تفسير القرطبي مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
(مَا أَلْوَانُهَا)؟ قَالَ: حُمْرٌ: (هَلْ
فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) «1»؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: (فَمِنْ
أَيْنَ ذَلِكَ)؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَهَذَا
الْغُلَامُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ). وَهَذَا حَقِيقَةُ
الْجِدَالِ وَنِهَايَةٌ فِي تَبْيِينِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة آل عمران (3): آية 67]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ
كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
نَزَّهَهُ تَعَالَى مِنْ دَعَاوِيهِمُ الْكَاذِبَةِ، وَبَيَّنَ
أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلَمْ
يَكُنْ مُشْرِكًا. وَالْحَنِيفُ: الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ
وَيُضَحِّي وَيَخْتَتِنُ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَقَدْ
مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" اشْتِقَاقُهُ «2». وَالْمُسْلِمُ فِي
اللُّغَةِ: الْمُتَذَلِّلُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
الْمُنْطَاعُ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"
مَعْنَى الْإِسْلَامِ»
مستوفى والحمد لله.
[سورة آل عمران (3): آية 68]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ:
وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا أَوْلَى
النَّاسِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ مِنْكَ وَمِنْ غَيْرِكَ،
فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَمَا بِكَ إِلَّا الْحَسَدُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. (أَوْلَى)
مَعْنَاهُ أَحَقُّ، قِيلَ: بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ.
وَقِيلَ بِالْحُجَّةِ. (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) عَلَى
مِلَّتِهِ وَسُنَّتِهِ. (وَهذَا النَّبِيُّ) أَفْرَدَ ذِكْرَهُ
تَعْظِيمًا لَهُ، كما قال" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ" [الرحمن: 68] «4» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَ" هذَا" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ، وَ" النَّبِيُّ"
نَعْتٌ لِهَذَا أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَوْ نُصِبَ لَكَانَ
جَائِزًا فِي الْكَلَامِ عَطْفًا عَلَى الْهَاءِ فِي"
اتَّبَعُوهُ". وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ
نَاصِرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
__________
(1). الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة.
(2). راجع ج 2 ص 139.
(3). راجع ج 2 ص 134.
(4). راجع ج 17 ص 185.
(4/109)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
(إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ
النَّبِيِّينَ وَإِنَّ ولي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي-
ثُمَّ قَرَأَ- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ).
[سورة آل عمران (3): آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
نَزَلَتْ في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وَعَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ حِينَ دَعَاهُمُ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ
وَقُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ إِلَى دِينِهِمْ. وَهَذِهِ
الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ
كُفَّاراً حَسَداً" [البقرة: 109] «1». وَ" مِنْ" عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ،
فَتَكُونُ" مِنْ" لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَمَعْنَى" لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ" أَيْ يُكْسِبُونَكُمُ الْمَعْصِيَةَ
بِالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَالْمُخَالَفَةِ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:" يُضِلُّونَكُمْ" أَيْ
يُهْلِكُونَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ
الْأَتِيُّ «2» بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا
أَيْ هَلَكَ هَلَاكًا. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)
نَفْيٌ وَإِيجَابٌ. (وَما يَشْعُرُونَ) أَيْ يَفْطِنُونَ «3»
أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ:" وَما يَشْعُرُونَ" أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِصِحَّةِ
الْإِسْلَامِ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا، لِأَنَّ
الْبَرَاهِينَ ظاهرة والحجج باهرة، والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 70]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
أَيْ بِصِحَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي عِنْدَكُمْ فِي كُتُبِكُمْ،
عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ «4» الْأَنْبِيَاءِ
الَّتِي أنتم مقرون بها.
[سورة آل عمران (3): آية 71]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
__________
(1). راجع ج 2 ص 70.
(2). الأتي. كل سبع يأتي من حيث لا تعلم. [ ..... ]
(3). ف ج: يقطعون.
(4). في ز: من الآيات البينات التي إلخ.
(4/110)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
اللَّبْسُ الْخَلْطُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
الْبَقَرَةِ «1». وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي
قَبْلَهَا مَعْنَى ذَلِكَ «2». (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) "
وَيَجُوزُ" تَكْتُمُوا" عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ.
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في موضع الحال.
[سورة آل عمران (3): آية 72]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الأشرف ومالك بن الصف وَغَيْرِهِمَا،
قَالُوا لِلسِّفْلَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ، يَعْنِي
أَوَّلَهُ. وَسُمِّيَ وَجْهًا لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ، وَأَوَّلُ
مَا يُوَاجَهُ مِنْهُ أَوَّلُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةٌ ... كَجُمَانَةِ
الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا «3»
وَقَالَ آخَرُ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ
نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارٍ
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَكَذَلِكَ" آخِرَهُ".
وَمَذْهَبُ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُشَكِّكُوا
الْمُسْلِمِينَ. وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ، مِنْ طَافَ
يَطُوفُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى
نَفْسِ طَائِفَةٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَظْهِرُوا الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ فِي
أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ اكْفُرُوا بِهِ آخِرَهُ، فَإِنَّكُمْ
إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ظَهَرَ لِمَنْ يَتَّبِعُهُ ارْتِيَابٌ
فِي دِينِهِ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ إِلَى دِينِكُمْ،
وَيَقُولُونَ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى آمِنُوا بِصَلَاتِهِ فِي أَوَّلِ
النَّهَارِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ،
وَاكْفُرُوا بِصَلَاتِهِ آخِرَ النَّهَارِ إِلَى الْكَعْبَةِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى قِبْلَتِكُمْ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ
جَاءُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ
النهار ورجحوا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالُوا لِلسِّفْلَةِ: هُوَ
حَقٌّ فَاتَّبِعُوهُ، ثُمَّ قَالُوا: حَتَّى نَنْظُرَ فِي
التَّوْرَاةِ ثُمَّ رَجَعُوا فِي آخِرِ النَّهَارِ فَقَالُوا:
قَدْ نَظَرْنَا فِي التَّوْرَاةِ فَلَيْسَ هُوَ بِهِ.
يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ
يُلْبِسُوا عَلَى السفلة وأن يشككوا فيه.
__________
(1). راجع ج 1 ص 340.
(2). في ج: معنى تلك.
(3). البيت للبيد. والجمانة: حبة تحمل من الفضة كالذرة، والذي
في اللسان والتاج: وتضى في وجه الظلام.
(4/111)
وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(73)
[سورة آل عمران (3): آية 73]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ) هَذَا نَهْيٌ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ
لِلسِّفْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ قَوْلِ يَهُودِ
خَيْبَرَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشْكَلُ
مَا فِي السُّورَةِ. فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ
أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ
رَبِّكُمْ لِأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فَإِنَّكُمْ أَصَحُّ
مِنْهُمْ دِينًا. وَ" أَنْ" وَ" يُحاجُّوكُمْ" فِي مَوْضِعِ
خَفْضٍ، أَيْ بِأَنْ يُحَاجُّوكُمْ أَيْ بِاحْتِجَاجِهِمْ،
أَيْ لَا تُصَدِّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا حُجَّةَ
لَهُمْ. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) مِنَ
التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَفَرْقِ الْبَحْرِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْفَضَائِلِ. فَيَكُونُ" أَنْ
يُؤْتى " مُؤَخَّرًا بَعْدَ" أَوْ يُحاجُّوكُمْ"، وَقَوْلُهُ"
إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ" اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا
لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ
مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ،
يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى
أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، فَالْمَدُّ عَلَى
الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي
قَالُوهُ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوهُ،
لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ قَالَتْ لَهُمْ: لَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ
مَا أُوتِيتُمْ، أَيْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ، فَالْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ. وَ" أَنْ" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَفَعَ فِي قَوْلِكَ
أَزَيْدٌ ضَرَبْتَهُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْ
يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ تُصَدِّقُونَ أَوْ
تُقِرُّونَ، أي إيتاء موجود مصدق أو مقربة، أَيْ لَا
تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" أَنْ" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، كَمَا جَازَ فِي
قَوْلِكَ أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ، وَهَذَا أَقْوَى فِي
الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِالْفِعْلِ أَوْلَى،
وَالتَّقْدِيرُ أَتُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى، أَوْ أَتُشِيعُونَ
ذَلِكَ، أَوْ أَتَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَنَحْوَهُ. وَبِالْمَدِّ
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ. وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ:" أَنْ" مَعْنَاهُ" أَلِأَنْ"، فَحُذِفَتْ لَامُ
الْجَرِّ اسْتِخْفَافًا وَأُبْدِلَتْ مَدَّةً، كَقِرَاءَةِ
مَنْ
(4/112)
قرأ" آن كان ذا مال" [القلم: 14] «1» أَيْ
أَلِأَنْ. وَقَوْلُهُ" أَوْ يُحاجُّوكُمْ" عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ رُجُوعٌ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ
تَكُونُ" أَوْ" بِمَعْنَى" أَنْ" لِأَنَّهُمَا حَرْفَا شَكٍّ
وَجَزَاءٍ يُوضَعُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ «2».
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَأَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ. وَمَنْ قَرَأَ
بِتَرْكِ الْمَدِّ قَالَ: إِنَّ النَّفْيَ الْأَوَّلَ دَلَّ
عَلَى إِنْكَارِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ وَلَا تُؤْمِنُوا.
فَالْمَعْنَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ قَالَتْ لَهُمْ: لَا
تُصَدِّقُوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ،
أَيْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ وَلَا حُجَّةَ، فَعَطَفَ عَلَى
الْمَعْنَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْكِتَابِ
وَالْحُجَّةِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَفَلْقِ الْبَحْرِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، أَيْ أَنَّهَا
لَا تَكُونُ إِلَّا فِيكُمْ فَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى
أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينكُمْ.
فَالْكَلَامُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ وَاللَّامُ زَائِدَةٌ. وَمَنِ اسْتَثْنَى لَيْسَ
مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزِ الْكَلَامُ.
وَدَخَلَتْ" أَحَدٌ" لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ نَفْيٌ،
فَدَخَلَتْ فِي صِلَةِ" إِنَّ" لِأَنَّهُ مَفْعُولُ الْفِعْلِ
الْمَنْفِيِّ، فَأَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِعَدَمِ
الْخَافِضِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: (إِنَّ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
بِالْخَافِضِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ
بِزَائِدَةٍ، وَ" تُؤْمِنُوا" مَحْمُولٌ عَلَى تُقِرُّوا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا
لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ
مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُخْبِرُوا
بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ لِئَلَّا
يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى
تَصْدِيقِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ
انقطع كلام اليهود عند قول عَزَّ وَجَلَّ" إِلَّا لِمَنْ
تَبِعَ دِينَكُمْ" ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ". أَيْ
إِنَّ الْبَيَانَ الْحَقَّ هُوَ بَيَانُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ" أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ" بَيَّنَ
أَلَّا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَ" لَا"
مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ" إِنَّ" أَيْ لِئَلَّا يُؤْتَى،
كَقَوْلِهِ" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا"
[النساء: 176] «3» أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، فَلِذَلِكَ صَلُحَ
دُخُولُ" أَحَدٌ" فِي الْكَلَامِ. وَ" أَوْ" بِمَعْنَى"
حَتَّى" وَ" إِلَّا أَنْ"، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ
مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وَقَالَ آخَرُ «4»:
وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ
كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا
__________
(1). راجع ج 18 ص 236.
(2). في الأصول: إحداهما موضع الأخرى.
(3). راجع ج 6 ص 28.
(4). هو زياد الأعجم.
(4/113)
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: لَا نَلْتَقِي أَوْ
تَقُومَ السَّاعَةُ، بِمَعْنَى" حَتَّى" أَوْ" إِلَى أَنْ"،
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ. وَهِيَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ
عَاطِفَةٌ عَلَى"" وَلا تُؤْمِنُوا" وَقَدْ تَقَدَّمَ. أَيْ
لَا إِيمَانَ لَهُمْ وَلَا حُجَّةَ، فَعَطَفَ عَلَى
الْمَعْنَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ كُلُّهَا
خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ
التَّثْبِيتِ لِقُلُوبِهِمْ وَالتَّشْحِيذِ لِبَصَائِرِهِمْ،
لِئَلَّا يَشُكُّوا عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ
وَتَزْوِيرِهِمْ فِي دينهم. والمعنى أُوتِيتُمْ مِنَ الْفَضْلِ
وَالدِّينِ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجَّكُمْ فِي
دِينِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَنْ خَالَفَكُمْ أيقدر عَلَى
ذَلِكَ، فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَإِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا
إِنَّا نُحَاجُّ عِنْدَ رَبِّنَا مَنْ خَالَفَنَا فِي
دِينِنَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ هُمُ
الْمُدْحَضُونَ الْمُعَذَّبُونَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ
الْغَالِبُونَ. وَمُحَاجَّتُهُمْ خُصُومَتُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. فَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
يُحَاجُّونَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُونَ أَعْطَيْتَنَا
أَجْرًا وَاحِدًا وَأَعْطَيْتَهُمْ أَجْرَيْنِ فَيَقُولُ هَلْ
ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حُقُوقِكُمْ شَيْئًا قَالُوا «1» لَا قَالَ
فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ (. قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ لَمْ يُحَاجُّونَا عِنْدَ رَبِّنَا، فَأَعْلَمَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ لَهُمُ [الْآنَ] «2» " إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ". وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" آنَ يُؤْتَى"
بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أغشى أَضَرَّ بِهِ ... رَيْبُ
الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ «3»
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ مَدٍّ عَلَى الْخَبَرِ.
وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" إِنْ يُؤْتَى" بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ
يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إِنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
يَعْنِي الْيَهُودَ- بِالْبَاطِلِ فَيَقُولُونَ نَحْنُ
أَفْضَلُ مِنْكُمْ. وَنَصَبَ" أَوْ يُحاجُّوكُمْ" يَعْنِي
بِإِضْمَارِ" أَنْ" وَ" أَوْ" تُضْمَرُ بَعْدَهَا" أَنْ" إِذَا
كَانَتْ بِمَعْنَى" حَتَّى" وَ" إِلَّا أَنْ". وَقَرَأَ
الْحَسَنُ" أَنْ يُؤْتِيَ" بِكَسْرِ التَّاءِ وَيَاءٍ
مَفْتُوحَةٍ، عَلَى مَعْنَى أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدٌ أَحَدًا
مِثْلَ مَا أوتيتم، فحذف المفعول.
__________
(1). في د: فيقولون.
(2). من ب، د.
(3). متبل: مسقم، وخبل: ملتو على أهله لا يرون فيه سرورا.
(4/114)
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللَّهِ) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْهُدَى
إِلَى الْخَيْرِ وَالدِّلَالَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِيَدِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُؤْتِيهِ أَنْبِيَاءَهُ،
فَلَا تُنْكِرُوا «1» أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ سِوَاكُمْ مِثْلَ
مَا أُوتِيتُمْ، فَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقُلْ لَهُمْ:"
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ".
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ
الَّذِي آتَاهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غَيْرِهِ. وَقَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا
تُعَاشِرُوا إِلَّا مَنْ يُوَافِقُكُمْ عَلَى أَحْوَالِكُمْ
وَطَرِيقَتِكُمْ فَإِنَّ مَنْ لَا يُوَافِقُكُمْ لا يرافقكم.
والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 74]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (74)
أَيْ بِنُبُوَّتِهِ وَهِدَايَتِهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِمَا. ابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ"
مَنْ يَشاءُ". قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: أَجْمَلَ الْقَوْلَ
لِيَبْقَى مَعَهُ رَجَاءُ الرَّاجِي وَخَوْفُ الْخَائِفِ،
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم).
[سورة آل عمران (3): آية 75]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ
لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (75)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ) وَهُوَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ الْيَهُودِيُّ،
أَوْدَعَهُ رَجُلٌ دِينَارًا فَخَانَهُ. وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ
الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ
وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ" مَنْ إِنْ تِيْمَنْهُ" عَلَى
لُغَةِ مَنْ قَرَأَ" نِسْتَعِينُ" وَهِيَ لُغَةُ بَكْرٍ
وَتَمِيمٍ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ الله" مالك لَا تَيْمَنَّا
عَلَى يُوسُفَ" وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ نافع
والكسائي" يؤدهي" بِيَاءٍ فِي الْإِدْرَاجِ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرٍو وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ
وَحَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ أبي بكر
__________
(1). هذا نهى، وفي ح، ود: فلا تنكرون. على الخبر.
(4/115)
عَلَى وَقْفِ الْهَاءِ، فَقَرَءُوا"
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ". قَالَ النَّحَّاسُ: بِإِسْكَانِ الْهَاءِ
لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ عِنْدَ بَعْضِ
النَّحْوِيِّينَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُجِيزُهُ أَلْبَتَّةَ
وَيَرَى أَنَّهُ غَلَطٌ مِمَّنْ قَرَأَ بِهِ، وَإِنَّهُ
تَوَهَّمَ أَنَّ الْجَزْمَ يَقَعُ عَلَى الْهَاءِ، وَأَبُو
عَمْرٍو أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا.
وَالصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ الْهَاءَ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَرَبِ يَجْزِمُونَ الْهَاءَ إِذَا
تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، يَقُولُونَ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا
شَدِيدًا، كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ
وَأَصْلُهَا الرَّفْعُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا رَأَى أَلَّا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مَالَ إِلَى
أَرْطَاةِ حِقْفٍ «1» فَاضْطَجَعْ
وَقِيلَ: إِنَّمَا جَازَ إِسْكَانُ الْهَاءِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَزْمِ
وَهِيَ الْيَاءُ الذَّاهِبَةُ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذِرِ
سَلَّامٌ وَالزُّهْرِيُّ" يُؤَدِّهُ" بِضَمِ الْهَاءِ بِغَيْرِ
وَاوٍ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ"
يُؤَدِّهُو" بِوَاوٍ فِي الْإِدْرَاجِ، اخْتِيرَ لَهَا
الْوَاوُ لِأَنَّ الْوَاوَ مِنَ الشَّفَةِ وَالْهَاءَ
بَعِيدَةَ الْمَخْرَجِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْوَاوُ فِي
الْمُذَكَّرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَلِفِ فِي الْمُؤَنَّثِ
وَيُبْدَلُ مِنْهَا يَاءٌ لِأَنَّ الْيَاءَ أَخَفُّ إِذَا
كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَاءٌ، وَتُحْذَفُ الْيَاءُ
وَتَبْقَى الْكَسْرَةُ لِأَنَّ الْيَاءَ قَدْ كَانَتْ تُحْذَفُ
وَالْفِعْلُ مَرْفُوعُ فَأُثْبِتَتْ بِحَالِهَا. الثَّانِيَةُ-
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْخَائِنَ
وَالْأَمِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يُمَيِّزُونَ ذَلِكَ،
فَيَنْبَغِي اجْتِنَابُ جَمِيعِهِمْ. وَخَصَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ،
لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِيهِمْ أَكْثَرُ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ
عَلَى الْغَالِبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ
الْقِنْطَارِ. وَأَمَّا الدِّينَارُ فَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
قِيرَاطًا وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ وَسَطِ
الشَّعِيرِ، فَمَجْمُوعُهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً،
وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَمَنْ حَفِظَ الْكَثِيرَ
وَأَدَّاهُ فَالْقَلِيلُ أَوْلَى، وَمَنْ خَانَ فِي الْيَسِيرِ
أَوْ مَنَعَهُ فَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ أَكْثَرُ. وَهَذَا
أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ.
وَفِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ [كَثِيرٌ] «2» مَذْكُورٌ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَذَكَرَ تَعَالَى قِسْمَيْنِ: مَنْ
يُؤَدِّي وَمَنْ لَا يُؤَدِّي إِلَّا بِالْمُلَازَمَةِ
عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسُ مَنْ لَا يُؤَدِّي
وَإِنْ دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا. فَذَكَرَ تعالى القسمين لأنه
الغالب
__________
(1). الأرطاة: واحدة الأرطى وهو شجر من شجر الرمل. والحقف
بالكسر (: ما أعوج من الرمل. [ ..... ]
(2). من د.
