحَاقَ. قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: إِنْ جَعَلْتَ" ذَا"
بِمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاخْتِيَارُ الرَّفْعَ، عَلَى
مَعْنَى: الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْوُ، وَجَازَ
النَّصْبُ. وَإِنْ جَعَلْتَ" مَا" وَ" ذَا" شَيْئًا وَاحِدًا
كَانَ الِاخْتِيَارُ النَّصْبَ، عَلَى مَعْنَى: قُلْ
يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَجَازَ الرَّفْعُ. وَحَكَى
النَّحْوِيُّونَ: مَاذَا تَعَلَّمْتَ: أَنَحْوًا أَمْ شِعْرًا؟
بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُمَا جَيِّدَانِ
حَسَنَانِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي الْآيَةِ عَلَى
النَّصْبِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا كَانَ
السُّؤَالُ فِي الآية المتقدمة في قوله تعالى:"
وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ" سُؤَالًا عَنِ
النَّفَقَةِ إِلَى مَنْ تُصْرَفُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ وَدَلَّ
عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَالْجَوَابُ خَرَجَ عَلَى وَفْقِ
السُّؤَالِ، كَانَ السُّؤَالُ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ
عَنْ قَدْرِ الْإِنْفَاقِ، وَهُوَ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ
الْجَمُوحِ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ" قُلْ
مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ" قَالَ: كَمْ
أُنْفِقُ؟ فَنَزَلَ" قُلِ الْعَفْوَ" وَالْعَفْوُ: مَا سَهُلَ
وَتَيَسَّرَ وَفَضَلَ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى الْقَلْبِ
إِخْرَاجُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا
تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
فَالْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجِكُمْ،
وَلَمْ تُؤْذُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ فَتَكُونُوا عَالَةً،
هَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَهُوَ
مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ
وَالْقُرَظِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: الْعَفْوُ مَا فَضَلَ عَنِ الْعِيَالِ،
وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَدَقَةٌ
عَنْ ظَهْرِ «1» غِنًى، وَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"
خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أُنْفِقَتْ عَنْ غنى" وفى حديث
__________
(1). قال ابن الأثير:" والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا
للكلام وتمكينا، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال".
(3/61)
فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
آخَرَ:" خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ
ظَهْرِ غِنًى". وَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: هَذِهِ الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: بَلْ هِيَ
نَفَقَاتُ التَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ زَرْعٍ
أَوْ ضَرْعٍ نَظَرَ إِلَى مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ
لِنَفَقَةِ سَنَةٍ أَمْسَكَهُ وَتَصَدَّقَ بِسَائِرِهِ، وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ أَمْسَكَ مَا يَكْفِيهِ
وَعِيَالَهُ يَوْمًا وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، حَتَّى نَزَلَتْ
آيَةُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ
وَكُلَّ صَدَقَةٍ أُمِرُوا بِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ
مُحْكَمَةٌ، وَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآياتِ) قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: أَيْ فِي
أَمْرِ النَّفَقَةِ. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فَتَحْبِسُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا
يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِي
فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآيَاتِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا
وَفَنَائِهَا فَتَزْهَدُونَ فِيهَا، وَفِي إِقْبَالِ
الْآخِرَةِ وبقائها فترغبون فيها.
[سورة البقرة (2): آية 220]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى
قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) إِلَى قَوْلِهِ
(حَكِيمٌ) فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى أَبُو
دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«1» وَ" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى
ظُلْماً «2» " الْآيَةَ، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ
يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ
شَرَابِهِ فَجَعَلَ يُفْضِلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُ لَهُ،
حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى:"
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ"
الْآيَةَ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم
__________
(1). آية 152 سورة الانعام.
(2). آية 10 سورة النساء.
(3/62)
بِشَرَابِهِ، لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ.
وَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلُ، لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ
بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ أَمْوَالِ
الْيَتَامَى. وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ
بِمُلَابَسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثانية- لما أذن الله عز وجل فِي
مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ
بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى
جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، تَصَرُّفَ
الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ. فَإِذَا كَفَلَ
الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ جَازَ
عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ،
لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ وَالْكَفَالَةُ وِلَايَةٌ
عَامَّةٌ. لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ
أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وجودهم في
أزمنتهم، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ
عِنْدَهُمْ. الثَّالِثَةُ- تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ فِي دَفْعِ
مَالِ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً وَالتِّجَارَةَ فِيهِ، وَفِي
جَوَازِ خَلْطِ مَالِهِ بِمَالِهِ، دلالة على جواز التصرف في
مال بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إِذَا وَافَقَ الصَّلَاحَ،
وَجَوَازِ دَفْعِهِ مُضَارَبَةً، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى
مَا نَذْكُرُهُ مُبَيَّنًا. وَاخْتُلِفَ فِي عَمَلِهِ هُوَ
قِرَاضًا، فَمَنَعَهُ أَشْهَبُ، وَقَاسَهُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ
أَنْ يَبِيعَ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ لَهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا أَخَذَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ
بِنِسْبَةِ قِرَاضِ مِثْلِهِ فِيهِ أُمْضِيَ، كَشِرَائِهِ
شَيْئًا لِلْيَتِيمِ بِتَعَقُّبٍ «1» فَيَكُونُ أَحْسَنَ
لِلْيَتِيمِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَهُ
أَنْ يَبِيعَ لَهُ بِالدَّيْنِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ نَظَرًا.
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ فِي عُرْسِ
الْيَتِيمِ مَا يَصْلُحُ مِنْ صَنِيعٍ وَطِيبٍ، وَمَصْلَحَتُهُ
بِقَدْرِ حَالِهِ وَحَالِ مَنْ يُزَوَّجُ إِلَيْهِ، وَبِقَدْرِ
كَثْرَةِ مَالِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ فِي خِتَانِهِ، فَإِنْ
خَشِيَ أَنْ يُتَّهَمَ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ
فَيَأْمُرُهُ بِالْقَصْدِ، وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ
النَّظَرِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ
الْمُحَابَاةِ وَسُوءِ النَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ. وَدَلَّ
الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يُعَلِّمُهُ أَمْرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ لَهُ وَيُؤَاجِرُهُ
مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ الصِّنَاعَاتِ. وَإِذَا وهب لليتيم شي
فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْبِضَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" النِّسَاءِ «2» "
إِنْ شاء الله تعالى.
__________
(1). بتعقب: أي مع تعقب، وهو أنه ينظر في أمر المشترى يرفعه
إلى السوق لمعرفة ثمنه [ ..... ]
(2). راجع ج 5 ص 34 وما بعدها.
(3/63)
الرَّابِعَةُ- وَلِمَا يُنْفِقُهُ
الْوَصِيُّ وَالْكَفِيلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ حَالَتَانِ:
حَالَةٌ يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَحَالَةٌ لَا يُمْكِنُهُ
الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ، فَمَهْمَا اشْتَرَى مِنَ الْعَقَارِ وَمَا جَرَتِ
الْعَادَةُ بِالتَّوَثُّقِ فِيهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ
بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. قَالَ ابن خويز منداد: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ
أَصْحَابُنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ فِي دَارِ
الْوَصِيِّ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَلَا يُكَلَّفُ الْإِشْهَادَ
عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ
عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ وَيَلْبَسُهُ فِي
كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنْ إِذَا قَالَ: أَنْفَقْتُ نَفَقَةً
لِسَنَةٍ «1» قُبِلَ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ
أُمِّهِ أَوْ حَاضِنَتِهِ فَيَدَّعِي الْوَصِيُّ أَنَّهُ كَانَ
يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ يُعْطِي الْأُمَّ أَوِ
الْحَاضِنَةَ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ عَلَى الْأُمِّ أَوِ الْحَاضِنَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةِ
أَنَّهَا كَانَتْ تَقْبِضُ ذَلِكَ لَهُ مُشَاهَرَةً أَوْ
مُسَانَاةً. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الرَّجُلِ يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ، وَهَلْ لَهُ
أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ أَوْ
يَتِيمَتِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: وِلَايَةُ النِّكَاحِ
بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةِ أَقْوَى مِنْهَا
بِالْقَرَابَةِ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ
يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَيَّامِ الْمَجَاعَةِ:
إِنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إِنْكَاحَهُمْ، فَأَمَّا إِنْكَاحُ
الْكَافِلِ وَالْحَاضِنِ لِنَفْسِهِ فَيَأْتِي فِي"
النِّسَاءِ" بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا
الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ: يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ
الْأَقْوَالِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ مَالَ الطِّفْلِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ
مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ دَلَّ عَلَيْهِ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ
ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ
يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ التَّصَرُّفُ، بَلْ قَالَ:" إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ" مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ الَّذِي
يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِذَا
كَانَ الْإِصْلَاحُ خَيْرًا فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهُ وَيَجُوزُ
أَنْ يُزَوَّجَ مِنْهُ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى فِي
التَّزْوِيجِ إِصْلَاحًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ دَفْعِ
الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ يُجَوِّزُ لِلْوَصِيِّ التَّزْوِيجَ لِأَنَّهُ
إِصْلَاحٌ. وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ لِلْجَدِّ التَّزْوِيجَ
مَعَ الْوَصِيِّ، وَلِلْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الَّذِي
مَاتَتْ أُمُّهُ لَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَبُو
حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ لِلْقَاضِي تَزْوِيجَ الْيَتِيمِ
بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ نَشَأَتْ مِنْ
هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُ التَّزْوِيجِ
إِصْلَاحًا فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ. وَيَجُوزُ
أن يكون معنى قوله تعالى:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى "
أَيْ يَسْأَلُكَ الْقُوَّامُ عَلَى الْيَتَامَى الْكَافِلُونَ
لَهُمْ، وَذَلِكَ مُجْمَلٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ عَيْنُ
الْكَافِلِ وَالْقَيِّمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الأوصاف.
__________
(1). في ا، ج:" تشبه".
(3/64)
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ تَرْكُ مَالِكٍ
أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ إِذْ جَوَّزَ لَهُ
الشِّرَاءَ مِنْ يَتِيمِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يكون ذلك ذريعة فما يُؤَدَّى مِنَ
الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ إِلَى مَحْظُورَةٍ مَنْصُوصٍ
عليها، وأما ها هنا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي
صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَوَكَلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ
إِلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ:" وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ" وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُكَلَّفَ إِلَى أَمَانَتِهِ لَا
يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ يَتَذَرَّعُ إِلَى مَحْظُورٍ بِهِ
فَيُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ النِّسَاءَ
مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ، مَعَ عَظِيمِ مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ،
وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ
وَالْأَنْسَابِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ. وَكَانَ
طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شي مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى
قَرَأَ:" وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ".
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ فِي
مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَجْتَمِعَ نُصَحَاؤُهُ فَيَنْظُرُونَ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي
هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ،
كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي
لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِمَّا تَحْتَ يَدِهِ شَيْئًا،
لِمَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التُّهْمَةِ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ بَيْعَ سُلْطَانٍ فِي مَلَإٍ
مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا
يَشْتَرِي مِنَ التَّرِكَةِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدُسَّ مَنْ
يَشْتَرِي لَهُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ
قِبَلِهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) هَذِهِ الْمُخَالَطَةُ كَخَلْطِ
الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ كَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: مُخَالَطَةُ الْيَتَامَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمُ
الْمَالُ وَيَشُقُّ عَلَى كَافِلِهِ أَنْ يُفْرِدَ طَعَامَهُ
عَنْهُ، وَلَا يَجِدَ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِعِيَالِهِ
فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ
بِالتَّحَرِّي فَيَجْعَلُهُ مَعَ نَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَهَذَا
قَدْ يَقَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، فَجَاءَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ النَّاسِخَةُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا عِنْدِي أَصْلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ
الرُّفَقَاءُ فِي الْأَسْفَارِ فَإِنَّهُمْ يَتَخَارَجُونَ
النَّفَقَاتِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَقَدْ
يَتَفَاوَتُونَ فِي قِلَّةِ الْمَطْعَمِ وَكَثْرَتِهِ،
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَلَّ مَطْعَمُهُ تَطِيبُ نَفْسُهُ
بِالتَّفَضُّلِ عَلَى رَفِيقِهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِي
أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَاسِعًا كَانَ فِي غَيْرِهِمْ
أَوْسَعَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخِفْتُ أَنْ يُضَيَّقَ فِيهِ
الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ.
(3/65)
وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (221)
السابعة- قوله تعالى: (فَإِخْوانُكُمْ) خبر
مبتدأ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَالْفَاءُ
جَوَابُ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) تَحْذِيرٌ، أَيْ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنَ الْمُصْلِحِ لَهَا،
فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى إِصْلَاحِهِ وَإِفْسَادِهِ.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) رَوَى الْحَكَمُ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ" وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ
" قَالَ: لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ
الْيَتَامَى مُوبِقًا. وَقِيلَ:" لَأَعْنَتَكُمْ"
لَأَهْلَكَكُمْ، عَنِ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ
الْقُتَبِيُّ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ، وَلَكِنَّهُ
لَمْ يَشَأْ إِلَّا التَّسْهِيلَ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَيْ
لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهُ
وَأَثَّمَكُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِمَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ، وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ. وَالْعَنَتُ:
الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ عَنِتَ وَأَعْنَتَهُ غَيْرُهُ. ويقال
للعظم المجبور إذا أصابه شي فَهَاضَهُ: قَدْ أَعْنَتَهُ،
فَهُوَ عَنِتٌ وَمُعْنِتٌ. وَعَنِتَتِ الدَّابَّةُ تَعْنَتُ
عَنَتًا: إِذَا حَدَثَ فِي قَوَائِمِهَا كَسْرٌ بَعْدَ جَبْرٍ
لَا يُمْكِنُهَا مَعَهُ جَرْيٌ. وَأَكَمَةٌ عَنُوتٌ: شَاقَّةُ
الْمَصْعَدِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْعَنَتِ
التَّشْدِيدُ، فَإِذَا قَالَتِ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَتَعَنَّتُ
فُلَانًا وَيُعْنِتُهُ فَمُرَادُهَا يُشَدِّدُ عَلَيْهِ
وَيُلْزِمُهُ مَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، ثُمَّ نُقِلَتْ
إِلَى مَعْنَى الْهَلَاكِ. وَالْأَصْلُ مَا وَصَفْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) أَيْ لَا
يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شي (حَكِيمٌ) يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ
بِمَا يُرِيدُ لَا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.
[سورة البقرة (2): آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ
مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ:
(3/66)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَنْكِحُوا) قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ التَّاءِ.
وَقُرِئَتْ فِي الشَّاذِّ بِالضَّمِّ، كَأَنَّ الْمَعْنَى
أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ لَهَا أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ.
وَنَكَحَ أَصْلُهُ الْجِمَاعُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي
التَّزَوُّجِ تَجَوُّزًا وَاتِّسَاعًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- لَمَّا أَذِنَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ،
وَفِي مُخَالَطَةِ النِّكَاحِ بَيَّنَ أَنَّ مُنَاكَحَةَ
الْمُشْرِكِينَ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَقِيلَ:
فِي مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ
حُصَيْنٍ الْغَنَوِيُّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ سِرًّا لِيُخْرِجَ رَجُلًا
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ
يُحِبُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا" عَنَاقُ"
فَجَاءَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ مَا
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْنِي، قَالَ:
حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا،
لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ. وَسَيَأْتِي
فِي" النُّورِ" بَيَانُهُ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ
الْآيَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ
الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" ثُمَّ نَسَخَ مِنْ
هَذِهِ الْجُمْلَةِ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَحَلَّهُنَّ
فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ". وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَسُفْيَانُ
بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ «2». وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: لَفْظُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ،
وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ فِي الْكِتَابِيَّاتِ،
وَبَيَّنَتِ الْخُصُوصَ آيَةُ" الْمَائِدَةِ" وَلَمْ
يَتَنَاوَلِ الْعُمُومُ قَطُّ الْكِتَابِيَّاتِ. وَهَذَا
أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
يَتَنَاوَلُهُنَّ الْعُمُومُ، ثُمَّ نَسَخَتْ آيَةُ"
الْمَائِدَةِ" بَعْضَ الْعُمُومِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ: وَنِكَاحُ
الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ
أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَثْقَلٌ مَذْمُومٌ. وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ
فَجَعَلُوا الْآيَةَ الَّتِي فِي" الْبَقَرَةِ" هِيَ
النَّاسِخَةَ، وَالَّتِي فِي" الْمَائِدَةِ" هِيَ
الْمَنْسُوخَةَ، فَحَرَّمُوا نِكَاحَ كُلِّ مُشْرِكَةٍ
كِتَابِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَمِنَ الْحُجَّةِ لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ مَا
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ رمح، قال: حدثنا
__________
(1). راجع ج 12 ص 168.
