تفسير القرطبي وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْأَمَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ فِيهَا إِيلَاءٌ،
إِذْ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طلاق، والله أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقاتُ) لَمَّا
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيلَاءَ وَأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ
يَقَعُ فِيهِ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ
التَّطْلِيقِ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:"
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ" الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقَالَ:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ"
الْآيَةَ. وَالْمُطَلَّقَاتُ لَفْظُ عُمُومٍ، وَالْمُرَادُ
بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَخَرَجَتِ
الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِآيَةِ" الْأَحْزَابِ":"
فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «1» "
عَلَى مَا يَأْتِي. وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ بِقَوْلِهِ:"
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
«2» ". وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَقْرَاءِ الِاسْتِبْرَاءُ،
بِخِلَافِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ.
وَجَعَلَ اللَّهُ عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ
وَالْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ يَئِسَتِ الشُّهُورَ عَلَى مَا
يَأْتِي. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْعُمُومَ فِي
الْمُطَلَّقَاتِ يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ ثُمَّ نُسِخْنَ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ فِيمَنْ تَحِيضُ خَاصَّةً،
وَهُوَ عُرْفُ النِّسَاءِ وَعَلَيْهِ مُعْظَمُهُنَّ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ)
التَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَهَذَا
خَبَرٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ «3» " وَجَمْعُ رَجُلٍ
عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَحَسْبُكَ دِرْهَمٌ، أَيِ اكْتَفِ
بِدِرْهَمٍ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ
خِلَافٍ بَيْنِهِمْ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ. ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ
حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وجدت مطلقة
__________
(1). راجع ج 14 ص 202.
(2). راجع ج 18 ص 162.
(3). راجع ص 160 من هذا الجزء.
(3/112)
لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ،
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَى خِلَافِ مَخْبَرِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
لِيَتَرَبَّصْنَ، فَحَذَفَ اللَّامَ. الثَّالِثَةُ قَرَأَ
جُمْهُورُ النَّاسِ" قُرُوءٍ" عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ، اللَّامُ
هَمْزَةٌ. وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ" قُرُوٍّ" بِكَسْرِ الْوَاوِ
وَشَدِّهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" قَرْءٍ"
بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ.
وَقُرُوءٌ جَمْعُ أَقْرُؤٍ وَأَقْرَاءٍ، وَالْوَاحِدُ قُرْءٌ
بِضَمِّ القاف، قال الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ:"
قَرْءٍ" بِفَتْحِ الْقَافِ، وَكِلَاهُمَا قَالَ: أَقْرَأَتِ
الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، فَهِيَ مُقْرِئٌ. وَأَقْرَأَتْ
طَهُرَتْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا
صَارَتْ صَاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ قُلْتَ: قَرَأَتْ،
بِلَا أَلِفٍ. يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ حَيْضَةً أَوْ
حَيْضَتَيْنِ. وَالْقُرْءُ: انْقِطَاعُ «1» الْحَيْضِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ. وَأَقْرَأَتْ
حَاجَتُكَ: دَنَتْ، عَنِ الجوهري. وقال أبو عمرو ابن
الْعَلَاءِ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَمِّي الْحَيْضَ قُرْءًا،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الطُّهْرَ قُرْءًا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَجْمَعُهُمَا جَمِيعًا، فَيُسَمِّي الطُّهْرَ مَعَ الْحَيْضِ
قُرْءًا، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْأَقْرَاءِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ:
هِيَ الْحَيْضُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ
وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ أَهْلُ
الْحِجَازِ: هِيَ الْأَطْهَارُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ
وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالزُّهْرِيِّ
وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ وَالشَّافِعِيِّ. فَمَنْ جَعَلَ
الْقُرْءَ اسْمًا لِلْحَيْضِ سَمَّاهُ بِذَلِكَ، لِاجْتِمَاعِ
الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِلطُّهْرِ
فَلِاجْتِمَاعِهِ فِي الْبَدَنِ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ لَكَ
هَذَا الْأَصْلَ فِي الْقُرْءِ الْوَقْتُ، يُقَالُ: هَبَّتِ
الرِّيحُ لِقُرْئِهَا وَقَارِئِهَا أَيْ لِوَقْتِهَا، قَالَ
الشَّاعِرُ «2»:
كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ «3» ... إِذَا
هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ
فَقِيلَ لِلْحَيْضِ: وَقْتٌ، وَلِلطُّهْرِ وَقْتٌ،
لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَقَالَ
الْأَعْشَى فِي الْأَطْهَارِ:
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غزوة ... تسد لِأَقْصَاهَا
عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ عِزًّا «4» وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا
ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
__________
(1). في ب وح: انقضاء.
(2). هو مالك بن الحارث الهذلي (عن اللسان).
(3). العقر: اسم موضع. وشليل: جد جرير بن عبد الله البجلي.
(4). في الديوان: مورثة مالا وفى المجد رفعة.
(3/113)
وَقَالَ آخَرُ فِي الْحَيْضِ:
يَا رَبِّ ذِي ضغن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض
يَعْنِي أَنَّهُ طَعَنَهُ فَكَانَ لَهُ دَمٌ كَدَمِ
الْحَائِضِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قُرْءِ
الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ. وَهُوَ جَمْعُهُ، وَمِنْهُ الْقُرْآنُ
لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي. وَيُقَالُ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِهِ،
وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ سَلًى قَطُّ، أَيْ لَمْ
تَجْمَعْ «1» فِي جَوْفِهَا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءِ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ
لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
فَكَأَنَّ الرَّحِمَ يَجْمَعُ الدَّمَ وَقْتَ الْحَيْضِ،
وَالْجِسْمَ يَجْمَعُهُ وَقْتَ الطُّهْرِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ
بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْءَ
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ
لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقُرْءَ مَهْمُوزٌ وَهَذَا غَيْرُ
مَهْمُوزٍ. قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ بِنَقْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ:
الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ قِرًى
(بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ). وَقِيلَ: الْقُرْءُ،
الْخُرُوجُ إِمَّا مِنْ طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ أَوْ مِنْ حَيْضٍ
إِلَى طُهْرٍ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ:
الْقُرْءُ الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ،
وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ
قُرْءًا. وَكَانَ يَلْزَمُ بِحُكْمِ الِاشْتِقَاقِ أَنْ
يَكُونَ قُرْءًا، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ". أَيْ ثَلَاثَةَ أَدْوَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ
انْتِقَالَاتٍ، وَالْمُطَلَّقَةُ مُتَّصِفَةٌ بِحَالَتَيْنِ
فَقَطْ، فَتَارَةً تَنْتَقِلُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ،
وَتَارَةً مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ فَيَسْتَقِيمُ مَعْنَى
الْكَلَامِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ
جَمِيعًا، فَيَصِيرُ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا. وَيُقَالُ: إِذَا
ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْءَ الِانْتِقَالُ فَخُرُوجُهَا مِنْ
طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ أَصْلًا،
وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ طَلَاقًا
سُنِّيًّا مَأْمُورًا بِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ،
فَإِنَّ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ مَا كَانَ فِي الطُّهْرِ،
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقُرْءِ مَأْخُوذًا مِنَ
الِانْتِقَالِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ
سُنِّيًّا فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ
انْتِقَالَاتٍ، فَأَوَّلُهَا الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ
الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَالَّذِي هُوَ
الِانْتِقَالُ مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ لَمْ يُجْعَلْ
قُرْءًا، لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ
عَرَفْنَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يُرِدِ الِانْتِقَالَ مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ، فإدا خرج
أحدهما عن أن يكون
__________
(1). في اللسان: لم تحمل في رحمها ولدا قط.
(3/114)
مُرَادًا بَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ
الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ مُرَادًا،
فَعَلَى هَذَا عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ انْتِقَالَاتٍ، أَوَّلُهَا
الطُّهْرُ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثَةِ
أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالَةِ
الطُّهْرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى الْمَجَازِ
بِوَجْهٍ مَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا نَظَرٌ
«1» دَقِيقٌ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ لِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ فِي ذَلِكَ سِرًّا
لَا يَبْعُدُ فَهْمُهُ مِنْ دَقَائِقِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ،
وَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ
إِنَّمَا جُعِلَ قُرْءًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَرَاءَةِ
الرَّحِمِ، فَإِنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ فِي الْغَالِبِ
فَبِحَيْضِهَا عُلِمَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا. وَالِانْتِقَالُ
مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ الْحَائِضَ
يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ فِي أَعْقَابِ حَيْضِهَا، وَإِذَا
تَمَادَى أَمَدُ الْحَمْلِ «2» وَقَوِيَ الْوَلَدُ انْقَطَعَ
دَمُهَا، وَلِذَلِكَ تَمْتَدِحُ الْعَرَبُ بِحَمْلِ
نِسَائِهِمْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ، وَقَدْ مَدَحَتْ عَائِشَةُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ
الشَّاعِرِ «3»:
وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ
مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيَلِ
يَعْنِي أَنَّ أُمَّهُ لَمْ تَحْمِلْ بِهِ فِي بَقِيَّةِ
حَيْضِهَا. فَهَذَا مَا لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ فِي
تَأْوِيلِ الْقُرْءِ. وَقَالُوا: قَرَأَتِ الْمَرْأَةُ قُرْءًا
إِذَا حَاضَتْ أَوْ طَهُرَتْ. وَقَرَأَتْ أَيْضًا إِذَا
حَمَلَتْ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ،
فَإِذَا قُلْتَ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، صَارَتِ الْآيَةُ
مُفَسَّرَةً فِي الْعَدَدِ مُحْتَمَلَةً فِي الْمَعْدُودِ،
فَوَجَبَ طَلَبُ الْبَيَانِ لِلْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا،
فَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ «4» " وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ
بِالطَّلَاقِ وَقْتَ الطُّهْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ
الْمُعْتَبَرُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهُ قَالَ:"
فَطَلِّقُوهُنَّ" يَعْنِي وَقْتًا تَعْتَدُّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى:" وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ". يُرِيدُ مَا تَعْتَدُّ
بِهِ الْمُطَلَّقَةُ وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي تُطَلَّقُ
فِيهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ:"
مَرَّةً فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ
ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ". أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ زَمَنَ الطُّهْرِ
هُوَ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّةٌ، وَهُوَ الَّذِي تُطَلَّقُ
فِيهِ النِّسَاءُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي حَالِ
الْحَيْضِ لَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ الْحَيْضِ، وَمَنْ طَلَّقَ
فِي حَالِ الطُّهْرِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
بِذَلِكَ الطُّهْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ أولى. قال أبو بكر
__________
(1). في ز: وهذا مطرد بين.
(2). في ج: تمادى أمر الحامل.
(3). هو أبو كبير الهذلي (عن اللسان).
(4). راجع ج 18 ص 150 [ ..... ]
(3/115)
ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَدْرَكْنَا
أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إِلَّا يَقُولُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ
فِي أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ. فَإِذَا طَلَّقَ
الرَّجُلُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِمَا
بَقِيَ مِنْهُ وَلَوْ سَاعَةً وَلَوْ لَحْظَةً، ثُمَّ
اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، ثُمَّ
ثَالِثًا بَعْدَ حَيْضَةٍ ثَانِيَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ
مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ
وَخَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ. فَإِنْ طَلَّقَ مُطَلِّقٌ فِي
طُهْرٍ قَدْ مَسَّ فِيهِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَقَدْ أَسَاءَ،
وَاعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الطُّهْرِ. وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ فِي امْرَأَةٍ طُلِّقَتْ فِي بَعْضِ طُهْرِهَا:
إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ سِوَى بَقِيَّةِ
ذَلِكَ الطُّهْرِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا
مِمَّنْ قَالَ: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ يَقُولُ هَذَا
غَيْرَ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: تُلْغِي
الطُّهْرَ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ ثُمَّ تَعْتَدُّ
بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ:" ثَلاثَةَ قُرُوءٍ". قُلْتُ: فَعَلَى قَوْلِهِ لَا
تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةِ
الرَّابِعَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَالِكٍ
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَعُلَمَاءِ
الْمَدِينَةِ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا رَأَتْ أَوَّلَ
نُقْطَةٍ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ
الْعِصْمَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ
وَابْنِ عمر، وبه قال أحمد ابن حَنْبَلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ. وَالْحُجَّةُ عَلَى
الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي طَلَاقِ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ،
وَلَمْ يَقُلْ أَوَّلَ الطُّهْرِ وَلَا آخِرَهُ. وَقَالَ
أَشْهَبُ: لَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ وَالْمِيرَاثُ حَتَّى
يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، لِئَلَّا تَكُونُ دُفْعَةَ
دَمٍ مِنْ غَيْرِ الْحَيْضِ. احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بقول
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ حِينَ
شَكَتْ إِلَيْهِ الدَّمَ:" إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ فَانْظُرِي
فَإِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي وَإِذَا مَرَّ
الْقُرْءُ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مِنَ الْقُرْءِ إِلَى
الْقُرْءِ". وَقَالَ تَعَالَى:" وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «1» ". فجعل المأيوس مِنْهُ الْمَحِيضَ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعِدَّةُ، وَجَعَلَ الْعِوَضَ
مِنْهُ هُوَ الْأَشْهُرَ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا. وَقَالَ
عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ: عِدَّةُ الْأَمَةِ
حَيْضَتَانِ، نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَلَوْ قَدَرْتُ
عَلَى أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ، وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ
مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ
الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَحَسْبُكَ مَا قَالُوا!
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ،
لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ،
يُرِيدُ كَوَامِلَ،
__________
(1). راجع ج 18 ص 162
(3/116)
وهذا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا
عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ، لِأَنَّ مَنْ
يَقُولُ: إِنَّهُ الطُّهْرُ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ
بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ آخَرَ، لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ حَالَ
الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ عِنْدَهُ بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْرِ
قُرْءًا. وَعِنْدَنَا تَسْتَأْنِفُ مِنْ أَوَّلِ الْحَيْضِ
حَتَّى يَصْدُقَ الِاسْمُ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اسْتَقْبَلَتْ
حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ
مِنَ الثَّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ. قُلْتُ: هَذَا
يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ «1» " فَأَثْبَتَ الْهَاءَ فِي"
ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ"، لِأَنَّ الْيَوْمَ مُذَكَّرٌ وَكَذَلِكَ
الْقُرْءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ. وَوَافَقَنَا
أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ حَائِضًا
أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ
فِيهَا وَلَا بِالطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا
تَعْتَدُّ بِالْحَيْضِ الَّذِي بَعْدَ الطُّهْرِ. وَعِنْدَنَا
تَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدِ
اسْتَجَازَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنِ الْبَعْضِ
بِاسْمِ الْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ" وَالْمُرَادُ بِهِ شَهْرَانِ وَبَعْضُ
الثَّالِثِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" ثَلاثَةَ قُرُوءٍ".
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِالْحَيْضِ:
إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الثَّالِثَةِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ
الْغُسْلِ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ شَرِيكٌ: إِذَا فَرَّطَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْغُسْلِ
عِشْرِينَ سَنَةً فَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا
لَمْ تَغْتَسِلْ. وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ
أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَعَنَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ.
إِلَّا أَنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى
تَغْتَسِلَ مِنْ حَيْضَتِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى:" فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ" عَلَى مَا
يَأْتِي «2». وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ
نَفْسَ الِانْتِقَالِ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضَةِ
يُسَمَّى قُرْءًا فَفَائِدَتُهُ تَقْصِيرُ الْعِدَّةِ عَلَى
الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْمَرْأَةَ فِي
آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ طُهْرِهَا فَدَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ
عَدَّتْهُ قُرْءًا، وَبِنَفْسِ الِانْتِقَالِ مِنَ الطُّهْرِ
الثَّالِثِ انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ وَحَلَّتْ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الَّتِي تَحِيضُ مِنْ طَلَاقِ
زَوْجِهَا حَيْضَتَانِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ
قَالَ: مَا أَرَى عِدَّةَ الْأَمَةِ إِلَّا كَعِدَّةِ
الْحُرَّةِ، إِلَّا أن
__________
(1). راجع ج 18 ص 259.
(2). راجع ص 186 من هذا الجزء.
(3/117)
تَكُونَ مَضَتْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ:
فَإِنَّ السُّنَّةَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَقَالَ
الْأَصَمُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ وَدَاوُدُ بْنُ
عَلِيٍّ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: إِنَّ الْآيَاتِ فِي
عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاءِ
عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، فَعِدَّةُ
الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" طَلَاقُ الْأَمَةِ
تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ". رَوَاهُ ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ
أَبِيهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا
حَيْضَتَانِ" فَأَضَافَ إِلَيْهَا الطَّلَاقَ وَالْعِدَّةَ
جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّ مُظَاهِرَ بْنَ أَسْلَمَ انْفَرَدَ
بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: أَيُّهُمَا رَقَّ نَقَصَ طَلَاقُهُ، وَقَالَتْ بِهِ
فِرْقَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحامِهِنَّ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أَيْ مِنَ الْحَيْضِ، قَالَهُ
عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ. وَقِيلَ:
الْحَمْلُ، قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ مَعًا، وَهَذَا عَلَى أَنَّ
الْحَامِلَ تَحِيضُ. وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ
أَنَّهُ لَمَّا دَارَ أَمْرُ الْعِدَّةِ عَلَى الْحَيْضِ
وَالْأَطْهَارِ وَلَا اطِّلَاعَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ
جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ
الْعِدَّةِ أَوْ عَدَمَهَا، وَجَعَلَهُنَّ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى
ذَلِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحامِهِنَّ". وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: وَلَمْ
نُؤْمَرْ أَنْ نَفْتَحَ النِّسَاءَ فَنَنْظُرُ إِلَى
فُرُوجِهِنَّ، وَلَكِنْ وُكِّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إِذْ كُنَّ
مُؤْتَمَنَاتٍ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْكِتْمَانِ
النَّهْيُ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ وَإِذْهَابِ حَقِّهِ،
فَإِذَا قَالَتِ الْمُطَلَّقَةُ: حِضْتُ، وَهِيَ لَمْ تَحِضْ،
ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنَ الِارْتِجَاعِ، وَإِذَا قَالَتْ: لَمْ
أَحِضْ، وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ، أَلْزَمَتْهُ مِنَ النَّفَقَةِ
مَا لَمْ يَلْزَمْهُ فَأَضَرَّتْ بِهِ، أَوْ تَقْصِدُ
بِكَذِبِهَا فِي نَفْيِ الْحَيْضِ أَلَّا تَرْتَجِعَ حَتَّى
تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَيَقْطَعَ الشَّرْعُ حَقَّهُ،
وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ تَكْتُمُ الْحَمْلَ، لِتَقْطَعَ حَقَّهُ
مِنَ الِارْتِجَاعِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَادَتُهُنَّ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْلَ لِيُلْحِقْنَ
الْوَلَدَ بِالزَّوْجِ الْجَدِيدِ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتِ
الْآيَةُ. وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(3/118)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حُبْلَى، وَلَسْتُ آمَنَ أَنْ
تَتَزَوَّجَ فَيَصِيرُ وَلَدِي لِغَيْرِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
الْآيَةَ، وَرُدَّتِ امْرَأَةُ الْأَشْجَعِيِّ عَلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ كُلُّ مَنْ
حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إذ قَالَتِ
الْمَرْأَةُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ: قَدْ حِضْتُ ثَلَاثَ
حِيَضٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتِي إِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ وَلَا
يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا، إِلَّا أَنْ تَقُولَ: قَدْ
أَسْقَطْتُ سَقْطًا قَدِ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ. وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمَرْأَةُ، فَقَالَ
مَالِكٌ: إِذَا قَالَتِ انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي أَمَدٍ
تَنْقَضِي فِي مِثْلِهِ الْعِدَّةُ قُبِلَ قَوْلُهَا، فَإِنْ
أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ تَقَعُ
نَادِرًا فَقَوْلَانِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا
قَالَتْ حِضْتُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ إِذَا
صَدَّقَهَا النساء، وبه قال شريح و، وَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ: قَالُونَ! أَيْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ. وَقَالَ
فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا تُصَدَّقُ إِلَّا فِي شَهْرٍ
وَنِصْفٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو
ثَوْرٍ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةٍ
وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ. وَقَالَ
النُّعْمَانُ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتِّينَ
يَوْمًا، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هَذَا
وَعِيدٌ عَظِيمٌ شَدِيدٌ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ،
وَإِيجَابٌ لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ
الرَّحِمِ بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ. أَيْ فَسَبِيلُ
الْمُؤْمِنَاتِ أَلَّا يَكْتُمْنَ الْحَقَّ، وَلَيْسَ
قَوْلُهُ:" إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ" عَلَى أَنَّهُ
أُبِيحَ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ أَنْ يَكْتُمَ، لِأَنَّ ذَلِكَ
لَا يَحِلُّ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ:
إِنْ كُنْتَ أَخِي فَلَا تَظْلِمْنِي، أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَحْجِزَكَ الْإِيمَانُ عَنْهُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ
فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) فِيهِ إِحْدَى
عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَبُعُولَتُهُنَّ) الْبُعُولَةُ جَمْعُ الْبَعْلِ، وَهُوَ
الزَّوْجُ، سُمِّيَ بَعْلًا لِعُلُوِّهِ عَلَى الزَّوْجَةِ
بِمَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْ زَوْجِيَّتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَتَدْعُونَ بَعْلًا «1» " أَيْ رَبًّا،
لِعُلُوِّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، يُقَالُ: بَعْلٌ
وَبُعُولَةٌ، كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ الذَّكَرِ: ذَكَرٌ
وَذُكُورَةٌ، وَفِي جَمْعِ الْفَحْلِ: فَحْلٌ وَفُحُولَةٌ،
وَهَذِهِ الْهَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِتَأْنِيثِ
الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ شَاذٌّ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها
__________
(1). راجع ج 15 ص 116
(3/119)
السَّمَاعُ، فَلَا يُقَالُ فِي لَعْبٍ:
لُعُوبَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ هَاءُ تَأْنِيثٍ دَخَلَتْ عَلَى
فُعُولٍ. وَالْبُعُولَةُ أَيْضًا مَصْدَرُ الْبَعْلِ. وَبَعَلَ
الرَّجُلُ يَبْعَلُ (مِثْلَ مَنَعَ يَمْنَعُ) بُعُولَةً، أَيْ
صَارَ بَعْلًا. وَالْمُبَاعَلَةُ وَالْبِعَالُ: الْجِمَاعُ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ:" إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ"
وَقَدْ تَقَدَّمَ. فَالرَّجُلُ بَعْلُ الْمَرْأَةِ،
وَالْمَرْأَةُ بَعْلَتُهُ. وَبَاعَلَ مُبَاعَلَةً إِذَا
بَاشَرَهَا. وَفُلَانٌ بَعْلُ هَذَا، أَيْ مَالِكُهُ
وَرَبُّهُ. وَلَهُ مَحَامِلُ كَثِيرَةٌ تَأْتِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى «1». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) أَيْ بِمُرَاجَعَتِهِنَّ،
فَالْمُرَاجَعَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُرَاجَعَةٌ فِي
الْعِدَّةِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَمُرَاجَعَةٌ بَعْدَ
الْعِدَّةِ عَلَى حَدِيثِ مَعْقِلٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا
فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ مَا شَمِلَهُ
الْعُمُومُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:"
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ" عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثًا، وَفِيمَا
دُونَهَا لَا خِلَافَ فِيهِ. ثُمَّ قَوْلَهُ:"
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ" حُكْمٌ خَاصٌّ فِيمَنْ كَانَ
طَلَاقُهَا دُونَ الثَّلَاثِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ،
وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ،
أَنَّهُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا
وَإِنْ كَرِهَتِ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا
الْمُطَلِّقُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ أَحَقُّ
بِنَفْسِهَا وَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ، لَا تَحِلُّ لَهُ
إِلَّا بِخِطْبَةٍ وَنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ بِوَلِيٍّ
وَإِشْهَادٍ، لَيْسَ عَلَى سُنَّةِ الْمُرَاجَعَةِ، وَهَذَا
إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَكُلُّ
مَنْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شي مِنْ
أَحْكَامِ النِّكَاحِ غَيْرَ الْإِشْهَادِ عَلَى
الْمُرَاجَعَةِ فَقَطْ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ «2» مِنْكُمْ" فَذَكَرَ
الْإِشْهَادَ فِي الرَّجْعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي
النِّكَاحِ وَلَا فِي الطَّلَاقِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَ إِجْمَاعِ
أَهْلِ الْعِلْمِ كِفَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ مَا رُوِيَ عَنِ
الْأَوَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ
الرَّجُلُ مُرَاجِعًا فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا
وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ وَجَهِلَ
أَنْ يُشْهِدَ فَهِيَ رجعة. وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطي
حَتَّى يُشْهِدَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ
__________
(1). راجع ج 12 ص 231.
(2). راجع ج 18 ص 157
(3/120)
مَا نَوَى". فَإِنْ وَطِئَ فِي الْعِدَّةِ
لَا يَنْوِي الرَّجْعَةَ فَقَالَ مَالِكٌ: يُرَاجِعُ فِي
الْعِدَّةِ وَلَا يَطَأُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ
الْفَاسِدِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنِ انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا لَمْ يَنْكِحْهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فِي
بَقِيَّةِ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ
نِكَاحُهُ، وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ
الْمَاءَ مَاؤُهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذا جامعها فقد
راجعها، وهكذا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سرين وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ
وَالثَّوْرِيُّ. قَالَ: وَيُشْهِدُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ
الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، حَكَاهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ قِيلَ:
وَطْؤُهُ مُرَاجَعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، نَوَاهَا أَوْ لَمْ
يَنْوِهَا، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اللَّيْثُ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا
فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَتَهُ بِالْخِيَارِ أَنَّ لَهُ وَطْأَهَا
فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ قَدِ ارْتَجَعَهَا بِذَلِكَ
إِلَى مِلْكِهِ، وَاخْتَارَ نَقْضَ الْبَيْعِ بِفِعْلِهِ
ذَلِكَ. وَلِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ حُكْمٌ مِنْ هَذَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- مَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ
يَنْوِي بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ كَانَتْ رَجْعَةً، وَإِنْ لَمْ
يَنْوِ بِالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ الرَّجْعَةَ كَانَ
آثِمًا، وَلَيْسَ بِمُرَاجِعٍ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُشْهِدَ
قَبْلَ أَنْ يَطَأَ أَوْ «1» قَبْلَ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ
يُبَاشِرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ
وَطِئَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى
فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ فَهِيَ رَجْعَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ. وَفِي «2» قَوْلِ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي
ثَوْرٍ لَا يَكُونُ رَجْعَةً، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَفِي" الْمُنْتَقَى" قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ
الِارْتِجَاعِ بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا بِالْفِعْلِ نَحْوَ
الْجِمَاعِ وَالْقُبْلَةِ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ:
يَصِحُّ بِهَا وَبِسَائِرِ الِاسْتِمْتَاعِ لِلَّذَّةِ. قَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ: وَمِثْلُ الْجَسَّةِ لِلَّذَّةِ، أَوْ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِهَا أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ مِنْ
مَحَاسِنِهَا إِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ، خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إِلَّا
بِالْقَوْلِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ
وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي قِلَابَةَ. الْخَامِسَةُ- قَالَ
الشَّافِعِيُّ: إِنْ جَامَعَهَا يَنْوِي الرَّجْعَةَ، أَوْ لَا
يَنْوِيهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَلَهَا عليه مهر مثلها. وقال
مالك: لا شي لَهَا، لِأَنَّهُ لَوِ ارْتَجَعَهَا لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ مهر، فلا يكون الوطي دُونَ الرَّجْعَةِ أَوْلَى
بِالْمَهْرِ مِنَ الرَّجْعَةِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا
أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مهر
__________
(1). في ز: قبل أن يطأ وقبل أن يقبل.
(2). في ز: وعلى قول مالك، وفي ح: في قول مالك، وقال الشافعي
وإسحاق إلخ.
(3/121)
الْمِثْلِ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ
قَوْلُهُ بِالْقَوِيِّ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ
وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، فَكَيْفَ يَجِبُ مهر المثل في وطئ
امْرَأَةٍ حُكْمُهَا فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا حُكْمُ
الزَّوْجَةِ! إِلَّا أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ قَوِيَّةٌ، لِأَنَّهَا عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ
إِلَّا بِرَجْعَةٍ لَهَا. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ
الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ، وَحَسْبُكَ
بِهَذَا! السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَافِرُ بِهَا
قَبْلَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ:
لَا يُسَافِرُ بِهَا حَتَّى يُرَاجِعَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا زُفَرَ فَإِنَّهُ رَوَى
عنه الحسن ابن زِيَادٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ
الرَّجْعَةِ، وَرَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، لَا
يُسَافِرُ بِهَا حَتَّى يُرَاجِعَ. السَّابِعَةُ-
وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَرَى
شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنِهَا، وَهَلْ تَتَزَيَّنُ لَهُ
وَتَتَشَرَّفُ «1»، فَقَالَ مَالِكٌ. لَا يَخْلُو مَعَهَا،
وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهَا إِلَّا وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَلَا يَنْظُرُ
إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهَا إِذَا
كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، وَلَا يَبِيتُ مَعَهَا فِي
بَيْتٍ وَيَنْتَقِلُ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا
وَلَا يَرَى شَعْرَهَا. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ فِي أَنَّهَا تَتَزَيَّنُ لَهُ وَتَتَطَيَّبُ
وَتَلْبَسُ الْحُلِيَّ وَتَتَشَرَّفُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ
تَطْلِيقَةً فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَتَلْبَسُ مَا
شَاءَتْ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُمَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَلْيَجْعَلَا بَيْنَهُمَا
سِتْرًا، وَيُسَلِّمُ إِذَا دَخَلَ، وَنَحْوُهُ عَنْ
قَتَادَةَ، وَيُشْعِرُهَا إِذَا دَخَلَ بِالتَّنَخُّمِ
وَالتَّنَحْنُحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُطَلَّقَةُ
طَلَاقًا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُطَلِّقِهَا
تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ حَتَّى يُرَاجِعَ، وَلَا يُرَاجِعُ
إِلَّا بِالْكَلَامِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الثَّامِنَةُ-
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ إِذَا قَالَ
بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: إِنِّي كُنْتُ رَاجَعْتُكَ فِي
الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ
يَمِينِهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّ
النُّعْمَانَ كَانَ لَا يَرَى يَمِينًا في النكاح ولا في
الرجمة، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ
أَمَةً وَاخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةُ، وَالزَّوْجُ
يَدَّعِي الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انقضاء العدة
__________
(1). التشرف: التطلع إلى الشيء والنظر إليه.
(3/122)
وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ وَإِنْ كَذَّبَهَا مَوْلَاهَا، هَذَا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانِ. وَقَالَ
يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَهُوَ
أَحَقُّ بِهَا. التَّاسِعَةُ- لَفْظُ الرَّدِّ يَقْتَضِي
زَوَالَ الْعِصْمَةِ، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا:
إِنَّ الرَّجْعِيَّةَ محرمة الوطي، فَيَكُونُ الرَّدُّ
عَائِدًا إِلَى الْحِلِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا- في أن الرجعة
محللة الوطي: إِنَّ الطَّلَاقَ فَائِدَتُهُ تَنْقِيصُ
الْعَدَدِ الَّذِي «1» جُعِلَ لَهُ خَاصَّةً، وَأَنَّ
أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَاقِيَةٌ لَمْ ينحل منها شي-
قَالُوا: وَأَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً
فَالْمَرْأَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ سَائِرَةٌ فِي
سَبِيلِ الزَّوَالِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالرَّجْعَةُ
رَدٌّ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي أَخَذَتِ الْمَرْأَةُ
فِي سُلُوكِهَا، وَهَذَا رَدٌّ مَجَازِيٌّ، وَالرَّدُّ الَّذِي
حَكَمْنَا بِهِ رَدٌّ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ هُنَاكَ زَوَالُ
مُسْتَنْجِزٍ وَهُوَ تَحْرِيمُ الوطي، فَوَقَعَ الرَّدُّ
عَنْهُ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- لَفْظُ"
أَحَقُّ" يُطْلَقُ عِنْدَ تَعَارُضِ حَقَّيْنِ، وَيَتَرَجَّحُ
أَحَدُهُمَا، فَالْمَعْنَى حَقُّ الزَّوْجِ فِي مُدَّةِ
التَّرَبُّصِ أَحَقُّ مِنْ حَقِّهَا بِنَفْسِهَا، فَإِنَّهَا
إِنَّمَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ،
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" الْأَيِّمُ
أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا". وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- الرَّجُلُ مَنْدُوبٌ إِلَى
الْمُرَاجَعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا قَصَدَ الْإِصْلَاحَ
بِإِصْلَاحِ حَالِهِ مَعَهَا، وَإِزَالَةِ الْوَحْشَةِ
بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَتَطْوِيلَ
الْعِدَّةِ وَالْقَطْعَ بِهَا عَنِ الْخَلَاصِ مِنْ رِبْقَةِ
النِّكَاحِ فَمُحَرَّمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا" ثُمَّ مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ، وَإِنِ ارْتَكَبَ النَّهْيَ
وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ
الْمَقْصِدَ طَلَّقْنَا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فِيهِ
ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُنَّ)
أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الرِّجَالِ
مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَتَزَيَّنُ لِامْرَأَتِي كَمَا
تَتَزَيَّنُ لِي، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنْظِفَ «2» كُلَّ
حَقِّي الَّذِي لِي عَلَيْهَا فَتَسْتَوْجِبَ حَقَّهَا الَّذِي
لَهَا عَلَيَّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" أَيْ زِينَةٌ مِنْ
غَيْرِ مَأْثَمٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُسْنِ
الصُّحْبَةِ
__________
(1). في ز: تنقيص العدد جعل له خاصة.
(2). استنظفت الشيء: إذا أخذته كله.
(3/123)
وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الطاعة فيما
أوجبه عليهن لأزواجهن. وقبل: إِنَّ لَهُنَّ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ تَرْكُ. مُضَارَّتِهِنَّ كَمَا كان ذلك عليهن
لأزواجهن. قال الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَتَّقُونَ
اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ فِيكُمْ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْآيَةُ
تَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ:" إِنِّي لَأَتَزَيَّنُ
لِامْرَأَتِي". قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَّا زِينَةُ الرِّجَالِ
فَعَلَى تَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّبَقِ «1» وَالْوِفَاقِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ
زِينَةً تَلِيقُ فِي وَقْتٍ وَلَا تَلِيقُ فِي وَقْتٍ،
وَزِينَةً تَلِيقُ بِالشَّبَابِ، وَزِينَةً تَلِيقُ
بِالشُّيُوخِ وَلَا تَلِيقُ بِالشَّبَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الشَّيْخَ وَالْكَهْلَ إِذَا حَفَّ شَارِبَهُ لِيقَ بِهِ
ذَلِكَ وَزَانَهُ، وَالشَّابَّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَمُجَ
وَمُقِتَ. لِأَنَّ اللِّحْيَةَ لَمْ تُوفِرْ بَعْدُ، فَإِذَا
حَفَّ شَارِبَهُ فِي أَوَّلِ مَا خَرَجَ وَجْهُهُ سَمُجَ،
وَإِذَا وَفَرَتْ لِحْيَتُهُ وَحُفَّ شَارِبُهُ زَانَهُ
ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ،" أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ
أُعْفِيَ لِحْيَتِي وَأُحْفِيَ شَارِبِي". وَكَذَلِكَ فِي
شَأْنِ الْكُسْوَةِ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ ابْتِغَاءُ
الْحُقُوقِ، فَإِنَّمَا يُعْمَلُ عَلَى اللَّبَقِ «2»
وَالْوِفَاقِ لِيَكُونَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ فِي زِينَةٍ
تَسُرُّهَا وَيُعِفُّهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ.
وَكَذَلِكَ الْكُحْلُ مِنَ الرِّجَالِ مِنْهُمْ مَنْ يَلِيقُ
بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ. فَأَمَّا الطِّيبُ
وَالسِّوَاكُ وَالْخِلَالُ «3» وَالرَّمْيُ بِالدَّرَنِ
وَفُضُولِ الشَّعْرِ وَالتَّطْهِيرُ وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ
فَهُوَ بَيِّنٌ مُوَافِقٌ لِلْجَمِيعِ. وَالْخِضَابُ
لِلشُّيُوخِ وَالْخَاتَمُ لِلْجَمِيعِ مِنَ الشَّبَابِ
وَالشُّيُوخِ زِينَةٌ، وَهُوَ حَلْيُ الرِّجَالِ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النَّحْلِ «4» ". ثُمَّ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَخَّى أَوْقَاتِ حَاجَتِهَا إِلَى
الرَّجُلِ فَيُعِفُّهَا وَيُغْنِيهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى
غَيْرِهِ. وَإِنْ رَأَى الرَّجُلُ مِنْ نَفْسِهِ عَجْزًا عَنْ
إِقَامَةِ حَقِّهَا فِي مَضْجَعِهَا أَخَذَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ
الَّتِي تَزِيدُ فِي بَاهِهِ «5» وَتُقَوِّي شَهْوَتَهُ حَتَّى
يُعِفَّهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أَيْ مَنْزِلَةٌ. وَمَدْرَجَةُ
الطَّرِيقِ: قَارِعَتُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّيُّ،
يُقَالُ: دَرَجُوا، أَيْ طَوَوْا عُمْرَهُمْ، وَمِنْهَا
الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى عَلَيْهَا. وَيُقَالُ: رَجُلٌ
بَيِّنُ الرَّجْلَةِ، أَيِ الْقُوَّةِ. وَهُوَ أَرْجَلُ
الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل،
__________
(1). اللبق بالفتح: اللباقة والحذق.
(2). في ح: اللائق.
(3). يريد استعمال الخلال وهو من السنة، وهو إخراج ما بين
الأسنان من فضول الطعام. [ ..... ]
(4). راجع ج 10 ص 87.
(5). في ز: مائه.
(3/124)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
أَيْ قَوِيٌّ، وَمِنْهُ الرِّجْلُ،
لِقُوَّتِهَا عَلَى الْمَشْيِ. فَزِيَادَةُ دَرَجَةِ الرَّجُلِ
بِعَقْلِهِ وَقُوَّتِهِ عَلَى «1» الْإِنْفَاقِ وَبِالدِّيَةِ
وَالْمِيرَاثِ وَالْجِهَادِ. وَقَالَ حُمَيْدٌ: الدَّرَجَةُ
اللِّحْيَةُ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا
يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَمْسَكَ عَمَّا لَا
يَعْلَمُ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى! وَلَا
يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ فَضْلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ،
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنَ
الرَّجُلِ فَهُوَ أَصْلُهَا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ
التَّصَرُّفِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَلَا تَصُومُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ وَلَا تَحُجُّ إِلَّا مَعَهُ. وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ
الصَّدَاقُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَقِيلَ: جَوَازُ
الْأَدَبِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فدرجة تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ،
وَتُشْعِرُ بِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَوْجَبُ مِنْ
حَقِّهَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"
وَلَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ
لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا". وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الدَّرَجَةُ إِشَارَةٌ إِلَى حَضِّ الرِّجَالِ
عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالتَّوَسُّعِ لِلنِّسَاءِ فِي
الْمَالِ وَالْخُلُقِ، أَيْ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَنْبَغِي أَنْ
يَتَحَامَلَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا
قَوْلٌ حَسَنٌ بَارِعٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، يُحْتَمَلُ
أَنَّهَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، لَهُ رَفْعُ الْعَقْدِ
دُونَهَا، وَيَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ إِلَى الْفِرَاشِ، وَلَا
يَلْزَمُهُ إِجَابَتُهَا. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" أَيُّمَا امْرَأَةٍ دَعَاهَا زَوْجُهَا
إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ
حَتَّى تُصْبِحَ". (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) أَيْ مَنِيعُ
السُّلْطَانِ لَا مُعْتَرِضَ عَلَيْهِ. (حَكِيمٌ) أَيْ عَالِمٌ
مُصِيبٌ فيما يفعل.
[سورة البقرة (2): آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
__________
(1). في ب: وبالإنفاق.
(3/125)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فِيهِ
سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الطَّلاقُ
مَرَّتانِ) ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمُ
الْعِدَّةَ مَعْلُومَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَكَانَ هَذَا فِي
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بُرْهَةً، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِذَا كَادَتْ
تَحِلُّ مِنْ طَلَاقِهِ رَاجَعَهَا مَا شَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ
لِامْرَأَتِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا آوِيكِ وَلَا أَدَعُكِ تَحِلِّينَ،
قَالَتْ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا مُضِيُّ
عِدَّتِكِ رَاجَعْتُكِ. فَشَكَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ إِلَى
عَائِشَةَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ بَيَانًا لِعَدَدِ الطَّلَاقِ الَّذِي لِلْمَرْءِ
فِيهِ أَنْ يَرْتَجِعَ دُونَ تَجْدِيدِ مَهْرٍ وَوَلِيٍّ،
وَنَسَخَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قَالَ مَعْنَاهُ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ:
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ التَّعْرِيفُ بِسُنَّةِ الطَّلَاقِ،
أَيْ مَنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي
الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا تَرَكَهَا غَيْرَ مَظْلُومَةٍ شَيْئًا
مِنْ حَقِّهَا، وَإِمَّا أَمْسَكَهَا مُحْسِنًا عِشْرَتَهَا،
وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الثَّانِيَةُ- الطَّلَاقُ هُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ
الْمُنْعَقِدَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَالطَّلَاقُ مُبَاحٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِغَيْرِهَا،
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:"
فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ" وَقَدْ طَلَّقَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ
ثُمَّ رَاجَعَهَا، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا
فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ أَنَّهُ مُطَلِّقٌ
لِلسُّنَّةِ، وَلِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهَا، وَأَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا
بِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ
فَهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الْخُطَّابِ. فَدَلَّ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ
مُبَاحٌ غَيْرُ مَحْظُورٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَيْسَ
فِي الْمَنْعِ مِنْهُ خَبَرٌ يَثْبُتُ. الثَّالِثَةُ- رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ" حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ الدُّولَابِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ
مَالِكٍ اللَّخْمِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ وَلَا
خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ
لِمَمْلُوكِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ حُرٌّ
(3/126)
وَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهُ وَإِذَا قَالَ
الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ". حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. قَالَ
حُمَيْدٌ قَالَ لِي يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَأَيُّ حَدِيثٍ
لَوْ كَانَ حُمَيْدُ ابن مَالِكٍ اللَّخْمِيُّ مَعْرُوفًا!
قُلْتُ: هُوَ جَدِّي! قَالَ يَزِيدُ: سَرَرْتَنِي، الْآنَ
صَارَ حَدِيثًا! ". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ رَأَى
الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ طَاوُسٌ وَحَمَّادٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا
يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي
الطَّلَاقِ خَاصَّةً. قَالَ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَقُولُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ) ابْتِدَاءٌ، وَالْخَبَرُ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ،
وَيَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ،
أَيْ فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ فَالْوَاجِبُ
عَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" فَإِمْسَاكًا" عَلَى
الْمَصْدَرِ. وَمَعْنَى" بِإِحْسانٍ" أَيْ لَا يَظْلِمُهَا
شَيْئًا مِنْ حَقِّهَا، وَلَا يَتَعَدَّى فِي قَوْلٍ.
وَالْإِمْسَاكُ: خِلَافُ الْإِطْلَاقِ. وَالتَّسْرِيحُ:
إِرْسَالُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ،
لِيَخْلُصَ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ. وَسَرَّحَ الْمَاشِيَةَ:
أَرْسَلَهَا. وَالتَّسْرِيحُ يَحْتَمِلُ لَفْظُهُ
مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا- تَرْكُهَا حَتَّى تَتِمَّ
الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَكُونُ أَمْلَكَ
لِنَفْسِهَا، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَالِثَةً
فَيُسَرِّحُهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ
وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ أَصَحُّ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا- مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
الطَّلاقُ مَرَّتانِ" فلم صار ثلاثا؟ قال:" فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ- فِي رِوَايَةٍ- هِيَ
الثَّالِثَةُ". ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. الثَّانِي- إِنَّ
التَّسْرِيحَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَدْ قُرِئَ" إِنْ عَزَمُوا السَّرَاحَ". الثَّالِثَةُ- أَنَّ
فَعَّلَ تَفْعِيلًا يُعْطِي أَنَّهُ أَحْدَثَ فِعْلًا
مُكَرَّرًا عَلَى الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ فِي
التَّرْكِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّفْعِيلِ،
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
قَوْلَهُ تَعَالَى:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" هِيَ
الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَإِيَّاهَا
عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ".
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً
أَوْ طَلْقَتَيْنِ
فَلَهُ
(3/127)
مُرَاجَعَتُهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا
الثَّالِثَةَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ، وَكَانَ هَذَا مِنْ مُحْكَمِ الْقُرْآنِ الَّذِي
لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَأْوِيلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
أَخْبَارِ الْعُدُولِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ
قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي
رَزِينٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" فَأَيْنَ
الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ". وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ «1» وَغَيْرُهُ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ مِثْلَهُ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ هَذَا الْخَبَرَ
وَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ،
وَرَجَّحَ قَوْلَ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَأَنَّ
الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ إِنَّمَا هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي
مَسَاقِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ". فَالثَّالِثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي صُلْبِ «2» هَذَا
الْخِطَابِ، مُفِيدَةٌ لِلْبَيْنُونَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ
قَوْلِهِ:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" عَلَى فَائِدَةٍ
مُجَدَّدَةٍ، وَهُوَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِالثِّنْتَيْنِ
عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ
مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ الْمُوجِبِ
لِلتَّحْرِيمِ، وَنَسْخُ مَا كَانَ جَائِزًا مِنْ إِيقَاعِ
الطَّلَاقِ بِلَا عَدَدٍ مَحْصُورٍ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ:"
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" هُوَ الثَّالِثَةَ لَمَا أَبَانَ
عَنِ الْمَقْصِدِ فِي إِيقَاعِ التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ،
إِذْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمَا دَلَّ عَلَى وُقُوعِ
الْبَيْنُونَةِ الْمُحَرِّمَةِ لَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ،
وَإِنَّمَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ
طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ". فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مَعْنَى
قَوْلِهِ:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" الثَّالِثَةَ، وَلَوْ
كَانَ قَوْلُهُ:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" بِمَعْنَى
الثَّالِثَةِ كَانَ قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ:" فَإِنْ
طَلَّقَها" الرَّابِعَةُ، لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ،
وَقَدِ اقْتَضَى طَلَاقًا مُسْتَقْبِلًا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ
عِدَّتُهَا. الْخَامِسَةُ- تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى
هَذِهِ الْآيَةِ" بَابُ مَنْ أَجَازَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" وَهَذَا إِشَارَةٌ منه
إلى أن هذا
__________
(1). في بعض الأصول:" الترمذي" والتصويب عن كتاب" الاستذكار"
لابي عمر بن عيد البر.
(2). في ح: صلة.
(3/128)
التعديد إنما هو فسخه لَهُمْ، فَمَنْ
ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى لُزُومِ إِيقَاعِ
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ
جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَشَذَّ طَاوُسٌ وَبَعْضُ أَهْلِ
الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ
وَاحِدَةٍ يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد ابن إِسْحَاقَ
وَالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَقِيلَ عَنْهُمَا: لَا يلزم
منه شي، وَهُوَ قَوْلُ «1» مُقَاتِلٍ. وَيُحْكَى عَنْ دَاوُدَ
أَنَّهُ قَالَ لَا يَقَعُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَجَّاجِ
بْنِ أَرْطَاةَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ
لَازِمٌ وَاقِعٌ ثَلَاثًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوقِعَ
ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً فِي كَلِمَةٍ أَوْ مُتَفَرِّقَةً فِي
كَلِمَاتٍ، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
منه شي فَاحْتَجَّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ". وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا مَا خُصَّ
مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ"
وَالثَّالِثَةُ" فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ". وَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ فَلَا
يَلْزَمُ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَاحِدَةً
فَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا- حَدِيثُ
ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ
وَعِكْرِمَةَ. وَثَانِيهَا- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى
رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا،
وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا
وَاحْتُسِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ. وَثَالِثُهَا- أَنَّ رُكَانَةَ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْعَتِهَا،
وَالرَّجْعَةُ تَقْتَضِي وُقُوعَ وَاحِدَةٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ
الْأَحَادِيثِ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أن سعيد ابن
جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدًا وَعَطَاءً وَعَمْرَو بْنَ دِينَارٍ
وَمَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ
الْبُكَيْرِ وَالنُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ رَوَوْا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَنَّهُ
قَدْ عَصَى رَبَّهُ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا
يَنْكِحُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَفِيمَا رَوَاهُ هَؤُلَاءِ
الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّا يُوَافِقُ
الْجَمَاعَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى وَهْنِ رِوَايَةِ طَاوُسٍ
وَغَيْرِهِ، وَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِيُخَالِفَ
الصَّحَابَةَ إِلَى رَأْيِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ
عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ
وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي
ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ
الْبَاجِيُّ:" وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ
طَاوُسٍ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ
الْأَئِمَّةُ: مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا،
وَابْنُ طَاوُسٍ إِمَامٌ. والحديث الذي يشيرون إليه هو
__________
(1). في ب: مذهب مقاتل.
(3/129)
مَا رَوَاهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
طلاق الثلاث واحدة، فقأ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ
النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ
أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ! فَأَمْضَاهُ
عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يُوقِعُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَدَلَ إِيقَاعِ النَّاسِ
الْآنَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا
التَّأْوِيلِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ
اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ،
فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ أَحْدَثُوا فِي الطَّلَاقِ
اسْتِعْجَالَ أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ كان
ذلك حالهم فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ، وَلَا عَابَ
عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ
فِيهِ أَنَاةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ
مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ
أَفْتَى بِلُزُومِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِمَنْ أَوْقَعَهَا
مُجْتَمِعَةٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ
طَاوُسٍ فَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَإِنْ حُمِلَ حَدِيثُ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ من لا يعبأ بقول
فَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ
وَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ
الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ مَنْ يَمْلِكُهُ
فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ، أَصْلُ ذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَهُ
مُفْرَدًا". قُلْتُ: مَا تَأَوَّلَهُ الْبَاجِيُّ هُوَ الَّذِي
ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ عَنْ عُلَمَاءِ
الْحَدِيثِ، أَيْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ طَلْقَةً
وَاحِدَةً هَذَا الَّذِي يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا، أَيْ مَا
كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً، وَإِنَّمَا
كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي جَمِيعِ الْعِدَّةِ وَاحِدَةً إِلَى
أَنْ تَبِينَ وَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. وَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ
كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ
أَكْثَرُوا أَيَّامَ عُمَرَ مِنْ إِيقَاعٍ الثَّلَاثِ. قَالَ
الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ الرَّاوِي:
إِنَّ النَّاسَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ اسْتَعْجَلُوا الثَّلَاثَ
فَعَجَّلَ عَلَيْهِمْ، مَعْنَاهُ أَلْزَمَهُمْ حُكْمَهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ
رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ طَرِيفِ بْنِ نَاصِحٍ
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَهِيَ، حَائِضٌ، فَقَالَ لِي:
أَتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: طَلَّقْتُ
امْرَأَتِي ثَلَاثًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وهى حائض «1»]
__________
(1). زيادة عن سنن الدارقطني.
(3/130)
فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السُّنَّةِ. فَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: كُلُّهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ، وَالْمَحْفُوظُ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً فِي
الْحَيْضِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَكَانَ تَطْلِيقُهُ
إِيَّاهَا فِي الْحَيْضِ وَاحِدَةً غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ
السُّنَّةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَمُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَلَيْثُ بْنُ
سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَابِرٌ
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ:
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً. وَكَذَا
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَيُونُسُ ابن
جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ. وَأَمَّا حَدِيثُ
رُكَانَةَ فَقِيلَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ مُنْقَطِعٌ،
لَا يَسْتَنِدُ مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ، رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ، بَنِي أَبِي
رَافِعٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ
رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أَرْجِعْهَا". وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ
عَنْ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ
يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَاسْتَحْلَفَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
أَرَادَ بِهَا؟ فَحَلَفَ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً،
فَرَدَّهَا إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ويحتج بِشَيْءٍ
مِنْ مِثْلِ هَذَا. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ
مِنْ طُرُقٍ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، قَالَ فِي
بَعْضِهَا:" حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مِرْدَاسٍ
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ وَأَبُو ثَوْرٍ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ وَآخَرُونَ قَالُوا:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ حَدَّثَنِي
عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ عَنْ نَافِعِ بْنِ
عُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ «1»: أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ
عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْمُزَنِيَّةَ
الْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا
وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً"؟
فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا
وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي
زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَانِ
عُثْمَانَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ".
فَالَّذِي صَحَّ مِنْ حَدِيثِ رُكَانَةَ أَنَّهُ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ لَا ثَلَاثًا، وَطَلَاقُ الْبَتَّةَ
قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فَسَقَطَ
الِاحْتِجَاجُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ «2»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال أبو عمر:
__________
(1). في الدارقطني: ابن عبد يزيد بن ركانة. إلخ.
(2). في ح،: فسقط الاحتجاج بغيره.
(3/131)
رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ
رُكَانَةَ عَنْ عَمِّهِ أَتَمُّ، وَقَدْ زَادَ زِيَادَةً لَا
تَرُدُّهَا الْأُصُولُ، فَوَجَبَ قَبُولُهَا لِثِقَةِ
نَاقِلِيهَا، وَالشَّافِعِيُّ وَعَمُّهُ وَجَدُّهُ أَهْلُ
بَيْتِ رُكَانَةَ، كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْقِصَّةِ الَّتِي
عَرَضَتْ لَهُمْ. فَصْلٌ- ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مُغِيثٍ الطُّلَيْطِلِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي
وَثَائِقِهِ فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَنْقَسِمُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
طَلَاقُ سُنَّةٍ، وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ. فَطَلَاقُ السُّنَّةِ
هُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ
إِلَيْهِ. وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ نَقِيضُهُ، وَهُوَ أَنْ
يُطَلِّقَهَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي
كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ. ثُمَّ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى
أَنَّهُ مُطَلِّقٌ، كَمْ يَلْزَمُهُ مِنَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَلْزَمُهُ
طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ:
قَوْلُهُ ثَلَاثًا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ قَوْلُهُ فِي ثَلَاثٍ
إِذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ: طَلَّقْتُ
ثَلَاثًا فَيَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ
كَانَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ، كَرَجُلٍ قَالَ:
قَرَأْتُ أَمْسَ سُورَةَ كَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ
يَصِحُّ، وَلَوْ قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ:
قَرَأْتُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَاذِبًا. وَكَذَلِكَ لَوْ
حَلَفَ بِاللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ
ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ فَقَالَ: أَحْلِفُ
بِاللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إِلَّا يَمِينًا واحدة
والطلاق مثله. وقال الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ كُلَّهُ عَنِ
ابْنِ وَضَّاحٍ، وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخِ قُرْطُبَةَ ابْنُ
زِنْبَاعٍ شَيْخُ هَدْيٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ بْنِ
مَخْلَدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَسَنِيُّ
فَرِيدُ وَقْتِهِ وَفَقِيهُ عَصْرِهِ وَأَصْبَغُ بْنُ
الْحُبَابِ وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ. وَكَانَ مِنْ حُجَّةِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ «1» فِي كِتَابِهِ
لَفْظَ الطَّلَاقِ فَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ:" الطَّلاقُ
مَرَّتانِ" يُرِيدُ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ الَّذِي يَكُونُ
بَعْدَهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الرَّجْعَةُ فِي
الْعِدَّةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ"
يُرِيدُ تَرْكَهَا بِلَا ارْتِجَاعٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ
عِدَّتُهَا، وَفِي ذَلِكَ إِحْسَانٌ إِلَيْهَا إِنْ وَقَعَ
نَدَمٌ بَيْنَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً «2» ". يُرِيدُ
النَّدَمَ عَلَى الْفُرْقَةِ وَالرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ،
وَمَوْقِعُ الثَّلَاثِ غَيْرُ حَسَنٍ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ
الْمَنْدُوحَةِ الَّتِي وَسَّعَ اللَّهُ بِهَا وَنَبَّهَ
عَلَيْهَا، فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الطَّلَاقَ
مُفَرَّقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جُمِعَ أنه لفظ
__________
(1). في ب: فرض.