(4/116)
وَالْمُعْتَادُ وَالثَّالِثُ نَادِرٌ،
فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ
مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
وَغَيْرُهُمَا" دِمْتَ" بِكَسْرِ الدَّالِّ وَهُمَا لُغَتَانِ،
وَالْكَسْرُ لُغَةُ أَزْدِ السَّرَاةِ، مِنْ" دِمْتَ تُدَامُ"
مِثْلَ خِفْتَ تُخَافُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ دِمْتَ تَدُومُ،
شَاذًّا. الثَّالِثَةُ- اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى
مَذْهَبِهِ فِي مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً" وَأَبَاهُ سَائِرُ
الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1». وَقَدِ
اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ [مِنْ عُلَمَائِنَا] «2»
عَلَى حَبْسِ الْمِدْيَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا
مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً" فَإِذَا كَانَ لَهُ
مُلَازَمَتُهُ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، جَازَ حَبْسُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى" إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً"
أَيْ بِوَجْهِكَ فَيَهَابُكَ وَيَسْتَحِي مِنْكَ، فَإِنَّ
الْحَيَاءَ فِي الْعَيْنَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَطْلُبُوا مِنَ
الْأَعْمَى حَاجَةً فَإِنَّ الْحَيَاءَ فِي الْعَيْنَيْنِ.
وَإِذَا طَلَبْتَ مِنْ أَخِيكَ حَاجَةً فَانْظُرْ إِلَيْهِ
بِوَجْهِكَ حَتَّى يَسْتَحِيَ فَيَقْضِيهَا. وَيُقَالُ:"
قائِماً" أَيْ مُلَازِمًا لَهُ، فَإِنْ أَنْظَرْتَهُ
أَنْكَرَكَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقِيَامِ إِدَامَةَ
الْمُطَالَبَةِ لَا عَيْنَ الْقِيَامِ. وَالدِّينَارُ أَصْلُهُ
دِنَّارٌ فَعُوِّضَتْ مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاءٌ طَلَبًا
لِلتَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ
أَنَّهُ يُجْمَعُ دَنَانِيرُ وَيُصَغَّرُ دُنَيْنِيرُ.
الرَّابِعَةُ- الْأَمَانَةُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ فِي الدِّينِ،
وَمِنْ عِظَمِ قَدْرِهَا أَنَّهَا تَقُومُ هِيَ وَالرَّحِمِ
عَلَى جَنَبَتَيِ «3» الصِّرَاطِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْجَوَازِ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُمَا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ،
قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ
الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
بِكَمَالِهِ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ «4». وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ
حدثنا محمد ابن الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ
أَبِي شجرة كثير ابن مُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَبْدًا
نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ
لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمْقَتًا فَإِذَا لَمْ
تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمْقَتًا نُزِعَتْ مِنْهُ
الْأَمَانَةُ فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ لَمْ
تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ
إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا نزعت منه
__________
(1). راجع ج 3 ص 371.
(2). نخ: ب.
(3). جنبة الوادي (بفتح النون): جانب وناحية. والجنبة (بسكون
النون): الناحية، يقال: نزل فلان جنبة أي ناحية.
(4). راجع ج 1 ص 188، وصحيح مسلم ج 1 ص 51 طبع بولاق.
(4/117)
الرَّحْمَةُ فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ
الرَّحْمَةُ لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا فَإِذَا
لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا نُزِعَتْ مِنْهُ
رِبْقَةُ الْإِسْلَامِ (. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ
مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:) أد الأمانة إلى من
ائتمنك ولا نحن مَنْ خَانَكَ (. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْدِيلٌ لِأَهْلِ
الْكِتَابِ وَلَا لِبَعْضِهِمْ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى
ذَلِكَ، لِأَنَّ فُسَّاقَ الْمُسْلِمِينَ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ
يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَيُؤْمَنُ عَلَى الْمَالِ الْكَثِيرِ
وَلَا يَكُونُونَ بِذَلِكَ عُدُولًا. فَطَرِيقُ الْعَدَالَةِ
وَالشَّهَادَةِ لَيْسَ يُجْزِئُ فِيهِ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ
فِي الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَامَلَةِ وَالْوَدِيعَةِ،
أَلَا تَرَى قَوْلَهُمْ:" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ" [آل عمران: 75] فَكَيْفَ يُعَدَّلُ مَنْ يَعْتَقِدُ
اسْتِبَاحَةَ أَمْوَالِنَا وَحَرِيمِنَا بِغَيْرِ حَرَجِ
عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي تَعْدِيلِهِمْ
لَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. السَّادِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) يَعْنِي
الْيَهُودَ (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا بَايَعُوا
الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ- أَيْ حَرَجٌ فِي ظُلْمِهِمْ-
لِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّانَا. وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ فِي
كِتَابِهِمْ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَدَّ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" بَلى " أَيْ بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ
الْعَذَابِ بِكَذِبِهِمْ وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ
الْعَرَبِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَتَمَّ
الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ:" مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى "
[آل عمران: 76]. وَيُقَالُ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدِ
اسْتَدَانُوا مِنَ الْأَعْرَابِ أَمْوَالًا فَلَمَّا أَسْلَمَ
أَرْبَابُ الْحُقُوقِ قَالَتِ اليهود: ليس لكم علينا شي،
لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ فَسَقَطَ عَنَّا دَيْنُكُمْ.
وَادَّعَوْا أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" بَلى " رَدًّا لِقَوْلِهِمْ" لَيْسَ عَلَيْنا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ". أَيْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ فَقَالَ:" مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى "
الشِّرْكَ فَلَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ بَلْ يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ. السَّابِعَةُ- قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ:
إِنَّا نُصِيبُ فِي الْعَمْدِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ وَنَقُولُ: لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بَأْسٌ. فَقَالَ لَهُ: هَذَا كَمَا قَالَ
أَهْلُ الْكِتَابِ" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ" إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ
لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا عَنْ طِيبِ
(4/118)
بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(76)
أنفسهم، ذكره عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ صَعْصَعَةَ أَنَّ
رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ. الثانية-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا
يُجْعَلُ أَهْلًا لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى وَصَفَهُ بأنه كذاب. وفية رد عل الْكَفَرَةِ
الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ غَيْرَ تَحْرِيمِ
اللَّهِ وَتَحْلِيلِهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ هَذَا يَخْرُجُ الرَّدُّ
عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالِاسْتِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ،
وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَهُ.
وَفِي الْخَبَرِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما شي كَانَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ إِلَّا
الْأَمَانَةُ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ
وَالْفَاجِرِ).
[سورة آل عمران (3): آية 76]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ (76)
" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ شَرْطٌ. وَ" أَوْفى "
فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ. وَ" اتَّقى " مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ
وَاتَّقَى اللَّهَ وَلَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ مَا
حُرِّمَ عَلَيْهِ. (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)
أَيْ يُحِبُّ أُولَئِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبِّ
اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ"
بِعَهْدِهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ
جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ" وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ عَلَى
الْمُوَفِّي وَمُتَّقِي الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ
الْعَهْدِ. وَالْعَهْدُ مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.
[سورة آل عمران (3): آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ
ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنِ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ
مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ
(4/119)
وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78)
لَكَ بَيِّنَةٌ (؟ قُلْتُ لَا، قَالَ
لِلْيَهُودِيِّ:) احْلِفْ) قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ
بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً
قَلِيلًا" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَيْضًا
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ
وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ
كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ
كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) «1». وَقَدْ مَضَى فِي
الْبَقَرَةِ مَعْنَى" لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ «2» ".
الثَّانِيَةُ- وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْأَحَادِيثُ أَنْ
حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْمَالَ فِي الْبَاطِنِ
بِقَضَاءِ الظَّاهِرِ إِذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ
بُطْلَانَهُ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى
نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ
حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ
لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ،
«3» وَإِنَّمَا نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَلَا وَقَالَ:
إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّهَادَةِ
الْبَاطِلَةِ يُحِلُّ الْفَرْجَ لِمَنْ كَانَ مُحَرَّمًا
عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «4». وَزَعَمَ
أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَا زُورٍ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ
زَوْجَتِهِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ
فَرْجَهَا يَحِلُّ لِمُتَزَوِّجِهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ
الْقَضِيَّةَ بَاطِلٌ. وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ بِإِعْرَاضِهِ
عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، وَبِأَنَّهُ
صَانَ الْأَمْوَالَ وَلَمْ يَرَ اسْتِبَاحَتَهَا
بِالْأَحْكَامِ الْفَاسِدَةِ، وَلَمْ يَصُنَ الْفُرُوجَ عَنْ
ذَلِكَ، وَالْفُرُوجُ أَحَقُّ أَنْ يُحْتَاطَ لَهَا وَتُصَانَ.
وَسَيَأْتِي بُطْلَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ «5» إن
شاء الله تعالى.
[سورة آل عمران (3): آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ
الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
__________
(1). الأراك شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكه.
(2). ج 2 ص 234.
(3). في د: بين الامة.
(4). راجع المسألة الثالثة ج 2 ص 338.
(5). راجع ج 12 ص 182.
(4/120)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ (79)
يَعْنِي طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ.
(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) وَقَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ" يَلْوُونَ" عَلَى التَّكْثِيرِ. إِذَا
أَمَالَهُ، وَمِنْهُ وَالْمَعْنَى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
وَيَعْدِلُونَ بِهِ عَنِ الْقَصْدِ. وَأَصْلُ اللَّيِّ
الْمَيْلُ. لَوَى بِيَدِهِ، وَلَوَى بِرَأْسِهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ" [النساء: 46] «1» أَيْ
عِنَادًا عَنِ الْحَقِّ وَمَيْلًا عَنْهُ إِلَى غيره. ومعنى"
ولا تلوون على أحد" [آل عمران: 153] «2» أَيْ لَا تُعَرِّجُونَ
عَلَيْهِ، يُقَالُ لَوَى عَلَيْهِ إِذَا عَرَّجَ وَأَقَامَ.
وَاللَّيُّ الْمَطْلُ. لَوَاهُ بِدَيْنِهِ يلويه ليا
وَلِيَانًا مَطَلَهُ. قَالَ:
قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانَا ... مَخَافَةَ
الْإِفْلَاسِ وَاللِّيَانَا
يَحْسُنُ بَيْعُ الْأَصْلِ وَالْعِيَانَا
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تُرِيدِينَ «3» لِيَانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ ... وَأَحْسَنُ
يَا ذَاتِ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا
وَفِي الحديث (لي الواحد يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ).
وَأَلْسِنَةٌ جَمْعُ لِسَانٍ فِي لُغَةَ مَنْ ذَكَّرَ، وَمَنْ
أَنَّثَ قَالَ أَلْسُنٌ.
[سورة آل عمران (3): آية 79]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا
عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما
كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
" مَا كانَ" مَعْنَاهُ مَا يَنْبَغِي، كَمَا قَالَ:" وَما كانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً" [النساء:
92] وَ" مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ" [مريم:
35] «4». وَ" مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا"
[النور: 16]»
يَعْنِي مَا يَنْبَغِي. وَالْبَشَرُ يَقَعُ لِلْوَاحِدِ
وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ
بِهِ هُنَا عِيسَى فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ.
وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْحُكْمُ: الْعِلْمُ
وَالْفَهْمُ. وَقِيلَ أَيْضًا: الْأَحْكَامُ. أَيْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ الْكَذَبَةَ، وَلَوْ
فَعَلَ ذَلِكَ بَشَرٌ لَسَلَبَهُ اللَّهُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ
وَعَلَامَاتِهَا. وَنَصَبَ" ثُمَّ يَقُولَ" عَلَى
الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ" أَنْ يُؤْتِيَهُ" وَبَيْنَ" يَقُولَ"
أَيْ لَا يَجْتَمِعُ لِنَبِيٍّ إِتْيَانُ النُّبُوَّةِ
وَقَوْلُهُ:" كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ".
(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أَيْ وَلَكِنْ جائز أن يكون
النبي يقول لهم
__________
(1). ج 5 ص 239 وص 243 من هذا الجزء.
(2). ج 5 ص 239 وص 243 من هذا الجزء.
(3). في ديوانه:" تعليلين".
(4). راجع ج 11 ص 107. [ ..... ]
(5). راجع ج 12 ص 197
(4/121)
كُونُوا رَبَّانِيِّينَ؟. وَهَذِهِ
الْآيَةُ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ"
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ" [آل عمران: 121] كَانَ سَبَبُ
نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَكِنْ مَزَجَ مَعَهُمُ
الْيَهُودَ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ
فِعْلَهُمْ. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ
مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي
النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ
يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ «1»
الْأُمُورِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ
بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي الْأَصْلِ رَبِّيَّ فَأُدْخِلَتِ
الْأَلِفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ
لِلْعَظِيمِ اللِّحْيَةِ: لِحْيَانِيُّ وَلِعَظِيمِ الْجُمَّةِ
جُمَّانِيُّ وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ رَقَبَانِيُّ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: الرَّبَّانِيُّونَ أَرْبَابُ الْعِلْمِ،
وَاحِدُهُمْ رَبَّانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّهُ يَرُبُّهُ
فَهُوَ رَبَّانُ إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، فَمَعْنَاهُ
عَلَى هَذَا يُدَبِّرُونَ أُمُورَ النَّاسِ وَيُصْلِحُونَهَا.
وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا
رَيَّانُ وَعَطْشَانُ، ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهَا يَاءُ
النِّسْبَةِ كَمَا قِيلَ: لِحْيَانِيُّ وَرَقَبَانِيُّ
وَجُمَّانِيُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كُنْتُ مُرْتَهَنًا فِي الْجَوِّ «2» أَنْزَلَنِي ...
مِنْهُ الْحَدِيثُ وَرَبَّانِيُّ أَحْبَارِي
فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ الَّذِي
يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ
بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ: وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ:
الرَّبَّانِيُّ هُوَ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. وَرَوَى شُعْبَةُ
عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ"
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ" قَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ.
ابْنُ جُبَيْرٍ: حُكَمَاءُ أَتْقِيَاءُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ حِفْظَ الْقُرْآنِ
جَهْدَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ". وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ
الْوُلَاةُ، وَالْأَحْبَارُ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأَحْبَارَ هُمُ
الْعُلَمَاءُ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يَجْمَعُ إِلَى
الْعِلْمِ الْبَصَرَ بِالسِّيَاسَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ
الْعَرَبِ: رَبَّ أَمْرَ النَّاسِ يَرُبُّهُ إِذَا أَصْلَحَهُ
وَقَامَ بِهِ، فَهُوَ رَابٌّ وَرَبَّانِيٌّ عَلَى
التَّكْثِيرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ عَالِمًا
يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، الْعَارِفُ بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ
وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ محمد بن الحنفية يوم مات
أبن عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى حُرٍّ
وَلَا مَمْلُوكٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1). في د: جميع، وفى ز: تفسير.
(2). في: زوا: في الحق.
(4/122)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80)
عَلَيْهِ حَقُّ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ
الْقُرْآنِ وَيَتَفَقَّهَ فِي دِينِهِ- ثُمَّ تَلَا هَذِهِ
الْآيَةَ- وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ (الْآيَةَ. رَوَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تعالى:) بما كنتم تعلمون تاب وَبِمَا
كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ
الْمَدِينَةِ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْعِلْمِ. وَاخْتَارَ
هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو:
وَتَصْدِيقُهَا" تَدْرُسُونَ" وَلَمْ يَقُلْ" تُدَرِّسُونَ"
بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّدْرِيسِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ" تَعَلِّمُونَ" بِالتَّشْدِيدِ مِنَ
التَّعْلِيمِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ:
لِأَنَّهَا تَجْمَعُ المعنيين" تعلمون، وتدرسون". قَالَ
مَكِّيٌّ: التَّشْدِيدُ أَبْلَغُ، لِأَنَّ كُلَّ مُعَلِّمٍ
عَالِمٌ بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ
شَيْئًا مُعَلِّمًا، فَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ
وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّخْفِيفُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى
الْعِلْمِ فَقَطْ، فَالتَّعْلِيمُ أَبْلَغُ وَأَمْدَحُ
وَغَيْرُهُ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ. احْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ
قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ" كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ" قَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ، فَيَبْعُدُ أَنْ
يُقَالَ كُونُوا فُقَهَاءَ حُكَمَاءَ عُلَمَاء
بِتَعْلِيمِكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ، كُونُوا حُكَمَاءَ
عُلَمَاءَ بِعِلْمِكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ"
تُدْرِسُونَ" مِنْ أَدْرَسَ يُدْرِسُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ"
تَعَلَّمُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ
تَتَعَلَّمُونَ.
[سورة آل عمران (3): آية 80]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالنَّصْبِ
عَطْفًا عَلَى" أَنْ يُؤْتِيَهُ". وَيُقَوِّيهِ أَنَّ
الْيَهُودَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَكَ يَا مُحَمَّدُ رَبًّا؟
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ- إِلَى
قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ". وَفِيهِ ضَمِيرُ الْبَشَرِ،
أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ الْبَشَرُ يَعْنِي عِيسَى وعزيرا.
وقرا والباقون بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ
مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَنْ
تَتَّخِذُوا. وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ فِي
مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ" فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالضَّمِيرُ أَيْضًا لله عز
وجل، ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج. وقال ابن جريح
وَجَمَاعَةٌ: وَلَا يَأْمُرُكُمْ مُحَمَّدٌ
(4/123)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذِهِ قِرَاءَةُ
أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ. (أَنْ
تَتَّخِذُوا) أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي
النَّصَارَى يُعَظِّمُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ
حَتَّى يَجْعَلُوهُمْ لَهُمْ أَرْبَابًا. (أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) عَلَى طَرِيقِ
الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاسَ عُبَّادًا
يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ
حُرْمَتَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ
عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلَا يَقُلْ
أَحَدَكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي). وفي التنزيل"
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" [يوسف: 42]. وَهُنَاكَ «1» يَأْتِي
بَيَانُ هَذَا [الْمَعْنَى] «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
[سورة آل عمران (3): آية 81]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا
أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (81)
قِيلَ: أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ
يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَأْمُرَ بَعْضُهُمْ
بِالْإِيمَانِ بَعْضًا، فَذَلِكَ مَعْنَى النُّصْرَةِ
بِالتَّصْدِيقِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَقَتَادَةَ وَطَاوُسٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الْآيَةِ. قَالَ طَاوُسٌ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ
بِهِ الْآخِرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران:
187]. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ" بِمَعْنَى وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ.
وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ فَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَهُمْ،
لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوهُمْ وَصَدَّقُوهُمْ. وَ" مَا" فِي
قَوْلِهِ" لَما" بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ سيبويه: سألت الخليل
ابن أَحْمَدَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ" فَقَالَ: لَما بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ
النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ لَلَّذِي
آتَيْتُكُمُوهُ، ثُمَّ حذف
__________
(1). راجع ج 9 ص 105.
(2). الزيادة من د، ب.
(4/124)
الْهَاءَ لِطُولِ الِاسْمِ. وَ" الَّذِي"
رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ".