(2). في ج:" وسفيان هو الثوري بن سعيد، وعبد الرحمن هو
الأوزاعي بن عمرو".
(3/67)
اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ
الرَّجُلِ النَّصْرَانِيَّةَ أَوِ الْيَهُودِيَّةَ قَالَ:
حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا
أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ
تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، أَوْ عَبْدٌ مِنْ
عِبَادِ اللَّهِ!. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ
عَنْ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ
الْحُجَّةُ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِتَحْلِيلِ نِكَاحِ نِسَاءِ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَجَابِرٌ وَحُذَيْفَةُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ،
وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَيَمْتَنِعُ
أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ"
نَاسِخَةً لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ"
لِأَنَّ" الْبَقَرَةَ" مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ
بِالْمَدِينَةِ، وَ" الْمَائِدَةَ" مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ.
وَإِنَّمَا الْآخِرُ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ، وَأَمَّا حَدِيثُ
ابْنِ عُمَرَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ رَجُلًا مُتَوَقِّفًا، فَلَمَّا سَمِعَ
الْآيَتَيْنِ، فِي وَاحِدَةٍ التَّحْلِيلُ، وَفِي أُخْرَى
التَّحْرِيمُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ تَوَقَّفَ، وَلَمْ
يُؤْخَذْ عَنْهُ ذِكْرُ النَّسْخِ وَإِنَّمَا تُؤُوِّلَ
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُؤْخَذُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ
بِالتَّأْوِيلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ: إِنَّ الْآيَةَ
عَامَّةٌ فِي الْوَثَنِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ
وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ
حَرَامٌ، فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي"
الْمَائِدَةِ" وَيَنْظَرُ إِلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي
الْمُوَطَّأِ: وَلَا أَعْلَمُ إِشْرَاكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ
تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ طلحة ابن عُبَيْدِ اللَّهِ
وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَبَيْنَ كِتَابِيَّتَيْنِ
وَقَالَا: نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا
تَغْضَبُ، فَقَالَ: لَوْ جَازَ طَلَاقُكُمَا لَجَازَ
نِكَاحُكُمَا! وَلَكِنْ أُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا صَغْرَةً
قَمْأَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَا يَسْتَنِدُ
جِيدًا، وَأَسْنَدُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ التَّفْرِيقَ
بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا
حَرَامٌ فَأُخْلِيَ سَبِيلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ
أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَوَازَ
نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَمَنْ ذَكَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْلِ
النَّحَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ
أَحَدٍ مِنَ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَلَا تَعَارُضَ
بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الشِّرْكِ لَا
يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ
(3/68)
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ
«1» "، وَقَالَ:" لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ «2» " فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي
اللَّفْظِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ
الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَاسْمُ
الشِّرْكِ عُمُومٌ وَلَيْسَ بِنَصٍّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» "
بَعْدَ قَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ" نَصٌّ،
فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُحْتَمَلِ وَبَيْنَ مَا لَا
يُحْتَمَلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ:"
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ" أَيْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَأَسْلَمُوا، كَقَوْلِهِ:" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «4» " الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:" مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «5» " الْآيَةَ. قِيلَ
لَهُ: هَذَا خِلَافُ نَصِّ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ:"
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ" وَخِلَافُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّهُ
لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ جَوَازُ التَّزْوِيجِ مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَصَارَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ
قَالُوا: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ" فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ
نِكَاحِهِنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ
ذَلِكَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ" لِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَدْعُو إِلَى
النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ
الْكُفَّارِ، فَالْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنَ الْكَافِرِ مُطْلَقًا،
وَهَذَا بَيِّنٌ. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا نِكَاحُ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا حَرْبًا فَلَا يحل، وسيل ابْنُ
عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ، وَتَلَا قَوْلَ
اللَّهِ تَعَالَى:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «6» " إِلَى قَوْلِهِ:"
صاغِرُونَ". قَالَ الْمُحَدِّثُ: حَدَّثْتُ بِذَلِكَ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فَأَعْجَبَهُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ
تَزَوُّجَ الْحَرْبِيَّاتِ، لِعِلَّةِ تَرْكِ الْوَلَدِ فِي
دَارِ الْحَرْبِ، وَلِتَصَرُّفَهَا فِي الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) إِخْبَارٌ بِأَنَّ
الْمُؤْمِنَةَ الْمَمْلُوكَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُشْرِكَةِ،
وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ. (وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ) فِي الْحُسْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ
الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَنَزَلَتْ فِي خَنْسَاءَ وَلِيدَةٍ
سَوْدَاءَ كَانَتْ لِحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ
لَهَا حُذَيْفَةُ: يَا خَنْسَاءُ، قَدْ ذُكِرْتِ فِي الْمَلَإِ
الْأَعْلَى مَعَ سَوَادِكِ وَدَمَامَتِكِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرَكِ فِي كِتَابِهِ، فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَةُ
وَتَزَوَّجَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كانت له أمة سوداء
__________
(1). آية 105 سورة البقرة.
(2). آية 1 سورة البينة.
(3). آية 5 سورة المائدة.
(4). آية 199 سورة آل عمران.
(5). آية 113 سورة آل عمران.
(6). آية 29 سورة التوبة.
(3/69)
فَلَطَمَهَا فِي غَضَبٍ ثُمَّ نَدِمَ،
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:" مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ" قَالَ:
تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ
الشَّهَادَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ". فَقَالَ ابن رواحة:
لاعتقنها ولا تزوجنها، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يَرَوْنَ
أَنْ يُنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا
يُنْكِحُونَهُمْ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِ إِمَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ
الْكِتَابِيَّةِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ،
فِيمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ: إِنَّهُ لَا
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ، يَجُوزُ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: دَرَسَنَا الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ
الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ: احْتَجَّ أَصْحَابُ
«1» أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ
[الْكِتَابِيَّةِ «2»] بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ". وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ
الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ
الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ
نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ
إِنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ لَا بَيْنَ جَائِزٍ
وَمُمْتَنِعٍ، وَلَا بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ. وَالْجَوَابُ
أَنَّ الْمُخَايَرَةَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ تَجُوزُ لُغَةً
وَقُرْآنًا: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ:" أَصْحابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلًا «3» ". وَقَالَ عُمَرُ فِي رِسَالَتِهِ لِأَبِي
مُوسَى:" الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي
فِي الْبَاطِلِ". جَوَابٌ آخَرُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَلَأَمَةٌ" لَمْ يُرِدْ بِهِ الرِّقَّ الْمَمْلُوكَ
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْآدَمِيَّةَ، وَالْآدَمِيَّاتُ
وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ،
قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْجُرْجَانِيُّ. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ
نِسَاءِ الْمَجُوسِ، فَمَنَعَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ
ابْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُعْجِبُنِي. وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ
بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةَ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ
لَهُ: طَلِّقْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: قَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا: يَجِبُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ
كِتَابًا أَنْ تَجُوزَ مُنَاكَحَتُهُمْ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ لَا يَجُوزُ
أَنْ تُوطَأَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْوَثَنِيَّاتُ
وَغَيْرُهُنَّ مِنَ الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء،
__________
(1). عبارة ابن العربي في" أحكام القران" له:" احتج أبو
حنيفة".
(2). زيادة عن ابن العربي.
(3). آية 24 سورة الفرقان.
(3/70)
إِلَّا مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ،
فَقَالَا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَتَأَوَّلَا قَوْلَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ
". فَهَذَا عِنْدَهُمَا. عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ لَا عَلَى
الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاسٍ،
وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، أَمَّا
سَبْيٌ أَوْطَاسٍ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَاءُ
أَسْلَمْنَ فَجَازَ نِكَاحُهُنَّ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ" فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا النِّكَاحَ عَلَى
الْعَقْدِ، وَالنِّكَاحُ فِي اللغة يقع على العقد وعلى الوطي،
فَلَمَّا قَالَ:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ" حَرَّمَ
كُلَّ نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطئ. وَقَالَ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي
الْمَجُوسِيَّةَ أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: إِذَا شَهِدَتْ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَطِئَهَا. وَعَنْ يُونُسَ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى
تُسْلِمَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ لَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تُسْلِمَ هَذَا- وَهُوَ
أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ- دَلِيلٌ عَلَى
فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سبى أوطاس وطين وَلَمْ
يُسْلِمْنَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَا: لَا بَأْسَ بوطي
الْمَجُوسِيَّةِ، وَهَذَا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ
مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالْأَمْصَارِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ غَزْوُهُ
وَلَا غَزْوُ [أَهْلِ «1»] نَاحِيَتِهِ إِلَّا الْفُرْسَ وَمَا
وَرَاءَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَهْلَ
كِتَابٍ- مَا يُبَيِّنُ لَكَ كَيْفَ كَانَتِ السِّيرَةُ فِي
نِسَائِهِمْ إِذَا سُبِينَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ قَالَ
رَجُلٌ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ
إِذَا سَبَيْتُمُوهُنَّ؟ قَالَ: كُنَّا نُوَجِّهُهَا إِلَى
الْقِبْلَةِ وَنَأْمُرُهَا أَنْ تُسْلِمَ وَتَشْهَدَ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
ثُمَّ نَأْمُرُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَإِذَا أَرَادَ
صَاحِبُهَا أَنْ يُصِيبَهَا لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى
يَسْتَبْرِئَهَا. وَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ جَمَاعَةِ
الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ". أَنَّهُنَّ الْوَثَنِيَّاتُ
وَالْمَجُوسِيَّاتُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ
الْكِتَابِيَّاتِ بِقَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" يَعْنِي الْعَفَائِفَ، لَا
مَنْ شهر زناها من
__________
(1). الزيادة من الاستذكار لابن عبد البر. [ ..... ]
(3/71)
الْمُسْلِمَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ
نِكَاحَهَا وَوَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَا لَمْ يَكُنْ
مِنْهُنَّ تَوْبَةٌ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفْسَادِ
النَّسَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) فِيهِ إِحْدَى عَشَرَ
مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا"
أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الْمُسْلِمَةَ مِنَ الْمُشْرِكِ.
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ
الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَاضَةِ
عَلَى الْإِسْلَامِ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ مِنْ"
تَنْكِحُوا". الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
بِالنَّصِّ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ على ابن الْحُسَيْنِ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي
كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ" وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ
الْعِلْمِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَقَالَ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، رُوِيَ
هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَابِرُ بْنُ
زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ
وعبيد الله ابن الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: حُجَّةُ مَنْ قَالَ:" لَا نِكَاحَ إِلَّا
بِوَلِيٍّ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:" لَا نِكَاحَ
إِلَّا بِوَلِيٍّ". رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ
وَالثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا،
فَمَنْ يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، وَأَمَّا
مَنْ لَا يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا،
لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَلُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ
وَالثِّقَةِ. وَمِمَّنْ وَصَلَهُ إِسْرَائِيلُ وَأَبُو
عَوَانَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِسْرَائِيلُ وَمَنْ تَابَعَهُ
حُفَّاظٌ، وَالْحَافِظُ تُقْبَلُ زِيَادَتُهُ، وَهَذِهِ
الزِّيَادَةُ يَعْضُدُهَا أُصُولٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ:
(3/72)
" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ «1» ". وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ
بْنِ يَسَارٍ إِذْ عَضَلَ «2» أخته عن مراجعة زوجها، قاله
البخاري. ولو أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْإِنْكَاحِ مَا نُهِيَ
عَنِ الْعَضْلِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا
مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ:" فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ «3» " وقول:" وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «4»
" فَلَمْ يُخَاطِبْ تَعَالَى بِالنِّكَاحِ غَيْرَ الرِّجَالِ،
وَلَوْ كَانَ إِلَى النِّسَاءِ لَذَكَرَهُنَّ. وَسَيَأْتِي
بَيَانُ هَذَا فِي" النُّورِ «5» " وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً
عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:"
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
فِي سُورَةِ" الْقَصَصِ «6» ". وَقَالَ تَعَالَى:" الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «7» "، فَقَدْ تَعَاضَدَ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا
بِوَلِيٍّ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ حِينَ
تَأَيَّمَتْ وَعَقَدَ عُمَرُ عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَلَمْ
تَعْقِدْهُ هِيَ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ
لِلْمَرْأَةِ الْبَالِغَةِ الْمَالِكَةِ لِنَفْسِهَا تَزْوِيجَ
نَفْسِهَا وَعَقْدَ النِّكَاحِ دُونَ وَلِيِّهَا، وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ لَهَا لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَعَ خِطْبَةَ حَفْصَةَ لِنَفْسِهَا
إِذَا كَانَتْ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ أَبِيهَا، وَخَطَبَهَا
إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ أَمْرَهَا وَلَا الْعَقْدَ عَلَيْهَا،
وَفِيهِ بَيَانُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" الْأَيِّمُ
أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا" أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ
أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ
عَلَيْهَا إِلَّا بِرِضَاهَا، لَا أَنَّهَا أَحَقُّ
بِنَفْسِهَا فِي أَنْ تَعْقِدَ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى
نَفْسِهَا دُونَ وَلِيِّهَا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ
وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ
هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا". قَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَيُّمَا
امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا
بَاطِلٌ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ
لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا
فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ". وَهَذَا
الْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ ابْنِ
عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهُ
الزُّهْرِيَّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ غَيْرَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَقَدْ رَوَاهُ
جَمَاعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، وَلَوْ
ثَبَتَ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ
حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ ثِقَاتٌ، مِنْهُمْ
سليمان بن موسى وهو ثقة إمام
__________
(1). آية 232 سورة البقرة.
(2). العضل: المنع.
(3). آية 25 سورة النساء.
(4). آية 32 سورة النور.
(5). راجع ج 12 ص 239 وما بعدها.
(6). راجع ج 13 ص 271.
(7). آية 34 سورة النساء.
(3/73)
وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَلَوْ
نَسِيَهُ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ
النِّسْيَانَ لَا يُعْصَمُ مِنْهُ ابْنُ آدَمَ، قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ
ذُرِّيَّتُهُ". وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَنْسَى، فَمَنْ سِوَاهُ أَحْرَى أَنْ يَنْسَى، وَمَنْ حَفِظَ
فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَسِيَ، فَإِذَا رَوَى الْخَبَرَ
ثِقَةٌ فَلَا يَضُرُّهُ نِسْيَانُ مَنْ نَسِيَهُ، هَذَا لَوْ
صَحَّ مَا حَكَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
فَكَيْفَ وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ
حِكَايَتِهِ وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَقَدْ
أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ
حِبَّانَ التَّمِيمِيُّ الْبُسْتِيُّ فِي الْمُسْنَدِ
الصَّحِيحِ لَهُ- عَلَى التَّقَاسِيمِ وَالْأَنْوَاعِ مِنْ
غَيْرِ وُجُودِ قَطْعٍ فِي سَنَدِهَا، وَلَا ثُبُوتِ جَرْحٍ
فِي نَاقِلِهَا- عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ
عَدْلٍ وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ
بَاطِلٌ فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا
وَلِيَّ لَهُ". قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي
خَبَرِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ
الزُّهْرِيِّ هَذَا:" وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ" إِلَّا ثَلَاثَةُ
أَنْفُسٍ: سُوَيْدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ عَنْ حَفْصِ
بْنِ غِيَاثٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الْجُمَحِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ الرَّقِّيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ
يُونُسَ، وَلَا يَصِحُّ فِي الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ هَذَا
الْخَبَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْخَبَرُ فَقَدْ صَرَّحَ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِأَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ،
فَلَا مَعْنَى لِمَا خَالَفَهُمَا. وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيُّ
وَالشَّعْبِيُّ يَقُولَانِ: إِذَا زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاحٌ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِذَا زَوَّجَتِ
الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاحٌ
جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا
غَيْرَ كُفْءٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَمَّا
مَا قَالَهُ النُّعْمَانُ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، خَارِجٌ
عَنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِالْخَبَرِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُولُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا
بِوَلِيٍّ، فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ جَازَ، وَإِنْ أَبَى
أَنْ يُسَلِّمَ وَالزَّوْجُ كُفْءٌ أَجَازَهُ الْقَاضِي.