(2). راجع ج 18 ص 147
(3/132)
وَاحِدٌ، وَقَدْ يُخَرَّجُ بِقِيَاسٍ مِنْ
غَيْرِ مَا مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: مَالِي صَدَقَةٌ فِي
الْمَسَاكِينِ أَنَّ الثُّلُثَ يُجْزِيهِ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي
الْإِشْرَافِ لِابْنِ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَعَطَاءٌ وَعَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: مَنْ طَلَّقَ الْبِكْرَ ثَلَاثًا
فَهِيَ وَاحِدَةٌ. قُلْتُ: وَرُبَّمَا اعْتَلُّوا فَقَالُوا:
غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، فَإِذَا
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَدْ بَانَتْ بِنَفْسِ
فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَيَرِدُ" ثَلَاثًا"
عَلَيْهَا وَهَى بَائِنٌ فَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ
قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ
أَلَّا تَقِفَ الْبَيْنُونَةُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا
عَلَى مَا يَرِدُ «1» بَعْدَهُ، أَصْلُهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ
طَالِقٌ. السَّادِسَةُ- اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" وَقَوْلِهِ:" أَوْ-
سَرِّحُوهُنَّ «2» " عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ صَرِيحِ
الطَّلَاقِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى، فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ
الصَّرِيحَ مَا تَضَمَّنَ لَفْظَ الطَّلَاقِ عَلَى أَيِّ
وَجْهٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ
مُطَلَّقَةٌ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوِ الطَّلَاقُ لَهُ
لَازِمٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ مِمَّا
يُسْتَعْمَلُ فِيهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: صَرِيحُ
أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَثِيرَةٌ، وَبَعْضُهَا أَبْيَنُ مِنْ
بَعْضٍ: الطَّلَاقُ وَالسَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ وَالْحَرَامُ
وَالْخَلِيَّةُ وَالْبَرِّيَّةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
الصَّرِيحُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ، وَهُوَ مَا وَرَدَ بِهِ
الْقُرْآنُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «3» "
وَقَالَ:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" وَقَالَ:"
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ". قُلْتُ: وَإِذَا تَقَرَّرَ
هَذَا فَالطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ،
فَالصَّرِيحُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْكِنَايَةُ مَا عَدَاهُ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَفْتَقِرُ
إِلَى نِيَّةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ يَقَعُ الطَّلَاقُ،
وَالْكِنَايَةُ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَالْحُجَّةُ لِمَنْ
قَالَ: إِنَّ الْحَرَامَ وَالْخَلِيَّةَ وَالْبَرِّيَّةَ مِنْ
صَرِيحِ الطَّلَاقِ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّلَاقِ
حَتَّى عُرِفَتْ بِهِ، فَصَارَتْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً فِي
إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، كَالْغَائِطِ الَّذِي وُضِعَ
لِلْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ عَلَى
وَجْهِ الْمَجَازِ فِي إِتْيَانِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَكَانَ
فِيهِ أبين
__________
(1). في ز: على ما يراد به بعده.
(2). راجع ج 14 ص 204.
(3). راجع ج 18 ص 157 [ ..... ]
(3/133)
وَأَظْهَرَ وَأَشْهَرَ مِنْهُ فِيمَا
وُضِعَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ. ثُمَّ
إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ قَالَ:" لَوْ كَانَ
الطَّلَاقُ أَلْفًا مَا أَبْقَتِ الْبَتَّةَ مِنْهُ شَيْئًا،
فَمَنْ قَالَ: الْبَتَّةَ، فَقَدْ رَمَى الْغَايَةَ
الْقُصْوَى" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ. وَقَدْ رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْخَلِيَّةُ
وَالْبَرِّيَّةُ وَالْبَتَّةُ وَالْبَائِنُ وَالْحَرَامُ
ثَلَاثٌ، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ الْبَتَّةَ ثَلَاثٌ، مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ
لِينٌ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَيَأْتِي عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً"
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «1». السَّابِعَةُ- لَمْ
يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ
طَلَّقْتُكِ، إِنَّهُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ فِي
الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَمَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ
يَنْوِيَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثًا لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا
فَهِيَ وَاحِدَةٌ تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ
طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُقْبَلْ
قَوْلُهُ وَلَزِمَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ
عَلَى صِدْقِهِ. وَمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، لَا
رَجْعَةَ لِي عَلَيْكِ فَقَوْلُهُ:" لَا رَجْعَةَ لِي
عَلَيْكِ" بَاطِلٌ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ لِقَوْلِهِ وَاحِدَةً،
لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ ثَلَاثًا، فَإِنْ نَوَى
بِقَوْلِهِ:" لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكِ" ثَلَاثًا فَهِيَ
ثَلَاثٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوْ
أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِّيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ
حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوِ
الْحَقِي بِأَهْلِكِ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ، أَوْ
قَدْ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، أَوْ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ،
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: هُوَ طَلَاقٌ
بَائِنٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ: إِذَا قَالَ
الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ اسْتَقِلِّي بِأَمْرِكِ، أَوْ
أَمْرُكِ لَكِ، أَوِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَقَبِلُوهَا
فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَنَّهُ
مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى
نِيَّةِ قَائِلِهَا، وَيُسْأَلُ مَا أَرَادَ مِنَ الْعَدَدِ،
مَدْخُولًا بِهَا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. قَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ: وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ فِي الَّتِي لَمْ
يُدْخَلْ بِهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ
أَكْثَرَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ ثَلَاثٌ، وَمِثْلُهُ
خلعتك، أو لا ملك لي عليك.
__________
(1). راجع ص 156 من هذا الجزاء.
(3/134)
وَأَمَّا سَائِرُ الْكِنَايَاتِ فَهِيَ
ثَلَاثٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي كُلِّ مَنْ دُخِلَ بِهَا لَا
يُنَوِّي فِيهَا قَائِلَهَا، وَيُنَوِّي فِي غَيْرِ
الْمَدْخُولِ بِهَا. فَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ أَرَدْتُ وَاحِدَةً
كَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، لِأَنَّهُ لَا يُخَلِّي
الْمَرْأَةَ الَّتِي قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَلَا
يُبِينُهَا وَلَا يُبْرِيهَا إِلَّا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ.
وَالَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بها يخليها ويبريها وبينها الواحدة.
وقد روى عن مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ
قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنَّهُ يُنَوِّي
فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَيَلْزَمُهُ مِنَ
الطَّلَاقِ مَا نَوَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْبَتَّةَ
خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ أَنَّهُ لَا
يُنَوِّي فِيهَا لَا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا فِي غَيْرِ
الْمَدْخُولِ بِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ: لَهُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ
نَوَى ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ
وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا. وَإِنْ نَوَى
اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ زُفَرُ: إِنْ نَوَى
اثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ غَيْرُ مُطَلِّقٍ حَتَّى يَقُولَ: أَرَدْتُ
بِمَخْرَجِ الْكَلَامِ مِنِّي طَلَاقًا فَيَكُونُ مَا نَوَى.
فَإِنْ نَوَى دُونَ الثَّلَاثِ كَانَ رَجْعِيًّا، وَلَوْ
طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً. وَقَالَ
إِسْحَاقُ: كُلُّ كَلَامٍ يُشْبِهُ الطَّلَاقَ فَهُوَ مَا
نَوَى مِنَ الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ
تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى
طَلَاقًا بَائِنًا إِلَّا فِي خُلْعٍ أَوْ إِيلَاءٍ وَهُوَ
الْمَحْفُوظُ عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَدْ تَرْجَمَ
الْبُخَارِيُّ" بَابَ إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ
سَرَّحْتُكِ أَوِ الْبَرِّيَّةُ أَوِ الْخَلِيَّةُ أَوْ مَا
عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ". وَهَذَا
مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ
وَإِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ:" أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ مِنَ
الطَّلَاقِ" وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ
تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَ طَلَاقٍ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ
الْمُتَكَلِّمُ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا الطَّلَاقَ
فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ
النِّكَاحِ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهِ
بِيَقِينٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ
فِي مَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: اعْتَدِّي، أَوْ
قَدْ خَلَّيْتُكِ، أَوْ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، فَقَالَ
مَرَّةً: لَا يُنَوِّي فِيهَا وَهِيَ ثَلَاثٌ. وَقَالَ
مَرَّةً: يُنَوِّي فِيهَا كُلِّهَا، فِي الْمَدْخُولِ بِهَا
وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَبِهِ أَقُولُ. قُلْتُ: مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ يُنَوِّي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ،
وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(3/135)
وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُمْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ: أَنَّ رُكَانَةَ
بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ
الْبَتَّةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ:" آللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا
وَاحِدَةً"؟ فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا
وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: سَمِعْتُ
أَبَا الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ: مَا أَشْرَفَ هَذَا
الْحَدِيثَ! وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ
لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ
وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ: أَرَاهَا الْبَتَّةَ وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ.
وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ
طَلَاقٌ، وَمَا أَرَادَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ
يُرِدْ طَلَاقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَصْلُ هَذَا الْبَابِ فِي كُلِّ
كِنَايَةٍ عَنِ الطَّلَاقِ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ- لِلَّتِي
تَزَوَّجَهَا حِينَ قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ-:" قَدْ
عُذْتِ بِمُعَاذٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ". فَكَانَ ذَلِكَ
طَلَاقًا. وَقَالَ كعب ابن مَالِكٍ لِامْرَأَتِهِ حِينَ
أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِاعْتِزَالِهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
طَلَاقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ
مُفْتَقِرَةٌ إِلَى النِّيَّةِ، وَأَنَّهَا لَا يُقْضَى فِيهَا
إِلَّا بِمَا يَنْوِي اللَّافِظُ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ
الْكِنَايَاتِ الْمُحْتَمَلَاتِ لِلْفِرَاقِ وَغَيْرِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ
مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ
الْفِرَاقِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوقِعُونَ بِشَيْءٍ
مِنْهَا طَلَاقًا وَإِنْ قَصَدَهُ الْقَائِلُ. وَقَالَ
مَالِكٌ: كُلُّ مَنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ بِأَيِ لَفْظٍ كَانَ
لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، حَتَّى بِقَوْلِهِ: كُلِي وَاشْرَبِي
وَقُومِي وَاقْعُدِي، وَلَمْ يُتَابِعْ مَالِكًا عَلَى ذَلِكَ
إِلَّا أَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ
يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (. فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً (" أَنْ
" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِ" يَحِلُّ". وَالْآيَةُ خِطَابٌ
لِلْأَزْوَاجِ، نُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ
شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ
الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَلَّا يَنْفَرِدَ الرَّجُلُ
بِالضَّرَرِ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ ما آتى
(3/136)
الْأَزْوَاجُ نِسَاءَهُمْ، لِأَنَّ
الْعُرْفَ بَيْنَ «1» النَّاسِ أَنْ يَطْلُبَ الرَّجُلُ عِنْدَ
الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ لَهَا
صَدَاقًا وَجَهَازًا «2»، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالذِّكْرِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" وَلا يَحِلُّ" فَصْلٌ
مُعْتَرِضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ"
وَبَيْنَ قَوْلِهِ:" فَإِنْ طَلَّقَها". الثَّانِيَةُ-
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْفِدْيَةِ عَلَى
الطَّلَاقِ جَائِزٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْظِيرِ أَخْذِ مَا
لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ وَفَسَادُ الْعِشْرَةِ
مِنْ قِبَلِهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ النُّعْمَانِ
أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاءَ الظُّلْمُ وَالنُّشُوزُ مِنْ
قِبَلِهِ وَخَالَعَتْهُ فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ وَهُوَ آثِمٌ،
لَا يَحِلُّ لَهُ مَا صَنَعَ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّ مَا
أَخَذَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ
خِلَافُ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَخِلَافُ الْخَبَرِ
الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَخِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَحْسَبُ أَنْ لَوْ قِيلَ
لِأَحَدٍ: اجْهَدْ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الْخَطَإِ مَا وَجَدَ
أَمْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَنْطِقَ الْكِتَابُ بِتَحْرِيمِ
شي ثُمَّ يُقَابِلُهُ مُقَابِلٌ بِالْخِلَافِ نَصًّا،
فَيَقُولُ: بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ: وَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّ
مَا أَخَذَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: وَرَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ
خِلَافُ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخِلَافُ حَدِيثِ
امْرَأَةِ ثَابِتٍ، وَسَيَأْتِي. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ) حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا
يَأْخُذَ إِلَّا بَعْدَ الْخَوْفِ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ، وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِالْوَعِيدِ لِمَنْ تَعَدَّى
الْحَدَّ. وَالْمَعْنَى أَنْ يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيمَ حَقَّ النِّكَاحِ لِصَاحِبِهِ
حَسَبَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهَةٍ يَعْتَقِدُهَا،
فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَفْتَدِيَ، وَلَا حَرَجَ
عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ. وَالْخِطَابُ لِلزَّوْجَيْنِ.
وَالضَّمِيرُ فِي" أَنْ يَخافا" لَهُمَا، وَ" أَلَّا يُقِيما"
مَفْعُولٌ بِهِ. وَ" خِفْتُ" يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ
وَاحِدٍ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْخَوْفُ هُوَ بِمَعْنَى
الْعِلْمِ، أَيْ أَنْ يَعْلَمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الْخَوْفِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ
الْإِشْفَاقُ مِنْ وُقُوعِ الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ
مَعْنَى الظَّنِّ. ثُمَّ قِيلَ:" إِلَّا أَنْ يَخافا"
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ مِنْهُنَّ
نُشُوزٌ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ" إِلَّا أَنْ يُخَافَا" بِضَمِّ الْيَاءِ
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ
وَهُوَ الْوُلَاةُ وَالْحُكَّامُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ. قَالَ: لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" فَإِنْ خِفْتُمْ"
__________
(1). في ب: من الناس.
(2). في ح وب: حبا.
(3/137)
قَالَ: فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ
الزَّوْجَيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجَيْنِ لَقَالَ: فَإِنْ
خَافَا، وَفِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ إِلَى
السُّلْطَانِ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ. وَقَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ
لِقَتَادَةَ: عَمَّنْ أَخَذَ الْحَسَنُ الْخُلْعَ إِلَى
السُّلْطَانِ؟ قَالَ: عَنْ زِيَادٍ، وَكَانَ وَالِيًا لِعُمَرَ
وَعَلِيٍّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ
زِيَادٍ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الرَّجُلَ
إِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا
يَتَرَاضَيَانِ بِهِ، وَلَا يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى
ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هَذَا إِلَى
السُّلْطَانِ. وَقَدْ أُنْكِرَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ
وَرُدَّ، وَمَا عَلِمْتُ فِي اخْتِيَارِهِ شَيْئًا أَبْعَدَ
مِنْ هَذَا الْحَرْفِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ الْإِعْرَابُ
وَلَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى. أَمَّا الْإِعْرَابُ
فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ" إِلَّا أَنْ
يَخَافَا" تَخَافُوا، فَهَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ إِذَا رُدَّ
إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ قِيلَ: إِلَّا أَنْ يَخَافَ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ" يَخافا" وَجَبَ
أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ خِيفَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ"
فَإِنْ خِفْتُمْ" وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يخاف غيركم ولم يقل عز وجل: فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ مِنْهَا فِدْيَةً،
فَيَكُونُ الْخُلْعُ إِلَى السُّلْطَانِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ:
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ
جَوَازُهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَكَمَا جَازَ الطَّلَاقُ
وَالنِّكَاحُ دُونَ السُّلْطَانِ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ، وَهُوَ
قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما) أَيْ
عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَا. (حُدُودَ اللَّهِ) أَيْ فِيمَا
يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ حسن الصحبة وجمل الْعِشْرَةِ.
وَالْمُخَاطَبَةُ لِلْحُكَّامِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ لِمِثْلِ
هَذَا الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا. وَتَرْكُ
إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ هُوَ اسْتِخْفَافُ الْمَرْأَةِ
بِحَقِّ زَوْجِهَا، وَسُوءُ طَاعَتِهَا إِيَّاهُ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ
وَقَوْمٌ مَعَهُ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لَا أُطِيعُ لَكَ
أَمْرًا، وَلَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَا أَبِرُّ
لَكَ قَسَمًا، حَلَّ الْخُلْعُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:" أَلَّا
يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ" أَلَّا يُطِيعَا اللَّهَ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْمُغَاضَبَةَ تَدْعُو إِلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يَحِلُّ الْخُلْعُ
وَالْأَخْذُ أَنْ تَقُولَ
(3/138)
الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: إِنِّي
أَكْرَهُكَ وَلَا أُحِبُّكَ، وَنَحْوَ هَذَا (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا
دِينٍ وَلَكِنْ لَا أُطِيقُهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ
حَدِيقَتَهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعِيبُ عَلَى
ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ
فِي الْإِسْلَامِ، لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا! فَقَالَ لَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَتَرُدِّينَ
عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ. فَيُقَالُ: إِنَّهَا
كَانَتْ تُبْغِضُهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا
أَشَدَّ الْحُبِّ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْخُلْعِ، فَكَانَ
أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَالَعَ فِي الْإِسْلَامِ أُخْتُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
لَا يَجْتَمِعُ رَأْسِي وَرَأْسُهُ أَبَدًا، إِنِّي رَفَعْتُ
جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ إِذْ
هُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً،
وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا! فَقَالَ:" أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ
حَدِيقَتَهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَإِنْ شَاءَ زِدْتُهُ،
فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي
الْخُلْعِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ مَالِكٌ:
لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ
الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ أَنَّ
الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَرْأَةِ وَلَمْ يُسِئْ
إِلَيْهَا، وَلَمْ تُؤْتَ مِنْ قِبَلِهِ، وَأَحَبَّتْ
فِرَاقَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا كُلَّ
مَا افْتَدَتْ بِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَإِنْ
كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ بِأَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا
وَيَضُرَّهَا رَدَّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا. وَقَالَ
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ: سَأَلْتُ بَكْرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ عَنِ الرَّجُلِ تُرِيدُ
امْرَأَتُهُ أَنْ تُخَالِعَهُ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ
عَزَّ
وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ:" فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ"؟ قَالَ: نُسِخَتْ. قُلْتُ: فَأَيْنَ جُعِلَتْ؟ قَالَ:
فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ":" وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ
زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ
(3/139)
قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
«1» ". قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، خَارِجٌ عَنِ
الْإِجْمَاعِ لِشُذُوذِهِ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ
دَافِعَةً لِلْأُخْرَى فَيَقَعُ النَّسْخُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ"
فَإِنْ خِفْتُمْ" الْآيَةَ، لَيْسَتْ بِمُزَالَةٍ بِتِلْكَ
الْآيَةِ، لِأَنَّهُمَا إِذَا خَافَا هَذَا لَمْ يَدْخُلِ
الزَّوْجُ فِي" وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ
زَوْجٍ" لِأَنَّ هَذَا لِلرِّجَالِ خَاصَّةً. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ
بَكْرٍ: إِنْ أَرَادَتْ هِيَ الْعَطَاءَ فَقَدْ جَوَّزَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتٍ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إِلَيْهَا كَمَا
تَقَدَّمَ. الْخَامِسَةُ- تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ
رَأَى اخْتِصَاصَ الْخُلْعِ بِحَالَةِ الشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ،
وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخُلْعِ، وَعُضِّدَ هَذَا بِمَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ
سَهْلٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ
فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ نُغْضَهَا «2»، فَأَتَتْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصُّبْحِ
فَاشْتَكَتْ إِلَيْهِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فَقَالَ:" خُذْ بَعْضَ مَالِهَا
وَفَارِقْهَا". قَالَ: وَيَصْلُحُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ:" نَعَمْ". قَالَ: فَإِنِّي أَصْدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ
وَهُمَا بِيَدِهَا «3»، فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُذْهُمَا وَفَارِقْهَا" فَأَخَذَهُمَا
وَفَارَقَهَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُلْعُ مِنْ غَيْرِ
اشْتِكَاءِ ضَرَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ
الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ
فِيهَا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَذْكُرْهَا عَلَى
جِهَةِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِأَنَّهُ الْغَالِبُ
مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ، فَخَرَجَ الْقَوْلُ عَلَى
الْغَالِبِ، وَالَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «4» ". السَّادِسَةُ-
لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ" دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ
بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي هَذَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمْ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ أَنْ تَفْتَدِيَ
مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، كَانَ أَقَلَّ مِمَّا
أعطاها أو أكثر منه. وروى
__________
(1). راجع ج 5 ص 98 وص 24.
(2). في الأصول:" بعضها". والتصويب عن سنن أبى داود. والنغض
(بضم النون وفتحها وسكون الغين): أعلى الكتف، وقيل: هو العظم
الرقيق الذي على طرفه.
(3). في الأصول:" مع ما بيدها" والتصويب عن سنن أبى داود.
(4). راجع ج 5 ص 98 وص 24.
(3/140)
هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وَابْنِ عُمَرَ وَقَبِيصَةَ وَالنَّخَعِيِّ. وَاحْتَجَّ
قَبِيصَةُ بِقَوْلِهِ:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ". وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أُخْتِي تَحْتَ
رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَدِيقَةٍ،
فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، فَارْتَفَعَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"
تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَيُطَلِّقُكِ"؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، وَأَزِيدُهُ. قَالَ:" رُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ
وَزِيدِيهِ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ" وَإِنْ شَاءَ
زِدْتُهُ وَلَمْ يُنْكَرْ". وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَأْخُذُ
مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، كَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ
وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ
الْقُضَاةُ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مَا سَاقَ
إِلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَاحْتَجُّوا
بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ
أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عنده زينب
عبد الله بن أبى آبن سَلُولٍ، وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً
فَكَرِهَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتُهُ"،
فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخَذَهَا لَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: قَدْ
قَبِلْتُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ،
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" لَا يَأْخَذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا
أَعْطَاهَا". السَّابِعَةُ- الْخُلْعُ عِنْدَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَعَلَى
جَمَلٍ شَارِدٍ أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ أَوْ جَنِينٍ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْغَرَرِ جَائِزٌ،
بِخِلَافِ الْبُيُوعِ وَالنِّكَاحِ. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ
بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ سَلِمَ كَانَ لَهُ، وإن لم يسلم فلا
شي لَهُ، وَالطَّلَاقُ نَافِذٌ عَلَى حُكْمِهِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: الْخُلْعُ جَائِزٌ وَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا،
وَحَكَاهُ ابْنُ خويز منداد عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لِأَنَّ
عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ إِذَا تَضَمَّنَتْ بَدَلًا فَاسِدًا
وَفَاتَتْ رُجِعَ فِيهَا إِلَى الْوَاجِبِ فِي أَمْثَالِهَا
مِنَ الْبَدَلِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْخُلْعُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْخُلْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ مَا
فِي بَطْنِ الْأَمَةِ، وَإِنْ لم يكن فيه ولد فلا شي لَهُ.
وَقَالَ فِي" الْمَبْسُوطِ" عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ
بِمَا يُثْمِرُهُ نَخْلُهُ الْعَامَ، وَمَا تَلِدُ غَنَمُهُ
الْعَامَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ،
وَالْحُجَّةُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
(3/141)
مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ عُمُومُ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ". وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مِمَّا يُمْلَكُ
بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي
الْخُلْعِ كَالْمَعْلُومِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخُلْعَ
طَلَاقٌ، وَالطَّلَاقُ يَصِحُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ أصلا، فإذا صح
على غير شي فَلَأَنْ يَصِحَّ بِفَاسِدِ الْعِوَضِ أَوْلَى،
لِأَنَّ أَسْوَأَ حَالِ الْمَبْذُولِ أَنْ يَكُونَ
كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ الَّذِي
هُوَ عَقْدُ تَحْلِيلٍ لَا يُفْسِدُهُ فَاسِدُ الْعِوَضِ
فَلَأَنْ لَا يُفْسِدَ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ إِتْلَافُ
وَحَلُّ عَقْدٍ أَوْلَى. الثَّامِنَةُ- وَلَوِ اخْتَلَعَتْ
مِنْهُ بِرَضَاعِ ابْنِهَا مِنْهُ حَوْلَيْنِ جَازَ. وَفِي
الْخُلْعِ بِنَفَقَتِهَا عَلَى الِابْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ
مُدَّةً مَعْلُومَةً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يَجُوزُ، وَهُوَ
قَوْلُ الْمَخْزُومِيِّ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونُ. وَالثَّانِي-
لَا يَجُوزُ، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنْ
شَرَطَهُ الزَّوْجُ فَهُوَ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ عَنِ
الزَّوْجَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ أَجَازَ الْخُلْعَ
عَلَى الْجَمَلِ الشَّارِدِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا. وَقَالَ
غَيْرُهُ مِنَ الْقَرَوِيِّينَ: لَمْ يَمْنَعْ مَالِكٌ
الْخُلْعَ بِنَفَقَةٍ مَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِأَجْلِ
الْغَرَرِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ
بِالْأَبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ
إِلَى غَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نَفَقَةِ
الْحَوْلَيْنِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ وَهِيَ الرَّضَاعُ
قَدْ تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ حَالَ الزَّوْجِيَّةِ وَبَعْدَ
الطَّلَاقِ إِذَا أَعْسَرَ الْأَبُ، فَجَازَ أَنْ تُنْقَلَ
هَذِهِ النَّفَقَةُ إِلَى الْأُمِّ، لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لَهَا.
وَقَدِ احْتَجَّ مَالِكٌ فِي" الْمَبْسُوطِ" عَلَى هَذَا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ". التَّاسِعَةُ- فَإِنْ وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَى
الْوَجْهِ الْمُبَاحِ بِنَفَقَةِ الِابْنِ فَمَاتَ الصَّبِيُّ
قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَهَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ
عَلَيْهَا بِبَقِيَّةِ النَّفَقَةِ، فَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ
عَنْ مَالِكٍ: لَا يَتْبَعُهَا بِشَيْءٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو
الْفَرَجِ: يَتْبَعُهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ فِي
ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ بِالْخُلْعِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ
الصَّبِيِّ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا بِمَالٍ مُتَعَلِّقٍ
بِذِمَّتِهَا، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ
لِنَفْسِهِ مَالًا يَتَمَوَّلُهُ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ
كِفَايَةَ مَئُونَةِ وَلَدِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ
تَطَوَّعَ رَجُلٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى صَبِيٍّ سَنَةً فَمَاتَ
الصَّبِيُّ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ
إِنَّمَا قَصَدَ بِتَطَوُّعِهِ تَحَمُّلَ مَئُونَتِهِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مَالِكٌ
: لَمْ أَرَ أَحَدًا يَتَّبِعُ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَوِ
اتَّبَعَهُ لَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ.
(3/142)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِنْ مَاتَتْ
فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي مَالِهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ
فِيهِ قَبْلَ مَوْتِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهَا.
الْعَاشِرَةُ- وَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي
الْخُلْعِ نَفَقَةَ حَمْلِهَا وَهِيَ لا شي لَهَا فَعَلَيْهِ
النَّفَقَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ تُنْفِقُ مِنْهُ،
وَإِنْ أَيْسَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّبَعَهَا بِمَا أَنْفَقَ
وَأَخَذَهُ مِنْهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَمِنَ الْحَقِّ أَنْ
يُكَلَّفَ الرَّجُلُ نَفَقَةَ وَلَدِهِ وَإِنِ اشْتَرَطَ عَلَى
أُمِّهِ نَفَقَتَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَا تُنْفِقُ
عَلَيْهِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ، فَرُوِيَ عَنْ
عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ
التَّابِعِينَ: هُوَ طَلَاقٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَمَنْ
نَوَى بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ
ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ
نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى
اثْنَتَيْنِ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ [لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ
وَاحِدَةٌ «1»]. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ:
إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ طَلَاقًا وَسَمَّاهُ فَهُوَ طَلَاقٌ،
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا سَمَّى لَمْ تَقَعْ
فُرْقَةٌ، قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ. وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ
أَحَبُّ إِلَيَّ. الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا لَمْ يُسَمِّ الطَّلَاقَ
فَالْخُلْعُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنْ سَمَّى
تَطْلِيقَةً فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَالزَّوْجُ أَمْلَكُ
بِرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَمِمَّنْ قَالَ:
إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا أَنْ
يَنْوِيَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ
وَأَحْمَدُ. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَهُ:
رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ
مِنْهُ أَيَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ لِيَنْكِحَهَا، لَيْسَ
الْخُلْعُ بِطَلَاقٍ، ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقَ
فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، وَالْخُلْعَ فِيمَا بَيْنَ
ذَلِكَ، فَلَيْسَ الْخُلْعُ بِشَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ:" الطَّلاقُ
مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ".
ثُمَّ قَرَأَ" فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ". قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ طَلَاقًا لَكَانَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ
ثَالِثًا، وَكَانَ قَوْلُهُ:" فَإِنْ طَلَّقَها" بَعْدَ ذَلِكَ
دَالًّا عَلَى الطَّلَاقِ الرَّابِعِ، فَكَانَ يَكُونُ
التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعِ تَطْلِيقَاتٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو
دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
__________
(1). الزيادة في ب.
(3/143)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ
بِحَيْضَةٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَنَّهَا
اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا
أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ
مُطَلَّقَةً لَمْ يُقْتَصَرْ بِهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ.
قُلْتُ: فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ
خَالَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ ذَلِكَ-
كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- وَإِنْ لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا
غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ تَطْلِيقَتَيْنِ
وَالْخُلْعُ لَغْوٌ. وَمَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ طَلَاقًا قَالَ:
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَجِعَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ بِالْخُلْعِ كَمُلَتِ الثَّلَاثُ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَيْفَ يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي
رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: طَلِّقْنِي عَلَى مَالٍ
فَطَلَّقَهَا إِنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَهُوَ لَوْ
جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مِنْ غير شي فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا
كَانَ طَلَاقًا!. [قَالَ «1»] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ" فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ"، لِأَنَّ قَوْلَهُ:" أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ" إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَوْ تَطْلِيقٌ.
فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ مَعْطُوفًا عَلَى التَّطْلِيقَتَيْنِ
لَكَانَ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ أَصْلًا إِلَّا بَعْدَ
تَطْلِيقَتَيْنِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: مَا تَأَوَّلُوهُ فِي الْآيَةِ غَلَطٌ فَإِنَّ
قَوْلَهُ:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ" أَفَادَ حُكْمَ
الِاثْنَتَيْنِ إِذَا أَوْقَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ
الْخُلْعِ، وَأَثْبَتَ مَعَهُمَا الرَّجْعَةَ بِقَوْلِهِ:"
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ" ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُمَا إِذَا كَانَ
عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ فَعَادَ الْخُلْعُ إِلَى الثِّنْتَيْنِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ بَيَانُ
الطَّلَاقِ الْمُطْلَقِ وَالطَّلَاقِ بِعِوَضٍ، وَالطَّلَاقُ
الثَّالِثُ بِعِوَضٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّهُ
يَقْطَعُ الْحِلَّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. قُلْتُ: هَذَا
الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ- لَمَّا ذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الْحَيْضَةِ-: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَحَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ
الْمُطَلَّقَةِ. قَالَ أَبُو داود: والعمل عندنا على هذا.
__________
(1). في ب.
(3/144)
قُلْتُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ
وَأَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الْحَيْضَةِ مَعَ غَرَابَتِهِ كَمَا ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ،
وَإِرْسَالِهِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ
عِدَّتَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ عن ابن عباس: أن امرأة ثابت ابن قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ
مِنْ زَوْجِهَا فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا. وَالرَّاوِي عَنْ
مَعْمَرٍ هُنَا فِي الْحَيْضَةِ وَالنِّصْفِ هُوَ الرَّاوِي
عَنْهُ فِي الْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ هِشَامُ بْنُ
يُوسُفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّنْعَانِيُّ
الْيَمَانِيُّ: خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ.
فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ
وَالْمَتْنِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي أَنَّ الْخُلْعَ
فَسْخٌ، وَفِي أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ حَيْضَةٌ،
وَبَقِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" نَصًّا فِي كُلِّ
مُطَلَّقَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهَا كَمَا
تَقَدَّمَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ:" وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عِدَّةُ
الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ ذَهَبَ
ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا فَهُوَ مَذْهَبٌ قَوِيٌّ". قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَابْنُ عُمَرَ:
عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ
وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ عَلِيُّ ابن أَبِي طَالِبٍ: عِدَّتُهَا
عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ
أَقُولُ، وَلَا يَثْبُتُ حَدِيثُ عَلِيٍّ. قُلْتُ: قَدْ
ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ
الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ
قَصَدَ إِيقَاعَ الْخُلْعِ عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، فَقَالَ
عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ خُلْعٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَكَانَ
الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَقِيلَ عَنْهُ: لَا يَكُونُ بَائِنًا
إِلَّا بِوُجُودِ الْعِوَضِ، قَالَهُ أَشْهَبُ
وَالشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ عُرِيَ عَنْ عِوَضٍ
وَاسْتِيفَاءِ عَدَدٍ فَكَانَ رَجْعِيًّا كَمَا لَوْ كَانَ
بِلَفْظِ الطَّلَاقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا
أَصَحُّ قَوْلَيْهِ عِنْدِي وَعِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي
النَّظَرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ حُصُولِ
الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ،
أَصْلُ ذَلِكَ إِذَا خَالَعَ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- الْمُخْتَلِعَةُ هِيَ الَّتِي
تَخْتَلِعُ مِنْ كُلِّ الَّذِي لَهَا. وَالْمُفْتَدِيَةُ «1»
أَنْ تَفْتَدِيَ بِبَعْضِهِ وَتَأْخُذَ بَعْضَهُ.
وَالْمُبَارِئَةُ هِيَ الَّتِي بَارَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فتقول: قد أبرأتك
__________
(1). في ز: وأما المفتدية فالتي.
(3/145)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
فَبَارِئْنِي، هَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ مَالِكٍ: الْمُبَارِئَةُ
هِيَ الَّتِي لَا تَأْخُذُ شَيْئًا وَلَا تُعْطِي،
وَالْمُخْتَلِعَةُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي مَا أَعْطَاهَا
وَتَزِيدُ مِنْ مَالِهَا، وَالْمُفْتَدِيَةُ هِيَ الَّتِي
تَفْتَدِي بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا وَتُمْسِكُ بَعْضَهُ،
وَهَذَا كُلُّهُ يَكُونُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، فَمَا
كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ فِيهِ،
وَالْمُصَالِحَةُ مِثْلَ الْمُبَارِئَةِ. قَالَ الْقَاضِي
أَبُو محمد وغير: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ تَعُودُ
إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا مِنْ
جِهَةِ الْإِيقَاعِ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ سَمَّاهَا أَوْ
لَمْ يُسَمِّهَا، لَا رَجْعَةَ لَهُ فِي الْعِدَّةِ، وَلَهُ
نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا بِرِضَاهَا بِوَلِيٍّ
وَصَدَاقٍ وَقَبْلَ زَوْجٍ وَبَعْدَهُ، خِلَافًا لِأَبِي
ثَوْرٍ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ لِتَمْلِكَ
نَفْسَهَا، وَلَوْ كَانَ طَلَاقُ الْخُلْعِ رجعيا لم تملك
نفسا، فَكَانَ يَجْتَمِعُ لِلزَّوْجِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ
عَنْهُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَهَذَا مَعَ إِطْلَاقِ
الْعَقْدِ نَافِذٌ، فَلَوْ بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ وَشَرَطَ
الرَّجْعَةَ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ رَوَاهُمَا ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ: إِحْدَاهُمَا ثُبُوتُهَا، وَبِهَا قَالَ
سَحْنُونُ. وَالْأُخْرَى نَفْيُهَا. قَالَ سَحْنُونُ: وَجْهُ
الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ
يَكُونَ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَسْقُطُ مِنْ عَدَدِ
الطَّلَاقِ، وَهَذَا «1» جَائِزٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ مَا يَمْنَعُ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ
شَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ: أَنِّي لَا أَطَأُهَا.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى، (تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها) لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَحْكَامَ
النِّكَاحِ وَالْفِرَاقِ قَالَ:" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ"
الَّتِي أُمِرْتُ بِامْتِثَالِهَا، كَمَا بَيَّنَ تَحْرِيمَاتِ
الصَّوْمِ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ:" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلا تَقْرَبُوها «2» " فَقَسَّمَ الْحُدُودَ قِسْمَيْنِ،
مِنْهَا حُدُودُ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ، وَحُدُودُ
النَّهْيِ بِالِاجْتِنَابِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى فَقَالَ:"
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ".
[سورة البقرة (2): آية 230]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (230)
__________
(1). في ز: وذلك.
(2). راجع ج 2 ص 337.
(3/146)
قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- احْتَجَّ
بَعْضُ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِهَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ،
قَالُوا: فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ
بَعْدَ الْمُفَادَاةِ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْفَاءَ حَرْفُ
تَعْقِيبٍ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ:"
الطَّلاقُ مَرَّتانِ" لِأَنَّ الَّذِي تَخَلَّلَ مِنَ
الْكَلَامِ يَمْنَعُ بِنَاءَ قَوْلِهِ" فَإِنْ طَلَّقَها"
عَلَى قَوْلِهِ" الطَّلاقُ مَرَّتانِ" بَلِ الْأَقْرَبُ
عَوْدُهُ عَلَى مَا يَلِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا
يَعُودُ إِلَى مَا تَقَدَّمَهُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ، كَمَا
أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ «1»
بِهِنَّ" فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ غَيْرَ عَائِدٍ
عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ الدُّخُولُ فِي
أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخُلْعِ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: إِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ
طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَحِقَهَا الطَّلَاقُ مَا
دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، كَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ
وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ
الطَّلَاقَ لَا يَلْزَمُهَا، وَهُوَ «2» قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي
ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ:
إِنِ افْتَدَتْ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا
مُتَتَابِعًا نَسَقًا حِينَ طَلَّقَهَا فَذَلِكَ ثَابِتٌ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ صُمَاتٌ فَمَا
أَتْبَعَهُ «3» بَعْدَ الصُّمَاتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ،
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَسَقَ الْكَلَامِ بَعْضِهِ
عَلَى بَعْضٍ مُتَّصِلًا يُوجِبُ لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا،
وَكَذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ. الِاسْتِثْنَاءُ بِالْيَمِينِ
بِاللَّهِ أَثَّرَ وَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ،
وَإِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ. الثَّانِيَةُ- الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ طَلَّقَها" الطَّلْقَةَ
الثَّالِثَةَ" فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ". وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ
فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكْفِي مِنَ النِّكَاحِ، وَمَا
الَّذِي يُبِيحُ التَّحْلِيلَ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَمَنْ وَافَقَهُ: مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أبى الحسن: لا يكفى مجرد الوطي حتى
__________
(1). راجع ج 5 ص 112.
(2). في ز، وب: هذا. [ ..... ]
(3). في ب: أتبعها.
(3/147)
يَكُونَ إِنْزَالٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ
مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْكَافَّةُ من الفقهاء إلى أن الوطي
كَافٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ الَّذِي
يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْغُسْلَ، وَيُفْسِدُ الصَّوْمَ
وَالْحَجَّ وَيُحْصِنُ الزَّوْجَيْنِ وَيُوجِبُ كَمَالَ
الصَّدَاقِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَا مَرَّتْ بِي فِي
الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَعْسَرُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَتَعَلَّقُ
بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بِأَوَاخِرِهَا؟ فَإِنْ
قُلْنَا: إِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ
الْأَسْمَاءِ لَزِمَنَا أَنْ نَقُولَ «1» بِقَوْلِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحُكْمَ
يَتَعَلَّقُ بِأَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَنَا أَنْ
نَشْتَرِطَ الْإِنْزَالَ مَعَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ فِي
الْإِحْلَالِ، لِأَنَّهُ آخِرُ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ عَلَى مَا
قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَعْنَى ذوق
العسيلة هو الوطي، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن
الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَمَّا النَّاسُ فَيَقُولُونَ: لَا
تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الثَّانِي، وَأَنَا
أَقُولُ: إِذَا تزوجها تزواجا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ
إِحْلَالَهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ.
وَهَذَا قَوْلٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ
إِلَّا طَائِفَةً مِنَ الْخَوَارِجِ، وَالسُّنَّةُ مُسْتَغْنًى
بِهَا عَمَّا سِوَاهَا. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ذَكَرَهُ
النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ" مَعَانِي الْقُرْآنِ" لَهُ. قَالَ:
وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا
الْجِمَاعُ، لِأَنَّهُ قَالَ:" زَوْجاً غَيْرَهُ" فَقَدْ
تَقَدَّمَتِ الزَّوْجِيَّةُ فَصَارَ النِّكَاحُ الْجِمَاعَ،
إِلَّا سَعِيدَ بن جبير فإنه قال: النكاح ها هنا التَّزَوُّجُ
الصَّحِيحُ إِذَا لَمْ يُرِدْ إِحْلَالَهَا. قُلْتُ:
وَأَظُنُّهُمَا لَمْ يَبْلُغْهُمَا حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ أَوْ
لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا فَأَخَذَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ،
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ"
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ
لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا طَلَّقَ
الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وَيَذُوقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ". قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ: مَنْ عَقَدَ عَلَى مَذْهَبِ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْسَخَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ
فِيهِ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ إِجْمَاعِ
الْعُلَمَاءِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" حَتَّى يَذُوقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ" اسْتِوَاؤُهُمَا فِي إِدْرَاكِ لَذَّةِ
الْجِمَاعِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا
فِي أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَةً أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا
لَمْ تَحِلَّ لِمُطَلِّقِهَا، لِأَنَّهَا لم تذق العسيلة إذ لم
تدركها.
__________
(1). في ب وز: لزمنا مذهب سعيد.
(3/148)
الثَّالِثَةُ- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة
وآكل الربا ومؤكله وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ:" لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ". وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «1» وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَسَمِعْتُ الْجَارُودَ يَذْكُرُ عَنْ
وَكِيعٍ أَنَّهُ قَالَ بِهَذَا، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ
يُرْمَى بِهَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ
لِيُحِلَّهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا فَلَا تَحِلُّ
لَهُ حتى يزوجها بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِ
الْمُحَلِّلِ، فَقَالَ مَالِكٌ، الْمُحَلِّلُ لَا يُقِيمُ
عَلَى نِكَاحِهِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ نِكَاحًا جَدِيدًا،
فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَا تَحِلُّهَا
إِصَابَتُهُ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَا أَوْ
لَمْ يَعْلَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا، وَلَا
يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ وَيُفْسَخُ، وَبِهِ قَالَ
الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ رُوِيَ
عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي نِكَاحِ الْخِيَارِ وَالْمُحَلِّلِ
أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي ذَلِكَ وَفِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ:
بِئْسَ مَا صَنَعَ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: النِّكَاحُ جَائِزٌ
إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا إِنْ شَاءَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّةً هُوَ وَأَصْحَابُهُ: لَا
تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ إِنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا،
وَمَرَّةً قَالُوا: تَحِلُّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاحِ إِذَا
جَامَعَهَا وَطَلَّقَهَا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ
نِكَاحَ هَذَا الزَّوْجِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ
عَلَيْهِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ- قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا
قَالَ أَتَزَوَّجُكِ لِأُحِلَّكِ ثُمَّ لَا نِكَاحَ بَيْنَنَا
بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ،
وَهُوَ فَاسِدٌ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ وَيُفْسَخُ، وَلَوْ
وَطِئَ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْلِيلًا. فَإِنْ
تَزَوَّجَهَا تَزَوُّجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَا
اشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلُ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذلك
قولان في كتابه القديم: أحدهما
__________
(1). في ب: عمرو، تصحيحا في الهامش.
(3/149)
مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالْآخَرُ مِثْلُ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي
كِتَابِهِ الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ
إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. قُلْتُ:
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِنْ
شَرَطَ التَّحْلِيلَ قَبْلَ الْعَقْدِ صَحَّ النِّكَاحُ
وَأَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ
بَطَلَ النِّكَاحُ وَلَمْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، قَالَ:
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ
بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكَاحُ، وَهَذَا تَشْدِيدٌ. وَقَالَ
سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
لِيُحِلَّهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجَانِ وَهُوَ
مَأْجُورٌ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ،
وَقَالَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ
فِي اشْتِرَاطِهِ فِي حِينِ الْعَقْدِ. الرَّابِعَةُ- مَدَارُ
جَوَازِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى
الزَّوْجِ النَّاكِحِ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ نَوَاهُ،
ومتى كان شي مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ نِكَاحُهُ وَلَمْ يُقَرَّ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْلِلْ وَطْؤُهُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا.
وَعِلْمُ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَجَهْلُهُ فِي ذَلِكَ
سَوَاءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَلِمَ
أَنَّ النَّاكِحَ لَهَا لِذَلِكَ تَزَوَّجَهَا أَنْ
يَتَنَزَّهَ عَنْ مُرَاجَعَتِهَا، وَلَا يُحِلَّهَا عِنْدَ
مَالِكٍ إِلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَلَا
يُقْصَدُ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَيَكُونُ وطؤه لها وطأ مُبَاحًا:
لَا تَكُونُ صَائِمَةً وَلَا مُحْرِمَةً وَلَا فِي
حَيْضَتِهَا، وَيَكُونُ الزَّوْجُ بَالِغًا مُسْلِمًا. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ وَغَيَّبَ
الْحَشَفَةَ فِي فَرْجِهَا فَقَدْ ذَاقَا الْعُسَيْلَةَ،
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَوِيُّ النِّكَاحِ وَضَعِيفُهُ،
وَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِهَا، وَكَانَ مِنْ
صَبِيٍّ أَوْ مُرَاهِقٍ أَوْ مَجْبُوبٍ بَقِيَ لَهُ مَا
يُغَيِّبُهُ كَمَا يُغَيِّبُ غَيْرُ الْخَصِيِّ، وَسَوَاءٌ
أَصَابَهَا الزَّوْجُ مُحْرِمَةً أَوْ صَائِمَةً، وَهَذَا
كُلُّهُ- عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ- قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ
وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا
فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا، وَإِلَّا كَانَ قَدِ
احْتَسَبَ فِي تَحْلِيلِهَا الْأَجْرَ لَمْ يَجُزْ، لِمَا
خَالَطَ نِكَاحَهُ مِنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَلَا تَحِلُّ
بِذَلِكَ لِلْأَوَّلِ. السادسة- وطئ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ
الَّتِي قَدْ بَتَّ زَوْجُهَا طَلَاقَهَا لَا يُحِلُّهَا، إِذْ
لَيْسَ بِزَوْجٍ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدَةَ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ
وَإِبْرَاهِيمَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي
الزِّنَادِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَيُرْوَى عَنْ
(3/150)
عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَالزُّبَيْرِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُحِلُّهَا إِذَا
غَشِيَهَا سَيِّدُهَا غَشَيَانًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ
مُخَادَعَةً وَلَا إِحْلَالًا، وَتَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا
بِخِطْبَةٍ وَصَدَاقٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ"
وَالسَّيِّدُ إِنَّمَا تَسَلَّطَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهَذَا
وَاضِحٌ. السَّابِعَةُ- فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ أَنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ السيب وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ
سُئِلَا عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ عبد اله جَارِيَةً لَهُ
فَطَلَّقَهَا الْعَبْدُ الْبَتَّةَ ثُمَّ وَهَبَهَا سَيِّدُهَا
لَهُ هَلْ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؟ فَقَالَا: لَا
تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. الثَّامِنَةُ-
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ
كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ فَاشْتَرَاهَا وَقَدْ
كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَقَالَ: تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ
يَمِينِهِ مَا لَمْ يَبِتَّ طَلَاقَهَا، فَإِنْ بَتَّ
طَلَاقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَعَلَى هَذَا
جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى: مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ يَقُولُونَ:
إِذَا اشْتَرَاهَا الَّذِي بَتَّ طَلَاقَهَا حَلَّتْ لَهُ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ، عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» ". قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ" لَا يُبِيحُ
الْأُمَّهَاتِ وَلَا الْأَخَوَاتِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ
الْمُحَرَّمَاتِ. التَّاسِعَةُ- إِذَا طَلَّقَ الْمُسْلِمُ
زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا فَنَكَحَهَا ذِمِّيٌّ
وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الذِّمِّيُّ زَوْجٌ لَهَا، وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى
الْأَوَّلِ، هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ [وَالزُّهْرِيُّ «2»]
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ «3» وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَكَذَلِكَ نَقُولُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ" وَالنَّصْرَانِيُّ زَوْجٌ. وَقَالَ
مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: لَا يُحِلُّهَا. الْعَاشِرَةُ-
النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا
فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبِي عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ
يَقُولُونَ: لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِلَّا
بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَكَانَ الْحَكَمُ يَقُولُ: هُوَ زَوْجٌ.
قال ابن المنذر: ليس بزوج،
__________
(1). راجع ج 5 ص 20.
(2). الزيادة من ب وز.
(3). في بعض الأصول:" ... وسفيان والثوري، بواو العطف".
(3/151)
لِأَنَّ أَحْكَامَ الْأَزْوَاجِ فِي
الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ
بَيْنَهُمَا. وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ لِلزَّوْجِ
الْأَوَّلِ: قَدْ تَزَوَّجْتُ وَدَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي
وَصَدَّقَهَا أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَالْوَرَعُ أَلَّا يَفْعَلَ إِذَا وَقَعَ فِي
نَفْسِهِ أَنَّهَا كَذَبَتْهُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- جَاءَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي هَذَا الْبَابِ تَغْلِيظٌ
شَدِيدٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أَوُتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا
مُحَلَّلٍ لَهُ إِلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
التَّحْلِيلُ سِفَاحٌ، وَلَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَلَوْ
أَقَامَا عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا
يَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ إِلَّا التَّغْلِيظَ، لِأَنَّهُ قَدْ
صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ وَضَعَ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ فَرْجًا
حَرَامًا قَدْ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ،
فَالتَّأْوِيلُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا
رَجْمَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طَلَّقَها) يُرِيدُ الزَّوْجَ
الثَّانِي. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي المرأة والزوج الأول،
قال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ
إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا
وَنَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا
وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ
أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ
تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ غَيْرَهُ
ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: تَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا،
وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وأى بن كعب وعمران ابن حُصَيْنٍ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عمرو ابن
الْعَاصِ، وَبِهِ قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَسَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ نَصْرٍ.
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ جَدِيدٌ
وَالطَّلَاقَ جَدِيدٌ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ
عباس،
(3/152)
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ
وَشُرَيْحٌ وَالنُّعْمَانُ وَيَعْقُوبُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
وَوَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ
أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُونَ: أَيَهْدِمُ الزَّوْجُ
الثَّلَاثَ، وَلَا يَهْدِمُ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ!
قَالَ، وَحَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ كَانُوا
يَقُولُونَ: يَهْدِمُ الزَّوْجُ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ
كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ، إِلَّا عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ
قَالَ: هِيَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، ذَكَرَهُ أَبُو
عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَقُولُ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: إِنْ كَانَ دَخَلَ
بِهَا الْأَخِيرُ فَطَلَاقٌ جَدِيدٌ وَنِكَاحٌ جَدِيدٌ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى مَا بَقِيَ، هَذَا قول
إبراهيم النخغي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ
ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) شَرْطٌ. قَالَ طَاوُسٌ:
إِنْ ظَنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحْسِنُ عِشْرَةَ
صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: حُدُودُ اللَّهِ فَرَائِضُهُ، أَيْ إِذَا
عَلِمَا أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الصَّلَاحُ بِالنِّكَاحِ
الثَّانِي، فَمَتَى عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ
نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أو صداقها أو شي مِنْ حُقُوقِهَا
الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
حَتَّى يُبَيِّنْ لَهَا، أَوْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ
الْقُدْرَةَ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ
كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَانَ
عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ، كَيْلَا يَغُرَّ الْمَرْأَةَ مِنْ
نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغُرَّهَا بِنَسَبٍ
يَدَّعِيهِ وَلَا مَالٍ [لَهُ «1»] وَلَا صِنَاعَةٍ
يَذْكُرُهَا وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهَا. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى
الْمَرْأَةِ إِذَا عَلِمَتْ مِنْ نَفْسِهَا الْعَجْزَ عَنْ
قِيَامِهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِ، أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ
تَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ جُنُونٍ أَوْ جُذَامٍ أَوْ
بَرَصٍ أَوْ دَاءٍ فِي الْفَرْجِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ
تَغُرَّهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ مَا بِهَا مِنْ
ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ عَلَى بَائِعِ السِّلْعَةِ أَنْ
يُبَيِّنَ مَا بِسِلْعَتِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَتَى وَجَدَ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ عَيْبًا فَلَهُ الرَّدُّ،
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالرَّجُلِ فَلَهَا الصَّدَاقُ إِنْ
كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهَا
نِصْفُهُ. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْمَرْأَةِ رَدَّهَا
الزَّوْجُ وَأَخَذَ مَا كَانَ أَعْطَاهَا مِنَ الصَّدَاقِ،
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ
بِكَشْحِهَا بَرَصًا فَرَدَّهَا وَقَالَ:" دَلَّسْتُمْ على".
__________
(1). الزيادة من ز.
(3/153)
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ
فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْعُنَّةِ، فَقَالَ مَرَّةً: لَهَا
جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَقَالَ مَرَّةً: لَهَا نِصْفُ
الصَّدَاقِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ:
بِمَ تَسْتَحِقُّ الصَّدَاقَ بِالتَّسْلِيمِ أَوِ الدُّخُولِ؟
قولان. الثالثة- قال ابن خويز منداد: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
هَلْ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةٌ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا: لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةٌ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الِاسْتِمْتَاعَ لَا الْخِدْمَةَ،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ وَلَا
تَمَلُّكِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى
الِاسْتِمْتَاعِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هُوَ
الِاسْتِمْتَاعُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا تُطَالَبُ بِأَكْثَرَ
مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا «1» ".
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: عَلَيْهَا خِدْمَةُ مِثْلِهَا،
فإن كانت شريفة المحل ليسار أبو ة أَوْ تَرَفُّهٍ فَعَلَيْهَا
التَّدْبِيرُ لِلْمَنْزِلِ وَأَمْرُ الْخَادِمِ، وَإِنْ
كَانَتْ مُتَوَسِّطَةَ الْحَالِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَفْرِشَ
الْفِرَاشَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ ذَلِكَ
فَعَلَيْهَا أَنْ تَقُمَّ الْبَيْتَ وَتَطْبُخَ وَتَغْسِلَ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْكُرْدِ وَالدَّيْلَمِ
وَالْجَبَلِ فِي بَلَدِهِنَّ كُلِّفَتْ مَا يُكَلَّفَهُ
نِسَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:"
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وقر
جَرَى عُرْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانِهِمْ فِي قَدِيمِ
الْأَمْرِ وَحَدِيثِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ
أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَكَلَّفُونَ الطَّحِينَ وَالْخَبِيزَ
وَالطَّبْخَ وَفَرْشَ الْفِرَاشِ وَتَقْرِيبَ الطَّعَامِ
وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ امْرَأَةً امْتَنَعَتْ
مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَسُوغُ لَهَا الِامْتِنَاعُ، بَلْ كَانُوا
يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا قَصَّرْنَ فِي ذَلِكَ،
وَيَأْخُذُونَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهَا
مُسْتَحِقَّةٌ لَمَا طَالَبُوهُنَّ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) حُدُودُ اللَّهِ: مَا مَنَعَ مِنْهُ،
وَالْحَدُّ مَانِعٌ مِنَ الِاجْتِزَاءِ عَلَى الْفَوَاحِشِ،
وَأَحَدَّتِ الْمَرْأَةُ: امْتَنَعَتْ مِنَ الزِّينَةِ،
وَرَجُلٌ مَحْدُودٌ: مَمْنُوعٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْبَوَّابُ
حَدَّادٌ أَيْ مَانِعٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْتَوْفًى
«2». وَإِنَّمَا قَالَ:" لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" لِأَنَّ
الْجَاهِلَ إِذَا كَثُرَ لَهُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فَإِنَّهُ
لَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَتَعَاهَدُهُ. وَالْعَالِمُ يَحْفَظُ
وَيَتَعَاهَدُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى خَاطَبَ الْعُلَمَاءَ ولم
يخاطب الجهال.