وَ" مِنْ" لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
لَزَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ أَنَّهَا
لَامُ الِابْتِدَاءِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقَوْلُهُ" ثُمَّ
جاءَكُمْ" وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى
الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْصُولِ
مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ
بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ
لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)
الرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا. وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَالْإِشَارَةُ
إِلَى مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً" إِلَى
قَوْلِهِ:" وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ"
[النحل: 113 - 112] «1». فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوهُ،
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ عَلَى
أُمَمِهِمْ. وَاللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ"
جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقَ، إِذْ هُوَ
بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْلَافِ. وَهُوَ كَمَا تَقُولُ فِي
الْكَلَامِ: أَخَذْتُ مِيثَاقَكَ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا،
كَأَنَّكَ قُلْتَ أَسْتَحْلِفُكَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْقَسَمِ
وَجَوَابِهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ" لَمَا" فِي
قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ عَلَى مَا يَأْتِي. وَمَنْ فَتَحَهَا
جَعَلَهَا مُتَلَقِّيَةً لِلْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ
الْمِيثَاقِ. وَاللَّامُ فِي" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جَوَابُ
قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَاللَّهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ:" مَا" شَرْطٌ
دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ التَّحْقِيقِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى
إِنَّ، وَمَعْنَاهُ [لمهما] «2» آتيتكم، فموضع" لَما" نَصْبٌ،
وَمَوْضِعُ" آتَيْتُكُمْ" جَزْمٌ، وَ" ثُمَّ جاءَكُمْ"
مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ،" (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) " اللَّامُ فِي
قَوْلِهِ"" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جَوَابُ الْجَزَاءِ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ"
[الاسراء: 86] «3» وَنَحْوَهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ مُعْتَمَدُ الْقَسَمِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ
بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ"
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ" [آل عمران: 82]. وَلَا
يَحْتَاجُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَى تَقْدِيرٍ عَائِدٍ.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ" لَما آتَيْتُكُمْ" بِكَسْرِ
اللَّامِ، وَهِيَ أَيْضًا بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ
مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخَذَ، أَيْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ
لِأَجْلِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ إِنْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ مِنْ بَعْدِ الْمِيثَاقِ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ فِي
مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَلِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. قَالَ:
الْمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ
__________
(1). راجع ج 10 ص 194.
(2). كذا في ب، ود. وفى السمين: التقدر والله لأي شي أتيتكم من
كذا وكذا لتؤمن به.
(3). راجع ج 10 ص 325.
(4/125)
فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
ذِكْرِ التَّوْرَاةِ. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى وإذ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُعَلِّمُنَّ النَّاسَ لِمَا
جَاءَكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى
النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ"
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي". وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ
فِي قَوْلِهِ" لِمَا" فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَهَا بِمَعْنَى
بعد، يعني بعد ما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، كَمَا
قَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ
أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ
أَيْ بَعْدَ سِتَّةِ أَعْوَامٍ. وَقَرَأَ سعيد بن خبير"
لَمَّا" بِالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ حِينَ آتَيْتُكُمْ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا التَّخْفِيفَ فَزِيدَتْ"
مِنْ" عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ
فَصَارَتْ لِمَنْ مَا، وَقُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا
لِلْإِدْغَامِ فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ
الْأُولَى مِنْهُنَّ اسْتِخْفَافًا. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ" آتَيْنَاكُمْ" عَلَى التَّعْظِيمِ.
وَالْبَاقُونَ" آتَيْتُكُمْ" عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ
كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَابَ وَإِنَّمَا
أُوتِيَ الْبَعْضُ، وَلَكِنَّ الْغَلَبَةَ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ. وَالْمُرَادُ أَخْذُ مِيثَاقِ جَمِيعِ
الْأَنْبِيَاءِ فَمَنْ لَمْ يُؤْتَ الْكِتَابَ فَهُوَ فِي
حُكْمِ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ أُوتِيَ الْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ. وَأَيْضًا مَنْ لَمْ يُؤْتَ الْكِتَابَ أُمِرَ
بِأَنْ يَأْخُذَ بِكِتَابِ مَنْ قَبْلَهُ فَدَخَلَ تَحْتَ
صِفَةِ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا
أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ)
" أَقْرَرْتُمْ" مِنَ الْإِقْرَارِ، وَالْإِصْرُ وَالْأَصْرُ
لُغَتَانِ، وَهُوَ الْعَهْدُ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ
الثِّقَلُ، فَسُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِأَنَّهُ مَنْعٌ
وَتَشْدِيدٌ. (قالَ فَاشْهَدُوا) أَيِ اعْلَمُوا، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. الزَّجَّاجُ: بَيِّنُوا لِأَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ
الَّذِي يُصَحِّحُ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
اشْهَدُوا أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعِكُمْ.
(وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عَلَيْكُمْ
وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ فَاشْهَدُوا
عَلَيْهِمْ، فتكون كناية عن غير مذكور.
[سورة آل عمران (3): آية 82]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
(82)
" فَمَنْ" شَرْطٌ. فَمَنْ تَوَلَّى مِنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ
عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) أَيِ الْخَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَالْفَاسِقُ الْخَارِجُ. وَقَدْ تقدم «1».
__________
(1). راجع 1 ص 244.
(4/126)
أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا
أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
[سورة آل عمران (3): الآيات 83 الى 84]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ
عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى
وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ)
قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ
وَأَصْحَابَهُ اخْتَصَمُوا مَعَ النَّصَارَى إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيُّنَا
أَحَقُّ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَلَا الفريقين برئ مِنْ
دِينِهِ). فَقَالُوا: مَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ
بِدِينِكَ، فَنَزَلَ" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ"
يَعْنِي يَطْلُبُونَ. وَنُصِبَتْ" غَيْرُ" بِيَبْغُونَ، أَيْ
يَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
وَحْدَهُ" يَبْغُونَ" بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ" وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ: لِأَنَّ
الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِيَ عَامٌّ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حفص وغيره" يبغون،
ويرجعون" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، لِقَوْلِهِ:" فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا
عَلَى الْخِطَابِ، لِقَوْلِهِ" لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ
أَسْلَمَ) أَيِ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَخَضَعَ وَذَلَّ،
وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُنْقَادٌ مُسْتَسْلِمٌ، لِأَنَّهُ
مَجْبُولٌ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ. قَالَ
قَتَادَةُ: أَسْلَمَ الْمُؤْمِنُ طَوْعًا وَالْكَافِرُ عِنْدَ
مَوْتِهِ كَرْهًا وَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ:"
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا" [المؤمن: 85] «1». قَالَ مُجَاهِدٌ: إِسْلَامُ
الْكَافِرِ كَرْهًا بِسُجُودِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسُجُودِ
ظِلِّهِ لِلَّهِ،" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ" [النحل: 48]
«2»." وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ"
[الرعد: 15] «3». وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ
الْخَلْقَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمُ الْحَسَنُ
وَالْقَبِيحُ وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالصَّحِيحُ
وَالْمَرِيضُ وَكُلُّهُمْ مُنْقَادُونَ اضْطِرَارًا،
فَالصَّحِيحُ مُنْقَادٌ طَائِعٌ مُحِبٌّ لِذَلِكَ،
وَالْمَرِيضُ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ وإن كان كارها. والطوع
الانقياد
__________
(1). راجع ج 15 ص 336.
(2). راجع ج 10 ص 111.
(3). راجع ج 9 ص 301.
(4/127)
وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ. وَالْكُرْهُ
مَا كَانَ بِمَشَقَّةٍ وَإِبَاءٍ من النفس. وَ (طَوْعاً
وَكَرْهاً) مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ
طَائِعِينَ وَمُكْرَهِينَ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً" قَالَ:
(الْمَلَائِكَةُ أَطَاعُوهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَنْصَارُ
وَعَبْدُ الْقَيْسِ فِي الْأَرْضِ). وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّ أَصْحَابِي
أَسْلَمُوا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ
خَوْفِ السَّيْفِ (. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:" طَوْعاً" مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ غَيْرِ مُحَاجَّةٍ" وَكَرْهاً" مَنِ
اضْطَرَّتْهُ الْحُجَّةُ إِلَى التَّوْحِيدِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [الزخرف: 87] «1» " وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [العنكبوت: 63]
«2». قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ عُمُومٌ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ.
وَعَنْهُ:" أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ" وَتَمَّ
الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ:" وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً".
قَالَ: وَالْكَارِهُ الْمُنَافِقُ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ.
وَ" طَوْعاً وَكَرْهاً" مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا
اسْتَصْعَبَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ أَوْ كَانَتْ شَمُوسًا «3»
فَلْيَقْرَأْ فِي أُذُنِهَا هَذِهِ الْآيَةَ:" أَفَغَيْرَ
دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً" إِلَى آخِرِ الآية.
[سورة آل عمران (3): آية 85]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
" غَيْرَ" مَفْعُولٌ بِيَبْتَغِ،" دِيناً" مَنْصُوبٌ عَلَى
التَّفْسِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ دِينًا بِيَبْتَغِ،
وَيَنْتَصِبَ" غَيْرَ" عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الدِّينِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: نزلت هذه الآية في الحارث ابن
سويد أخو الحلاس بْنِ سُوَيْدٍ، وَكَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ،
ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ هُوَ وَاثْنَا عَشَرَ مَعَهُ
وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ كُفَّارًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ. وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخاسِرِينَ)
__________
(1). راجع ج 16 ص 123.
(2). راجع ج 13 ص 361. [ ..... ]
(3). شمست الدابة: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.
(4/128)
كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
قَالَ هِشَامٌ: أَيْ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَوْلَا هَذَا لَفَرَّقْتُ
بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ:
الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي الرَّجُلِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ «1» عِنْدَ قوله:" وَإِنَّهُ
فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" [البقرة: 130].
[سورة آل عمران (3): آية 86]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ
أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ ثُمَّ نَدِمَ،
فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: سَلُوا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَجَاءَ
قَوْمُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ"
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ"
إِلَى قوله:" غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران: 89] فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ فَأَسْلَمَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَفِي
رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ارْتَدَّ فَلَحِقَ
بِالْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ" كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ
قَوْماً كَفَرُوا" إلى قوله:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" [آل
عمران: 89] فَبَعَثَ بِهَا قَوْمُهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
قُرِئَتْ عَلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي قَوْمِي
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَا أَكْذَبْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ
الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ تَائِبًا، فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا،
فَلَمَّا بُعِثَ عَانَدُوا وَكَفَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ:" أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" [آل
عمران: 87]. ثُمَّ قِيلَ:" كَيْفَ" لَفْظَةُ اسْتِفْهَامٍ
وَمَعْنَاهُ الْجَحْدُ، أَيْ لَا يَهْدِي اللَّهُ. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ:" كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ" [التوبة: 7] «2» أَيْ لَا يَكُونُ
لَهُمْ عَهْدٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... يَشْمَلُ
الْقَوْمَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ
أَيْ لَا نَوْمَ لِي. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) يُقَالُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَفَرَ
بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ وَمَنْ كَانَ
ظَالِمًا، لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا
مِنَ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ أَسْلَمُوا
__________
(1). راجع ج 2 ص 133.
(2). راجع ج 8 ص 77.
(4/129)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
وَهَدَاهُمُ اللَّهُ، وَكَثِيرًا مِنَ
الظَّالِمِينَ تَابُوا عَنِ الظُّلْمِ. قِيلَ لَهُ: مَعْنَاهُ
لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ مَا دَامُوا مُقِيمِينَ عَلَى
كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَلَا يُقْبِلُونَ عَلَى
الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمُوا وَتَابُوا فَقَدْ
وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 89]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها
لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
أَيْ إِنْ دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى
لَعْنَةِ اللَّهِ وَالنَّاسِ فِي" الْبَقَرَةِ" «1» فَلَا
مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أَيْ لا
يؤخرون ولا يوجلون. ثم استثنى التائبين فَقَالَ: (إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا) هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ بِالْمَعْنَى كل من راجع
الإسلام وأخلص.
[سورة آل عمران (3): آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ (90)
قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْحَسَنُ:
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ،
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ أبوا الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ
فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ
وَصِفَتِهِ" ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً" بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ:" ازْدادُوا كُفْراً" بِالذُّنُوبِ
الَّتِي اكْتَسَبُوهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ،
وَهِيَ عِنْدَهُ فِي الْيَهُودِ. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)
مُشْكِلٌ لِقَوْلِهِ:" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ" [الشورى: 25] «2»
(فَقِيلَ: الْمَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ
الْمَوْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ" [النساء: 18] «3»
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَدْ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ
__________
(1). راجع ج 2 ص 188.
(2). راجع ج 16 ص 25.
(3). راجع ج 5 ص 90.
(4/130)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ
يُغَرْغِرْ «1». (وَسَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ" بَيَانُ هَذَا
الْمَعْنَى. وَقِيلَ:" لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ
قَدْ أَحْبَطَهَا. وَقِيلَ:" لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ"
إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ إِلَى كُفْرٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا
تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ قُطْرُبٌ. هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ
الْمَنُونِ، فَإِنْ بَدَا لَنَا الرَّجْعَةُ رَجَعْنَا إِلَى
قَوْمِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" أَيْ لَنْ تُقْبَلَ. تَوْبَتُهُمْ
وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْرِ، فَسَمَّاهَا تَوْبَةً
غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْقَوْمِ
عَزْمٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
كُلَّهَا إِذَا صح العزم.
[سورة آل عمران (3): آية 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ
افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (91)
الْمِلْءُ (بِالْكَسْرِ) مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الشَّيْءَ،
وَالْمَلْءُ (بِالْفَتْحِ) مصدر ملأت الشيء، ويقال: أعطني ملأه
وملائه وثلاثة إملائه. والواو في" لَوِ افْتَدى بِهِ" قِيلَ:
هِيَ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، الْمَعْنَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوِ افْتَدَى بِهِ.
وَقَالَ أَهْلُ النَّظَرِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: لَا يَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُقْحَمَةً لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى
مَعْنَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ
مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا تَبَرُّعًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ.
وَ" ذَهَباً" نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِ
الْفَرَّاءِ. قَالَ الْمُفَضَّلُ: شَرْطُ التَّفْسِيرِ أَنْ
يَكُونَ الْكَلَامُ تَامًّا وَهُوَ مُبْهَمٌ، كَقَوْلِكَ
عِنْدِي عِشْرُونَ، فَالْعَدَدُ مَعْلُومٌ وَالْمَعْدُودُ
مُبْهَمٌ، فَإِذَا قُلْتُ دِرْهَمًا فَسَّرْتُ. وَإِنَّمَا
نُصِبَ التَّمْيِيزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَخْفِضُهُ
وَلَا مَا يَرْفَعُهُ، وَكَانَ النَّصْبُ أَخَفَّ الْحَرَكَاتِ
فَجُعِلَ لِكُلِّ مَا لَا عَامِلَ فِيهِ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ مِنْ، أَيْ مِنْ
ذَهَبٍ، كَقَوْلِهِ:" أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" [المائدة:
95] «2» أَيْ مِنْ صِيَامٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُجَاءُ
بِالْكَافِرِ
__________
(1). أي ما لم تبلغ حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء يتغرغر به
المريض، راجع ج 5 ص 92.
(2). راجع ج 6 ص 316.
(4/131)
لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ
تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ
سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ (. لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمٌ بَدَلَ (قَدْ كُنْتَ،
كَذَبْتَ، قَدْ سئلت).
[سورة آل عمران (3): آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
(92)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- رَوَى الْأَئِمَّةُ
وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّ
رَبَّنَا لَيَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَأُشْهِدُكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي جَعَلْتُ أَرْضِي لِلَّهِ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ فِي حسان ابن ثَابِتٍ وَأُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ). وَفِي الْمُوَطَّأِ" وَكَانَتْ أَحَبَّ
أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِئْرُ حَاءٍ «1»، وَكَانَتْ
مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ
فِيهَا طَيِّبٍ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَعُمُومِهِ،
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ حِينَ
نَزَلَتِ الْآيَةُ غَيْرَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَبَا طَلْحَةَ
حِينَ سَمِعَ" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا"
الْآيَةَ، لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقِفَ حَتَّى يَرِدَ الْبَيَانُ
الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عِبَادُهُ
بِآيَةٍ أُخْرَى أَوْ سُنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ لِذَلِكَ
فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. وكذلك فعل زيد
ابن حَارِثَةَ، عَمَدَ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى فَرَسٍ يُقَالُ
لَهُ (سَبَلٌ) وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ
لَيْسَ لِي مَالٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ فَرَسِي هَذِهِ،
فَجَاءَ بِهَا [إِلَى] «2» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ
لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (اقْبِضْهُ). فَكَأَنَّ زَيْدًا
وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ
قَبِلَهَا مِنْكَ). ذَكَرَهُ أَسَدُ بْنُ مُوسَى. وَأَعْتَقُ
ابْنُ عُمَرَ نَافِعًا مَوْلَاهُ، وَكَانَ أَعْطَاهُ فِيهِ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَلْفَ دِينَارٍ. قالت صفية بنت
أبي عبيد: أَظُنُّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ".
وروى شبل عن «3» أبي نجيح
__________
(1). بئر حاء: مال وموضع كان لابي طلحة بالمدينة.
(2). من د، وز.
(3). في د: أبن أبى نجيح.
(4/132)
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ
لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولَاءِ «1» يَوْمَ فَتْحِ
مَدَائِنِ كِسْرَى، فَقَالَ «2» سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ:
فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ
أَنَّ أُمَّ وَلَدِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَتْ: كَانَ
إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ يَقُولُ لِي: يَا فُلَانَةُ أَعْطِي
السَّائِلَ سُكَّرًا، فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ.
قَالَ سفيان: يتأول قوله عَزَّ وَجَلَّ:" لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". وَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي
أَعْدَالًا مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا. فَقِيلَ لَهُ:
هَلَّا تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ السُّكَّرَ
أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا مَا تُحِبُّونَ
إِلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ، وَلَا تُدْرِكُوا «3» مَا
تَأْمُلُونَ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ" الْبِرَّ" فَقِيلَ
الْجَنَّةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ
وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ.
وَالتَّقْدِيرُ لَنْ تَنَالُوا ثَوَابَ الْبِرِّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَالنَّوَالُ الْعَطَاءُ، مِنْ
قَوْلِكَ نَوَّلْتُهُ تَنْوِيلًا أَعْطَيْتُهُ. وَنَالَنِي
مِنْ فُلَانٍ مَعْرُوفٌ يَنَالُنِي، أَوْ وَصَلَ إِلَيَّ.
فَالْمَعْنَى لَنْ تَصِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَتُعْطَوْهَا
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَقِيلَ: الْبِرُّ
الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
(عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ
وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ). وَقَدْ مَضَى فِي
الْبَقَرَةِ «4». قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: يَعْنِي
الطَّاعَةَ. عَطَاءٌ: لَنْ تَنَالُوا شَرَفَ الدِّينِ
وَالتَّقْوَى حَتَّى تَتَصَدَّقُوا وَأَنْتُمْ أَصِحَّاءُ
أَشِحَّاءُ تَأْمُلُونَ الْعَيْشَ وَتَخْشَوْنَ الْفَقْرَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ،" حَتَّى تُنْفِقُوا" هِيَ الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ. مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ،
نَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ مِنْ
صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا جَامِعٌ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ حَدِّثْنِي قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ من كل ماه
زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ
حَجَبَةُ الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ
(. قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنْ كَانَتْ إِبِلًا
فَبَعِيرَيْنِ،
__________
(1). جلولاء: قرية قرب خانقين- بالعراق- على سبعة فراسخ منها
كانت للمسلمين بها وقعة على الفرس.
(2). في ب: في قتال سعد.
(3). في: ا، وب، وز تدركون. [ ..... ]
(4). راجع ج 2 ص 243.
(4/133)
كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(94)
وَإِنْ كَانَتْ بَقَرًا فَبَقَرَتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: دَلَّهُمْ بِهَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى الْفُتُوَّةِ «1». أَيْ لَنْ تَنَالُوا بِرِّي
بِكُمْ إِلَّا بِبِرِّكُمْ بِإِخْوَانِكُمْ وَالْإِنْفَاقِ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَجَاهِكُمْ، فَإِذَا
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ نَالَكُمْ بِرِّي وَعَطْفِي. قَالَ
مُجَاهِدٌ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ
عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً" [الإنسان: 8] «2» (وَما تُنْفِقُوا
مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وإذا علم جازى
عليه.