وَإِنَّمَا يَتِمُّ النِّكَاحُ فِي قَوْلِهِ حِينَ يُجِيزُهُ
الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ
كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَقُولُ: يَأْمُرُ الْقَاضِي
الْوَلِيَّ بِإِجَازَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ اسْتَأْنَفَ
عَقْدًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا
(3/74)
وَلِيُّهَا فَعَقَدَتِ النِّكَاحَ
بِنَفْسِهَا جَازَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا وَلَّتْ
أَمْرَهَا «1» رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَالنِّكَاحُ
جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا،
إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً تَزَوَّجَتْ مَوْلًى، وَهَذَا
نَحْوُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى مَا يَأْتِي. وَحَمَلَ
الْقَائِلُونَ بِمَذْهَبِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّعْبِيِّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا نِكَاحَ
إِلَّا بِوَلِيٍّ" عَلَى الْكَمَالِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ،
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا صَلَاةَ لِجَارِ
الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ" وَ" لَا حَظَّ فِي
الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ". وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ"، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
«2» "، وَبِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ
حَرْبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَقَالَ: امْرَأَةٌ أَنَا وَلِيُّهَا تَزَوَّجَتْ
بِغَيْرِ إِذْنِي؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: يُنْظَرُ فِيمَا صَنَعَتْ،
فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ كُفُؤًا أَجَزْنَا ذَلِكَ لَهَا،
وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِكُفْءٍ
جَعَلْنَا ذَلِكَ إِلَيْكَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ غَائِبٌ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ
رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَنْكَحَتْ
رَجُلًا هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ امْرَأَةً مِنْ
بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنَهُمْ بِسِتْرٍ، ثُمَّ
تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْدُ
أَمَرَتْ رَجُلًا فَأَنْكَحَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَيْسَ عَلَى
النِّسَاءِ إِنْكَاحٌ. فَالْوَجْهُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ
عَائِشَةَ قَرَّرَتِ الْمَهْرَ وَأَحْوَالَ النِّكَاحِ،
وَتَوَلَّى الْعَقْدَ أَحَدُ عَصَبَتِهَا، وَنُسِبَ الْعَقْدُ
إِلَى عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ تَقْرِيرُهُ إِلَيْهَا. الثالثة-
ذكر ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ
عَنْ مَالِكٍ فِي الْأَوْلِيَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ مَرَّةً:
كُلُّ مَنْ وَضَعَ الْمَرْأَةَ فِي مَنْصِبٍ حَسَنٍ فَهُوَ
وَلِيُّهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَصَبَةِ أَوْ مِنْ ذَوِي
الْأَرْحَامِ أَوِ الْأَجَانِبِ أَوِ الْإِمَامَ أَوِ
الْوَصِيَّ. وَقَالَ مَرَّةً: الْأَوْلِيَاءُ مِنَ
الْعَصَبَةِ، فَمَنْ وَضَعَهَا مِنْهُمْ فِي مَنْصِبٍ حَسَنٍ
فَهُوَ وَلِيٌّ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ مَالِكٌ فِيمَا
ذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا
زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيِّهَا بِإِذْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ
شَرِيفَةً لَهَا فِي النَّاسِ حَالٌ كَانَ وَلِيُّهَا
بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِقْرَارِهِ، وَإِنْ
كَانَتْ دَنِيئَةً كَالْمُعْتَقَةِ والسوداء «3» والسعاية «4»
والمسلمانية «5»، ومن
__________
(1). في ا:" المرأة".
(2). آية 234 سورة البقرة.
(3). قال مالك: هم قوم من القبط يقدمون من مصر إلى المدينة.
(4). السعاية: البغي.
(5). في الأصول:" الإسلامية" والتصويب عن شرح الخرشي وحاشية
العدوى.
(3/75)
لَا حَالَ لَهَا جَازَ نِكَاحُهَا، وَلَا
خِيَارَ لِوَلِيِّهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كُفْءٌ لَهَا،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الشَّرِيفَةَ وَالدَّنِيئَةَ
لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا وَلِيُّهَا أَوِ السُّلْطَانُ،
وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ:
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الْمِسْكِينَةِ وَالَّتِي
لَهَا قَدْرٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ
فِي الدِّمَاءِ فَقَالَ:" الْمُسْلِمُونَ تتكافؤ دِمَاؤُهُمْ".
وَإِذَا كَانُوا فِي الدِّمَاءِ سَوَاءً فَهُمْ في غير ذلك شي
وَاحِدٌ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَمَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّكَاحِ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ
بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ فَقَالَ تَعَالَى:"
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ «1» " وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجُمْلَةِ هَكَذَا يَرِثُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَا وَارِثَ
لَهُ لَكَانَ مِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ
جَنَى جِنَايَةً لَعَقَلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ
تَكُونُ وِلَايَةٌ أَقْرَبُ مِنْ وِلَايَةٍ، وَقَرَابَةٌ
أَقْرَبُ مِنْ قَرَابَةٍ. وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ
بِمَوْضِعٍ لَا سُلْطَانَ فِيهِ وَلَا وَلِيَّ لَهَا
فَإِنَّهَا تُصَيِّرُ أَمْرَهَا إِلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ
جِيرَانِهَا، فَيُزَوِّجُهَا وَيَكُونُ هُوَ وَلِيُّهَا فِي
هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ النَّاسَ لا بد لَهُمْ مِنَ
التَّزْوِيجِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ فِيهِ بِأَحْسَنِ مَا
يُمْكِنُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ
الضَّعِيفَةِ الْحَالِ: إِنَّهُ يُزَوِّجُهَا مَنْ تُسْنِدُ
أَمْرَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِمَّنْ تَضْعُفُ عَنِ
السُّلْطَانِ فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَا سُلْطَانَ بِحَضْرَتِهَا،
فَرَجَعَتْ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
أَوْلِيَاؤُهَا، فَأَمَّا إِذَا صَيَّرَتْ أَمْرَهَا إِلَى
رَجُلٍ وَتَرَكَتْ أَوْلِيَاءَهَا فَإِنَّهَا أَخَذَتِ
الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَفَعَلَتْ مَا يُنْكِرُهُ
الْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَالْمُسْلِمُونَ، فَيُفْسَخُ ذَلِكَ
النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ
حَرَامٌ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ يُفْسَخُ لِتَنَاوُلِ الْأَمْرِ مِنْ
غَيْرِ وَجْهِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْفُرُوجِ
وَلِتَحْصِينِهَا، فَإِذَا وَقَعَ الدُّخُولُ وَتَطَاوَلَ
الْأَمْرُ وَوَلَدَتِ الْأَوْلَادَ وَكَانَ صَوَابًا لَمْ
يَجُزِ الْفَسْخُ، لِأَنَّ الْأُمُورَ إِذَا تَفَاوَتَتْ لَمْ
يُرَدْ مِنْهَا إِلَّا الْحَرَامُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ،
وَيُشْبِهُ مَا فَاتَ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إِذَا
حَكَمَ بِحُكْمٍ لَمْ يُفْسَخْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً لَا
شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
فَالنِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مَفْسُوخٌ أَبَدًا
قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَلَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ
مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَالْوَلِيُّ عِنْدَهُمْ مِنْ فَرَائِضِ
النِّكَاحِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ" كَمَا قَالَ:" فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ"، وقال مخاطبا للأولياء:
__________
(1). آية 71 سورة التوبة.
(3/76)
" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ". وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ". وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ دَنِيَّةِ الْحَالِ «1» وَبَيْنَ
الشَّرِيفَةِ، لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ لَا فرق
بينهما في الدماء، لقوله عليه السلام:" المسلمون تتكافؤ
دماؤهم". وسائر الأحكام كذلك. وليس في شي مِنْ ذَلِكَ فَرْقٌ
بَيْنَ الرَّفِيعِ وَالْوَضِيعِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى
غَيْرِ وَلِيٍّ ثُمَّ يُجِيزُهُ الْوَلِيُّ قَبْلَ الدُّخُولِ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ:
ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذَا كَانَتْ إِجَازَتُهُ لِذَلِكَ
بِالْقُرْبِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. هَذَا
إِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ غَيْرُ وَلِيٍّ وَلَمْ تَعْقِدْهُ
الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا وَعَقَدَتْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ
قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا
النِّكَاحَ لَا يُقَرُّ أَبَدًا عَلَى حَالٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ
وَوَلَدَتِ الْأَوْلَادَ، وَلَكِنَّهُ يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِنْ
دَخَلَ، وَيَسْقُطُ الحد، ولا بد مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ
النِّكَاحِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ
مَالِكٍ: الْفَسْخُ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. الْخَامِسَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ
وَتَرْتِيبِهِمْ، فَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: أَوَّلُهُمُ
الْبَنُونَ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْآبَاءُ، ثُمَّ
الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو
الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ
لِلْأَبِ، ثُمَّ الْأَجْدَادُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَوْا، ثُمَّ
الْعُمُومَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِخْوَةِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ
عَلَى تَرْتِيبِ بَنِي الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ
الْمَوْلَى ثُمَّ السُّلْطَانُ أَوْ قَاضِيهِ. وَالْوَصِيُّ
مُقَدَّمٌ فِي إِنْكَاحِ الْأَيْتَامِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ،
وَهُوَ خَلِيفَةُ الْأَبِ وَوَكِيلُهُ، فَأَشْبَهَ حَالُهُ
لَوْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مَعَ الْأَبِ، فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدُّ،
ثُمَّ أَبُ أَبِ الْجَدِّ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ آبَاءٌ.
وَالْوِلَايَةُ بَعْدَ الْجَدِّ لِلْإِخْوَةِ، ثُمَّ
الْأَقْرَبُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: قَالَ فِي الْجَدِيدِ:
مَنِ انْفَرَدَ بِأُمٍّ كَانَ أَوْلَى بِالنِّكَاحِ،
كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُمَا سَوَاءٌ.
قُلْتُ: وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ الْأَبَ أَوْلَى مِنَ الِابْنِ، وَهُوَ
أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ.
وَرُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ قَالَ: الْجَدُّ أَوْلَى
مِنَ الْإِخْوَةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ مَا
قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَقُّهُمْ بِالْمَرْأَةِ
أَنْ يُزَوِّجَهَا أَبُوهَا، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ الْأَخُ،
ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْعَمُّ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الِابْنُ
أَوْلَى مِنَ الْأَبِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَاخْتَارَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ، لان عمر بن أُمِّ سَلَمَةَ زَوَّجَهَا
بِإِذْنِهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
__________
(1)." بين" ساقطة من ا. [ ..... ]
(3/77)
قُلْتُ: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ وَتَرْجَمَ لَهُ (إِنْكَاحُ الِابْنِ أُمَّهُ).
قُلْتُ: وَكَثِيرًا مَا يَسْتَدِلُّ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي
الصِّحَاحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ
غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ،
فَقَالَ:" يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ
وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ". وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ
الِاسْتِيعَابِ: عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يُكَنَّى أَبَا
حَفْصٍ، وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمَ قُبِضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ
تِسْعِ سِنِينَ. قُلْتُ: وَمَنْ كَانَ سِنُّهُ هَذَا لَا
يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا، وَلَكِنْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ
أَنَّ لِأَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنًا آخَرَ
اسْمُهُ سَلَمَةُ، وَهُوَ الَّذِي عَقَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّهِ أُمِّ
سَلَمَةَ، وَكَانَ سَلَمَةُ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ، وَلَا أَحْفَظُ لَهُ رِوَايَةً عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَى
عَنْهُ عُمَرُ أَخُوهُ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي
الرَّجُلِ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ الْأَبْعَدُ مِنَ
الْأَوْلِيَاءِ- كَذَا وَقَعَ، وَالْأَقْرَبُ عِبَارَةً أَنْ
يُقَالَ: اخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَةِ يُزَوِّجُهَا مِنْ
أَوْلِيَائِهَا الْأَبْعَدُ وَالْأَقْعَدُ «1» حَاضِرٌ،
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ:
النِّكَاحُ جَائِزٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ لَمْ
يُنْكِرِ الْأَقْعَدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَدَّهُ
نَفَذَ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ وَهِيَ ثَيِّبٌ أَوْ بِكْرٌ بَالِغٌ
يَتِيمَةٌ وَلَا وَصِيَّ لَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ
مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: لَا يُرَدُّ ذَلِكَ
وَيَنْفُذُ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ انْعَقَدَ بِإِذْنِ وَلِيٍّ
مِنَ الْفَخِذِ وَالْعَشِيرَةِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ
لَا يَنْفُذُ قَالَ: إِنَّمَا جَاءَتِ الرُّتْبَةُ فِي
الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَذَلِكَ
مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَهَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ
مَالِكٍ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَإِيَّاهُ اخْتَارَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَتْبَاعُهُ. وَقِيلَ: يَنْظُرُ
السُّلْطَانُ فِي ذَلِكَ وَيَسْأَلُ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ
عَلَى مَا يُنْكِرُهُ، ثُمَّ إِنْ رَأَى إِمْضَاءَهُ
أَمْضَاهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ. وَقِيلَ:
بَلْ لِلْأَقْعَدِ رَدُّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ
لَهُ. وَقِيلَ: لَهُ رَدُّهُ وَإِجَازَتُهُ مَا لَمْ يَطُلْ
مُكْثُهَا وَتَلِدِ الأولاد، وهذه كلها أقاويل أهل المدينة.
__________
(1). والأقعد: يقال: فلان أقعد مع فلان: أي أقرب منه إلى جده
الأكبر. وفى ج:" الأقرب".
(3/78)
السَّابِعَةُ- فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ
الْأَقْرَبُ مَحْبُوسًا أَوْ سَفِيهًا زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيهِ
مِنْ أَوْلِيَائِهَا، وَعُدَّ كَالْمَيِّتِ مِنْهُمْ،
وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا
غَيْبَةً بَعِيدَةً أَوْ غَيْبَةً لَا يُرْجَى لَهَا أَوْبَةٌ
سَرِيعَةٌ زَوَّجَهَا مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِذَا غَابَ أَقْرَبُ أَوْلِيَائِهَا لَمْ
يَكُنْ لِلَّذِي يَلِيهِ تَزْوِيجُهَا، وَيُزَوِّجُهَا
الْحَاكِمُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ. الثَّامِنَةُ-
وَإِذَا كَانَ الْوَلِيَّانِ قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْقُعْدَدِ
«1» وَغَابَ أَحَدُهُمَا وَفَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ عَقْدَ
نِكَاحِهَا إِلَى الْحَاضِرِ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ إِنْ
قَدِمَ نُكْرَتُهُ. وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَفَوَّضَتْ
أَمْرَهَا إِلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يُزَوِّجْهَا إِلَّا
بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي
ذَلِكَ، وَأَجَازَ عَلَيْهَا رَأْيَ أَحْسَنِهِمَا نَظَرًا
لَهَا، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. التَّاسِعَةُ-
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ
عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ
شُهْرَتُهُ وَالْإِعْلَانُ بِهِ، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ
نِكَاحَ سِرٍّ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَوْ
زَوَّجَ بِبَيِّنَةٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا ذَلِكَ
لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ نِكَاحُ سِرٍّ. وَإِنْ
تَزَوَّجَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى غَيْرِ اسْتِسْرَارٍ
جَازَ، وَأَشْهَدَا فِيمَا يَسْتَقْبِلَانِ. وَرَوَى ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ
بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَيَسْتَكْتِمُهُمَا قَالَ: يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا بِتَطْلِيقَةٍ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ، وَلَهَا
صَدَاقُهَا إِنْ كَانَ أَصَابَهَا، وَلَا يُعَاقَبُ
الشَّاهِدَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُمَا: إِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ
لَهُمَا: اكْتُمَا جَازَ النِّكَاحُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ
الْأَنْدَلُسِيِّ صَاحِبِنَا، قَالَ: كُلُّ نِكَاحٍ شَهِدَ
عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَدِّ السِّرِّ،
وَأَظُنُّهُ حكاه عن الليث ابن سَعْدٍ. وَالسِّرُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ: كُلُّ
نِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا،
وَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قُلْتُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
أَصَحُّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشَاهِدَيْ
عَدْلٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصحابة
فيما علمته. واحتج مالك
__________
(1). القعدد (بضم القاف وسكون العين وضم الدال المهملة
وفتحها): القريب من الجد الأكبر. وقيل: هو أملك القرابة في
النسب.