__________
(1). تراجع المسألة الخامسة والثلاثون ج 2 ص 337
(2). تراجع المسألة الخامسة والثلاثون ج 2 ص 337
(3/154)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
[سورة البقرة (2): آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ
هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) مَعْنَى" بَلَغْنَ" قَارَبْنَ،
بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى
يَضْطَرُّ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ
لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ
الَّتِي بَعْدَهَا بِمَعْنَى التَّنَاهِي، لِأَنَّ الْمَعْنَى
يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الثَّانِيَةِ مَجَازٌ
فِي الْأُولَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ
هُوَ الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَى
زَوْجِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
إِنَّ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا
لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ
يُطَلِّقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ
الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ
الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا مِنْ بَقَائِهَا عِنْدَ مَنْ لَا
يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، وَالْجُوعُ لَا صَبْرَ عَلَيْهِ،
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَيَحْيَى
الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، وَقَالَهُ مِنَ
الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنَ
التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ: إِنَّ
ذَلِكَ سُنَّةٌ. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ «1»:
لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهَا الصَّبْرُ عَلَيْهِ،
وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ،
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ «2» " وَقَالَ:" وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
«3» " الْآيَةَ، فَنَدَبَ تَعَالَى إِلَى إِنْكَاحِ
الْفَقِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ سَبَبًا
لِلْفُرْقَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ مَعَهُ إِلَى النِّكَاحِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدِ
انْعَقَدَ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُنَّةٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). في ب: فرقة.
(2). راجع ج 3 ص 371.
(3). راجع ج 12 ص 239
(3/155)
لَا مُعَارِضَ لَهَا. وَالْحُجَّةُ
لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:" تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ
تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي" فَهَذَا نَصٌّ فِي
مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَالْفُرْقَةُ بِالْإِعْسَارِ عِنْدَنَا
طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ بَعْدَ
الْبِنَاءِ لَمْ يُسْتَكْمَلْ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ وَلَا
كَانَتْ لِعِوَضٍ وَلَا لِضَرَرٍ بِالزَّوْجِ فَكَانَتْ
رَجْعِيَّةً، أَصْلُهُ طَلَاقُ الْمُولِي. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يَعْنِي
فَطَلِّقُوهُنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً لِتَعْتَدُوا) رَوَى مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ
الدِّيلِيِّ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ
ثُمَّ يُرَاجِعُهَا وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا وَلَا يُرِيدُ
إِمْسَاكَهَا، كَيْمَا يُطَوِّلَ بِذَلِكَ الْعِدَّةَ
عَلَيْهَا وَلِيُضَارَّهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" يَعِظُهُمُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" يَعْنِي
عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعَذَابِ، لِأَنَّ إِتْيَانَ مَا نَهَى
اللَّهُ عَنْهُ تَعَرُّضٌ لِعَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا
الْخَبَرُ مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي نَزَلَ بِتَرْكِ مَا
كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ
وَالِارْتِجَاعِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ". فَأَفَادَنَا
هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَنَّ نُزُولَ الْآيَتَيْنِ
الْمَذْكُورَتَيْنِ كَانَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مُتَقَارِبٍ
وَذَلِكَ حَبْسُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَمُرَاجَعَتُهُ لَهَا
قَاصِدًا إِلَى الْإِضْرَارِ بِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ
اللَّهِ هُزُواً) معناه لا تأخذوا أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى
فِي طَرِيقِ الْهُزْوِ [بِالْهُزْوِ «1»] فَإِنَّهَا جِدٌّ
كُلُّهَا، فَمَنْ هَزَلَ «2» فِيهَا لَزِمَتْهُ. قَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَيَقُولُ: إِنَّمَا طَلَّقْتُ وَأَنَا لَاعِبٌ، وَكَانَ
يُعْتِقُ وَيَنْكِحُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ طَلَّقَ
أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ فَزَعَمَ أَنَّهُ
لَاعِبٌ فَهُوَ جِدٌّ". رَوَاهُ مَعْمَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا
عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ. وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ
أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ:
إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ مَرَّةٍ فَمَاذَا تَرَى
عَلَيَّ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طُلِّقَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ،
وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا
طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ وَقَالَ:" تَتَّخِذُونَ آيَاتِ
اللَّهِ هُزُوًا- أَوْ دين الله هزوا ولعبا
__________
(1). الزيادة في: ح.
(2). في أكثر الأصول: هزأ وما أثبتناه في ب، وز. [ ..... ]
(3/156)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ
ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ".
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ هَذَا كُوفِيٌّ ضَعِيفُ
الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ
يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا
أُوَرِّثُكِ وَلَا أَدَعُكِ. قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ:
إِذَا كِدْتِ تَقْضِينَ عِدَّتَكِ رَاجَعْتُكِ، فَنَزَلَتْ:"
وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً". قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
وَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ،
لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ سَخِرَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ:
اتَّخَذَهَا هُزُوًا. وَيُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ كَفَرَ بِهَا،
وَيُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ طَرَحَهَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا
وَعَمِلَ بِغَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ هَذِهِ الأقوال
في الآية. وآيات اللَّهِ: دَلَائِلُهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.
الْخَامِسَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ
طَلَّقَ هَازِلًا أَنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُهُ، وَاخْتَلَفُوا
فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" بَرَاءَةٌ «1»
" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ
وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَأَبِي الدَّرْدَاءِ كُلِّهِمْ قَالُوا:" ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ
فِيهِنَّ وَاللَّاعِبُ فِيهِنَّ جَادٌّ: النِّكَاحُ
وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا
تَتْرُكُوا أَوَامِرَ اللَّهِ فَتَكُونُوا مُقَصِّرِينَ
لَاعِبِينَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِغْفَارُ
مِنَ الذَّنْبِ قَوْلًا مَعَ الْإِصْرَارِ فِعْلًا، وَكَذَا
كُلُّ مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَاعْلَمْهُ.
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَبَيَانِ
الْأَحْكَامِ. (وَالْحِكْمَةِ): هِيَ السُّنَّةُ
الْمُبَيِّنَةُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ اللَّهِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ
عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ. (يَعِظُكُمْ بِهِ) أَيْ
يُخَوِّفُكُمْ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقدم.
[سورة البقرة (2): آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ
مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ
أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (232)
__________
(1). راجع ج 8 ص 197
(3/157)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) رُوِيَ أَنَّ
مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ أَبِي
الْبَدَّاحِ «1» فَطَلَّقَهَا وَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَدِمَ فَخَطَبَهَا فَرَضِيَتْ وَأَبَى
أَخُوهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا وَقَالَ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ
حَرَامٌ إِنْ تَزَوَّجْتِيهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ
مُقَاتِلٌ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعْقِلًا فَقَالَ:" إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا
تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ" فَقَالَ: آمَنْتُ
بِاللَّهِ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا
زَوْجُهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى
مَعْقِلٌ فَنَزَلَتْ:" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ". وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ:
كَانَتْ لِي أُخْتٌ فَخُطِبَتْ إِلَيَّ فَكُنْتُ أَمْنَعُهَا
النَّاسَ، فَأَتَى ابْنُ عَمٍّ لِي فَخَطَبَهَا
فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَاصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ:
مَنَعْتُهَا النَّاسَ وَزَوَّجْتُكَ إِيَّاهَا ثُمَّ
طَلَّقْتَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَةٌ ثُمَّ تَرَكْتَهَا حَتَّى
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ أَتَيْتَنِي
تَخْطُبُهَا مَعَ الْخُطَّابِ! لَا أُزَوِّجُكَ أَبَدًا!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ أُنْزِلَتْ:" وَإِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ" فَكَفَّرْتُ
عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ. فِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ:" فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا،
وَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ثُمَّ
يَخْطُبُهَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، فَدَعَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ
الْآيَةَ فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَانْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَقِيلَ: هُوَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ (بِالنُّونِ).
قَالَ النَّحَّاسُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ عَنْ
مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَوْ سِنَانٍ «2». وَقَالَ
الطَّحَاوِيُّ: هُوَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ. الثَّانِيَةُ-
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرٍ وَلِيٍّ لِأَنَّ أُخْتَ مَعْقِلٍ
كَانَتْ ثَيِّبًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيْهَا دُونَ
وَلِيِّهَا لَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا، وَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى
وَلِيِّهَا مَعْقِلٍ، فَالْخِطَابُ إِذًا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ" للأولياء، وأن الامر إليهم في
التزويج
__________
(1). في الأصول:" أبى الدحداح" وهو تحريف.
(2). ليس في ز، وب: أو سنان.
(3/158)
مَعَ رِضَاهُنَّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ
الْخِطَابَ فِي ذَلِكَ لِلْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ
الِارْتِجَاعُ مُضَارَّةً عَضْلًا عَنْ نِكَاحِ الْغَيْرِ
بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا. وَاحْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا
قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهَا
كَمَا قَالَ:" فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ" وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَلِيَّ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَبِ
النُّزُولِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بُلُوغُ الْأَجَلِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ: تَنَاهِيهِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ
إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَ"
تَعْضُلُوهُنَّ" مَعْنَاهُ تَحْبِسُوهُنَّ. وَحَكَى
الْخَلِيلُ: دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ: قَدِ احْتَبَسَ بِيضُهَا.
وَقِيلَ: الْعَضْلُ التَّضْيِيقُ وَالْمَنْعُ وَهُوَ رَاجِعٌ
إِلَى مَعْنَى الْحَبْسِ، يُقَالُ: أَرَدْتُ أَمْرًا
فَعَضَلْتَنِي عَنْهُ أَيْ مَنَعْتَنِي عَنْهُ وَضَيَّقْتَ
عَلَيَّ. وَأَعْضَلَ الْأَمْرُ: إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْكَ فِيهِ
الْحِيَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَعُضْلَةٌ مِنَ
الْعُضَلِ إِذَا كَانَ لَا يُقْدَرُ عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ
فِيهِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الْعَضْلِ مِنْ
قَوْلِهِمْ: عَضَلَتِ النَّاقَةُ إِذَا نَشِبَ وَلَدُهَا
فَلَمْ يَسْهُلْ خُرُوجُهُ، وَعَضَلَتِ الدَّجَاجَةُ: نَشِبَ
بِيضُهَا. وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ:-" مُعْضِلَةٌ وَلَا
أَبَا حَسَنٍ"، أَيْ مَسْأَلَةٌ صَعْبَةٌ ضَيِّقَةُ
الْمَخَارِجِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَقَدْ وَرَدَتْ عُضَلُ
أَقْضِيَةٍ مَا قَامَ بِهَا إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكُلُّ
مُشْكِلٍ عِنْدَ الْعَرَبِ مُعْضِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ:
إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ
حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
وَيُقَالُ: أَعْضَلَ الْأَمْرُ إِذَا اشْتَدَّ. وَدَاءٌ
عُضَالٌ أَيْ شَدِيدٌ عَسِرُ الْبُرْءِ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ.
وَعَضَلَ فُلَانٌ أَيِّمَهُ أي منعها، يعضلها (بِالضَّمِّ
وَالْكَسْرِ) لُغَتَانِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ) وَلَمْ يَقُلْ" ذَلِكُمْ"
لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ. وَلَوْ كَانَ"
ذَلِكُمْ" لَجَازَ، مِثْلُ (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أَيْ مَا لَكُمْ فِيهِ مِنَ الصلاح.
(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.
(3/159)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
[سورة البقرة (2): آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما
وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
فِيهِ ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَالْوالِداتُ) ابْتِدَاءٌ. (يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ) فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. (حَوْلَيْنِ
كامِلَيْنِ) ظَرْفُ زَمَانٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ ذَكَرَ الْوَلَدَ،
لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَفْتَرِقَانِ وَثَمَّ وَلَدٌ،
فَالْآيَةُ إِذًا فِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي لَهُنَّ
أَوْلَادٌ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قال السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ
وَغَيْرُهُمَا، أَيْ هُنَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ
مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِأَنَّهُنَّ أَحْنَى وَأَرَقُّ،
وَانْتِزَاعُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ إِضْرَارٌ بِهِ وَبِهَا،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ فُطِمَ
فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهَا
وَشَفَقَتِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ
إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ عَلَى مَا يَأْتِي. وَعَلَى هَذَا
يُشْكِلُ قَوْلُهُ:" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا
تَسْتَحِقُّ الْكُسْوَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ رَجْعِيَّةً بَلْ
تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ فَيُقَالُ: الْأَوْلَى أَلَّا تَنْقُصَ
الْأُجْرَةُ عَمَّا يَكْفِيهَا لِقُوتِهَا وَكِسْوَتِهَا.
وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّوَاتِي
لَهُنَّ أَوْلَادٌ وَفِي الزَّوْجَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا
فِي الزَّوْجَاتِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُنَّ
الْمُسْتَحِقَّاتُ لِلنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَالزَّوْجَةُ
تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ أَرْضَعَتْ أَوْ لَمْ
تُرْضِعْ، وَالنَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ مُقَابِلَةُ
التَّمْكِينِ، فَإِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْإِرْضَاعِ لَمْ
يَكْمُلِ التَّمْكِينُ، فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ النَّفَقَةَ
تَسْقُطُ فَأَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ" أَيِ الزَّوْجِ" رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ"، فِي حَالِ الرَّضَاعِ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ
فِي مَصَالِحِ الزَّوْجِ، فَصَارَتْ كَمَا لَوْ سَافَرَتْ
لِحَاجَةِ الزَّوْجِ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تسقط.
(3/160)
الثانية- (يُرْضِعْنَ) خَبَرٌ مَعْنَاهُ
الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لِبَعْضِ الْوَالِدَاتِ، وَعَلَى
جِهَةِ النَّدْبِ لِبَعْضِهِنَّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ:
هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرَّضَاعِ هَلْ هُوَ
حَقٌّ لِلْأُمِّ أَوْ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ
مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهِ
عَلَيْهَا لَقَالَ: وَعَلَى الْوَالِدَاتِ رَضَاعُ
أَوْلَادِهِنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ
" وَلَكِنْ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَالِ «1» الزَّوْجِيَّةِ،
وَهُوَ عُرْفٌ يَلْزَمُ إِذْ قَدْ صَارَ كَالشَّرْطِ، إِلَّا
أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذَاتَ تَرَفُّهٍ «2» فَعُرْفُهَا
أَلَّا تُرْضِعَ وَذَلِكَ كَالشَّرْطِ. وَعَلَيْهَا إِنْ لَمْ
يَقْبَلِ الْوَلَدُ غَيْرَهَا وَاجِبٌ. وَهُوَ عَلَيْهَا إِذَا
عُدِمَ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَا
مَالَ لِلصَّبِيِّ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي" الْمُدَوَّنَةِ"
أَنَّ الرَّضَاعَ لَازِمٌ لِلْأُمِّ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْجَلَّابِ: رَضَاعُهُ فِي بَيْتِ
الْمَالِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ فَقِيرٌ مِنْ
فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقَ
بَيْنُونَةٍ فَلَا رَضَاعَ عَلَيْهَا، وَالرَّضَاعُ عَلَى
الزَّوْجِ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ، فَهِيَ أَحَقُّ
بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، هَذَا مَعَ يُسْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ
كَانَ مُعْدِمًا لَمْ يَلْزَمْهَا الرَّضَاعُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ الْمَوْلُودُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا فَتُجْبَرُ
حِينَئِذٍ عَلَى الْإِرْضَاعِ. وَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهَا
الْإِرْضَاعُ فَإِنْ أَصَابَهَا عُذْرٌ يَمْنَعُهَا مِنْهُ
عَادَ الْإِرْضَاعُ عَلَى الْأَبِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّ الْأَبَ إِذَا كَانَ مُعْدِمًا وَلَا مَالَ لِلصَّبِيِّ
أَنَّ الرَّضَاعَ عَلَى الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
لَبَنٌ وَلَهَا مَالٌ فَالْإِرْضَاعُ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ الرَّضَاعُ إِلَّا وَالِدًا
أَوْ جَدًّا وَإِنْ عَلَا، وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي
هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ
ذلِكَ". يُقَالُ: رَضِعَ يَرْضَعُ رَضَاعَةً وَرَضَاعًا،
وَرَضَعَ يَرْضِعُ رِضَاعًا وَرَضَاعَةً (بِكَسْرِ الرَّاءِ
فِي الْأَوَّلِ وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِي) وَاسْمُ الْفَاعِلِ
رَاضِعٌ فِيهِمَا. وَالرَّضَاعَةُ: اللُّؤْمُ (مَفْتُوحُ
الرَّاءِ لَا غَيْرَ). الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(حَوْلَيْنِ) أَيْ سَنَتَيْنِ، مِنْ حَالَ الشَّيْءُ إِذَا
انْقَلَبَ، فَالْحَوْلُ مُنْقَلِبٌ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ
إِلَى الثَّانِي. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْعَامُ حَوْلًا
لِاسْتِحَالَةِ الْأُمُورِ فِيهِ فِي الْأَغْلَبِ.
(كامِلَيْنِ) قُيِّدَ بِالْكَمَالِ لِأَنَّ الْقَائِلَ قَدْ
يَقُولُ: أَقَمْتُ عِنْدَ فُلَانٍ حَوْلَيْنِ وَهُوَ يُرِيدُ
«3» حَوْلًا وَبَعْضَ حَوْلٍ آخَرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" وإنما يتعجل
__________
(1). في ب، وز وهـ: في حق الزوجة.
(2). في ب: ذات محل. أي ذات مكانة.
(3). في ب، وهـ: يعنى.
(3/161)
فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى:" لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ" دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا فَإِنَّهُ
يَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَلَكِنَّهُ
تَحْدِيدٌ لِقَطْعِ «1» التَّنَازُعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي
مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِعْطَاءُ
الْأُجْرَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ
الْأَبُ الْفَطْمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَمْ تَرْضَ
الْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَالزِّيَادَةُ عَلَى
الْحَوْلَيْنِ أَوِ النُّقْصَانُ إِنَّمَا يَكُونُ «2» عِنْدَ
عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلُودِ وَعِنْدَ رِضَا
الْوَالِدَيْنِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ"
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمَّ الرَّضَاعَةُ" بِفَتْحِ التَّاءِ
وَرَفْعِ" الرَّضَاعَةُ" عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْجَارُودُ
بْنُ أَبِي سَبْرَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ" الرِّضَاعَةَ"
وَهِيَ لُغَةٌ كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَةِ. وَرُوِيَ عَنْ
مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ" الرَّضْعَةَ" عَلَى وَزْنِ
الْفَعْلَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ"
أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ". النَّحَّاسُ: لَا يَعْرِفُ
الْبَصْرِيُّونَ" الرَّضَاعَةَ" إِلَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ،
وَلَا" الرِّضَاعَ" إِلَّا بِكَسْرِ الرَّاءِ، مِثْلَ
الْقِتَالِ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ كَسْرَ الرَّاءِ مَعَ
الْهَاءِ وَفَتْحَهَا بِغَيْرِ هَاءٍ. الْخَامِسَةُ- انْتَزَعَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ تَابَعَهُ
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ
الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ الْجَارِيَةَ مَجْرَى النَّسَبِ
إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ
بِانْقِضَاءِ الْحَوْلَيْنِ تَمَّتِ الرَّضَاعَةُ، وَلَا
رَضَاعَةَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ مُعْتَبَرَةٌ. هَذَا قَوْلُهُ
فِي مُوَطَّئِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ
وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثور. وروى ابن عبد ال حكم
عَنْهُ الْحَوْلَيْنِ وَزِيَادَةَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ. عَبْدُ
الْمَلِكِ: كَالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّضَاعُ الْحَوْلَيْنِ
وَالشَّهْرَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَحَكَى عَنْهُ
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ بَعْدَ
الْحَوْلَيْنِ مِنْ رَضَاعٍ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةٍ فَهُوَ مِنَ الْحَوْلَيْنِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَهُوَ عَبَثٌ. وَحُكِيَ عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ
قَالَ: وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إِلَى سِتَّةِ
أَشْهُرٍ فَهُوَ رَضَاعٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كامِلَيْنِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَلَّا حُكْمَ لِمَا
ارْتَضَعَ الْمَوْلُودُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. وَرَوَى
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ
«3» ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ
حَافِظٌ.
__________
(1). في ب: يقطع.
(2). في ب، وز وهـ: إنما يجوز.
(3). يؤيد هذا ما رواه ابن ماجة عنه عليه الصلاة والسلام" لا
رضاع إلا ما فتق الأمعاء".
(3/162)
قُلْتُ: وَهَذَا الْخَبَرُ مَعَ الْآيَةِ
وَالْمَعْنَى، يَنْفِي رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ وَأَنَّهُ لَا
حُرْمَةَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ الْقَوْلُ بِهِ.
وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ بَيْنِ
الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ
الرُّجُوعُ عَنْهُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ"
مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «1». السَّادِسَةُ-
قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَيْنَ
الْحَوْلَيْنِ لِكُلِّ وَلَدٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ: هِيَ فِي الْوَلَدِ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ
فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، فَإِنْ مَكَثَ
ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ فَرَضَاعُهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ
شَهْرًا، فَإِنْ مَكَثَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَرَضَاعُهُ أَحَدٌ
وَعِشْرُونَ شَهْرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً". وَعَلَى هَذَا نتداخل مُدَّةُ
الْحَمْلِ وَمُدَّةُ الرَّضَاعِ وَيَأْخُذُ الْوَاحِدُ مِنَ
الْآخَرِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ) أَيْ وَعَلَى الْأَبِ. وَيَجُوزُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُمْ" كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «2» "
لِأَنَّ الْمَعْنَى وَعَلَى الَّذِي وُلِدَ لَهُ وَ" الَّذِي"
يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كما تقدم.
الثامنة- قوله تعالى: (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) الرِّزْقُ
فِي هَذَا الْحُكْمِ الطَّعَامُ الْكَافِي، وَفِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ
«3» لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ. وَسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
لِلْأُمِّ، لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهَا
فِي الرَّضَاعِ كَمَا قَالَ:" وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ «4» " لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ
إلا بسببها. وأجمع الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ
نَفَقَةَ وَلَدِهِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ بِنْتِ
عُتْبَةَ وَقَدْ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا
يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ
مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاحٌ؟
فَقَالَ-:" خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ".
وَالْكُسْوَةُ: اللِّبَاسُ. وَقَوْلُهُ:" بِالْمَعْرُوفِ" أَيْ
بِالْمُتَعَارَفِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ
وَلَا إِفْرَاطٍ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ
عَلَى قَدْرِ غِنَى الزَّوْجِ وَمَنْصِبِهَا مِنْ غَيْرِ
تَقْدِيرِ مُدٍّ وَلَا غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها)
__________
(1). راجع ج 5 ص 109.
(2). راجع ج 8 ص 346.
(3). في ب: الوالد على الولد، والذي هو مثبت هو ما في سائر
الأصول والبحر والأحكام لابن العربي.
(4). راجع ج 18 ص 168
(3/163)
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «1». وَقِيلَ
الْمَعْنَى: أَيْ لَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عَلَى
التَّقْتِيرِ فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ مَا
هُوَ إِسْرَافٌ بَلْ يُرَاعِي الْقَصْدَ. التَّاسِعَةُ- فِي
هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ
لِلْأُمِّ، فَهِيَ فِي الْغُلَامِ إِلَى الْبُلُوغِ، وَفِي
الْجَارِيَةِ إِلَى النِّكَاحِ، وَذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثمان
سِنِينَ وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ، خُيِّرَ بَيْنَ
أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَتَحَرَّكُ
هِمَّتُهُ لِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَالْأَدَبِ وَوَظَائِفِ
الْعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغُلَامُ
وَالْجَارِيَةُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ: زَوْجِي يُرِيدُ
أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ
فَخُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ" فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ. وَفِي
كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَتِ
امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي،
وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ «2»، وَقَدْ
نَفَعَنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" اسْتَهِمَا عَلَيْهِ" فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ
يُحَاقِّنِي فِي وَلَدِي! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ
بِيَدِ أَحَدِهِمَا شِئْتَ" فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ
فَانْطَلَقَتْ بِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ
امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا
كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً،
وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ
أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا
لَمْ تَنْكِحِي". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ
مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
الزَّوْجَيْنِ إِذَا افْتَرَقَا وَلَهُمَا وَلَدٌ أَنَّ
الْأُمَّ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ. وَكَذَا قَالَ أَبُو
عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا لَمْ
تَتَزَوَّجْ أَنَّهَا أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مِنْ أَبِيهِ مَا
دَامَ طِفْلًا صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ شَيْئًا إِذَا كَانَ
عِنْدَهَا فِي حِرْزٍ وَكِفَايَةٍ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا
فِسْقٌ وَلَا تَبَرُّجٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي
تَخْيِيرِهِ إِذَا مَيَّزَ وَعَقَلَ بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَفِيمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَضَى فِي ابنة حمزة للخالة من غير تخيير.
__________
(1). راجع ج 18 ص 172. [ ..... ]
(2). بئر أبى عنبة، بئر بالمدينة عندها عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ حين سار إلى
بدر. النهاية.
(3/164)
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمَ
بِابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا آخُذُهَا أَنَا
أَحَقُّ بِهَا، ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا عِنْدِي
وَالْخَالَةُ أُمٌّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا،
ابْنَةُ عَمِّي وَعِنْدِي ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَحَقُّ بِهَا. فَقَالَ
زَيْدٌ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، أَنَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا
وَسَافَرْتُ وَقَدِمْتُ بِهَا. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ:"
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُونُ
مَعَ خَالَتِهَا وَإِنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ". الْعَاشِرَةُ-
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ
عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَلَّا حَقَّ لِلْأُمِّ
فِي الْوَلَدِ إِذَا تَزَوَّجَتْ. قُلْتُ: كَذَا قَالَ فِي
كِتَابِ الْأَشْرَافِ لَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لَهُ عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ
بِالتَّزَوُّجِ. وَأَجْمَعَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَالنُّعْمَانُ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ
الْأُمِّ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا
لَمْ يَكُنْ لَهَا أُمٌّ وَكَانَ لَهَا جَدَّةٌ هِيَ أُمُّ
الْأَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ إِذَا لَمْ
يَكُنْ لِلصَّبِيِّ خَالَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ
مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَالَةُ
أَوْلَى مِنَ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ. وَفِي قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ وَالنُّعْمَانِ: أُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ مِنَ
الْخَالَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَبَ أَوْلَى بِابْنِهِ
مِنَ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا
عِنْدِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ. ثُمَّ
الْأُخْتَ بَعْدَ الْأَبِ ثُمَّ الْعَمَّةَ. وَهَذَا إِذَا
كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَأْمُونًا عَلَى
الْوَلَدِ، وَكَانَ عِنْدَهُ فِي حِرْزٍ وَكِفَايَةٍ، فَإِذَا
لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي
الْحَضَانَةِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ
يَحُوطُ الصَّبِيَّ وَمَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ فِي حِفْظِهِ
وَتَعَلُّمِهِ الْخَيْرَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ
إِنَّ الْحَضَانَةَ حَقُّ الْوَلَدِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَكَذَلِكَ لَا يَرَوْنَ حَضَانَةً لِفَاجِرَةٍ وَلَا
لِضَعِيفَةٍ عَاجِزَةٍ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ الصَّبِيِّ
لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ
مُطَرِّفٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
الْحَضَانَةَ لِلْأُمِّ ثُمَّ الْجَدَّةِ لِلْأُمِّ ثُمَّ
الْخَالَةِ ثُمَّ الْجَدَّةِ لِلْأَبِ ثُمَّ أُخْتِ الصَّبِيِّ
ثُمَّ عَمَّةِ الصَّبِيِّ ثُمَّ ابْنَةِ أَخِي الصَّبِيِّ
ثُمَّ الْأَبِ. وَالْجَدَّةُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْتِ
وَالْأُخْتُ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّةِ وَالْعَمَّةُ أَوْلَى
مِمَّنْ بَعْدَهَا، وَأَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الرِّجَالِ
الْأَوْلِيَاءِ. وَلَيْسَ لِابْنَةِ الْخَالَةِ وَلَا
لِابْنَةِ الْعَمَّةِ وَلَا لِبَنَاتِ أَخَوَاتِ الصبى من
حضانته شي. فَإِذَا كَانَ الْحَاضِنُ لَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى
الطفل
(3/165)
تَضْيِيعٌ أَوْ دُخُولُ فَسَادٍ كَانَ
حَاضِنًا لَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ. وَقَدْ
قِيلَ: حَتَّى يُثْغِرَ «1»، وَحَتَّى تَتَزَوَّجَ
الْجَارِيَةُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْأَبُ نَقْلَةَ سَفَرٍ
وَإِيطَانٍ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقَّ بِوَلَدِهِ مِنْ
أُمِّهِ وَغَيْرِهَا إِنْ لَمْ تُرِدِ الِانْتِقَالَ. وَإِنْ
أَرَادَ الْخُرُوجَ لِتِجَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الصَّبِيِّ الَّذِينَ يَكُونُ مآله «2»
إِذَا انْتَقَلُوا لِلِاسْتِيطَانِ. وَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ
تَنْقُلَ وَلَدَهَا عَنْ مَوْضِعِ سُكْنَى الْأَبِ إِلَّا
فِيمَا يَقْرَبُ نَحْوَ الْمَسَافَةِ الَّتِي لَا تُقْصَرُ
فِيهَا الصَّلَاةُ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا فِي حِينِ
انْتِقَالِهِ عَنْ بَلَدِهَا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ وَلَدَهُ
عِنْدَهَا إِلَّا أَنْ تَلْتَزِمَ نَفَقَتَهُ وَمَئُونَتَهُ
سِنِينَ مَعْلُومَةً فَإِنِ الْتَزَمَتْ ذَلِكَ لَزِمَهَا:
فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ تُتْبَعْ بِذَلِكَ وَرَثَتُهَا فِي
تَرِكَتِهَا. وَقَدْ قِيلَ: ذَلِكَ دَيْنٌ يُؤْخَذُ مِنْ
تَرِكَتِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، كَمَا لَوْ مَاتَ الولد أَوْ كَمَا لَوْ صَالَحَهَا
عَلَى نَفَقَةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ فَأَسْقَطَتْ لَمْ
تُتْبَعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- إِذَا
تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهَا وَلَدُهَا حَتَّى
يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: إِذَا نَكِحَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ حقها. فإن
طلقها لم يكن له الرُّجُوعُ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي
الْأَشْهَرِ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَذَكَرَهُ ابن خويز منداد أَيْضًا
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ
مَرَّةً: يُرَدُّ إِلَيْهَا. وَقَالَ مَرَّةً: لَا يُرَدُّ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَإِذَا خَرَجَتِ الْأُمُّ عَنِ
الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ وَلَدُهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِ
فَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتْ
ثُمَّ طُلِّقَتْ أَوْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا رَجَعَتْ
فِي حَقِّهَا مِنَ الْوَلَدِ. قُلْتُ وَكَذَلِكَ قَالَ
الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَإِنْ
طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا كَانَ لَهَا أَخْذُهُ
لِزَوَالِ الْعُذْرِ الَّذِي جَازَ لَهُ تَرْكُهُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ تَرَكَتِ الْمَرْأَةُ حَضَانَةَ
وَلَدِهَا وَلَمْ تُرِدْ أَخْذَهُ وَهِيَ فَارِغَةٌ غَيْرُ
مَشْغُولَةٍ بِزَوْجٍ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْذَهُ
نُظِرَ لَهَا، فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا لَهُ مِنْ عُذْرٍ كَانَ
لَهَا أَخْذُهُ، وَإِنْ كَانَتْ
تَرَكَتْهُ رَفْضًا لَهُ وَمَقْتًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ
ذَلِكَ أخذه.
__________
(1). الاثغار: سقوط سن الصبى وثباتها. وفي ح: حتى" يميز".
(2). كذا في الأصول، ولعله مآله إليهم.
(3/166)
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي
الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ بِطَلَاقٍ وَالزَّوْجَةُ
ذِمِّيَّةٌ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا فَرْقَ بَيْنَ
الذِّمِّيَّةِ وَالْمُسْلِمَةِ وَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا،
هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ
الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ
رُوِّينَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا مُوَافِقًا لِهَذَا الْقَوْلِ،
وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ إِنَّ
الْوَلَدَ مَعَ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَسَوَّارٍ وَعَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ الْحَسَنِ، وَحُكِيَ
ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي
الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ، أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ
مَمْلُوكٌ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْحُرُّ أَوْلَى، هَذَا
قَوْلُ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ
الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْأَبِ إِذَا كَانَ حُرًّا
وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ وَالْأُمُّ مَمْلُوكَةٌ: إِنَّ الْأُمَّ
أَحَقُّ بِهِ إِلَّا أَنْ تُبَاعَ فَتَنْتَقِلَ فَيَكُونَ
الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ
لَهُ بِوَلَدِهِ) الْمَعْنَى: لَا تَأْبَى الْأُمُّ أَنْ
تُرْضِعَهُ إِضْرَارًا بِأَبِيهِ أَوْ تَطْلُبَ أَكْثَرَ مِنْ
أَجْرِ مِثْلِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَعَ
الْأُمَّ مِنْ ذَلِكَ مَعَ رَغْبَتِهَا فِي الْإِرْضَاعِ،
هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ
وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" تُضَارَّ" بِفَتْحِ
الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَمَوْضِعُهُ جَزْمٌ عَلَى النَّهْيِ،
وَأَصْلُهُ لَا تُضَارَرْ عَلَى الْأَصْلِ، فَأُدْغِمَتِ
الرَّاءُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَفُتِحَتِ الثَّانِيَةُ
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهَكَذَا يُفْعَلُ فِي
الْمُضَاعَفِ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ فَتْحٌ أَوْ أَلِفٌ،
تَقُولُ: عَضَّ يَا رَجُلُ، وَضَارَّ فُلَانًا يَا رَجُلُ.
أَيْ لَا يُنْزَعُ الْوَلَدُ مِنْهَا إِذَا رَضِيَتْ
بِالْإِرْضَاعِ وَأَلِفَهَا الصَّبِيُّ. وَقَرَأَ أَبُو.
عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبَانُ بْنُ عَاصِمٍ وَجَمَاعَةٌ"
تُضَارُّ" بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: تُكَلَّفُ
نَفْسٌ" وَهُوَ خَبَرٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ. وَرَوَى
يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ يَقُولُ: لَا تُضَارُّ
زَوْجَهَا، تَقُولُ: لَا أُرْضِعُهُ، وَلَا يُضَارُّهَا
فَيَنْزِعُهُ مِنْهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَنَا أُرْضِعُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ" تُضَارِرْ" بِكَسْرِ
الرَّاءِ الْأُولَى، وَرَوَاهَا أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ
لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَ" والِدَةٌ" فَاعِلُهُ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ" تُضَارَرْ" فَ" والِدَةٌ"
مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ" لَا
تُضَارَرْ" بِرَاءَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ" تُضَارْ" بِإِسْكَانِ الرَّاءِ
وَتَخْفِيفِهَا. وَكَذَلِكَ" لَا يُضَارْ كَاتِبٌ" وَهَذَا
بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمِثْلَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا وهما أصليان
لم يجز
__________
(1). في ب: عبيد الله.
(3/167)
حَذْفُ أَحَدِهِمَا لِلتَّخْفِيفِ،
فَإِمَّا الْإِدْغَامُ وَإِمَّا الْإِظْهَارُ. وَرُوِيَ عَنْهُ
الْإِسْكَانُ وَالتَّشْدِيدُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنِ" لَا تُضَارِرْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:" وَعَلَى
الْمَوْلُودِ" وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ:" وَعَلَى
الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ" فَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ
وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ أَنْ لَوْ مَاتَ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَارِثُهُ مِنَ الرِّجَالِ خَاصَّةً يَلْزَمُهُ الْإِرْضَاعُ،
كَمَا كَانَ يَلْزَمُ أبا الصبى لو كان حيا، وقال مُجَاهِدٌ
وَعَطَاءٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ وَارِثُ
الصَّبِيِّ مَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،
وَيَلْزَمُهُمْ إِرْضَاعُهُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ
مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ"
مَعَانِي الْقُرْآنِ" لَهُ: فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
فَإِنَّهُ قَالَ: تَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَرَضَاعُهُ
عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ
لَهُ ابْنُ أُخْتٍ صَغِيرٌ مُحْتَاجٌ وَابْنُ عَمٍّ صَغِيرٌ
مُحْتَاجٌ وَهُوَ وَارِثُهُ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى
الْخَالِ لِابْنِ أُخْتِهِ الَّذِي لَا يَرِثُهُ، وَتَسْقُطُ
عَنِ ابْنِ الْعَمِّ لِابْنِ عَمِّهِ الْوَارِثِ. قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ: فَقَالُوا قَوْلًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَارِثُ
الَّذِي يَلْزَمُهُ الْإِرْضَاعُ هُوَ وَارِثُهُ إِذَا كَانَ
ذَا رَحِمٍ محرم مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ وَغَيْرَهُ
لَيْسَ بذي رحم محرم فلا يلزمه شي. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
عَصَبَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمُ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: إِنْ مَاتَ أَبُو الصَّبِيِّ وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ
أُخِذَ رَضَاعُهُ مِنَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ أُخِذَ مِنَ الْعَصَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْعَصَبَةِ مَالٌ أُجْبِرَتِ الْأُمُّ عَلَى إِرْضَاعِهِ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَالضَّحَّاكُ وَبَشِيرُ بْنُ
نَصْرٍ قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْوَارِثُ هُوَ
الصَّبِيُّ نَفْسُهُ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ:" وَعَلَى
الْوارِثِ" الْمَوْلُودِ، مِثْلُ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ،
أَيْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِذَا وَرِثَ أَبَاهُ إِرْضَاعُ
نَفْسِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْوَارِثُ هُنَا هُوَ الْبَاقِي
مِنْ وَالِدَيِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَفَاةِ الْآخَرِ
مِنْهُمَا، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ فَعَلَى الْأُمِّ كِفَايَةُ
الطِّفْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَيُشَارِكُهَا
الْعَاصِبُ فِي إِرْضَاعِ الْمَوْلُودِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِ
من الميراث. وقال ابن خويز منداد: وَلَوْ كَانَ الْيَتِيمُ
فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامُ
بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ
وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، الْأَخَصِّ بِهِ
(3/168)
فَالْأَخَصِّ، وَالْأُمُّ أَخَصُّ بِهِ
فَيَجِبُ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ وَالْقِيَامُ بِهِ، وَلَا
تَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ. وَالرَّضَاعُ وَاجِبٌ
وَالنَّفَقَةُ اسْتِحْبَابٌ: وَوَجْهُ الِاسْتِحْبَابِ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ" وَوَاجِبٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ
الْقِيَامُ بِهِنَّ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ
لَهُنَّ بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ إِعْسَارِهِ لَمْ يَسْقُطِ
الْحَقُّ عَنْهُنَّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ
عَلَيْهِنَّ وَالنَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ،
وَإِذَا تَعَذَّرَتِ النَّفَقَةُ لَهُنَّ لَمْ تَسْقُطِ
الْعِدَّةُ عَنْهُنَّ. وَرَوَى «1» عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْأَسَدِيَّةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ
نَفَقَةُ أَخٍ وَلَا ذِي قَرَابَةٍ وَلَا ذِي رَحِمٍ مِنْهُ.
قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ" هُوَ مَنْسُوخٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا
لَفْظُ مَالِكٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا النَّاسِخُ لَهَا وَلَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، وَلَا عَلِمْتُ أَنَّ
أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِمْ بَيَّنَ ذَلِكَ، وَالَّذِي
يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لَهَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى
نَفَقَةَ حَوْلٍ وَالسُّكْنَى ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ،
نُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْوَارِثِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا
تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الصَّبِيِّ نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ،
لَا يكون على الوارث منها شي عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ" وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ"
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ هِيَ مَنْسُوخَةٌ،
وَهَذَا كَلَامٌ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الْغَافِلِينَ،
وَتَحْتَارُ فِيهِ أَلْبَابُ الشَّاذِّينَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ
قَرِيبٌ! وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ
التَّخْصِيصَ نَسْخًا، لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِبَعْضِ مَا
يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ مُسَامَحَةً، وَجَرَى ذَلِكَ فِي
أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ،
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:"
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى مَا
تَقَدَّمَ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَدَّهُ إِلَى جَمِيعِهِ مِنْ
إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَتَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ، مِنْهُمْ
أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ السَّلَفِ قتادة
والحسن وسند إِلَى عُمَرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَعَلَى
الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ" لَا
يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ
إِلَى تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى
الْوَارِثِ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ بِالْأُمِّ مَا عَلَى
الْأَبِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ
يَرْجِعُ الْعَطْفُ فِيهِ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ
فَعَلَيْهِ الدليل.
__________
(1). في ب وه: وحكى.
(3/169)
قُلْتُ: قَوْلُهُ:" وَهَذَا هُوَ
الْأَصْلُ" يُرِيدُ فِي رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ
مَذْكُورٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الْجَمِيعَ
الَّذِي هُوَ الْإِرْضَاعُ وَالْإِنْفَاقُ وَعَدَمُ الضَّرَرِ
لَقَالَ: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْمُضَارَّةِ،
وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَافَّةُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا
حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ أَنَّ الْوَالِدَةَ لَا تُضَارَّ وَلَدَهَا فِي أَنَّ
الْأَبَ إِذَا بَذَلَ لَهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَلَّا
تُرْضِعَهُ،" وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ" فِي أَنَّ
الْأُمَّ إِذَا بَذَلَتْ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ
كَانَ لَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأُمَّ أَرْفَقُ وَأَحَنُّ
عَلَيْهِ، وَلَبَنُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ لَبَنِ
الْأَجْنَبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَالشَّعْبِيُّ
أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ" مِثْلُ ذلِكَ" أَلَّا
تُضَارَّ، وَأَمَّا الرِّزْقُ وَالْكُسْوَةُ فَلَا يجب شي
مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْآيَةَ
تَضَمَّنَتْ أَنَّ الرِّزْقَ وَالْكُسْوَةَ عَلَى الْوَارِثِ،
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي
أَلَّا يُضَارَّ الْوَارِثُ، وَالْخِلَافُ هَلْ عَلَيْهِ
رِزْقٌ وَكِسْوَةٌ أَمْ لَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ"
وَعَلَى الْوَرَثَةِ" بِالْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي
الْعُمُومَ، فَإِنِ أسدلوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ."
لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ" قِيلَ
لَهُمُ الرَّحِمُ عُمُومٌ فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ، مَحْرَمًا
كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ صَرْفَ
الصَّدَقَةِ إِلَى ذِي الرَّحِمِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" اجْعَلْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ" فَحُمِلَ
الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا
رَامُوهُ، وَاللَّهُ أعلم. وقال النحاس: وأما قوله مَنْ قَالَ"
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ" أَلَّا يُضَارَّ فَقَوْلُهُ
حَسَنٌ، لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ مَحْظُورَةٌ فلا يخرج شي
منها إلا بدليل قاطع. وأما قوله مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَةِ
الْأَبِ فَالْحُجَّةُ أَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ عَلَى
الْأَبِ، فَوَرَثَتُهُ أَوْلَى مِنْ وَرَثَةِ الِابْنِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَةِ الِابْنِ
فَيَقُولُ: كَمَا يَرِثُونَهُ يَقُومُونَ بِهِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ يَخْتَارُ قَوْلَ
مَنْ قَالَ الْوَارِثُ هُنَا الِابْنُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
قَوْلًا غَرِيبًا فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ صَحِيحٌ وَالْحُجَّةُ
بِهِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ مَالَهُ أَوْلَى بِهِ. وَقَدْ
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ
رَجُلًا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ طِفْلٌ وَلِلْوَلَدِ مَالٌ،
وَالْأَبُ مُوسِرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الأب نفقة ولإرضاع،
وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، قِيلَ: هَذَا
الضَّمِيرُ لِلْمُؤَنَّثِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ
(3/170)
حَدٌّ لِلْآيَةِ مُبَيِّنٌ لَهَا، لَا
يَسَعُ مُسْلِمًا الْخُرُوجُ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ:
ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، فَحُجَّتُهُ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأُمِّ تَضْيِيعُ وَلَدِهَا، وَقَدْ
مَاتَ مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا. وَقَدْ
تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ" بَابَ-
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ، وهل على المرأة منه شي"
وَسَاقَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِنْدَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ:
أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَ لَهَا أَبْنَاءٌ مِنْ أَبِي
سَلَمَةَ وَلَمْ يَكُنْ، لَهُمْ مَالٌ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّ لَهَا
فِي ذَلِكَ أَجْرًا. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ
نَفَقَةَ بَنِيهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ
عَلَيْهَا لَمْ تَقُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ هِنْدَ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَطْلَقَهَا عَلَى أَخْذِ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ بَنِيهَا
مِنْ مَالِ الْأَبِ، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهَا كَمَا
أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَبِ. فَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ مِنْ
هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْأُمَّهَاتِ
نَفَقَاتُ الْأَبْنَاءِ فِي حَيَاةِ الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ لَا
يَلْزَمُهُنَّ بِمَوْتِ الْآبَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ
إِنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ
مَحْرَمٍ فَحُجَّتُهُ أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ
عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إِذَا كَانَ فَقِيرًا. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَمْ
يُؤْخَذْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ إِجْمَاعٍ
وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ لَا يُعْرَفُ مِنْ قَوْلٍ
سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ"
فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ
فَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ فَقَالُوا: إِذَا ترك خال وَابْنَ
عَمِّهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى خَالِهِ وَلَيْسَ عَلَى ابن عمه
شي، فَهَذَا مُخَالِفٌ نَصَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْخَالَ لَا
يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ فِي قَوْلِ أَحَدٍ، وَلَا يَرِثُ
وَحْدَهُ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالَّذِي
احْتَجُّوا بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ
مَحْرَمٍ، أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَرادا
فِصالًا) الضَّمِيرُ فِي" أَرادا" لِلْوَالِدَيْنِ.
وَ" فِصالًا" مَعْنَاهُ فِطَامًا عَنِ الرَّضَاعِ، أَيْ عَنِ
الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ
الْأَقْوَاتِ. وَالْفِصَالُ وَالْفَصْلُ: الْفِطَامُ،
وَأَصْلُهُ التَّفْرِيقُ، فَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الصَّبِيِّ
وَالثَّدْيِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيلُ، لِأَنَّهُ
مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ. (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) أَيْ قَبْلَ
الْحَوْلَيْنِ. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أَيْ فِي فَصْلِهِ،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا جَعَلَ مُدَّةَ
الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامَهُمَا
(3/171)
هُوَ الْفِطَامُ، وَفِصَالَهُمَا هُوَ
الْفِصَالُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَنْزَعٌ، إِلَّا أَنْ
يَتَّفِقَ الْأَبَوَانِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ
مِنْ غَيْرِ مَضَارَّةٍ بِالْوَلَدِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ بِهَذَا
الْبَيَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الرَّضَاعُ وَاجِبًا فِي
الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ يَحْرُمُ الْفِطَامُ قَبْلَهُ، ثُمَّ
خُفِّفَ وَأُبِيحَ الرَّضَاعُ أَقَلَّ مِنَ الْحَوْلَيْنِ
بِقَوْلِهِ:" فَإِنْ أَرادا فِصالًا" الْآيَةَ. وَفِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ
بِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُرَ
فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى صَلَاحِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ
عَلَى غَالِبِ ظُنُونِهِمَا لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَالْيَقِينِ، وَالتَّشَاوُرُ: اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ،
وَكَذَلِكَ الْمُشَاوَرَةُ، وَالْمَشُورَةُ كَالْمَعُونَةِ،
وَشُرْتُ الْعَسَلَ: اسْتَخْرَجْتُهُ، وَشُرْتُ الدَّابَّةَ
وَشَوَّرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا،
وَالشَّوَارُ: مَتَاعُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ
لِلنَّاظِرِ، وَالشَّارَةُ: هَيْئَةُ الرَّجُلِ،
وَالْإِشَارَةُ: إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ وَإِظْهَارُهُ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ
غَيْرَ الْوَالِدَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ النَّحَّاسُ:
التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَجْنَبِيَّةً لِأَوْلَادِكُمْ، مِثْلَ" كالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوهُمْ «1» " أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ،
وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ
أَحَدَهُمَا بِحَرْفٍ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ
تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
وَلَا يَجُوزُ: دَعَوْتُ زَيْدًا، أَيْ دَعَوْتُ لِزَيْدٍ،
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّلْبِيسِ، فَيُعْتَبَرُ فِي
هَذَا النَّوْعِ السَّمَاعُ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الظِّئْرِ إِذَا
اتَّفَقَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ
قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا تُضَارَّ
والِدَةٌ" مَعْنَاهُ الظِّئْرُ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أُمٍّ يَلْزَمُهَا رَضَاعُ وَلَدِهَا
كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَرَ الزَّوْجَاتِ
بِإِرْضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ، وَأَوْجَبَ لَهُنَّ عَلَى
الْأَزْوَاجِ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَالزَّوْجِيَّةُ
قَائِمَةٌ، فَلَوْ كَانَ الرَّضَاعُ عَلَى الْأَبِ لَذَكَرَهُ
مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ رِزْقِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ، إِلَّا
أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
اسْتَثْنَى الْحَسِيبَةَ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُهَا رَضَاعَةٌ.
فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْآيَةِ وَخَصَّصَهَا بِأَصْلٍ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْعَادَةِ. وَهَذَا
أَصْلٌ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ. وَالْأَصْلُ
الْبَدِيعُ فِيهِ أَنَّ
__________
(1). راجع ج 19 ص 250.
(3/172)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
فِي ذَوِي الْحَسَبِ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ،
وَتَمَادَى ذَوُو الثَّرْوَةِ وَالْأَحْسَابِ عَلَى تَفْرِيغِ
الْأُمَّهَاتِ لِلْمُتْعَةِ بِدَفْعِ الرضعاء للمراضع إلى
زمانه فقأ بِهِ، وَإِلَى زَمَانِنَا فَتَحَقَّقْنَاهُ شَرْعًا.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قوله تعالى: (إِذا سَلَّمْتُمْ)
يَعْنِي الْآبَاءَ، أَيْ سَلَّمْتُمْ الْأُجْرَةَ إِلَى
الْمُرْضِعَةِ الظئر، قال سُفْيَانُ. مُجَاهِدٌ: سَلَّمْتُمْ
إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَجْرَهُنَّ بِحِسَابِ مَا أَرْضَعْنَ
إِلَى وَقْتِ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ. وَقَرَأَ السِّتَّةُ
مِنَ السَّبْعَةِ" مَا آتَيْتُمْ" بِمَعْنَى مَا أَعْطَيْتُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" أَتَيْتُمْ" بِمَعْنَى مَا جِئْتُمْ
وَفَعَلْتُمْ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ
آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْمَعْنَى سَلَّمْتُمْ مَا
أَتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ سَلَّمَ
كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ، وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا وَقَصْدِ خَيْرٍ وَإِرَادَةِ
مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ
فَيَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ" سَلَّمْتُمْ «1» " الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ
الْخِطَابُ لِلرِّجَالِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمَعْنَى
إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ نَقْدَهُ أَوْ إِعْطَاءَهُ،
فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مَقَامَهُ، فَكَانَ
التَّقْدِيرُ: مَا آتَيْتُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ مِنَ
الصِّلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْخِطَابُ
لِلرِّجَالِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْطُونَ أَجْرَ
الرَّضَاعِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ"
مَا" مَصْدَرِيَّةً، أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمُ الْإِتْيَانَ،
وَالْمَعْنَى كَالْأَوَّلِ، لَكِنْ يَسْتَغْنِي عَنِ الصِّفَةِ
«2» مَنْ حَذَفَ المضاف ثم حذف الضمير.
[سورة البقرة (2): آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
فِيهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ
عَزَّ وَجَلَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا
ذِكْرُ الْإِرْضَاعِ، ذَكَرَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَيْضًا،
لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِثْلُ عِدَّةِ
__________
(1). كذا في الأصول، وفى ابن عطية: فيدخل في الخطاب بسلمتم
إلخ، بهذا يستقيم المعنى.
(2). في ج وابن عطية: يستغنى عن الصنعة.
(3/173)
الطَّلَاقِ." وَالَّذِينَ" أَيْ
وَالرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ. (وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً) أَيْ يَتْرُكُونَ أَزْوَاجًا، أَيْ وَلَهُمْ
زَوْجَاتٌ فَالزَّوْجَاتُ (يَتَرَبَّصْنَ)، قَالَ مَعْنَاهُ
الزَّجَّاجُ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَحَذْفُ الْمُبْتَدَإِ
فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ «1» " أَيْ
هُوَ النَّارُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
تَقْدِيرُهُ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ:
السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ
بِدِرْهَمٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ، فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ
فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ عَنْ
سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ
الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ. وَقَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ:
الْخَبَرُ عَنِ" الَّذِينَ" مَتْرُوكٌ، وَالْقَصْدُ
الْإِخْبَارُ عَنْ أَزْوَاجِهِمْ بِأَنَّهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ،
وَهَذَا اللَّفْظُ معنا الْخَبَرُ عَنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فِي
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ
الْآيَةُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا،
وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ. وَحَكَى
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ
تَنَاوَلَتِ الْحَوَامِلَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ"
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
«2» ". وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ"
لِأَنَّ النَّاسَ أَقَامُوا بُرْهَةً مِنَ الْإِسْلَامِ «3»
إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا
أَوْصَى لَهَا زَوْجُهَا بِنَفَقَةِ سَنَةٍ وَبِالسُّكْنَى مَا
لَمْ تَخْرُجْ فَتَتَزَوَّجَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ
بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَبِالْمِيرَاثِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ
مِنَ الْحَوْلِ، كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ لَمَّا نَقَصَتْ مِنَ
الْأَرْبَعِ إِلَى الِاثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا.
وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمُهَا أَنْ
تَعْتَدَّ سَنَةً إِذَا لَمْ تَخْرُجْ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ
تُمْنَعْ، ثُمَّ أُزِيلَ هَذَا وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ،
وَلَيْسَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ مِنْ هَذَا فِي شي. وَقَدْ
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فُرِضَتِ
الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ
الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ بِحَالِهَا،
وَسَيَأْتِي «4». الثَّالِثَةُ: عِدَّةُ الْحَامِلِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَمَامَ عِدَّتِهَا آخِرُ
الأجلين، واختاره سحنون من علمائنا.
__________
(1). راجع ج 12 ص 95.
(2). راجع ج 18 ص 162.
(3). في هـ: برهة من الزمان.
(4). راجع ج 5 ص 351
(3/174)
وقد روى عَنِ «1» ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
رَجَعَ عَنْ هَذَا. وَالْحُجَّةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ روم الجمع بن قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً"
وَبَيْنَ قَوْلِهِ:" وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا قَعَدَتْ
أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى
الْآيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ
تَرَكَتِ الْعَمَلَ بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَالْجَمْعُ
أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأُصُولِ.
وَهَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ لَوْلَا مَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مِنْ
حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَأَنَّهَا نَفِسَتْ
بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، وَأَنَّهَا ذَكَرَتْ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحِ.
فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" مَحْمُولٌ
عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُتَوَفَّى
عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، وَأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
مُخْتَصَّةٌ بِالْحَائِلِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، وَيَعْتَضِدُ
هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ
أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ
عِدَّةِ الْوَفَاةِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ
أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ
لَهَا، فَإِنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْهَا بَعْضَ
مُتَنَاوَلَاتِهَا. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ مُتَأَخِّرٌ
عَنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ كَانَتْ
بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَزَوْجُهَا هُوَ سَعْدُ بْنُ
خَوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَهُوَ
مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ حِينَئِذٍ وَهِيَ
حَامِلٌ، وَهُوَ الَّذِي رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ،
وَوَلَدَتْ بَعْدَهُ بِنِصْفِ شَهْرٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ أَنَّ سُبَيْعَةَ
سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ: فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ
حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ
بَدَا لِي. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ
تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا،
غَيْرَ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَطْهُرَ،
وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ
الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ: لَا تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا
دَامَتْ فِي دَمِ نِفَاسِهَا. فَاشْتَرَطُوا شَرْطَيْنِ:
وَضْعُ الْحَمْلِ، وَالطُّهْرُ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ.
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي
قَوْلِهِ:" فَلَمَّا تَعَلَّتْ «2» مِنْ نِفَاسِهَا
تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ" كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي
داود، لان" تعلت" وإن كان أصله
__________
(1). في هـ: أن ابن عباس.
(2). قال ابن الأثير: ويروى" تعالت" أي ارتفعت وطهرت، ويجوز أن
يكون من قولهم: تعلى الرجل من علته إذا برأ أي خرجت منن نفاسها
وسلمت. مسلم ج 4 ص 201 [ ..... ]
(3/175)
طَهُرَتْ مِنْ دَمِ نِفَاسِهَا- عَلَى مَا
قَالَهُ الْخَلِيلُ- فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِهِ هَاهُنَا تَعَلَّتْ مِنْ آلَامِ نِفَاسِهَا، أَيِ
اسْتَقَلَّتْ مِنْ أَوْجَاعِهَا. وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ
مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْخَلِيلُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ،
وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِسُبَيْعَةَ:" قَدْ حَلَلْتِ حِينَ وَضَعْتِ" فَأَوْقَعَ
الْحِلُّ فِي حِينِ الْوَضْعِ وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ
يَقُلْ إِذَا انْقَطَعَ دَمُكِ وَلَا إِذَا طَهُرْتِ، فَصَحَّ
مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الرَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَجَلَ كُلِّ حَامِلٍ مُطَلَّقَةٍ
يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا أَوْ لَا يَمْلِكُ، حُرَّةً
كَانَتْ أَوْ أَمَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَنْ
تَضَعَ حَمْلَهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَجَلِ الْحَامِلِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَجْمَعَ
الْجَمِيعُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ
تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا فَانْقَضَتْ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَلِدَ،
فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوِلَادَةُ. الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ) التَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي
وَالتَّصَبُّرُ عَنِ النِّكَاحِ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْ
مَسْكَنِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بِأَلَّا تُفَارِقَهُ لَيْلًا.
وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى
عَنْهَا فِي كِتَابِهِ كَمَا ذَكَرَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَسْكِنُوهُنَّ" وَلَيْسَ فِي لَفْظِ
الْعِدَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى
الْإِحْدَادِ، وَإِنَّمَا قَالَ:" يَتَرَبَّصْنَ" فَبَيَّنَتِ
السُّنَّةُ جَمِيعَ ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ
التَّرَبُّصَ فِي الْوَفَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِإِحْدَادٍ،
وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الزِّينَةِ وَلُبْسِ الْمَصْبُوغِ
الْجَمِيلِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: لَيْسَ
الْإِحْدَادُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا تَتَرَبَّصُ عَنِ الزَّوْجِ،
وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَطَيَّبَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ
لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ
مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَكَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا:" امْكُثِي
فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ" قَالَتْ:
فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذَا
حَدِيثٌ ثَابِتٌ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، رَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبُ «1» بْنُ خَالِدٍ وَحَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَعَدَدٌ كَثِيرٌ وَابْنُ
عُيَيْنَةَ وَالْقَطَّانُ وَشُعْبَةُ، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ
عن ابن شهاب
__________
(1). في الأصول:" وهب" والتصويب على شرح الموطأ وتهذيب
التهذيب.
(3/176)
وَحَسْبُكَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لَمْ
يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَضَى بِهِ فِي اعْتِدَادِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي بَيْتِهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ
مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ
أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا أَنْ
تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ
جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ
وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ. وَكَانَ دَاوُدُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ
تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا وَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، لِأَنَّ
السُّكْنَى إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي
الْمُطَلَّقَاتِ، وَمِنْ حُجَّتِهِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ
مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. قَالُوا: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا
تَرْوِيهِ امْرَأَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ،
وَإِيجَابُ السُّكْنَى إِيجَابُ حُكْمٍ، وَالْأَحْكَامُ لَا
تَجِبُ إِلَّا بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ
إِجْمَاعٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَّا السُّنَّةُ فَثَابِتَةٌ
بِحَمْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ
بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إِذَا نَزَلَ في مسألة
كانت الحجة في قوله مَنْ وَافَقَتْهُ السُّنَّةُ، وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ مِثْلُ قَوْلِ دَاوُدَ، وَبِهِ قَالَ
جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً"
وَلَمْ يَقُلْ يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلْتَعْتَدَّ
حَيْثُ شَاءَتْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا «1» مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ
بِأُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ- حِينَ قُتِلَ عَنْهَا زَوْجُهَا
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ- إِلَى مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ،
وَكَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا [زَوْجُهَا «2»]
بِالْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا «3»
الثَّوْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَبَى النَّاسُ
ذَلِكَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا «4» مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ فِي
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَأَخَذَ
أَهْلُ الْوَرَعِ وَالْعَزْمِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي
الْمُوَطَّأِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ
الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ
يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ. وَهَذَا مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ اجْتِهَادٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى اعْتِدَادَ
الْمَرْأَةِ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
لَازِمًا لَهَا، وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ
حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تُرَدُّ مَا
لَمْ تُحْرِمْ. السَّادِسَةُ- إِذَا كَانَ الزَّوْجُ يَمْلِكُ
رَقَبَةَ الْمَسْكَنِ فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الْعِدَّةَ فِيهِ،
وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ لِحَدِيثِ
الْفُرَيْعَةِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الدار
__________
(1). في ب: أخبرنا.
(2). في ب.
(3). في ب وهـ: أخبرنا.
(4). في هـ وب: أخبرنا.
(3/177)
إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُتَوَفَّى
وَأَرَادَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ
الْعِدَّةُ لِلْمَرْأَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِأَنَّهَا
أَحَقُّ بِالسُّكْنَى مِنَ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَكَمِ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تَرْتَابُ
فَتَمْتَدُّ عِدَّتُهَا. وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ:
أَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ، وَالرِّيبَةَ نَادِرَةٌ
وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعُقُودِ، فَإِنْ وَقَعَ
الْبَيْعُ فِيهِ بِهَذَا الشَّرْطِ فَارْتَابَتْ، قَالَ
مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: هِيَ أَحَقُّ بِالْمَقَامِ
حَتَّى تَنْقَضِيَ الرِّيبَةُ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ
يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ
إِمْضَائِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
الْعِدَّةِ الْمُعْتَادَةِ، وَلَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ
زَوَالِ الرِّيبَةِ كَانَ فَاسِدًا. وَقَالَ سَحْنُونُ: لَا
حُجَّةَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَمَادَتِ الرِّيبَةُ إِلَى
خَمْسِ سِنِينَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعِدَّةِ
وَالْعِدَّةُ قَدْ تَكُونُ خَمْسَ سِنِينَ، وَنَحْوَ هَذَا
رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. السَّابِعَةُ-
فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى دُونَ الرَّقَبَةِ،
فَلَهَا السُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، خِلَافًا لِأَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِلْفُرَيْعَةِ- وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَمْلِكُ
رَقَبَةَ الْمَسْكَنِ-:" امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ". لَا يُقَالُ إِنَّ الْمَنْزِلَ
كَانَ لَهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا:" امْكُثِي فِي بَيْتِكِ"
فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا ذَكَرَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
زَوْجَهَا قُتِلَ، وَأَنَّهُ تَرَكَهَا فِي مَسْكَنٍ لَيْسَ
لَهَا وَاسْتَأْذَنَتْهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَلَنَا مِنْ
جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَ دَارًا يَمْلِكُ سُكْنَاهَا
مِلْكًا لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَلَزِمَ أَنْ تَعْتَدَّ
الزَّوْجَةُ فِيهِ، أَصْلُ ذَلِكَ إِذَا مَلَكَ رَقَبَتَهَا.
الثَّامِنَةُ- وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّى الْكِرَاءَ،
وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ الْكِرَاءَ فَالَّذِي فِي
الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا فِي مَالِ
الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، لِأَنَّ حَقَّهَا إِنَّمَا
يَتَعَلَّقُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنَ السُّكْنَى مِلْكًا
تَامًّا، وَمَا لَمْ يَنْقُدْ عِوَضَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ
مِلْكًا تَامًّا، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْعِوَضَ الَّذِي
بِيَدِهِ، وَلَا حَقَّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ إِلَّا
بِالْمِيرَاثِ دُونَ السُّكْنَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ
وَلَيْسَ بِسُكْنَى. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
الْكِرَاءَ لَازِمٌ لِلْمَيِّتِ فِي مَالِهِ. التَّاسِعَةُ-
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُرَيْعَةِ:"
امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ"
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ زَوْجُهَا
قَدْ أَدَّى كِرَاءَ الْمَسْكَنِ، أَوْ كَانَ أُسْكِنَ فِيهِ
(3/178)
إِلَى وَفَاتِهِ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْمَنْزِلِ أَبَاحُوا لَهَا الْعِدَّةَ فِيهِ بِكِرَاءٍ أَوْ
غَيْرِ كِرَاءٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ
مِمَّا رَأَى بِهِ أَنَّ الْمَقَامَ لَازِمٌ لَهَا فِيهِ
حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمَرْأَةِ يَأْتِيهَا نَعْيُ زَوْجِهَا وَهِيَ فِي
بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ
إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ [رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ «1»]. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
وَالنَّخَعِيُّ: تَعْتَدُّ حَيْثُ أَتَاهَا الْخَبَرُ، لَا
تَبْرَحُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ
نَقَلَهَا الزَّوْجُ إِلَى مَكَانٍ فَتَلْزَمُ ذَلِكَ
الْمَكَانَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ
تَخْرُجَ فِي حَوَائِجِهَا مِنْ وَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ
بُكْرَةً إِلَى وَقْتِ هُدُوئِهِمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَلَا
تَبِيتُ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَا تُحِدَّ امْرَأَةٌ
عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا
ثَوْبَ عَصْبٍ «2»، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا
إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً «3» مِنْ قُسْطٍ أَوْ
أَظْفَارٍ". وَفِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ:" لَا يَحِلُّ
لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ
عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" الْحَدِيثَ. الْإِحْدَادُ: تَرْكُ
الْمَرْأَةِ الزِّينَةَ كُلَّهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ
وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ مَا
دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، لِأَنَّ الزِّينَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى
الْأَزْوَاجِ، فَنُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرَائِعِ،
وَحِمَايَةً لِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُنْتَهَكَ،
وَلَيْسَ دَهْنُ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا بالزيت والشيرج من
الطيب في شي. يُقَالُ: امْرَأَةٌ حَادٌّ وَمُحِدٌّ. قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: وَلَمْ نَعْرِفْ" حَدَّتْ". وَفَاعِلُ" لَا
يَحِلُّ" الْمَصْدَرُ الَّذِي يُمْكِنُ صِيَاغَتُهُ مِنْ"
تُحِدُّ" مَعَ" أَنْ" الْمُرَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
الْإِحْدَادُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَصْفُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الْمَرْأَةَ بِالْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا فِي الْكِتَابِيَّةِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّهَا لَا إِحْدَادَ
عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ نَافِعٍ،
وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عنه ابن القاسم أن
عليها الإحداد
__________
(1). في هـ.
(2). العصب (بفتح العين وسكون الصاد المهملتين): من برود اليمن
يعصب غزلها، أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج مصبوغا فيخرج موشيا لبقاء
ما عصب منه أبيض ولم ينصبغ: وإنما يعصب السدى دون اللحمة.
(3). النبذة: الشيء اليسير. القسط والاظفار: نوعان من البخور.
نبذة منصوب على الاستثناء تقدم عليه الظرف (شرح مسلم).
(3/179)
، كَالْمُسْلِمَةِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا،
لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ فَلَزِمَتِ
الْكِتَابِيَّةُ لِلْمُسْلِمِ كَلُزُومِ الْمَسْكَنِ
وَالْعِدَّةِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ" دَلِيلٌ
عَلَى تَحْرِيمِ إِحْدَادِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ
أَزْوَاجِهِنَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَإِبَاحَةُ الْإِحْدَادِ
عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا تَبْدَأُ بِالْعَدَدِ مِنَ اللَّيْلَةِ
الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا إِلَى آخِرِ ثَالِثِهَا، فَإِنْ مَاتَ
حَمِيمُهَا فِي بَقِيَّةِ يَوْمٍ «1» أَوْ لَيْلَةٍ أَلْغَتْهُ
وَحَسَبَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ. الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ- هَذَا الْحَدِيثُ بِحُكْمِ عُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ
الزَّوْجَاتِ كُلَّهُنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ
أَزْوَاجُهُنَّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِمَاءُ وَالْحَرَائِرُ
وَالْكِبَارُ وَالصِّغَارُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا
إِحْدَادَ عَلَى أَمَةٍ وَلَا عَلَى صَغِيرَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُ
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَمَّا الْأَمَةُ الزَّوْجَةُ فَهِيَ دَاخِلَةٌ
فِي جُمْلَةِ الْأَزْوَاجِ وَفِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ
الرَّأْيِ، وَلَا أَحْفَظُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ خِلَافًا،
وَلَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى
أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
بِزَوْجَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي
الْأَزْوَاجِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: الصَّغِيرَةُ إِذَا كَانَتْ
مِمَّنْ تَعْقِلُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَتَلْتَزِمُ مَا
حُدَّ لَهَا أُمِرَتْ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُدْرِكُ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِصِغَرِهَا فَرَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ
عِيسَى يُجَنِّبُهَا أَهْلُهَا جَمِيعَ مَا تَجْتَنِبُهُ
الْكَبِيرَةُ، وَذَلِكَ لَازِمٌ لَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى
وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الصَّغِيرَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْهُ
امْرَأَةٌ عَنْ بِنْتٍ لَهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا
فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتُكَحِّلُهَا؟ فَقَالَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ" لَا" وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ
سِنِّهَا، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَفْتَرِقُ بِالصِّغَرِ
وَالْكِبَرِ لَسَأَلَ عَنْ سِنِّهَا حَتَّى يُبَيِّنَ
الْحُكْمَ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا
يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ
بِالْوَفَاةِ لَزِمَهَا الْإِحْدَادُ كَالْكَبِيرَةِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا
أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْخِضَابَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ
الزِّينَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لَهَا لِبَاسُ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ
وَالْمُعَصْفَرَةِ، إِلَّا مَا صُبِغَ
__________
(1). في هـ: يومه أو ليله.
(3/180)
بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ،
وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا تَلْبَسُ
ثَوْبَ عَصْبٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ. وَفِي
الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: لَا تَلْبَسُ رَقِيقَ عَصْبِ
الْيَمَنِ، وَوَسَّعَ فِي غَلِيظِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
لِأَنَّ رَقِيقَهُ بِمَنْزِلَةِ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ
وَتَلْبَسُ رَقِيقَ الثِّيَابِ وَغَلِيظَهُ مِنَ الْحَرِيرِ
وَالْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَرَخَّصَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ فِي لِبَاسِ الْبَيَاضِ،
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ
كُلَّ صَبْغٍ كَانَ زِينَةً لَا تَمَسُّهُ الْحَادُّ رَقِيقًا
كَانَ أَوْ غَلِيظًا. وَنَحْوُهُ لِلْقَاضِي عَبْدِ
الْوَهَّابِ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْأَلْوَانِ
تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ فَلْتَمْتَنِعْ
مِنْهُ الْحَادُّ. وَمَنَعَ بَعْضُ، مَشَايِخِنَا
الْمُتَأَخِّرِينَ جَيِّدَ الْبَيَاضِ الَّذِي يُتَزَيَّنُ
بِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّفِيعَ مِنَ السَّوَادِ. وَرَوَى ابْنُ
الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ: لَا تَلْبَسُ حُلِيًّا وَإِنْ كَانَ
حَدِيدًا، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ كُلَّ مَا تَلْبَسُهُ
الْمَرْأَةُ عَلَى وَجْهِ مَا يُسْتَعْمَلُ عَلَيْهِ
الْحُلِيُّ مِنَ التَّجَمُّلِ فَلَا تَلْبَسْهُ الْحَادُّ.
وَلَمْ يَنُصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى الْجَوَاهِرِ
وَالْيَوَاقِيتِ وَالزُّمُرُّدِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى
الْحُلِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ-
وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِلَّا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ
قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
عُمَيْسٍ قَالَتْ: لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" تَسَلَّبِي «1» ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا
شِئْتِ". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَى
الْإِحْدَادَ، وَقَالَ: الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا
وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَكْتَحِلَانِ
وَتَخْتَضِبَانِ وَتَصْنَعَانِ مَا شَاءَا. وَقَدْ ثَبَتَتِ
الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْإِحْدَادِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَلَغَتْهُ
إِلَّا التَّسْلِيمُ، وَلَعَلَّ الْحَسَنَ لَمْ تَبْلُغْهُ،
أَوْ بَلَغَتْهُ فَتَأَوَّلَهَا بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ
عُمَيْسٍ أَنَّهَا اسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحِدَّ عَلَى جَعْفَرٍ وَهَى
امْرَأَتُهُ، فَأَذِنَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَعَثَ
إِلَيْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنْ تَطَهَّرِي
وَاكْتَحِلِي. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ دَفَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ بِوُجُوهٍ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ يَقُولُ: هَذَا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به، وقال
إسحاق.
__________
(1). تسلبي: البسي ثياب الحداد السود، وهى السلاب (ككتاب).
(3/181)
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- ذَهَبَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنْ لَا إِحْدَادَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ
رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنَةً وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ،
وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ:
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ
بْنُ حَيٍّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ
الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، وَهُوَ قول
سعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ
سِيرِينَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ الْحَكَمُ: هُوَ
عَلَيْهَا أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِنْهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى
عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا
جَمِيعًا فِي عِدَّةٍ يُحْفَظُ بِهَا النَّسَبُ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ
تَتَّقِيَ الْمُطَلَّقَةُ الزِّينَةَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ
ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمُطْلِّقُ
حَيٌّ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ-
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ
طَلَاقًا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ
وَتَرِثُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ
ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ تَعْتَدُّ
عِدَّةَ الطَّلَاقِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَيَعْقُوبَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ الْأَقْرَاءَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا
عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا
الْمُطَلِّقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَةٍ، وَإِذَا
كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَةٍ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ لَهَا. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ: تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْعِدَّتَيْنِ. وَقَالَ
النُّعْمَانُ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٌ تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ
يَبْلُغُهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقُهُ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ مِنْ
يَوْمِ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ
وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ
عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهَا الْخَبَرُ، رُوِيَ هَذَا
الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وجلاس بن الْعَزِيزِ:
إِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ عَمْرٍو.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عبد مَاتَ
أَوْ طَلَّقَ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَمِنْ يَوْمِ
يَأْتِيهَا الْخَبَرُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
(3/182)
لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِدَّةَ
بِالْوَفَاةِ أَوِ الطَّلَاقِ، ولأنها لو علمت بموته فتركت
الإحداد أنقصت «1» الْعِدَّةُ، فَإِذَا تَرَكَتْهُ مَعَ عَدَمِ
الْعِلْمِ فَهُوَ أَهْوَنُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ
تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا
فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ.
حَامِلًا لَا تَعْلَمُ طَلَاقَ الزَّوْجِ أَوْ وَفَاتَهُ ثُمَّ
وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ. وَلَا
فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ
الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَوَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْعِدَّةِ مِنْ
يَوْمِ يَبْلُغُهَا الْخَبَرُ، أَنَّ الْعِدَّةَ عِبَادَةٌ
بِتَرْكِ الزِّينَةِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَصْدٍ
وَنِيَّةٍ، وَالْقَصْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ- عِدَّةُ
الْوَفَاةِ تَلْزَمُ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ وَالصَّغِيرَةَ
وَالْكَبِيرَةَ وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغِ الْمَحِيضَ، وَالَّتِي
حَاضَتْ وَالْيَائِسَةَ مِنَ الْمَحِيضِ وَالْكِتَابِيَّةَ
دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ
حَامِلٍ-[وَعِدَّةُ «2» جَمِيعِهِنَّ إِلَّا الْأَمَةَ]
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، لِعُمُومِ الْآيَةِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً". وَعِدَّةُ الْأَمَةِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ
إِجْمَاعًا، إِلَّا مَا يُحْكَى عَنِ الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ
سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَقَدْ سَبَقَهُ
الْإِجْمَاعُ، لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَعْ. قَالَ
الْبَاجِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا
يُرْوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ. قُلْتُ: قَوْلُ
الْأَصَمِّ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ
الْوَارِدَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ
بِالْأَشْهُرِ وَالْأَقْرَاءِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْأَمَةِ
وَالْحُرَّةِ، فَعِدَّةُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ عَلَى
هَذَا النَّظَرِ، فَإِنَّ الْعُمُومَاتِ لَا فَصْلَ فِيهَا
بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَكَمَا اسْتَوَتِ الْأَمَةُ
وَالْحُرَّةُ فِي النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ تَسْتَوِي مَعَهَا فِي
الْعِدَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ بها
يَبْرَأُ الرَّحِمُ، وَهَذَا مِنْهُ فَاسِدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ
أَخْرَجَهَا مِنْ عُمُومِ آيَةِ الْوَفَاةِ وَهِيَ مِنْهَا،
وَأَدْخَلَهَا فِي عُمُومِ آيَةِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَتْ
مِنْهَا «3». قُلْتُ: وَعَلَيْهِ بِنَاءُ مَا فِي
الْمُدَوَّنَةِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ
مَدْخُولٍ بِهَا
، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بَرَاءَةُ رَحِمَهَا، هَذَا يَقْتَضِي
أَنْ تَتَزَوَّجَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَهُ إِثْرَ وَفَاتِهِ،
لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِلْوَفَاةِ
ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج.
__________
(1). في ز: انقضت.
(2). الزيادة عن الباجى.
(3). هذه عبارة ابن العربي كما وردت في أحكام القرآن. وقد وردت
مضطربة في الأصول.
(3/183)
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ-
وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ
عَنْهَا سَيِّدُهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عِدَّتُهَا
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَإِسْحَاقُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ
قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:
لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، يَعْنِي فِي أُمِّ الْوَلَدِ،
لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَوْقُوفٌ.
وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ قَبِيصَةَ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ عَمْرٍو. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَضَعَّفَ
أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ،
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، قَالُوا:
لِأَنَّهَا عِدَّةٌ تَجِبُ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ، فَوَجَبَ
أَنْ تَكُونَ عِدَّةً كَامِلَةً، أَصْلُهُ عِدَّةُ الْحُرَّةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ:
عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِيَ
عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عِدَّتَهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَقُولُ، لِأَنَّهُ
الْأَقَلُّ مِمَّا قِيلَ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ
تُتَّبَعُ وَلَا إِجْمَاعٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَذِكْرُ
اخْتِلَافِهِمْ فِي عِدَّتِهَا فِي الْعِتْقِ كَهُوَ فِي
الْوَفَاةِ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ جَعَلَ
عِدَّتَهَا فِي الْعِتْقِ ثَلَاثَ حِيَضٍ. قُلْتُ: أَصَحُّ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" فَشَرَطَ فِي تَرَبُّصِ
الْأَقْرَاءِ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَلَاقٍ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ:" وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً" فَعَلَّقَ
وُجُوبَ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْمُتَرَبِّصَةِ زَوْجَةً، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ بِخِلَافِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ
أَمَةٌ مَوْطُوءَةٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ
اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ، أَصْلُ ذَلِكَ الْأَمَةُ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ
عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ اسْتِبْرَاءٌ مَحْضٌ أَوْ عِدَّةٌ،
فَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَعُونَتِهِ أَنَّ
الْحَيْضَةَ اسْتِبْرَاءٌ وَلَيْسَتْ بِعِدَّةٍ. وَفِي
الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ،
وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ ثَلَاثِ
حِيَضٍ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إِذَا قُلْنَا هِيَ عدة
فقد
(3/184)
قَالَ مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ أَنْ تُوَاعِدَ
أَحَدًا يَنْكِحُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً. قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيتُ
إِلَّا فِي بَيْتِهَا، فَأَثْبَتَ لِمُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا
حُكْمَ الْعِدَّةِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمُطَلَّقَةِ
ثَلَاثًا أَوْ مُطَلَّقَةٍ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ
وَهِيَ حَامِلٌ وَاجِبَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ كُنَّ
أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ «1» ". وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ
الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، كَذَلِكَ قَالَ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
يَعْلَى وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ ذَلِكَ عَنْ
أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ لَهَا
النَّفَقَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ
عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ
وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ وَالنَّخَعِيُّ وَجُلَاسُ بْنُ عَمْرٍو
وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَيُّوبُ
السِّخْتِيَانِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ،
لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ مَنْ كَانَ
يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَهُوَ حَيٌّ مِثْلُ أَوْلَادِهِ
الْأَطْفَالِ وَزَوْجَتِهِ «2» وَوَالِدَيْهِ تَسْقُطُ عَنْهُ،
فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَةُ الْحَامِلِ مِنْ
أَزْوَاجِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: لِأَنَّ
نَفَقَةَ الْحَمْلِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ
بِمَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُطُ
عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ فَبِأَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ أَوْلَى
وَأَحْرَى. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ الَّتِي جَعَلَهَا
اللَّهُ مِيقَاتًا لِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا،
هَلْ تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى حَيْضَةٍ أَمْ لَا، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لَا تَبْرَأُ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُوطَأُ
إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرَابَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، إِلَّا أَنْ تَسْتَرِيبَ نَفْسَهَا رِيبَةً
بَيِّنَةً، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ
الْحَيْضِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَوْ مِمَّنْ
عَرَفَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ عُرِفَ مِنْهَا أَنَّ
حَيْضَتَهَا لَا تَأْتِيهَا إِلَّا في أكثر من هذه المدة.
__________
(1). راجع ج 18 ص 166. [ ..... ]
(2). في ب وهـ: زوجاته.
(3/185)
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَعَشْراً) رَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ: لِمَ ضُمَّتِ الْعَشْرُ إِلَى
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؟ قَالَ: لِأَنَّ الرُّوحَ تُنْفَخُ
فِيهَا، وَسَيَأْتِي فِي الْحَجِّ بَيَانُ هَذَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى «1». وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيُقَالُ
إِنَّ وَلَدَ كُلِّ حَامِلٍ يَرْتَكِضُ فِي نِصْفِ حَمْلِهَا
فَهِيَ مُرْكِضٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْكَضَتْ فهي مركضة
وأنشد:
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا ... تُهَانُ لَهَا
الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ «2»
وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ: قَوْلُهُ (وَعَشْراً) يُرِيدُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الْأَيَّامَ بِلَيَالِيِهَا. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ الْمُدَّةُ. الْمَعْنَى وَعَشْرَ مُدَدٍ، كُلُّ مُدَّةٍ
مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا مُدَّةٌ
مَعْلُومَةٌ مِنَ الدَّهْرِ. وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ عَشْرَةً
تَغْلِيبًا لِحُكْمِ اللَّيَالِي إِذِ اللَّيْلَةُ أَسْبَقُ
مِنَ الْيَوْمِ وَالْأَيَّامُ فِي ضِمْنِهَا." وَعَشْراً"
أَخَفُّ فِي اللَّفْظِ، فَتُغَلَّبُ اللَّيَالِي عَلَى
الْأَيَّامِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي التَّارِيخِ، لِأَنَّ
ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ بِاللَّيْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَالِ،
فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ اللَّيْلَةَ غَلَّبَ
اللَّيْلَةَ، تَقُولُ: صُمْنَا خَمْسًا مِنَ الشَّهْرِ،
فَتُغَلَّبُ اللَّيَالِي وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ بِالنَّهَارِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَلَوْ عَقَدَ عَاقِدٌ عَلَيْهَا
النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وقد مضت أربعة أشهر وعشر
ليالي كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَضَى
لَهَا أربعة أشهر وعشر ليالي حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ رَأَى الْعِدَّةَ مُبْهَمَةً فَغَلَّبَ التَّأْنِيثَ
وَتَأَوَّلَهَا عَلَى اللَّيَالِي. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْأَوْزَاعِيُّ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ
مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَرَأَ" أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ". قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى- أَضَافَ تَعَالَى الْأَجَلَ إِلَيْهِنَّ إِذْ هُوَ
مَحْدُودٌ مَضْرُوبٌ فِي أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة.
__________
(1). راجع ج 12 ص 6 فما بعد.
(2). البيت لأوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا. والصريحى: نسبة
إلى الصريح وهو فحل من خيل العرب معروف. (عن اللسان).
(3/186)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ) خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ،
وَالتَّلَبُّسُ بِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ لِلْحُكَّامِ
وَالْأَوْلِيَاءِ. (فِيما فَعَلْنَ) يُرِيدُ بِهِ التَّزَوُّجَ
فَمَا دُونَهُ مِنَ التَّزَيُّنِ وَاطِّرَاحِ الْإِحْدَادِ.
(بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ بِمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ مِنَ
اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ وَتَقْدِيرِ الصَّدَاقِ
دُونَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْأَوْلِيَاءِ
كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ مَنْعَهُنَّ مِنَ التَّبَرُّجِ
وَالتَّشَوُّفِ لِلزَّوْجِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ. وَفِيهَا
رَدٌّ عَلَى إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ
إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَانَتْ
وَانْقَطَعَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ
لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَغْتَسِلَ. وَعَنْ
شَرِيكٍ أَنَّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةَ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ
وَلَوْ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ" وَبُلُوغُ الْأَجَلِ هُنَا
انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِدُخُولِهَا فِي الدَّمِ مِنَ
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غُسْلًا، فَإِذَا
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهَا فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ «1» عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْ صَحَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ
عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (2): آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ
أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (235)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ
بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) إِلَى قَوْلِهِ (مَعْرُوفاً)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
جُناحَ) أَيْ لَا إِثْمَ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهُوَ
أَصَحُّ فِي الشَّرْعِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ الْأَمْرُ
الشَّاقُّ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ، قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجًا ... تَذَكَّرَ مَا
لَدَيْهِ مِنَ الْجُنَاحِ
__________
(1). يشير إلى ما مضى عن ابن عباس من أن المرأة إِذَا طَعَنَتْ
فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رجعت
الزوج، وهذا قول إسحاق المتقدم وهو ضعيف راجع ص 117 س 16 من
هذا الجزء.
(3/187)
وَقَوْلُهُ (عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ)
الْمُخَاطَبَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِهَا
هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ تزوج معتدة لَا وِزْرَ
عَلَيْكُمْ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ فِي عِدَّةِ
الْوَفَاةِ. وَالتَّعْرِيضُ: ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ
إِفْهَامُ الْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ لَهُ
وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ،
كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَا يُظْهِرُهُ.
وَقِيلَ، هُوَ مِنْ قَوْلِكَ عَرَّضْتُ الرَّجُلَ، أَيْ
أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ تُحْفَةً، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ
رَكْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بكر ثيابا بيضا، أَيْ
أَهْدَوْا لَهُمَا. فَالْمُعَرِّضُ بِالْكَلَامِ يُوصِلُ إِلَى
صَاحِبِهِ كَلَامًا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ. الثَّانِيَةُ- قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ
الْكَلَامَ مَعَ الْمُعْتَدَّةِ بِمَا هُوَ نَصٌّ فِي
تَزَوُّجِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهَا بِمَا
هُوَ رَفَثٌ وَذِكْرُ جِمَاعٍ أَوْ تَحْرِيضٌ عَلَيْهِ لَا
يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. وما
أَعْظَمِهِ قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيحِ قَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ
قَيْسٍ:" كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي
بِنَفْسِكِ". وَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لِخِطْبَةِ
الرَّجْعِيَّةِ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا كَالزَّوْجَةِ. وَأَمَّا
مَنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُ
التَّعْرِيضِ لِخِطْبَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ فِي
تَفْسِيرِ التَّعْرِيضِ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا
يَرْجِعُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ- أَنْ يَذْكُرَهَا
لِوَلِيِّهَا يَقُولُ لَهُ لَا تَسْبِقْنِي بِهَا.
وَالثَّانِي- أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَيْهَا دُونَ
وَاسِطَةٍ، فَيَقُولُ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ،
أَوْ إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ، إِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، إِنَّ اللَّهَ
لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا، إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْكِ! إِنَّكِ لَنَافِقَةٌ «1»، وَإِنَّ حَاجَتِي
فِي النِّسَاءِ، وَإِنْ يُقَدِّرِ اللَّهُ أَمْرًا يَكُنْ.
هَذَا هُوَ تَمْثِيلُ مَالِكٍ وَابْنُ شِهَابٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَسْبِقِينِي
بِنَفْسِكِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهَا، وَأَنْ
يَقُومَ بِشُغْلِهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ
شَأْنِهِ، قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَمْدَحَ
نَفْسَهُ وَيَذْكُرَ مَآثِرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ
بِالزَّوَاجِ، وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ حَنْظَلَةَ
اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَمْ تَنْقَضِ
عِدَّتِي مِنْ مَهْلِكِ زَوْجِي فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتِ
قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَرَابَتِي مِنْ عَلِيٍّ وَمَوْضِعِي فِي
الْعَرَبِ. قُلْتُ
__________
(1). نفقت الأيم: إذا كثر خطابها ورغب فيها.
(3/188)
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ!
إِنَّكَ رَجُلٌ يُؤْخَذُ عَنْكَ تَخْطُبُنِي فِي عِدَّتِي!
قَالَ: إِنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ عَلِيٍّ.
وَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ على أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ مُتَأَيِّمَةٌ مِنْ أَبِي
سَلَمَةَ فَقَالَ:" لَقَدْ عَلِمْتِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ
وَخِيَرَتُهُ وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي" كَانَتْ تِلْكَ
خِطْبَةً، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالْهَدِيَّةُ إِلَى
الْمُعْتَدَّةِ جَائِزَةٌ، وَهَى مِنَ التَّعْرِيضِ، قَالَهُ
سَحْنُونُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَالَهُ
إِبْرَاهِيمُ. وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ لَهَا: لَا
تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ وَرَآهُ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا
عِنْدِي عَلَى أَنْ يُتَأَوَّلَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ
الرَّأْيِ لَهَا فِيمَنْ يَتَزَوَّجُهَا لَا أَنَّهُ
أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ خِلَافٌ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الْخِطْبَةُ
(بِكَسْرِ الْخَاءِ): فِعْلُ الْخَاطِبِ مِنْ كَلَامٍ وَقَصْدٍ
وَاسْتِلْطَافٍ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ. يُقَالُ: خَطَبَهَا
يَخْطُبُهَا خَطْبًا وَخِطْبَةً. وَرَجُلٌ خَطَّابٌ كَثِيرُ
التَّصَرُّفِ فِي الْخِطْبَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَرَّحَ بِالْعَيْنَيْنِ خَطَّابُ الْكُثَبْ ... يَقُولُ
إِنِّي خَاطِبٌ وَقَدْ كَذَبْ
وَإِنَّمَا يَخْطُبُ عُسًّا مَنْ حَلَبْ «1»
وَالْخَطِيبُ: الْخَاطِبُ. وَالْخِطِّيبَى: الْخِطْبَةُ، قَالَ
عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ يذكر قصد جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ
لِخِطْبَةِ الزَّبَّاءِ:
لَخِطِّيبَى الَّتِي غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... وَهُنَّ ذَوَاتُ
غَائِلَةٍ لِحُينَا
وَالْخِطْبُ، الرَّجُلُ الَّذِي يَخْطُبُ الْمَرْأَةَ،
وَيُقَالُ أَيْضًا: هِيَ خِطْبُهُ وَخِطْبَتُهُ الَّتِي
يَخْطُبُهَا. وَالْخِطْبَةُ فِعْلَةٌ كَجِلْسَةٍ وَقِعْدَةٍ:
وَالْخُطْبَةُ (بِضَمِّ الْخَاءِ) هِيَ الْكَلَامُ الَّذِي
يُقَالُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالْخُطْبَةُ مَا كَانَ لَهَا أَوَّلٌ وَآخِرٌ، وَكَذَا مَا
كَانَ عَلَى فَعْلَةٍ نَحْوَ الْأَكْلَةِ وَالضَّغْطَةِ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ) مَعْنَاهُ سَتَرْتُمْ وَأَضْمَرْتُمْ مِنَ
التَّزَوُّجِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
وَالْإِكْنَانُ: السَّتْرُ «2» وَالْإِخْفَاءُ، يُقَالُ:
كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ بِمَعْنًى واحد. وقيل:
__________
(1). الكثب بضم ففتح: جمع كثبة، وهى كل قليل جمعته من طعام أو
لبن أو غير ذلك. والعس (بضم العين): القدح الضخم. يريد أن
الرجل بجي بعلة الخطبة وهو يريد القرى. قال ابن الاعرابي: يقال
للرجل إذا جاء يطلب القرى بعلة الخطبة: إنه ليخطب كثبة. (عن
اللسان).
(2). في ج: السر.
(3/189)
كَنَنْتُهُ أَيْ صُنْتُهُ حَتَّى لَا
تُصِيبُهُ آفَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا، وَمِنْهُ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته. وقيل: كنت
الشَّيْءَ (مِنَ الْأَجْرَامِ) إِذَا سَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ أَوْ
بَيْتٍ أَوْ أَرْضٍ وَنَحْوِهِ. وَأَكْنَنْتُ الْأَمْرَ فِي
نَفْسِي. وَلَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ" كَنَنْتُهُ فِي
نَفْسِي". وَيُقَالُ: أَكَنَّ الْبَيْتُ الْإِنْسَانَ،
وَنَحْوُ هَذَا. فَرَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ أَرَادَ
تَزَوُّجَ الْمُعْتَدَّةِ مَعَ التَّعْرِيضِ وَمَعَ
الْإِكْنَانِ، وَنَهَى عَنِ الْمُوَاعَدَةِ الَّتِي هِيَ
تَصْرِيحٌ بِالتَّزْوِيجِ وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ وَاتِّفَاقٌ
عَلَى وَعْدٍ. وَرَخَّصَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِغَلَبَةِ
النُّفُوسِ وَطَمَحِهَا «1» وَضَعْفِ الْبَشَرِ عَنْ
مِلْكِهَا. الْخَامِسَةُ- اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَجِبُ فِيهِ
حَدٌّ، وَقَالُوا: لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ
فِي التَّعْرِيضِ فِي النِّكَاحِ دَلَّ عَلَى أَنَّ
التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّعْرِيضَ فِي
النِّكَاحِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. قُلْنَا: هَذَا سَاقِطٌ
لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي
التَّصْرِيحِ بِالنِّكَاحِ فِي الْخِطْبَةِ، وَأَذِنَ فِي
التَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ، فَهَذَا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ،
وَالْأَعْرَاضُ يَجِبُ صِيَانَتُهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَدَّ
الْمُعَرِّضِ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ «2» الْفَسَقَةُ إِلَى
أَخْذِ الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ
مَا يُفْهَمُ بِالتَّصْرِيحِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) أَيْ
إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا إِعْلَانًا فِي نُفُوسِكُمْ
وَبِأَلْسِنَتِكُمْ، فَرَخَّصَ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ
التَّصْرِيحِ. الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ سَتَخْطُبُونَهُنَّ.
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا) أَيْ عَلَى سِرٍّ فَحُذِفَ الْحَرْفُ، لِأَنَّهُ
مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحَرْفِ
جَرٍّ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" سِرًّا" فَقِيلَ، مَعْنَاهُ نِكَاحًا، أَيْ لَا
يَقُلِ الرَّجُلُ لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ تَزَوَّجِينِي، بَلْ
يُعَرِّضُ إِنْ أَرَادَ، وَلَا يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا
وَعَهْدَهَا أَلَّا تَنْكِحَ غَيْرَهُ فِي اسْتِسْرَارٍ
وَخُفْيَةٍ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ
وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ
وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ."
وسِرًّا" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ،
أَيْ مُسْتَسِرِّينَ. وَقِيلَ: السِّرُّ الزِّنَا، أَيْ لَا
يَكُونَنَّ مِنْكُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى الزِّنَا فِي
الْعِدَّةِ ثُمَّ التَّزَوُّجِ بَعْدَهَا. قَالَ مَعْنَاهُ
جَابِرُ
__________
(1). في ب وهـ: طمحانها.
(2). في ب: يتعرض.
(3/190)
ابن زَيْدٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ لَاحِقُ بْنُ
حُمَيْدٍ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ
وَالضَّحَّاكُ، وَأَنَّ السِّرَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الزِّنَا، أَيْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ زِنًا، وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَلَا تَقْرَبَنَ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ
فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا
وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ
جَارُهُمْ أَنْفَ الْقِصَاعِ
وَقِيلَ: السِّرُّ الْجِمَاعُ، أَيْ لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ
لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي
النِّكَاحِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْجِمَاعِ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجِ
فُحْشٌ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ
وَأَلَّا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
فكف عن إسرارها بعد العسق
أَيْ كُفَّ عَنْ جِمَاعِهَا بَعْدَ مُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ السِّرُّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، سِرًّا كَانَ
أَوْ جَهْرًا، قَالَ الْأَعْشَى:
فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغِنَى ... وَلَنْ يُسْلِمُوهَا
لِإِزْهَادِهَا
وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبُوا نِكَاحَهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا،
وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ" وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا"
أَنْ لَا تَنْكِحُوهُنَّ وَتَكْتُمُونَ ذَلِكَ، فَإِذَا
حَلَّتْ أَظْهَرْتُمُوهُ وَدَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وَهَذَا هُوَ
مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَابْنِ زَيْدٍ عَلَى هَذَا
قَائِلٌ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا شَذَّ فِي أَنْ
سَمَّى الْعَقْدَ مُوَاعَدَةً، وَذَلِكَ قَلِقٌ. وَحَكَى
مَكِّيٌّ وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْآيَةُ
مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكاحِ". الثَّامِنَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ
بْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ
الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا،
وَلِلْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَلِلسَّيِّدِ فِي
أَمَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَأَمَّا الْوَلِيُّ
الَّذِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ فَأَكْرَهُهُ وَإِنْ نَزَلَ
لَمْ أَفْسَخْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ
يُوَاعِدُ في العمدة ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بَعْدَهَا: فِرَاقُهَا
أَحَبُّ إِلَيَّ، دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَلْ، وَتَكُونُ
تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فإذا
(3/191)
حَلَّتْ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ،
هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنُ وَهْبٍ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِيجَابًا، وَقَالَهُ ابْنُ
الْقَاسِمِ. وَحَكَى ابْنُ الْحَارِثِ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ
الْمَاجِشُونَ، وَزَادَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ
يَتَأَبَّدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَرَّحَ
بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ لَهُ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ
يُعْقَدِ النِّكَاحُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ
فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَالتَّصْرِيحُ لها مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ
النِّكَاحَ حَادِثٌ بَعْدَ الْخِطْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ
بِمَعْنَى لَكِنْ، كَقَوْلِهِ" إِلَّا خَطَأً «1» " أَيْ
لَكِنْ خَطَأً. وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا أُبِيحَ
مِنَ التَّعْرِيضِ. وَقَدْ ذَكَرَ الضَّحَّاكُ أَنَّ مِنَ
الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْتَدَّةِ:
احْبِسِي عَلَيَّ نَفْسَكِ فَإِنَّ لِي بِكِ رَغْبَةً،
فَتَقُولُ هِيَ: وَأَنَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَذَا شِبْهُ
الْمُوَاعَدَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) فِيهِ تِسْعُ
مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَعْزِمُوا)
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْعَزْمِ، يُقَالُ:
عَزَمَ الشَّيْءُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا:
وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَمِنَ الْأَمْرِ
الْبَيِّنِ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ كَلَامٍ، فَمَا وَرَدَ
فِيهِ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ
وَفَصَاحَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلاقَ" وَقَالَ هُنَا:" وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكاحِ" وَالْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ
النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ ثُمَّ حُذِفَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: ضَرَبَ فُلَانٌ الظَّهْرَ
وَالْبَطْنَ، أَيْ عَلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْحَذْفُ فِي
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَيَجُوزُ أَنْ يكون" ولا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ"،
لِأَنَّ مَعْنَى" تَعْزِمُوا" وَتَعْقِدُوا وَاحِدٌ.
وَيُقَالُ:" تَعْزُمُوا" بِضَمِّ الزَّايِ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ)
يُرِيدُ تَمَامَ الْعِدَّةِ. وَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْحَدُّ
الَّذِي جُعِلَ وَالْقَدْرُ الَّذِي رُسِمَ مِنَ الْمُدَّةِ،
سَمَّاهَا كِتَابًا إِذْ قَدْ حَدَّهُ وَفَرَضَهُ كِتَابُ
اللَّهِ كَمَا قَالَ:" كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «2» "
وَكَمَا قَالَ:" إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتاباً مَوْقُوتاً «3» ". فَالْكِتَابُ: الْفَرْضُ، أَيْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْفَرْضُ أَجَلَهُ،" كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ" أي فرض. وقيل:
__________
(1). راجع ج 5 ص 311 وص 123 وص 373
(2). راجع ج 5 ص 311 وص 123 وص 373
(3). راجع ج 5 ص 311 وص 123 وص 373
(3/192)
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ حَتَّى
يَبْلُغَ فَرْضُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ، فَالْكِتَابُ عَلَى
هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ
لَا حَذْفَ فَهُوَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ-
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَقْدَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ" وَهَذَا مِنَ الْمُحْكَمِ
الْمُجْمَعِ عَلَى تَأْوِيلِهِ، أَنَّ بُلُوغَ أَجَلِهِ
انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ. وَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ
بِقَوْلِهِ:" وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ" الْآيَةَ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ
الْعُلَمَاءُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي
أَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفُوا
فِي الرَّجُلِ يَخْطُبُ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا جَاهِلًا،
أَوْ يُوَاعَدُهَا وَيَعْقِدُ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاخْتَلَفُوا إِنْ عَزَمَ الْعُقْدَةَ فِي الْعِدَّةِ
وَعُثِرَ عَلَيْهِ فَفَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهُ، وَذَلِكَ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يُؤَبِّدُ تَحْرِيمًا، وَأَنَّهُ يَكُونُ خَاطِبًا مِنَ
الْخُطَّابِ، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي
الْمُدَوَّنَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ" ضَرْبُ
أَجَلِ الْمَفْقُودِ". وَحَكَى ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ
رِوَايَةَ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَأَبَّدُ فِي الْعَقْدِ
وَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نِكَاحٌ
فِي الْعِدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَأَبَّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ،
أَصْلُهُ إِذَا بَنَى بِهَا. وَأَمَّا إِنْ عَقَدَ فِي
الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَهِيَ:
الْخَامِسَةُ- فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: ذَلِكَ
كَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّةِ، يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ
بَيْنَهُمَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا
يَتَأَبَّدُ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَأَبَّدُ
التَّحْرِيمُ. وَقَالَ مَرَّةً: وَمَا التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ
بِالْبَيِّنِ، وَالْقَوْلَانِ لَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي
طَلَاقِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الْعِدَّةِ
وَهِيَ: السَّادِسَةُ- فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ
وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَحِلُّ لَهُ
أَبَدًا. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: وَلَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ، مَعَ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّزْوِيجَ
بِالْمَزْنِيِّ بِهَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. قَالَ سَعِيدٌ:
وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا،
أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَسَيَأْتِي. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ: يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا وَلَا يَتَأَبَّدُ
(3/193)
التَّحْرِيمُ بَلْ يُفْسَخُ بَيْنَهُمَا
ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ، ثُمَّ يَكُونُ خَاطِبًا مِنَ
الْخُطَّابِ. وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى
أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ
تَزْوِيجُهَا، فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْعِدَّةِ.
قَالُوا: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ
أَيْضًا. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ
أَشْعَثَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عُمَرَ
رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُمَا يَجْتَمِعَانِ. وَذَكَرَ
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى
فَقَالَ: لَا يَخْلُو النَّاكِحُ فِي الْعِدَّةِ إِذَا بَنَى
بِهَا أَنْ يَبْنِيَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا،
فَإِنْ كَانَ بَنَى بِهَا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ
مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَأَبَّدُ، وَبِهِ
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو
الْقَاسِمِ فِي تَفْرِيعِهِ أَنَّ فِي الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا
الرَّجُلُ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ عَالِمًا
بِالتَّحْرِيمِ رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا- أَنَّ
تَحْرِيمَهُ يَتَأَبَّدُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالثَّانِيَةُ- أَنَّهُ زَانٍ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا
يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى- وَهِيَ المشهور-
مَا ثَبَتَ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَقِيَامِهِ
بِذَلِكَ فِي النَّاسِ، وَكَانَتْ قَضَايَاهُ تَسِيرُ
وَتَنْتَشِرُ وَتُنْقَلُ فِي الْأَمْصَارِ، وَلَمْ يُعْلَمْ
لَهُ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. قَالَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مَعَ شُهْرَةِ
ذَلِكَ وَانْتِشَارِهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ. وَوَجْهُ
الرِّوَايَةِ الثانية أن هذا وطئ مَمْنُوعٌ فَلَمْ يَتَأَبَّدْ
تَحْرِيمُهُ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ تَزَوَّجَتْ
مُتْعَةً أَوْ زَنَتْ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو
الْحَسَنِ: إِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ
ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَسْنَدَ أَبُو عُمَرَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
سُفْيَانَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ ابْنِ
الْمُبَارَكِ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ
قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ
قُرَيْشٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فِي عِدَّتِهَا
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا
وَقَالَ: لَا تَنْكِحُهَا أَبَدًا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا فِي
بَيْتِ الْمَالِ، وَفَشَا ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَبَلَغَ
عَلِيًّا فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَمِيرَ المؤمنين، ما بال
الصداق وبئت الْمَالِ! إِنَّمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي
لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إِلَى السُّنَّةِ. قِيلَ: فَمَا
تَقُولُ أَنْتَ فِيهِمَا؟ فَقَالَ: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا
اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا
جَلْدَ عَلَيْهِمَا، وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا مِنَ الْأَوَّلِ،
ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ
(3/194)
الثَّانِي
عِدَّةً كَامِلَةً ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ ثُمَّ يَخْطُبُهَا إِنْ
شَاءَ. فَبَلَغَ عُمَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ. قَالَ
الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحَهَا وَهِيَ فِي
عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ. وَفِي
اتِّفَاقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى نَفْي الْحَدِّ عَنْهُمَا
مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ
الْحَدَّ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَعْتَدُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذِهِ
مَسْأَلَةُ الْعِدَّتَيْنِ وَهِيَ: السَّابِعَةُ- فَرَوَى
الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُتِمُّ بَقِيَّةَ
عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةً أُخْرَى
مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَنْ عُمَرَ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ: أَنَّ عِدَّتَهَا مِنَ الثَّانِي تَكْفِيهَا مِنْ
يَوْمِ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، سَوَاءً كَانَتْ
بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ، وَهُوَ
قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَحُجَّتُهُمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا
يَنْكِحُهَا فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنَ الثَّانِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَنَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ
فَقَالُوا: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ مَنْعَ الْأَوَّلِ
مِنْ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا إِنَّمَا
وَجَبَ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي، وَهُمَا
حَقَّانِ قَدْ وَجَبَا عَلَيْهَا لِزَوْجَيْنِ كَسَائِرِ
حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي
صَاحِبِهِ. وَخَرَّجَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ
طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ رَشِيدٍ
الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا فَنُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا
فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا
بِالْمِخْفَقَةِ «1» ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ
زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَ بِهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا
مِنَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْآخَرُ خَاطِبًا
مِنَ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ
بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ
الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ لَا يجتمعان
أبدا. قال [مالك «2»]: وقال سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: وَلَهَا
مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَأَمَّا طُلَيْحَةُ هَذِهِ فَهِيَ طليحة
__________
(1). المخفقة: الدرة.
(2). زيادة عن الموطأ. [ ..... ]
(3/195)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ أُخْتُ طَلْحَةَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ
الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى: طُلَيْحَةُ
الْأَسَدِيَّةُ وَذَلِكَ خَطَأٌ وَجَهْلٌ، وَلَا أَعْلَمُ
أَحَدًا قَالَهُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ" فَضَرَبَهَا عُمَرُ
بِالْمِخْفَقَةِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا ضَرَبَاتٍ" يُرِيدُ عَلَى
وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لِمَا ارْتَكَبَاهُ مِنَ الْمَحْظُورِ
وَهُوَ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
فَلَا أَدْرِي كَمْ بَلَغَ ذَلِكَ الْجَلْدُ. قَالَ: وَجَلَدَ
عَبْدُ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَرْبَعِينَ جَلْدَةً. قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبِيصَةُ
بْنُ ذُؤَيْبٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ خَفَّفْتُمْ
فَجَلَدْتُمْ عِشْرِينَ! وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الَّتِي
تَتَزَوَّجُ فِي الْعِدَّةِ فَيَمَسُّهَا الرَّجُلُ أَوْ
يُقَبِّلُ أَوْ يُبَاشِرُ أَوْ يَغْمِزُ أَوْ يَنْظُرُ عَلَى
وَجْهِ اللَّذَّةِ أَنَّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْعُقُوبَةَ
وَعَلَى الْوَلِيِّ وَعَلَى الشُّهُودِ وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ
أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ، وَمَنْ جَهِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ فَلَا
عُقُوبَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يُجْلَدُ
الزَّوْجَانِ الْحَدَّ إِنْ كَانَا تَعَمَّدَا ذَلِكَ،
فَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ عَلَى مَنْ عَلِمَ
بِالْعِدَّةِ، وَلَعَلَّهُ جَهِلَ التَّحْرِيمَ وَلَمْ
يَتَعَمَّدِ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ فَذَلِكَ الَّذِي
يُعَاقَبُ، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ ضَرْبُ عُمَرَ الْمَرْأَةَ
وَزَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ. وَتَكُونُ
الْعُقُوبَةُ وَالْأَدَبُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ
الْمُعَاقَبِ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ عَلَى
أَنَّهُمَا عَلِمَا التَّحْرِيمَ وَاقْتَحَمَا ارْتِكَابَ
الْمَحْظُورِ جُرْأَةً وَإِقْدَامًا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو الْقَاسِمِ: إِنَّهُمَا رِوَايَتَانِ فِي التَّعَمُّدِ،
إِحْدَاهُمَا يُحَدُّ، وَالثَّانِيَةُ يُعَاقَبُ وَلَا
يُحَدُّ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) هَذَا
نِهَايَةُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا نَهَى عنه.