[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 94]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا
حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(94)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:
(حِلًّا) " حِلًّا" أَيْ حَلَالًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:
(إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) وَهُوَ
يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نَفْسِهِ؟
قَالَ: (كَانَ يَسْكُنُ الْبَدْوَ فَاشْتَكَى عِرْقَ «3»
النَّسَا فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا لُحُومَ
الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا). قَالُوا:
صَدَقْتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَيُقَالُ: [إِنَّهُ]»
نَذَرَ إِنْ بَرَأَ «5» مِنْهُ لَيَتْرُكَنَّ أَحَبَّ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَالسُّدِّيُّ: أَقْبَلَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
حَرَّانَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ هَرَبَ مِنْ
أَخِيهِ عِيصُو، وَكَانَ رَجُلًا بَطِشًا قَوِيًّا، فَلَقِيَهُ
مَلَكٌ فَظَنَّ يَعْقُوبُ أَنَّهُ لِصٌّ فَعَالَجَهُ أَنْ
يَصْرَعَهُ، فَغَمَزَ الْمَلَكُ فَخِذَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، ثُمَّ صَعِدَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ
وَيَعْقُوبُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَهَاجَ عَلَيْهِ «6» عِرْقُ
النسا، ولقي من
__________
(1). الفتوة: يعبر بها عن مكارم الأخلاق.
(2). راجع ج 19 ص 125.
(3). النسا (بالفتح مقصور): عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ.
(4). كذا في ب ود.
(5). برأ من المرض (بالفتح) لغة أهل الحجاز. وسائر العرب
يقولون: برئت (بالكسر).
(6). في ب ود: به.
(4/134)
ذَلِكَ بَلَاءً شَدِيدًا، فَكَانَ لَا
يَنَامُ اللَّيْلَ مِنَ الْوَجَعِ وَيَبِيتُ وَلَهُ زُقَاءٌ
«1» أَيْ صِيَاحٌ، فَحَلَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ عز وجل أَلَّا يَأْكُلَ عِرْقًا، وَلَا
يَأْكُلَ طَعَامًا فِيهِ عِرْقٌ فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ،
فَجَعَلَ بَنُوهُ يَتَّبِعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُرُوقَ
فَيُخْرِجُونَهَا مِنَ اللَّحْمِ. وَكَانَ سَبَبُ غَمْزِ
الْمَلَكِ لِيَعْقُوبَ «2» أَنَّهُ كَانَ نَذَرَ إِنْ وَهَبَ
اللَّهُ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا وَأَتَى بَيْتَ
الْمَقْدِسِ صَحِيحًا أَنْ يَذْبَحَ آخِرَهُمْ «3». فَكَانَ
ذَلِكَ لِلْمَخْرَجِ مِنْ نَذْرِهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ التَّحْرِيمُ مِنْ
يَعْقُوبَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَوْ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى؟ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا
مَا حَرَّمَ" وَأَنَّ النبي إذا أداه اجتهاده إلى شي كَانَ
دِينًا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ لِتَقْرِيرِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ. وَكَمَا يُوحَى إِلَيْهِ
وَيَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ، كَذَلِكَ يُؤْذَنُ لَهُ وَيَجْتَهِدُ،
وَيَتَعَيَّنُ مُوجِبُ اجْتِهَادِهِ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ،
وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْإِذْنِ لَهُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ مَا
تَسَوَّرَ «4» عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَقَدْ
حَرَّمَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَسَلَ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ خَادِمُهُ
مَارِيَةَ فَلَمْ يُقِرَّ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ وَنَزَلَ:" لِمَ
تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ" [التحريم: 1] عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" التَّحْرِيمِ" «5». قَالَ الْكِيَا
الطَّبَرِيُّ: فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُطْلَقُ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ" يَقْتَضِي
أَلَّا يَخْتَصَّ بِمَارِيَةَ، وَقَدْ رَأَى الشَّافِعِيُّ
أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ
الْمَعْنَى، فَجَعَلَهَا مَخْصُوصًا بِمَوْضِعِ النَّصِّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَأَى ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَحْرِيمِ كُلِّ
مُبَاحٍ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْيَمِينِ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا
أَصَابَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِرْقُ النَّسَا وَصَفَ
الْأَطِبَّاءُ لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ لُحُومَ الْإِبِلِ
فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا
نُحَرِّمُ عَلَى أَنْفُسِنَا لُحُومَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ
يَعْقُوبَ حَرَّمَهَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمهَا فِي
التَّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ" قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ
فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" فَلَمْ يَأْتُوا. فَقَالَ
عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
قال الزجاج: في هذه الآية
__________
(1). في ز وا: رغاء، والتصحيح من ب، ود وح وهـ وج.
(2). في ب ود، وفى الأصول الأخرى: غمز الملك فخذه.
(3). في د: أحدهم.
(4). تسور: هجم.
(5). راجع ج 18 ص 177.
(4/135)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95)
أَعْظَمُ دِلَالَةٍ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ
نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَهُمْ
أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَأَبَوْا، يَعْنِي عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ
ذَلِكَ بِالْوَحْيِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: إِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ يَعْقُوبَ
ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ قَالَ حِينَ
أَصَابَهُ عِرْقُ النَّسَا: وَاللَّهُ لَئِنْ عَافَانِي
اللَّهُ مِنْهُ لَا يَأْكُلُهُ لِي وَلَدٌ، وَلَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ
يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّوْرَاةِ
عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا حَرَّمَهُ بَعْدَ التَّوْرَاةِ
بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا عَظِيمًا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ طَعَامًا طَيِّبًا، أَوْ صَبَّ عَلَيْهِمْ رِجْزًا
وَهُوَ الْمَوْتُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَبِظُلْمٍ
مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ" [النساء: 160] «1» الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:"
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ"
الْآيَةَ- إِلَى قَوْلِهِ:" ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ""
وَإِنَّا لَصادِقُونَ" [الانعام: 146] «2». الرَّابِعَةُ-
تَرْجَمَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ" دَوَاءَ عِرْقِ
النَّسَا" حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَرَاشِدُ ابن
سَعِيدٍ الرَّمْلِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا أَنَسُ
بْنُ سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (شِفَاءُ عِرْقِ النَّسَا أَلْيَةُ شَاةٍ
[أَعْرَابِيَّةٍ] «3» تُذَابُ ثُمَّ تُجَزَّأُ ثَلَاثَةَ
أَجْزَاءٍ ثُمَّ يُشْرَبُ عَلَى الرِّيقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
جُزْءٌ). وَأَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَيْضًا
مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِرْقِ النَّسَا:
(تُؤْخَذُ أَلْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ لَا صَغِيرَ وَلَا
كَبِيرَ فتقطع صغارا فتخرج إهالته «4» فتقسم ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى رِيقِ النَّفَسِ ثُلُثًا)
قَالَ أَنَسٌ: فَوَصَفْتُهُ لِأَكْثَرِ مِنْ مِائَةٍ فَبَرَأَ
بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ فِي
زَمَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي عِرْقِ النَّسَا:
أُقْسِمُ لَكَ بِاللَّهِ الْأَعْلَى لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَكْوِيَنَّكَ بِنَارٍ أَوْ لَأَحْلِقَنَّكَ بِمُوسَى. قَالَ
شُعْبَةُ: قَدْ جَرَّبْتُهُ، تَقُولُهُ، وَتَمْسَحُ عَلَى ذلك
الموضع.
[سورة آل عمران (3): آية 95]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
__________
(1). راجع ج 6 ص 12.
(2). راجع ج 7 ص 127. [ ..... ]
(3). زيادة عن سنن ابن ماجة.
(4). الإهالة (بالكسر): الشحم المذاب، أو كل ما اؤتدم به من
الادهان.
(4/136)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
(97)
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ صَدَقَ اللَّهُ.
إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ مُحَرَّمًا.
(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أَمْرٌ
بِاتِّبَاعِ دِينِهِ. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) رَدٌّ
عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمُ الباطل كما تقدم.
[سورة آل عمران (3): الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ
مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ (97)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ
وُضِعَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ).
قُلْتُ: ثُمَّ أَيَّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى).
قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ
الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ
فَصَلِّ). قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ
بَيْتٌ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ قَبْلَ
الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ:
بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ،
لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ «1» الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ
أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى
فِي الْبَقَرَةِ «2» بُنْيَانُ الْبَيْتِ وَأَوَّلُ مَنْ
بَنَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا
الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ
بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ السُّفْلَى. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى
فَبَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا خَرَّجَهُ
النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ
خِلَالًا ثَلَاثَةً [سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] «3»
حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا
__________
(1). المهاجر (بفتح الجيم): موضع المهاجرة.
(2). راجع ج 2 ص 120.
(3). زيادة عن سنن النسائي.
(4/137)
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ
مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا
يَنْهَزُهُ «1» إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ
خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَأُوتِيَهُ (.
فَجَاءَ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ بَيْنَ
إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ آمَادًا طَوِيلَةً. قَالَ أَهْلُ
التَّوَارِيخِ: أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ. فَقِيلَ: إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِنَّمَا
جَدَّدَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرُهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَمَا تَقَدَّمَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنْ
وَلَدِهِ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بَعْدِهِ
بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ
أَيْضًا بَنَتْهُ بَعْدَ بِنَائِهَا الْبَيْتَ بِإِذْنِ
اللَّهِ، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ فِي
الْأَرْضِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ
خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَنَى مِنْهُ مَا بَنَى
وَطَافَ بِهِ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ
اسْتَتَمَّ بِنَاءَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) خبر"
إِنَّ" واللام توكيد. و" بِبَكَّةَ" مَوْضِعُ الْبَيْتِ،
وَمَكَّةُ سَائِرُ الْبَلَدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ: بَكَّةُ الْمَسْجِدُ،
وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، تَدْخُلُ فِيهِ الْبُيُوتُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بَكَّةُ هِيَ مَكَّةُ. فَالْمِيمُ عَلَى
هَذَا مُبْدَلَةٌ مِنَ الْبَاءِ، كَمَا قَالُوا: طِينٌ لَازِبٌ
وَلَازِمٌ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْمُؤَرِّجُ. ثُمَّ
قِيلَ: بَكَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَكِّ وَهُوَ
الِازْدِحَامُ. تَبَاكَّ الْقَوْمُ ازْدَحَمُوا. وَسُمِّيَتْ
بَكَّةَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِي مَوْضِعِ طَوَافِهِمْ.
وَالْبَكُّ دَقُّ الْعُنُقِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقُّ رِقَابَ الْجَبَابِرَةِ إِذَا
أَلْحَدُوا فِيهَا بِظُلْمٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ: لَمْ يَقْصِدْهَا جَبَّارٌ قَطُّ بِسُوءٍ إِلَّا
وَقَصَهُ «2» اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَكَّةُ
فَقِيلَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ [لِقِلَّةِ «3» مَائِهَا
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ] لِأَنَّهَا تَمُكُّ الْمُخَّ
مِنَ الْعَظْمِ مِمَّا يَنَالُ قَاصِدُهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ
مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَكْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَخْرَجْتُ مَا
فِيهِ. وَمَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ وَامْتَكَّهُ إِذَا
امْتَصَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ اللَّبَنِ وَشَرِبَهُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
مَكَّتْ فَلَمْ تُبْقِ فِي أَجْوَافِهَا دِرَرًا
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمُكُّ مَنْ ظَلَمَ
فِيهَا، أَيْ تُهْلِكُهُ وَتُنْقِصُهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَمُكُّونَ وَيَضْحَكُونَ
فِيهَا، مِنْ قَوْلِهِ:" وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً"
__________
(1). النهز: الدفع.
(2). الوقص: الكسر والدق.
(3). الزيادة في د.
(4/138)
[الأنفال: 35] «1» أَيْ تَصْفِيقًا
وَتَصْفِيرًا. وَهَذَا لَا يُوجِبُهُ التَّصْرِيفُ، لِأَنَّ"
مَكَّةَ" ثُنَائِيٌّ مُضَاعَفٌ وَ" مُكاءً" ثُلَاثِيٌّ
مُعْتَلٌّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُبارَكاً)
جَعَلَهُ مُبَارَكًا لِتَضَاعُفِ الْعَمَلِ فِيهِ،
فَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ
مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" وُضِعَ" أَوْ بالظرف من" بِبَكَّةَ"
الْمَعْنَى: الَّذِي اسْتَقَرَّ" بِبَكَّةَ مُبارَكاً"
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" مُبَارَكٌ"، عَلَى أَنْ
يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِي،
أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)
عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى وَهُوَ هُدًى
لِلْعَالَمِينَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" مُبَارَكٍ"
بِالْخَفْضِ يَكُونُ نَعْتًا لِلْبَيْتِ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالصِّفَةِ. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" آيَةٌ
بَيِّنَةٌ" عَلَى التَّوْحِيدِ، يَعْنِي مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ
وَحْدَهُ. قَالُوا: أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ آيَةٌ
بَيِّنَةٌ. وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ
بِالْحَرَمِ كُلِّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَالرُّكْنَ وَالْمَقَامَ.
وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ. أَرَادُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ
وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ والحطيم وزمزم والمشاعر كلها. قال:
أبو جعر النَّحَّاسُ: مَنْ قَرَأَ" آياتٌ بَيِّناتٌ"
فَقِرَاءَتُهُ أَبْيَنُ، لِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنَ
الْآيَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الطَّائِرَ لَا يَعْلُو الْبَيْتَ
صَحِيحًا، وَمِنْهَا أَنَّ الْجَارِحَ «2» يَطْلُبُ الصَّيْدَ
فَإِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ تَرَكَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْغَيْثَ
إِذَا كَانَ نَاحِيَةَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ كَانَ
الْخِصْبُ بِالْيَمَنِ، وَإِذَا كَانَ بِنَاحِيَةِ الشامي كان
الخصب بالشام، وإذ عَمَّ الْبَيْتَ كَانَ الْخِصْبُ فِي
جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْجِمَارَ عَلَى مَا
يُزَادُ عَلَيْهَا تُرَى «3» عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ.
وَالْمَقَامُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُمْتُ مَقَامًا، وَهُوَ
الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ. وَالْمَقَامُ مِنْ
قَوْلِكَ: أَقَمْتُ مَقَامًا. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي
الْبَقَرَةِ «4»، وَمَضَى الْخِلَافُ أَيْضًا فِي الْمَقَامِ
وَالصَّحِيحُ مِنْهُ. وَارْتَفَعَ الْمَقَامُ عَلَى
الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْهَا
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَحُكِيَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ:" مَقامُ" بَدَلٌ مِنْ"
آياتٌ". وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بِمَعْنَى هِيَ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ. كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
__________
(1). راجع ج 7 ص 400.
(2). في د: أن الحاج يتبع، والصواب ما أثبتناه من ز، وب.
(3). في ز: على ما يراد منها ترمى.
(4). راجع ج 2 ص 112.
(4/139)
لَهَا مَتَاعٌ وَأَعْوَانٌ غَدَوْنَ بِهِ
... قِتْبٌ «1» وَغَرْبٌ إِذَا مَا أُفْرِغَ انْسَحَقَا
أَيْ مَضَى وَبَعُدَ سَيَلَانُهُ. وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ:
إِنَّ مَقَامًا بِمَعْنَى مَقَامَاتٍ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَعَلى سَمْعِهِمْ" [البقرة: 7] «2». وقال الشاعر:
إن العيون التي في طرفها مرض «3»
أَيْ فِي أَطْرَافِهَا. وَيُقَوِّي هَذَا الْحَدِيثُ
الْمَرْوِيُّ (الْحَجُّ [كُلُّهُ] «4» مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ).
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) قَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ آيَاتِ
الْحَرَمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ
النَّاسَ كَانُوا يُتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوَالَيْهِ، وَلَا
يَصِلُ إِلَيْهِ جَبَّارٌ، وَقَدْ وُصِلَ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَخُرِّبَ، وَلَمْ يُوصَلْ إِلَى الْحَرَمِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحابِ الْفِيلِ" [الْفِيلِ: 1] «5». وَقَالَ بَعْضُ
أَهْلِ الْمَعَانِي: صُورَةُ الْآيَةِ خَبَرٌ وَمَعْنَاهَا
أَمْرٌ، تَقْدِيرُهَا وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ،
كَقَوْلِهِ:" فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي
الْحَجِّ" [البقرة: 197] «6» أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا
تَفْسُقُوا وَلَا تَجَادَلُوا. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ
الْإِمَامُ السَّابِقُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ: مَنِ
اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا ثُمَّ لَجَأَ
إِلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ، [لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [" وَمَنْ
دَخَلَهُ كانَ آمِناً"، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الْأَمْنَ لِمَنْ دَخَلَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ
النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَكُلُّ مَنْ قَالَ
هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ
لَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا خَبَرٌ عَمَّا مَضَى،
وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِثْبَاتَ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ،
الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ
ذَهَبَ وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ
ذَلِكَ فِيهَا، وَخَبَرُ اللَّهِ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ
مَخْبَرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي
هَذَا. وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ، إِذَا لَجَأَ
إِلَى الْحَرَمِ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ
وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَاضْطِرَارُهُ «7» إِلَى
الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فِي
الْحَرَمِ وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مع هذا".
__________
(1). قوله: لها متاع، أي لهذه الناقة التي يستقى عليها. والقتب
(بالكسر): جميع أداة السانية من أعلاقها وحبالها. والسانية: ما
يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. والغرب: الدلو
العظيمة.
(2). راجع ج 1 ص 185. [ ..... ]
(3). البيت لجرير، والذي في الديوان: في طرفها حور.
(4). في دوز وهـ. هذا من قول سعيد ابن جبير كما في تفسير ابن
كثير وفية توجيه ج 3 ص 191.
(5). ج 20 ص 187.
(6). ج 2 ص 407.
(7). في دوز: فاضطره، وفى الأصول الأخرى: فاضطروه، والتصحيح من
ابن العربي.
(4/140)
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى
أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ ابْنِ
خَطَلٍ «1» وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ
قُلْتُ: وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا [فِي الْحَرَمِ] «2»
أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي الْحِلِّ
وَلَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُكَلَّمْ وَلَمْ يُبَايَعْ
حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ،
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. فَهَذِهِ حُجَّةُ الْكُوفِيِّينَ،
وَقَدْ فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ،
وَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَعَالِمُهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْدِيدَ النِّعَمِ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ
بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا مُنْكِرًا مِنَ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" [العنكبوت: 67] «3»
فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ دَخَلَهُ وَلَجَأَ
إِلَيْهِ أَمِنَ مِنَ الْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ"»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَنْ
دَخَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ آمِنًا. وَهَذَا حَسَنٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلْحِدَةِ قَالَ لِبَعْضِ
الْعُلَمَاءِ: أَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً" فَقَدْ دَخَلْنَاهُ وَفَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا فَلَمْ
يَأْمَنْ مَنْ كَانَ فِيهِ! قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ مِنَ
الْعَرَبِ! مَا الَّذِي يُرِيدُ الْقَائِلَ مَنْ دَخَلَ دَارِي
كَانَ «5» آمِنًا؟ أَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَطَاعَهُ:
كُفَّ عَنْهُ فَقَدْ أَمَّنْتُهُ وَكَفَفْتُ عَنْهُ؟ قَالَ:
بَلَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: مَعْنَى" وَمَنْ
دَخَلَهُ كانَ آمِناً" يَعْنِي مِنَ النَّارِ. قُلْتُ: وَهَذَا
لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل (فو الذي نَفْسِي
بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً
لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي
النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا
وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ
عَرَفْتُمْ) الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ آمِنًا مِنَ
النَّارِ مَنْ دَخَلَهُ لِقَضَاءِ النُّسُكِ مُعَظِّمًا لَهُ
عَارِفًا بِحَقِّهِ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ دَخَلَهُ على الصفاء
__________
(1). ابن خطل (بالتحريك) هو عبد الله بن خطل. رجل من بنى تيم
بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما فبعثه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه
مولى يخدمه مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا
فيصنع له طعاما فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه
فقتله ثم ارتد. راجع الطبري وابن هشام.
(2). من دوز.
(3). راجع ج 13 ص 363.