(3/79)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
لِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْبُيُوعَ الَّتِي
ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا الْإِشْهَادُ عِنْدَ
الْعَقْدِ، وَقَدْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
مِنْ فَرَائِضِ الْبُيُوعِ. وَالنِّكَاحُ الَّذِي لَمْ
يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْأَشْهَادَ أَحْرَى
بِأَلَّا يَكُونَ الْإِشْهَادُ فِيهِ مِنْ شُرُوطِهِ
وَفَرَائِضِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْإِعْلَانُ
وَالظُّهُورُ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ. وَالْإِشْهَادُ يَصْلُحُ
بَعْدَ الْعَقْدِ لِلتَّدَاعِي وَالِاخْتِلَافِ فِيمَا
يَنْعَقِدُ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:"
أَعْلِنُوا النِّكَاحَ". وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا قَوْلُ ابْنِ
شِهَابٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. الْعَاشِرَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) أَيْ مَمْلُوكٌ
(خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أَيْ حَسِيبٍ. (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)
أَيْ حَسَبُهُ وَمَالُهُ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ
الْمَعْنَى: وَلَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ، وَكَذَا ولأمة مؤمنة، أي ولا
امرأة مُؤْمِنَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كُلُّ رِجَالِكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ
وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ" وَقَالَ:" لَا
تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" وَقَالَ
تَعَالَى:" نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ «1» ". وَهَذَا
أَحْسَنُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَبِهِ يَرْتَفِعُ النِّزَاعُ وَيَزُولُ الخلاف، والله الموفق.
الحادية عشر- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ) إِشَارَةٌ
لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)
أَيْ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، فَإِنَّ
صُحْبَتَهُمْ وَمُعَاشَرَتَهُمْ تُوجِبُ الِانْحِطَاطَ فِي
كَثِيرٍ من هواهم مع تربيتهم النسل. (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى
الْجَنَّةِ) أَيْ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
(بِإِذْنِهِ) أي بأمره، قاله الزجاج.
[سورة البقرة (2): آية 222]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السَّائِلَ ثَابِتُ بْنُ
الدَّحْدَاحِ- وَقِيلَ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ
بْنُ بِشْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وسبب السؤال
__________
(1). آية 30، 44 سورة ص.
(3/80)
فِيمَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ
الْعَرَبَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا وَالَاهَا كَانُوا قَدِ
اسْتَنُّوا بِسُنَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَجَنُّبِ
مُؤَاكَلَةِ الْحَائِضِ وَمُسَاكَنَتِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ
النِّسَاءَ فِي الْحَيْضِ، وَيَأْتُونَهُنَّ فِي
أَدْبَارِهِنَّ مُدَّةَ زَمَنِ الْحَيْضِ، فَنَزَلَتْ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا
حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ
يُجَامِعُوهُنَّ «1» فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ" إِلَى آخِرِ
الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" اصْنَعُوا كُلَّ شي إِلَّا النِّكَاحَ" فَبَلَغَ
ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ
أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ،
فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ
فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ
كَذَا وَكَذَا، أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى
ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ «2» عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا
فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ فِي
آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ
عَلَيْهِمَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتِ الْيَهُودُ
وَالْمَجُوسُ تَجْتَنِبُ الْحَائِضَ، وَكَانَتِ النَّصَارَى
يُجَامِعُونَ الْحُيَّضَ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ بَيْنَ
هَذَيْنَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَنِ الْمَحِيضِ)
الْمَحِيضُ: الْحَيْضُ وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: حَاضَتِ
الْمَرْأَةُ حَيْضًا وَمَحَاضًا وَمَحِيضًا، فَهِيَ حَائِضٌ،
وَحَائِضَةٌ أَيْضًا، عَنِ الْفَرَّاءِ وَأَنْشَدَ:
كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْرَ طَاهِرِ
وَنِسَاءٌ حُيَّضٌ وَحَوَائِضٌ. وَالْحَيْضَةُ: الْمَرَّةُ
الْوَاحِدَةُ. وَالْحِيضَةُ (بِالْكَسْرِ) الِاسْمُ،
[وَالْجَمْعُ] الْحِيَضُ. وَالْحِيضَةُ أَيْضًا: الْخِرْقَةُ
الَّتِي تَسْتَثْفِرُ «3» بِهَا الْمَرْأَةُ. قَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَيْتَنِي كُنْتُ حِيضَةً
ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحايض. وَقِيلَ: الْمَحِيضُ
عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَعَنِ الْحَيْضِ
نَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَجَازٌ فِي
الْحَيْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَحِيضُ اسْمٌ
لِلْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ فِي الْعَيْشِ:
إِلَيْكَ أَشْكُو شدة المعيش ... ومر أعوام «4» نتفن ريشي
__________
(1). جمع الضمير، لان المراد بالمرأة الجنس. (هامش مسلم) وفى
ا، ح" ولم يجامعوها".
(2). وجد عليهما: غضب. ومضارعة بضم الجيم وكسرها.
(3). الاستثفار: أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة، أو قطنة
تحتشي بها ثق طرفيها في شي فتشده على وضعها فيمنع سيلان الدم.
(4). في ب:" ومر أزمان".
(3/81)
وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلَانِ
وَالِانْفِجَارِ، يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَحَاضَتِ
الشَّجَرَةُ أَيْ سَالَتْ رُطُوبَتُهَا، وَمِنْهُ الْحَيْضُ
أَيِ الْحَوْضُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ
يَسِيلُ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ
وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيِّزٍ
وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمَحِيضُ وَالْحَيْضُ
اجْتِمَاعُ الدَّمِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبِهِ سُمِّيَ
الْحَوْضُ لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهِ، يُقَالُ: حَاضَتِ
الْمَرْأَةُ وَتَحَيَّضَتْ، وَدَرَسَتْ وَعَرَكَتْ،
وَطَمِثَتْ، تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحَاضًا وَمَحِيضًا إِذَا
سَالَ الدَّمُ مِنْهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ. فَإِذَا
سَالَ فِي غَيْرِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ عِرْقِ
الْمَحِيضِ قُلْتُ: اسْتُحِيضَتْ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ: الْأَوَّلُ-
حَائِضٌ. الثَّانِي- عَارِكٌ. الثَّالِثُ- فَارِكٌ.
الرَّابِعُ- طَامِسٌ «1». الْخَامِسُ دَارِسٌ. السَّادِسُ-
كَابِرٌ. السَّابِعُ- ضَاحِكٌ. الثَّامِنُ- طَامِثٌ. قَالَ
مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَضَحِكَتْ" يَعْنِي
حَاضَتْ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ" يَعْنِي حِضْنَ. وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ «2»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ
فِي رُؤْيَتِهَا الدَّمَ الظَّاهِرَ السَّائِلَ مِنْ
فَرْجِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ، وَدَمُهُ
أَسْوَدُ خَاثِرٌ تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، تُتْرَكُ لَهُ
الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ
يَتَّصِلُ وَيَنْقَطِعُ، فَإِنِ اتَّصَلَ فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ
لَهُ، وَإِنِ انْقَطَعَ فَرَأَتِ الدَّمَ يَوْمًا وَالطُّهْرَ
يَوْمًا، أَوْ رَأَتِ الدَّمَ يَوْمَيْنِ وَالطُّهْرَ
يَوْمَيْنِ أَوْ يَوْمًا فَإِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي
أَيَّامِ الدَّمِ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ
وَتُصَلِّي، ثُمَّ تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ وَتُلْغِي
أَيَّامَ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلَةَ لَهَا، وَلَا تَحْتَسِبُ
بِهَا طُهْرًا فِي عِدَّةٍ وَلَا اسْتِبْرَاءَ. وَالْحَيْضُ
خِلْقَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَطَبْعٌ مُعْتَادٌ مَعْرُوفٌ
مِنْهُنَّ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى
فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ
تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ-
فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ- تُكْثِرْنَ
اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ
نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ
الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ- قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ
عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ
شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟
قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا
أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ- قُلْنَ:
بَلَى يَا رَسُولَ الله، قال- فذلك من نقصان دينها".
__________
(1). كذا في الأصول وأحكام القرآن لابن العربي.
(2). راجع ج 9 ص 180
(3/82)
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
الْحَائِضَ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ،
لِحَدِيثِ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ:
مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي
الصَّلَاةَ؟ قَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ «1» أَنْتِ؟ قُلْتُ:
لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: كَانَ
يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا
نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا
انْقَطَعَ عَنْهَا كَانَ طُهْرُهَا مِنْهُ الْغُسْلُ، عَلَى
مَا يَأْتِي. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
مِقْدَارِ الْحَيْضِ، فَقَالَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: إِنَّ
الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَا دُونَ،
وَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَكُونُ
حَيْضًا وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَصْحَابِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ
لِقَلِيلِ الْحَيْضِ وَلَا لِكَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَدُ فِي
النِّسَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ وَرَجَعَ
إِلَى عادة النساء. وقال محمد بن مسلمة: أَقَلُّ الطُّهْرِ
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ
الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا
وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ
ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَجَعَلَ عِدَّةَ مَنْ لَا تَحِيضُ مِنْ
كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَكَانَ كُلٌّ قُرْءٍ
عِوَضًا مِنْ شَهْرٍ، وَالشَّهْرُ يَجْمَعُ الطُّهْرَ
وَالْحَيْضَ. فَإِذَا قَلَّ الْحَيْضُ كَثُرَ الطُّهْرُ،
وَإِذَا كَثُرَ الْحَيْضُ قَلَّ الطُّهْرُ، فَلَمَّا كَانَ
أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ بِإِزَائِهِ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا لِيَكْمُلَ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ حَيْضٌ وَطُهْرٌ،
وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ خِلْقَةِ
النِّسَاءِ وَجِبِلَّتِهِنَّ مَعَ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ الْحَيْضِ
يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ: إِنَّ ذَلِكَ
مَرْدُودٌ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ: أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ،
وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا
نَقَصَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ
اسْتِحَاضَةٌ، لَا يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا عِنْدَ
أَوَّلِ ظُهُورِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَبْلَغُ
مُدَّتِهِ. ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَةِ قَضَاءُ صَلَاةِ تِلْكَ
__________
(1). الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى" حروراء" وهو موضع
قريب من الكوفة، وهم الذين قاتلهم على رضى الله عنه، وكان
عندهم من التشديد في الدين ما هو معروف، فلما رأت عائشة هذه
المرأة تشدد في أمر الحيض شبهتها بالحرورية. وقيل: أرادت أنها
خالفت السنة وخرجت عن الجماعة.
(3/83)
الْأَوْقَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى
عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَعِنْدَ
الْحِجَازِيِّينَ مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، وَهُوَ
قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالطَّبَرِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ
أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَعِنْدَنَا
امْرَأَةٌ تحيض غدوة وتطهر عشية. قد أَتَيْنَا عَلَى مَا
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ- مِنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ
وَأَقَلِّهِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَفَى الِاسْتِظْهَارِ،
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ- فِي" الْمُقْتَبَسِ فِي شَرْحِ
مُوَطَّإِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ" فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا
مُبْتَدَأَةً فَإِنَّهَا تَجْلِسُ أَوَّلَ مَا تَرَى الدَّمَ
فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ
تَغْتَسِلُ وَتُعِيدُ صَلَاةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَقْضِي الصَّلَاةَ وَيُمْسِكُ عَنْهَا
زَوْجُهَا. عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ: تَجْلِسُ قَدْرَ
لِدَاتِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ
وَغَيْرِهِمَا. ابْنُ حَنْبَلٍ: تَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً،
ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا.
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَدَعُ الصَّلَاةَ عَشْرًا،
ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ
تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ عَشْرًا، فَيَكُونُ
هَذَا حَالَهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ عَنْهَا. أَمَّا
الَّتِي لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ
عَلَى أَيَّامِهَا الْمَعْلُومَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، عَنْ
مَالِكٍ: مَا لَمْ تُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
الشَّافِعِيُّ: تَغْتَسِلُ إِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُهَا
بِغَيْرِ اسْتِظْهَارٍ. وَالثَّانِي مِنَ الدِّمَاءِ: دَمُ
النِّفَاسِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَهُ أَيْضًا عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ حَدٌّ مَعْلُومٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ:
شَهْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ
يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَطُهْرُهَا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ. وَالْغُسْلُ مِنْهُ
كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
يَمْنَعَانِ أَحَدَ عَشَرَ شَيْئًا: وَهِيَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ
وَصِحَّةُ فِعْلِهَا وَفِعْلُ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ-
وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ لُزُومُ الْقَضَاءِ لِلصَّوْمِ
وَنَفْيُهُ فِي الصَّلَاةِ- وَالْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ وَمَا
دُونَهُ وَالْعِدَّةُ وَالطَّلَاقُ وَالطَّوَافُ وَمَسُّ
الْمُصْحَفِ وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ وَالِاعْتِكَافُ فِيهِ،
وَفِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ. وَالثَّالِثُ مِنَ
الدِّمَاءِ: دَمٌ لَيْسَ بِعَادَةٍ وَلَا طَبْعٍ مِنْهُنَّ
وَلَا خِلْقَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ انْقَطَعَ، سَائِلُهُ
دَمٌ أَحْمَرُ لَا انْقِطَاعَ لَهُ إِلَّا عِنْدَ الْبُرْءِ
مِنْهُ، فَهَذَا حُكْمُهُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْهُ
طَاهِرَةً لَا يَمْنَعُهَا
(3/84)
مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ بِإِجْمَاعٍ
مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقٍ مِنَ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ
إِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ لَا دَمُ حَيْضٍ.
رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ
فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
لَا أَطْهُرُ! أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ «1»
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنما ذَلِكَ
عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ
فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي
عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي". وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ
صِحَّتِهِ وَقِلَّةِ أَلْفَاظِهِ مَا يُفَسِّرُ لَكَ أَحْكَامَ
الْحَائِضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي
هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّ الْحَائِضَ تَغْتَسِلُ
وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ، وَتَسْتَقْبِلُ
الْقِبْلَةَ ذَاكِرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَالِسَةً.
وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي، وَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنْ
كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا طَوَائِفَ مِنَ الْخَوَارِجِ
يَرَوْنَ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةَ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا يَلْزَمُهَا غَيْرُ ذَلِكَ
الْغُسْلِ الَّذِي تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضِهَا، وَلَوْ
لَزِمَهَا غَيْرُهُ لَأَمَرَهَا بِهِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ
مَنْ رَأَى ذَلِكَ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَلِقَوْلِ مَنْ
رَأَى عَلَيْهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ النَّهَارِ
بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَصَلَاتَيِ اللَّيْلِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ
وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ. وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ: تَغْتَسِلُ
مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ. وَلِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ، لِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهَا
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ
بِالِاسْتِظْهَارِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ
حَيْضَتَهَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَذَهَبَتْ أَنْ تَغْتَسِلَ
وَتُصَلِّيَ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لانتظار حيض يجئ، أو لا يجئ،
وَالِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَمَلِ الصَّلَاةِ لَا
فِي تَرْكِهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ
أَذىً) أي هو شي تَتَأَذَّى بِهِ الْمَرْأَةُ وَغَيْرُهَا أَيْ
بِرَائِحَةِ دَمِ الْحَيْضِ. وَالْأَذَى كِنَايَةٌ عَنِ
الْقَذَرِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ
الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «2» " أَيْ بِمَا
تَسْمَعُهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَدَعْ أَذاهُمْ «3» " أَيْ دَعْ أَذَى الْمُنَافِقِينَ لَا
تُجَازِهِمْ إلا
أن تؤمر فيهم، وفى الحديث:
__________
(1). في ب:" فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(2). آية 264 سورة البقرة.
(3). آية 48 سورة الأحزاب.
(3/85)
" وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى" يَعْنِي
بِ" الْأَذَى" الشَّعْرَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ
الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ، يُحْلَقُ عَنْهُ يَوْمَ
أُسْبُوعِهِ، وَهِيَ الْعَقِيقَةُ. وَفِي حَدِيثِ
الْإِيمَانِ:" وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ
الطَّرِيقِ" أَيْ تَنْحِيَتُهُ، يَعْنِي الشَّوْكَ
وَالْحَجَرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ
الْمَارُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ" وَسَيَأْتِي «1».