[سورة البقرة (2): آية 236]
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)
هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ
ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ بِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُطَلِّقِ
قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْجِمَاعِ، فَرَضَ مَهْرًا أَوْ لم
(3/196)
يَفْرِضْ، وَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّزَوُّجِ
لِمَعْنَى الذَّوْقِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَرَ
بِالتَّزَوُّجِ لِطَلَبِ الْعِصْمَةِ وَالْتِمَاسِ ثَوَابِ
اللَّهِ وَقَصْدِ دَوَامِ الصُّحْبَةِ، وَقَعَ فِي نُفُوسِ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ قَدْ
وَاقَعَ جُزْءًا مِنْ هَذَا الْمَكْرُوهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ
رَافِعَةً لِلْجُنَاحِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَصْلُ
النِّكَاحِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْحَسَنِ. وَقَالَ قَوْمٌ:" لَا
جُناحَ عَلَيْكُمْ" مَعْنَاهُ لَا طَلَبَ لِجَمِيعِ الْمَهْرِ
بَلْ عَلَيْكُمْ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ لِمَنْ فُرِضَ لَهَا،
وَالْمُتْعَةُ لِمَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا. وَقِيلَ: لَمَّا
كَانَ أَمْرُ الْمَهْرِ مُؤَكَّدًا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ
يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَهْرٍ إِمَّا مُسَمًّى
وَإِمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ
الْمُطَلِّقِ فِي وَقْتِ التَّطْلِيقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
النِّكَاحِ مَهْرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ:" لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ"
مَعْنَاهُ فِي أَنْ تُرْسِلُوا الطَّلَاقَ فِي وَقْتِ
الْحَيْضِ، بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا، إِذْ غَيْرُ
الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. الثَّانِيَةُ-
الْمُطَلَّقَاتُ أَرْبَعٌ: مُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا
مَفْرُوضٌ لَهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَهَا قَبْلَ
هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ لا يسترد منها شي مِنَ الْمَهْرِ،
وَأَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَمُطَلَّقَةٌ غَيْرُ
مَفْرُوضٍ لَهَا وَلَا مَدْخُولٌ بِهَا فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
شَأْنِهَا وَلَا مَهْرَ لَهَا، بَلْ أَمَرَ الرَّبُّ تَعَالَى
بِإِمْتَاعِهَا، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ" الْأَحْزَابِ" أَنَّ
غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا عِدَّةَ
عَلَيْهَا، وَسَيَأْتِي «1». وَمُطَلَّقَةٌ مَفْرُوضٌ لَهَا
غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا ذَكَرَهَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ
قَالَ:" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً"،
وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا
ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:" فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ" «2»
، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا
مُطَلَّقَةً قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ،
وَمُطَلَّقَةً قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، فَجَعَلَ
لِلْأُولَى الْمُتْعَةَ، وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْفَ
الصَّدَاقِ لِمَا لِحَقِّ الزَّوْجَةِ مِنْ دَحْضِ الْعَقْدِ،
وَوَصْمِ الْحِلِّ الْحَاصِلِ لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ،
وَقَابَلَ الْمَسِيسَ بِالْمَهْرِ الْوَاجِبِ. الثَّالِثَةُ-
لَمَّا قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُطَلَّقَةِ هُنَا
قِسْمَيْنِ: مُطَلَّقَةٌ مُسَمًّى لَهَا الْمَهْرُ،
وَمُطَلَّقَةٌ لَمْ يُسَمَّ لَهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ
التَّفْوِيضِ جَائِزٌ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ مِنْ
غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَيُفْرَضُ
بَعْدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ، فَإِنْ فُرِضَ الْتَحَقَ
بِالْعَقْدِ وَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَكَانَ
الطَّلَاقُ لَمْ يَجِبْ صَدَاقٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَحَكَى
__________
(1). راجع ج 14 ص 202.
(2). راجع ج 5 ص 129
(3/197)
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا
وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا أُجْبِرَ عَلَى نِصْفِ صَدَاقِ
مِثْلِهَا. وَإِنْ فَرَضَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَقَبْلَ
وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَنَصَّفُ
بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا
خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً" وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا،
فَإِنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ
فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ، أَصْلُهُ الْفَرْضُ
الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ. الرَّابِعَةُ- إِنْ وَقَعَ
الْمَوْتُ قَبْلَ الْفَرْضِ فَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ" أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً لَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى
مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ
نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ
وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ
الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بِرْوَعَ بِنْتِ «1» وَاشِقٍ امْرَأَةٍ
مِنَّا مِثْلَ الَّذِي قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ
مَسْعُودٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ
امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا
صَدَاقًا حَتَّى مَاتَ قَالُوا: لَهَا الْمِيرَاثُ وَلَا
صَدَاقَ لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ بِرْوَعَ
بِنْتِ وَاشِقٍ لَكَانَتِ الْحُجَّةُ فِيمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُرْوَى عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ بِمِصْرَ بَعْدُ عَنْ هَذَا
الْقَوْلِ، وَقَالَ بِحَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ".
قُلْتُ- اخْتُلِفَ فِي تَثْبِيتِ حَدِيثِ بِرْوَعَ، فَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ
رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ: وَأَمَّا حَدِيثُ بِرْوَعَ
بِنْتِ وأشق لقد رَدَّهُ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّةُ
أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَعَ هَذَا
الْحَدِيثُ «2» بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا
عَنْهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ
ثَبَتَ مِثْلُ قَوْلِ [عَبْدِ اللَّهِ «3»] بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِهِ نَقُولُ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وأصحاب
الرأى.
__________
(1). بروع بفتح أوله وهو الصحيح عند اللغويين وخطأوا الكسر،
والكسر عند المحدثين ورووه سماعا. راجع التاج مادة برع.
(2). في ب وهـ: الخبر
(3). في ب وهـ.
(3/198)
وَذُكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ
عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَفِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ مَهْرٌ، قَالَهُ مَسْرُوقٌ. قُلْتُ:
وَمِنَ الْحُجَّةِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّهُ
فِرَاقٌ فِي نِكَاحٍ قَبْلَ الْفَرْضِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ
صَدَاقٌ، أَصْلُهُ الطَّلَاقُ، لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ
فَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَاسِدٌ. وَقَدْ حَكَى أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ الْمَذْهَبِ مَا يُوَافِقُ
الْحَدِيثَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ:
حَدِيثُ بِرْوَعَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ
الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:
فَقَامَ مَعْقِلُ ابن سِنَانٍ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ
عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ،
وَالصَّوَابُ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْقِلُ بْنُ
سِنَانٍ لَا مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، لِأَنَّ مَعْقِلَ بْنَ
يَسَارٍ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا
جَاءَ فِي امْرَأَةٍ مِنْ أَشْجَعَ لَا مِنْ مُزَيْنَةَ،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ دَاوُدُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ
عَلْقَمَةَ، وَفِيهِ: فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَمَعْقِلُ
بْنُ سِنَانٍ قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةَ، وَفِي يَوْمِ
الْحَرَّةِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
أَلَا تِلْكُمُ الْأَنْصَارُ تَبْكِي سَرَاتَهَا ...
وَأَشْجَعُ تَبْكِي مَعْقِلَ بْنَ سِنَانِ
الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) "
مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ. وَ" تَمَسُّوهُنَّ" قُرِئَ
بِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ
عَامِرٍ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" تماسوهن" من
المفاعلة، لان الوطي تَمَّ بِهِمَا، وَقَدْ يَرِدُ فِي بَابِ
الْمُفَاعَلَةِ فَاعِلٌ بِمَعْنَى فَعَلَ، نَحْوَ طَارَقْتُ
النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى
تَقْتَضِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ
بِالْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَسِّ، وَرَجَّحَهَا أَبُو
عَلِيٍّ، لِأَنَّ أَفْعَالَ هَذَا الْمَعْنَى جَاءَتْ
ثُلَاثِيَّةً عَلَى هَذَا الْوَزْنِ، جَاءَ: نَكَحَ وَسَفَدَ
وَقَرَعَ وَدَفَطَ «1» وَضَرَبَ الْفَحْلُ، وَالْقِرَاءَتَانِ
حَسَنَتَانِ. وَ" أَوْ" فِي" أَوْ تَفْرِضُوا" قِيلَ هُوَ
بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكَمْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ
قائِلُونَ «2» " أَيْ وَهُمْ قَائِلُونَ. وَقَوْلِهِ:"
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «3» " أي
ويزيدون.
__________
(1). دفط (بالدال المهملة والفاء .. وقيل بالذال المعجمة
والقاف) وهى بمعنى سفد.
(2). راجع ج 7 ص 162.
(3). راجع ج 15 ص 130
(3/199)
وَقَوْلِهِ:" وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً
أَوْ كَفُوراً «1» " أَيْ وَكَفُورًا. وَقَوْلِهِ:" وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغائِطِ «2» " مَعْنَاهُ وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ وَأَنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرُونَ.
وَقَوْلِهِ:" إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ «3» " وَمَا كَانَ مِثْلَهُ.
وَيَعْتَضِدُ هَذَا بِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهَا
بَعْدَ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ لَهَا فَقَالَ:" وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً". فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ
لِبَيَانِ طَلَاقِ الْمَفْرُوضِ لَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمَا
كَرَّرَهُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَمَتِّعُوهُنَّ) مَعْنَاهُ أَعْطُوهُنَّ شيئا يكون متاعا
لهن. وحمله ابن عمر وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ
بْنُ أَبِي الْحَسَنِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو
قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ بْنُ
مُزَاحِمٍ عَلَى الْوُجُوبِ. وَحَمَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَصْحَابُهُ وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ
وَغَيْرُهُمْ عَلَى النَّدْبِ. تَمَسَّكَ أَهْلُ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَتَمَسَّكَ أَهْلُ
الْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ" وَ" عَلَى الْمُتَّقِينَ" وَلَوْ كَانَتْ
وَاجِبَةً لَأَطْلَقَهَا عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ عُمُومَاتِ الْأَمْرِ
بالامتاع في قوله:" مَتِّعُوهُنَّ" وَإِضَافَةُ الْإِمْتَاعِ
إِلَيْهِنَّ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فِي قَوْلِهِ:"
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ" أَظْهَرُ فِي الْوُجُوبِ مِنْهُ فِي
النَّدْبِ. وَقَوْلُهُ:" عَلَى الْمُتَّقِينَ" تَأْكِيدٌ
لِإِيجَابِهَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ وَمَعَاصِيهِ، وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ:" هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «4» ".
السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ
بِقَوْلِهِ" وَمَتِّعُوهُنَّ" مَنِ الْمُرَادُ بِهِ مِنَ
النِّسَاءِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ
بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَطَاءٌ
وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ
لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ، وَمَنْدُوبَةٌ
فِي حَقِّ غَيْرِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ:
الْمُتْعَةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَإِنْ
دُخِلَ بِهَا، إِلَّا فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا وَقَدْ
فُرِضَ لَهَا فَحَسْبُهَا ما فرض لها ولا متعة لها. قال أَبُو
ثَوْرٍ: لَهَا الْمُتْعَةُ وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ. وَأَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لها ولم
يدخل بها لا شي لَهَا غَيْرَ الْمُتْعَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
يَقْضِي لَهَا بِهَا الْقَاضِي. وَقَالَ جُمْهُورُ النَّاسِ:
لَا يَقْضِي بها لها.
__________
(1). راجع ج 19 ص 146.
(2). راجع ج 6 ص 199.
(3). راجع ج 7 ص 124.
(4). راجع ج 1 ص 161
(3/200)
قُلْتُ: هَذَا الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ
فِي الْحُرَّةِ، فَأَمَّا الْأَمَةُ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ
الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهَا
الْمُتْعَةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: لَا
مُتْعَةَ لَهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ لِسَيِّدِهَا وَهُوَ لَا
يَسْتَحِقُّ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ تَأَذِّي مَمْلُوكَتِهِ
بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا رَبْطُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَالَ ابْنُ
شَعْبَانَ: الْمُتْعَةُ بِإِزَاءِ غَمِّ الطَّلَاقِ،
وَلِذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَةِ
وَالْمُلَاعِنَةِ مُتْعَةٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا بَعْدَهُ،
لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اخْتَارَتِ الطَّلَاقَ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ: لِلْمُخْتَلِعَةِ
مُتْعَةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لِلْمُلَاعِنَةِ
مُتْعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا مُتْعَةَ فِي نِكَاحٍ
مَفْسُوخٍ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا فِيمَا يَدْخُلُهُ
الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، مِثْلَ مِلْكِ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَصْلُ
ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ" فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا
بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمُتْعَةُ بِخِلَافِ
الْأَمَةِ تَعْتِقُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَتَخْتَارُ هِيَ
نَفْسَهَا، فَهَذِهِ لَا مُتْعَةَ لَهَا. وَأَمَّا الْحُرَّةُ
تُخَيَّرُ أَوْ تُمْلَكُ أَوْ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا أَمَةً
فَتَخْتَارُ هِيَ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَهَا
الْمُتْعَةُ، لِأَنَّ الزَّوْجَ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ.
الثَّامِنَةُ- قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدَنَا
حَدٌّ مَعْرُوفٌ فِي قَلِيلِهَا وَلَا كَثِيرِهَا. وَقَدِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَدْنَى
مَا يُجْزِئُ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ
شَبَهَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْفَعُ الْمُتْعَةِ
خَادِمٌ ثُمَّ كِسْوَةٌ ثُمَّ نَفَقَةٌ. عَطَاءٌ: أَوْسَطُهَا
الدِّرْعُ وَالْخِمَارُ وَالْمِلْحَفَةُ. أَبُو حَنِيفَةَ:
ذَلِكَ أَدْنَاهَا. وَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: عَلَى صَاحِبِ
الدِّيوَانِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الْعَبْدِ
الْمُتْعَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُمَتِّعُ كُلٌّ بِقَدْرِهِ،
هَذَا بِخَادِمٍ وَهَذَا بِأَثْوَابٍ وَهَذَا بِثَوْبٍ وَهَذَا
بِنَفَقَةٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَهُوَ
مُقْتَضَى الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ
يُقَدِّرْهَا وَلَا حَدَّدَهَا وَإِنَّمَا قَالَ:" عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ". وَمَتَّعَ
الحسن بن على بعشرين ألفا زقاق ومن عَسَلٍ. وَمَتَّعَ شُرَيْحٌ
بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَالَةَ
الْمَرْأَةِ مُعْتَبَرَةٌ أَيْضًا، قَالَهُ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لَوِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الرَّجُلِ
وَحْدَهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ
إِحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ وَالْأُخْرَى دَنِيَّةٌ ثُمَّ
طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ
يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَةِ فَيَجِبُ
لِلدَّنِيَّةِ مَا يَجِبُ لِلشَّرِيفَةِ وَهَذَا خِلَافُ مَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ" وَيَلْزَمُ
مِنْهُ أَنَّ
(3/201)
الْمُوسِرَ الْعَظِيمَ الْيَسَارِ إِذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً دَنِيَّةً أَنْ يَكُونَ مِثْلَهَا،
لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ
لَزِمَتْهُ الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَهْرِ
مِثْلِهَا، فَتَكُونُ الْمُتْعَةُ عَلَى هَذَا أَضْعَافُ
مَهْرِ مِثْلِهَا، فَتَكُونُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ قَبْلَ
الدُّخُولِ أَضْعَافَ مَا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ
مِنْ مَهْرِ المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطي. وَقَالَ
أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَغَيْرُهُمْ: مُتْعَةُ الَّتِي تُطَلَّقُ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لَا
غَيْرَ، لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ،
وَالْمُتْعَةُ هِيَ بَعْضُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَجِبُ لَهَا
كَمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ
الدُّخُولِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ" وَهَذَا
دَلِيلٌ عَلَى رَفْضِ التَّحْدِيدِ، وَاللَّهُ بِحَقَائِقِ
الْأُمُورِ عَلِيمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ حَدِيثًا
قَالَ: نَزَلَتْ" لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ" الْآيَةَ، فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا
ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ". وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كَانَتْ
عَائِشَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا أُصِيبَ عَلِيٌّ وَبُويِعَ
الْحَسَنُ بِالْخِلَافَةِ قَالَتْ: لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يُقْتَلُ عَلِيٌّ
وَتُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ! اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا. قَالَ: فَتَلَفَّعَتْ بِسَاجِهَا «1» وَقَعَدَتْ
حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِعَشَرَةِ
آلَافٍ مُتْعَةً، وَبَقِيَّةِ مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ
صَدَاقِهَا. فَقَالَتْ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ
فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي
سَمِعْتُ جَدِّي- أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ
جَدِّي- يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
ثَلَاثًا مُبْهَمَةً أَوْ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ لَمْ
تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
لَرَاجَعْتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ
فَبَكَى وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَبَنْتُ الطَّلَاقَ لَهَا
لَرَاجَعْتُهَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً أَوْ
عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ تَطْلِيقَةً أَوْ طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا جَمِيعًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غيره"
__________
(1). في ج وهـ:" بجلبابها". والساج: الطيلسان الضخم الغليظ.
وقيل هو الطيلسان المقور ينسج كذلك.
(3/202)
التَّاسِعَةُ- مَنْ جَهِلَ الْمُتْعَةَ
حَتَّى مَضَتْ أَعْوَامٌ فَلْيَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهَا وَإِنْ
تَزَوَّجَتْ، وَإِلَى وَرَثَتِهَا إِنْ مَاتَتْ، رَوَاهُ ابْنُ
الْمَوَّازِ عَنِ ابْنِ القاسم. وقال أصبغ: لا شي عَلَيْهِ
إِنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تَسْلِيَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَنِ
الطَّلَاقِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ
حَقٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِلُ عَنْهَا إِلَى وَرَثَتِهَا
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِوُجُوبِهَا فِي
الْمَذْهَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ) دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ" الْمُوسِعِ" بِسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ
السِّينِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّسَعَتْ حَالُهُ، يُقَالُ:
فُلَانٌ يُنْفِقُ عَلَى قَدَرِهِ، أَيْ عَلَى وُسْعِهِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَشَدِّ السِّينِ
وَفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو
عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ" قَدَرُهُ"
بِسُكُونِ الدَّالِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ
حَفْصٍ بِفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: هُمَا بِمَعْنًى، لُغَتَانِ
فَصَيْحَتَانِ، وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو زَيْدٍ، يَقُولُ: خُذْ
قَدْرَ كَذَا وَقَدَرَ كَذَا، بِمَعْنًى. وَيُقْرَأُ فِي
كِتَابِ اللَّهِ:" فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» "
وَقَدْرِهَا، وَقَالَ تَعَالَى:" وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ «2» " وَلَوْ حُرِّكَتِ الدَّالُّ لَكَانَ جَائِزًا.
وَ" الْمُقْتِرُ" الْمُقِلُّ الْقَلِيلُ الْمَالِ. وَ
(مَتاعاً) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ مَتِّعُوهُنَّ
مَتَاعًا (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ بِمَا عرف في الشرع من
الاقتصاد. الحادية عشر- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) أَيْ يَحِقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا،
يُقَالُ: حَقَقْتُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَأَحْقَقْتُ، أَيْ
أَوْجَبْتُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ
مَعَ الْأَمْرِ بِهَا، فَقَوْلُهُ:" حَقًّا" تَأْكِيدٌ
لِلْوُجُوبِ. وَمَعْنَى" عَلَى الْمُحْسِنِينَ" وَ" عَلَى
الْمُتَّقِينَ" أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَيْسَ
لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لَسْتُ بِمُحْسِنٍ وَلَا مُتَّقٍ،
وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا
مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ، فَيُحْسِنُونَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ
اللَّهِ وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلُوا
النَّارَ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَنْ
يَكُونُوا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ. وَ" حَقًّا" صِفَةٌ
لِقَوْلِهِ" مَتاعاً" أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ
أَدْخَلُ في التأكيد للأمر، والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 9 ص 304. [ ..... ]
(2). راجع ج 7 ص 36
(3/203)
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
[سورة البقرة (2): آية 237]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ
إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا مُخْرِجَةُ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ
الْفَرْضِ مِنْ حُكْمِ التَّمَتُّعِ، إِذْ يَتَنَاوَلُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَتِّعُوهُنَّ". وَقَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي فِي"
الْأَحْزَابِ «1» " لِأَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتْ تَمْتِيعَ
كُلِّ مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي قبلها. قلت: قول سعد
وَقَتَادَةَ فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ شُرُوطُ النَّسْخِ غَيْرُ
مَوْجُودَةٍ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
فِي الْمُدَوَّنَةِ: كَانَ الْمَتَاعُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ" وَلِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِالْآيَةِ
الَّتِي فِي سُورَةِ" الْأَحْزَابِ «2» " فَاسْتَثْنَى اللَّهُ
تَعَالَى الْمَفْرُوضَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِهَذِهِ
الْآيَةِ، وَأَثْبَتَ لِلْمَفْرُوضِ لَهَا نِصْفَ مَا فَرَضَ
فَقَطْ. وَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو
ثَوْرٍ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ عُمُومًا، وَهَذِهِ
الْآيَةُ إِنَّمَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَهَا
تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فُرِضَ لَهَا، وَلَمْ يَعْنِ بِالْآيَةِ
إِسْقَاطَ مُتْعَتِهَا، بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ
الْمَفْرُوضِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ) أَيْ فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أَيْ
مِنَ الْمَهْرِ فَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالنِّصْفُ
لِلْمَرْأَةِ بِإِجْمَاعٍ. وَالنِّصْفُ الْجُزْءُ مِنَ
اثْنَيْنِ، فَيُقَالُ: نَصَفَ الْمَاءُ الْقَدَحَ أَيْ بَلَغَ
نِصْفَهُ. ونصف الإزار الساق، وكل شي بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ
فَقَدْ نَصَفَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" فَنِصْفُ"
بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ" فَنِصْفَ" بِنَصْبِ
الْفَاءِ، الْمَعْنَى فَادْفَعُوا نِصْفَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" فَنِصْفُ" بِضَمِّ
النُّونِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَكَذَلِكَ
رَوَى الْأَصْمَعِيُّ قِرَاءَةً عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ
الْعَلَاءِ يقال: نصف ونصف ونصيف،
__________
(1). آية 49، راجع ج 14 ص 202
(2). آية 49، راجع ج 14 ص 202
(3/204)
لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فِي النِّصْفِ، وَفِي
الْحَدِيثِ:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ
ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" أَيْ
نِصْفَهُ. وَالنَّصِيفُ أَيْضًا الْقِنَاعُ. الثَّالِثَةُ-
إِذَا أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَنَمَا
الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ عَرَضٍ
أَصْدَقَهَا أَوْ عَبْدٍ فَنَمَاؤُهُمَا لَهُمَا جَمِيعًا
وَنُقْصَانُهُ بَيْنَهُمَا، وَتَوَاهُ «1» عَلَيْهِمَا جميعا
ليس على المرأة منه شي. فَإِنْ أَصْدَقَهَا عَيْنًا ذَهَبًا
أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ به عبد اأو دَارًا أَوِ اشْتَرَتْ
بِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ طِيبًا أَوْ شُوَارًا «2» أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ لِجِهَازِهَا
وَصَلَاحِ شَأْنِهَا فِي بَقَائِهَا مَعَهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا إِيَّاهُ، وَنَمَاؤُهُ
وَنُقْصَانُهُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلَيْسَ
عَلَيْهَا أَنْ تَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ مَا قَبَضَتْهُ مِنْهُ،
وَإِنِ اشْتَرَتْ بِهِ أَوْ مِنْهُ شَيْئًا تَخْتَصُّ بِهِ
فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ صَدَاقِهَا الَّذِي
قَبَضَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ
عَبْدًا أَوْ دَارًا بِالْأَلْفِ الَّذِي أَصْدَقَهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ
الْأَلْفِ. الرَّابِعَةُ- لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ
بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا أَنَّ
لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى كَامِلًا وَالْمِيرَاثَ، وَعَلَيْهَا
الْعِدَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَخْلُو
بِالْمَرْأَةِ وَلَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى فَارَقَهَا، فَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ وَمَالِكٌ: عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ،
وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فِيمَنْ أَغْلَقَ بَابًا
أَوْ أَرْخَى سِتْرًا أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا
الْعِدَّةَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَسَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ «3» ". وَالشَّافِعِيُّ لَا
يُوجِبُ مَهْرًا كَامِلًا، وَلَا عِدَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ
دُخُولٌ، لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ شُرَيْحٌ: لَمْ أَسْمَعِ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ بَابًا
وَلَا سِتْرًا، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا
نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَسَيَأْتِي مَا لِعُلَمَائِنَا فِي هَذَا فِي سُورَةِ"
النِّسَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ".
الْخَامِسَةُ- قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ
يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) الْآيَةَ."
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ
عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ.
وَ" يَعْفُونَ" مَعْنَاهُ يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ، وَوَزْنُهُ
يَفْعَلْنَ. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يتركن النصف الذي
__________
(1). تراه: هلاكه.
(2). الشوار: متاع البيت.
(3). راجع ج 6 ص 102
(3/205)
وَجَبَ لَهُنَّ عِنْدَ الزَّوْجِ، وَلَمْ
تَسْقُطِ النُّونُ مَعَ" أَنْ"، لِأَنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ
فِي الْمُضَارِعِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّفْعِ
وَالنَّصْبِ وَالْجَزْمِ، فَهِيَ ضَمِيرٌ وَلَيْسَتْ
بِعَلَامَةِ إِعْرَابٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ، وَلِأَنَّهُ
لَوْ سَقَطَتِ النُّونُ لَاشْتَبَهَ بِالْمُذَكَّرِ.
وَالْعَافِيَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ
أَمْرَ نَفْسِهَا، فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
لَهُنَّ فِي إِسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، إِذْ جَعَلَهُ
خَالِصَ حَقِّهِنَّ، فَيَتَصَرَّفْنَ فِيهِ بِالْإِمْضَاءِ
وَالْإِسْقَاطِ كَيْفَ شِئْنَ، إِذَا مَلَكْنَ أَمْرَ
أَنْفُسِهِنَّ وَكُنَّ بَالِغَاتٍ عَاقِلَاتٍ رَاشِدَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالتَّابِعِينَ: وَيَجُوزُ عَفْوُ الْبِكْرِ الَّتِي لَا
وَلِيَّ لَهَا، وَحَكَاهُ سَحْنُونُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ
غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ لِابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّ وَضْعَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا الَّتِي فِي حِجْرِ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ فَلَا يَجُوزُ
وَضْعُهَا لِنِصْفِ صَدَاقِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا
خِلَافَ فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ) مَعْطُوفٌ عَلَى
الْأَوَّلِ مَبْنِيٌّ، وَهَذَا مُعْرَبٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ"
أَوْ يَعْفُوْ" سَاكِنَةَ الْوَاوِ، كَأَنَّهُ اسْتَثْقَلَ
الْفَتْحَةَ فِي الْوَاوِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في المراد
بقوله تعالى:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكاحِ" فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جبير ابن مُطْعِمٍ
أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي نَصْرٍ «1»
فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ، بِهَا فَأَرْسَلَ
إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ
بِالْعَفْوِ مِنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكاحِ" وَأَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ منها. وتأول قوله
تعالى:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ"
يَعْنِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ
وَبَعْدَهُ، أَيْ عُقْدَةُ نِكَاحِهِ، فَلَمَّا أَدْخَلَ
اللَّامَ حَذَفَ الْهَاءَ كَقَوْلِهِ:" فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى «2» " أَيْ مَأْوَاهُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ
الْجُودِ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أَيْ أَحْلَامُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (عُقْدَةُ
النِّكاحِ) أَيْ عُقْدَةُ نِكَاحِهِ. وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ بْنِ
سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَلِيُّ عُقْدَةِ
النِّكَاحِ الزَّوْجُ". وَأُسْنِدَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ. قَالَ:
وَكَذَلِكَ قَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كعب
وطاوس ومجاهد
__________
(1). كذا فب الدارقطني ونسخ الأصل إلا هـ ففيها: بنى نضير. وفى
التاج أن بنى نصر بطن من هوازن.
(2). راجع ج 19 ص 205.
(3/206)
وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
زَادَ غَيْرُهُ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ، كُلُّهُمْ لَا يَرَى سَبِيلًا لِلْوَلِيِّ على
شي مِنْ صَدَاقِهَا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ
لَوْ أَبْرَأَ الزَّوْجَ مِنَ الْمَهْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ
لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ
الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا،
وَالْمَهْرُ مَالُهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنَ
الْأَوْلِيَاءِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَفْوُهُمْ وَهُمْ بَنُو
الْعَمِّ وَبَنُو الْإِخْوَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ الْوَلِيُّ، أَسْنَدَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَهُوَ
قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ، زَادَ غَيْرُهُ
وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَأَبِي الزِّنَادِ وَزَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ
شِهَابٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالشَّعْبِيِّ
وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
فَيَجُوزُ لِلْأَبِ الْعَفْوُ عَنْ نِصْفِ صَدَاقِ ابْنَتِهِ
الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ، بَلَغَتِ الْمَحِيضَ أَمْ لَمْ
تَبْلُغْهُ. قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: وَلَا تَرْجِعُ
بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَبِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ الْوَلِيُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ:" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ" فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ
وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ" فَذَكَرَ النِّسْوَانَ،" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" فَهُوَ ثَالِثٌ فَلَا يُرَدُّ
إِلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ
لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ فَهُوَ
الْمُرَادُ. قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ وَذَكَرَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:"
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ
امْرَأَةٍ تَعْفُو، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمَحْجُورَ
عَلَيْهَا لَا عَفْوَ لَهُمَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ
الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ:" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" أَيْ إِنْ
كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا،" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ" وَهُوَ الْوَلِيُّ، لِأَنَّ الْأَمْرَ
فِيهِ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ
وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَالسَّيِّدُ فِي
أَمَتِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَفْوُ الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ
مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُهُ إِذَا كَانَ
سَفِيهًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ الْوَلِيُّ
بَلْ هُوَ الزَّوْجُ، وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ،
لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِلْعَقْدِ «1» مِنَ الْوَلِيِّ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ- أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ
الزَّوْجَ أَمْلَكُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْأَبِ فِي ابْنَتِهِ
الْبِكْرِ، بَلْ أَبُ الْبِكْرِ يَمْلِكُهُ خَاصَّةً دُونَ
الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ بُضْعُ
الْبِكْرِ، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى
ذَلِكَ بَلِ الْأَبُ يَمْلِكُهُ. وَقَدْ أَجَازَ شُرَيْحٌ
عَفْوَ الْأَخِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ
عكرمة: يجوز عفو الذي
__________
(1). في ج وب وح: بالعقد.
(3/207)
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238)
عَقَدَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا،
كَانَ عَمًّا أَوْ أَبًا أَوْ أَخًا، وَإِنْ كَرِهَتْ.
وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَالشَّعْبِيُّ" أَوْ يَعْفُوْ"
بِإِسْكَانِ الْوَاوِ عَلَى [التَّشْبِيهِ «1»] بِالْأَلِفِ،
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ
عَنْ وِرَاثَةٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوَ بِأُمٍّ وَلَا
أَبِ السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْأَصْلُ
تَعْفُوُوا أُسْكِنَتِ الْوَاوُ الْأُولَى لِثِقَلِ
حَرَكَتِهَا ثُمَّ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ،
وَهُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي قوله ابْنِ
عَبَّاسٍ فَغُلِّبَ الذُّكُورُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى،
أي أقرب إلى التقوى. وقرا الجمهور" تَعْفُوا" بِالتَّاءِ
بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ والشعبي"
وأن يعفوا" بِالْيَاءِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَقْرَأْ" وَأَنْ
تَعْفُونَ" بِالتَّاءِ فَيَكُونُ لِلنِّسَاءِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) بِضَمِّ الْوَاوِ،
وَكَسَرَهَا يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ
وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" وَلَا
تَنَاسَوُا الْفَضْلَ" وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَمَكِّنَةُ
الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَنَاسٍ لَا نِسْيَانٍ إِلَّا
عَلَى التَّشْبِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَضْلُ إِتْمَامُ
الرَّجُلِ الصَّدَاقَ كُلَّهُ، أَوْ تَرْكُ الْمَرْأَةِ
النِّصْفَ الَّذِي لَهَا. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ
الْوَعْدُ لِلْمُحْسِنِ وَالْحِرْمَانُ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِ،
أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَفْوُكُمْ واستقضاؤكم «2».
[سورة البقرة (2): آية 238]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ (238)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (حافِظُوا) خطاب لجمع
الْأُمَّةِ، وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى
إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا بِجَمِيعِ
شُرُوطِهَا. وَالْمُحَافَظَةُ هِيَ الْمُدَاوَمَةُ على الشيء
والمواظبة عليه.
__________
(1). في ج: الشبه، وفى هامشها: التشبيه وفى ب: على التشبيه
بالألف. وفى هـ: على النسبة، وفى الكشاف:" وقرا الحسن (أو يعفو
الذي) بسكون الواو، وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه
لهما بالألف لأنهما أختاها"
(2). في ب وج: استقصاؤكم.
(3/208)
وَالْوُسْطَى تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ.
وَوَسَطُ الشَّيْءِ خَيْرُهُ وَأَعْدَلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" وَقَدْ
تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ...
وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وَوَسَطَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَسِطهُمْ أَيْ صَارَ فِي
وَسَطِهِمْ. وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ
وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْلُ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ تَشْرِيفًا
لَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «2» "،
وَقَوْلِهِ:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «3» ".
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَاسِطِيُّ" وَالصَّلَاةَ
الْوُسْطَى" بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ وَالْزَمُوا
الصَّلَاةَ الْوُسْطَى: وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَلْوَانِيُّ.
وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ" الْوُصْطَى" بِالصَّادِ
لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ لَهَا، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيِّزٍ
وَاحِدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالصِّرَاطِ وَنَحْوِهِ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهَا
الظُّهْرُ، لِأَنَّهَا وَسَطَ النَّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَارَ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ
الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالظُّهْرِ
لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا الْوُسْطَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا وُسْطَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حِينَ
أَمْلَتَا" حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" بِالْوَاوِ. وَرُوِيَ
أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى المسلمين، لأنها كانت تجئ فِي
الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفَّهَتْهُمْ «4» أَعْمَالُهُمْ فِي
أَمْوَالِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُصَلَّى
صَلَاةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، فَنَزَلَتْ:" حافِظُوا
عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى " وَقَالَ: إِنَّ
قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ. وَرَوَى
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي
مُسْنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الصَّلَاةُ
الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ، زَادَ الطَّيَالِسِيُّ: وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها
بالهجير.
__________
(1). تراجع المسألة الاولى ج 2 ص 153.
(2). راجع ج 14 ص 126.
(3). راجع ج 17 ص 185. [ ..... ]
(4). نفهه: أتعبه حتى انقطع.
(3/209)
الثَّانِي- أَنَّهَا الْعَصْرُ، لِأَنَّ
قَبْلَهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ لَيْلٍ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ أَنْ
يَكُونَ إِنَّمَا قِيلَ لَهَا وُسْطَى لِأَنَّهَا بَيْنَ
صَلَاتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَوَّلُ مَا فُرِضَ وَالْأُخْرَى
الثَّانِيَةُ مِمَّا فُرِضَ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَثَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ
وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ
وَبِهِ أَقُولُ. وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ «1»
الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ، وَأَنَصُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ" خَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ
أَتَيْنَا زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي الْقَبَسِ فِي شَرْحِ
مُوَطَّإِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. الثَّالِثُ- إِنَّهَا
الْمَغْرِبُ، قَالَهُ قَبِيصَةُ بْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ فِي
جَمَاعَةٍ. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ فِي
عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا
وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا
وَلَمْ يُعَجِّلْهَا، وَبَعْدَهَا صَلَاتَا جَهْرٍ وَقَبْلَهَا
صَلَاتَا سِرٍّ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ
صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يُحِطَّهَا عَنْ مُسَافِرٍ وَلَا
مُقِيمٍ فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلَاةَ اللَّيْلِ وَخَتَمَ
بِهَا صَلَاةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى
بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي
الْجَنَّةِ وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَ عِشْرِينَ سَنَةً- أَوْ قَالَ-
أَرْبَعِينَ سَنَةً". الرَّابِعُ- صَلَاةُ الْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ،
وَتَجِيءُ فِي وَقْتِ نَوْمٍ وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا
وَذَلِكَ شَاقٌّ فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي الْمُحَافَظَةِ
عَلَيْهَا. الْخَامِسُ- إِنَّهَا الصُّبْحُ، لِأَنَّ قَبْلَهَا
صَلَاتَيْ لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ
نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ
وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ
الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ
لِقِصَرِ اللَّيْلِ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أخرجه
__________
(1). في ب وهـ: بأحاديث واردة.
(3/210)
الْمُوَطَّأُ بَلَاغًا «1»، وَأَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَعْلِيقًا
«2»، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ
فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ
عَلِيٍّ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَرُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ
وَجْهٍ مَعْرُوفٍ صَحِيحٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ
إِنَّهَا الصُّبْحُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ" يَعْنِي فِيهَا، وَلَا صَلَاةَ مَكْتُوبَةً فِيهَا
قُنُوتٌ إِلَّا الصُّبْحَ. قَالَ أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا
ابْنُ عَبَّاسٍ صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ
فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ
قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا
اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ. وَقَالَ
أَنَسٌ: قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ
الْقُنُوتِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي" آلِ عِمْرَانَ"
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
«3» ". السَّادِسُ- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا خُصَّتْ
بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَةِ فِيهَا وَجُعِلَتْ عِيدًا،
ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَكِّيٌّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ:"
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ
أَحْرِقْ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ
بُيُوتَهُمْ". السَّابِعُ- إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ
مَعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ،
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ
وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ" الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو
هُرَيْرَةَ. وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ فَقَالَ:" أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ
كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ «4» فِي
رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى
صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ
غُرُوبِهَا" يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ: ثُمَّ قَرَأَ
جَرِيرٌ" وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِها «5» ". وروى عمارة بن رويبة قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"
لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قبل طلوع الشمس وقبل
غروبها"
__________
(1). أي قال مالك في الموطأ إنه بلغه عنهما.
(2). التعليق: رواية الحديث من غير سند.
(3). راجع ج 4 ص 199.
(4). قال النووي:" تضامون" بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها
فتح التاء، ومن خففها ضم التاء، ومعنى المشدد أنكم لا تتضامون
وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف أنه لا يلحقكم
ضيم، وهو المشقة والتعب. وفى هـ: لا تضارون.
(5). راجع ج 11 ص 260
(3/211)
يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ. وَعَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" كُلُّهُ
ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَسُمِّيَتَا
الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتَيِ
الْبَرْدِ. الثَّامِنُ- إِنَّهَا الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ
حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ- يَعْنِي فِي
جَمَاعَةٍ- الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا
فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى
مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ، قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ.
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا
فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا-
وَقَالَ- إِنَّهُمَا أَشَدُّ الصَّلَاةِ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ" وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ
قِيَامَ لَيْلَةٍ وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، ذَكَرَهُ
مَالِكٌ مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَانَ وَرَفَعَهُ مُسْلِمٌ،
وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ
نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي
جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ" وَهَذَا خِلَافُ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ. التَّاسِعُ- أنها الصلوات الخمس
بجملتها، قال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ
تَعَالَى:" حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ" يَعُمُّ الْفَرْضَ
وَالنَّفْلَ، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ. الْعَاشِرُ-
إِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، قَالَهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ
تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
فِي رَمَضَانَ، وَكَمَا خَبَّأَ سَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ
لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ
عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ
أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ
اللَّهُ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ:" حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى " فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ
إِذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ قَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ
كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ
عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ
التَّعْيِينُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ
مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ،
(3/212)
وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ
التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى
جَمِيعِهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ أَثْبَتَ" وَصَلَاةِ
الْعَصْرِ" الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى
عَائِشَةَ حِينَ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا
قُرْآنًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا ذَلِكَ
كَالتَّفْسِيرِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عمرو ابن رَافِعٍ
قَالَ: أَمَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا،
الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَأَمْلَتْ عَلَيَّ" حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى - وَهِيَ الْعَصْرُ-
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" وَقَالَتْ: هَكَذَا سَمِعْتُهَا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقرءوها. فَقَوْلُهَا:" وَهِيَ الْعَصْرُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ
الصَّلَاةَ الْوُسْطَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ هُوَ" وَهِيَ الْعَصْرُ". وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ
عَنْ حَفْصَةَ" وَصَلَاةِ الْعَصْرِ"، كَمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ وَعَنْ حَفْصَةَ أَيْضًا" صَلَاةِ الْعَصْرِ"
بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ:
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمَزِيدِ يَدُلُّ
عَلَى بُطْلَانِهِ وَصِحَّةِ مَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ
جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ
أَنَّ مَنْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَصَلَاةُ
الْعَصْرِ جَعَلَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرَ الْعَصْرِ،
وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ:
شَغَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ صَلَاةِ
الْعَصْرِ حَتَّى اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" شَغَلُونَا عَنِ
الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ملا الله أجوافهم وقبورهم نارا" الحديث
«1». الرَّابِعَةُ- وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،
لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَعْدَادِ
الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ أَنَّهَا تَنْقُصُ عَنْ سَبْعَةٍ
وَتَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ
وَالسَّبْعَةِ فَرْدٌ إِلَّا الْخَمْسَةُ، وَالْأَزْوَاجُ لَا
وَسَطَ لَهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا خَمْسَةٌ. وَفِي حَدِيثِ
الْإِسْرَاءِ" هِيَ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) مَعْنَاهُ فِي صَلَاتِكُمْ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي معنى قوله" قانِتِينَ" فقال الشعبي:
طائعين، وقال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ.
__________
(1). في ب وز:" ما لهم ملا الله ... " وفى ابن عطية والبحر:"
شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وفى ابن عطية:" ملا الله
قبورهم وبيوتهم ... " وفى البحر:" ملا الله أجوافهم ... ".
(3/213)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ قُنُوتٍ فِي
الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الطَّاعَةُ. وَقَالَهُ
أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَإِنَّ أَهْلَ كُلِّ دِينٍ فَهُمُ الْيَوْمَ
يَقُومُونَ عَاصِينَ، فَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقُومُوا
لِلَّهِ طَائِعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى قَانِتِينَ
خَاشِعِينَ. وَالْقُنُوتُ طُولُ الرُّكُوعِ وَالْخُشُوعِ
وَغَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجُنَاحِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ:
الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ
وَقَرَأَ" أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً
وَقائِماً «1» ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" أَفْضَلُ
الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ
النَّاسِ اعْتَزَلْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ"
قانِتِينَ" دَاعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: قَنَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو
عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ «3». قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ دَعَا،
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ طَوَّلَ قِيَامَهُ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ:" قانِتِينَ" سَاكِتِينَ، دَلِيلُهُ أَنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ فِي
الصَّلَاةِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ،
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغيره عن عبد
الله ابن مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ
عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ
عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ:" إِنَّ
فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا". وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ:
كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ
صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى
نَزَلَتْ:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" فَأُمِرْنَا
بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ
أَصْلَ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ.
وَمِنْ حَيْثُ كَانَ أَصْلُ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ
الدَّوَامَ عَلَى الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُدِيمُ
الطَّاعَةِ قَانِتًا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ
وَالْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَطَالَ
الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فَاعِلُونَ
لِلْقُنُوتِ. السَّادِسَةُ- قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ طُرًّا أَنَّ الْكَلَامَ عَامِدًا فِي
الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي
صَلَاةٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ
أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، إِلَّا مَا روى عن
__________
(1). راجع ج 15 ص 238.
(2). راجع المسألة الخامسة ج 2 ص 86.
(3). رعل وذكوان: قبيلتان من سليم، وإنما دعا عليهم لقتلهم
القراء.
(3/214)
الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ
تَكَلَّمَ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ
الْأُمُورِ الْجِسَامِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" وَقَالَ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى
نَزَلَتْ:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" الْحَدِيثَ. وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" إِنَّ اللَّهَ أَحْدَثَ مِنْ
أَمْرِهِ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". وَلَيْسَ
الْحَادِثُ الْجَسِيمُ الَّذِي يَجِبُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ
وَمِنْ أَجْلِهِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ، فَمَنْ قَطَعَ
صَلَاتَهُ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الْفَضْلِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ
أَوْ مَالٍ أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ
صَلَاتَهُ وَلَمْ يَبْنِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي
الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلَامِ سَاهِيًا فِيهَا، فَذَهَبَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّ
الْكَلَامَ فِيهَا سَاهِيًا لَا يُفْسِدُهَا، غَيْرَ أَنَّ
مَالِكًا قَالَ: لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ تَعَمُّدُ الْكَلَامِ
فِيهَا إذا كان في شأنها وإصلاحها، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ
وَابْنِ الْقَاسِمِ. وَرَوَى سَحْنُونُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّى بِهِمُ
الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ
فَلَمْ يَفْقَهْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ مِمَّنْ
هُوَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ: إِنَّكَ لَمْ تُتِمَّ فَأَتِمَّ
صَلَاتَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا
يَقُولُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: يُصَلِّي بِهِمُ
الْإِمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ
بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ
يَتَكَلَّمْ، وَلَا شي عَلَيْهِمْ، وَيَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ
مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ «1». هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ
فِي [كِتَابِهِ «2»] الْمُدَوَّنَةِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ
مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَاحْتَجَّ
له في كتاب رده على محمد ابن الْحَسَنِ. وَذَكَرَ الْحَارِثُ
بْنُ مِسْكِينَ قَالَ: أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ عَلَى
خِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ ذِي الْيَدَيْنِ إِلَّا
ابْنَ الْقَاسِمِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهَا بِقَوْلِ
مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمْ يَأْبَوْنَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا
كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ
عَرَفَ النَّاسُ صَلَاتَهُمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا
أَعَادَهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا
إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا عَلَى
أَيِّ حَالٍ كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِصَلَاةٍ كَانَ أو
لغير ذلك، وهو قوله إبراهيم النخعي
__________
(1). ذو اليدين اسمه الخرباق، وقد كان يصلى خلف النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اثنتين- وكانت رباعية-
فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ...
إلخ.
(2). من ب وهـ.
(3/215)
وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةَ. وَزَعَمَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي قِصَّةِ
ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ
مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ حَدِيثَ ذِي
الْيَدَيْنِ كَمَا أَرْسَلَ حَدِيثَ" مَنْ أَدْرَكَهُ
الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ" قَالُوا: وَكَانَ
كَثِيرَ الْإِرْسَالِ. وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ:
يُسْتَحَبُّ إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ
يَعُودَ لَهَا وَلَا يَبْنِيَ. قَالَ: وَقَالَ لَنَا مَالِكٌ
إِنَّمَا تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ،
لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الصَّلَاةَ قَصُرَتْ وَلَا يَجُوزُ
ذَلِكَ لِأَحَدٍ الْيَوْمَ. وَقَدْ رَوَى سَحْنُونُ عَنِ ابْنِ
الْقَاسِمِ فِي رَجُلٍ صَلَّى وَحْدَهُ فَفَرَغَ عِنْدَ
نَفْسِهِ مِنَ الْأَرْبَعِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إِلَى
جَنْبِهِ: إِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ إِلَّا ثَلَاثًا، فَالْتَفَتَ
إِلَى آخَرَ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يقوله هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُكَلِّمَهُ وَلَا أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: فَكَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
بَيْنَ الْإِمَامِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَالْمُنْفَرِدِ
فَيُجِيزُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ
لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَا يُجِيزُونَهُ
لِلْمُنْفَرِدِ، وَكَانَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ يَحْمِلُونَ جَوَابَ
ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُنْفَرِدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَفِي الْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ
قَوْلِهِ فِي اسْتِعْمَالِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا
اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُ: مَنْ تَعَمَّدَ الْكَلَامَ وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَأَنَّهُ فِيهَا أَفْسَدَ
صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ تَكَلَّمَ وَهُوَ
يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ قَدْ
أَكْمَلَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَبْنِي. وَاخْتَلَفَ
قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ
الْأَثْرَمُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ بِهِ
الْإِنْسَانُ فِي صَلَاتِهِ لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُدْ
عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ ذَلِكَ
فَسَدَتْ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ. وَذَكَرَ
الْخِرَقِيُّ «1» عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِيمَنْ تَكَلَّمَ
عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إِلَّا الْإِمَامَ
خَاصَّةً فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ صَلَاتِهِ
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَاسْتُثْنَى سَحْنُونُ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِي
الرُّبَاعِيَّةِ فَوَقَعَ الْكَلَامُ هُنَاكَ لَمْ تَبْطُلِ
الصَّلَاةُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَطَلَتِ
الصَّلَاةُ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي
الْمَشْهُورِ تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى
الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ مِنْ تَعَدِّي الأحكام
__________
(1). الخرقي (بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء): أبو القاسم عمر
بن الحسين شيخ الحنابلة. [ ..... ]
(3/216)
وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، وَدَفْعًا لِمَا
يُتَوَهَّمُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ جَرَى الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ
وَالسَّهْوُ أَيْضًا وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ:" التَّسْبِيحُ
لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" فَلِمَ لَمْ
يُسَبِّحُوا؟ فَقَالَ: لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الوقت لم يكن أمرهم
بذلك، ولين كَانَ كَمَا ذَكَرْتَ فَلَمْ يُسَبِّحُوا،
لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ قَصُرَتْ، وَقَدْ
جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: وَخَرَجَ سَرَعَانُ «1»
النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصلاة؟ فلما يَكُنْ بُدٌّ
مِنَ الْكَلَامِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ: قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ"
صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّى
بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، كَمَا رُوِيَ عَنِ
النَّزَّالِ «2» بْنِ سَبْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ لَنَا
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَا
وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْتُمُ
الْيَوْمَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ بَنُو عَبْدِ
اللَّهِ" وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ
وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ صَلَّى
بِنَا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ كَافِرٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الصَّلَاةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا، وَحَدِيثُ النَّزَّالِ
«3» هُوَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ وَسَمِعَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ.
وَأَمَّا مَا ادَّعَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ النَّسْخِ
وَالْإِرْسَالِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلَمَاؤُنَا
وَغَيْرُهُمْ وَأَبْطَلُوهُ، وَخَاصَّةً الْحَافِظَ أَبَا
عُمَرَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ"
التَّمْهِيدِ" وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ عَامَ
خَيْبَرٍ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ،
وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ، وَشَهِدَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ
وَحَضَرَهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ بَدْرٍ كَمَا
زَعَمُوا، وَأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ فِي بَدْرٍ. قَالَ:
وَحُضُورُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْفُوظٌ
مِنْ رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ تَقْصِيرُ
مَنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ
وَحَفِظَهُ وَذَكَرَهُ. الثَّامِنَةُ- الْقُنُوتُ: الْقِيَامُ،
وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِهِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ
الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ
قَادِرٍ عَلَيْهِ، مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا. وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّمَا جُعِلَ
الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قائما فصلوا
قياما" الحديث،
__________
(1). السرعان (بفتح السين والراء ويجوز تسكين الراء): أوائل
الناس الذين يتسابقون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة.
(2). في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا
عن الجصاص ج 1 ص 446 وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.
(3). في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا
عن الجصاص ج 1 ص 446 وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.
(3/217)
أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ، وَهُوَ بَيَانٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ".
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ يُصَلِّي قَاعِدًا
خَلْفَ إِمَامٍ مَرِيضٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ،
فَأَجَازَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ
جُمْهُورُهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْإِمَامِ:" وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا
أَجْمَعُونَ" وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى
مَا نُبَيِّنُهُ آنِفًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ
أَجَازَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ صَلَاةَ الْقَائِمِ
خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ لِأَنَّ كُلًّا يُؤَدِّي
فَرْضَهُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَلَّى فِي مَرَضِهِ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى
جَنْبِهِ قَائِمًا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ
خَلْفَهُ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِلَيْهِمْ
بِالْجُلُوسِ، وَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ
قِيَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بَعْدَ
سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْآخِرَ مِنْ
فِعْلِهِ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَمِمَّنْ
ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ
الْحُجَّةِ الشَّافِعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهِيَ
رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ:
وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَ «1» إِلَى جَنْبِهِ مِمَّنْ
يُعْلِمُ النَّاسَ بِصَلَاتِهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ
غَرِيبَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْقُيَّامَ
أَحَدٌ جالسا، فَإِنْ أَمَّهُمْ قَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
وَصَلَاتُهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
قَاعِدًا". قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلِيلًا تَمَّتْ
صَلَاةُ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ. قَالَ:
وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَعَادَ
الصَّلَاةَ، هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي مُصْعَبٍ فِي مُخْتَصَرِهِ
عَنْ مَالِكٍ، وَعَلَيْهَا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ صَلَّى
قَاعِدًا الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ فِي
الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي
هَذَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ. وَاحْتَجَّ
لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو
مُصْعَبٍ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
جَالِسًا". قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ
جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ مَتْرُوكُ
الْحَدِيثِ، مُرْسِلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ
يَرْوِيهِ مُسْنَدًا فَكَيْفَ بِمَا يَرْوِيهِ مُرْسَلًا؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ
الْمَرِيضُ جَالِسًا بِقَوْمٍ أصحاء ومرضى
__________
(1). في ح:" أن يقوم بجنبه".
(3/218)
جُلُوسًا فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ
خَلْفَهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ صَحِيحَةٌ
جَائِزَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ مِمَّنْ
حُكْمُهُ الْقِيَامُ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ: صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ.
وَقَالُوا: لَوْ صَلَّى وَهُوَ يُومِئُ بِقَوْمٍ وَهُمْ
يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ لَمْ تُجْزِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ
جَمِيعًا وَأَجْزَأَتِ الامام صلاته. وكان زفر يقول:
تجزيهم صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى
فَرْضِهِمْ وَصَلَّى إِمَامُهُمْ عَلَى فَرْضِهِ، كَمَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ. قُلْتُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو
عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ
مِنْ أَنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رأيت لغيرهم
خلال ذَلِكَ مِمَّنْ جَمَعَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ فِي
هَذَا الْبَابِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ
اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ
مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ
الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَصِحَّةُ قَوْلِ
مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ
قَاعِدًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ جَائِزَةٌ،
فَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ
الْبُسْتِيُّ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ:"
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ"؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ! قَالَ:" أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ
أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ
طَاعَتِي"؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ
أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ
طَاعَتُكَ. قَالَ:" فَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ
تُطِيعُونِي وَمِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ
فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا". فِي
طَرِيقِهِ عُقْبَةُ بن أبى الصهباء وهو ثقة، قال يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فِي هَذَا الْخَبَرِ
بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا
إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ
جَلَّ وَعَلَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ،
وَهُوَ عِنْدِي ضَرْبٌ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي
أَجْمَعُوا عَلَى إِجَازَتِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعَةً أَفْتَوْا بِهِ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ
بْنُ قَهْدٍ «1»، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا هُبُوطَ الْوَحْيِ
وَالتَّنْزِيلِ وَأُعِيذُوا مِنَ التَّحْرِيفِ
وَالتَّبْدِيلِ خِلَافٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، لَا
بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، فَكَأَنَّ
الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا
صَلَّى قَاعِدًا كَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ
يُصَلُّوا قُعُودًا. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ وإسحاق
__________
(1). قهد بالقاف وفى آخره دال.