(4). راجع ج 6 ص 325.
(5). في د: فهو آمن.
(4/141)
كَمَا دَخَلَهُ الْأَنْبِيَاءُ
وَالْأَوْلِيَاءُ كَانَ آمِنًا مِنْ عَذَابِهِ. وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ
يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذنوبه كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ
جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ). قَالَ الْحَسَنُ: الْحَجُّ
الْمَبْرُورُ هُوَ أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا
رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ. وَأَنْشَدَ:
يَا كَعْبَةَ اللَّهِ دَعْوَةَ اللَّاجِي ... دَعْوَةَ
مُسْتَشْعِرٍ وَمُحْتَاجِ
وَدَّعَ أَحْبَابَهُ وَمَسْكَنَهُ ... فَجَاءَ مَا بَيْنَ
خَائِفٍ رَاجِي «1»
إِنْ يَقْبَلِ اللَّهُ سَعْيَهُ كَرَمًا ... نَجَا، وَإِلَّا
فَلَيْسَ بِالنَّاجِي
وَأَنْتَ مِمَّنْ تُرْجَى شَفَاعَتُهُ ... فَاعْطِفْ عَلَى
وَافِدِ بْنِ حَجَّاجِ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ آمِنًا. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" [الفتح:
27] «2». وقد قيل: إن" مَنْ" ها هنا لِمَنْ لَا يَعْقِلُ،
وَالْآيَةُ فِي أَمَانِ الصَّيْدِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَفِي
التَّنْزِيلِ:" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ"
[النور: 45] «3» الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلِلَّهِ) اللَّامُ فِي قَوْلِهِ" وَلِلَّهِ"
لَامُ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: (عَلَى) الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ
الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ:
لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ.
فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ [بِأَبْلَغِ] «4»
أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ وَتَعْظِيمًا
لِحُرْمَتِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي فَرِيضَتِهِ «5»، وَهُوَ
أَحَدُ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ يَجِبُ إِلَّا
مَرَّةً فِي الْعُمْرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَجِبُ فِي
كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ [مَرَّةً] «6»، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ
حَدِيثًا أَسْنَدُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ،
وَالْإِجْمَاعُ صَادٌّ فِي وُجُوهِهِمْ. قُلْتُ: وَذَكَرَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
[الثَّوْرِيُّ] «7» عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" يقول الرب عز وجل
إِنَّ عَبْدًا أَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ فَلَمْ
يَعُدْ إِلَيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ لَمَحْرُومٌ)
مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ
رَافِعٍ الْكَاهِلِيِّ الْكُوفِيِّ مِنْ أَوْلَادِ
الْمُحَدِّثِينَ، رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: فِي كل خمسة أعوام،
__________
(1). في د: ما بين خائفة والراجي.
(2). راجع ج 16 ص 289.
(3). راجع ج 12 ص 291.
(4). في د وب وز وه. وفي أ: بأوك. [ ..... ]
(5). في د وب: فرضيته.
(6). في ب ود.
(7). في د.
(4/142)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنِ الْعَلَاءِ
عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ «1» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فِي
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُلْحِدَةُ
الْحَجَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ فِيهِ تَجْرِيدَ الثِّيَابِ
وَذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَيَاءَ، وَالسَّعْيَ وَهُوَ يُنَاقِضُ
الْوَقَارَ، وَرَمْيَ الْجِمَارِ لِغَيْرِ مَرْمًى وَذَلِكَ
يُضَادُّ الْعَقْلَ، فَصَارُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ
الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ، إِذْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهَا
حِكْمَةً وَلَا عِلَّةَ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
شَرْطِ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ، أَنْ يَفْهَمَ الْمَقْصُودَ
بِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَلَا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى
فَائِدَةِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
الِامْتِثَالُ، وَيَلْزَمُهُ الِانْقِيَادُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ
فَائِدَةٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ مَقْصُودٍ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى
كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ:
(لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ
إِلَهَ الْحَقِّ). وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا). فَقَالَ رَجُلٌ: كُلَّ عَامٍ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ) ثُمَّ
قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ
عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شي
فَدَعُوهُ) لَفْظُ مُسْلِمٍ. فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ
الْخِطَابَ إِذَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ
أَنَّهُ يَكْفِي مِنْهُ فِعْلُ مَرَّةٍ وَلَا يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ، خلافا للأستاذ أبي إسحاق الْإِسْفَرَايِينِيِّ
وَغَيْرِهِ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَصْحَابَهُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَحَجُّنَا لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟
فَقَالَ: (لَا بَلْ لِلْأَبَدِ). وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ
عَلَى مَنْ قَالَ: يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ مَرَّةً.
وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْهُورًا
لَدَيْهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ لِأَسْوَاقِهَا
وَتَبَرُّرِهَا «2» وَتَحَنُّفِهَا، فَلَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَامُ خُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا بِمَا
عَرَفُوا. وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجِّ الْفَرْضِ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ
وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا،
حِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ،
وَنَحْنُ الْحَمْسُ «3». حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي"
الْبَقَرَةِ" «4». قُلْتُ: مِنْ أَغْرَبِ مَا رَأَيْتُهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَبْلَ
الْهِجْرَةِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ عَنْهُ
بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ نِدَاءَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ
قِيلَ لَهُ:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ"
__________
(1). في أ: ابن حبان، والتصويب من دو ز وب.
(2). التبرر: الطاعة، وفى أ: نجيعها: طلب الكلا. في د: تحنفها.
(3). الحمس جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة
قيس، سموا حمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي تشددوا.
(4). راجع ج 2 ص 345.
(4/143)
[الحج: 27] «1». قَالَ الْكِيَا
الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ إِذَا وَرَدَ فِي
شَرْعِهِ:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" فَلَا
بُدَّ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الخطاب في شرعه. ولين
قِيلَ: إِنَّمَا خَاطَبَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ، كَانَ تَحَكُّمًا
وَتَخْصِيصًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ
أَلَّا يَجِبَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَنْ حَجَّ عَلَى
دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
الثَّانِيَةُ- وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ
الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ
تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَذَهَبَ
بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ
الْمَالِكِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا
يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ
دَاوُدَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا" [الحج: 27] وَسُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ «2». وَقَالَ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ" الْآيَةَ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ
عَامَ أُحُدٍ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
وَلَمْ يَحُجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ. أَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ
ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ
بَكْرٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَذَكَرَ الشَّهَادَةَ
وَالصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ. رَوَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ، وَفِيهَا
كُلِّهَا ذِكْرُ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ كَانَ مَفْرُوضًا،
وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَحْسَنُهَا سِيَاقًا وَأَتَمُّهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ قُدُومِهِ، فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ.
وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ، ذَكَرَهُ
ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْوَاقِدِيِّ عَامَ
الْخَنْدَقِ بَعْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ
عَلَى التَّرَاخِي إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْكِ
تَفْسِيقِ الْقَادِرِ عَلَى الْحَجِّ إِذَا أَخَّرَهُ الْعَامَ
وَالْعَامَيْنِ وَنَحْوَهُمَا، وَأَنَّهُ إِذَا حَجَّ مِنْ
بَعْدِ أَعْوَامٍ مِنْ حِينِ اسْتِطَاعَتِهِ فَقَدْ أَدَّى
الْحَجَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ
عِنْدَ الْجَمِيعِ كَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ حَتَّى خَرَجَ
وَقْتُهَا فَقَضَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، وَلَا كَمَنْ
فَاتَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَقَضَاهُ.
وَلَا كَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَقَضَاهُ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ حَجَّ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْ
وَقْتٍ اسْتَطَاعَتِهِ: أَنْتَ قَاضٍ لِمَا وَجَبَ عَلَيْكَ،
عَلِمْنَا أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ مُوَسَّعٌ فِيهِ وَأَنَّهُ
عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
كُلُّ مَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي لَا يَحُدُّ فِي ذَلِكَ
حَدًّا، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سحنون وقد سئل عن الرجل
__________
(1). راجع ج 12 ص 37.
(2). والصحيح أن سورة الحج مدنية بدليل آية الجهاد، سيأتي في ج
12 من هذا التفسير.
(4/144)
يَجِدُ مَا يَحُجُّ بِهِ فَيُؤَخِّرُ
ذَلِكَ إِلَى سِنِينَ كَثِيرَةٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ
هَلْ يَفْسُقُ بِتَأْخِيرِهِ الْحَجَّ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ؟
قَالَ: لَا وَإِنْ مَضَى مِنْ عُمْرِهِ سِتُّونَ سَنَةً،
فَإِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ فَسَقَ وَرُدَّتْ
شَهَادَتُهُ. وَهَذَا تَوْقِيفٌ وَحَدٌّ، وَالْحُدُودُ فِي
الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا عَمَّنْ لَهُ أَنْ يُشَرِّعَ.
قُلْتُ: وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ عَنِ ابْنِ
الْقَاسِمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ: إِنْ
أَخَّرَهُ سِتِّينَ سَنَةً لم يخرج «1»، وَإِنْ أَخَّرَهُ
بَعْدَ السِّتِّينَ حُرِّجَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا
بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلَّ مَنْ
يَتَجَاوَزُهَا) فَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْعَشْرِ قَدْ
يَتَضَايَقُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدِ
احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ [كَسَحْنُونَ] «2» بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مُعْتَرَكُ أُمَّتِي بَيْنَ
السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلَّ مَنْ يُجَاوِزُ
ذَلِكَ). وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى
الْأَغْلَبِ مِنْ أَعْمَارِ أُمَّتِهِ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ إِلَى السَّبْعِينَ
لِأَنَّهُ مِنَ الْأَغْلَبِ أَيْضًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُقْطَعَ بِتَفْسِيقِ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ وَأَمَانَتُهُ
بِمِثْلِ هَذَا مِنَ التَّأْوِيلِ الضَّعِيفِ. وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ. الثَّالِثَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ
مُسْتَرْسِلٌ عَلَى جُمْلَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:"
وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ
الْعُمُومَاتِ بَيْدَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ
هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ
وَأُنْثَاهُمْ، خَلَا الصَّغِيرَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ
بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ
الْعَبْدُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ
مُطْلَقِ الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى [فِي «3» التَّمَامِ]:"
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" وَالْعَبْدُ غَيْرُ
مُسْتَطِيعٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهُ لِحُقُوقِهِ عَنْ
هَذِهِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى حَقِّهِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ
وَمَصْلَحَةً لَهُمْ. وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ
وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، فَلَا نَهْرِفُ «4» بِمَا لَا
نَعْرِفُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِجْمَاعُ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا
مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ خِلَافًا، عَلَى
أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا حَجَّ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَالْعَبْدَ
إِذَا حَجَّ فِي حَالِ رَقِّهِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ
وَعَتَقَ الْعَبْدُ أَنَّ عَلَيْهِمَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
إِذَا وَجَدَا إِلَيْهَا سَبِيلًا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ:
خَالَفَ دَاوُدُ جَمَاعَةَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَئِمَّةَ
الْأَثَرِ فِي الْمَمْلُوكِ وَأَنَّهُ عِنْدَهُ مُخَاطَبٌ
بِالْحَجِّ، وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خَارِجٌ
مِنَ الْخِطَابِ العام في قوله تعالى:
__________
(1). حرج (من باب علم): أثم.
(2). في دوب.
(3). في دوب.
(4). الهرف: شبه الهذيان من الإعجاب بالشيء. في دوب: لا يهرف،
بالبناء للمجهول.
(4/145)
" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" بِدَلِيلِ عَدَمِ
التَّصَرُّفِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِغَيْرِ
إِذْنِ سَيِّدِهِ، كَمَا خَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْجُمْعَةِ
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"
[الْجُمُعَةِ: 9] «1» الْآيَةَ- عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
إِلَّا مَنْ شَذَّ. وَكَمَا خَرَجَ مِنْ خِطَابِ إِيجَابِ
الشَّهَادَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" [البقرة: 282] «2» فَلَمْ
يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ. وَكَمَا جَازَ خُرُوجُ
الصَّبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ" وَهُوَ مِنَ النَّاسِ بِدَلِيلِ رَفْعِ الْقَلَمِ
عَنْهُ. وَخَرَجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْلِهِ:" يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ" وَهِيَ مِمَّنْ
شَمَلَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْعَبْدِ
مِنَ الْخِطَابِ الْمَذْكُورِ. وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ
الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْمَغْرِبِ،
وَمِثْلِهِمْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيفُ تَأْوِيلِ
الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ حَاضِرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَأَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فَلِمَ لَا يَلْزَمُهُ
الْحَجُّ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ
وَرُبَّمَا لَا يُعَلَّلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا ثَبَتَ هَذَا
الْحُكْمُ عَلَى الْإِجْمَاعِ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِحَجِّهِ فِي حَالِ الرِّقِّ عَنْ
حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ
هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا
عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً
أُخْرَى (. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ." وَقَدْ تَسَاهَلَ
بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَجُّ
عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ
كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَكُنْ حَجُّ الْكَافِرِ
مُعْتَدًّا بِهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ضَرْبًا
مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَاعْلَمُوهُ: أَحَدُّهَا- أَنَّ
الْكُفَّارَ عِنْدَنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ،
وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ. الثَّانِي: أَنَّ
سَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَلْزَمُهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ مَعَ
كَوْنِهِ رَقِيقًا، وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ
يُعْتَدَّ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِثْلَهَا.
الثَّالِثُ- أَنَّ الْكُفْرَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ
فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقَدُّمِ حُقُوقِ
السَّيِّدِ (. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:) مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (" مَنْ" فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ
أَنْ يَكُونَ" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِحَجِّ،
التَّقْدِيرُ أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ مَنْ. وَقِيلَ هِيَ
شَرْطٌ. وَ" اسْتَطَاعَ" فِي موضع جزم، والجواب
__________
(1). راجع ج 18 ص 97. [ ..... ]
(2). راجع ج 3 ص 398.
(4/146)
مَحْذُوفٌ، أَيْ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا فَعَلَيْهِ الْحَجُّ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ
كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: (لَا بَلْ حَجَّةٌ)؟ قِيلَ: فَمَا
السَّبِيلُ، قَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ). وَرَوَاهُ عَنْ
أَنَسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ
وَعَائِشَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا) قَالَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ تَجِدَ
ظَهْرَ بَعِيرٍ). وَأَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا
ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ
فِي جَامِعِهِ وَقَالَ:" حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ
عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ زَادًا
وَرَاحِلَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ. وَإِبْرَاهِيمُ «1»
بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْخُوزِيُّ الْمَكِّيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ
فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ عَنْ وَكِيعٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُوجِبُ
الْحَجَّ؟. قَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: (الشَّعِثُ
التَّفِلُ) «2». وَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا الْحَجُّ؟ قَالَ: (الْعَجُّ وَالثَّجُّ). قَالَ وَكِيعٌ:
يَعْنِي بِالْعَجِّ الْعَجِيجَ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجِّ
نَحْرَ الْبُدْنِ، لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ. وَمِمَّنْ قَالَ
إِنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ:
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرَيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي
سَلَمَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ، وَذَكَرَ عَبْدُوسٌ «3» مِثْلَهُ
عَنْ سَحْنُونَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاسْتِطَاعَةُ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ
وَاجِدًا مِنْ مَالِهِ مَا يُبَلِّغُهُ الْحَجَّ. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا «4» فِي بَدَنِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى
مَرْكَبِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ إِذَا
أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ وَبِغَيْرِ أُجْرَةٍ،
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. أَمَّا الْمُسْتَطِيعُ
بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْكِتَابِ
بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا". وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِالْمَالِ فَقَدْ
لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالسُّنَّةِ بِحَدِيثِ
الْخَثْعَمِيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ
بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا تَلْحَقُهُ
مَشَقَّةٌ غَيْرُ مُحْتَمَلَةٍ
__________
(1). هو أحد رجال سند حديث ابن عمر.
(2). الشعث: متلبد الشعر. والتفل: الذي قد ترك استعمال الطيب.
(3). في ب:" ابن عبدوس".
(4). المعضوب: الزمن الذي لا حراك به.
(4/147)
فِي الرُّكُوبِ عَلَى الرَّاحِلَةِ،
فَإِنَّ هَذَا إِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لَزِمَهُ
فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ عَدِمَ الزَّادَ
وَالرَّاحِلَةَ أَوْ أَحَدَهُمَا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ
الْحَجِّ، فَإِنَّ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ مُطِيقًا
لَهُ وَوَجَدَ الزَّادَ أَوْ قَدَرَ عَلَى كَسْبِ الزَّادِ فِي
طَرِيقِهِ بِصَنْعَةٍ مِثْلَ الْخَرَزِ وَالْحِجَامَةِ أَوْ
نَحْوَهُمَا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا
رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَالرَّجُلُ أَقَلُّ عُذْرًا مِنَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ
أَقْوَى. وَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ
لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ، فَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى
الزَّادِ بِمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي الطَّرِيقِ كَرِهْتُ لَهُ
أَنْ يَحُجَّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَدَرَ
عَلَى الْمَشْيِ وَوَجَدَ الزَّادَ فَعَلَيْهِ فَرْضُ
الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الرَّاحِلَةَ وَقَدَرَ عَلَى
الْمَشْيِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلزَّادِ وَجَبَ
عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا
لِلزَّادِ وَلَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ حَاجَتِهِ مِنْهُ
فِي الطَّرِيقِ نُظِرَ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْمُرُوءَاتِ مِمَّنْ لَا يَكْتَسِبُ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْتَسِبُ كِفَايَتَهُ
بِتِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ،
وَهَكَذَا إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ مَسْأَلَةَ النَّاسِ
لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ. وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ مَالِكٌ عَلَى
الْمُطِيقِ الْمَشْيَ الْحَجَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
زَادٌ وَرَاحِلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: إِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا صَحِيحًا لَيْسَ
لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ بِأَكْلِهِ
أَوْ عُقْبِهِ «1» حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ. فَقَالَ لَهُ
مُقَاتِلٌ: كَلَّفَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَمْشُوا إِلَى
الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِيرَاثًا
بِمَكَّةَ أَكَانَ تَارِكَهُ؟! بَلْ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ
وَلَوْ حَبْوًا، كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا" «2» أَيْ مُشَاةً.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ
مِنْ فَرَائِضَ الْأَعْيَانِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ
الزَّادُ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا وَلَا الرَّاحِلَةُ
كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. قَالُوا: وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ
الْخُوزِيِّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى
عُمُومِ النَّاسِ وَالْغَالِبِ مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَارِ
الْبَعِيدَةِ. وَخُرُوجُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ
الْأَحْوَالِ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَفِي كَلَامِ
الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: النَّاسُ في ذلك
__________
(1). كذا في جميع الأصل ولعل المراد الولد ينتفع بأجر عمله.
فليتأمل. وفى البحر لابي حبان:" ... بأكله حتى ... ".
(2). راجع ج 12 ص 37.
(4/148)
عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ وَيُسْرِهِمْ
وَجَلَدِهِمْ. قَالَ أَشْهَبُ لِمَالِكٍ: أَهُوَ الزَّادُ
وَالرَّاحِلَةُ؟. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا ذَاكَ إِلَّا
عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ، وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ
وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ، وَآخَرُ
يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ. إذا وجدت الاستطاعة
وتوجه فرض الحج يَعْرِضُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَالْغَرِيمِ
يَمْنَعُهُ عَنِ الْخُرُوجِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ، وَلَا
خِلَافَ فِي ذَلِكَ. أَوْ يَكُونُ لَهُ عِيَالٌ يَجِبُ
عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ حَتَّى
يَكُونَ لَهُمْ نَفَقَتَهُمْ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ لِذَهَابِهِ
وَرُجُوعِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ فَرْضٌ عَلَى
الْفَوْرِ، وَالْحَجَّ فَرْضٌ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ
تَقْدِيمُ الْعِيَالِ أَوْلَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ
يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ). وَكَذَلِكَ الْأَبَوَانِ يُخَافُ
الضَّيْعَةُ عَلَيْهِمَا وَعَدَمُ الْعِوَضِ فِي التَّلَطُّفِ
بِهِمَا، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْحَجِّ، فَإِنْ مَنَعَاهُ
لِأَجْلِ الشَّوْقِ وَالْوَحْشَةِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.