السَّادِسَةُ- اسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ وطئ الْمُسْتَحَاضَةِ
بِسَيَلَانِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، فَقَالُوا: كُلُّ دَمٍ
فَهُوَ أَذًى، يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ،
فَلَا فَرْقَ فِي الْمُبَاشَرَةِ بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ
وَالِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ رِجْسٌ. وَأَمَّا
الصَّلَاةُ فَرُخْصَةٌ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ كَمَا
يُصَلَّى بِسَلَسِ الْبَوْلِ، هَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالْحَكَمِ بْنِ
عُيَيْنَةَ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ
وَالزُّهْرِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ
قَوْلُ عَائِشَةَ: لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
وَكَانَ مِنْ أَعْلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ،
وَبِهِ كَانَ يُفْتَى. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ:
الْمُسْتَحَاضَةُ تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَطُوفُ وَتَقْرَأُ،
وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا. قَالَ مَالِكٌ: أَمْرُ «2» أهل الفقه
والعلم على هذا، لان كَانَ دَمُهَا كَثِيرًا، رَوَاهُ عَنْهُ
ابْنُ وَهْبٍ. وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ: أَحَبُّ إِلَيَّ
أَلَّا يَطَأَهَا إِلَّا أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ بِهَا. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: لَا بَأْسَ أَنْ
يُصِيبَهَا زَوْجُهَا وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى
عَقِبَيْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ
بِالْحَيْضَةِ". فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَيْضَةٌ فَمَا
يَمْنَعُهُ أَنْ يُصِيبَهَا وَهِيَ تُصَلِّي! قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ
وَتُعُبِّدَ فِيهِ بِعِبَادَةٍ غَيْرِ عِبَادَةِ الْحَائِضِ
وَجَبَ أَلَّا يُحْكَمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ
إِلَّا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِهِ كَسَائِرِ
الدِّمَاءِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أَيْ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، إِنْ
حَمَلْتَ الْمَحِيضَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ
الْحَيْضِ إِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الِاسْمِ. وَمَقْصُودُ هَذَا
النَّهْيِ تَرْكُ الْمُجَامَعَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ وَمَا يُسْتَبَاحُ
مِنْهَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةَ
السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَزِلَ الرَّجُلُ
فِرَاشَ زوجته إذا حاضت. وهذا قول شاذ
__________
(1). راجع ج 5 ص 372. [ ..... ]
(2). في ا:" جل أهل الفقه ... ".
(3/86)
خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ
كَانَ عُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِيهِ فَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ
بِخِلَافِهِ، وَقَدْ وَقَفَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خَالَتُهُ
مَيْمُونَةُ وَقَالَتْ لَهُ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ سُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَقَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَجَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
لَهُ مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ-: مَا يَحِلُّ لِي مِنَ
امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ-:" لِتَشُدَّ عَلَيْهَا
إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُكَ «1» بِأَعْلَاهَا" وَقَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ:" شُدِّي عَلَى
نَفْسِكِ إِزَارَكِ ثُمَّ عُودِي إِلَى مَضْجَعِكِ". وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ ومحمد ابن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: مجتنب
مَوْضِعَ الدَّمِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" اصْنَعُوا
كُلَّ شي إِلَّا النِّكَاحَ". وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ
دَاوُدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَرَوَى أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ
قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي
وَهِيَ حائض؟ فقالت: كل شي إِلَّا الْفَرْجَ. قَالَ
الْعُلَمَاءُ: مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ وَهِيَ مُتَّزِرَةٌ
عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْقَطْعِ لِلذَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّهُ
لَوْ أَبَاحَ فَخِذَيْهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذَرِيعَةٍ إِلَى
مَوْضِعِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعٍ فَأَمَرَ بِذَلِكَ
احْتِيَاطًا، وَالْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ مَوْضِعُ الدَّمِ،
فَتَتَّفِقُ بِذَلِكَ مَعَانِي الْآثَارِ، وَلَا تَضَادَّ،
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي
الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ مَاذَا عَلَيْهِ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
يَسْتَغْفِرُ الله ولا شي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. وَرُوِيَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ حَدِيثَ عَبْدِ الْحَمِيدِ
عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ
نِصْفِ دِينَارٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: هَكَذَا
الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، قَالَ: دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ
دِينَارٍ، وَاسْتَحَبَّهُ الطَّبَرِيُّ. فَإِنْ لم يفعل فلا شي
عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِبَغْدَادَ. وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ
فَعَلَيْهِ دِينَارٌ، وَإِنْ وَطِئَ فِي انْقِطَاعِهِ فَنِصْفُ
دِينَارٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ
وَهِيَ حَائِضٌ تَصَدَّقَ بِخُمُسَيِّ دِينَارٍ، وَالطُّرُقُ
لِهَذَا كُلِّهِ فِي" سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
وَالدَّارَقُطْنِيِّ" وَغَيْرِهِمَا. وَفِي كِتَابِ
التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِذَا كَانَ دَمًا
أَحْمَرَ فَدِينَارٌ وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فنصف دينار".
__________
(1)." شأنك": منصوب بإضمار فعل، ويجوز رفعه على الابتداء،
والخبر محذوف تقديره مباح أو جائز (ابن الأثير).
(3/87)
قَالَ أَبُو عُمَرَ: حُجَّةُ مَنْ لَمْ
يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً إِلَّا الِاسْتِغْفَارَ
وَالتَّوْبَةَ اضْطِرَابُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ
الذِّمَّةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ، ولا يجب أن يثبت فيها شي
لِمِسْكِينٍ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مَدْفَعَ
فِيهِ وَلَا مَطْعَنَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ: إِذَا
قِيلَ لَا تَقْرَبْ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَانَ معناه: لا تلبس
بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ:
لَا تَدْنُ مِنْهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ
كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ
عَنْهُ" يَطْهُرْنَ" بِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ
أَبِي بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلِ" يَطَّهَّرْنَ" بِتَشْدِيدِ
الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَفَتْحِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ" يَتَطَهَّرْنَ". وَفِي مُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ" وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاءَ فِي مَحِيضِهِنَّ
وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ". وَرَجَّحَ
الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ، وَقَالَ: هِيَ
بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ
حَرَامًا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ
انْقِطَاعِ الدَّمِ حَتَّى تَطْهُرَ. قَالَ: وَإِنَّمَا
الْخِلَافُ فِي الطُّهْرِ مَا هُوَ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ
الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ وُضُوءٌ
كَوُضُوءِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ غَسْلُ الْفَرْجِ،
وَذَلِكَ يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ
الْحَيْضَةِ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قِرَاءَةَ
تَخْفِيفِ الطَّاءِ، إِذْ هُوَ ثُلَاثِيٌّ مُضَادٌّ لِطَمِثَ
وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا
تَطَهَّرْنَ) يَعْنِي بِالْمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي يَحِلُّ
بِهِ جِمَاعُ الْحَائِضِ الَّذِي يَذْهَبُ عَنْهَا الدَّمُ
هُوَ تَطَهُّرُهَا بِالْمَاءِ كَطُهْرِ الْجُنُبِ، وَلَا
يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ تَيَمُّمٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ:
إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَتَيَمَّمَتْ حَيْثُ لَا مَاءَ
حَلَّتْ لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةٌ وَطَاوُسٌ: انْقِطَاعُ الدَّمِ
يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا. وَلَكِنْ بِأَنْ تَتَوَضَّأَ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ انْقَطَعَ
دَمُهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ أَنْ
يَطَأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ
الْعَشَرَةِ
(3/88)
لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ
يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا
وَجْهَ لَهُ، وَقَدْ حَكَمُوا لِلْحَائِضِ بَعْدَ انْقِطَاعِ
دَمِهَا بِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْعِدَّةِ وَقَالُوا
لِزَوْجِهَا: عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ هَذَا
لَا يَجِبُ أَنْ تُوطَأَ حَتَّى تَغْتَسِلَ، مَعَ مُوَافَقَةِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
عَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهَا عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا-
انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى
يَطْهُرْنَ". وَالثَّانِي- الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا تَطَهَّرْنَ «1» " أَيْ يَفْعَلْنَ
الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ «2» "
الْآيَةَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ
عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا- بُلُوغُ الْمُكَلَّفِ
النِّكَاحَ. وَالثَّانِي- إِينَاسُ الرُّشْدِ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ:" فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «3» " ثُمَّ
جَاءَتِ السُّنَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْعُسَيْلَةِ، فَوَقَفَ
التَّحْلِيلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جميعا، وهو انعقاد النكاح
ووجود الوطي. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إِنَّ مَعْنَى
الْآيَةِ، الْغَايَةُ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي
الْغَايَةِ قَبْلَهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:" حَتَّى
يَطْهُرْنَ" مُخَفَّفًا هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ:"
يَطَّهَّرْنَ" مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ جَمَعَ
بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:"
فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ «4» ". قَالَ الْكُمَيْتُ:
وَمَا كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً ... وَلَا
غُيَّبًا فِيهَا إِذَا النَّاسُ غُيَّبُ
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَيَجِبُ
أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا. وَنَحْنُ نَحْمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى، فَنَحْمِلُ الْمُخَفَّفَةَ عَلَى مَا
إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَقَلِّ، فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ
وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ
عَوْدُهُ: وَنَحْمِلُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى عَلَى مَا إِذَا
انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَكْثَرِ فَيَجُوزُ وَطْؤُهَا وَإِنْ
لَمْ تَغْتَسِلْ. قَالَ ابْنُ العربي: وهذا أقوى مالهم،
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ
كَلَامِ الْفُصَحَاءِ، وَلَا أَلْسُنِ الْبُلَغَاءِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي التَّعْدَادِ، وَإِذَا
أَمْكَنَ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ لَمْ
يُحْمَلْ عَلَى التَّكْرَارِ فِي كَلَامِ النَّاسِ، فَكَيْفَ
فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ! وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنًى دُونَ
مَعْنَى الْأُخْرَى، فَيَلْزَمُهُمْ إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ
أَلَّا يُحْكَمَ لَهَا بِحُكْمِ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ
تَغْتَسِلَ فِي الرَّجْعَةِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ
كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَهِيَ إذا
__________
(1). الآية في الأصول:" حتى يتطهرن" وهو تحريف. راجع ابن
العربي ج 70: 1 طبع السعادة.
(2). آية 6 سورة النساء.
(3). آية 230 سورة البقرة.
(4). آية 108 سورة التوبة.
(3/89)
حَائِضٌ، وَالْحَائِضُ لَا يَجُوزُ
وَطْؤُهَا اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا فإن ما قالوه يقتضى إباحة
الوطي عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِلْأَكْثَرِ وَمَا قُلْنَاهُ
يَقْتَضِي الْحَظْرَ، وَإِذَا تَعَارَضَ مَا يَقْتَضِي
الْحَظْرَ وَمَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَيُغَلَّبُ
بَاعِثَاهُمَا غُلِّبَ بَاعِثُ الْحَظْرِ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ
وَعُثْمَانُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ، أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى،
وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْكِتَابِيَّةِ هَلْ
تُجْبَرُ عَلَى الِاغْتِسَالِ أَمْ لَا، فَقَالَ مَالِكٌ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: نَعَمْ، لِيَحِلَّ لِلزَّوْجِ
وَطْؤُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ" يَقُولُ بِالْمَاءِ،
وَلَمْ يَخُصَّ مُسْلِمَةً مِنْ غَيْرِهَا. وَرَوَى أَشْهَبُ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى الِاغْتِسَالِ مِنَ
الْمَحِيضِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَقِدَةٍ لِذَلِكَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» " وَهُوَ الْحَيْضُ
وَالْحَمْلُ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِذَلِكَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَالَ:" لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ
«2» " وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَصِفَةُ غُسْلِ الْحَائِضِ
صِفَةُ غُسْلِهَا مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا
نَقْضُ شَعْرِهَا فِي ذَلِكَ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟
قَالَ:" لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ
ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ
فَتَطْهُرِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ
وَالْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ:" لَا" زَادَ أَبُو دَاوُدَ:"
وَاغْمِزِي قُرُونَكِ عِنْدَ كُلِّ حَفْنَةٍ". الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أَيْ فَجَامِعُوهُنَّ. وَهُوَ أَمْرُ
إِبَاحَةٍ، وَكَنَّى بالإتيان عن الوطي، وَهَذَا الْأَمْرُ
يُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّطَهُّرِ
الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ" مِنْ" بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْقُبُلُ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ
«3» " أَيْ فِي الْأَرْضِ،: وَقَوْلُهُ:" إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «4» " أَيْ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى، أَيْ مِنَ الْوَجْهِ
الَّذِي أُذِنَ لَكُمْ فِيهِ، أَيْ مِنْ غير صوم وإحرام
__________
(1). آية 228 سورة البقرة.
(2). آية 256 سورة البقرة.
(3). آية 40 سورة فاطر.
(4). آية 9 سورة الجمعة.
(3/90)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
وَاعْتِكَافٍ، قَالَهُ الْأَصَمُّ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِينٍ: مِنْ قِبَلِ الطُّهْرِ لَا
مِنْ قِبَلِ الْحَيْضِ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفَيَّةِ: الْمَعْنَى مِنْ قِبَلِ
الْحَلَالِ لَا مِنْ قِبَلِ الزِّنَى. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ:
التَّوَّابُونَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالشِّرْكِ.
وَالْمُتَطَهِّرُونَ أَيْ بِالْمَاءِ من الجنابة والأحداث، قال
عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الذُّنُوبِ،
وَعَنْهُ أَيْضًا: مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي
أَدْبَارِهِنَّ. ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ:"
أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ «1» ". وَقِيلَ: الْمُتَطَهِّرُونَ الَّذِينَ
لَمْ يُذْنِبُوا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَدَّمَ بِالذِّكْرِ
الَّذِي أَذْنَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْنِبْ، قِيلَ: قَدَّمَهُ
لِئَلَّا يَقْنَطَ التَّائِبُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا يُعْجَبَ
الْمُتَطَهِّرُ بِنَفْسِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:"
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
«2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 223]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
فيه ست مسائل: الأول- قَوْلُهُ تَعَالَى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) رَوَى الْأَئِمَّةُ واللفظ للمسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا
أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا
كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ:" نِساؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" زَادَ فِي
رِوَايَةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً «3»
وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ إِنَّ ذَلِكَ فِي
صِمَامٍ وَاحِدٍ. وَيُرْوَى: فِي سِمَامٍ وَاحِدٍ بِالسِّينِ،
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ
قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ
يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ
يَوْمًا «4»، فَقَرَأَ سُورَةَ" الْبَقَرَةِ" حَتَّى انْتَهَى
إِلَى مَكَانٍ قَالَ: أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا
قَالَ: نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثم مضى. وعن
__________
(1). آية 82 سورة الأعراف.
(2). راجع ج 14 ص 347.
(3). مجبية: أي منكبه على وجهها، تشبيها بهيئة السجود.
(4). أخذت عليه: أي أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلب. [ .....
]
(3/91)
عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي
قَالَ حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:"
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" قَالَ: يَأْتِيهَا فِي
«1». قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: يَعْنِي الْفَرْجَ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ
وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَهِمَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا
الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ، مَعَ هَذَا
الْحَيِّ مِنْ يَهُودٍ، وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ: وَكَانُوا
يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا
يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ
أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَّا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى
حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ
هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ
فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ
النِّسَاءَ شَرْحًا «2» مُنْكَرًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ
مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ
الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ
امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ
فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى
عَلَى حَرْفٍ! فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي،
حَتَّى شَرِيَ «3» أَمْرُهُمَا؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"، أَيْ
مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، يَعْنِي
بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلَكْتُ! قَالَ:" وَمَا أَهْلَكَكَ؟ " قَالَ:
حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَيْئًا، قَالَ: فَأُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ:" نِساؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" أَقْبِلْ
وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ" قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ «4». وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي
النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: قَدْ
أَكْثَرَ عَلَيْكَ الْقَوْلُ. إِنَّكَ تَقُولُ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: أَنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يُؤْتَى النِّسَاءُ فِي
أَدْبَارِهِنَّ. قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ!
وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكَ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ: إِنَّ ابْنَ
عُمَرَ عَرَضَ عَلَيَّ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ
حَتَّى بَلَغَ:" نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ"، قَالَ نَافِعٌ:
هَلْ تَدْرِي مَا أَمْرُ هَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّا كُنَّا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نُجَبِّي «5» النِّسَاءَ، فَلَمَّا
دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ
أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مَا كُنَّا نُرِيدُ
__________
(1). بحذف المجرور. راجع شرح البخاري في تفسير الآية، ففيه
كلام عن هذا الحذف.