(3/219)
ابن إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو أَيُّوبَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو
خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ خُزَيْمَةَ. وَهَذِهِ السُّنَّةُ رَوَاهَا عَنِ
الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ. وَأَوَّلُ
مَنْ أَبْطَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ
قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُ جَالِسًا الْمُغِيرَةُ
بْنُ مِقْسَمٍ صَاحِبُ النَّخَعِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُ
حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ
حَمَّادٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ
بَعْدَهُ من أصحابه. وأعلى شي احتجوا به فيه شي رَوَاهُ
جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا
يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا" وَهَذَا لَوْ صَحَّ
إِسْنَادُهُ لَكَانَ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ مِنَ
الْخَبَرِ وَمَا لَمْ يُرْوَ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ
عِنْدَنَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا
رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ، وَلَا
فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ،
وَمَا أَتَيْتُهُ بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْيٍ إِلَّا
جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ، وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا
وَكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، فَهَذَا
أَبُو حَنِيفَةَ يُجَرِّحُ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ
وَيُكَذِّبُهُ ضِدَّ قَوْلِ مَنِ انْتَحَلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ مَذْهَبَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا
صلاة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَرَضِهِ فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ فِيهَا مُجْمَلَةً
وَمُخْتَصَرَةً، وَبَعْضُهَا مُفَصَّلَةٌ مُبَيَّنَةٌ،
فَفِي بَعْضِهَا: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَجَلَسَ «1»] إِلَى جَنْبِ أَبِي
بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ
يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ. وَفِي بَعْضِهَا: فَجَلَسَ
عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا مُفَسَّرٌ. وَفِيهِ:
فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا إِجْمَالُ هَذَا الْخَبَرِ
فَإِنَّ عَائِشَةَ حَكَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هذا
الموضع، وآخر القصة عند جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ
بِالْقُعُودِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا
أَمَرَهُمْ بِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ،
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ
قَالَ أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ مَوْهَبٍ قَالَ حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ،
قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ
إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا،
فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:" كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ
فارس والروم
__________
(1). في ب.
(3/220)
يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ
قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ
صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى
قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا". قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَفِي
هَذَا الْخَبَرِ الْمُفَسَّرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
قَعَدَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَتَحَوَّلَ أَبُو
بَكْرٍ مَأْمُومًا يَقْتَدِي بِصَلَاتِهِ وَيُكَبِّرُ
يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ لِيَقْتَدُوا بِصَلَاتِهِ،
أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ
بِالْقُعُودِ حِينَ رَآهُمْ قِيَامًا، وَلَمَّا فَرَغَ
مِنْ صَلَاتِهِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْقُعُودِ إِذَا
صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا. وَقَدْ شَهِدَ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ صَلَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ «1»
شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَكَانَ سُقُوطُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ آخِرِ
سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَشَهِدَ هَذِهِ
الصَّلَاةَ فِي عِلَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ هَذَا التَّارِيخِ فَأَدَّى كُلَّ
خَبَرٍ بِلَفْظِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَذْكُرُ فِي هَذِهِ
الصَّلَاةِ: رَفَعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ
لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، وَتِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي
صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ،
لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ
بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ عَلَى
صِغَرِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ رَفْعُهُ
صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ
الَّذِي صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّتِهِ، فَلَمَّا صَحَّ مَا
وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ بَعْضَ هَذِهِ
الْأَخْبَارِ نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ
كَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَكَانَ فِيهَا إِمَامًا
وَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ عُمُرِهِ
فَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ
«2»، وَكَانَ فِيهَا مَأْمُومًا، وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْفَ
أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ.
رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: آخِرُ صَلَاةٍ
صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا
بِهِ قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
السَّلَامُ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً لَا
صَلَاةً وَاحِدَةً. وَإِنَّ فِي خبر عبيد الله ابن عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ. يُرِيدُ
أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسَ وَالْآخَرُ عَلِيًّا. وَفِي
خَبَرِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ
خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ، إِنِّي
لَأَنْظُرُ إِلَى نَعْلَيْهِ تَخُطَّانِ فِي الْحَصَى
وَأَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ، الْحَدِيثَ. فَهَذَا
يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَتَا صَلَاتَيْنِ لَا
صَلَاةً وَاحِدَةً. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا محمد
__________
(1). جحش شقه: أي انخدش جلده.
(2). كذا في أكثر الأصول وفى بعضها: ثويبة. بالمثلثة.
والصواب ما في شرح البخاري لابن حجر: بريرة ونوبه، بضم
النون وسكون الواو ثم موحدة، ضبطه ابن ماكولا إلخ. فليراجع
ج 8 ص 108 طبع بولاق ففيه الخلاف والجمع. أما ثويبة مرضعته
عليه السلام فلم يقل أحد بها ولا حد بها ولا هي أسلمت على
المشهور.
(3/221)
ابن إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا
بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى
بِالنَّاسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الصَّفِّ خَلْفَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
خَالَفَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ زَائِدَةَ بْنَ
قُدَامَةَ فِي مَتْنِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى بْنِ
أَبِي عَائِشَةَ فَجَعَلَ شُعْبَةُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى
قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَجَعَلَ زَائِدَةُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا
حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَهُمَا
مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَادَّتَا فِي
الظَّاهِرِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ نَاسِخًا لِأَمْرٍ مُطْلَقٍ
مُتَقَدِّمٍ! فَمَنْ جَعَلَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ
ثَبَتَ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ، سَوَّغَ لِخَصْمِهِ أَخْذَ
مَا تَرَكَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ وَتَرْكَ مَا أَخَذَ
مِنْهُمَا. وَنَظِيرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السُّنَنِ خبر
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَخَبَرُ
أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَكَحَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ فَتَضَادَّ
الْخَبَرَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي الظَّاهِرِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ عِنْدَنَا،
فَجَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رُوِيَا فِي نِكَاحِ
مَيْمُونَةَ مُتَعَارِضَيْنِ، وَذَهَبُوا إِلَى خَبَرِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا
يُنْكَحُ" فَأَخَذُوا بِهِ، إِذْ هُوَ يُوَافِقُ إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي نِكَاحِ
مَيْمُونَةَ، وَتَرَكُوا خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَهَا
وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ
يَقُولَ: تَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّتِهِ عَلَى
حَسَبِ ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجئ إِلَى الْخَبَرِ
الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ
قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا فَيَأْخُذُ
بِهِ، إِذْ هُوَ يُوَافِقُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّتِهِ وَيَتْرُكُ
الْخَبَرَ الْمُنْفَرِدَ عَنْهُمَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ
فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: زَعَمَ
بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِلُ
مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ:" وَإِذَا صَلَّى
قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا" أَرَادَ بِهِ وَإِذَا
تَشَهَّدَ قَاعِدًا فَتَشَهَّدُوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ
فَحَرَّفَ الْخَبَرَ عَنْ عُمُومِ مَا وَرَدَ الْخَبَرُ
فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ثَبَتَ له على تأويله.
(3/222)
فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ (239)
[سورة البقرة (2): آية 239]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا
أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَإِنْ خِفْتُمْ) مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ الْفَزَعُ.
(فَرِجالًا) أَيْ فَصَلُّوا رِجَالًا. (أَوْ رُكْباناً)
مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَالرِّجَالُ جَمْعُ رَاجِلٍ أَوْ
رَجُلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجِلَ الْإِنْسَانُ يَرْجَلُ
رَجَلًا إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ وَمَشَى عَلَى
قَدَمَيْهِ، فَهُوَ رَجِلٌ وَرَاجِلٌ وَرَجُلٌ- (بِضَمِّ
الْجِيمِ) وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، يقولون: مشى
فولان إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا، حَكَاهُ
الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ- وَرَجْلَانِ وَرَجِيلٌ وَرَجْلٌ،
وَيُجْمَعُ عَلَى رِجَالٍ وَرَجْلَى وَرُجَّالٍ
وَرَجَّالَةٍ وَرُجَالَى وَرُجْلَانٍ وَرِجْلَةٍ
وَرِجَلَةٍ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَأَرْجِلَةٍ وَأَرَاجِلٍ
وَأَرَاجِيلٍ. وَالرَّجُلُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ
يُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رِجَالٍ. الثَّانِيَةُ- لَمَّا
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِيَامِ لَهُ فِي الصَّلَاةِ
بِحَالِ قُنُوتٍ وَهُوَ الْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ
وَهُدُوءُ الْجَوَارِحِ وَهَذَا عَلَى الْحَالَةِ
الْغَالِبَةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ذَكَرَ
حَالَةَ الْخَوْفِ الطَّارِئَةَ أَحْيَانًا، وَبَيَّنَ
أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْعَبْدِ
فِي حَالٍ، وَرَخَّصَ لِعَبِيدِهِ فِي الصَّلَاةِ رِجَالًا
عَلَى الْأَقْدَامِ وَرُكْبَانًا عَلَى الْخَيْلِ
وَالْإِبِلِ وَنَحْوِهَا، إِيمَاءً وَإِشَارَةً
بِالرَّأْسِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ، هَذَا قَوْلُ
الْعُلَمَاءِ، وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْفَذِّ الَّذِي
قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ
الْمُسَايَفَةِ أَوْ مِنْ سَبْعٍ يَطْلُبُهُ أَوْ مِنْ
عَدُوٍّ يَتْبَعُهُ أَوْ سَيْلٍ يَحْمِلُهُ،
وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ أَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى
رُوحِهِ فَهُوَ مُبِيحٌ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ
الْآيَةُ. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي ضِمْنِهَا
إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
حَيْثُمَا تَوَجَّهَ مِنَ السُّمُوتِ وَيَتَقَلَّبُ
وَيَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ فِي نَجَاةِ نَفْسِهِ.
الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْخَوْفِ الَّذِي تَجُوزُ
فِيهِ الصَّلَاةُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: هُوَ إِطْلَالُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ
فَيَتَرَاءَوْنَ «1» مَعًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ
حِصْنٍ حَتَّى يَنَالَهُمُ السلاح من الرمي
__________
(1). في ب: فينزلون.
(3/223)
أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَقْرَبَ
الْعَدُوُّ فِيهِ مِنْهُمْ مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ،
أَوْ يَأْتِي مَنْ يُصَدَّقُ خَبَرُهُ فَيُخْبِرُهُ
بِأَنَّ الْعَدُوَّ قَرِيبٌ مِنْهُ وَمَسِيرُهُمْ
جَادِّينَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْ
هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ. فَإِنْ صَلَّوْا بِالْخَبَرِ
صَلَاةَ الْخَوْفِ ثُمَّ ذَهَبَ الْعَدُوُّ لَمْ
يُعِيدُوا، وَقِيلَ: يُعِيدُونَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَالْحَالُ الَّتِي
يَجُوزُ مِنْهَا لِلْخَائِفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَاجِلًا أَوْ
رَاكِبًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ
مُسْتَقْبِلِهَا هِيَ حَالُ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَالْحَالُ
الَّتِي وَرَدَتِ الْآثَارُ فِيهَا هِيَ غَيْرُ هَذِهِ.
وَهِيَ صَلَاةُ الْخَوْفِ بِالْإِمَامِ وَانْقِسَامِ
النَّاسِ وَلَيْسَ حُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ «1» " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ خَوْفِ
الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلِ وَبَيْنَ خَوْفِ السَّبُعِ
وَنَحْوِهِ مِنْ جَمَلٍ صَائِلٍ أَوْ سَيْلٍ أَوْ مَا
الْأَغْلَبُ مِنْ شَأْنِهِ الْهَلَاكُ، فَإِنَّهُ
اسْتَحَبَّ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْعَدُوِّ الْإِعَادَةَ
فِي الْوَقْتِ إِنْ وَقَعَ الْأَمْنُ. وَأَكْثَرُ
فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ سَوَاءٌ.
الْخَامِسَةُ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْقِتَالَ
يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَرُدُّ
عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ،
وَسَيَأْتِي هَذَا فِي" النِّسَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا رَخَّصَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فِي جَوَازِ تَرْكِ بَعْضِ الشُّرُوطِ دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي الصَّلَاةِ لَا
يُفْسِدُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- لَا
نُقْصَانَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي الْخَوْفِ عَنْ
صَلَاةِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
أَبِي الْحَسَنِ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: يُصَلِّي
رَكْعَةً إِيمَاءً، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
الْأَخْنَسِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ
أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ
رَكْعَةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: انْفَرَدَ بِهِ
بُكَيْرُ بْنُ الْأَخْنَسِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا
يَنْفَرِدُ بِهِ، وَالصَّلَاةُ أَوْلَى مَا احْتِيطَ
فِيهِ، وَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي خَوْفِهِ
وَسَفَرِهِ خَرَجَ مِنَ الِاخْتِلَافِ إلى اليقين. وقال
الضحاك ابن مُزَاحِمٍ: يُصَلِّي صَاحِبُ خَوْفِ الْمَوْتِ
فِي الْمُسَايَفَةِ وَغَيْرِهَا رَكْعَةً فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ. وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا
عَلَى تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، ذَكَرَهُ
ابن المنذر.
__________
(1). راجع ج 5 ص 351
(3/224)
وقوله تَعَالَى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ" أَيِ ارْجِعُوا
إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِتْمَامِ الْأَرْكَانِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" أَمِنْتُمْ" خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ
السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَرَدَّ الطَّبَرِيُّ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ «1» فِرْقَةٌ:"
أَمِنْتُمْ" زَالَ خَوْفُكُمُ الَّذِي أَلْجَأَكُمْ إِلَى
هَذِهِ الصَّلَاةِ. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بِنَاءِ الْخَائِفِ
إِذَا أَمِنَ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ صَلَّى رَكْعَةً
آمِنًا ثُمَّ خَافَ رَكِبَ وَبَنَى، وَكَذَلِكَ إن صلى
رَاكِبًا وَهُوَ خَائِفٌ ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ وَبَنَى،
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ
الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا افْتَتَحَ
الصَّلَاةَ آمِنًا ثُمَّ خَافَ اسْتَقْبَلَ وَلَمْ يَبْنِ،
فَإِنْ صَلَّى خَائِفًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: يَبْنِي النَّازِلُ وَلَا يَبْنِي
الرَّاكِبُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لا يبنى في شي مِنْ
هَذَا كُلِّهِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ) قِيلَ: مَعْنَاهُ اشْكُرُوهُ عَلَى
هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي تَعْلِيمِكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ
الَّتِي وَقَعَ بِهَا الْإِجْزَاءُ، وَلَمْ تَفُتْكُمْ
صَلَاةٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَهُ. فَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ" كَما" بِمَعْنَى
الشُّكْرِ، تَقُولُ: افْعَلْ بِي كَمَا فَعَلْتُ بِكَ
كَذَا مُكَافَأَةً وَشُكْرًا. وَ" مَا" فِي قَوْلِهِ" مَا
لَمْ" مَفْعُولَةٌ بِ" عَلَّمَكُمْ". التَّاسِعَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: الصَّلَاةُ
أَصْلُهَا الدُّعَاءُ، وَحَالَةُ الْخَوْفِ أَوْلَى
بِالدُّعَاءِ، فَلِهَذَا لَمْ تَسْقُطِ الصَّلَاةُ
بِالْخَوْفِ، فَإِذَا لَمْ تَسْقُطِ الصَّلَاةُ
بِالْخَوْفِ فَأَحْرَى أَلَّا تَسْقُطَ بِغَيْرِهِ مِنْ
مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ
حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ، وَحَضَرٍ أَوْ سَفَرٍ،
وَقُدْرَةٍ أَوْ عَجْزٍ وَخَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ، لَا
تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ، وَلَا يَتَطَرَّقُ
إِلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ
حُكْمِ الْمَرِيضِ فِي آخِرِ" آلِ عِمْرَانَ «2» " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ
تُفْعَلَ الصَّلَاةُ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، وَلَا تَسْقُطُ
بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إِلَّا
بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَزِمَ فِعْلُهَا، وَبِهَذَا
تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، كُلُّهَا
تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا
بِالرُّخَصِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلِهَذَا قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى، إِنَّ تَارِكَ
الصَّلَاةِ يُقْتَلُ، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الْإِيمَانَ
الَّذِي لَا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم
__________
(1). في ز: وقال الطبري.
(2). راجع ج 4 ص 3 - 15 (310)
(3/225)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي
مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
الْإِسْلَامِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ
عَنْهَا بِبُدْنٍ وَلَا مَالٍ، فَيُقْتَلُ تَارِكُهَا،
أَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ. وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ
فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي" بَرَاءَةٌ «1» " إِنْ شاء
الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً) ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي
تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا كَانَتْ تَجْلِسُ فِي بَيْتِ الْمُتَوَفَّى
عَنْهَا حَوْلًا، وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ مَا
لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ
يَكُنْ عَلَى الْوَرَثَةِ جُنَاحٌ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ
عَنْهَا، ثُمَّ نُسِخَ الْحَوْلُ بِالْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَنُسِخَتِ النَّفَقَةُ
بِالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ «2» "
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ
زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ. وَفِي السُّكْنَى خِلَافٌ
لِلْعُلَمَاءِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ
الَّتِي فِي" الْبَقَرَةِ":" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إِلَى قَوْلِهِ- غَيْرَ
إِخْراجٍ" قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ
تَكْتُبْهَا أَوَ تَدَعُهَا؟ قَالَ. يا بن «3» أَخِي لَا
أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا، وَالْعِدَّةُ كَانَتْ قَدْ
ثَبَتَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ سُكْنَى سَبْعَةِ
أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً «4»، فَإِنْ شَاءَتِ
الْمَرْأَةُ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ
خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (غَيْرَ
إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ زَالَ حُكْمُهُ
بِالنَّسْخِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا مَا قَوَّلَهُ
الطَّبَرِيُّ مُجَاهِدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى،
وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ عَلَى الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ
الْحَوْلَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ"
وَصِيَّةً" أَيْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ عَلَى
النِّسَاءِ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ
سنة ثم نسخ.
__________
(1). راجع ج 8 ص 72.
(2). راجع ج 5 ص 75. [ ..... ]
(3). كذا في صحيح البخاري. والذي في الأصول:" ... فلم
تكتبها؟ قال: تدعها يا ابن أخى ... إلخ" قوله" أو تدعها"
أي تتركها في المصحف، والشك من الراوي، وكان ابن الزبير ظن
أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب.
(4). في هـ: يوما.
(3/226)
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ
مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ
حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً" قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ
تُعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبَةً «1»
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إِلَى قَوْلِهِ- مِنْ
مَعْرُوفٍ" قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ
سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ
شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ
خَرَجَتْ، وهو قول الله تَعَالَى:" غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ
خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ" إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ
الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"
إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ
كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي
بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ" الْحَدِيثَ.
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ حَالَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ
أَزْوَاجُهُنَّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَلَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَامُ أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ
الْبُيُوتِ حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ بِالْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، هَذَا- مَعَ وُضُوحِهِ فِي
السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمَنْقُولَةِ بِأَخْبَارِ
الْآحَادِ- إِجْمَاعٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا
خِلَافَ فِيهِ، قال أَبُو عُمَرَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ
سَائِرُ الْآيَةِ. فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ
" مَنْسُوخٌ كُلُّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ
نَسَخَ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى لِلزَّوْجَاتِ فِي
الْحَوْلِ، إِلَّا رِوَايَةً شَاذَّةً مَهْجُورَةً جَاءَتْ
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لَمْ يُتَابَعْ
عَلَيْهَا، وَلَا قَالَ بِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ أَحَدٌ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيمَا عَلِمْتُ" «2».
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَ مَا
عَلَيْهِ النَّاسُ، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَارْتَفَعَ
الْخِلَافُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصِيَّةً) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي
بَكْرٍ" وَصِيَّةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ،
وَخَبَرُهُ (لِأَزْواجِهِمْ). وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمَعْنَى عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ"
لِأَزْواجِهِمْ" صِفَةً، قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ
النُّحَاةِ: الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ،
وَيَكُونُ قَوْلُهُ" لِأَزْواجِهِمْ" صِفَةً، قَالَ:
وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في البخاري:" واجبا" أي أمرا
واجبا.
(2). في الأصول:" ... ومن بعدهم من المخالفين فيما علمت".
(3/227)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (242)
ابن مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ" وَصِيَّةً" بِالنَّصْبِ،
وَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْفِعْلِ، أَيْ فَلْيُوصُوا
وَصِيَّةً. ثُمَّ الْمَيِّتُ لَا يُوصِي، وَلَكِنَّهُ
أَرَادَ إِذَا قَرُبُوا مِنَ الْوَفَاةِ، وَ"
لِأَزْواجِهِمْ" عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا
صِفَةٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْصَى اللَّهُ وَصِيَّةً."
مَتاعاً" أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا: أَوْ جَعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ
عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ
أَوْ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّةُ،
كَقَوْلِهِ:" أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
يَتِيماً «1» " وَالْمَتَاعُ هَاهُنَا نَفَقَةُ سَنَتِهَا.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرَ إِخْراجٍ)
مَعْنَاهُ لَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَوَارِثِي
الْمَنْزِلِ إِخْرَاجُهَا. وَ" غَيْرَ" نُصِبَ عَلَى
الْمَصْدَرِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَا
إِخْرَاجًا. وَقِيلَ: نُصِبَ لِأَنَّهُ صِفَةُ الْمَتَاعِ.
وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُوصِينَ، أَيْ
مَتِّعُوهُنَّ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ. وَقِيلَ: بِنَزْعِ
الْخَافِضِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ خَرَجْنَ) الْآيَةَ. مَعْنَاهُ
بِاخْتِيَارِهِنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ. (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أَيْ لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ وَلِيٍّ أَوْ
حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا
الْمُقَامُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا. وَقِيلَ: أَيْ
لَا جُنَاحَ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ، أَوْ لَا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي التَّشَوُّفِ إِلَى الْأَزْوَاجِ،
إِذْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُنَّ مُرَاقَبَتُكُمْ أَيُّهَا
الْوَرَثَةُ، ثُمَّ عَلَيْهَا أَلَّا تَتَزَوَّجَ قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ، أَوْ لَا جُنَاحَ فِي
تَزْوِيجِهِنَّ «2» بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ،
لِأَنَّهُ قَالَ" مِنْ مَعْرُوفٍ" وَهُوَ مَا يُوَافِقُ
الشَّرْعَ. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) صِفَةٌ تَقْتَضِي
الْوَعِيدَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ خَالَفَ الْحَدَّ فِي
هَذِهِ النَّازِلَةِ، فَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ لَا
تُرِيدُ الْخُرُوجَ. (حَكِيمٌ) أَيْ مُحْكِمٌ لِمَا
يُرِيدُ مِنْ أُمُورِ عِبَادِهِ.
[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ أَبُو
ثَوْرٍ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْمُتْعَةُ لِكُلِّ
مُطَلَّقَةٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ. [قَالَ «3»
الزُّهْرِيُّ [حَتَّى لِلْأَمَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِكُلِّ
مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وقال مالك: لكل مطلقه-
اثنتين
__________
(1). راجع ج 20 ص 69.
(2). في هـ: تزوجهن.
(3). في هـ.
(3/228)
أَوْ وَاحِدَةٍ بَنَى بِهَا أَمْ لَا،
سَمَّى لَهَا صَدَاقًا أَمْ لَا- الْمُتْعَةُ، إِلَّا
الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا
صَدَاقًا فَحَسْبُهَا نِصْفُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى
لَهَا كَانَ لَهَا الْمُتْعَةُ أَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ
الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمُتْعَةِ
حَدٌّ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي إِرْخَاءِ السُّتُورِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ،
قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتْعَةَ لِكُلِّ
مُطَلَّقَةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي
الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ فُرِضَ لَهَا وَلَمْ
يُدْخَلْ بِهَا فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْمُتْعَةِ، وَزَعَمَ
ابْنُ زَيْدٍ أَنَّهَا نَسَخَتْهَا. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: فَفَرَّ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ لَفْظِ
النَّسْخِ إِلَى لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ
لَا يُتَّجَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، بَلْ هُوَ نَسْخٌ
مَحْضٌ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَإِذَا
الْتَزَمَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ قَوْلَهُ:"
وَلِلْمُطَلَّقاتِ" يَعُمُّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَزِمَهُ
القول بالنسخ ولا بد. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
وَغَيْرُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الثَّيِّبَاتِ
اللَّوَاتِي قَدْ جُومِعْنَ، إِذْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ
هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُتْعَةِ لِلَّوَاتِي لَمْ
يُدْخَلْ بِهِنَّ، فَهَذَا قَوْلٌ بِأَنَّ الَّتِي قَدْ
فُرِضَ لَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمْ تدخل قط في العموم.
فهذا يجئ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ"
مُخَصَّصَةٌ لِهَذَا الصِّنْفِ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَتَى
قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُهَا فَذَلِكَ
نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّهُ لَا مُتْعَةَ إِلَّا لِلَّتِي
طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَيْسَ ثَمَّ مَسِيسٌ وَلَا
فَرْضٌ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّتْ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ
لَمْ تَحْتَجْ فِي حَقِّهَا إِلَى الْمُتْعَةِ. وَقَوْلُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
«1» " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ مِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا وُجُوبَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ:" فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ «2» " مَحْمُولٌ عَلَى
غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ أَيْضًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَالْمَفْرُوضُ لَهَا الْمَهْرُ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ
الْمَسِيسِ لَا مُتْعَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا أَخَذَتْ
نِصْفَ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ جريان وطئ، وَالْمَدْخُولُ
بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَهَا الْمُتْعَةُ، لِأَنَّ المهر
يقع في مقابلة الوطي وَالْمُتْعَةَ بِسَبَبِ الِابْتِذَالِ
بِالْعَقْدِ. وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْمُتْعَةَ
لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ
مَالِكٍ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُفْتَدِيَةِ مُتْعَةٌ وَهِيَ
تُعْطِي، فَكَيْفَ تَأْخُذُ مَتَاعًا! لَا مُتْعَةَ
لِمُخْتَارَةِ الْفِرَاقِ مِنْ مُخْتَلِعَةٍ أَوْ مفتدية
أو مباريه أَوْ مُصَالِحَةٍ أَوْ مُلَاعِنَةٍ أَوْ
مُعْتَقَةٍ تَخْتَارُ الْفِرَاقَ، دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا،
سَمَّى لَهَا صَدَاقًا أَمْ لَا، وَقَدْ مَضَى هَذَا
مُبَيَّنًا «3».
__________
(1). راجع ج 14 ص 170 وص 202.
(2). راجع ج 14 ص 170 وص 202.
(3). راجع ص 200 من هذا الجزء.
(3/229)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ
حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
[سورة البقرة (2): آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَشْكُرُونَ (243)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَلَمْ تَرَ) هَذِهِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ بِمَعْنَى أَلَمْ
تَعْلَمْ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ تَنَبَّهْ
إِلَى أَمْرِ الَّذِينَ. وَلَا تَحْتَاجُ هَذِهِ
الرُّؤْيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ" أَلَمْ تَرَ" بِجَزْمِ
الرَّاءِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ حَذْفًا مِنْ غَيْرِ
إِلْقَاءِ حَرَكَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَلَمْ تَرَءْ.
وَقِصَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَقَعَ فِيهُمُ الْوَبَاءُ، وَكَانُوا
بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا" دَاوَرْدَانَ «1» " فَخَرَجُوا
مِنْهَا هَارِبِينَ فَنَزَلُوا وَادِيًا فَأَمَاتَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا
أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ
وَقَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ،
فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ
فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَاهُمْ. وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ مَاتُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ:
سَبْعَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَسَنُ:
أَمَاتَهُمُ اللَّهُ قَبْلَ آجَالِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ،
ثُمَّ بَعَثَهُمْ إِلَى بَقِيَّةِ آجَالِهِمْ. وَقِيلَ:
إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ مِنْ
أَنْبِيَائِهِمْ، قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ شَمْعُونَ. وَحَكَى
النَّقَّاشُ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْحُمَّى. وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْجِهَادِ وَلَمَّا أَمَرَهُمُ
اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ حِزْقِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَخَافُوا الْمَوْتَ بِالْقَتْلِ فِي
الْجِهَادِ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْ
ذَلِكَ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ
لَا ينجيهم من الموت شي، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ
بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ"، قال الضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَصَصُ كُلُّهُ لَيِّنُ
الْأَسَانِيدِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا فِي عِبَارَةِ
التَّنْبِيهِ وَالتَّوْقِيفِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْبَشَرِ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ
فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أحياهم، ليرواهم
وَكُلُّ مَنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَنَّ الْإِمَاتَةَ
إِنَّمَا هِيَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِيَدِ
غَيْرِهِ، فَلَا مَعْنَى لِخَوْفِ خَائِفٍ وَلَا
لِاغْتِرَارِ مغتر. وجعل
__________
(1). داوردان (بفتح الواو وسكون الراء وآخره نون): من
نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ. (معجم ياقوت). وفى ابن عطية:
ذاوردان. بذال معجمة.
(3/230)
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مُقَدَّمَةً
بَيْنَ يَدَيْ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْجِهَادِ، هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ
رصف «1» الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ أُلُوفٌ
«2») قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ جَمْعُ أَلْفٍ. قَالَ
بَعْضُهُمْ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ:
كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعِينَ
أَلْفًا. أَبُو مَالِكٍ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا. السُّدِّيُّ:
سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا، قال عطاء ابن أَبِي
رَبَاحٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ
جُرَيْجٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، وَعَنْهُ
أَيْضًا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ آلَافٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَهُمْ أُلُوفٌ" وَهُوَ جَمْعُ
الْكَثْرَةِ، وَلَا يُقَالُ فِي عَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا
أُلُوفٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي لَفْظَةِ أُلُوفٍ:
إِنَّمَا مَعْنَاهَا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ، أَيْ لَمْ
تُخْرِجْهُمْ فُرْقَةُ قَوْمِهِمْ وَلَا فِتْنَةٌ
بَيْنِهِمْ إِنَّمَا كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ، فَخَالَفَتْ
هَذِهِ الْفِرْقَةُ فَخَرَجَتْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ
وَابْتِغَاءَ الْحَيَاةِ بِزَعْمِهِمْ، فَأَمَاتَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنْجَاهُمْ بِزَعْمِهِمْ. فَأُلُوفٌ عَلَى
هَذَا جَمْعُ آلِفٍ، مِثْلَ جَالِسٍ وَجُلُوسٍ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى]
مُدَّةً «3» [عُقُوبَةً لَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ،
وَمَيْتَةُ الْعُقُوبَةِ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، وَمَيْتَةُ
الْأَجَلِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ:
إِنَّهُمْ لَمَّا أُحْيُوا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ
يَعْرِفُونَ] أَنَّهُمْ كَانُوا «4» مَوْتَى [وَلَكِنْ
سَحْنَةُ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَلَا يَلْبَسُ
أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسِمًا «5»
حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ.
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَبَقِيَتِ
الرَّائِحَةُ عَلَى ذَلِكَ السِّبْطِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَى الْيَوْمِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا
بِوَاسِطِ الْعِرَاقِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أُحْيُوا
بَعْدَ أَنْ أَنْتَنُوا، فَتِلْكَ الرَّائِحَةُ
مَوْجُودَةٌ فِي نَسْلِهِمْ إِلَى الْيَوْمِ.
الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) أَيْ
لِحَذَرِ الْمَوْتِ، فَهُوَ نُصِبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ
لَهُ. وَ (مُوتُوا) أَمْرُ تَكْوِينٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ
يُقَالَ: نُودُوا وَقِيلَ لَهُمْ: مُوتُوا. وَقَدْ حُكِيَ
أَنَّ مَلَكَيْنِ صَاحَا بِهِمْ: مُوتُوا فَمَاتُوا،
فَالْمَعْنَى قَالَ لَهُمُ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ الملكين"
مُوتُوا"، والله أعلم.
__________
(1). في ابن عطية وز: رصف وباقى الأصول: وصف.
(2). في ز: الثانية" وَهُمْ أُلُوفٌ" ثم جعل المسائل سبعا،
وقد نص عليها ستا كما في غيرها من النسخ.
(3). زيادة عن كتاب أحكام القرآن لابن العربي. [ ..... ]
(4). زيادة عن الطبري.
(5). الدسم: الدنس وهو الودك والوساخة.
(3/231)
الثَّالِثَةُ- أَصَحُّ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ] وَأَبْيَنُهَا «1» [وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ
خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الْوَبَاءِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجُوا فِرَارًا
مِنَ الطَّاعُونِ فَمَاتُوا، فَدَعَا اللَّهَ نَبِيٌّ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُحْيِيَهُمْ حَتَّى يَعْبُدُوهُ
فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي قَرْيَتِهِمْ
فَخَرَجَ أُنَاسٌ وَبَقِيَ أُنَاسٌ، وَمَنْ خَرَجَ
أَكْثَرُ مِمَّنْ بَقِيَ، قَالَ: فَنَجَا الَّذِينَ
خَرَجُوا وَمَاتَ الَّذِينَ أَقَامُوا، فَلَمَّا كَانَتِ
الثَّانِيَةُ خَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ وَدَوَابَّهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَدْ تَوَالَدَتْ
ذُرِّيَّتُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَرَجُوا حَذَارًا
مِنَ الطَّاعُونِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ وَدَوَابَّهُمْ
فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَتَرَتَّبُ الْأَحْكَامُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ. فَرَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ
لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ
يُحَدِّثُ سَعْدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوَجَعَ «2» فَقَالَ" رِجْزٌ
أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ ثُمَّ بَقِيَ
مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي
الْأُخْرَى فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَمَنَّ
عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلَا
يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ" وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عمرو ابن دِينَارٍ
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ:" بَقِيَّةُ رِجْزٍ أَوْ
عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا
تَخْرُجُوا مِنْهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتُمْ
بِهَا فَلَا تَهْبِطُوا عَلَيْهَا" قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ. وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَمِلَ
عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَرْغَ «3» حِينَ أَخْبَرَهُمْ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِالْحَدِيثِ، عَلَى مَا
هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ
كَرِهَ قَوْمٌ الْفِرَارَ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْأَرْضِ
السَّقِيمَةِ، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: الْفِرَارُ مِنَ الْوَبَاءِ
كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ. وَقِصَّةُ عُمَرَ فِي
خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ
مَعْرُوفَةٌ، وَفِيهَا: أَنَّهُ رَجَعَ. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ سَعْدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ
عَلَى الْمَرْءِ تَوَقِّي الْمَكَارِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا،
وَتَجَنُّبَ الْأَشْيَاءِ الْمَخُوفَةِ قَبْلَ هُجُومِهَا،
وَأَنَّ عَلَيْهِ الصَّبْرَ وَتَرْكَ الجزع بعد نزولها،
وذلك أنه عليه
__________
(1). من ز.
(2). ورد الحديث في البخاري في كتاب الطب بلفظ الطاعون وفى
كتاب الحيل بالوجع.
(3). سرغ: قرية بوادي تبوك من طريق الشام وهى على ثلاث
عشرة مرحلة من المدينة.
(3/232)
السَّلَامُ نَهَى مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي
أَرْضِ الْوَبَاءِ عَنْ دُخُولِهَا إِذَا وَقَعَ فِيهَا،
وَنَهَى مَنْ هُوَ فِيهَا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ
وُقُوعِهِ فِيهَا فِرَارًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ
أَنْ يَكُونَ حُكْمُ كُلِّ مُتَّقٍ مِنَ الْأُمُورِ
غَوَائِلَهَا، سَبِيلُهُ فِي ذَلِكَ سَبِيلُ الطَّاعُونِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاصْبِرُوا". قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي
الْبَابِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ
الْكِرَامِ] رَضِيَ اللَّهُ «1» عَنْهُمْ [، وَقَدْ قَالَ
عُمَرُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مُحْتَجًّا عَلَيْهِ لَمَّا
قَالَ لَهُ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ
عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ"
نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ
اللَّهِ. الْمَعْنَى: أَيْ لَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ
عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَكِنْ
أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّحَرُّزِ مِنَ
الْمَخَاوِفِ] وَالْمُهْلِكَاتِ «2» [، وَبِاسْتِفْرَاغِ
الْوُسْعِ فِي التَّوَقِّي مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ. ثُمَّ
قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ
فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ «3» إِحْدَاهُمَا
خِصْبَةٌ «4» وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ
رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ،
وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ
[عَزَّ وَجَلَّ]. فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ
إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَلَا
نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْ قُطَّاعَ
الطَّرِيقِ إِذَا قَصَدُوا بَلْدَةً ضَعِيفَةً لَا طَاقَةَ
لِأَهْلِهَا بِالْقَاصِدِينَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَنَحَّوْا
«5» مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْآجَالُ
الْمُقَدَّرَةُ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ لِأَنَّ
الْكَائِنَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي الْوَبَاءُ فِيهِ
لَعَلَّهُ قَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ مِنْهُ، لِاشْتِرَاكِ
أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْمَرَضِ
الْعَامِّ، فَلَا فَائِدَةَ لِفِرَارِهِ، بَلْ يُضِيفُ
إِلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مَبَادِئِ الْوَبَاءِ مَشَقَّاتِ
السَّفَرِ، فَتَتَضَاعَفُ الْآلَامُ وَيَكْثُرُ الضَّرَرُ
فَيَهْلَكُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيُطْرَحُونَ فِي كُلِّ
فَجْوَةٍ وَمَضِيقٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَا فَرَّ أَحَدٌ
مِنَ الْوَبَاءِ فَسَلِمَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ.
وَيَكْفِي فِي «6» ذَلِكَ مَوْعِظَةً قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا" وَلَعَلَّهُ إِنْ فَرَّ وَنَجَا يَقُولُ:
إِنَّمَا نَجَوْتُ مِنْ أَجْلِ خُرُوجِي عَنْهُ فَيَسُوءُ
اعْتِقَادُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِرَارُ مِنْهُ
مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ
تَخْلِيَةِ الْبِلَادِ: وَلَا تَخْلُو مِنْ
مُسْتَضْعَفِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الخروج
__________
(1). من هـ.
(2). من ز، وفى الأصول الأخرى: الهلكات.
(3). العدوة (بضم العين وكسرها وسكون الدال) شاطئ الوادي
وحافته.
(4). في البخاري: خصيبة. قال ابن حجر: بوزن عظيمة.
(5). من هـ: وفيها: ينجوا.
(6). في هـ وز وج: من.
(3/233)
منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بحلو
الْبِلَادِ مِنَ الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ كَانُوا
أَرْكَانًا لِلْبِلَادِ وَمَعُونَةً لِلْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَإِذَا كَانَ الْوَبَاءُ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَمُ
عَلَيْهِ أَحَدٌ أَخْذًا بِالْحَزْمِ وَالْحَذَرِ
وَالتَّحَرُّزِ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّرَرِ، وَدَفْعًا
لِلْأَوْهَامِ الْمُشَوِّشَةِ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ،
وَفِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ، وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ صِيَانَةَ
النَّفْسِ عَنِ الْمَكْرُوهِ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ يُخَافُ
عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ يَقُولَ:
لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْمَكَانِ لَمَا نَزَلَ بِي
مَكْرُوهٌ. فَهَذِهِ فَائِدَةُ النَّهْيِ عَنْ دُخُولِ
أَرْضٍ بِهَا الطَّاعُونُ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ،
فَأَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ: فَبِفِرَارِي نَجَوْتُ،
وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ: أَقَمْتُ فَمُتُّ، وَإِلَى
نَحْوِ هَذَا أَشَارَ مَالِكٌ حِينَ سُئِلَ عَنْ كَرَاهَةِ
النَّظَرِ إِلَى الْمَجْذُومِ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فِيهِ
بِكَرَاهَةٍ، وَمَا أَرَى مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ
ذَلِكَ إِلَّا خِيفَةَ أَنْ يُفْزِعَهُ أَوْ يُخِيفَهُ شي
يَقَعُ فِي نَفْسِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَبَاءِ:" إِذَا سَمِعْتُمْ
بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ
وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". وسيل أَيْضًا عَنِ
الْبَلْدَةِ يَقَعُ فِيهَا الْمَوْتُ وَأَمْرَاضٌ، فَهَلْ
يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا
خَرَجَ أَوْ أَقَامَ. الرَّابِعَةُ- فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" إِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ
بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ بَلْدَةِ الطَّاعُونِ
عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْفِرَارِ مِنْهُ، إِذَا اعْتَقَدَ
أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَكَذَلِكَ
حُكْمُ الدَّاخِلِ إِذَا أَيْقَنَ أَنَّ دُخُولَهَا «1»
لَا يَجْلِبُ إِلَيْهِ قَدَرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
قَدَّرَهُ لَهُ، فَبَاحَ لَهُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ
وَالْخُرُوجُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- فِي
فَضْلِ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ وَبَيَانِهِ.
الطَّاعُونُ وَزْنُهُ فَاعُولٌ مِنَ الطَّعْنِ، غَيْرَ
أَنَّهُ لَمَّا عُدِلَ بِهِ عَنْ أَصْلِهِ وُضِعَ دَالًّا
عَلَى الْمَوْتِ الْعَامِّ بِالْوَبَاءِ، قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ
وَالطَّاعُونِ" قَالَتِ: الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا
الطَّاعُونُ؟ قَالَ:" غُدَّةٌ كَغُدَّةِ «2» الْبَعِيرِ
تَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِّ «3» وَالْآبَاطِ". قَالَ
الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا الْوَبَاءُ قَدْ يُرْسِلُهُ اللَّهُ
نِقْمَةً وَعُقُوبَةً عَلَى مَنْ يشاء
__________
(1). في ج وح: أن دخوله.
(2). الغدة: طاعون الإبل، وقلما تسلم منه.
(3). المراق: ما سفل من البطن فما تحته من المواضع التي
ترق جلودها، واحدها مرق. وقال الجوهري: لا واحد لها. [
..... ]
(3/234)
مِنَ الْعُصَاةِ مِنْ عَبِيدِهِ
وَكَفَرَتِهِمْ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ شَهَادَةً وَرَحْمَةً
لِلصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ مُعَاذٌ فِي طَاعُونِ
عَمْوَاسَ «1»: إِنَّهُ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ لَكُمْ
وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمُ، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذًا
وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ. فَطُعِنَ فِي
كَفِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ:
قَدْ عَرَفْتُ الشَّهَادَةَ وَالرَّحْمَةَ وَلَمْ أَعْرِفْ
مَا دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ؟ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ:
دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْعَلَ فَنَاءُ
أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ حِينَ دَعَا أَلَّا
يُجْعَلَ بَأْسُ أُمَّتِهِ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا فَدَعَا
بِهَذَا. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ:" الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ
الزَّحْفِ وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي
الزَّحْفِ". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ
يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا
سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَّهُ كَانَ
عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ
مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ
صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كتب
الله له إلا كان له مثله أَجْرِ الشَّهِيدِ". وَهَذَا
تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:"
الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ". أَيِ
الصَّابِرُ عَلَيْهِ الْمُحْتَسِبُ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ
الْعَالِمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ تَمَنَّى مُعَاذٌ أَنْ
يَمُوتَ فِيهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فَهُوَ
شَهِيدٌ. وَأَمَّا مَنْ جَزِعَ مِنَ الطَّاعُونِ
وَكَرِهَهُ وَفَرَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى
الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَالَ
أَبُو عُمَرَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ
حَمَلَةِ الْعِلْمِ فَرَّ مِنَ الطَّاعُونِ إِلَّا مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ
بْنِ جُدْعَانَ هَرَبَ مِنَ الطَّاعُونِ إِلَى
السَّيَالَةِ «2» فَكَانَ يُجَمِّعُ كُلَّ جُمُعَةٍ
وَيَرْجِعُ، فَكَانَ إِذَا جَمَّعَ صَاحُوا بِهِ: فَرَّ
مِنَ الطَّاعُونِ! فَمَاتَ بِالسَّيَالَةِ. قَالَ:
وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَرِبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ
إِلَى الرِّبَاطِيَّةِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ
الْفُقَيْمِيُّ فِي ذَلِكَ:
وَلَمَّا اسْتَفَزَّ الْمَوْتُ كُلَّ مُكَذِّبٍ ...
صَبَرْتُ وَلَمْ يَصْبِرْ رِبَاطٌ ولا عمرو
__________
(1). عمواس (روى بكسر أوله وسكون ثانيه، وروى بفتح أوله
وثانيه وآخره سين مهملة): كورة من فلسطين بالقرب من بيت
المقدس، ومنها كان ابتداء الطاعون في أيام عمر رضى الله
عنه، ثم فشا في أرض الشام فمات منه خلق كثير لا يحصون من
الصحابة رضى الله عنهم ومن غيرهم، وذلك في سنة 18 للهجرة.
(2). السيالة (بفتح أوله وتخفيف ثانيه): موضع بقرب
المدينة، وهى أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
وقيل: هي بين ملل والروحاء في طريق مكة إلى المدينة (عن
شرح القاموس).
(3/235)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (244)
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ
الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: هَرَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ
الطَّاعُونِ فَرَكِبَ حِمَارًا لَهُ وَمَضَى بِأَهْلِهِ
نَحْوَ سَفَوَانَ «1»، فَسَمِعَ حَادِيًا يَحْدُو
خَلْفَهُ:
لَنْ يُسْبَقَ اللَّهُ عَلَى حِمَارِ ... وَلَا عَلَى ذِي
مَنْعَةٍ طَيَّارِ
أَوْ يَأْتِيَ الْحَتْفُ عَلَى مِقْدَارِ ... قَدْ
يُصْبِحُ اللَّهُ أَمَامَ السَّارِي
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: وَقَعَ الطَّاعُونُ
بِمِصْرَ فِي وِلَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ
فَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهُ فَنَزَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى
الصَّعِيدِ يُقَالُ لَهَا" سُكَرَ" «2». فَقَدِمَ عَلَيْهِ
حِينَ نَزَلَهَا رَسُولٌ لعبد الملك ابن مَرْوَانَ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: مَا اسْمُكَ؟ فقال له:
طالب بن مدرك. فقال: أو هـ «3» مَا أَرَانِي رَاجِعًا
إِلَى الْفُسْطَاطِ! فَمَاتَ فِي تلك القرية.
[سورة البقرة (2): آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) هَذَا
خِطَابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِ
الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الَّذِي يُنْوَى بِهِ أَنْ تَكُونَ
كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَسُبُلُ اللَّهِ
كَثِيرَةٌ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كله سَبِيلٍ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" قُلْ هذِهِ سَبِيلِي «4» ". قَالَ مَالِكٌ:
سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَمَا مِنْ سبيل إلا يقاتل
عليها أو فيها أولها، وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ،
لَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلَّذِينَ
أُحْيُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، روى عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا فِي
قَوْلِهِ" وَقاتِلُوا" عَاطِفَةٌ عَلَى الْأَمْرِ
الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ تَقْدِيرُهُ:
وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ،
وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْكَلَامِ. قَالَ
النَّحَّاسُ:" وَقاتِلُوا" أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَّا تَهْرُبُوا كَمَا هَرَبَ
هَؤُلَاءِ. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
أَيْ يَسْمَعُ قَوْلَكُمْ إِنْ قُلْتُمْ مِثْلَ مَا قَالَ
هَؤُلَاءِ وَيَعْلَمُ مُرَادَكُمْ بِهِ، وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ للذين أحيوا. والله أعلم.
__________
(1). سفوان (بالتحريك): ماء على قدر مرحلة من باب المربد
بالبصرة (معجم ياقوت).
(2). سكر (وزان زفر): موضع بشرقية الصعيد بينه وبين مصر
يومان، كان عبد العزيز بن مروان يحرج إليه كثيرا. (عن
ياقوت). وقد ورد في الأصول:" سكن" بالنون وهو تحريف.
(3). أوه: كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع وهى
ساكنة الواو مكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفا
فقالوا:" أوه مِنْ كَذَا"، وَرُبَّمَا شَدَّدُوا الْوَاوَ
وَكَسَرُوهَا وَسَكَّنُوا الهاء فقالوا:" أوه"، وبعضهم
يفتح الواو مع التشديد فيقول:" أوه". (عن النهاية).
(4). راجع ج 9 ص 274
(3/236)
مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
[سورة البقرة (2): آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ
والقتال على الحق- إذ ليس شي مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا
وَيَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، وَأَعْظَمُهَا
دِينُ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ- حَرَّضَ عَلَى
الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ. فَدَخَلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ
الْمُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُقْرِضُ
بِهِ رَجَاءَ الثَّوَابِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ «1». وَ" مَنْ"
رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" ذَا" خَبَرُهُ، وَ" الَّذِي"
نَعْتٌ لِذَا، وَإِنْ شِئْتَ بَدَلٌ. وَلَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ بَادَرَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى
التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ رَبِّهِ.
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ
الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ «2» يَحْيَى بْنُ عَامِرِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ الْأَشْعَرِيُّ نَسَبًا وَمَذْهَبًا
بِقُرْطُبَةَ- أَعَادَهَا اللَّهُ- فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ
عَامَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ قِرَاءَةً
مِنِّي عَلَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي إِجَازَةً
قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ خَلَفِ بْنِ مَدْيَنَ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعْدُونَ سَمَاعًا عَلَيْهِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ محمد بن عبد الله ابن
زَكَرِيَّا بْنِ حَيْوَةَ النَّيْسَابُورِيُّ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمِّي
أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى ابن زَكَرِيَّا قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ
قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حُمَيْدٍ
«3» الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:"
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" قَالَ
أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو إن اللَّهَ
تَعَالَى يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ:" نَعَمْ يَا
أَبَا الدَّحْدَاحِ" قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ [قَالَ]
فَنَاوَلَهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَقْرَضْتُ اللَّهَ حَائِطًا
فِيهِ ستمائة نخلة.
__________
(1). جيش العسرة: في غزوة تبوك، كان في عسرة وشدة من الحر
وجدب البلاد، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالجهاز وحض الأغنياء على النفقة
في سبيل الله، فأنفق عثمان رضى الله عنه في ذلك نفقة
عظيمة. ابن هشام: حدثني من أثق به أن عثمان. أنفق ألف
دينار غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
اللَّهُمَّ أرض عن عثمان فإنى عنه راض".
(2). في ج وهـ وز:" أبو عامر يحيى أبن أحمد بن ربيع
الأشعري".
(3). في جميع الأصول: عن الأعرج، وليس بصحيح لان حميد
الأعرج الكوفي هو الراوي عن ابن الحارث وعن خلف ابن حليفة.
(3/237)
ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى
الْحَائِطَ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهُ،
فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ،
قَالَ: اخْرُجِي، قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ
حَائِطًا فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ. وَقَالَ زَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ: لَمَّا نَزَلَ:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ:
فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ
اللَّهَ يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْقَرْضِ؟
قَالَ:" نَعَمْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ
بِهِ". قَالَ: فَإِنِّي إِنْ أَقْرَضْتُ رَبِّي قَرْضًا
يَضْمَنُ لِي بِهِ وَلِصِبْيَتِي الدَّحْدَاحَةِ مَعِي
الْجَنَّةَ؟ قَالَ:" نعم" قال: فناولني يدك، فناوله رسوله
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ.
فَقَالَ: إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا
بِالسَّافِلَةِ وَالْأُخْرَى بِالْعَالِيَةِ، وَاللَّهِ
لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، قَدْ جَعَلْتُهُمَا قَرْضًا
لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اجْعَلْ إِحْدَاهُمَا لِلَّهِ
وَالْأُخْرَى دَعْهَا مَعِيشَةً لَكَ وَلِعِيَالِكَ"
قَالَ: فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي قَدْ
جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَائِطٌ
فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ. قَالَ:" إِذًا يُجْزِيكَ
اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ". فَانْطَلَقَ أَبُو الدَّحْدَاحِ
حَتَّى جَاءَ أُمَّ الدَّحْدَاحِ وَهِيَ مَعَ صِبْيَانِهَا
فِي الْحَدِيقَةِ تَدُورُ تَحْتَ النَّخْلِ فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
هَدَاكِ رَبِّي سُبُلَ الرَّشَادِ ... إِلَى سَبِيلِ
الْخَيْرِ وَالسَّدَادِ
بِينِي مِنَ الْحَائِطِ بِالْوِدَادِ ... فَقَدْ مَضَى
قَرْضًا إِلَى التَّنَادِّ
أَقْرَضْتُهُ اللَّهَ عَلَى اعْتِمَادِي ... بِالطَّوْعِ
لَا مَنٍّ وَلَا ارْتِدَادٍ «1»
إِلَّا رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ ... فَارْتَحِلِي
بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ
وَالْبِرُّ لَا شَكَّ فَخَيْرُ زَادِ ... قَدَّمَهُ
الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ
قَالَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ: رَبِحَ بَيْعُكَ! بَارَكَ
اللَّهُ لَكَ فِيمَا اشْتَرَيْتَ، ثُمَّ أَجَابَتْهُ أُمُّ
الدَّحْدَاحِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ وَفَرَحْ ... مِثْلُكَ أَدَّى
مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ
قَدْ مَتَّعَ اللَّهُ عِيَالِي وَمَنَحْ ... بِالْعَجْوَةِ
السَّوْدَاءِ وَالزَّهْوِ الْبَلَحْ
وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ ... طُولَ
الليالي وعليه ما اجترح
__________
(1). في هـ: ازدياد.
(3/238)
ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ عَلَى
صِبْيَانِهَا تُخْرِجُ مَا فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتُنَفِّضُ
مَا فِي أَكْمَامِهِمْ حَتَّى أَفْضَتْ إِلَى الْحَائِطِ
الْآخَرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" كَمْ مِنْ عِذْقٍ «1» رَدَاحٍ وَدَارٍ «2»
فَيَّاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ". الثَّانِيَةُ- قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ
الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ
وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ
أَقْسَامًا، فَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً: الْفِرْقَةُ
الْأُولَى الرَّذْلَى قَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ
مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ،
فَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، فَرَدَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:" لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِياءُ «3» ". الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ لَمَّا
سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْلَ آثَرَتِ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ
وَقَدَّمَتِ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ، فَمَا أَنْفَقَتْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا وَلَا
أَعَانَتْ «4» أَحَدًا، تَكَاسُلًا عَنِ الطَّاعَةِ
وَرُكُونًا إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. [الْفِرْقَةُ «5»]
الثَّالِثَةُ لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إِلَى
امْتِثَالِهِ وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ
بِمَالِهِ كَأَبِي الدَّحْدَاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قوله
تعالى: (قَرْضاً حَسَناً) الْقَرْضُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا
يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَأَقْرَضَ فُلَانٌ
فُلَانًا أَيْ أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ، قَالَ
الشَّاعِرُ وَهُوَ لَبِيَدٌ:
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إِنَّمَا يَجْزِي
الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ
وَالْقِرْضُ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ فِيهِ حَكَاهَا
الْكِسَائِيُّ. وَاسْتَقْرَضْتُ مِنْ فُلَانٍ أَيْ
طَلَبْتُ مِنْهُ الْقَرْضَ فَأَقْرَضَنِي. وَاقْتَرَضْتُ
مِنْهُ أَيْ أَخَذْتُ الْقَرْضَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ الْبَلَاءُ الْحَسَنُ
وَالْبَلَاءُ السَّيِّئُ، قَالَ أُمَيَّةُ:
كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا ... أَوْ
سَيِّئًا وَمَدِينًا مِثْلَ مَا دَانَا
وَقَالَ آخَرُ:
تُجَازَى الْقُرُوضُ بِأَمْثَالِهَا ... فَبِالْخَيْرِ
خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقَرْضُ مَا أَسْلَفْتُ مِنْ
عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ
الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمِقْرَاضُ. وَأَقْرَضْتُهُ أَيْ
قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِي قِطْعَةً يُجَازِي عَلَيْهَا.
وَانْقَرَضَ القوم: انقطع
__________
(1). العذق (بفتح فسكون): النخلة. وبكسر فسكون: العرجون
بما فيه من الشماريخ. ورداح ثقيلة.
(2). الفياح (بالتشديد والتخفيف): الواسع.
(3). راجع ج 4 ص 294.
(4). في ابن العربي: أغاثت. [ ..... ]
(5). في ابن العربي.