وَالْمَرْأَةُ يَمْنَعُهَا زَوْجُهَا، وَقِيلَ لَا
يَمْنَعُهَا. وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، لَا سِيَّمَا إِذَا
قُلْنَا إِنَّ الْحَجَّ لا يلزم عَلَى الْفَوْرِ. وَالْبَحْرُ
لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ إِذَا كَانَ غَالِبُهُ السَّلَامَةَ-
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ «1» - وَيَعْلَمُ
مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَمِيدُ «2». فَإِنْ كَانَ
الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعَطَبَ أَوِ الْمَيْدَ حَتَّى
يُعَطِّلَ الصَّلَاةَ فَلَا. وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ
مَوْضِعًا لِسُجُودِهِ لِكَثْرَةِ الرَّاكِبِ وَضِيقِ
الْمَكَانِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ
الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ فَلَا
يَرْكَبْهُ. ثُمَّ قَالَ: أَيَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي!
وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ! وَيَسْقُطُ الْحَجُّ إِذَا
كَانَ فِي الطَّرِيقِ عَدُوٌّ يَطْلُبُ الْأَنْفُسَ أَوْ
يَطْلُبُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَتَحَدَّدْ بِحَدٍّ
مَخْصُوصٍ أَوْ يَتَحَدَّدْ بِقَدْرٍ مُجْحِفٍ. وَفِي
سُقُوطِهِ بِغَيْرِ الْمُجْحِفِ خِلَافٌ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْطَى حَبَّةً وَيَسْقُطُ فَرْضُ
الْحَجِّ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَسَوِّلِ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ
عَادَتَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ
يُعْطِيهِ. وَقِيلَ لَا يَجِبُ، عَلَى ما تقدم من مراعاة
الاستطاعة. إِذَا زَالَتِ الْمَوَانِعُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ
مِنَ النَّاضِّ «3» مَا يَحُجُّ بِهِ وَعِنْدَهُ عُرُوضٌ
فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عُرُوضِهِ لِلْحَجِّ مَا
يُبَاعُ عليه في الدين. وسيل ابْنُ الْقَاسِمِ عَنِ الرَّجُلِ
تَكُونُ لَهُ الْقِرْبَةُ
__________
(1). راجع ج 2 ص 195.
(2). المائد: الذي يركب البحر فتعثي نفسه من نتن ماء البحر حتى
يدار به ويكاد يغشى عليه.
(3). الناض: الدراهم والدنانير.
(4/149)
لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، أَيَبِيعُهَا فِي
حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ويترك ولده ولا شي لَهُمْ يَعِيشُونَ
بِهِ؟. قَالَ: نَعَمْ، ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ وَلَدَهُ
فِي الصَّدَقَةِ. وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا
أَنْ يُضَيِّعَ مِنْ يَقُوتُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَجُّ
إِلَّا مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا
وراجعا- قال فِي الْإِمْلَاءِ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ
وَعِيَالٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَعْتَبِرُ الرُّجُوعَ
لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ فِي تَرْكِهِ
الْقِيَامَ بِبَلَدِهِ، لِأَنَّهُ لَا أَهْلَ لَهُ فِيهِ وَلَا
عِيَالَ وَكُلُّ الْبِلَادِ لَهُ وَطَنٌ. وَالْأَوَّلُ
أَصْوَبُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَوْحِشُ لِفِرَاقِ
وَطَنِهِ كَمَا يَسْتَوْحِشُ لِفِرَاقِ سَكَنِهِ. أَلَا تَرَى
أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زنا جُلِدَ وَغُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ
سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَهْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إِذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ
وَخَادِمٌ وَلَهُ نَفَقَةُ أَهْلِهِ بِقَدْرِ غَيْبَتِهِ
يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَظَاهِرٌ هَذَا أَنَّهُ اعْتُبِرَ أَنْ
يَكُونَ مَالُ الْحَجِّ فَاضِلًا عَنِ الْخَادِمِ
وَالْمَسْكَنِ، لِأَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى نَفَقَةِ أَهْلِهِ،
فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ:
يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَ الْمَسْكَنَ وَالْخَادِمَ
وَيَكْتَرِيَ مَسْكَنًا وَخَادِمًا لِأَهْلِهِ، فَإِنْ كَانَ
لَهُ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا وَرِبْحُهَا قَدْرَ
كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَمَتَى
أَنْفَقَ مِنْ أَصْلِ الْبِضَاعَةِ اخْتَلَّ عَلَيْهِ
رِبْحُهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَهَلْ
يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مِنْ أَصْلِ الْبِضَاعَةِ أَمْ لَا؟
قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ
لَهُ عَقَارٌ تَكْفِيهِ غَلَّتُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَبِيعَ
أَصْلَ الْعَقَارِ فِي الْحَجِّ، فَكَذَلِكَ الْبِضَاعَةُ.
وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُبْقِي
الْبِضَاعَةَ وَلَا يَحُجُّ مِنْ أَصْلِهَا، لِأَنَّ الْحَجَّ
إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْفَاضِلِ مِنْ كِفَايَتِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ بِالْبَدَنِ
وَالْمَالِ. السَّابِعَةُ- الْمَرِيضُ وَالْمَعْضُوبُ،
وَالْعَضْبُ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّيْفُ عَضْبًا،
وَكَأَنَّ مَنِ انْتَهَى إِلَى أَلَّا يَقْدِرَ أَنْ
يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَا يَثْبُتَ عَلَيْهَا
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قُطِعَتْ أَعْضَاؤُهُ، إِذْ لَا يقدر على
شي. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِمَا بَعْدَ
إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْمَسِيرُ إِلَى
الْحَجِّ، لِأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فَرْضُهُ عَلَى
الْمُسْتَطِيعِ إِجْمَاعًا، وَالْمَرِيضُ وَالْمَعْضُوبُ لَا
اسْتِطَاعَةَ لَهُمَا. فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ
مَعْضُوبًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ أَصْلًا، سَوَاءٌ
كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِالْمَالِ أَوْ
بِغَيْرِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ. وَلَوْ
وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ عُضِبَ وَزَمِنَ سَقَطَ عَنْهُ
فَرْضُ الْحَجِّ،
(4/150)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي
حَالِ حَيَاتِهِ بِحَالٍ، بَلْ إِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ
عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَجَّ عَنْهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَكَانَ
تَطَوُّعًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى " [النجم: 39] «1» فَأَخْبَرَ
أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى. فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ
لَهُ سَعْيُ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْآيَةِ.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ" وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، لِأَنَّ الْحَجَّ هُوَ
قَصْدُ الْمُكَلَّفِ الْبَيْتَ بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّهَا
عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْعَجْزِ
عَنْهَا كَالصَّلَاةِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ
عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُدْخِلُ
بِالْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ الْمَيِّتَ
وَالْحَاجَّ عَنْهُ وَالْمُنَفِّذَ ذَلِكَ). خَرَّجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ
قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو «2» بْنُ حُصَيْنٍ السَّدُوسِيُّ
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، فَذَكَرَهُ. قُلْتُ: أَبُو مَعْشَرٍ اسْمُهُ
نَجِيحٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
فِي الْمَرِيضِ الزَّمِنِ وَالْمَعْضُوبِ وَالشَّيْخِ
الْكَبِيرِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ إِذَا
أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ اسْتِطَاعَةً
مَا. وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ
قَادِرًا عَلَى مَالٍ يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ
فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ لِشَيْخٍ كَبِيرٍ لَمْ يَحُجَّ: جَهِّزْ رَجُلًا
يَحُجُّ عَنْكَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَنْ
يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ وَالنِّيَابَةَ فَيَحُجُّ عَنْهُ،
فَهَذَا أَيْضًا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ [عَنْهُ]»
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ
بِحَالٍ. اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي
الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ:
(نَعَمْ). وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فِي رِوَايَةٍ:
لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْتِ لَوْ
كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ (؟ قَالَتْ:
نَعَمْ. قَالَ:) فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (.
فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَجَّ بِطَاعَةِ ابْنَتِهِ إِيَّاهُ وَبَذْلِهَا مِنْ
نَفْسِهَا لَهُ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ
__________
(1). راجع ج 17 ص 114.
(2). في ب: عمر بن حفص.
(3). في د.
(4/151)
بِطَاعَةِ الْبِنْتِ لَهُ كَانَ بِأَنْ
يَجِبَ عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَالِ الَّذِي
يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ
الْمَالَ دُونَ الطَّاعَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَالْحَجُّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا
يَصِيرُ بِبَذْلِ الْمَالِ لَهُ مُسْتَطِيعًا. وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا: حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ
الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ
الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمَا دُنْيَا؟
وَدِينًا وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمَا جِبِلَّةً
وَشَرْعًا، فَلَمَّا رَأَى مِنَ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا
وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّهَا
بِأَبِيهَا وَحِرْصًا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ
إِلَيْهِ، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ
أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ لِلْأُخْرَى الَّتِي
قَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ
حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: (حُجِّي عَنْهَا
أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ
قَاضِيَتَهُ)؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعَاتِ وَإِيصَالِ الْبِرِّ
وَالْخَيْرَاتِ لِلْأَمْوَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ
شَبَّهَ فِعْلَ الْحَجِّ بِالدَّيْنِ. وَبِالْإِجْمَاعِ لَوْ
مَاتَ مَيِّتٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَلِيِّهِ
قَضَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ تَأَدَّى
الدَّيْنُ عَنْهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَبِيهَا مَا
صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا" لَا
يَسْتَطِيعُ" وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ،
فَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا
أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا، يُحَقِّقُهُ قَوْلُهُ:
(فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) فَإِنَّهُ لَيْسَ
عَلَى ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا، فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى
بِالْقَضَاءِ، وَبِهِ يُبْدَأُ إِجْمَاعًا لِفَقْرِ
الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
أَنَّ حَدِيثَ الْخَثْعَمِيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
مَخْصُوصٌ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: فِيهِ اضْطِرَابٌ. وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ وَأَبُو مُصْعَبٍ: هُوَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ
خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي
الْحَجِّ عَنِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا مَنْهَضَ لَهُ وَلَمْ
يَحُجَّ وَعَمَّنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ
وَلَدُهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ وَيُجْزِئُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْضُوبِ
وَشَبَهِهِ. وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ أَخْرَجَهُ
الْأَئِمَّةُ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الْحَسَنِ قَوْلَهُ:
إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَجُّ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ.
الثَّامِنَةُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا
لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ
لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ
مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِجْمَاعًا،
لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمِنَّةِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ
رَجُلٌ وَهَبَ لِأَبِيهِ مَالًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ:
يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ
وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ
(4/152)
فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّ فِيهِ سُقُوطُ
حُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، إِذْ يُقَالُ: قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ
وَفَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى
وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ وَلَمْ يَرَهُ وَاجِبًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ
الْحَجَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ
مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ
وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا (. قَالَ أَبُو عِيسَى:) هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي
إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ (. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا. وَعَنْ عَبْدِ خَيْرِ بْنِ يَزِيدَ «1» عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
خُطْبَتِهِ:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ
عَلَيْكُمُ الْحَجَّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ إِنْ
شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا إِلَّا
أَنْ يَكُونَ بِهِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ
أَلَّا نَصِيبَ لَهُ فِي شَفَاعَتِي وَلَا وُرُودِ حَوْضِي (.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ
الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ تَحِلُّ فِيهِ
الزَّكَاةُ فَلَمْ يُزَكِّهِ سَأَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ
الرَّجْعَةَ (. فَقِيلَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّا كُنَّا
نَرَى هَذَا لِلْكَافِرِينَ. فَقَالَ: أَنَا أَقْرَأُ
عَلَيْكُمْ بِهِ قُرْآنًا:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ" [المنافقون
: 10 - 9] «2». قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فِي تَفْسِيرِهِ:
فَأُزَكِّي وَأَحُجُّ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سأله عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ:
(مَنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابًا أَوْ جَلَسَ لَا يَخَافُ
عِقَابًا فَقَدْ كَفَرَ بِهِ). وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى الْأَمْصَارِ
فَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَحُجَّ
فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ".
__________
(1). كذا في ب وج ود. وهو الخيواني الهمداني، وفي ح وا وز، عبد
الله بن جبير ولا يصح لان عبد خير هو الذي يروى عن على كما في
ابن سعد ج 6 ص 154. [ ..... ]
(2). راجع ج 18 ص 129.
(4/153)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قُلْتُ: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ
التَّغْلِيظِ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَضَمَّنَتِ
الْآيَةُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَهُوَ قَادِرٌ
فَالْوَعِيدُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْزِئُ أَنْ
يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ حَجَّ الْغَيْرِ لَوْ
أَسْقَطَ عَنْهُ الْفَرْضَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْوَعِيدُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ
مَاتَ جَارٌ لِي وَلَهُ مَيْسَرَةٌ وَلَمْ يحج لم أصل عليه.
[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ تَصْرِفُونَ عَنْ دِينِ
اللَّهِ (مَنْ آمَنَ). وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُصِدُّونَ" بِضَمِ
التَّاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَهُمَا لُغَتَانِ: صَدَّ
وَأَصَدَّ، مِثْلَ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ،
وَخَمَّ وَأَخَمَّ أَيْضًا إِذَا تَغَيَّرَ. (تَبْغُونَها
عِوَجاً) تَطْلُبُونَ لَهَا، فحذف اللام، مثل" وَإِذا
كالُوهُمْ" [المطففين: 3] «1». يُقَالُ: بَغَيْتُ لَهُ كَذَا
أَيْ طَلَبْتُهُ. وَأَبْغَيْتُهُ كَذَا أَيْ أَعَنْتُهُ.
وَالْعِوَجُ: الْمَيْلُ وَالزَّيْغُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) فِي
الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ
الِاسْتِوَاءِ. وَ (بِالْفَتْحِ) فِي الْحَائِطِ وَالْجِدَارِ
وَكُلِّ شَخْصٍ قَائِمٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا
عِوَجَ «2» لَهُ" [طه: 108] أَيْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ
يَعْوَجُّوا عَنْ «3» دُعَائِهِ. وَعَاجَ بِالْمَكَانِ
وَعَوَّجَ أَقَامَ وَوَقَفَ. وَالْعَائِجُ الْوَاقِفُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا «4» ... نَرَى
الْعَرَصَاتِ «5» أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ
وَالرَّجُلُ الْأَعْوَجُ: السيئ الخلق، وهو بن الْعِوَجِ.
وَالْعُوجُ مِنَ الْخَيْلِ الَّتِي فِي أَرْجُلِهَا تَحْنِيبٌ
«6». وَالْأَعْوَجِيَّةُ مِنَ الْخَيْلِ تُنْسَبُ إِلَى فَرَسٍ
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَابِقًا. وَيُقَالُ: فَرَسٌ
مُحَنَّبٌ إِذَا كَانَ بَعِيدَ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ
بِغَيْرِ فَحَجٍ، وَهُوَ مَدْحٌ. وَيُقَالُ: الْحَنَبُ
اعْوِجَاجٌ فِي السَّاقَيْنِ. قَالَ الْخَلِيلُ التَّحْنِيبُ
يُوصَفُ فِي الشِّدَّةِ، وليس ذلك باعوجاج.
__________
(1). راج ج 19 ص 248.
(2). راجع ج 11 ص 246.
(3). في ح وا: لا يقدرون بألا يعوجوا عن مكانه.
(4). لعنا: لغة في لعل.
(5). العرصة: كل بقعة بين الدرر ليس فيها بناء. وعرصة الدار:
وسطها.
(6). التحنيف: احد يدأب في وظيفى الفرس أيضا.
(4/154)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ)
أَيْ عُقَلَاءُ. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ
مَكْتُوبًا أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ
الْإِسْلَامُ، إِذْ فِيهِ «1» نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة آل عمران (3): آية 100]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
كافِرِينَ (100)
نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ أَرَادَ تَجْدِيدَ الْفِتْنَةِ بَيْنَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ
وَأَنْشَدَهُمْ شِعْرًا قَالَهُ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ فِي
حَرْبِهِمْ. فَقَالَ الْحَيُّ الْآخَرُ: قَدْ قَالَ شَاعِرُنَا
فِي يَوْمٍ كَذَا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شي، فَقَالُوا:
تَعَالَوْا نَرُدُّ الْحَرْبَ جَذْعَاءَ كَمَا كَانَتْ.
فَنَادَى هَؤُلَاءِ: يَا آلَ أَوْسٍ. وَنَادَى هَؤُلَاءِ. يَا
آلَ خَزْرَجٍ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخَذُوا السِّلَاحَ
وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَجَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَقَفَ
بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَرَأَهَا وَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَلَمَّا
سَمِعُوا صَوْتَهُ أَنْصَتُوا لَهُ وَجَعَلُوا يَسْتَمِعُونَ،
فَلَمَّا فَرَغَ أَلْقَوُا السِّلَاحَ وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا وَجَعَلُوا يَبْكُونَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَالَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ
الْيَهُودِيُّ، دَسَّ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَنْ
يُذَكِّرُهُمْ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ، وَأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم وذكرهم،
فعرف القوم أنها نزعة مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ
عَدُوِّهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ
وَبَكَوْا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ
مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا)
يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ. (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يَعْنِي شَاسًا
وَأَصْحَابَهُ. (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ
أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ
فَكَفَفْنَا وَأَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيْنَنَا، فَمَا
كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ
وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ
الْيَوْمِ.
[سورة آل عمران (3): آية 101]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ
اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ
فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
__________
(1). في د وب: وأن فيه.
(4/155)
قَالَهُ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ
التَّعَجُّبِ «1»، أَيْ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ) يَعْنِي الْقُرْآنَ.
(وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ قِتَالٌ وَشَرٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
فَذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فَثَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ- إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها" وَيَدْخُلُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا فِيهِمْ مِنْ سُنَّتِهِ
يَقُومُ مَقَامَ رُؤْيَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً،
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ
وَعَلَامَاتِهِ وَالْقُرْآنَ الَّذِي أُوتِيَ فِينَا مَكَانَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا وَإِنْ
لَمْ نُشَاهِدْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ
علمان ببنان؟: كِتَابُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ، فَأَمَّا
نَبِيُّ اللَّهِ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ
فَقَدْ أَبْقَاهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَحْمَةً مِنْهُ
وَنِعْمَةً، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ
وَمَعْصِيَتُهُ. (وَكَيْفَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَفُتِحَتِ
الْفَاءُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ، وَاخْتِيرَ لَهَا الْفَتْحُ لِأَنَّ مَا
قَبْلَ الْفَاءِ يَاءٌ فَثَقُلَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ يَاءٍ
وَكَسْرَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)
أَيْ يَمْتَنِعُ وَيَتَمَسَّكُ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ. (فَقَدْ
هُدِيَ) وُفِّقَ وَأُرْشِدَ (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ابْنُ
جُرَيْجٍ" يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ" يُؤْمِنُ بِهِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَمَنْ يَعْتَصِمُ بِاللَّهِ أَيْ يَتَمَسَّكُ
بِحَبْلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. يُقَالُ: أَعْصَمَ بِهِ
وَاعْتَصَمَ، وَتَمَسَّكَ وَاسْتَمْسَكَ إِذَا امْتَنَعَ بِهِ
مِنْ غَيْرِهِ. وَاعْتَصَمْتُ فُلَانًا هَيَّأْتُ لَهُ مَا
يَعْتَصِمُ بِهِ. وَكُلُّ مُتَمَسِّكٍ بِشَيْءٍ مُعْصِمٌ
وَمُعْتَصِمٌ. وَكُلُّ مَانِعٍ شَيْئًا فَهُوَ عَاصِمٌ، قَالَ
الْفَرَزْدَقُ:
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمَيْنِ بَنِي تَمِيمٍ ... إِذَا مَا
أَعْظَمَ الْحَدَثَانِ نَابَا
قَالَ النَّابِغَةُ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحَ مُعْتَصِمًا ...
بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ والنجد «2»
__________
(1). كذا في ب وز وح. أي التعجب والإنكار كما في الكشاف.
(2). الخيزرانة: السكان، وهو ذنب السفينة. والابن: الفترة
والإعياء، والنجد (بالتحريك): العرق من عمل أو كرب أو غيره.
(4/156)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَقَالَ آخَرُ «1»:
فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ ... وَأَلْقَى
بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا
وَعَصَمَهُ الطَّعَامُ: مَنَعَ الجوع منه، تقول العرب: عص [- م
فُلَانًا] «2» الطَّعَامُ أَيْ مَنَعَهُ مِنَ الْجُوعِ،
فَكَنَّوُا السَّوِيقَ بِأَبِي عَاصِمٍ لِذَلِكَ. قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْخُبْزَ عَاصِمًا
وَجَابِرًا، وَأَنْشَدَ:
فَلَا تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرًا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي
الْهَوَاجِرَا
وَيُسَمُّونَهُ عَامِرًا. وَأَنْشَدَ:
أَبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِرِ ... يَجِيءُ
فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
أَبُو مَالِكٍ كنية الجوع.
[سورة آل عمران (3): آية 102]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: رَوَى الْبُخَارِيُّ «3» عَنْ
مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ
يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَأَنْ
يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَلَّا
يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16] «4» فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ:
وَلَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ من المنسوخ شي إِلَّا هَذِهِ
الْآيَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ" بَيَانٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ،
وَهَذَا أَصْوَبُ «5»، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ
عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ فَهُوَ أَوْلَى.
وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ" لَمْ تُنْسَخْ،
وَلَكِنَّ" حَقَّ تُقاتِهِ" أَنْ يُجَاهَدَ فِي [سبيل] «6»
الله حق
__________
(1). هو أوس بن حجر. وفى الديوان: فأشرط فيه رأسه ... وألقى
بأسبات ...
(2). من د. وفى ج: عصمه.
(3). في ز، وح: النحاس، عن مرة عن يحيى عن عبد الله.
(4). راجع ج 18 ص 144. [ ..... ]
(5). في ز: هذا ضرب أصوب.
(6). في د.
(4/157)
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ
لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَتَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ. قَالَ «1» النَّحَّاسُ:
وَكُلَّمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ وَلَا يَقَعُ فِيهِ نَسْخٌ. وَقَدْ مَضَى
فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2».
[سورة آل عمران (3): آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَاعْتَصِمُوا) الْعِصْمَةُ الْمَنْعَةُ، وَمِنْهُ يقال
للبدرقة: عِصْمَةٌ. وَالْبَذْرَقَةُ: الْخَفَارَةُ
لِلْقَافِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهَا مَنْ
يَحْمِيهَا مِمَّنْ يُؤْذِيهَا. قَالَ ابْنُ خالويه: البدرقة
لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ
عَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ، يُقَالُ: بَعَثَ السُّلْطَانُ
بَذْرَقَةً مَعَ الْقَافِلَةِ. وَالْحَبْلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ،
وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ السَّبَبُ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ
إِلَى الْبُغْيَةِ وَالْحَاجَةِ. وَالْحَبْلُ: حَبْلُ
الْعَاتِقِ «3». وَالْحَبْلُ: مُسْتَطِيلٌ مِنَ الرَّمْلِ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «4»: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ
إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ، وَالْحَبْلُ
الرَّسَنِ. وَالْحَبْلُ الْعَهْدُ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِذَا تُجَوِّزُهَا حبال قَبِيلَةٍ ... أَخَذَتْ مِنَ
الْأُخْرَى إِلَيْكَ حِبَالَهَا
يُرِيدُ الْأَمَانَ. وَالْحَبْلُ الدَّاهِيَةُ، قَالَ
كُثَيِّرٌ «5»:
فَلَا تَعْجَلِي يَا عَزُّ أَنْ تَتَفَهَّمِي ... بِنُصْحٍ
أَتَى الْوَاشُونَ أم بحبول
__________
(1). في د: قاله.
(2). راجع ج 2 ص 134.
(3). حبل العاتق وصل ما بين العاتق والمنكب.
(4). حديث عروة بن مضرص: أتيتك من جبلي طئ.
(5). في الأصول:" لبيد". والتصويد عن اللسان وشرح القاموس
مادة" حبل".
(4/158)
وَالْحِبَالَةُ «1»: حِبَالَةُ الصَّائِدِ.
وَكُلُّهَا لَيْسَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ إِلَّا الَّذِي
بِمَعْنَى الْعَهْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: حَبْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ. وَرَوَاهُ عَلِيٌّ
وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِثْلُ
ذَلِكَ. وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْهَجَرِيِّ «2» عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
هُوَ حَبْلُ اللَّهِ). وَرَوَى تَقِيُّ بن مخلد حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثْنَا هُشَيْمٌ عَنِ
الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" قَالَ: الجماعة، روي عنه و [عن
غَيْرِهِ] «3» مِنْ وُجُوهٍ، وَالْمَعْنَى كُلُّهُ مُتَقَارِبٌ
مُتَدَاخِلٌ، فَإِنَّ «4» اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ
بِالْأُلْفَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ
هَلَكَةٌ وَالْجَمَاعَةَ نَجَاةٌ. وَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ
الْمُبَارَكِ حَيْثُ قَالَ:
إِنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا ... مِنْهُ
بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَلا تَفَرَّقُوا) "
[يَعْنِي فِي دِينِكُمْ] «5» كَمَا افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى فِي أَدْيَانِهِمْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَلَا
تَفَرَّقُوا مُتَابِعِينَ لِلْهَوَى وَالْأَغْرَاضِ
الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُونُوا فِي دِينِ اللَّهِ إِخْوَانًا،
فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُمْ عَنِ التَّقَاطُعِ
وَالتَّدَابُرِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً". وَلَيْسَ فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ،
فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِلَافًا إِذِ الِاخْتِلَافُ مَا
يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الِائْتِلَافُ وَالْجَمْعُ، وَأَمَّا
حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهَا
بِسَبَبِ «6» اسْتِخْرَاجِ الْفَرَائِضِ وَدَقَائِقِ مَعَانِي
الشَّرْعِ، وَمَا زَالَتِ الصَّحَابَةُ يَخْتَلِفُونَ فِي
أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَآلِفُونَ «7».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ) وَإِنَّمَا مَنَعَ اللَّهُ
اخْتِلَافًا هُوَ سَبَبُ الْفَسَادِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً
أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالنَّصَارَى مِثْلُ
ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
فِرْقَةً (. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ:) لَيَأْتِيَنَّ
عَلَى أمتي ما أتى
__________
(1). في ج: حبال، والتصويب من د، واللسان وغيره.
(2). الهجري: بهاء وجيم مفتوحتين، نسبة إلى هجر. وهو إبراهيم
بن مسلم العبدي. (عن تهذيب التهذيب).
(3). الزيادة في ب.
(4). ود: فإن كتاب الله.
(5). الزيادة في د.
(6). في د: سبب لاستخراج.
(7). في د: متواصلون. [ ..... ]
(4/159)
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ
بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ
عَلَانِيَةً لَكَانَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ
وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتِ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً
وَاحِدَةً) قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
(مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي). أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْإِفْرِيقِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَعَبْدُ اللَّهِ
الْإِفْرِيقِيُّ ثِقَةٌ وَثَّقَهُ قَوْمُهُ وَأَثْنَوْا
عَلَيْهِ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ
أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ
هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي
الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ
أُمَّتِي أقوام تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا
يَتَجَارَى الْكَلْبُ «1» بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ
عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ (. وَفِي سُنَنِ ابْنِ
مَاجَهْ عَنْ أنس ابن مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا
عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا
شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
مَاتَ وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ (. قَالَ أَنَسٌ: وَهُوَ دِينُ
اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَلَّغُوهُ عَنْ
رَبِّهِمْ قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافِ
الْأَهْوَاءِ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي
آخِرِ مَا نَزَلَ، يَقُولُ اللَّهُ:" فَإِنْ تابُوا" [التوبة:
11] قَالَ: خَلَعُوا الْأَوْثَانَ وَعِبَادَتَهَا" وَأَقامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ" «2»، وَقَالَ فِي آيَةٍ
أُخْرَى:" فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ"»
. أَخْرَجَهُ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ عَنْ
أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ
الْجَوْزِيُّ: فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْفِرَقُ مَعْرُوفَةٌ،
فَالْجَوَابُ أَنَّا نَعْرِفُ الِافْتِرَاقَ وَأُصُولَ
الْفِرَقِ وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْفِرَقِ انْقَسَمَتْ
إِلَى فِرَقٍ، وَإِنْ لَمْ نُحِطْ بِأَسْمَاءِ تِلْكَ
الْفِرَقِ وَمَذَاهِبِهَا، فَقَدْ ظَهَرَ لَنَا مِنْ أُصُولِ
الْفِرَقِ الْحَرُورِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ
وَالْمُرْجِئَةُ وَالرَّافِضَةُ وَالْجَبْرِيَّةُ. وَقَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ هَذِهِ
الْفِرَقُ السِّتُّ، وَقَدِ انْقَسَمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ
مِنْهَا اثْنَتَيْ عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
__________
(1). الكلب (بالتحريك): داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب
فيصبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كلب، وتعرض له أعراض
رديئة، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاء.
(2). راجع ج 8 ص 74 وص 80.
(3). راجع ج 8 ص 74 وص 80.
(4/160)
انْقَسَمَتِ الْحَرُورِيَّةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ «1» فِرْقَةً، فَأَوَّلُهُمُ الْأَزْرَقِيَّةُ-
قَالُوا: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مُؤْمِنًا، وَكَفَّرُوا أَهْلَ
الْقِبْلَةِ إِلَّا مَنْ دَانَ بِقَوْلِهِمْ.
وَالْإِبَاضِيَّةُ- قَالُوا: مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِنَا فَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَهُوَ مُنَافِقٌ «2».
وَالثَّعْلَبِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَمْ يَقْضِ وَلَمْ يُقَدِّرْ. وَالْخَازِمِيَّةُ- قَالُوا:
لَا نَدْرِي مَا الْإِيمَانُ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ
مَعْذُورُونَ. وَالْخَلَفِيَّةُ- زَعَمُوا أَنَّ مَنْ تَرَكَ
الْجِهَادَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى كَفَرَ. وَالْكَوْزِيَّةُ
«3» - قَالُوا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمَسَّ أَحَدًا،
لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجَسِ وَلَا أَنْ
يُؤَاكِلَهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيَغْتَسِلَ. وَالْكَنْزِيَّةُ-
قَالُوا: لَا يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يُعْطِيَ مَالَهُ أَحَدًا،
لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا بَلْ يَكْنِزُهُ
فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَظْهَرَ أَهْلُ الْحَقِّ.
وَالشِّمْرَاخِيَّةُ- قَالُوا: لَا بَأْسَ بِمَسِ النِّسَاءِ
الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُنَّ «4» رَيَاحِينُ.
وَالْأَخْنَسِيَّةُ- قَالُوا: لَا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ بَعْدَ
مَوْتِهِ خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ. وَالْحَكَمِيَّةُ- قَالُوا: مَنْ
حَاكَمَ إِلَى مَخْلُوقٍ فَهُوَ كَافِرٌ. وَالْمُعْتَزِلَةُ
«5» - قَالُوا: اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ فَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَالْمَيْمُونِيَّةُ- قَالُوا: لَا إِمَامَ إِلَّا بِرِضَا
أَهْلِ مَحَبَّتِنَا. وَانْقَسَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ فِرْقَةً: الْأَحْمَرِيَّةُ- وَهِيَ الَّتِي زَعَمَتْ
أَنَّ فِي شَرْطِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُمَلِّكَ
عِبَادَهُ أُمُورَهُمْ، وَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مَعَاصِيهِمْ. وَالثَّنَوِيَّةُ- وَهِيَ الَّتِي زَعَمَتْ
أَنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ «6» - وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ وَجَحَدُوا [صِفَاتِ] «7» الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالْكَيْسَانِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَدْرِي
هَذِهِ الْأَفْعَالُ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنَ العباد، ولا نعلم
أثياب؟ النَّاسُ بَعْدُ أَوْ يُعَاقَبُونَ.
وَالشَّيْطَانِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَخْلُقِ الشَّيْطَانَ. وَالشَّرِيكِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ
السَّيِّئَاتِ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ إِلَّا الْكُفْرَ.
وَالْوَهْمِيَّةُ- قَالُوا: لَيْسَ لِأَفْعَالِ الْخَلْقِ
وَكَلَامِهِمْ ذَاتٌ، وَلَا لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ
ذَاتٌ. وَالزِّبْرِيَّةُ «8» - قَالُوا: كُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَالْعَمَلُ بِهِ حَقٌّ، ناسخا كان أو
منسوخا. والمسعدية «9» - زعموا
__________
(1). لم نعثر في المظان لذكر بعض من الفرق الأتية.
(2). الإباضية يقولون: من دان لله بما بلغ إليه من الإسلام وعم
به، فهو ناج ما لم يهدم ركنا من الدين أو يرتطم في التخطئة،
وليسوا حرورية.
(3). في ج وا:" الكروية" براء وواو وفى ز: الكدرية.
(4). في الأصول: لأنهم.
(5). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية
معتزلة.
(6). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية
معتزلة.
(7). الزيادة في: ز.
(8). في ب ودو و: الزبوندية.
(9). في د وب ور: المتبرئة.
(4/161)
أَنَّ مَنْ عَصَى ثُمَّ تَابَ لَمْ
تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَالنَّاكِثِيَّةُ- زَعَمُوا أَنَّ مَنْ
نَكَثَ بَيْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالْقَاسِطِيَّةُ- تَبِعُوا
إِبْرَاهِيمَ بْنَ النَّظَّامِ في قوله: من زعم أن الله شي
فَهُوَ كَافِرٌ «1». وَانْقَسَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ فِرْقَةً: الْمُعَطِّلَةُ- زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا
يَقَعُ عَلَيْهِ وَهْمُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ.
وَإِنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فَهُوَ كَافِرٌ.
وَالْمَرِيسِيَّةُ قَالُوا: أَكْثَرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى
مَخْلُوقَةٌ. وَالْمُلْتَزِقَةُ- جَعَلُوا الْبَارِيَ
سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَالْوَارِدِيَّةُ- قَالُوا
لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ، وَمَنْ دَخَلَهَا
لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَبَدًا وَالزَّنَادِقَةُ «2» -
قَالُوا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ لِنَفْسِهِ رَبًّا،
لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِدْرَاكِ
الْحَوَاسِّ، وَمَا لَا يُدْرَكُ لَا يُثْبَتُ.
وَالْحَرْقِيَّةُ- زَعَمُوا أَنَّ الْكَافِرَ تَحْرِقُهُ
النَّارُ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَبْقَى مُحْتَرِقًا أَبَدًا
لَا يَجِدُ حَرَّ النَّارِ. وَالْمَخْلُوقِيَّةُ- زَعَمُوا
أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَالْفَانِيَةُ- زَعَمُوا أَنَّ
الْجَنَّةَ وَالنَّارَ يَفْنَيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ
لَمْ يُخْلَقَا. وَالْعَبْدِيَّةُ «3» - جَحَدُوا الرُّسُلَ
وَقَالُوا إِنَّمَا هُمْ حُكَمَاءُ. وَالْوَاقِفِيَّةُ-
قَالُوا: لَا نَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ
مَخْلُوقٍ. وَالْقَبْرِيَّةُ- يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ
وَالشَّفَاعَةَ. وَاللَّفْظِيَّةُ- قَالُوا لَفْظُنَا
بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَانْقَسَمَتِ الْمُرْجِئَةُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً: التَّارِكِيَّةُ- قَالُوا لَيْسَ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ فَرِيضَةٌ سِوَى
الْإِيمَانِ بِهِ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ.
وَالسَّائِبِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تعالى سيب خلقه
ليفعلوا ما شاءوا. والراجئة- قَالُوا: لَا يُسَمَّى الطَّائِعُ
طَائِعًا وَلَا الْعَاصِي عَاصِيًا، لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا
لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالسَّالِبِيَّةُ «4» -
قَالُوا: الطَّاعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَالْبَهْيَشِيَّةُ «5» - قَالُوا: الْإِيمَانُ عِلْمٌ وَمَنْ
لَا يَعْلَمُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْحَلَالَ مِنَ
الْحَرَامِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَالْعَمَلِيَّةُ- قَالُوا:
الْإِيمَانُ عَمَلٌ. وَالْمَنْقُوصِيَّةُ- قَالُوا:
الْإِيمَانُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَالْمُسْتَثْنِيَةُ-
قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَالْمُشَبِّهَةُ-
قَالُوا: بَصَرٌ كبصر وئد كَيَدٍ «6». وَالْحَشْوِيَّةُ-
قَالُوا «7»: حُكْمُ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا وَاحِدٌ،
فَعِنْدَهُمْ أَنَّ تَارِكَ النَّفْلِ كَتَارِكِ الْفَرْضِ.
وَالظَّاهِرِيَّةُ- الَّذِينَ نَفَوُا الْقِيَاسَ.
وَالْبِدْعِيَّةُ- أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ هذه الأحداث في هذه
الامة.
__________
(1). في أ: ليس بكافر.
(2). في ب، و، د:" الزيارتة". [ ..... ]
(3). في ب، د، و:" العيرية".
(4). في د: الشاكية.
(5). في ب، و، ز" البيهسية" وفى د:" البيسمية؟ ".
(6). كذا في الأصول، وفية سقط واضح لعله: قالوا لله بصر.
(7). في ب: جعلوا.
(4/162)
وَانْقَسَمَتِ الرَّافِضَةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ فِرْقَةً: الْعَلَوِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ
الرِّسَالَةَ كَانَتْ إِلَى عَلِيٍّ وَإِنَّ جِبْرِيلَ
أَخْطَأَ. وَالْأَمْرِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا شَرِيكُ
مُحَمَّدٍ فِي أَمْرِهِ. وَالشِّيعَةُ- قَالُوا: إِنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيُّهُ مِنْ بَعْدِهِ،
وَإِنَّ الْأُمَّةَ كَفَرَتْ بِمُبَايَعَةِ غَيْرِهِ.
وَالْإِسْحَاقِيَّةُ- قَالُوا: إِنَّ النُّبُوَّةَ مُتَّصِلَةٌ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَ
أَهْلِ الْبَيْتِ فَهُوَ نَبِيٌّ. وَالنَّاوُوسِيَّةُ-
قَالُوا: عَلِيٌّ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، فَمَنْ فَضَّلَ
غَيْرَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ. وَالْإِمَامِيَّةُ- قَالُوا:
لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنْ
وَلَدِ الْحُسَيْنِ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُهُ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا مَاتَ بُدِّلَ غَيْرُهُ
مَكَانَهُ. وَالزَّيْدِيَّةُ- قَالُوا: وَلَدُ الْحُسَيْنِ
كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الصَّلَوَاتِ، فَمَتَى وُجِدَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِمْ،
بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ. وَالْعَبَّاسِيَّةُ- زَعَمُوا أَنَّ
الْعَبَّاسَ كَانَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالتَّنَاسُخِيَّةُ- قَالُوا: الْأَرْوَاحُ تَتَنَاسَخُ،
فَمَنْ كَانَ مُحْسِنًا خَرَجَتْ رُوحُهُ فَدَخَلَتْ فِي
خَلْقٍ يَسْعَدُ بِعَيْشِهِ. وَالرَّجْعِيَّةُ- زَعَمُوا أَنَّ
عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا،
وَيَنْتَقِمُونَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَاللَّاعِنَةُ «1» -
يَلْعَنُونَ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمُعَاوِيَةَ
وَأَبَا مُوسَى وَعَائِشَةَ وَغَيْرَهُمْ وَالْمُتَرَبِّصَةُ-
تَشَبَّهُوا بِزِيِّ النُّسَّاكِ وَنَصَبُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ
رَجُلًا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ
مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا مَاتَ نَصَبُوا آخَرَ.