(2). شرح الرجل جاريته: إذا وطئها نائمة على قفاها.
(3). شرح أمرهما (من باب رضى): عظم وتفاقم ولجوا فيه.
(4). الذي في صحيح الترمذي:" حسن غريب".
(5). تقدم معنى" التجبية" ص 91 من هذا الجزءان.
(3/92)
مِنْ نِسَائِنَا، فَإِذَا هُنَّ قَدْ
كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ، وَكَانَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ
إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ:" نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ". الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَصٌّ
فِي إِبَاحَةِ الْحَالِ وَالْهَيْئَاتِ كُلِّهَا إِذَا كان
الوطي فِي مَوْضِعِ الْحَرْثِ، أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مِنْ
خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ وَبَارِكَةً وَمُسْتَلْقِيَةً
وَمُضْطَجِعَةً، فَأَمَّا الْإِتْيَانُ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى
فَمَا كَانَ مُبَاحًا، وَلَا يُبَاحُ! وَذِكْرُ الْحَرْثِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى
مُحَرَّمٌ. وَ" حَرْثٌ" تَشْبِيهٌ، لِأَنَّهُنَّ مُزْدَرَعُ
الذُّرِّيَّةِ، فَلَفْظُ" الْحَرْثِ" يُعْطِي أَنَّ
الْإِبَاحَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً إِذْ
هُوَ الْمُزْدَرَعُ. وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
إِنَّمَا الأرحام أرض ... ون لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ
فَفَرْجُ الْمَرْأَةِ كَالْأَرْضِ، وَالنُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ،
وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ، فَالْحَرْثُ بِمَعْنَى
الْمُحْتَرَثِ. وَوُحِّدَ الْحَرْثُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَمَا
يُقَالُ: رَجُلٌ صَوْمٌ، وَقَوْمٌ صَوْمٌ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنَّى شِئْتُمْ) مَعْنَاهُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ
الْفَتْوَى: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً
وَمُدْبِرَةً، كَمَا ذَكَرْنَا آنفا. و" أنى" تجئ سُؤَالًا
وَإِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ لَهُ جِهَاتٌ، فَهُوَ أَعَمُّ فِي
اللُّغَةِ مِنْ" كَيْفَ" وَمِنْ" أَيْنَ" وَمِنْ" مَتَى"،
هَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ فِي" أَنَّى". وَقَدْ
فَسَّرَ النَّاسُ" أَنَّى" فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ
الْأَلْفَاظِ. وَفَسَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِ" كَيْفَ" وَمِنْ"
أَيْنَ" بِاجْتِمَاعِهِمَا. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِمَّنْ
فَسَّرَهَا ب" أين" إلى أن الوطي فِي الدُّبُرِ مُبَاحٌ،
وَمِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ: سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَنَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونَ،
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى"
كِتَابُ السِّرِّ". وَحُذَّاقُ أَصْحَابِ مَالِكٍ؟
وَمَشَايِخِهِمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَمَالِكٌ
أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ" كِتَابُ سِرٍّ". وَوَقَعَ
هَذَا الْقَوْلُ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ أَنَّ ابْنَ شَعْبَانَ أَسْنَدَ جَوَازَ هَذَا
الْقَوْلِ إِلَى زُمْرَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ
فِي كِتَابِ" جِمَاعُ النِّسْوَانِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ".
وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ
بَأْسًا، وَيَتَأَوَّلُ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ
(3/93)
الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ
«1» ". وَقَالَ: فَتَقْدِيرُهُ تَتْرُكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ، وَلَوْ لَمْ يُبَحْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَزْوَاجِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُبَاحُ مِنَ
الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مِثْلًا لَهُ، حَتَّى يُقَالَ:
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَتَتْرُكُونَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُبَاحِ.
قَالَ الْكِيَا: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَعْنَاهُ:
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
مِمَّا فِيهِ تَسْكِينُ شَهْوَتِكُمُ، وَلَذَّةُ الْوَقَاعِ
حَاصِلَةٌ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيَجُوزُ التَّوْبِيخُ عَلَى
هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ"
مَعَ قَوْلِهِ:" فَأْتُوا حَرْثَكُمْ" مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
فِي الْمَأْتَى اخْتِصَاصًا، وَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى
مَوْضِعِ الْوَلَدِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي
الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي
الرَّتْقَاءِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا أَنَّهُ
عَيْبٌ تُرَدُّ بِهِ، إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ
لَا تُرَدُّ الرَّتْقَاءُ وَلَا غَيْرُهَا، وَالْفُقَهَاءُ
كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ
الْمُبْتَغَى بِالنِّكَاحِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا
دليل على أن الدبر ليس بموضع وطئ، ولو كان موضعا للوطي مَا
رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ.
وَفِي إِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَقِيمَ الَّتِي
لَا تَلِدُ لَا تُرَدُّ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمَا نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ
وَأَصْحَابِهِ مِنْ هَذَا بَاطِلٌ وَهُمْ مُبَرَّءُونَ مِنْ
ذَلِكَ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْإِتْيَانِ مُخْتَصَّةٌ
بِمَوْضِعِ الْحَرْثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ"، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ
بَثُّ النَّسْلِ، فَغَيْرُ موضع النسل لا يناله مالك
النِّكَاحِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ عِنْدَنَا وَلَائِطُ الذَّكَرِ
سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْقَذَرَ وَالْأَذَى فِي
مَوْضِعِ النَّجْوِ «2» أَكْثَرُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَكَانَ
أَشْنَعَ. وَأَمَّا صِمَامُ الْبَوْلِ فَغَيْرُ صِمَامِ
الرَّحِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ: قَالَ
لَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقِيهُ الْوَقْتِ
وَإِمَامُهُ: الْفَرْجُ أشبه شي بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ،
وَأَخْرَجَ يَدَهُ عَاقِدًا بِهَا. وَقَالَ: مَسْلَكُ
الْبَوْلِ مَا تَحْتَ الثَّلَاثِينَ، وَمَسْلَكُ الذَّكَرِ
وَالْفَرْجِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْخَمْسَةُ، وَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ
النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ. فَأَوْلَى أَنْ يُحَرَّمَ
الدُّبُرُ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ. وَقَالَ
مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ زياد لما أخبراه أن
ناسا بمصر
__________
(1). آية 165 سورة الشعراء.
(2). النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.
(3/94)
يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ
ذَلِكَ، فَنَفَّرَ مِنْ ذَلِكَ، وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيبِ
النَّاقِلِ فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيَّ، كَذَبُوا عَلَيَّ،
كَذَبُوا عَلَيَّ! ثُمَّ قَالَ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا؟
أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى:" نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ"؟
وَهَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَنْبَتِ
«1»! وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ
عَزَّ وَجَلَّ:" أَنَّى شِئْتُمْ" شَامِلٌ لِلْمَسَالِكِ
بِحُكْمِ عُمُومِهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، إِذْ هِيَ
مُخَصَّصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ
حِسَانٍ وَشَهِيرَةٍ رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا
بِمُتُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّهَا مُتَوَارِدَةٌ عَلَى
تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ، ذَكَرَهَا
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ
جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُرُقِهَا فِي
جُزْءٍ سَمَّاهُ" تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ".
وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جُزْءٌ
سَمَّاهُ" إِظْهَارُ إدبار، من أجاز الوطي فِي الْأَدْبَارِ".
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ وَالصَّحِيحُ فِي
الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُعَرِّجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ
عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ بَعْدَ أَنْ تَصِحَّ عَنْهُ. وَقَدْ
حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ خِلَافَ هَذَا، وَتَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ، وَهَذَا
هُوَ اللَّائِقُ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ
كَذَّبَ نَافِعٌ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ
النَّسَائِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ
وَاسْتَعْظَمَهُ، وَكَذَّبَ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ
سعيد ابن يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ
عُمَرَ: مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي حِينَ أُحَمِّضُ «2»
بِهِنَّ؟ قَالَ: وَمَا التَّحْمِيضُ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ
الدُّبُرَ، فَقَالَ: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ! وَأُسْنِدَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:" أَيُّهَا النَّاسُ إن الله لا يَسْتَحْيِي مِنَ
الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ".
وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ. وَأُسْنِدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ
اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصغرى" يعنى
__________
(1). في ب:" النبت".
(2). التحميض: أن يأتي الرجل المرأة في غير مأتاها الذي يكون
موضع الولد.
(3/95)
وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بَدْءُ عَمَلِ
قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُغْنِيَ بِهِ
عَمَّا سِوَاهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أَيْ قَدِّمُوا مَا يَنْفَعُكُمْ
غَدًا، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ
«1» " .. فَالْمَعْنَى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمُ الطَّاعَةَ
وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ. وَقِيلَ ابْتِغَاءُ الْوَلَدِ
وَالنَّسْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ خَيْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ شَفِيعًا وَجُنَّةً. وَقِيلَ:
هُوَ التَّزَوُّجُ بِالْعَفَائِفِ، لِيَكُونَ الْوَلَدُ
صَالِحًا طَاهِرًا. وَقِيلَ: هُوَ تَقَدُّمُ «2» الْأَفْرَاطِ،
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا
الْحِنْثَ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ
الْقَسَمِ" الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي" مَرْيَمَ «3» " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ:
أَيْ قَدِّمُوا ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى
امْرَأَتَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بَيْنَهُمَا
وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا". أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا
اللَّهَ) تَحْذِيرٌ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) خَبَرٌ
يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي التَّحْذِيرِ، أَيْ فَهُوَ
مُجَازِيكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِثْمِ. وَرَوَى ابْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ
سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يَخْطُبُ يَقُولُ:" إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً
عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا «4» "- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
بِمَعْنَاهُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) تَأْنِيسٌ لِفَاعِلِ البر ومبتغى سنن الهدى.
[سورة البقرة (2): آية 224]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
__________
(1). آية 110 سورة البقرة.
(2). الافراط (جمع فرط): هم الأولاد الذين ماتوا قبل أن يبلغوا
الحلم.
(3). راجع ج 11 ص 135.
(4). الغرل (بضم فسكون جمع الأغرل): وهو الأقلف الذي لم يختن.
(3/96)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْإِنْفَاقِ وَصُحْبَةِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ بجميل
المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شي مِنَ الْمَكَارِمِ تَعَلُّلًا
بِأَنَّا حَلَفْنَا أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا، قَالَ مَعْنَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ
وَغَيْرُهُمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ
يَحْلِفُ أَلَّا يَبِرَّ وَلَا يَصِلَ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ
النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُ: بِرَّ، فَيَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمَعْنَى وَلَا
تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْبِرَّ
وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى
تَقْدِيرِ" لَا" بَعْدَ" أَنْ". وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا
تَسْتَكْثِرُوا مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ أَهْيَبُ
لِلْقُلُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:" وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ «1» ". وَذَمَّ مَنْ كَثَّرَ الْيَمِينَ فَقَالَ
تَعَالَى:" وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «2» ".
وَالْعَرَبُ تَمْتَدِحُ بِقِلَّةِ الْأَيْمَانَ، حَتَّى قَالَ
قَائِلُهُمْ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ صَدَرَتْ
مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ
وَعَلَى هَذَا" أَنْ تَبَرُّوا" مَعْنَاهُ: أَقِلُّوا
الْأَيْمَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّ
الْإِكْثَارَ يَكُونُ مَعَهُ الْحِنْثُ وَقِلَّةُ رَعْيٍ
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. مَالِكُ
بْنُ أَنَسٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِفُ، بِاللَّهِ فِي
كُلِّ شي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ
مُبْتَذَلَةً فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ
وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِذَا
طُلِبَ مِنْهُ فِعْلُ خَيْرٍ اعْتَلَّ بِاللَّهِ فَقَالَ:
عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفِ الْقُتَبِيُّ:
الْمَعْنَى إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى أَلَّا تَصِلُوا
أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَتَصَدَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا، وَعَلَى
أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَكَفِّرُوا
الْيَمِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا حَسَنٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ
الَّذِي يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ النُّزُولِ، عَلَى مَا
نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا. الثَّانِيَةُ-
قِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ الصِّدِّيقِ إِذْ حَلَفَ أَلَّا
يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" النُّورِ «3» "، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ:
نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ أَيْضًا حِينَ حَلَفَ أَلَّا
يَأْكُلَ مَعَ الْأَضْيَافِ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ بَشِيرَ
بْنَ النُّعْمَانِ وَكَانَ خَتَنَهُ عَلَى أخته، والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 6 ص 285. [ ..... ]
(2). راجع ج 18 ص 231.
(3). راجع ج 12 ص 207.
(3/97)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أَيْ نَصْبًا، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ.
وَفُلَانٌ عُرْضَةُ ذَاكَ، أَيْ «1» عُرْضَةٌ لِذَلِكَ، أَيْ
مُقْرِنٌ لَهُ قَوِيٌّ عَلَيْهِ. وَالْعُرْضَةُ: الهمة. قال:
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ «2»
وَفُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ: لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ
فِيهِ. وَجَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً لِكَذَا أَيْ نَصَبْتُهُ
لَهُ، وَقِيلَ: الْعُرْضَةُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةِ: عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ،
إِذَا صَلُحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَلِفُلَانٍ
عُرْضَةٌ: أَيْ قُوَّةٌ عَلَى السَّفَرِ وَالْحَرْبِ، قَالَ
كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
مِنْ كَلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ...
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
وَقَالَ عَبْدُ الله بن الزبير:
فهذي لأيام الحروب وهذه ... لِلْهَوِيِّ وَهَذِي عُرْضَةٌ
لِارْتِحَالِنَا
أَيْ عُدَّةٌ. وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تَجْعَلُنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَأَدْمَاءُ مِثْلُ الْفَحْلِ يَوْمًا عُرْضَتُهَا ...
لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ بِاللَّهِ قُوَّةً
لِأَنْفُسِكُمْ، وَعُدَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبِرِّ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ الْبِرُّ
وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ أَوْلَى وَأَمْثَلُ، مِثْلَ"
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ" عَنِ الزَّجَّاجِ وَالنَّحَّاسِ.
وَقِيلَ: مَحَلُّهُ النَّصْبُ، أَيْ لَا تَمْنَعُكُمُ
الْيَمِينُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى
وَالْإِصْلَاحَ، عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ
مِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَّا تَبَرُّوا،
فَحَذَفَ" لَا"، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ وَالنَّحَّاسُ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ مِنْ وُجُوهِ
النَّصْبِ: كَرَاهَةَ أَنْ تَبَرُّوا، ثُمَّ حُذِفَتْ،
ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: هو في موضع
خفض
__________
(1). في الصحاح:" أو عرضة لذلك".
(2). عجز بيت لحسان بن ثابت رضى الله عنه، وصدره: وقال الله قد
أعددت جندا
(3/98)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ،
التَّقْدِيرُ: فِي أَنْ تَبَرُّوا، فَأُضْمِرَتْ" فِي"
وَخُفِضَتْ بِهَا. وَ (سَمِيعٌ) أي لأقوال العباد. (عَلِيمٌ)
بنياتهم.
[سورة البقرة (2): آية 225]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(بِاللَّغْوِ) اللَّغْوُ: مَصْدَرُ لَغَا يَلْغُو وَيَلْغَى،
وَلَغِيَ يَلْغَى لَغًا إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، أَوْ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، أَوْ
بِمَا يُلْغِي إِثْمُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ:" إِذَا قُلْتَ
لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ". وَلُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ" فَقَدْ
لَغَيْتَ" وَقَالَ الشَّاعِرُ «1»:
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ
التَّكَلُّمِ
وَقَالَ آخَرُ «2»:
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ
تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْيَمِينِ
الَّتِي هِيَ لَغْوٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَوْلُ
الرَّجُلِ فِي دَرَجِ كَلَامِهِ وَاسْتِعْجَالِهِ فِي
الْمُحَاوَرَةِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، دُونَ
قَصْدٍ لِلْيَمِينِ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: لَغْوُ الْيَمِينِ
الَّتِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَغْوٌ هُوَ
قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، فِي
حَدِيثِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ وَلَا
مُرِيدِهَا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
أَيْمَانُ اللَّغْوِ مَا كَانَتْ فِي الْمِرَاءِ وَالْهَزْلِ
وَالْمُزَاحَةِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ
الْقَلْبُ. وَفَى الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا يُؤاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ" فِي قَوْلِ الرَّجُلِ:
لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. وَقِيلَ: اللَّغْوُ مَا
يُحْلَفُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ، فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ، قاله
مالك،
__________
(1). هو العجاج، كما في ديوانه.