(3/239)
أَثَرُهُمْ وَهَلَكُوا. وَالْقَرْضُ
هاَهُنَا: اسْمٌ، وَلَوْلَاهُ لَقَالَ [هاَهُنَا «1»]
إِقْرَاضًا. وَاسْتِدْعَاءُ الْقَرْضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
إِنَّمَا هِيَ تَأْنِيسٌ وَتَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا
يَفْهَمُونَهُ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ،
لَكِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي
الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُو بِهِ ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ
بِالْقَرْضِ كَمَا شَبَّهَ إِعْطَاءَ النُّفُوسِ
وَالْأَمْوَالِ فِي أَخْذِ الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ، حَسَبَ مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
بَرَاءَةٌ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ
وَإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمُحْتَاجِينَ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ. وَكَنَّى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَنِ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ
الْمُنَزَّهَةِ عَنِ الْحَاجَاتِ تَرْغِيبًا فِي
الصَّدَقَةِ، كَمَا كَنَّى عَنِ الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ
وَالْعَطْشَانِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ
النَّقَائِصِ وَالْآلَامِ. فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ
إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى:" يَا ابْنَ آدَمَ
مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي وَاسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ
تُطْعِمْنِي وَاسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تسقني" قال يا رب
كيف سقيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ!؟ قَالَ:
اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا
إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي".
وَكَذَا فِيمَا قَبْلُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَالْبُخَارِيُّ وَهَذَا كُلُّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ
التَّشْرِيفِ لِمَنْ كَنَّى عَنْهُ تَرْغِيبًا لِمَنْ
خُوطِبَ بِهِ. الرَّابِعَةُ- يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ
رَدُّ الْقَرْضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ
مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَضِيعُ عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَرُدُّ الثَّوَابَ قَطْعًا
وَأَبْهَمَ الْجَزَاءَ. وَفِي الْخَبَرِ:" النَّفَقَةُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ
وَأَكْثَرَ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ" الْآيَةَ «3».
وَقَالَ هاَهُنَا: (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً
كَثِيرَةً) وَهَذَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا حَدَّ.
الْخَامِسَةُ- ثَوَابُ الْقَرْضِ عَظِيمٌ، لِأَنَّ فِيهِ
تَوْسِعَةً عَلَى الْمُسْلِمِ وَتَفْرِيجًا عَنْهُ.
خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي
عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ
لِجِبْرِيلَ: مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ
الصَّدَقَةِ قَالَ لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ
وَالْمُسْتَقْرِضَ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ".
قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ
حَدَّثَنَا يعلى حدثنا سليمان بن يسير
__________
(1). الزيادة من ز، وفى هـ لقالوا إقراضا.
(2). راجع ج 8 ص 266.
(3). راجع ص 302 من هذا الجزء.
(3/240)
عَنْ قَيْسِ بْنِ رُومِيٍّ قَالَ: كَانَ
سُلَيْمَانُ بْنُ أُذُنَانٍ «1» يُقْرِضُ عَلْقَمَةَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ
عَطَاؤُهُ تَقَاضَاهَا مِنْهُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ
فَقَضَاهُ، فَكَأَنَّ عَلْقَمَةَ غَضِبَ فَمَكَثَ
أَشْهُرًا «2» ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفَ
دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِي، قَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةً! يَا
أُمَّ عُتْبَةَ هَلُمِّي تِلْكَ الْخَرِيطَةَ
الْمَخْتُومَةَ الَّتِي عِنْدَكِ، قَالَ: فَجَاءَتْ بِهَا
فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدَرَاهِمُكَ الَّتِي
قَضَيْتَنِي مَا حَرَّكْتُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَاحِدًا
قال: فلله أبو ك؟ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ بِي؟
قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ، قَالَ: مَا سَمِعْتَ مِنِّي؟
قَالَ: سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ما
مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ
إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً" قَالَ: كَذَلِكَ
أَنْبَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ. السَّادِسَةُ- قَرْضُ
الْآدَمِيِّ لِلْوَاحِدِ وَاحِدٌ، أَيْ يرد عليه مثله مَا
أَقْرَضَهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
اسْتِقْرَاضَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَكُلِّ مَا لَهُ
مِثْلٌ مِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ جَائِزٌ. وَأَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ نَقْلًا عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي
السَّلَفِ رِبًا وَلَوْ كَانَ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ- كَمَا
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- أَوْ حَبَّةً وَاحِدَةً. وَيَجُوزُ
أَنْ يَرُدَّ أَفْضَلَ مِمَّا يَسْتَلِفُ إِذَا لَمْ
يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ
الْمَعْرُوفِ، اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
فِي الْبِكْرِ:" إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً"
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُمَا. فَأَثْنَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الْقَضَاءَ، وَأَطْلَقَ
ذَلِكَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِصِفَةٍ. وَكَذَلِكَ قَضَى
هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْرِ
وَهُوَ الْفَتِيُّ الْمُخْتَارُ مِنَ الْإِبِلِ جَمَلًا
خِيَارًا رَبَاعِيًّا، وَالْخِيَارُ: الْمُخْتَارُ،
وَالرَّبَاعِيُّ هُوَ الَّذِي دَخَلَ فِي السَّنَةِ
الرَّابِعَةِ، لِأَنَّهُ يُلْقِي فِيهَا رَبَاعِيَّتَهُ
وَهِيَ الَّتِي تَلِي الثَّنَايَا وَهِيَ أَرْبَعُ
رَبَاعِيَّاتٍ- مُخَفَّفَةُ الْبَاءِ- وَهَذَا الْحَدِيثُ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَرْضِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّابِعَةُ- وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُهْدِيَ مَنِ اسْتَقْرَضَ هَدِيَّةً لِلْمُقْرِضِ،
وَلَا يَحِلُّ لِلْمُقْرِضِ قَبُولُهَا إِلَّا أَنْ
يَكُونَ عَادَتَهُمَا ذَلِكَ، بِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ:
خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ
قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا
عُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ الضَّبِّيُّ عَنْ يحيى بن أبى
إسحاق الهنائي قال:
__________
(1). في التاج: سليمان بن أذنان (مثنى أذن) وعلقمة: هو ابن
قيس النخعي الكوفي، والحديث كما في السنن.
(2). الحديث مصحح من ابن ماجة وفى الأصول خلاف له.
(3/241)
سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ
الرَّجُلِ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي
إِلَيْهِ؟ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ
قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ
فَلَا يَقْبَلُهَا وَلَا يَرْكَبُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ
جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ". الثَّامِنَةُ-
الْقَرْضُ يَكُونُ مِنَ الْمَالِ- وَقَدْ بَيَّنَّا
حُكْمَهُ- وَيَكُونُ مِنَ الْعِرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ
كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي
قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ". وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَقْرِضْ مِنْ عِرْضِكَ لِيَوْمِ
فَقْرِكَ، يَعْنِي مَنْ سَبَّكَ فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ
حَقًّا وَلَا تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا حَتَّى تَأْتِيَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوَفَّرَ الْأَجْرِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ
لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ.
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فَاسِدٌ، قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ:" إِنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ"
الْحَدِيثَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الْمُحَرَّمَاتُ الثَّلَاثُ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا في
كونها باحترامها حقا للآدمي. التاسعة- (حَسَناً) قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: مُحْتَسِبًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ. وقال
عمرو ابن عُثْمَانَ الصَّدَفِيُّ: لَا يَمُنُّ بِهِ وَلَا
يُؤْذِي. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا
يَعْتَقِدُ فِي قَرْضِهِ عِوَضًا. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قَرَأَ عَاصِمٌ وَغَيْرُهُ"
فَيُضاعِفَهُ" بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْعَيْنِ
مَعَ سُقُوطِ الْأَلِفِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّشْدِيدِ
وَرَفْعِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْأَلِفِ
وَرَفْعِ الْفَاءِ. فَمَنْ رَفَعَهُ نَسَّقَهُ عَلَى
قَوْلِهِ:" يُقْرِضُ" وَقِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ
يُضَاعِفُهُ. وَمَنْ نَصَبَ فَجَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ
بِالْفَاءِ. وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ" أَنْ" وَالتَّشْدِيدُ
وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ. دَلِيلُ التَّشْدِيدِ"
أَضْعافاً كَثِيرَةً" لِأَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: لَا نَعْلَمُ هَذَا
التَّضْعِيفَ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «1»
". قاله أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا فِي نَفَقَةِ الْجِهَادِ،
وَكُنَّا نَحْسُبُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى
نَفْسِهِ وَرُفَقَائِهِ وَظَهْرِهِ بألفي ألف.
__________
(1). راجع ج 5 ص 195
(3/242)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا
نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا
وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَاللَّهُ
يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) هذا عام في كل شي فَهُوَ الْقَابِضُ
الْبَاسِطُ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي" شَرْحِ
الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى".
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وعيد، فيجازى كلا بعمله.
[سورة البقرة (2): آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا
مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ
تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(246)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا
أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا
مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) ذَكَرَ فِي التَّحْرِيضِ
عَلَى الْقِتَالِ قِصَّةً أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ. وَالْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ،
كَأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ شَرَفًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ مِمَّا
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. وَالْمَلَأُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ الْقَوْمُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ.
وَالْمَلَأُ: اسْمٌ لِلْجَمْعِ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ.
وَالْمَلَأُ أَيْضًا: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ" أَحْسِنُوا الْمَلَأَ فَكُلُّكُمْ سَيَرْوَى"
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ
مُوسى) أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) قِيلَ: هُوَ شَمْوِيلُ بْنُ
بَالَ «1» بْنِ عَلْقَمَةَ وَيُعْرَفُ بابن العجوز. ويقال
فيه: شمعون، قال السدى: وإنما قيل: ابن والعجوز لِأَنَّ
أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزًا فَسَأَلَتِ اللَّهَ الْوَلَدَ
وَقَدْ كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ فَوَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لَهَا. وَيُقَالُ لَهُ: سَمْعُونُ لِأَنَّهَا دَعَتِ
اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا الْوَلَدَ فَسَمِعَ دُعَاءَهَا
فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ" سَمْعُونَ"، تَقُولُ:
سَمِعَ اللَّهُ دُعَائِي، وَالسِّينُ تَصِيرُ شِينًا
بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ
يَعْقُوبَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ يُوشَعُ
بْنُ نُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ
لِأَنَّ مُدَّةَ دَاوُدَ هِيَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
بِقُرُونٍ مِنَ
__________
(1). كذا في ج وز وح. وفى هـ: نال. وفى ا: بان. والذي في
الطبري وابن عطية:" بالي".
(3/243)
النَّاسِ، وَيُوشَعُ هُوَ فَتَى مُوسَى.
وَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيُّ أَنَّ اسْمَهُ إِسْمَاعِيلُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ خَبَرٌ عَنْ
قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَالَتْهُمْ ذِلَّةٌ
وَغَلَبَةُ عَدُوٍّ فَطَلَبُوا الْإِذْنَ فِي الْجِهَادِ
وَأَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمَّا أُمِرُوا كَعَّ «1»
أَكْثَرُهُمْ وَصَبَرَ الْأَقَلُّ فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ هُمُ
الَّذِينَ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُقاتِلْ) بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ
وَقِرَاءَةُ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ عَلَى جَوَابِ
الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ
بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ
الصِّفَةِ لِلْمَلِكِ. قَوْلُهُ تعالى: (قالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ) و" عَسَيْتُمْ" بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ
لُغَتَانِ، وَبِالثَّانِيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ،
وَالْبَاقُونَ بِالْأُولَى وَهِيَ الْأَشْهَرُ. قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: وَلَيْسَ لِلْكَسْرِ وَجْهٌ، وَبِهِ قَرَأَ
الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ. قَالَ مَكِّيٌّ فِي اسْمِ
الْفَاعِلِ: عَسٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَسْرِ السِّينِ
فِي الْمَاضِي. وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ هِيَ اللُّغَةُ
الْفَاشِيَةُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَوَجْهُ الْكَسْرِ
قَوْلُ الْعَرَبِ: هُوَ عَسٍ بِذَلِكَ، مِثْلَ حَرٍ
وَشَجٍ، وَقَدْ جَاءَ فَعَلَ وَفَعِلَ فِي نَحْوِ نَعَمَ
وَنَعِمَ، وَكَذَلِكَ عَسَيْتُ وَعَسِيتُ، فَإِنْ أُسْنِدَ
الْفِعْلُ إِلَى ظَاهِرٍ فَقِيَاسُ عَسَيْتُمْ أَنْ
يُقَالَ: عَسِيَ زَيْدٌ، مِثْلَ رَضِيَ زَيْدٌ، فَإِنْ
قِيلَ فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يُقَلْ، فَسَائِغٌ
أَنْ يُؤْخَذَ بِاللُّغَتَيْنِ فَتُسْتَعْمَلُ
إِحْدَاهُمَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى. وَمَعْنَى هَذِهِ
الْمَقَالَةِ: هَلْ أَنْتُمْ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَلِّي
وَالْفِرَارِ؟. (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا
تُقاتِلُوا) قَالَ الزَّجَّاجُ:" أَلَّا تُقاتِلُوا" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ هَلْ عَسَيْتُمْ مُقَاتَلَةً.
(قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
قَالَ الْأَخْفَشُ:" أَنْ" زَائِدَةٌ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ وَمَا
مَنَعَنَا، كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ أَلَّا تُصَلِّيَ؟
أَيْ ما منعك. وقيل: المعنى وأى شي لَنَا فِي أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! قال النحاس: وهذا أجودها."
وأن" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ
دِيارِنا) تَعْلِيلٌ، وَكَذَلِكَ (وَأَبْنائِنا) أَيْ
بِسَبَبِ ذَرَارِينَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ) أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ (الْقِتالُ
تَوَلَّوْا) أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا فَرَضَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ وَرَأَوُا الْحَقِيقَةَ وَرَجَعَتْ
أَفْكَارُهُمْ إِلَى مباشرة الحرب وأن نفوسهم
__________
(1). يقال: رجل كع وكاع إذا جبن عن القتال، وقيل: هو الذي
لا يمضى في عزم ولا حزم وهو الناكص على عقبيه.
(3/244)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247)
رُبَّمَا قَدْ تَذْهَبُ" تَوَلَّوْا" أَيِ
اضْطَرَبَتْ نِيَّاتُهُمْ وَفَتَرَتْ عَزَائِمُهُمْ،
وَهَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ الْمُتَنَعِّمَةِ الْمَائِلَةِ
إِلَى الدَّعَةِ تَتَمَنَّى الْحَرْبَ أَوْقَاتَ
الْأَنَفَةِ فَإِذَا حَضَرَتِ الْحَرْبُ كَعَّتْ
وَانْقَادَتْ لِطَبْعِهَا. وَعَنْ هَذَا الْمَعْنَى نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ:" لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاثْبُتُوا" رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَلِيلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ
ثَبَتُوا عَلَى النِّيَّةِ الْأُولَى وَاسْتَمَرَّتْ
عَزِيمَتُهُمْ عَلَى القتال في سبيل الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ
الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ
اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) أَيْ
أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، وَكَانَ طَالُوتُ
سَقَّاءً. وَقِيلَ: دَبَّاغًا. وَقِيلَ: مُكَارِيًا،
وَكَانَ عَالِمًا فَلِذَلِكَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا
يَأْتِي: وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ وَلَمْ يَكُنْ
مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ،
وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي لَاوَى، وَالْمُلْكُ فِي
سِبْطِ يَهُوذَا فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. قَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: لَمَّا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لِشَمْوِيلَ بْنِ بَالَ مَا قَالُوا، سَأَلَ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَلِكًا
وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ:
انْظُرْ إِلَى الْقَرَنِ «1» الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فِي
بَيْتِكَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ «2»
الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرَنِ، فَهُوَ مَلِكُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَادْهُنْ رَأْسَهُ مِنْهُ وَمَلِّكْهُ
عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانَ طَالُوتُ دَبَّاغًا فَخَرَجَ
فِي ابْتِغَاءِ دَابَّةٍ أَضَلَّهَا، فَقَصَدَ شَمْوِيلَ
عَسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي أَمْرِ الدَّابَّةِ أَوْ
يَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا، فَنَشَّ الدُّهْنَ عَلَى «3» مَا
زَعَمُوا، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ شَمْوِيلُ فَأَخَذَهُ
وَدَهَنَ مِنْهُ رَأْسَ طَالُوتَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ
مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ
تَعَالَى بِتَقْدِيمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ
مَلِكاً". وَطَالُوتُ وَجَالُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ
مُعَرَّبَانِ، وَلِذَلِكَ
__________
(1). القرن (بالتحريك): الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم
تخرز.
(2). نش: صوت.
(3). في هـ وج: فيما يزعمون.
(3/245)
لَمْ يَنْصَرِفَا، وَكَذَلِكَ دَاوُدُ،
وَالْجَمْعُ طَوَالِيتُ وَجَوَالِيتُ وَدَوَاوِيدُ، وَلَوْ
سَمَّيْتَ رَجُلًا بِطَاوُسٍ وَرَاقُودٍ «1» لَصَرَفْتَ
وإن كان أَعْجَمِيَّيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا
وَالْأَوَّلِ أَنَّكَ تَقُولُ: الطَّاوُسُ، فَتُدْخِلُ
الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَيُمْكِنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا
يُمْكِنُ هَذَا فِي ذَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أَيْ كَيْفَ يَمْلِكُنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟. جَرَوْا عَلَى
سُنَّتِهِمْ فِي تَعْنِيتِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
وَحَيْدِهِمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا:"
أَنَّى" أَيْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ، فَ" أَنَّى" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمُلُوكُ
وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ فَقِيرٌ، فَتَرَكُوا
السَّبَبَ الْأَقْوَى وَهُوَ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَضَاؤُهُ السَّابِقُ حَتَّى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ
نَبِيُّهُمْ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ) أَيِ
اخْتَارَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ، وَبَيَّنَ
لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَعْلِيلَ اصْطِفَاءِ طَالُوتَ، وَهُوَ
بَسْطَتُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ
الْإِنْسَانِ، وَالْجِسْمُ الَّذِي هُوَ مُعِينُهُ فِي
الْحَرْبِ وَعُدَّتُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَتَضَمَّنَتْ
بَيَانَ صِفَةِ الْإِمَامِ وَأَحْوَالِ الْإِمَامَةِ،
وَأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ
وَالْقُوَّةِ لَا بِالنَّسَبِ، فَلَا حَظَّ لِلنَّسَبِ
فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ وَفَضَائِلِ النَّفْسِ وَأَنَّهَا
مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْبَرَ أَنَّهُ اخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ
وَقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مُنْتَسَبًا. وَقَدْ
مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْإِمَامَةِ
وَشُرُوطِهَا مَا يَكْفِي وَيُغْنِي «2». وَهَذِهِ
الْآيَةُ أَصْلٌ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ
طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَزِيَادَةُ
الْجِسْمِ مِمَّا يُهِيبُ الْعَدُوَّ. وَقِيلَ: سُمِّيَ
طَالُوتُ لِطُولِهِ. وَقِيلَ: زِيَادَةُ الْجِسْمِ كَانَتْ
بِكَثْرَةِ مَعَانِي الْخَيْرِ وَالشَّجَاعَةِ، وَلَمْ
يُرِدْ عِظَمَ الْجِسْمِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ الشاعر
«3»:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَفِي
أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ «4»
وَيُعْجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ ... فَيُخْلِفُ
ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ «5»
وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ... فَلَمْ يستغن
بالعظم البعير
__________
(1). الراقود: الدن الكبير، أو هو دن طويل الأسفل، والجمع
الرواقيد معرب.
(2). تراجع المسألة الرابعة وما بعدها ج 1 ص 264. [ .....
]
(3). هو العباس بن مرداس، كما في الحماسة وغيرها.
(4). في اللسان في مادة مزر:" مزير". والمزير. الشديد
القلب القوى النافد، والهصور: الشديد الذي يفترس ويكسر.
(5). الطرير: ذو الرواء والمنظر. في هـ: فما يغنى بجثته.
(3/246)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ:"
أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" فَكُنَّ
يَتَطَاوَلْنَ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ أَوَّلَهُنَّ مَوْتًا،
لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ،
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ:
الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الْحَرْبِ، وَهَذَا
تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ قِيلَ:
زِيَادَةُ الْعِلْمِ بِأَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ،
وَعَلَى هَذَا كَانَ طَالُوتُ نَبِيًّا، وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشاءُ) ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ إِلَى أَنَّ
هَذَا مِنْ قَوْلِ الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ شَمْوِيلَ
وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا عَلِمَ
مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي الْحُجَجِ،
فَأَرَادَ أَنْ يُتْمِمَ كَلَامَهُ بِالْقَطْعِيِّ الَّذِي
لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ". وَإِضَافَةُ
مُلْكِ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةُ
مَمْلُوكٍ إِلَى مَلِكٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ
التَّغْبِيطِ وَالتَّنْبِيهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ
مِنْهُمْ:" إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ". وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونُوا سَأَلُوهُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِهِ فِي
قَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ
مَلِكاً". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
بِمَسَاقِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِأَخْلَاقِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ الذَّمِيمَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الطَّبَرِيُّ.
[سورة البقرة (2): آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ
تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ
هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) إِتْيَانُ
التَّابُوتِ، وَالتَّابُوتُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِيمَا
ذُكِرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ يَغْلِبُونَ بِهِ مَنْ قَاتَلَهُمْ حَتَّى
عَصَوْا فَغُلِبُوا عَلَى التَّابُوتِ غَلَبَهُمْ عَلَيْهِ
الْعَمَالِقَةُ: جَالُوتُ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِ
السُّدِّيِّ، وَسَلَبُوا التَّابُوتَ مِنْهُمْ. قُلْتُ:
وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ سَبَبُ
الْخِذْلَانِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالْآيَةُ فِي التَّابُوتِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ
كَانَ يُسْمَعُ فِيهِ أَنِينٌ، فَإِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ
سَارُوا لِحَرْبِهِمْ،
(3/247)
وَإِذَا هَدَأَ الْأَنِينُ لَمْ يَسِيرُوا
وَلَمْ يَسِرِ التَّابُوتُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَضَعُونَهُ
فِي مَأْزِقِ الْحَرْبِ فَلَا تَزَالُ تَغْلِبُ حَتَّى
عَصَوْا فَغُلِبُوا وَأُخِذَ مِنْهُمُ التَّابُوتُ وَذَلَّ
أَمْرُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا آيَةَ الِاصْطِلَامِ «1»
وَذَهَابِ الذِّكْرِ، أَنِفَ بَعْضُهُمْ وَتَكَلَّمُوا فِي
أَمْرِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ أَنْ قَالُوا
لِنَبِيِّ الْوَقْتِ: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا، فَلَمَّا
قَالَ لَهُمْ: مَلِكُكُمْ طَالُوتُ رَاجَعُوهُ فِيهِ كَمَا
أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا قَطَعَهُمْ
بِالْحُجَّةِ سَأَلُوهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فِي
قَوْلِ الطَّبَرِيِّ. فَلَمَّا سَأَلُوا نَبِيَّهُمُ
الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ، دَعَا رَبَّهُ فَنَزَلَ
بِالْقَوْمِ الَّذِينَ أَخَذُوا التَّابُوتَ دَاءٌ
بِسَبَبِهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: وَضَعُوهُ
فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فِيهَا أَصْنَامٌ فَكَانَتِ
الْأَصْنَامُ تُصْبِحُ مَنْكُوسَةً. وَقِيلَ: وَضَعُوهُ
فِي بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ تَحْتَ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ
فَأَصْبَحُوا وَهُوَ فَوْقُ الصَّنَمِ، فَأَخَذُوهُ
وَشَدُّوهُ إِلَى رِجْلَيْهِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ قُطِعَتْ
يَدَا الصَّنَمِ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَتْ تَحْتَ
التَّابُوتِ، فَأَخَذُوهُ وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ
فَأَصَابَ أُولَئِكَ الْقَوْمَ أَوْجَاعٌ فِي
أَعْنَاقِهِمْ. وَقِيلَ: جَعَلُوهُ فِي مَخْرَأَةِ قَوْمٍ
فَكَانُوا يُصِيبُهُمُ الْبَاسُورُ «2»، فَلَمَّا عَظُمَ
بَلَاؤُهُمْ كَيْفَمَا كَانَ، قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا
لِهَذَا التَّابُوتِ! فَلْنَرُدَّهُ إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَوَضَعُوهُ عَلَى عَجَلَةٍ بَيْنَ
ثَوْرَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا فِي الْأَرْضِ نَحْوَ بِلَادِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً تَسُوقُ
الْبَقَرَتَيْنِ «3» حَتَّى دخلنا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي أَمْرِ طَالُوتَ فَأَيْقَنُوا
بِالنَّصْرِ، وَهَذَا هُوَ حَمْلُ الْمَلَائِكَةِ
لِلتَّابُوتِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ بِهِ تَحْمِلُهُ وَكَانَ يُوشَعُ
بْنُ نُونَ قَدْ جَعَلَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَرُوِيَ
أَنَّهُمْ رَأَوُا التَّابُوتَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى
نَزَلَ بَيْنَهُمْ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ قَدْرُ التَّابُوتِ
نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ.
الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ مِنْ عُودِ شِمْسَارٍ «4» الَّذِي
يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَمْشَاطُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ" التَّابُوهُ" وَهِيَ لُغَتُهُ، وَالنَّاسُ عَلَى
قِرَاءَتِهِ بِالتَّاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ
عَنْهُ" التَّيْبُوتُ" ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَرَأَ
حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ" يَحْمِلُهُ" بِالْيَاءِ. قَوْلُهُ
تعالى: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ)
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّكِينَةِ وَالْبَقِيَّةِ،
فَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ
وَالْوَقَارِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. فَقَوْلُهُ" فِيهِ
سَكِينَةٌ" أي هو سبب سكون
__________
(1). الاصطلام: الاستئصال والإبادة.
(2). في ز، وابن عطية:" الناسور" بالنون.
(3). كذا في الأصول، وفى الطبري: الثورين.
(4). في ح وا وج بالشين المعجمة والميم والسين المهملة.
والذي في هـ والبحر بالمعجمتين بينهما ميم وفى معجم أسماء
النبات" شمساد" ص 34
(3/248)
قُلُوبِكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ، وَنَظِيرُهُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ «1» " أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا
سَكَنَ [بِهِ «2»] قَلْبُهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ
التَّابُوتَ كَانَ سَبَبَ سُكُونِ قُلُوبِهِمْ،
فَأَيْنَمَا كَانُوا سَكَنُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَفِرُّوا
مِنَ التَّابُوتِ إدا كَانَ مَعَهُمْ فِي الْحَرْبِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السَّكِينَةُ رُوحٌ مِنَ
اللَّهِ تَتَكَلَّمُ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي
أَمْرٍ نَطَقَتْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ، وَإِذَا
صَاحَتْ فِي الْحَرْبِ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ «3»
لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ. وَرُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: هِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ «4» لَهَا رَأْسَانِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَيَوَانٌ كَالْهِرِّ لَهُ جَنَاحَانِ
وَذَنَبٌ وَلِعَيْنَيْهِ شُعَاعٌ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى
الْجَيْشِ انْهَزَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَسْتٌ مِنْ
ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ، كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ
الْأَنْبِيَاءِ، وقال السُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَتْ فِيهِ
أَشْيَاءٌ فَاضِلَةٌ مِنْ بَقَايَا الْأَنْبِيَاءِ
وَآثَارِهِمْ، فَكَانَتِ النُّفُوسُ تَسْكُنُ إِلَى ذَلِكَ
وَتَأْنَسُ بِهِ وَتَقْوَى. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ
سُورَةَ" الْكَهْفِ" وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ
بِشَطَنَيْنِ «5» فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ
تَدُورُ وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا،
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:" تِلْكَ
السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ". وَفِي حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ
الْحُضَيْرِ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ في مربده
«6» الحديث. وفية: فقال رسوله اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ
تَسْتَمِعُ لَكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا
النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ" خَرَّجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نُزُولِ السَّكِينَةِ مَرَّةً،
وَمَرَّةً عَنْ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ السَّكِينَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الظُّلَّةِ،
وَأَنَّهَا تَنْزِلُ أَبَدًا مَعَ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي
هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ السَّكِينَةَ رُوحٌ أَوْ
شي لَهُ رُوحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِمَاعُ
الْقُرْآنِ إِلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَقِيَّةٌ) اخْتُلِفَ فِي
الْبَقِيَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: عَصَا مُوسَى
وَعَصَا هَارُونَ وَرُضَاضُ «7» الْأَلْوَاحِ، لِأَنَّهَا
انْكَسَرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا مُوسَى، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ. زاد عكرمة:
__________
(1). راجع ج 8 ص 148.
(2). الزيادة من ز.
(3). هفافة: سريعة المرور في هبوبها.
(4). ريح خجوج: شديدة المرور في غير استواء.
(5). الشطن: الحبل، وجمعه أشطان.
(6). المربد (بكسر فسكون ففتح): الموضع الذي ييبس فيه
التمر.
(7). رضاض الشيء (بضم الراء): فتاته. [ ..... ]
(3/249)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ
لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (249)
التَّوْرَاةُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ:
الْبَقِيَّةُ: عَصَا مُوسَى وَثِيَابُهُ وَثِيَابُ
هَارُونَ وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ «1». وَقَالَ عطية
بن سعد: هي عَصَا مُوسَى [وَعَصَا «2»] هَارُونَ
وَثِيَابُهُمَا وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْبَقِيَّةُ
قَفِيزَا «3» مَنٍّ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَعَصَا مُوسَى
وَعِمَامَةُ هَارُونَ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ. وَمَعْنَى هَذَا
مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ قَوْمَهُ
بِالْأَلْوَاحِ فَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ،
أَلْقَى الْأَلْوَاحَ غَضَبًا فَتَكَسَّرَتْ، فَنَزَعَ
مِنْهَا مَا كَانَ صَحِيحًا وَأَخَذَ رُضَاضَ مَا
تَكَسَّرَ فَجَعَلَهُ فِي التَّابُوتِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: الْبَقِيَّةُ: الْجِهَادُ وَقِتَالُ
الْأَعْدَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيِ الْأَمْرُ
بِذَلِكَ فِي التَّابُوتِ، إِمَّا أَنَّهُ مَكْتُوبٌ
فِيهِ، وَإِمَّا أَنَّ نَفْسَ الْإِتْيَانِ بِهِ [هُوَ «4»
[كَالْأَمْرِ بِذَلِكَ، وَأُسْنِدَ التَّرْكُ إِلَى [آل
«5» [موسى و [آل «6» [هَارُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ
الْأَمْرُ مُنْدَرِجًا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ
وَكُلُّهُمْ آلُ مُوسَى وَآلُ هارون. وآل الرجل قرابته.
وقد تقدم «7».
[سورة البقرة (2): آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) "
فَصَلَ" مَعْنَاهُ خَرَجَ بِهِمْ. فَصَلْتُ الشَّيْءَ
فَانْفَصَلَ، أَيْ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ. قَالَ وَهْبُ
بْنُ مُنَبِّهٍ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ قَالُوا لَهُ
إِنَّ الْمِيَاهَ لَا تَحْمِلُنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ
يُجْرِيَ لَنَا نَهَرًا، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: إِنَّ
اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ. وَكَانَ عَدَدُ
الْجُنُودِ- فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ- ثَمَانِينَ أَلْفًا.
[وَقَالَ وَهْبٌ «8» [: لم يتخلف عنه إلا ذو
__________
(1). في ز وابن عطية: والمن.
(2). من هـ وج وز.
(3). كذا في ج وهـ وابن عطية وفى هـ: قفير، وهو الزبيل.
(4). الزيادة من ز، وابن عطية.
(5). الزيادة من ز، وابن عطية.
(6). الزيادة من ز، وابن عطية.
(7). راجع المسألة الثانية والثالثة ج 1 ص 381.
(8). من ج وهـ.
(3/250)
عُذْرٍ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ
مَرَضٍ. وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. وَالنَّهَرُ
وَالنَّهْرُ لُغَتَانِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّعَةِ،
وَمِنْهُ النَّهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». قَالَ
قَتَادَةُ: النَّهَرُ الَّذِي ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ
هُوَ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ" بِنَهَرٍ" بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ
مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ" بِنَهَرٍ" بِإِسْكَانِ
الْهَاءِ. وَمَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنَّهُ
اخْتِبَارٌ لَهُمْ، فَمَنْ ظَهَرَتْ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ
الْمَاءِ عُلِمَ أَنَّهُ مُطِيعٌ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ،
وَمَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ [فِي الْمَاءِ «2»] وَعَصَى
الْأَمْرَ فَهُوَ فِي الْعِصْيَانِ فِي الشَّدَائِدِ
أَحْرَى، فَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَتَوُا النَّهَرَ وَقَدْ
نَالَهُمْ عَطَشٌ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْعُذُوبَةِ
وَالْحُسْنِ، فَلِذَلِكَ رُخِّصَ لِلْمُطِيعِينَ فِي
الْغَرْفَةِ لِيَرْتَفِعَ عَنْهُمْ أَذَى الْعَطَشَ بَعْضَ
الِارْتِفَاعِ وَلِيَكْسِرُوا نِزَاعَ النَّفْسِ فِي
هَذِهِ الْحَالِ. وَبَيَّنَ أَنَّ الْغَرْفَةَ كَافَّةٌ
ضَرَرَ الْعَطَشِ عِنْدَ الْحَزَمَةِ الصَّابِرِينَ عَلَى
شَظَفِ الْعَيْشِ الَّذِينَ هَمُّهُمْ فِي غَيْرِ
الرَّفَاهِيَةِ، كَمَا قَالَ عُرْوَةُ:
وَاحْسُوَا قَرَاحَ الْمَاءِ وَالْمَاءُ بَارِدُ
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" حَسْبُ الْمَرْءِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ
صُلْبَهُ". وقال بَعْضُ مَنْ يَتَعَاطَى غَوَامِضَ
الْمَعَانِي: هَذِهِ الْآيَةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ
لِلدُّنْيَا فَشَبَّهَهَا اللَّهُ بِالنَّهَرِ
وَالشَّارِبِ مِنْهُ وَالْمَائِلِ إِلَيْهَا
وَالْمُسْتَكْثِرِ مِنْهَا، وَالتَّارِكِ لِشُرْبِهِ
بِالْمُنْحَرِفِ عَنْهَا وَالزَّاهِدِ فِيهَا،
وَالْمُغْتَرِفِ بِيَدِهِ غَرْفَةً بِالْآخِذِ مِنْهَا
قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَأَحْوَالُ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ
اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ. قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْلَا
مَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ فِي التَّأْوِيلِ
وَالْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ، لَكِنْ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ
مِنْ غَيْرِ هَذَا. الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ
إِنَّ طَالُوتَ كَانَ نَبِيًّا بِقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ" وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ
وَأَلْهَمَهُ، وَجَعَلَ الْإِلْهَامَ ابْتِلَاءً مِنَ
اللَّهِ لَهُمْ. وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قَالَ:
أَخْبَرَهُ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ بِالْوَحْيِ حِينَ
أَخْبَرَ طَالُوتُ قَوْمَهُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ
هَذَا الِابْتِلَاءُ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنَ
الْكَاذِبِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِيقَادِ النَّارِ وَالدُّخُولِ
فِيهَا تَجْرِبَةً لِطَاعَتِهِمْ، لَكِنَّهُ حَمَلَ
مِزَاحَهُ عَلَى تَخْشِينِ الْأَمْرِ الَّذِي كَلَّفَهُمْ،
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «3» " إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1). راجع ج 1 ص 239.
(2). من ج وهـ وز.
(3). راجع ج 5 ص 258
(3/251)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) شَرِبَ قِيلَ مَعْنَاهُ
كَرَعَ. وَمَعْنَى" فَلَيْسَ مِنِّي" أَيْ لَيْسَ مِنْ
أَصْحَابِي فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ
بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا
ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ
فِيهِمُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمُجِدُّ
وَالْكَسْلَانُ، وَفِي الْحَدِيثِ" مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا" أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا عَلَى
طَرِيقَتِنَا وَهَدْيِنَا. قَالَ «1»: إِذَا حَاوَلْتَ فِي
أَسَدٍ فُجُورًا فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَهَذَا مَهْيَعٌ «2» فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يَقُولُ
الرَّجُلُ لِابْنِهِ إِذَا سَلَكَ غَيْرَ أُسْلُوبِهِ:
لَسْتَ مِنِّي. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ
لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) يُقَالُ: طَعِمْتُ
الشَّيْءَ أَيْ ذُقْتُهُ. وَأَطْعَمْتُهُ الْمَاءَ أَيْ
أَذَقْتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ لِأَنَّ
مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا كَرَّرُوا شَيْئًا أَنْ
يُكَرِّرُوهُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلُغَةُ الْقُرْآنِ
أَفْصَحُ اللُّغَاتِ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَدْحِ مَنْ
يَقُولُ: لَا يُقَالُ طَعِمْتُ الْمَاءَ. الْخَامِسَةُ-
اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ
الذَّرَائِعِ، لِأَنَّ أَدْنَى الذَّوْقِ يَدْخُلُ فِي
لَفْظِ الطَّعْمِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ
الطَّعْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِ الشُّرْبِ مِمَّنْ
يَتَجَنَّبُ الطَّعْمَ، وَلِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ لَمْ
يَأْتِ الْكَلَامُ" وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ".
السَّادِسَةُ- لَمَّا قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ) دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ وَإِذَا
كَانَ طَعَامًا كَانَ قُوتًا لِبَقَائِهِ وَاقْتِيَاتِ
الْأَبْدَانِ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا،
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ
الْمَذْهَبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ قَالَ مَالِكٌ: لَا
بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَاءِ عَلَى الشَّطِّ بِالْمَاءِ
مُتَفَاضِلًا وَإِلَى أَجَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: هُوَ مِمَّا يُكَالُ ويوزن، فعلى هذا القول لا
يجوز عنده التَّفَاضُلِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ فِيهِ رِبًا،
لِأَنَّ عِلَّتَهُ فِي الرِّبَا الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ
مُتَفَاضِلًا وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَعِلَّتُهُ
فِي الرِّبَا أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا جنسا.
__________
(1). هو النابغة الذبياني، يقول هذا لعيينة بن حصن
الفزاري، وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بنى أسد ونقض
حلفهم فأبى عليهم وتوعده بهم، وأراد بالفجور نقض الحلف.
(عن شرح الشواهد).
(2). المهيع: الطريق الواضح الواسع البين.
(3/252)
السَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: من قال إن شرب عبد ى فُلَانٌ مِنَ
الْفُرَاتِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَا يُعْتَقُ إِلَّا أَنْ
يَكْرَعَ فِيهِ، وَالْكَرْعُ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ
بِفِيهِ مِنَ النَّهَرِ، فَإِنْ شَرِبَ بِيَدِهِ أَوِ
اغْتَرَفَ بِالْإِنَاءِ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْكَرْعِ فِي
النَّهَرِ وَبَيْنَ الشُّرْبِ بِالْيَدِ. قَالَ: وَهَذَا
فَاسِدٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ
هَيْئَةٍ وَصِفَةٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ غَرْفٍ
بِالْيَدِ أَوْ كَرْعٍ بِالْفَمِ انْطِلَاقًا وَاحِدًا،
فَإِذَا وُجِدَ الشُّرْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لُغَةً
وَحَقِيقَةً حَنِثَ، فَاعْلَمْهُ. قُلْتُ: قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ أَصَحُّ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا
بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَرَعَ فِي الْمَاءِ
كُرُوعًا إِذَا تَنَاوَلَهُ بِفِيهِ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَشْرَبَ بِكَفَّيْهِ وَلَا بِإِنَاءٍ،
وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى" كَرِعَ" بِكَسْرِ الرَّاءِ
[يَكْرَعُ «1»] كَرَعًا. وَالْكَرَعُ: مَاءُ السَّمَاءِ
يُكْرَعُ فِيهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَذَكَرَ ابْنُ
مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْنَا
عَلَى بِرْكَةٍ فَجَعَلْنَا نَكْرَعُ فِيهَا فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا
تَكْرَعُوا وَلَكِنِ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ ثُمَّ
اشْرَبُوا فِيهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ إِنَاءٌ أَطْيَبَ مِنَ
الْيَدِ" وَهَذَا نَصٌّ. وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ
خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ ضُعِّفَ. الثَّامِنَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ) الِاغْتِرَافُ: الْأَخْذُ مِنَ الشَّيْءِ
بِالْيَدِ وَبِآلَةٍ، وَمِنْهُ الْمِغْرَفَةُ، وَالْغَرْفُ
مِثْلُ الاغتراف. وقرى" غَرْفَةً" بِفَتْحِ الْغَيْنِ
وَهِيَ مَصْدَرٌ، وَلَمْ يَقُلْ اغْتِرَافَةً، لِأَنَّ
مَعْنَى الْغَرْفِ وَالِاغْتِرَافِ وَاحِدٌ. وَالْغَرْفَةُ
المرة الواحدة. وقرى" غُرْفَةً" بِضَمِّ الْغَيْنِ وَهِيَ
الشَّيْءُ الْمُغْتَرَفُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:
الْغَرْفَةُ بِالْكَفِّ الْوَاحِدِ وَالْغُرْفَةِ
بِالْكَفَّيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِلَاهُمَا لُغَتَانِ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: الْأَكُفُّ أَنْظَفُ الْآنِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الْحَسَنِ:
لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ ... إِلَّا
اغْتِرَافًا مِنَ الْغُدْرَانِ بِالرَّاحِ
الدَّلِيفُ: المشي الرويد.
__________
(1). في هـ وج وز. [ ..... ]
(3/253)
قُلْتُ: وَمَنْ أَرَادَ الْحَلَالَ
الصِّرْفَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ دُونَ شُبْهَةٍ وَلَا
امْتِرَاءٍ وَلَا ارْتِيَابٍ فَلْيَشْرَبْ بِكَفَّيْهِ
الْمَاءَ مِنَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْمُسَخَّرَةِ
بالجريان آناء الليل و [آناء «1»] النَّهَارِ، مُبْتَغِيًا
بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَسْبَ الْحَسَنَاتِ وَوَضْعَ
الْأَوْزَارِ وَاللُّحُوقَ بِالْأَئِمَّةِ الْأَبْرَارِ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" مَنْ شَرِبَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى
إِنَاءٍ يُرِيدُ بِهِ التَّوَاضُعَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إناء عيسى بن مريم
عليهما السلام إذا طَرَحَ الْقَدَحَ فَقَالَ أُفٍّ هَذَا
مَعَ الدُّنْيَا". خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ عَلَى بُطُونِنَا وَهُوَ
الْكَرْعُ، وَنَهَانَا أَنْ نَغْتَرِفَ بِالْيَدِ
الْوَاحِدَةِ، وَقَالَ:" لَا يَلَغُ أَحَدُكُمْ كَمَا
يَلَغُ الْكَلْبُ وَلَا يَشْرَبُ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ
كَمَا يَشْرَبُ الْقَوْمُ الَّذِينَ سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَلَا يَشْرَبُ بِاللَّيْلِ فِي إِنَاءٍ حَتَّى
يُحَرِّكَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِنَاءً مُخَمَّرًا
وَمَنْ شَرِبَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنَاءٍ ...
" الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي إِسْنَادِهِ
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ
حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ:
إِذَا حَدَّثَ بقية عن الثقات فهو ثقة. التاسعة- قوله
تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرِبُوا عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِمْ،
فَشَرِبَ الْكُفَّارُ شُرْبَ الْهِيمِ «2» وَشَرِبَ
الْعَاصُونَ دُونَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ
سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَبَقِيَ بَعْضُ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَبْ شَيْئًا وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ
الْغُرْفَةَ، فأما من شرب فلم يرو، بل برج بِهِ الْعَطَشُ،
وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَاءَ فَحَسُنَتْ حَالُهُ وَكَانَ
أَجْلَدَ مِمَّنْ أَخَذَ الْغُرْفَةَ. الْعَاشِرَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ) الْهَاءُ
تَعُودُ عَلَى النَّهَرِ، وَ" هُوَ" تَوْكِيدٌ.
(وَالَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى
الْمُضْمَرِ فِي" جاوَزَهُ" يُقَالُ: جَاوَزْتُ الْمَكَانَ
مُجَاوَزَةً وَجَوَازًا. وَالْمَجَازُ فِي الْكَلَامِ مَا
جَازَ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَنَفَذَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى
وَجْهِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: جَازَ
مَعَهُ فِي النَّهَرِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ فِيهِمْ
مَنْ شَرِبَ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى جَالُوتَ
وَجُنُودِهِ وَكَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ كُلُّهُمْ شَاكُونَ
فِي السِّلَاحِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ
وَسِتُّمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، فَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ
وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ وَهُمْ
عدة أهل
__________
(1). كذا في هـ وج وفى ز: أطراف.
(2). الهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء،
واحدها أهيم، والأنثى هيماء.
(3/254)
بَدْرٍ:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ". وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ مَعَهُ
النَّهَرَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ جُمْلَةً، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نُطِيقُ الْعَدُوَّ مَعَ كَثْرَتِهِمْ!
فَقَالَ أُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ".
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ
عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ كَعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ
الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ ثَلَاثُمِائَةٍ
وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا- وَفِي رِوَايَةٍ: وَثَلَاثَةَ
عَشَرَ رَجُلًا- وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ) وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى
الْيَقِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا لَا عِلْمًا،
أَيْ قَالَ الَّذِينَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ
يُقْتَلُونَ مَعَ طَالُوتَ فَيَلْقَوْنَ اللَّهَ
شُهَدَاءَ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْقَتْلِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً) الْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ
وَالْقِطْعَةُ مِنْهُمْ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ
بِالسَّيْفِ وَفَأْيَتُهُ أَيْ قَطَعْتُهُ. وَفِي
قَوْلِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ" الْآيَةَ، تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ
وَاسْتِشْعَارٌ لِلصَّبْرِ وَاقْتِدَاءٌ بِمَنْ صَدَّقَ
رَبَّهُ. قُلْتُ: هَكَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ
نَفْعَلَ؟ لَكِنِ الْأَعْمَالُ الْقَبِيحَةُ وَالنِّيَّاتُ
الْفَاسِدَةُ مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْكَسِرَ
الْعَدَدُ الْكَبِيرُ مِنَّا قُدَّامَ الْيَسِيرِ مِنَ
الْعَدُوِّ كَمَا شَاهَدْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ
بما كسبت أيدينا! وفى البخاري: وقال أَبُو الدَّرْدَاءِ:
إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. وَفِيهِ مُسْنَدٌ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلَّا
بِضُعَفَائِكُمْ". فَالْأَعْمَالُ فَاسِدَةٌ
وَالضُّعَفَاءُ مُهْمَلُونَ وَالصَّبْرُ قَلِيلٌ
وَالِاعْتِمَادُ ضَعِيفٌ وَالتَّقْوَى زَائِلَةٌ!. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ «1» " وَقَالَ:" وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا «2» " وَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «3» "
وَقَالَ:" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «4» "
وَقَالَ:" إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «5» ". فَهَذِهِ
أَسْبَابُ النَّصْرِ وَشُرُوطُهُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ
عِنْدَنَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِينَا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا أَصَابَنَا
وَحَلَّ بِنَا! بَلْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا
ذِكْرُهُ، وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا رَسْمُهُ لِظُهُورِ
الْفَسَادِ وَلِكَثْرَةِ الطُّغْيَانِ وَقِلَّةِ
الرَّشَادِ حَتَّى اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ شَرْقًا
وَغَرْبًا بَرًّا وَبَحْرًا، وَعَمَّتِ الْفِتَنُ
وَعَظُمَتِ الْمِحَنُ وَلَا عَاصِمَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ!.
__________
(1). راجع ج 4 ص 322.
(2). راجع ج 6 ص 127.
(3). راجع ج 10 ص 202.
(4). راجع ج 12 ص 72
(5). راجع ج 8 ص 23
(3/255)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
[سورة البقرة (2): آية 250]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
" بَرَزُوا" صَارُوا فِي الْبَرَازِ وَهُوَ الْأَفْيَحُ
«1» مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَّسِعُ. وَكَانَ جَالُوتُ
أَمِيرَ الْعَمَالِقَةِ وَمَلِكَهُمْ ظِلُّهُ مِيلٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْبَرْبَرَ مِنْ مِنْ نَسْلِهِ، وَكَانَ
فِيمَا رُوِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا رَأَى
الْمُؤْمِنُونَ كَثْرَةَ عَدُوِّهِمْ تَضَرَّعُوا إِلَى
رَبِّهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَما
كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا «2» " الْآيَةَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ
يَقُولُ فِي الْقِتَالِ:" اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ
وَأَجُولُ" وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ:" اللَّهُمَّ إِنِّي
أَعُوَذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي
نُحُورِهِمْ" وَدَعَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى سَقَطَ
رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ يَسْتَنْجِزُ «3» اللَّهَ
وَعْدَهُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ
«4» " إِنْ شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 251]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ
مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ
اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ" فَهَزَمُوهُمْ":
فَكَسَرُوهُمْ. وَالْهَزْمُ: الْكَسْرُ، وَمِنْهُ سِقَاءٌ
مُتَهَزِّمٌ، أَيِ انْثَنَى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مَعَ
الْجَفَافِ، وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَمَ: إِنَّهَا
هَزْمَةُ جِبْرِيلَ، أَيْ هَزَمَهَا جِبْرِيلُ بِرِجْلِهِ
فَخَرَجَ الْمَاءُ. وَالْهَزْمُ: مَا تَكَسَّرَ مِنْ
يَابِسِ الْحَطَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَتَلَ داوُدُ
جالُوتَ) وَذَلِكَ أَنَّ طَالُوتَ الْمَلِكَ اخْتَارَهُ
مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ لِقِتَالِ جَالُوتَ، وَكَانَ رَجُلًا
قَصِيرًا مِسْقَامًا مِصْفَارًا أَصْغَرَ أَزْرَقَ،
وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ
وَكَانَ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ وَحْدَهُ، وَكَانَ قَتْلُ
جَالُوتَ وَهُوَ رَأْسُ الْعَمَالِقَةِ عَلَى يَدِهِ.
وَهُوَ داود
__________
(1). كذا في هـ وج وز، وفى ا: الافسح.
(2). راجع ج 4 ص 228 فما بعد وص 190 فما بعد.
(3). في د: ويستنجز، وفي ا، هـ، و: ليستنجز، وما أثبتناه
في ز.
(4). راجع ج 4 ص 228 فما بعد وص 190 فما بعد.
(3/256)
ابن إِيشَى «1» - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ،
وَيُقَالُ: دَاوُدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ رَشْوَى، وَكَانَ
مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ
وَالْمُلْكِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا وَكَانَ أَصْغَرَ
إِخْوَتِهِ وَكَانَ يَرْعَى غَنَمًا، وَكَانَ لَهُ
سَبْعَةُ إِخْوَةٍ فِي أَصْحَابِ طَالُوتَ، فَلَمَّا
حَضَرَتِ الْحَرْبُ قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَأَذْهَبَنَّ
إِلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَرْبِ، فَلَمَّا نَهَضَ فِي
طَرِيقِهِ مَرَّ بِحَجَرٍ فَنَادَاهُ: يَا دَاوُدُ خُذْنِي
فَبِي تَقْتُلُ جَالُوتَ، ثُمَّ نَادَاهُ حَجَرٌ آخَرُ
ثُمَّ آخَرُ فَأَخَذَهَا وَجَعَلَهَا فِي مِخْلَاتِهِ
وَسَارَ، فَخَرَجَ جَالُوتُ يَطْلُبُ مُبَارِزًا فَكَعَّ
«2» النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى قَالَ طَالُوتُ: مَنْ يَبْرُزُ
إِلَيْهِ وَيَقْتُلُهُ فَأَنَا أُزَوِّجُهُ ابْنَتِي
وَأُحَكِّمُهُ فِي مَالِيَ، فَجَاءَ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَالَ: أَنَا أَبْرُزُ إِلَيْهِ
وَأَقْتُلُهُ، فَازْدَرَاهُ طَالُوتُ حِينَ رَآهُ لِصِغَرِ
سِنِّهِ وَقِصَرِهِ فَرَدَّهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَزْرَقَ
قَصِيرًا، ثُمَّ نَادَى ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَخَرَجَ
دَاوُدُ، فَقَالَ طَالُوتُ لَهُ: هَلْ جَرَّبْتَ نَفْسَكَ
بِشَيْءٍ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ بماذا؟ قَالَ: وَقَعَ
ذِئْبٌ فِي غَنَمِي فَضَرَبْتُهُ ثُمَّ أَخَذْتُ رَأْسَهُ
فَقَطَعْتُهُ مِنْ جَسَدِهِ. قَالَ طَالُوتُ: الذِّئْبُ
ضَعِيفٌ، هَلْ جَرَّبْتَ نَفْسَكَ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، دَخَلَ الْأَسَدُ فِي غَنَمِي فَضَرَبْتُهُ ثُمَّ
أَخَذْتُ بِلَحْيَيْهِ فَشَقَقْتُهُمَا، أَفَتَرَى هَذَا
أَشَدَّ مِنَ الْأَسَدِ؟ قَالَ لَا، وَكَانَ عِنْدَ
طَالُوتَ دِرْعٌ لَا تَسْتَوِي إِلَّا عَلَى مَنْ يَقْتُلُ
جَالُوتَ، فَأَخْبَرَهُ بِهَا وَأَلْقَاهَا عَلَيْهِ
فَاسْتَوَتْ، فَقَالَ طَالُوتُ: فَارْكَبْ فَرَسِي وَخُذْ
سِلَاحِي فَفَعَلَ، فَلَمَّا مَشَى قَلِيلًا رَجَعَ
فَقَالَ النَّاسُ: جَبُنَ الْفَتَى! فَقَالَ دَاوُدُ:
إِنَّ اللَّهَ إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِي وَيُعِنِّي
عَلَيْهِ لَمْ يَنْفَعْنِي هَذَا الْفَرَسُ وَلَا هَذَا
السِّلَاحُ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُقَاتِلَهُ عَلَى
عَادَتِي. قَالَ: وَكَانَ دَاوُدُ مِنْ أَرْمَى النَّاسِ
بِالْمِقْلَاعِ، فَنَزَلَ وَأَخَذَ مِخْلَاتَهُ
فَتَقَلَّدَهَا وَأَخَذَ مِقْلَاعَهُ وَخَرَجَ إِلَى
جَالُوتَ، وَهُوَ شَاكٍ فِي سِلَاحِهِ عَلَى رَأْسِهِ
بَيْضَةٌ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ، فِيمَا ذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ لَهُ جَالُوتُ:
أَنْتَ يَا فَتَى تَخْرُجُ إِلَيَّ! قَالَ نَعَمْ، قَالَ:
هَكَذَا كَمَا تَخْرُجُ إِلَى الْكَلْبِ! قَالَ نَعَمْ،
وَأَنْتَ أَهْوَنُ. قَالَ: لَأُطْعِمَنَّ لَحْمَكَ
الْيَوْمَ لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، ثُمَّ تَدَانَيَا
وَقَصَدَ جَالُوتُ أَنْ يَأْخُذَ دَاوُدَ بِيَدِهِ
اسْتِخْفَافًا بِهِ، فَأَدْخَلَ دَاوُدُ يَدَهُ إِلَى
الْحِجَارَةِ، فَرُوِيَ أَنَّهَا الْتَأَمَتْ فَصَارَتْ
حَجَرًا وَاحِدًا، فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ فِي الْمِقْلَاعِ
وَسَمَّى الله
__________
(1). كذا في الأصول، والذي في البحر وغيره: إيشا.
(2). كع: جبن وضعف.
(3/257)
وَأَدَارَهُ وَرَمَاهُ فَأَصَابَ بِهِ
رَأْسَ جَالُوتَ فَقَتَلَهُ، وَحَزَّ رَأْسَهُ وَجَعَلَهُ
فِي مِخْلَاتِهِ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ وحمله أَصْحَابُ
طَالُوتَ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا
أَصَابَ بِالْحَجَرِ مِنَ الْبَيْضَةِ مَوْضِعَ أَنْفِهِ،
وَقِيلَ: عَيْنَهُ «1» وَخَرَجَ مِنْ قَفَاهُ، وَأَصَابَ
جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِهِ فَقَتَلَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْحَجَرَ تَفَتَّتَ حَتَّى أصاب كل من في العسكر شي
مِنْهُ، وَكَانَ كَالْقَبْضَةِ الَّتِي رَمَى بِهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ
يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَكْثَرَ
النَّاسُ فِي قِصَصِ هَذِهِ الْآيِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ
مِنْهَا الْمَقْصُودَ وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ. قُلْتُ:
وَفِي قَوْلِ طَالُوتَ:" مَنْ يَبْرُزْ لَهُ وَيَقْتُلْهُ
فَإِنِّي أُزَوِّجْهُ ابْنَتِي وَأُحَكِّمْهُ فِي مَالِيَ"
مَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولُ
الْإِمَامُ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا، أَوْ
أَسِيرٍ فَلَهُ كَذَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
الْأَنْفَالِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَارَزَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا
بِإِذْنِ الْإِمَامِ، كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا
يَحْمِلُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ إِمَامِهِ. وَحُكِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ نَهَى
الْإِمَامُ عَنِ الْبَرَازِ فَلَا يُبَارِزُ أَحَدٌ إِلَّا
بِإِذْنِهِ. وَأَبَاحَتْ طَائِفَةٌ الْبَرَازَ وَلَمْ
تَذْكُرْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ،
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ
يَقُولُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ:
ذَلِكَ إِلَى نِيَّتِهِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ
اللَّهَ فَأَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ كَانَ
يُفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
بَأْسَ بِالْمُبَارَزَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
الْمُبَارَزَةُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ حَسَنٌ، وَلَيْسَ
عَلَى مَنْ بَارَزَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ حَرَجٌ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَكْرُوهٍ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ
خَبَرًا يَمْنَعُ مِنْهُ. (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ) قَالَ السُّدِّيُّ: أَتَاهُ اللَّهُ مُلْكَ
طَالُوتَ وَنُبُوَّةَ شَمْعُونَ. وَالَّذِي عَلَّمَهُ هُوَ
صَنْعَةُ الدُّرُوعِ وَمَنْطِقُ الطَّيْرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ أَنْوَاعٍ مَا عَلَّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ
أَعْطَاهُ سِلْسِلَةً مَوْصُولَةً بِالْمَجَرَّةِ
وَالْفَلَكِ وَرَأْسُهَا عِنْدَ صَوْمَعَةِ دَاوُدَ،
فَكَانَ لَا يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ حَدَثٌ إِلَّا
صَلْصَلَتِ السِّلْسِلَةُ فَيَعْلَمُ دَاوُدُ مَا حَدَثَ،
وَلَا يَمَسُّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَكَانَتْ
عَلَامَةُ دُخُولِ قَوْمِهِ فِي الدِّينِ أَنْ يَمَسُّوهَا
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَ أَكُفَّهُمْ عَلَى
صُدُورِهِمْ، وَكَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أن رفعت.
__________
(1). في هـ وز: عينيه، وفى ا:" وفقا عينه". [ ..... ]
(2). راجع ج 7 ص 363
(3/258)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِمَّا يَشاءُ) أَيْ
مِمَّا شَاءَ، وَقَدْ يُوضَعُ الْمُسْتَقْبَلُ مَوْضِعَ
الْمَاضِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قوله تعالى: (وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعالَمِينَ) فِيهِ مسألتان «1»: الاولى- قوله تعالى:
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)
كَذَا قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا نَافِعًا فَإِنَّهُ
قَرَأَ" دِفَاعُ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا
لِفِعْلٍ كَمَا يُقَالُ: حَسَبْتُ الشَّيْءَ حِسَابًا،
وَآبَ إِيَابًا، وَلَقِيتُهُ لِقَاءً، وَمِثْلُهُ كَتَبَهُ
كِتَابًا، وَمِنْهُ" كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «2» ".
النَّحَّاسُ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَيَكُونُ دِفَاعٌ وَدَفْعٌ
مَصْدَرَيْنِ لِدَفَعَ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَافَعَ وَدَفَعَ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ، مِثْلَ طَرَقْتُ النَّعْلَ وَطَارَقْتُ، أَيْ
خَصَفْتُ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى، وَالْخَصْفُ:
الْخَرْزُ. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور" وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ". وَأَنْكَرَ أَنْ يُقْرَأَ" دِفَاعُ"
وَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُغَالِبُهُ
أَحَدٌ. قَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا وَهْمٌ تَوَهَّمَ فِيهِ
بَابَ الْمُفَاعَلَةِ وَلَيْسَ بِهِ، وَاسْمُ" اللَّهِ"
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْفِعْلِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ
يَدْفَعَ اللَّهُ. وَ" دِفَاعٌ" مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ." النَّاسَ" مَفْعُولٌ،" بَعْضَهُمْ"
بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ،" بِبَعْضٍ" فِي مَوْضِعِ
الْمَفْعُولِ الثَّانِي عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ
عِنْدَهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، فَزَيْدٌ
فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ فَاعْلَمْهُ. الثَّانِيَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِ الْمَدْفُوعِ
بِهِمُ الْفَسَادُ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْأَبْدَالُ
وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ
بَدَّلَ اللَّهُ آخَرَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقِيَامَةِ
مَاتُوا كُلُّهُمُ، اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِنْهُمْ
بِالشَّامِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْعِرَاقِ. وَرُوِيَ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:" إِنَّ الْأَبْدَالَ يَكُونُونَ بِالشَّامِ
وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ
رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلا يُسْقَى بِهِمُ
الْغَيْثُ وَيُنْصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ
وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَلَاءُ"
ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي" نَوَادِرِ
الْأُصُولِ". وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
قَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا أَوْتَادَ الْأَرْضِ،
فَلَمَّا انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ أَبْدَلَ اللَّهُ
مَكَانَهُمْ قَوْمًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُمُ الْأَبْدَالُ،
لَمْ يَفْضُلُوا النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ
وَلَكِنْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَصِدْقِ الْوَرَعِ وَحُسْنِ
النِّيَّةِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ لِجَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصِيحَةِ لَهُمُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ بِصَبْرٍ وَحِلْمٍ وَلُبٍّ
__________
(1). كذا في ج، وليس في بقية الأصول: تقسيم، وفيها بدل
الثانية مسألة.
(2). ج 5 ص 123
(3/259)
وَتَوَاضُعٍ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ، فَهُمْ
خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ قَوْمٌ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ
لِنَفْسِهِ وَاسْتَخْلَصَهُمْ بِعِلْمِهِ لِنَفْسِهِ،
وَهُمْ أَرْبَعُونَ صِدِّيقًا مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا
عَلَى مِثْلِ يَقِينِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ،
يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمُ الْمَكَارِهَ عَنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ وَالْبَلَايَا عَنِ الناس، وبهم يمطرون ومن
يرزقون، لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ
اللَّهُ قَدْ أَنْشَأَ مَنْ يَخْلُفُهُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الْعَدُوَّ بِجُنُودِ
الْمُسْلِمِينَ لَغَلَبَ الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ وَالْمَسَاجِدَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هُمُ الشُّهُودُ
الَّذِينَ تُسْتَخْرَجُ بِهِمُ الْحُقُوقُ. وَحَكَى
مَكِّيٌّ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ
الْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِمَنْ
يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يَتَّقِي عَمَّنْ
لَا يَتَّقِي لَأُهْلِكَ النَّاسُ بِذُنُوبِهِمْ، وَكَذَا
ذَكَرَ النَّحَّاسُ وَالثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا. [قَالَ
الثَّعْلَبِيُّ «1»] وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ:
وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ
عَنِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ،
أَيْ هَلَكَتْ. وَذَكَرَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ
يَدْفَعُ الْعَذَابَ بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي
عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا
يُزَكِّي وَبِمَنْ يَصُومُ عَمَّنْ لَا يَصُومُ وَبِمَنْ
يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ وَبِمَنْ يُجَاهِدُ عَمَّنْ
لَا يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ مَا أَنْظَرَهُمُ «2» اللَّهُ طَرْفَةَ
عَيْنٍ- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ". وَعَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لَوْلَا
عِبَادٌ رُكَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ
لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا" خَرَّجَهُ أَبُو
بَكْرٍ الْخَطِيبُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفُضَيْلِ
بْنِ عِيَاضٍ. حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَوْلَا
فِيكُمْ رِجَالٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَصِبْيَانٌ
رُضَّعٌ لَصُبَّ الْعَذَابُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ صَبًّا".
أَخَذَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ:
لَوْلَا عِبَادٌ لِلْإِلَهِ رُكَّعُ ... وَصِبْيَةٌ مِنَ
الْيَتَامَى رُضَّعُ
وَمُهْمَلَاتٌ فِي الْفَلَاةِ رُتَّعُ ... صُبَّ
عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ الْأَوْجَعُ
وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إِنَّ اللَّهَ لَيُصْلِحُ
بِصَلَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ ولده واهلة
دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ وَلَا يَزَالُونَ فِي
حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ:
يَبْتَلِي اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ وَيُعَافِي
الْكَافِرَ بِالْمُؤْمِنِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). فِي هـ وج.
(2). في هـ: ما أمطرهم.
(3/260)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252)
" إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنَ
الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ
وَجِيرَانِهِ الْبَلَاءَ". ثُمَّ قَرَأَ ابن عمر" وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ". وَقِيلَ: هَذَا الدَّفْعُ بِمَا شَرَعَ عَلَى
أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَتَسَالَبَ النَّاسُ وَتَنَاهَبُوا وَهَلَكُوا، وَهَذَا
قَوْلٌ حَسَنٌ فَإِنَّهُ عُمُومٌ فِي الْكَفِّ وَالدَّفْعِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ. (وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ). بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ
دَفْعَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ شَرَّ الْكَافِرِينَ فَضْلٌ
مِنْهُ ونعمة.
[سورة البقرة (2): آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
(تِلْكَ) ابْتِدَاءٌ (آياتُ اللَّهِ) خَبَرُهُ، وَإِنْ
شِئْتَ كَانَ بَدَلًا وَالْخَبَرُ (نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ). (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، خَبَرُ
إِنَّ أَيْ وَإِنَّكَ لَمُرْسَلٌ. نَبَّهَ اللَّهُ
تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَا
يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
[سورة البقرة (2): آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
(253)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ) قَالَ:" تِلْكَ"
وَلَمْ يَقُلْ: ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ لَفْظِ
الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَ"
الرُّسُلُ" نَعْتُهُ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ الْجُمْلَةُ.
وَقِيلَ: الرُّسُلُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَ (فَضَّلْنا)
الْخَبَرُ. وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَالْأَحَادِيثُ
ثَابِتَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ"
وَ" لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ" رَوَاهَا
الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ، أَيْ لَا تَقُولُوا: فُلَانٌ
خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْ
فُلَانٍ. يُقَالُ: خَيَّرَ فُلَانٌ بَيْنَ فُلَانٍ
وَفُلَانٍ، وَفَضَّلَ،
(3/261)
(مُشَدَّدًا) إِذَا قَالَ ذَلِكَ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْمَعْنَى،
فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى
إِلَيْهِ بِالتَّفْضِيلِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ
لِلْمَنْعِ مِنَ التَّفْضِيلِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ:" أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ
آدَمَ" يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الشَّافِعُ
يَوْمَئِذٍ وَلَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَالْحَوْضُ،
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:" لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى"
عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
وُلِّيتُكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى
قَوْلِهِ:" لَا يَقُلْ أَحَدٌ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ
بْنِ مَتَّى" عَلَى مَعْنَى التَّوَاضُعِ. وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «1» " مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: وَلَا تَكُنْ مِثْلَهُ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ قَوْلَهُ:" لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ" مِنْ
طَرِيقِ التَّوَاضُعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ لَا
تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ فَلَعَلَّهُ
أَفْضَلُ عَمَلًا مِنِّي، وَلَا فِي الْبَلْوَى
وَالِامْتِحَانِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِحْنَةً مِنِّي.
وَلَيْسَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السودد وَالْفَضْلِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَفْضِيلِ اللَّهِ إِيَّاهُ
وَاخْتِصَاصِهِ لَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ اخْتَارَهُ
الْمُهَلَّبُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ
الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي ذَلِكَ
ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجِدَالِ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ
يَذْكُرَ مِنْهُمْ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ
وَيَقِلَّ احْتِرَامُهُمْ عِنْدَ الْمُمَارَاةِ. قَالَ
شَيْخُنَا: فَلَا يُقَالُ: النَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَلَا مِنْ فُلَانٍ وَلَا
خَيْرٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ النَّهْيِ «2» لِمَا
يُتَوَهَّمُ مِنَ النقص في المفضول، لان النهى اقتضى منه
إِطْلَاقِ اللَّفْظِ لَا مَنْعَ اعْتِقَادِ ذَلِكَ
الْمَعْنَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ
الرُّسُلَ مُتَفَاضِلُونَ، فَلَا تَقُولُ: نَبِيُّنَا
خَيْرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ فُلَانٍ النَّبِيِّ
اجْتِنَابًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَتَأَدُّبًا بِهِ
وَعَمَلًا بِاعْتِقَادِ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ
التَّفْضِيلِ، وَاللَّهُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ عَلِيمٌ.
قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ
النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا
تَفَاضُلَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ فِي زِيَادَةِ
الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ وَالْأَلْطَافِ
وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَبَايِنَاتِ، وَأَمَّا
النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ وَإِنَّمَا
تَتَفَاضَلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةٍ عَلَيْهَا،
وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ وَأُولُو عَزْمٍ، وَمِنْهُمْ
مَنِ اتُّخِذَ خَلِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله
__________
(1). راجع ج 18 ص 253.
(2). في هـ: النص.
(3/262)
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1»
" وَقَالَ:" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى
بَعْضٍ". قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ جَمَعَ
بَيْنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ،
وَالْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِنَّمَا
هُوَ بِمَا مُنِحَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَأُعْطِيَ مِنَ
الْوَسَائِلِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى هَذَا
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَقَالُوا:
بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ
السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:"
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «2» ".
وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3»
". قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «4» "
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ «5» " فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"
ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: خَيْرُ بَنِي آدَمَ نُوحٌ
وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ فِي التَّعْيِينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ
أُرْسِلَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يُرْسَلْ، فَإِنَّ مَنْ
أُرْسِلَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِالرِّسَالَةِ
وَاسْتَوَوْا فِي النُّبُوَّةِ إِلَى مَا يَلْقَاهُ
الرُّسُلُ مِنْ تَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ
إِيَّاهُمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ فِيهِ، إِلَّا
أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْحَقِّ
قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ، وَذَلِكَ
فِي الْجُمْلَةِ دُونَ تَعْيِينِ أَحَدٍ مَفْضُولٍ،
وَكَذَلِكَ هِيَ الْأَحَادِيثُ، وَلِذَلِكَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَا
أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي" وَقَالَ:" أَنَا
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" وَقَالَ:" لَا
تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى". وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَفِي هَذَا نَهْيٌ شَدِيدٌ عَنْ تَعْيِينِ الْمَفْضُولِ،
لِأَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَابًّا
وَتَفَسَّخَ «6» تَحْتَ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ. فَإِذَا
كَانَ التَّوْقِيفُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فغيره أحرى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 278.
(2). راجع ج 11 ص 272.
(3). راجع ج 16 ص 260
(4). راجع ج 9 ص 340
(5). راجع ج 14 ص 300
(6). يقال: تفسخ البعير تحت الحمل الثقيل إذا لم يطقه.
(3/263)
قُلْتُ: مَا اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
أَخْبَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلَ
يُبَيِّنُ بَعْضَ الْمُتَفَاضِلِينَ وَيَذْكُرُ
الْأَحْوَالَ الَّتِي فُضِّلُوا بِهَا فَقَالَ:" مِنْهُمْ
مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ" وَقَالَ"
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» " وَقَالَ تَعَالَى:"
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ «2» "،" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى
وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ
«3» " وَقَالَ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ
وَسُلَيْمانَ عِلْماً «4» " وَقَالَ:" وَإِذْ أَخَذْنا
مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «5»
" فَعَمَّ ثُمَّ خَصَّ وَبَدَأَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. قُلْتُ:
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الصَّحَابَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، اشْتَرَكُوا فِي الصُّحْبَةِ ثُمَّ تَبَايَنُوا
فِي الْفَضَائِلِ بِمَا مَنَحَهُمُ اللَّهُ مِنَ
الْمَوَاهِبِ وَالْوَسَائِلِ، فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ
بِتِلْكَ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ شَمَلَتْهُمُ الصُّحْبَةُ
وَالْعَدَالَةُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُكَ
بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «6» "
إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ:" وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها «7»
" ثُمَّ قَالَ:" لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ «8» " وَقَالَ:" لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ «9» " فَعَمَّ وَخَصَّ، وَنَفَى
عَنْهُمُ الشَّيْنَ وَالنَّقْصَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ وَنَفَعَنَا بِحُبِّهِمْ آمِينَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) الْمُكَلَّمُ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ سُئِلَ رسوله اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَمَ أَنَبِيٌّ
مُرْسَلٌ هُوَ؟ فَقَالَ:" نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ".
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ
أَنَّ تَكْلِيمَ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى
هَذَا تَبْقَى خَاصِّيَّةُ مُوسَى. وَحُذِفَتِ الْهَاءُ
لِطُولِ الِاسْمِ، وَالْمَعْنَى مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قَالَ
النَّحَّاسُ: بَعْضَهُمْ هُنَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ
وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ «10» مَسِيرَةَ شهر
وأحلت لي الغنائم وأعطيت
__________
(1). راجع ج 6 ص 17. [ ..... ]
(2). راجع ج 17 ص 262 وص 239.
(3). راجع ج 11 ص 295.
(4). راجع ج 13 ص 163.
(5). راجع ج 14 ص 126
(6). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(7). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(8). راجع ج 17 ص 262 وص 239.
(9). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(10). الرعب: الخوف والفزع. كان أعداء النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوقع الله تعالى في قلوبهم
الخوف، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه.
(عن النهاية).
(3/264)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا
خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (254)
الشَّفَاعَةَ". وَمِنْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ
وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَتَكْلِيمُهُ الشَّجَرَ
وَإِطْعَامُهُ الطَّعَامَ خَلْقًا عَظِيمًا مِنْ
تُمَيْرَاتٍ وَدُرُورِ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ بَعْدَ
جَفَافٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَعْنَاهُ، وَزَادَ:
وَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ أُمَّةً وَخُتِمَ بِهِ
النَّبِيُّونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخُلُقِ
الْعَظِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَيَحْتَمِلُ
اللَّفْظُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ عَظُمَتْ آيَاتُهُ،
وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْكِيدًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يُرِيدَ بِهِ رَفْعَ إِدْرِيسَ الْمَكَانَ الْعَلِيَّ،
وَمَرَاتِبُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاءِ كَمَا فِي
حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَسَيَأْتِي. وَبَيِّنَاتُ عِيسَى
هِيَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ
وَالْأَبْرَصِ وَخَلْقُ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ كَمَا
نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ. (وَأَيَّدْناهُ)
قَوَّيْنَاهُ. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) أَيْ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَعِيسَى، وَالِاثْنَانِ جَمْعٌ.
وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ
اللَّفْظِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا وَقَعَ
مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
الْمَعْنَى، بَلِ الْمُرَادُ مَا اقْتَتَلَ النَّاسُ
بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ
خَيْلًا ثُمَّ بِعْتُهَا، فَجَائِزٌ لَكَ هَذِهِ
الْعِبَارَةُ وَأَنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَ فَرَسًا
وَبِعْتَهُ ثُمَّ آخَرَ وَبِعْتَهُ ثُمَّ آخَرَ
وَبِعْتَهُ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ النَّوَازِلُ إِنَّمَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بَغْيًا وَحَسَدًا وَعَلَى
حُطَامِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ
وَإِرَادَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ شَاءَ خِلَافَ
ذَلِكَ لَكَانَ وَلَكِنَّهُ الْمُسْتَأْثِرُ بِسِرِّ
الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِمَا يُرِيدُ.
وَكُسِرَتِ النُّونُ مِنْ" وَلكِنِ اخْتَلَفُوا"
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ حَذْفُهَا فِي
غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فَلَسْتُ بِآتِيهِ وَلَا أَسْتَطِيعُهُ ... وَلَاكِ
اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ
«2» (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) "
مَنْ" في موضع رفع بالابتداء والصفة.
[سورة البقرة (2): آية 254]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ
فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (254)
__________
(1). ج 2 ص 24.
(2). البيت للنجاشي، وصف أنه اصطحب ذئبا في فلاة مضلة لا
ماء فيها، وزعم أن الذئب رد عليه فقال: لست بآت ما دعوتني
إليه من الصحبة ولا أستطيعه لأنني وحشي وأنت إنسى ولكن
اسقني إن كأن ماؤك فاضلا عن ربك (عن شرح الشواهد
للشنتمري).
(3/265)
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ تَجْمَعُ الزَّكَاةَ
الْمَفْرُوضَةَ وَالتَّطَوُّعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ
فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ
بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ يَتَرَجَّحُ
مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ فِي آخِرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ:"
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" أَيْ فَكَافِحُوهُمْ
بِالْقِتَالِ بِالْأَنْفُسِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ إِنْفَاقُ
الْأَمْوَالِ مَرَّةً وَاجِبًا وَمَرَّةً نَدْبًا بِحَسَبِ
تَعَيُّنِ الْجِهَادِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ. وَأَمَرَ
تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ
اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ
الْإِمْسَاكِ إلى أن يجئ يَوْمٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ بَيْعٌ
وَلَا شِرَاءٌ وَلَا اسْتِدْرَاكُ نَفَقَةٍ، كَمَا قَالَ:"
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ «1» ". وَالْخُلَّةُ: خَالِصُ الْمَوَدَّةِ،
مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ بَيْنَ
الصَّدِيقَيْنِ. وَالْخِلَالَةُ وَالْخَلَالَةُ
وَالْخُلَالَةُ: الصَّدَاقَةُ وَالْمَوَدَّةُ، قَالَ
الشَّاعِرُ «2»:
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلَالَتُهُ
كَأَبِي مَرْحَبَ
وَأَبُو مَرْحَبٍ كُنْيَةُ الظِّلِّ، وَيُقَالُ: هُوَ
كُنْيَةُ عُرْقُوبٍ الَّذِي قِيلَ فِيهِ: مَوَاعِيدُ
عُرْقُوبٍ. وَالْخُلَّةُ (بِالضَّمِّ أَيْضًا): مَا خَلَا
مِنَ النَّبْتِ، يُقَالُ: الْخُلَّةُ خُبْزُ الْإِبِلِ
وَالْحَمْضُ فَاكِهَتُهَا. وَالْخَلَّةُ (بِالْفَتْحِ):
الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ. وَالْخَلَّةُ: ابْنُ مَخَاضٍ،
عَنِ الْأَصْمَعِيِّ. يُقَالُ: أَتَاهُمْ بِقُرْصٍ
كَأَنَّهُ فِرْسِنُ «3» خَلَّةٍ. وَالْأُنْثَى خَلَّةٌ
أَيْضًا. وَيُقَالُ لِلْمَيِّتِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ
خَلَّتَهُ، أَيِ الثُّلْمَةَ الَّتِي تَرَكَ.
وَالْخَلَّةُ: الْخَمْرَةُ الْحَامِضَةُ. وَالْخِلَّةُ
(بِالْكَسْرِ): وَاحِدَةُ خِلَلِ السُّيُوفِ، وَهِيَ
بَطَائِنُ كَانَتْ تُغْشَى بِهَا أَجْفَانُ السُّيُوفِ
مَنْقُوشَةٌ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَيْضًا
سُيُورٌ تُلْبَسُ ظَهْرَ سِيَتَيِ «4» الْقَوْسِ.
وَالْخِلَّةُ أَيْضًا: مَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ.
وَسَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ «5» " اشْتِقَاقُ الْخَلِيلِ
وَمَعْنَاهُ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَّا خُلَّةَ
فِي الْآخِرَةِ وَلَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَحَقِيقَتُهَا رَحْمَةٌ مِنْهُ تَعَالَى شَرَّفَ بِهَا
الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ. وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"
__________
(1). راجع ج 18 ص 130.
(2). هو النابغة الجعدي، كما في اللسان.
(3). الفرسن (بكسر الفاء والسين وسكون الراء): عظم قليل
اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة. [ ..... ]
(4). سية القوس: ما عطف من طرفيها.
(5). راجع ج 5 ص 399
(3/266)
بِالنَّصْبِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ،
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ"" لَا بَيْعَ فِيهِ
وَلَا خِلَالَ «1» " وَفِي" الطُّورِ"" لَا لَغْوَ فِيهَا
وَلَا تَأْثِيمَ «2» " وَأَنْشَدَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
أَلَا طِعَانَ وَلَا فُرْسَانَ عَادِيَةٌ ... إِلَّا
تَجَشُّؤُكُمْ عِنْدَ التَّنَانِيرِ «3»
وَأَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ مُغَيِّرَةٍ عَمَلَ" لَا"
كَقَوْلِكَ: أَلَا رَجُلَ عِنْدَكَ، وَيَجُوزُ أَلَا
رَجُلَ وَلَا امْرَأَةَ كَمَا جَازَ فِي غَيْرِ
الِاسْتِفْهَامِ فَاعْلَمْهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
جَمِيعَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، كَمَا قَالَ
الرَّاعِيُّ:
وَمَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتُ مُعْلِنَةً ... لَا
نَاقَةٌ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلُ
وَيُرْوَى" وَمَا هَجَرْتُكِ" فَالْفَتْحُ عَلَى النَّفْيِ
الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ لِجَمِيعِ الْوُجُوهِ مِنْ
ذَلِكَ الصِّنْفِ، كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: هَلْ
فِيهِ مِنْ بَيْعٍ؟ فَسَأَلَ سُؤَالًا عَامًّا فَأُجِيبَ
جَوَابًا عَامًّا بِالنَّفْيِ. وَ" لَا" مَعَ الِاسْمِ
الْمَنْفِيِّ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ" فِيهِ". وَإِنْ
شِئْتَ جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله" لَا" بِمَنْزِلَةِ
لَيْسَ. وَجَعَلَ الْجَوَابَ غَيْرَ عَامٍّ، وَكَأَنَّهُ
جَوَابُ مَنْ قَالَ: هَلْ فِيهِ بَيْعٌ؟ بِإِسْقَاطِ مَنْ،
فَأَتَى الْجَوَابُ غَيْرَ مُغَيِّرٍ عَنْ رَفْعِهِ،
وَالْمَرْفُوعُ مُبْتَدَأٌ أَوِ اسْمُ لَيْسَ وَ" فِيهِ"
الْخَبَرُ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ،
لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي
غَيْرِ الْقُرْآنِ لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ،
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِرَجُلٍ مِنْ مَذْحِجٍ: هَذَا
لَعَمْرُكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ لَا أُمَّ لِي إِنْ
كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ وَيَجُوزُ أَنْ تَبْنِيَ
الْأَوَّلَ وَتَنْصِبَ الثَّانِي وَتُنَوِّنَهُ فَتَقُولُ:
لَا رَجُلَ فِيهِ وَلَا امْرَأَةً، وَأَنْشَدَ
سِيبَوَيْهِ:
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةْ ... اتَّسَعَ
الْخَرْقُ على الراقع
فلا زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، الْأَوَّلُ عَطْفٌ
عَلَى الْمَوْضِعِ وَالثَّانِي عَلَى اللَّفْظِ. وَوَجْهٌ
خَامِسٌ أَنْ تَرْفَعَ الْأَوَّلَ وَتَبْنِيَ الثَّانِي
كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ فِيهَا وَلَا امْرَأَةَ، قَالَ
أُمَيَّةُ:
فَلَا لَغْوٌ وَلَا تَأْثِيمَ فِيهَا ... وَمَا فَاهُوا
بِهِ أَبَدًا مُقِيمَ
__________
(1). راجع ج 9 ص 366.
(2). راجع ج 17 ص 66
(3). يقول هذا لبنى الحارث بن كعب ومنهم النجاشي وكان
يهاجيه فجعلهم أهل نهم وحرص على الطعام لا أهل غارة وقتال.
والعادية: المستطيلة. ويروى غادية (بالغين المعجمة) وهى
التي تغدو للغارة، وعادية أعم لأنها تكون بالغداة وغيرها.
(عن شرح الشواهد للشنتمري).
(3/267)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ الْأَوْجُهُ
جَائِزَةٌ فِي قَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
(وَالْكافِرُونَ) ابْتِدَاءٌ. (هُمُ) ابْتِدَاءٌ ثَانٍ،
(الظَّالِمُونَ) خَبَرُ الثَّانِي، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ"
هُمُ" زَائِدَةً لِلْفَصْلِ وَ" الظَّالِمُونَ" خَبَرُ"
الْكافِرُونَ". قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي قَالَ:" وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ" وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هم
الكافرون.
[سورة البقرة (2): آية 255]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ
بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
(255)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ
سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ وَأَعْظَمُ آيَةٍ، كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَنَزَلَتْ لَيْلًا
وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زَيْدًا فَكَتَبَهَا. رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفَيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ
الْكُرْسِيِّ خَرَّ كُلُّ صَنَمٍ فِي الدُّنْيَا،
وَكَذَلِكَ خَرَّ كُلُّ مَلِكٍ في الدنيا وسقطت التيجان عن
رؤوسهم، وَهَرَبَتِ الشَّيَاطِينُ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ «1» إِلَى أَنْ أَتَوْا إِبْلِيسَ
فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ
ذَلِكَ، فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ
آيَةَ الْكُرْسِيِّ قَدْ نَزَلَتْ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا أَبَا
الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، قَالَ:" يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ
آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ
قُلْتُ:" اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ" فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ:" لِيَهْنِكَ
الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ". زَادَ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ الله:" فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ
إِنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ". قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ: فَهَذِهِ آيَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ جَلَّ
ذِكْرُهُ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِقَارِئِهَا عَاجِلًا
وَآجِلًا، فَأَمَّا فِي الْعَاجِلِ فَهِيَ حَارِسَةٌ
لِمَنْ قَرَأَهَا مِنَ الْآفَاتِ، وَرُوِيَ لَنَا عَنْ
نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّهُ قال: آية الكرسي تدعى في
التوراة
__________
(1). في هـ: فاجتمعوا إلى إبليس.
(3/268)
وَلِيَّةُ اللَّهِ. يُرِيدُ يُدْعَى
قَارِئُهَا فِي مَلَكُوتِ السموات والأرض عزيزا، قال: فكان
عبد الرحمن ابن عَوْفٍ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَرَأَ آيَةَ
الْكُرْسِيِّ فِي زَوَايَا بَيْتِهِ الْأَرْبَعِ،
مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يَلْتَمِسُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ
لَهُ حَارِسًا مِنْ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، وَأَنْ
تَنْفِيَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ مِنْ زَوَايَا بَيْتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَارَعَ جِنِّيًّا
فَصَرَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ
الْجِنِّيُّ: خَلِّ عَنِّي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا
تَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَّا، فَخَلَّى عَنْهُ وَسَأَلَهُ
فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنَّا بِآيَةِ
الْكُرْسِيِّ. قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ، وفى الخبر: مَنْ
قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ كَانَ
الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ رُوحِهِ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ، وَكَانَ كَمَنْ قَاتَلَ مَعَ أَنْبِيَاءِ
اللَّهِ حَتَّى يُسْتَشْهَدَ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى
أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ:" مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ
دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ
الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ وَلَا يُوَاظِبُ عَلَيْهَا
إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ عَابِدٌ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا
أَخَذَ مَضْجَعَهُ آمَنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ وَالْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ".
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَذَكَرَ قِصَّةً
وَفِيهَا: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ
يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا
فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ:" مَا هِيَ"؟ قُلْتُ قَالَ
لِي: إِذَا آوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ
الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ" اللَّهُ
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وَقَالَ
لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا
يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا «1» أحرص شي عَلَى
الْخَيْرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أَمَّا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ
تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ"؟ قَالَ: لَا، قَالَ:" ذَاكَ شَيْطَانٌ". وَفِي
مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ
الشَّعْبِيُّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقِيَ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْجِنِّ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ
الْإِنْسِيُّ، فَقَالَ لَهُ الْإِنْسِيُّ: إِنِّي
لَأَرَاكَ ضَئِيلًا شَخِيتًا كَأَنَّ ذُرَيْعَتَيْكَ
ذُرَيْعَتَا كَلْبٍ فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ
الْجِنِّ، أَمْ أَنْتَ مِنْ بَيْنِهِمْ كَذَلِكَ؟ قَالَ:
لَا وَاللَّهِ! إِنِّي مِنْهُمْ لَضَلِيعٌ وَلَكِنْ
عَاوِدْنِي الثَّانِيَةَ فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلَّمْتُكَ
شَيْئًا يَنْفَعُكَ، قَالَ نَعَمْ، فصرعه، قال:
__________
(1). الضمير في" كانوا" راجع إلى الصحابة. قال القسطلاني:"
وكان الأصل أن يقول" كنا" لكنه على طريق الالتفات، وقيل هو
مدرج من كلام بعض رواته".
(3/269)
تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ:" اللَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: فَإِنَّكَ تَقْرَأْهَا فِي بَيْتٍ إِلَّا خَرَجَ
مِنْهُ الشَّيْطَانُ لَهُ خَبَجٌ كَخَبَجِ الْحِمَارِ
ثُمَّ لَا يَدْخُلُهُ حَتَّى يُصْبِحَ. أَخْرَجَهُ أَبُو
نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ
الشَّعْبِيِّ. وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ
حَدِيثِ عُمَرَ حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي
عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: أَهُوَ عُمَرُ؟
فَقَالَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا عُمَرَ!. قَالَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ: الضَّئِيلُ: الدَّقِيقُ،
وَالشَّخِيتُ: الْمَهْزُولُ، وَالضَّلِيعُ: جَيِّدُ
الْأَضْلَاعِ، وَالْخَبَجُ: الرِّيحُ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: الْخَبَجُ: الضُّرَاطُ، وَهُوَ الْحَبَجُ
أَيْضًا بِالْحَاءِ. وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَرَأَ حم- الْمُؤْمِنَ- إِلَى
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ
حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ
يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ" قَالَ: حَدِيثٌ
غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ: وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نُدِبُوا إِلَى
الْمُحَافَظَةِ عَلَى قِرَاءَتِهَا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ.
عَنْ أَنَسٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ
آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَعْطَيْتُهُ
فَوْقَ مَا أُعْطِي «1» الشَّاكِرِينَ وَأَجْرَ
النَّبِيِّينَ وَأَعْمَالَ الصِّدِّيقِينَ وَبَسَطْتُ
عَلَيْهِ يَمِينِي بِالرَّحْمَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ
أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ" قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ
مَنْ سَمِعَ بِهَذَا لَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ:"
إِنِّي لَا أُعْطِيهِ مِنْ عِبَادِي إِلَّا لِنَبِيٍّ أَوْ
صِدِّيقٍ أَوْ رَجُلٍ أُحِبُّهُ «2» أَوْ رَجُلٍ أُرِيدَ
قَتْلَهُ فِي سَبِيلِي". وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا مُوسَى مَنْ قَرَأَ آيَةَ
الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَعْطَيْتُهُ
ثَوَابَ الْأَنْبِيَاءِ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
مَعْنَاهُ عِنْدِي أَعْطَيْتُهُ ثَوَابَ عَمَلِ
الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا ثَوَابُ النُّبُوَّةِ فَلَيْسَ
لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ
تَضَمَّنَتِ التَّوْحِيدَ وَالصِّفَاتِ الْعُلَا، وَهِيَ
خَمْسُونَ كَلِمَةً، وَفِي كُلِّ كَلِمَةٍ خَمْسُونَ
بَرَكَةً، وَهِيَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَرَدَ
بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَ"
اللَّهُ" مُبْتَدَأٌ، و" لَا إِلهَ" مُبْتَدَأٌ ثَانٍ
وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَعْبُودٌ أَوْ
مَوْجُودٌ. وَ" إِلَّا هُوَ" بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعٍ لَا
إِلَهَ. وَقِيلَ:" اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ"
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ مَحْمُولٌ عَلَى
الْمَعْنَى، أَيْ مَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَيَجُوزُ فِي
غَيْرِ الْقُرْآنِ لَا إله إلا إياه، نصب على
__________
(1). في الأصول:" ... أعطيته قلوب الشاكرين" والتصويب عن
كتاب" السر القدسي في تفسير آية الكرسي".
(2). في هـ: اجتبيته.
(3/270)
الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي
حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ آيَةٍ أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ:" اللَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ
الْكُرْسِيِّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّهُ
يُكَرَّرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ مُضْمَرٍ
وَظَاهِرٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَرَّةً. (الْحَيُّ
الْقَيُّومُ) نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ شِئْتَ
كَانَ بَدَلًا مِنْ" هُوَ"، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ خَبَرًا
بَعْدَ خَبَرٍ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ.
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ النَّصْبُ عَلَى
الْمَدْحِ. وَ" الْحَيُّ" اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ
الْحُسْنَى يُسَمَّى بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْمُ
اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ
أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى يَدْعُو بهذا الدعاء: ياحي يَا
قَيُّومُ. وَيُقَالُ: إِنَّ آصَفَ بْنَ بَرْخِيَا لَمَّا
أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ إِلَى سليمان
دعا بقوله ياحي يَا قَيُّومُ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى عَنِ اسْمِ اللَّهِ
الْأَعْظَمِ فَقَالَ لَهُمْ: أيا هيا شرا هيا، يَعْنِي يَا
حَيُّ يَا قَيُّومُ. وَيُقَالُ: هُوَ دُعَاءُ أَهْلِ
الْبَحْرِ إِذَا خَافُوا الْغَرَقَ يَدْعُونَ بِهِ. قَالَ
الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: إِنَّهُ يُقَالُ حَيٌّ قَيُّومٌ
كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ
يُنْظَرَ فِيهِ. وَقِيلَ: سَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا
لِصَرْفِهِ الْأُمُورَ مَصَارِيفَهَا وَتَقْدِيرِهِ
الْأَشْيَاءَ مَقَادِيرَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَيُّ
الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ
بِالْحَيِّ الْبَاقِي. قَالَ لَبِيَدٌ:
فَإِمَّا تَرِينِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سالما ... ولست
بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ
الْأَعْظَمُ. (الْقَيُّومُ) مِنْ قَامَ، أَيِ الْقَائِمُ
بِتَدْبِيرِ مَا خَلَقَ، عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ حَتَّى يُجَازِيَهَا بِعَمَلِهَا، مِنْ حَيْثُ
هُوَ عَالِمٌ بِهَا لَا يَخْفَى عليه شي مِنْهَا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا
يَزُولُ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ
مَعَهَا قَمَرٌ يَقُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالْحَشْرُ
وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ
إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ
(3/271)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي"
عُيُونِ التَّفْسِيرِ" لِإِسْمَاعِيلَ الضرير تَفْسِيرِ
الْقَيُّومِ قَالَ: وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَا يَنَامُ،
وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
عَقِيبَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ:" لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْقَيُّومُ الَّذِي
لَا بدئ «1» لَهُ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ.
وَأَصْلُ قَيُّومٍ قَيْوُومٌ اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ
وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ
فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ قَلْبِ
الْوَاوِ يَاءً، وَلَا يَكُونُ قَيُّومٌ فَعُّولًا،
لِأَنَّهُ مِنَ الواو فكان يكون قيووما. وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ"
الْحَيُّ الْقَيَّامُ" بِالْأَلِفِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عُمَرَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ
الْقَيُّومَ أَعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَصَحُّ بِنَاءً
وَأَثْبَتُ عِلَّةً. والقيام مَنْقُولٌ عَنِ الْقَوَّامِ
إِلَى الْقَيَّامِ، صُرِفَ عَنِ الْفَعَّالِ إِلَى
الْفَيْعَالِ، كَمَا قِيلَ لِلصَّوَّاغِ الصَّيَّاغُ،
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ ذَا الْعَرْشِ لَلَّذِي يَرْزُقُ الْنَا ... سَ «2»
وَحَيٌّ عَلَيْهِمْ قَيُّومُ
ثُمَّ نَفَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذَهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ. وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ.
وَالنُّعَاسُ مَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَإِذَا صَارَ فِي
الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا، قَالَ عَدِيُّ بْنُ الرِّقَاعِ
يَصِفُ امْرَأَةً «3» بِفُتُورِ النَّظَرِ:
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ «4» ... فِي
عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وَفَرَّقَ الْمُفَضَّلُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: السِّنَةُ
مِنَ الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ
فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَسْنَانُ
الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ،
حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ
فِيهِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ
الْعَرَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: السِّنَةُ: رِيحُ
النَّوْمِ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ
الْإِنْسَانُ. قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ فُتُورٌ
يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَلَا يَفْقِدُ مَعَهُ عَقْلَهُ.
وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَا يُدْرِكُهُ خَلَلٌ وَلَا يَلْحَقُهُ مَلَلٌ بِحَالٍ
مِنَ الْأَحْوَالِ. وَالْأَصْلُ فِي سِنَةٍ وَسْنَةٌ حذفت
الواو
__________
(1). في الأصول:" لا بديل له" والتصويب عن اللسان.
(2). في ج: الخلق.
(3). هذا البيت في وصف ظبي، وقيل هذا البيت:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم
القاسم
كأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم.
(4). رنق النوم في عينيه: خالطها.
(3/272)
كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَسِنَ «1».
وَالنَّوْمُ هُوَ الْمُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ
الذِّهْنُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَ"
لَا" تَوْكِيدٌ. قُلْتُ: وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ فِي هَذَا
الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ
مُوسَى عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ:" وَقَعَ فِي نَفْسِ
مُوسَى هَلْ يَنَامُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَرْسَلَ
اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ
أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا قَالَ فَجَعَلَ
يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ
يَسْتَيْقِظُ فَيُنَحِّي إحداهما عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى
نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ
الْقَارُورَتَانِ- قَالَ- ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا أن
لو كان ينام لم تمتسك «2» السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ" وَلَا
يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أَيْ بِالْمِلْكِ فَهُوَ
مَالِكُ الْجَمِيعِ وَرَبُّهُ. وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِ"
مَا" وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ
حَيْثُ الْمُرَادُ الْجُمْلَةُ وَالْمَوْجُودُ. قَالَ
الطَّبَرِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالَ
الْكُفَّارُ: مَا نَعْبُدُ أَوْثَانًا إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ) " مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَ" ذَا"
خَبَرُهُ، وَ" الَّذِي" نَعْتٌ لِ" ذَا"، وَإِنْ شِئْتَ
بَدَلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" ذَا" زَائِدَةٌ كَمَا
زِيدَتْ مَعَ" مَا" لِأَنَّ" مَا" مُبْهَمَةٌ فَزِيدَتْ"
ذَا" مَعَهَا لِشَبَهِهَا بِهَا. وَتَقَرَّرَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي
الشَّفَاعَةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ
وَالْمُجَاهِدُونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ
أَكْرَمَهُمْ وَشَرَّفَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ لَا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى، كَمَا قَالَ:" وَلا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» " قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ
وَالصَّالِحِينَ يَشْفَعُونَ فِيمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى
النَّارِ وَهُوَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَوْ وَصَلَ
وَلَكِنْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ
فِي" بَابٌ بَقِيَّةٌ مِنْ أبو أب الرُّؤْيَةِ": إِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّ إِخْوَانَنَا
كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا.
وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِيمَنْ يَقْرُبُ أَمْرُهُ، وَكَمَا
يَشْفَعُ الطِّفْلُ الْمُحْبَنْطِئُ «4» عَلَى بَابِ
الْجَنَّةِ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي قراباتهم ومعارفهم.
وإن الأنبياء يشفعون فيمن
__________
(1). الذي في كتب اللغة أن الفعل من باب" فرح". [ ..... ]
(2). في ابن عطية: تستمسك. وفى هـ، چ، ز: تمسك.
(3). راجع ج 11 ص 381.
(4). المحبنطئ: اللازق بالأرض، وفى الحديث" إن السقط يظلل
محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ. (بالهمز
وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع امتناع
يظل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ
(بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء، وقيل: هو الممتنع
امتناع طلبة لا امتناع إباء.
(3/273)
حَصَلَ فِي النَّارِ مِنْ عُصَاةِ
أُمَمِهِمْ بِذُنُوبٍ دُونَ قُرْبَى وَلَا مَعْرِفَةٍ
إِلَّا بِنَفْسِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ تَبْقَى شَفَاعَةُ
أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ فِي الْمُسْتَغْرِقِينَ [في
الخطايا «1» و]- الذنوب الَّذِينَ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ
شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيلِ
الْحِسَابِ فَخَاصَّةٌ لَهُ. قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَ
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ كَيْفِيَّةَ الشَّفَاعَةِ بَيَانًا
شَافِيًا، وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ
وَأَنَّ الشَّافِعِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيُخْرِجُونَ
مِنْهَا أُنَاسًا اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، فَعَلَى هَذَا
لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ شَفَاعَتَانِ:
شَفَاعَةٌ فِيمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى النَّارِ،
وَشَفَاعَةٌ فِيمَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا،
أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا. فَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:" ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى
جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ
سَلِّمْ سَلِّمْ- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ «2» مَزِلَّةٌ فِيهَا خَطَاطِيفُ
وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ «3» تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا
شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ
الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ
وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ
وَالرِّكَابِ «4» فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ «5»
مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ «6» فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى
إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ
مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ
رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ
وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ
عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ
إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ
يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ
أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ ارْجِعُوا
فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ
خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا،
ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا
مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثم يقول ارجعوا
__________
(1). في هـ.
(2). قال النووي: هو بتنوين" دحض" ودال مفتوحة والحاء
ساكنة، و" مزلة" بفتح الميم وفى الزاي لغتان الفتح والكسر،
والدحض، والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه
الاقدام ولا تستقر.
(3). الحسكة (بالتحريك): واحدة الحسك وهو نبات له ثمرة
خشنة تعلق بأصواف الغنم يعمل من الحديد على مثاله، وهو
آلات العسكر يلقى حوله لتنشب في رجل من يدوسها من الخيل
والناس الطارقين له. والسعدان منبته سهول الأرض وهو من
أطيب مراعى الإبل ما دام رطبا.
(4). الركاب: الإبل التي يسار عليها، ولا واحد لهام لفظها.
(5). مخدوش مرسل أي مجروح مطلق من القيد.
(6). مكدوس أي مدفوع في جهنم. قال ابن الأثير: وتكدس
الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ويروى بالشين المعجمة من
الكدش وهو السوق الشديد، والطرد والجرح أيضا.
(3/274)
فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار مِنْ
خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا
ثُمَّ يقولون ربنا لم نذر فيها أحد مِمَّنْ أَمَرْتَنَا
بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ،
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا
لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا" وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ
يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ
فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «1» "-"
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ
وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ
يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً
مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا
خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا «2» " وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَأَقُولُ يَا رَبِّ
ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ- أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ
إِلَيْكَ- وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي
[وَجِبْرِيَائِي «3»] لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ". وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أبى هريرة عنه
عليه الصلاة وسلم:" حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ
الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ
لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ
يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ
ابْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ"
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. قُلْتُ: فَدَلَّتْ هَذِهِ
الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي
لمن دخله النَّارَ وَحَصَلَ فِيهَا، أَجَارَنَا اللَّهُ!
مِنْهَا وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ:" مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ
أَوْ وَصَلَ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ
أَحَادِيثَ أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ خَرَّجَ
ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" يُصَفُّ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
صُفُوفًا- وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ أَهْلُ الْجَنَّةِ-
فَيَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى الرَّجُلِ
فَيَقُولُ يَا فُلَانُ أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ
اسْتَسْقَيْتَ فَسَقَيْتُكَ شَرْبَةً؟ قَالَ فَيَشْفَعُ
لَهُ وَيَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ أَمَا
تَذْكُرُ يَوْمَ نَاوَلْتُكَ طَهُورًا؟ فَيَشْفَعُ لَهُ-
قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ- وَيَقُولُ يَا فُلَانُ أَمَا
تَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتَنِي لِحَاجَةِ كَذَا وَكَذَا
فَذَهَبْتُ لَكَ؟ فَيَشْفَعُ له".
__________
(1). راجع ج 5 ص 194
(2). الحمم (بضم الحاء وفتح الميم الاولى المخففة): الفحم،
الواحدة حممة كحطمة.
(3). في هـ وب وج.
(3/275)
وَأَمَّا شَفَاعَاتُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلف فيها، فقيل ثلاث
اثْنَتَانِ، وَقِيلَ: خَمْسٌ، يَأْتِي بَيَانُهَا فِي"
سُبْحَانَ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ"
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضَّمِيرَانِ
عَائِدَانِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ
قَوْلُهُ:" لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" الدُّنْيَا"
وَما خَلْفَهُمْ" الْآخِرَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا بَأْسَ بِهِ،
لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْيَدِ هُوَ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ
الْإِنْسَانَ، وَمَا خَلْفَهُ هُوَ كُلُّ مَا يَأْتِي
بَعْدَهُ، وَبِنَحْوِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ قَالَ السُّدِّيُّ
وغيره. قوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى
الْمَعْلُومِ، أَيْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
مَعْلُومَاتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ حين نقر العصفور في البحر: ما نقصى
عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا
نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. فَهَذَا
وَمَا شَاكَلَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، لِأَنَّ
عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ
صِفَةُ ذَاتِهِ لَا يَتَبَعَّضُ»
. وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا مَعْلُومَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ذَكَرَ
ابْنُ عَسَاكِرَ. فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْكُرْسِيُّ لُؤْلُؤَةٌ
وَالْقَلَمُ لُؤْلُؤَةٌ وَطُولُ الْقَلَمِ سَبْعُمِائَةِ
سَنَةٍ وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا
اللَّهُ «3» ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ- وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي
النَّجُودِ- عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ
الْكُرْسِيِّ وَبَيْنَ الْعَرْشِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ
عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ
الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ.
يُقَالُ: كُرْسِيٌّ وَكِرْسِيٌّ وَالْجَمْعُ
الْكَرَاسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُرْسِيُّهُ
عِلْمُهُ. وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَمِنْهُ
الْكُرَّاسَةُ الَّتِي تَضُمُّ الْعِلْمَ، وَمِنْهُ قِيلَ
لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ
عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ.
__________
(1). راجع ج 10 ص 309.
(2). في هـ: لا يتغير. [ ..... ]
(3). في هـ وب وج: حيث لا يعلمه العالمون.
(3/276)
قَالَ الشَّاعِرُ:
يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ...
كَرَاسِيٌّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
أَيْ عُلَمَاءٌ بِحَوَادِثِ الْأُمُورِ. وَقِيلَ:
كُرْسِيُّهُ قُدْرَتُهُ الَّتِي يُمْسِكُ بِهَا السموات
وَالْأَرْضَ، كَمَا تَقُولُ: اجْعَلْ لِهَذَا الْحَائِطِ
كُرْسِيًّا، أَيْ مَا يَعْمِدُهُ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ
قَوْلِ ابن عباس في قول" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قاله
الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «1»
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ"
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قَالَ: عِلْمُهُ. وَسَائِرُ
الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُرْسِيُّ الْمَشْهُورُ
مَعَ الْعَرْشِ. وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنِ السُّدِّيِّ
عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" قَالَ: إِنَّ الصَّخْرَةَ
الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَمُنْتَهَى
الْخَلْقِ عَلَى أَرْجَائِهَا، عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ
وُجُوهٍ: وَجْهُ إِنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ
ثَوْرٍ وَوَجْهُ نَسْرٍ، فَهُمْ قِيَامٌ عَلَيْهَا قد
أحاطوا بالأرضين والسموات، وَرُءُوسُهُمْ تَحْتَ
الْكُرْسِيِّ وَالْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ وَاللَّهُ
وَاضِعٌ كُرْسِيَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كُرْسِيَّيْنِ:
أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْآخَرُ مَوْضُوعٌ عَلَى
الْعَرْشِ. وَفِي رِوَايَةِ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيُّ
عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ" وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" فإن السموات
وَالْأَرْضَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ وَالْكُرْسِيُّ
بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ. وَأَرْبَابُ الْإِلْحَادِ
يَحْمِلُونَهَا عَلَى عِظَمِ الْمُلْكِ وَجَلَالَةِ
السُّلْطَانِ، وَيُنْكِرُونَ وُجُودَ الْعَرْشِ
وَالْكُرْسِيِّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَهْلُ الْحَقِّ
يُجِيزُونَهُمَا، إِذْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ مُتَّسَعٌ
فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ
وَلَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ «2». قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رُوِّينَا أَيْضًا فِي هَذَا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ فِيمَا يُرَى
أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنَ الْعَرْشِ مَوْضِعَ الْقَدَمَيْنِ
مِنَ السَّرِيرِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْمَكَانِ
لِلَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ قَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
ما أعجب شي رَأَيْتَهُ"؟ قَالَ: رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى
رَأْسِهَا مِكْتَلُ طعام فمر فارس فأذراه «3» فقعدت تجمع
__________
(1). ليس في ج وب وهـ عن ابن مسعود.
(2). كذا في ب وهامش هـ. وفى: هـ وا وج وح: المرجل.
والأطيط للرحل لا للرجل كما في اللغة.
(3). كذا في ج وب، وأذراه: رمى به وأطاره.
(3/277)
طَعَامَهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ
فَقَالَتْ لَهُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ
كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا:" لَا قُدِّسَتْ
أُمَّةٌ- أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ- لَا يَأْخُذُ
ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا". قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِ أَبِي مُوسَى" الْكُرْسِيُّ
مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ" يُرِيدُ هُوَ مِنْ عَرْشِ
الرَّحْمَنِ كَمَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ أَسِرَّةِ
الْمُلُوكِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ
الْعَرْشِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْكُرْسِيِّ
إِلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي
الْحَسَنِ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ نَفْسُهُ، وَهَذَا
لَيْسَ بِمُرْضِيٍّ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ
أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ
وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ
الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟
قَالَ:" آيَةُ الْكُرْسِيِّ- ثُمَّ قَالَ- يَا أَبَا ذر ما
السموات السبع مع الكرسي إلا كخلقة مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ
فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ
الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ". أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيُّ
وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السموات
وَالْأَرْضُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ
حَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ
مُنْبِئَةٌ عَنْ عِظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ عِظَمُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ إِذْ لَا يؤده حفظ هذا الامر العظيم. و (يَؤُدُهُ)
مَعْنَاهُ يُثْقِلُهُ، يُقَالُ: آدَنِي الشَّيْءُ
بِمَعْنَى أَثْقَلَنِي وَتَحَمَّلْتُ مِنْهُ الْمَشَقَّةَ،
وَبِهَذَا فَسَّرَ اللَّفْظَةَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَجَائِزٌ
أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَائِزٌ
أَنْ تَكُونَ لِلْكُرْسِيِّ، وَإِذَا كَانَتْ
لِلْكُرْسِيِّ، فَهُوَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَ
(الْعَلِيُّ) يُرَادُ بِهِ عُلُوُّ الْقَدْرِ
وَالْمَنْزِلَةِ لَا عُلُوُّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ
مُنَزَّهٌ عَنِ التَّحَيُّزِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ
قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ
بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ،
وَكَانَ الْوَجْهُ أَلَّا يُحْكَى. وَعَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ
تَسْبِيحًا فِي السموات الْعُلَى: سُبْحَانَ اللَّهِ
الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْعَلِيُّ وَالْعَالِي: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ
لِلْأَشْيَاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَا فُلَانٌ فُلَانًا
أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمْ ...
تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لنسر وكاسر
(3/278)
|