(2). هو الفرزدق، كما في النقائض ص 344 طبع أوربا.
(3/99)
حَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَقَالَ
بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِذَا
حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ
إِيَّاهُ، فَإِذَا لَيْسَ هُوَ، فَهُوَ اللَّغْوُ، وَلَيْسَ
فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ:
أَنَّ قَوْمًا تَرَاجَعُوا الْقَوْلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَرْمُونَ
بِحَضْرَتِهِ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمْ لَقَدْ أَصَبْتُ
وَأَخْطَأْتَ يَا فُلَانُ، فَإِذَا الْأَمْرُ بِخِلَافِ
ذَلِكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: حَنِثَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
أَيْمَانُ الرُّمَاةِ لَغْوٌ لَا حِنْثٌ فِيهَا وَلَا
كَفَّارَةٌ". وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا
سَمِعْتُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّغْوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى
الشَّيْءِ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُوجَدُ
بِخِلَافِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَالَّذِي يَحْلِفُ
عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهِ آثِمٌ كَاذِبٌ
لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا، أَوْ يَعْتَذِرَ لِمَخْلُوقٍ، أَوْ
يَقْتَطِعَ بِهِ مَالًا، فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَلَفَ
أَلَّا يَفْعَلَ الشَّيْءَ الْمُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ ثُمَّ
يَفْعَلُهُ، أَوْ أَنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ،
مِثْلَ إِنْ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَ ثَوْبَهُ بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ حَلَفَ
لَيَضْرِبَنَّ غُلَامَهُ ثُمَّ لَا يَضْرِبُهُ. وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ- إِنْ صَحَّ عَنْهُ- قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ
أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، وَقَالَهُ طَاوُسٌ. وَرَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال:" لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ،
فَيَقُولُ: مَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا،
وَالْحَلَالُ على حرام، وقال مَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ،
وَمَالِكٌ أَيْضًا، إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ أَلْزَمَ
فِيهَا التَّحْرِيمَ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْحَالِفُ
بِقَلْبِهِ. وَقِيلَ: هُوَ يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَعُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الزُّبَيْرِ،
كَالَّذِي يُقْسِمُ لَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ
لَيَقْطَعَنَّ الرَّحِمَ فَبِرُّهُ تَرْكُ ذَلِكَ الْفِعْلِ
وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا
فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
فِي سُنَنِهِ، وَسَيَأْتِي فِي" الْمَائِدَةِ «1» " أَيْضًا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَغْوُ الْيَمِينِ دُعَاءُ
الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، أَذْهَبَ
اللَّهُ مَالَهُ، هُوَ يَهُودِيٌّ، هُوَ مُشْرِكٌ، هُوَ
لِغِيَّةٍ إِنْ فَعَلَ كَذَا. مُجَاهِدٌ: هُمَا الرَّجُلَانِ
يَتَبَايَعَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا
أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ، وَاللَّهِ لَا
أَشْتَرِيهِ بِكَذَا. النَّخَعِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ
أَلَّا يَفْعَلَ الشَّيْءَ ثم ينسى فيفعله.
__________
(1). راجع ج 6 ص 265
(3/100)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هِيَ الْمُكَفَّرَةُ،
أَيْ إِذَا كُفِّرَتِ الْيَمِينُ سَقَطَتْ وَصَارَتْ لَغْوًا،
وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِتَكْفِيرِهَا وَالرُّجُوعِ إِلَى
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا:
إِنَّ اللَّغْوَ أَيْمَانُ الْمُكْرَهِ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَمَّا الْيَمِينُ مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا
شَكَّ فِي إِلْغَائِهَا. لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ
قَصْدِهِ، فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ. قُلْتُ: وَيَمِينُ
الْمُكْرَهِ بِمَثَابَتِهَا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَنْ حَلَفَ
مُكْرَهًا فِي" النَّحْلِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ
يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى
تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً،
وَالْحَالِفُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ
مَعْصِيَةً، وَيُقَالُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَكَفِّرْ، فَإِنْ
أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ أَثِمَ فِي إِقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي
قَسَمِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا فَيَنْزِلُ بِهِ كَذَا،
فَهُوَ قَوْلٌ لَغْوٌ، فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّهُ
مُنْعَقِدٌ فِي الْقَصْدِ، مَكْرُوهٌ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ
بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَرُبَّمَا
صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ أَحَدٌ فِيهَا شَيْئًا
إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ
يَمِينُ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ حَلِفُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ
الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.
وَسَيَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ «2» ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ فَلَا
مُتَعَلَّقَ لَهُ يُحْكَى. وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ
أَيْضًا وَقَالَ: قَدْ رَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
الْمُؤَاخَذَةَ بِالْإِطْلَاقِ فِي اللَّغْوِ، فَحَقِيقَتُهَا
لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ، وَالْمُؤَاخَذَةُ فِي
الْأَيْمَانِ هِيَ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ فِي الْيَمِينِ
الْغَمُوسِ الْمَصْبُورَةِ «3»، وَفِيمَا تُرِكَ تَكْفِيرُهُ
مِمَّا فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَبِعُقُوبَةِ الدُّنْيَا فِي
إِلْزَامِ الْكَفَّارَةِ، فَيُضَعَّفُ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا
الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ، لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ قَدْ
وَقَعَتْ فِيهَا، وَتَخْصِيصُ الْمُؤَاخَذَةِ بِأَنَّهَا فِي
الْآخِرَةِ فَقَطْ تَحَكُّمٌ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فِي أَيْمانِكُمْ) الْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ،
وَالْيَمِينُ الْحِلْفُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ
إِذَا تَحَالَفَتْ أَوْ تَعَاقَدَتْ أَخَذَ الرَّجُلُ يَمِينَ
صَاحِبِهِ بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمى
__________
(1). راجع ج 10 ص 186.
(2). راجع ج 8 ص 228 وما بعدها.
(3). اليمين المصبورة هي التي ألزم بها الحالف وحبس عليها،
وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها:" مصبورة" وإن كان
صاحبها في الحقيقة هو المصبور، لأنه إنما صبر من أجلها، أي
حبس، فوصفت بالصبر وأضيفت إلى اليمين مجازا. (ابن الأثير).
(3/101)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
الْحِلْفُ وَالْعَهْدُ نَفْسُهُ يَمِينًا.
وَقِيلَ: يَمِينٌ فَعِيلٌ مِنَ الْيُمْنِ، وَهُوَ الْبَرَكَةُ،
سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحْفَظُ
الْحُقُوقَ. وَيَمِينٌ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَتُجْمَعُ
أَيْمَانٌ وَأَيْمُنٌ، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ منا ومنكم «1»
الرابعة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) مِثْلَ قَوْلِهِ:" وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ". وَهُنَاكَ «2» يَأْتِي
الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" هُوَ فِي الرَّجُلِ
يَقُولُ: هُوَ مُشْرِكٌ إِنْ فَعَلَ، أَيْ هَذَا اللَّغْوَ
«3»، إِلَّا أَنْ يَعْقِدَ الْإِشْرَاكَ بِقَلْبِهِ
وَيَكْسِبَهُ. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) صِفَتَانِ لَائِقَتَانِ بِمَا
ذُكِرَ مِنْ طَرْحِ الْمُؤَاخَذَةِ، إِذْ هُوَ بَابُ رفق
وتوسعة.
[سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(227)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) " يُؤْلُونَ" مَعْنَاهُ
يَحْلِفُونَ، وَالْمَصْدَرُ إِيلَاءٌ وَأَلِيَّةٌ وَأَلْوَةٌ
وَإِلْوَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ" لِلَّذِينَ
يُقْسِمُونَ". وَمَعْلُومٌ أن" يقسمون" تفسير" يُؤْلُونَ".
وقرى" لِلَّذِينَ آلَوْا" يُقَالُ: آلَى يُؤْلِي إِيلَاءً،
وَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى ائْتِلَاءً، أَيْ حَلَفَ،
وَمِنْهُ" وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ «4» "،
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَآلَيْتُ لَا أَنْفَكُّ أَحْدُو قَصِيدَةً ... تَكُونُ
وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلًا بَعْدِي
وَقَالَ آخَرُ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ
مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَقَالَ ابْنِ دُرَيْدٍ:
أَلِيَّةٌ بِالْيَعْمَلَاتِ يَرْتَمِي ... بِهَا النَّجَاءُ
بَيْنَ أَجْوَازِ الفلا
__________
(1). هذا صدر بيت تمامة:
بمقسمة تمور بها الدماء
(2). راجع ج 6 ص 266.
(3). في نسخ ب: هذا لغو.
(4). راجع ج 12 ص 207 [ ..... ]
(3/102)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ
إِيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ
وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِيذَاءَ
الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَسَاءَةِ، فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ، فَمَنْ آلَى بِأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ
بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ. قُلْتُ: وَقَدْ آلَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَّقَ، وَسَبَبُ إِيلَائِهِ
سُؤَالُ نِسَائِهِ إِيَّاهُ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ
عِنْدَهُ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ
زَيْنَبَ رَدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، فَغَضِبَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَى مِنْهُنَّ، ذَكَرَهُ ابْنُ
مَاجَهْ. الثَّانِيَةُ- وَيَلْزَمُ الْإِيلَاءُ كُلَّ مَنْ
يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، فَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّكْرَانُ
يَلْزَمُهُ الْإِيلَاءُ. وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْمُوَلَّى
عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بَالِغًا غَيْرَ مَجْنُونٍ، وَكَذَلِكَ
الْخَصِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَجْبُوبًا، وَالشَّيْخُ إِذَا
كَانَ فِيهِ بَقِيَّةُ رَمَقٍ وَنَشَاطٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فِي الْمَجْبُوبِ إِذَا آلَى، فَفِي، قَوْلٍ:
لَا إِيلَاءَ لَهُ. وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إِلَى الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْفَيْءَ هُوَ الَّذِي يُسْقِطُ
الْيَمِينَ، وَالْفَيْءُ بِالْقَوْلِ لَا يُسْقِطُهَا، فَإِذَا
بَقِيَتِ الْيَمِينُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْحِنْثِ بَقِيَ
حُكْمُ الْإِيلَاءِ. وَإِيلَاءُ الْأَخْرَسِ بِمَا يُفْهَمُ
عَنْهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ لَازِمٌ
لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ إِذَا آلَى مِنْ نِسَائِهِ.
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ
الْإِيلَاءُ مِنَ الْيَمِينِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ
الْإِيلَاءُ إِلَّا بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ كَانَ حَالِفًا
فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ". وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ
يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إِيلَاءٌ، وَبِهِ قَالَ
الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ،
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْقَاضِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَكُلُّ يَمِينٍ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهَا عَلَى جِمَاعِ
امْرَأَتِهِ مِنْ أَجْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَحْنَثَ فَهُوَ
بِهَا مُولٍ، إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ
بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، أَوْ
أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ
وَكَفَالَتُهُ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ
الْإِيلَاءُ. فَإِنْ قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَعْزِمُ وَلَمْ
يَذْكُرْ بِ" اللَّهِ" فَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ
الْإِيلَاءُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِ" اللَّهِ"
وَنَوَاهُ.
(3/103)
وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَمِينٌ يَدْخُلُ
عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ «1» " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ حَلَفَ بِالصِّيَامِ أَلَّا
يَطَأَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ: إن وطيتك فَعَلَيَّ صِيَامُ
شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ فَهُوَ مُولٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا
يَلْزَمُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَلَاةٍ
أَوْ صَدَقَةٍ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عُمُومُ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ" وَلَمْ يُفَرِّقْ،
فَإِذَا آلَى بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ
غَيْرِ مُعَيَّنٍ لزم الإيلاء. الرابعة- فإن حَلَفَ بِاللَّهِ
أَلَّا يَطَأَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَبْسُوطِ: ليس
بمؤل، وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُحِلُّ
الْيَمِينَ وَيَجْعَلُ الْحَالِفَ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ،
وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ
بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ.
وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُحِلُّ الْيَمِينَ، وَلَكِنَّهُ
يُؤْثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ" فَلَمَّا كَانَتْ يَمِينُهُ
بَاقِيَةً مُنْعَقِدَةً لَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَإِنْ
لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. الْخَامِسَةُ- فَإِنْ حَلَفَ
بِالنَّبِيِّ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَلَّا
يَطَأَهَا، أَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ
زَانٍ إن وطئها، فهذا ليس بمؤل، قال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ
الْبَاجِيُّ: وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ أَوْرَدَهُ
عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقَسَمِ، وَأَمَّا لَوْ أَوْرَدَهُ
عَلَى أَنَّهُ مُولٍ بِمَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ،
فَفِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ سُئِلَ عَنِ
الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: لَا مَرْحَبًا، يُرِيدُ
بِذَلِكَ الْإِيلَاءَ يَكُونُ مُولِيًا، قَالَ قَالَ مَالِكٌ:
كُلُّ كَلَامٍ نُوِيَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَهَذَا
وَالطَّلَاقُ سَوَاءٌ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْإِيلَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ أَلَّا
يَمَسَّهَا أَبَدًا. وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِذَا حَلَفَ أَلَّا
يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ
ثُمَّ لَمْ يَطَأْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ
بِالْإِيلَاءِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمِ وَحَمَّادِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِيلَاءُ
هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَمَا دُونَهَا لَا
يَكُونُ مُولِيًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ
يَمِينًا مَحْضًا، لو وطئ في هذه
__________
(1). راجع ج 6 ص 269
(3/104)
المدة لم يكن عليه شي كَسَائِرِ
الْأَيْمَانِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
وَالْكُوفِيُّونَ: الْإِيلَاءُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. قَالَ
الْكُوفِيُّونَ: جَعَلَ اللَّهُ التَّرَبُّصَ فِي الْإِيلَاءِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا جَعَلَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَفِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةُ
قُرُوءٍ، فَلَا تَرَبُّصَ بَعْدُ. قَالُوا: فَيَجِبُ بَعْدَ
الْمُدَّةِ سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بألفي وَهُوَ
الْجِمَاعُ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ فَقَالَا: جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُولِي
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهِيَ لَهُ بِكَمَالِهَا لَا اعْتِرَاضَ
لِزَوْجَتِهِ عَلَيْهِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ
الْمُؤَجَّلَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ
إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْأَجَلِ. وَوَجْهُ قَوْلِ إِسْحَاقَ-
فِي قَلِيلِ الْأَمَدِ يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مُولِيًا إِذَا
لَمْ يَطَأْ- الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا،
لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالْيَمِينِ، وَهَذَا
الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ.
السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَ
امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَانْقَضَتِ
الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ وَلَمْ تُطَالِبْهُ امْرَأَتُهُ
وَلَا رَفَعَتْهُ إِلَى السُّلْطَانِ لِيُوقِفَهُ، لم يلزمه شي
عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ بِانْقِضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَمِنْهُمْ
وَمِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ
بَائِنَةٌ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ.
وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُولِيَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ حَتَّى
يُوقِفَهُ السُّلْطَانُ بمطالبة زوجنه له ليفي فيراجع امرأته
بالوطي وَيُكَفِّرُ يَمِينَهُ أَوْ يُطَلِّقُ، وَلَا
يَتْرُكُهُ حَتَّى يفئ أَوْ يُطَلِّقَ. وَالْفَيْءُ:
الْجِمَاعُ فِيمَنْ يُمْكِنُ مُجَامَعَتُهَا. قَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: كَانَ تِسْعَةُ «1» رِجَالٍ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُوقَفُونَ فِي الْإِيلَاءِ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ
الْأَمْرُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ. الثَّامِنَةُ- وَأَجَلُ المولى من يوم حلف لأمن
يَوْمِ تَخَاصُمِهِ امْرَأَتَهُ وَتَرْفَعُهُ إِلَى
الْحَاكِمِ، فَإِنْ خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطي ضَرَبَ
لَهُ السُّلْطَانُ «2» أَجَلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يوم
حلف،
__________
(1). في ب:" كان تسعة عشر رجلا ... ".
(2). في ب: الحاكم.
(3/105)
فَإِنْ وَطِئَ فَقَدْ فَاءَ إِلَى حَقِّ
الزَّوْجَةِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِئْ
طَلَّقَ عَلَيْهِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً. قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ
رَاجَعَ لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ حَتَّى يَطَأَ فِي الْعِدَّةِ.
قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا
وَقَعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَمَتَى لَمْ يَطَأْ فَالضَّرَرُ
بَاقٍ، فَلَا مَعْنَى لِلرَّجْعَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ
عذر يمنعه من الوطي فَتَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّ الضَّرَرَ
قَدْ زَالَ، وَامْتِنَاعُهُ من الوطي لَيْسَ مِنْ أَجْلِ
الضَّرَرِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ الْعُذْرِ.
التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي
غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا إِيلَاءَ
إِلَّا بِغَضَبٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقَالَهُ
اللَّيْثُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، كُلُّهُمْ
يَقُولُونَ: الْإِيلَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وجه مغاضبة
ومشارة وَحَرَجَةٍ وَمُنَاكَدَةٍ أَلَّا يُجَامِعَهَا فِي
فَرْجِهَا إِضْرَارًا بِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي ضِمْنِ
ذَلِكَ إِصْلَاحُ وَلَدٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عَنْ غَضَبٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ:
سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ غَضَبٍ
هُوَ إِيلَاءٌ، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيُّ
وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
وَأَحْمَدُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: مَا لَمْ يُرِدْ
إِصْلَاحَ وَلَدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا أَصَحُّ،
لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ
وَسَائِرَ الْأَيْمَانِ سَوَاءٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ
وَالرِّضَا كَانَ الْإِيلَاءُ كَذَلِكَ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ عُمُومُ الْقُرْآنِ، وَتَخْصِيصُ حَالَةِ الْغَضَبِ
يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ وَجْهٍ يُلْزِمُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ علماؤنا: ومن امتنع
من وطئ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ حَلَفَهَا إِضْرَارًا
بِهَا أُمِرَ بِوَطْئِهَا، فَإِنْ أَبَى وَأَقَامَ عَلَى
امْتِنَاعِهِ مُضِرًّا بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا
مِنْ غَيْرِ ضَرْبِ أَجَلٍ. وَقَدْ قِيلَ: يُضْرَبُ أَجَلُ
الْإِيلَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ
الْإِيلَاءُ فِي هِجْرَتِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ
سِنِينَ لَا يَغْشَاهَا، وَلَكِنَّهُ يُوعَظُ وَيُؤْمَرُ
بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَلَّا يُمْسِكَهَا ضِرَارًا.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا
يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهَا لِئَلَّا
يُمْغَلَ «1» وَلَدُهَا، وَلَمْ يُرِدْ إِضْرَارًا بِهَا
حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ لزوجته عند
مالك مطالبة لقصد
__________
(1). المغل (بفتح الميم وسكون الغين وفتحها): أن ترضع المرأة
ولدها وهى حامل.
(3/106)
إِصْلَاحِ الْوَلَدِ. قَالَ مَالِكٌ:
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهُ إِيلَاءً، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ
يَكُونُ مُولِيًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ-
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمْ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَ
زَوْجَتَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ
لِأَنَّهُ يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى وَطْئِهَا فِي غَيْرِ
ذَلِكَ الْمَكَانِ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ:
إِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوقَفُ عِنْدَ الْأَشْهُرِ
الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَهَا فِي مِصْرِهِ
أَوْ بَلَدِهِ فَهُوَ مُولٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَهَذَا إِنَّمَا
يَكُونُ فِي سَفَرٍ يَتَكَلَّفُ الْمَئُونَةَ وَالْكُلْفَةَ
دُونَ جَنَّتِهِ أَوْ مَزْرَعَتِهِ الْقَرِيبَةِ. الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ نِسائِهِمْ) يَدْخُلُ
فِيهِ الْحَرَائِرُ وَالذِّمِّيَّاتُ وَالْإِمَاءُ إِذَا
تَزَوَّجْنَ. وَالْعَبْدُ يَلْزَمُهُ الْإِيلَاءُ مِنْ
زَوْجَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ:
إِيلَاؤُهُ مِثْلُ إِيلَاءِ الْحُرِّ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ"
فَكَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ
وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَإِسْحَاقُ: أَجَلُهُ
شَهْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: إِيلَاؤُهُ مِنْ
زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَمِنَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: إِيلَاءُ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَغَيْرُهُمْ: الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا
سَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا. وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا
بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَا إِيلَاءَ مِنْ
صَغِيرَةٍ لَمْ تَبْلُغْ، فَإِنْ آلَى مِنْهَا فَبَلَغَتْ
لَزِمَ الْإِيلَاءُ مِنْ يَوْمِ بُلُوغِهَا. الْخَامِسَةَ
عَشْرَةَ- وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ،
كَمَا لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ وَلَا طَلَاقُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ
نِكَاحَ أَهْلِ الشِّرْكِ لَيْسَ عِنْدَنَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ،
وَإِنَّمَا لَهُمْ شُبْهَةُ يَدٍ، وَلِأَنَّهُمْ لَا
يُكَلَّفُونَ الشَّرَائِعَ فَتَلْزَمُهُمْ كَفَّارَاتُ
الْأَيْمَانِ، فَلَوْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي حُكْمِ
الْإِيلَاءِ لَمْ يَنْبَغِ لِحَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ
(3/107)
بَيْنَهُمْ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى
حُكَّامِهِمْ، فَإِنْ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّظَالُمِ
بَيْنَهُمْ حُكِمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لو ترك المسلم
وطئ زَوْجَتِهِ ضِرَارًا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)
التَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّرُ، مَقْلُوبُ
التَّصَبُّرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ
يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا
وَأَمَّا فَائِدَةُ تَوْقِيتِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ
فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَنَعَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ
لِلزَّوْجِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي تَأْدِيبِ
الْمَرْأَةِ بِالْهَجْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ «1» " وَقَدْ آلَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ شَهْرًا
تَأْدِيبًا لَهُنَّ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ
هِيَ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ ذَاتُ الزَّوْجِ أَنْ تَصْبِرَ
عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ لَيْلَةً
بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تُنْشِدُ:
أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ ...
وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حبيب ألاعبه
فو الله لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَزُعْزِعَ
مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ
مَخَافَةَ رَبِّي وَالْحَيَاءُ يَكُفُّنِي ... وَإِكْرَامَ
بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهُ
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اسْتَدْعَى عُمَرُ بِتِلْكَ
الْمَرْأَةِ وَقَالَ لَهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ فَقَالَتْ:
بَعَثْتَ بِهِ إِلَى الْعِرَاقِ! فَاسْتَدْعَى نِسَاءً
فَسَأَلَهُنَّ عَنِ الْمَرْأَةِ كَمْ مِقْدَارُ مَا تَصْبِرُ
عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقُلْنَ: شَهْرَيْنِ، وَيَقِلُّ صَبْرُهَا
فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَيَنْفَدُ «2» صَبْرُهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَ عُمَرُ مُدَّةَ غَزْوِ
الرَّجُلِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ اسْتَرَدَّ الْغَازِينَ وَوَجَّهَ بِقَوْمٍ آخَرِينَ،
وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ يُقَوِّي اخْتِصَاصَ مُدَّةِ
الْإِيلَاءِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. السابعة عشرة- قوله تعالى:
(فَإِنْ فاؤُ) معناه رجعوا، ومنه" حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ
اللَّهِ «3» " وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزوال: في،
لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ
المغرب، يقال: فاء يفئ فَيْئَةً وَفُيُوءًا. وَإِنَّهُ
لَسَرِيعُ الْفَيْئَةِ، يَعْنِي الرُّجُوعَ. قَالَ:
فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... ومن حاجة
الإنسان ما ليس قاضيا
__________
(1). راجع ج 5 ص 168.
(2). في ب: وتفقد.
(3). راجع ج 16 ص 319.
(3/108)
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ الْجِمَاعُ لِمَنْ لَا عُذْرَ
لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرُ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ
شِبْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ صَحِيحٌ وَهِيَ
امْرَأَتُهُ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ بِقُدُومِهِ مِنْ
سَفَرِهِ أَوْ إِفَاقَتِهِ مِنْ مَرَضِهِ، أَوِ انْطِلَاقِهِ
مِنْ سجنه فأبى الوطي فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتِ
الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ
وَالْمَبْسُوطِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَتَكُونُ بَائِنًا
مِنْهُ يَوْمَ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، فَإِنْ صَدَقَ عُذْرُهُ
بِالْفَيْئَةِ إِذَا أَمْكَنَتْهُ حُكِمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا
مَضَى، فَإِنْ أَكْذَبَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْفَيْئَةِ
بِالِامْتِنَاعِ حِينَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، حُمِلَ أَمْرُهُ
عَلَى الْكَذِبِ فِيهَا وَاللَّدَدِ، وَأُمْضِيَتِ
الْأَحْكَامُ عَلَى مَا كَانَتْ تَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ «1»
بِفَيْئَتِهِ فِي حَالِ الْعُذْرِ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ
الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ: وَبِهِ قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ أَيْضًا: يَصِحُّ
الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشْهَادِ فَقَطْ، وَيَسْقُطُ
حُكْمُ الْإِيلَاءِ، أرأيت إن لم ينتشر «2» للوطي، قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَيَرْجِعُ هَذَا الْقَوْلُ إِنْ لَمْ يَطَأْ إِلَى
بَابِ الضَّرَرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ ابن حنبل: إذا كان له عذر
يفئ بِقَلْبِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجِمَاعِ فَيَقُولُ:
قَدْ فِئْتُ إِلَيْهَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: أَبُو
حَنِيفَةَ يَقُولُ فِيمَنْ آلَى وَهُوَ مَرِيضٌ وَبَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا مُدَّةُ «3» أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهِيَ
رَتْقَاءُ أَوْ صَغِيرَةٌ أَوْ هُوَ مَجْبُوبٌ: إِنَّهُ إِذَا
فَاءَ إِلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَمَضَتِ الْمُدَّةُ وَالْعُذْرُ
قَائِمٌ فَذَلِكَ في صَحِيحٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُهُ
عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَكُونُ
الْفَيْءُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ الْعُذْرِ
وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ:
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ سِجْنٍ. التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ- أَوْجَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْكَفَّارَةَ عَلَى
الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ
النَّخَعِيُّ، قَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا
فَاءَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في قوله تعالى:" فَإِنْ فاؤُ"
يَعْنِي لِلْيَمِينِ الَّتِي حَنِثُوا فِيهَا، وَهُوَ مَذْهَبٌ
فِي الْأَيْمَانِ لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى
بِرٍّ أَوْ تَقْوَى أَوْ بَابٍ مِنَ الْخَيْرِ أَلَّا
يَفْعَلَهُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ،
__________
(1). في ب: إذا أشهد على فيئه بقلبه.
(2). في ز: لم يتيسر.
(3). في ب: مسيرة.
(3/109)
والحجة له قوله تعالى:" فَإِنْ فاؤُ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وَلَمْ يَذْكُرْ
كَفَّارَةً، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يَتَرَكَّبُ عَلَى أَنَّ
لَغْوَ اليمين ما حلف على معصية، وترك وطئ الزَّوْجَةِ
مَعْصِيَةٌ. قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ
مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا
كَفَّارَتُهَا" خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي آيَةِ الْأَيْمَانِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ «1» تَعَالَى. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ". الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ- إِذَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ سَقَطَ عَنْهُ
الْإِيلَاءُ، قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ
عَلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ فِي
الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيلَاءِ،
وَدَلِيلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ،
إِذْ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى
الْحِنْثِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ- قُلْتُ «2»: بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ
الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَقَالَ: لَمَّا حَكَمَ
اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُولِي بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ في
أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُ
الْكَفَّارَةِ على الحنث لبطل الإيلاء بغير في أَوْ «3»
عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ إِنْ حَنِثَ لَا يلزمه بالحنث
شي، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شي لَمْ يَكُنْ مُولِيًا.
وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إِسْقَاطُ حُكْمِ
الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ
الْكِتَابِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ). الْعَزِيمَةُ «4»: تَتْمِيمُ الْعَقْدِ عَلَى
الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِمُ عُزْمًا
(بِالضَّمِّ) وَعَزِيمَةً وَعَزِيمًا وَعَزَمَانًا،
وَاعْتَزَمَ اعْتِزَامًا، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ،
أَيْ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ. قَالَ شِمْرٌ: الْعَزِيمَةُ
وَالْعَزْمُ مَا عَقَدْتَ عَلَيْهِ نَفْسَكَ مِنْ أَمْرٍ
أَنَّكَ فَاعِلُهُ. وَالطَّلَاقُ مِنْ طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ
تَطْلُقُ (عَلَى وَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ) طَلَاقًا، فَهِيَ
طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ أَيْضًا. قَالَ الْأَعْشَى:
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ «5»
__________
(1). راجع ج 6 ص 267.
(2). في ب: احتج.
(3). في ب: ولا عزيمة طلاق.
(4). في ب: العزم. [ ..... ]
(5). جارته: زوجته، وبيني من البينونة وعجز البيت: كَذَاكَ
أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ.
(3/110)
وَيَجُوزُ طَلُقَتْ (بِضَمِّ اللَّامِ)
مِثْلَ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ.
وَالطَّلَاقُ حَلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَأَصْلُهُ
الِانْطِلَاقُ، وَالْمُطَلَّقَاتُ الْمُخْلَّيَاتُ،
وَالطَّلَاقُ: التَّخْلِيَةُ، يُقَالُ: نَعْجَةٌ طَالِقٌ،
وَنَاقَةٌ طَالِقٌ، أَيْ مُهْمَلَةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي
الْمَرْعَى لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ، وَبَعِيرٌ
طُلُقٌ (بِضَمِّ الطَّاءِ وَاللَّامِ) غَيْرُ مُقَيَّدٍ،
وَالْجَمْعُ أَطْلَاقٌ، وَحُبِسَ فُلَانٌ فِي السِّجْنِ
طَلْقًا أَيْ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَالطَّالِقُ مِنَ الْإِبِلِ:
الَّتِي يَتْرُكُهَا الرَّاعِي لِنَفْسِهِ لَا يَحْتَلِبُهَا
عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: اسْتَطْلَقَ الرَّاعِي نَاقَةً
لِنَفْسِهِ. فَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ الْمُخَلَّى سَبِيلُهَا
بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ النَّعْجَةُ أَوِ النَّاقَةُ الْمُهْمَلُ
أَمْرُهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَلَقِ الْفَرَسِ،
وَهُوَ ذَهَابُهُ شَوْطًا لَا يُمْنَعُ، فَسُمِّيَتِ
الْمَرْأَةُ الْمُخَلَّاةُ طَالِقًا لَا تُمْنَعُ مِنْ
نَفْسِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً. الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ
مُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، مَا لَمْ
يَقَعْ إِنْشَاءُ تَطْلِيقٍ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ قَالَ:" سَمِيعٌ" وَسَمِيعٌ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا
بَعْدَ الْمُضِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:" سَمِيعٌ"
لِإِيلَائِهِ،" عَلِيمٌ" بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ
مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي من امرأته، فكلهم يقول: ليس
عليه شي حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ،
فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ
عِنْدَنَا:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ" بَعْدَ انْقِضَائِهَا"
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". وَتَقْدِيرُهَا
عِنْدَهُمْ:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ" فِيهَا" فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ" بِتَرْكِ
الْفَيْئَةِ فِيهَا، يُرِيدُ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ فِيهَا"
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا احْتِمَالٌ مُتَسَاوٍ، وَلِأَجْلِ تَسَاوِيهِ
تَوَقَّفَتِ الصَّحَابَةُ فِيهِ. قُلْتُ: وَإِذَا تَسَاوَى
الِاحْتِمَالُ كَانَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَقْوَى «1»
قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ،
إِذْ كُلُّ ذَلِكَ أَجَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
فَبِانْقِضَائِهِ انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ وَأُبِينَتْ مِنْ
غَيْرِ خِلَافٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا سَبِيلٌ عَلَيْهَا
إِلَّا بِإِذْنِهَا، فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ، حَتَّى لَوْ
نَسِيَ الْفَيْءَ وَانْقَضَتِ المدة لوقع الطلاق، والله أعلم.
__________
(1). في ب: أولى.
(3/111)
|