ثُمَّ انْقَسَمَتِ الْجَبْرِيَّةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
فِرْقَةً: فَمِنْهُمُ الْمُضْطَرِّيَّةُ «2» - قَالُوا: لَا
فِعْلَ لِلْآدَمِيِّ، بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ الْكُلَّ.
وَالْأَفْعَالِيَّةُ- قَالُوا: لَنَا أَفْعَالٌ وَلَكِنْ لَا
اسْتِطَاعَةَ لَنَا فِيهَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ كَالْبَهَائِمِ
نُقَادُ بِالْحَبْلِ. وَالْمَفْرُوغِيَّةُ- قَالُوا: كُلُّ
الْأَشْيَاءِ قَدْ خُلِقَتْ، وَالْآنَ لَا يخلق شي.
وَالنَّجَّارِيَّةُ- زَعَمَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُعَذِّبُ النَّاسَ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى فِعْلِهِمْ.
وَالْمَنَّانِيَّةُ- قَالُوا: عَلَيْكَ بِمَا يَخْطِرُ
بِقَلْبِكَ، فَافْعَلْ مَا تَوَسَّمْتَ مِنْهُ الْخَيْرَ.
وَالْكَسْبِيَّةُ- قَالُوا: لَا يَكْتَسِبُ الْعَبْدُ ثَوَابًا
وَلَا عِقَابًا. وَالسَّابِقِيَّةُ- قَالُوا: مَنْ شَاءَ
فليعمل ومن شاء [ف]- لا يَعْمَلُ «3»، فَإِنَّ السَّعِيدَ لَا
تَضُرُّهُ ذُنُوبُهُ وَالشَّقِيَّ لَا يَنْفَعُهُ بِرُّهُ.
وَالْحِبِّيَّةُ- قَالُوا: مَنْ شَرِبَ كَأْسَ مَحَبَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ عِبَادَةُ الْأَرْكَانِ.
وَالْخَوْفِيَّةُ- قَالُوا: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَخَافَهُ، لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَخَافُ
حَبِيبَهُ. وَالْفِكْرِيَّةُ «4» - قَالُوا: مَنِ ازْدَادَ
عِلْمًا أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.
__________
(1). في د: اللاعنية.
(2). كذا في، وفى الأصول الأخرى المضطربة.
(3). كذا في د، وفى غيرها من الأصول: من شاء فليفعل ومن شاء لم
يفعل.
(4). في ب، هـ، د، و، وفي ز، ح، أ: الفكرية، وفى ج: النكرية.
وفى د: أسقط. وفى سائر الأصول سقط.
(4/163)
وَالْخَشَبِيَّةُ «1» - قَالُوا:
الدُّنْيَا بَيْنَ الْعِبَادِ سَوَاءٌ، لَا تَفَاضُلَ
بَيْنَهُمْ فِيمَا وَرَّثَهُمْ أَبُوهُمْ آدَمُ.
وَالْمِنِّيَّةُ «2» - قَالُوا: مِنَّا الْفِعْلُ وَلَنَا
الِاسْتِطَاعَةُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْفِرْقَةِ الَّتِي
زَادَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ"
الْأَنْعَامِ" «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ لِسِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ: يَا حَنَفِيُّ، الْجَمَاعَةَ
الْجَمَاعَةَ!! فَإِنَّمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ
لِتَفَرُّقِهَا، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ:" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ
ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا «4» وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ
وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ (.
فَأَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْنَا التَّمَسُّكَ بِكِتَابِهِ
وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمَا عِنْدَ
الِاخْتِلَافِ، وَأَمَرَنَا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى
الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْتِقَادًا
وَعَمَلًا، وَذَلِكَ سَبَبُ اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ
وَانْتِظَامِ الشَّتَاتِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ مَصَالِحُ
الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الِاخْتِلَافِ،
وَأَمَرَ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهَى عَنِ الِافْتِرَاقِ الَّذِي
حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى
التَّمَامِ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ
حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أُصُولِ
الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها (. أَمَرَ تَعَالَى بِتَذَكُّرِ نِعَمِهِ وَأَعْظَمُهَا
الْإِسْلَامُ وَاتِّبَاعُ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَإِنَّ بِهِ زَالَتِ الْعَدَاوَةُ وَالْفُرْقَةُ
وَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالْأُلْفَةُ. وَالْمُرَادُ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ، وَالْآيَةُ تَعُمُّ. وَمَعْنَى" فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً" أَيْ صِرْتُمْ بِنِعْمَةِ
الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا فِي الدِّينِ. وَكُلُّ مَا في القرآن"
فَأَصْبَحْتُمْ" مَعْنَاهُ صِرْتُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:"
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً" [الملك: 30] «5» أَيْ صَارَ
غَائِرًا. وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ، وَسُمِّيَ أَخًا
لِأَنَّهُ يَتَوَخَّى مَذْهَبَ أَخِيهِ، أَيْ يَقْصِدُهُ. وشفا
كل شي حَرْفُهُ، وَكَذَلِكَ شَفِيرُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ" [التوبة: 109] «6». قَالَ
الرَّاجِزُ:
نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سَجْلَهْ «7» ... نَابِتَةٌ فوق
شفاها بقلة
__________
(1). في ج وز:" الحشية" بالحاء المهملة، وفى ب الخشبية. وفى
ا:" الحيشية" بالياء المثناة من تحت والشين. وفى د: الحسبية.
(2). في ب وهـ ود وز:" المعبة" بالعين.
(3). راجع: ج 7 ص 141.
(4). سقط من النسخ:" وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم".
(5). راجع ج 18 ص 222. [ ..... ]
(6). راجع ج 8 ص 264.
(7). السجلة: الدلو الضخمة المملوءة ماء. والمراد هنا البئر.
(.)
(4/164)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَأَشْفَى عَلَى الشَّيْءِ أَشْرَفَ
عَلَيْهِ، وَمِنْهُ أَشْفَى الْمَرِيضُ عَلَى الْمَوْتِ. وَمَا
بَقِيَ مِنْهُ إِلَّا شَفًا أَيْ قَلِيلٌ قَالَ ابْنُ
السِّكِّيتِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلِلْقَمَرِ
عِنْدَ إِمْحَاقِهِ وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا: مَا
بَقِيَ مِنْهُ إِلَّا شَفًا أَيْ قَلِيلٌ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَمَرْبَأٍ عَالٍ لِمَنْ تشرفا ... أشرفته بلا شفى أو بشفى
قَوْلُهُ" بِلَا شَفًى" أَيْ غَابَتِ الشَّمْسُ." أَوْ
بِشَفَى" وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ. وَهُوَ مِنْ
ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَفِيهِ لُغَةٌ أَنَّهُ مِنَ الْوَاوِ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْأَصْلُ فِي شَفَا شَفَوَ، وَلِهَذَا
يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ وَلَا يُمَالُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
لَمَّا لَمْ تَجُزْ فِيهِ الْإِمَالَةُ عُرِفَ أَنَّهُ مِنَ
الْوَاوِ، وَلِأَنَّ الْإِمَالَةَ بَيْنَ الْيَاءِ،
وَتَثْنِيَتُهُ شَفَوَانِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهَذَا
تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ خُرُوجُهُمْ من الكفر إلى الايمان.
[سورة آل عمران (3): آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ «1». وَ"
مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِنْكُمْ" لِلتَّبْعِيضِ، وَمَعْنَاهُ
أَنَّ الْآمِرِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ وَلَيْسَ
كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءَ. وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ،
وَالْمَعْنَى لِتَكُونُوا كُلُّكُمْ كذلك. قُلْتُ: الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَيَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ:" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقامُوا الصَّلاةَ" [الحج: 41] «2» الْآيَةَ. وَلَيْسَ كُلُّ
النَّاسِ مُكِّنُوا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:" وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ" قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ مِنَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَلَامٌ مِنْ كَلَامِهِ غَلِطَ فِيهِ
بَعْضُ النَّاقِلِينَ «3» فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ
الْقُرْآنِ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا أَصِفُ الْحَدِيثُ
الَّذِي حَدَّثَنِيهِ أَبِي حَدَّثَنَا [حَسَنُ] «4» بْنُ
عَرَفَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَبِي
عَوْنٍ»
عَنْ صُبَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
يَقْرَأُ" وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ"
فَمَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ عُثْمَانَ لَا يَعْتَقِدُ «6»
__________
(1). راجع ص 46.
(2). راجع ج 12 ص 72.
(3). في هـ: الغافلين.
(4). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(5). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(6). في ب، د، هـ: لا يعتد.
(4/165)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي
رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ
لَمْ يَكْتُبْهَا فِي مُصْحَفِهِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا وَاعِظًا بِهَا
وَمُؤَكِّدًا مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ كلام رب العالمين جل وعلا.
[سورة آل عمران (3): آية 105]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (105)
يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ جُمْهُورِ
الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: هُمُ
الْحَرُورِيَّةُ، وَتَلَا الْآيَةَ. وقال جابر بن عبد الله: ("
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ" الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى." جَاءَهُمْ"
مُذَكَّرٌ عَلَى الْجَمْعِ، وجاءتهم على الجماعة.
[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي
رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يَعْنِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ
تَكُونُ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّةً وَوُجُوهُ
الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّةً. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ
قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، إذ قَرَأَ الْمُؤْمِنُ كِتَابَهُ
فَرَأَى فِي كِتَابِهِ حَسَنَاتِهِ اسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ
وَجْهُهُ، وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ كِتَابَهُ
فَرَأَى فِيهِ سَيِّئَاتِهِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَيُقَالُ:
إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ إِذَا رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ
ابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ اسْوَدَّ
وَجْهُهُ. وَيُقَالُ: ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" [يس: 59] «1».
وَيُقَالُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُ كُلُّ
فَرِيقٍ بِأَنْ يَجْتَمِعَ إِلَى مَعْبُودِهِ، فَإِذَا
انْتَهَوْا إِلَيْهِ حَزِنُوا وَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ،
فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ
وَالْمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمُؤْمِنِينَ:" مَنْ رَبُّكُمْ"؟ فَيَقُولُونَ: رَبُّنَا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ لَهُمْ:" أَتَعْرِفُونَهُ
إِذَا رَأَيْتُمُوهُ". فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَهُ! إِذَا اعترف
عرفناه «2». فيرونه كما شاء الله.
__________
(1). راجع ج 15 ص 46.
(2). هذه عبارة ابن الأثير، أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها
عرفناه في ب: إذا عرفناه، وفى هـ: إذا عرفناه. وفى د: إذا
رأيناه عرفناه.
(4/166)
فَيَخِرُّ الْمُؤْمِنُونَ سُجَّدًا لِلَّهِ
تَعَالَى، فَتَصِيرُ وُجُوهُهُمْ مِثْلَ الثَّلْجِ بَيَاضًا،
وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى السُّجُودِ فَيَحْزَنُوا وَتَسْوَدُّ
وُجُوهُهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ". وَيَجُوزُ" تِبْيَضُّ
وَتِسْوَدُّ" بِكَسْرِ التَّائَيْنِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ:
ابْيَضَّتْ، فَتُكْسَرُ التَّاءُ كَمَا تُكْسَرُ الْأَلِفُ،
وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبِهَا قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" يَوْمَ تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ"
وَيَجُوزُ كَسْرُ التَّاءِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ" يَوْمَ
يَبْيَضُّ وُجُوهٌ" بِالْيَاءِ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ،
وَيَجُوزُ" أَجْوُهٌ" مِثْلَ" أَقْتُتٌ". وَابْيِضَاضُ
الْوُجُوهِ إِشْرَاقُهَا بِالنَّعِيمِ. وَاسْوِدَادُهَا هُوَ
ما يرهقها من العذاب الأليم. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ،
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ. قُلْتُ: وَقَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْهَرَوِيُّ أَخُو غَسَّانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى"
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ" قَالَ:
(يَعْنِي تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ) ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ «1»
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ. وَقَالَ
فِيهِ: مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ. قَالَ عَطَاءٌ:
تَبْيَضُّ وُجُوهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،
وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقَالَ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ هُمُ
الْكُفَّارُ، وَقِيلَ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ لِإِقْرَارِكُمْ حِينَ أُخْرِجْتُمْ مِنْ ظَهْرِ
آدَمَ كَالذَّرِّ. هَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. الْحَسَنُ:
الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ. قَتَادَةُ هِيَ فِي
الْمُرْتَدِّينَ. عِكْرِمَةُ: هُمْ «2» قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِأَنْبِيَائِهِمْ
مُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَلَمَّا بُعِثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ" وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ: هِيَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. أَبُو أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هِيَ فِي الْحَرُورِيَّةِ. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ:" هِيَ فِي
الْقَدَرِيَّةِ". رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي غَالِبٍ
قَالَ: رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى
بَابِ دِمَشْقَ «3»، فَقَالَ
__________
(1). كذا في دوب وهو في ز: أبو بكر محمد.
(2). في هـ ود: هؤلاء قوم.
(3). في صحيح الترمذي:" على درج مسجد دمشق"، في د وهـ: على برج
دمشق.
(4/167)
أَبُو أُمَامَةَ: كِلَابُ النَّارِ شَرُّ
قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ
قَتَلُوهُ- ثُمَّ قَرَأَ-" يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قُلْتُ لِأَبِي
أُمَامَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- حَتَّى عَدَّ
سَبْعًا- مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِنِّي فَرَطُكُمْ «1» عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ
شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ
عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ (. قَالَ أَبُو حَازِمٍ «2»: فَسَمِعَنِي
النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: أَهَكَذَا سَمِعْتَ
مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ: أَشْهَدُ
عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ
فِيهَا: (فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا
تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا
لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي (. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ
كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُجْلَوْنَ عَنِ
الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ
لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمُ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى (.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَمَنْ
بَدَّلَ أَوْ غَيَّرَ أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ الله مالا
يَرْضَاهُ اللَّهُ وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مِنَ
الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْضِ الْمُبْتَعِدِينَ مِنْهُ
الْمُسَوَّدِي الْوُجُوهِ، وَأَشَدُّهُمْ طَرْدًا وَإِبْعَادًا
مَنْ خَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَفَارَقَ سَبِيلَهُمْ،
كَالْخَوَارِجِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهَا، وَالرَّوَافِضِ
عَلَى تَبَايُنِ ضَلَالِهَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى
أَصْنَافِ أَهْوَائِهَا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُبَدِّلُونَ
وَمُبْتَدِعُونَ، وَكَذَلِكَ الظَّلَمَةُ الْمُسْرِفُونَ فِي
الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَقَتْلِ أَهْلِهِ
وَإِذْلَالِهِمْ، وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ
الْمُسْتَخِفُّونَ بِالْمَعَاصِي، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ
الزَّيْغِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، كُلٌّ يُخَافُ،
عَلَيْهِمْ أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كَمَا بَيَّنَّا،
وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إِلَّا كَافِرٌ جَاحِدٌ لَيْسَ
فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ
أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ
الْأَهْوَاءِ. وَكَانَ يَقُولُ: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
__________
(1). الفرط (بفتحتين): الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض.
[ ..... ]
(2). أبو حازم هو سلمة بن دينار، أحد رجال سند هذا الحديث.
(4/168)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فِي الْكَلَامِ
حَذْفٌ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ) يَعْنِي يَوْمَ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالُوا بَلَى.
وَيُقَالُ: هَذَا لِلْيَهُودِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ
يُبْعَثَ فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: هَذَا لِلْمُنَافِقِينَ، يُقَالُ «1»:
أَكَفَرْتُمْ فِي السِّرِّ «2» بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ فِي
الْعَلَانِيَةِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ" أَمَّا" لِأَنَّ
الْمَعْنَى فِي قَوْلِكَ:" أَمَّا زَيْدٌ فمنطلق، مهما يكن من
شي فَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) هَؤُلَاءِ أَهْلُ طَاعَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والوفاء بعهده. (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) أَيْ فِي جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ
خَالِدُونَ بَاقُونَ. جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ وَجَنَّبَنَا
طُرُقَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَوَفَّقَنَا لِطَرِيقِ
الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.
[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ، يَعْنِي الْقُرْآنَ. (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يَعْنِي
نُنْزِلُ عَلَيْكَ جِبْرِيلَ فَيَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ.
(بِالْحَقِّ) أَيْ بِالصِّدْقِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" تِلْكَ
آياتُ اللَّهِ" الْمَذْكُورَةُ حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ.
وَقِيلَ:" تِلْكَ" بِمَعْنَى هَذِهِ وَلَكِنَّهَا لَمَّا
انْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ" تِلْكَ"
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" آياتُ اللَّهِ" بَدَلًا مِنْ" تِلْكَ"
وَلَا تَكُونُ نَعْتًا، لِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يُنْعَتُ
بِالْمُضَافِ. (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ)
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ.
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ
أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ، وَصَلَهُ بِذِكْرِ اتِّسَاعِ قُدْرَتِهِ وغناه
عن الظلم لكون ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ [فِي
قَبْضَتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، بَيَّنَ
لِعِبَادِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا في السموات وَمَا فِي
الْأَرْضِ] «3» لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ ولا
يعبدوا غيره.
__________
(1). في د وب وهـ: يقول.
(2). في د وهـ وب: مع.
(3). الزيادة من نسخ: د.
(4/169)
كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ
آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران (3): آية 110]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ
(110)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى التِّرْمِذِيُّ
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قَالَ: (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ
أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ).
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
نَحْنُ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ نَسُوقُهُمْ بِالسَّلَاسِلِ
إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ
هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدُوا بَدْرًا
وَالْحُدَيْبِيَةَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ
فَعَلَ فِعْلَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: هُمْ أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي
الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَأَهْلَ الْفَضْلِ. وَهُمُ
الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1». وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" عَلَى الشَّرَائِطِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ [كُنْتُمْ]
«2» فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُذْ
آمَنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: جَاءَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ
الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتِهِ. فَالْمَعْنَى كُنْتُمْ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ
مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
يُرِيدُ أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ،
وَأَنْشَدَ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ
يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ «3»
وَقِيلَ: هِيَ كَانَ التَّامَّةُ، وَالْمَعْنَى خُلِقْتُمْ
وَوُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ." فَخَيْرُ أُمَّةٍ" حَالٌ.
وَقِيلَ: كَانَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنْتُمْ خَيْرُ
أُمَّةٍ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَجِيرَانٍ لنا كانوا كرام «4»
__________
(1). راجع ج 2 ص 154.
(2). الزيادة في دوب.
(3). البيت النابغة الذبياني. أمة بالضم. والكسر: ذو أمة: ذو
دين واستقامة، والامة: النعمة.
(4). هذا عجز بيت الفرزدق. وصدره:
فكيف إذا رأيت ديار قوم
(4/170)
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَيْفَ
نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ «1» صَبِيًّا" [مريم: 29].
وقوله:" وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ"
[الأعراف: 2 ([86). وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" وَاذْكُرُوا
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ" «2». وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ
مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"
قَالَ: تَجُرُّونَ النَّاسَ بِالسَّلَاسِلِ إِلَى
الْإِسْلَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا
كُنْتُمْ لِلنَّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إِذْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقِيلَ:
إِنَّمَا صَارَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْرَ أُمَّةٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ
أَكْثَرُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ فِيهِمْ أَفْشَى. فَقِيلَ: هَذَا لِأَصْحَابِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ النَّاسِ
قَرْنِي) أَيِ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ. الثَّانِيَةُ-
وَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ
خَيْرُ الْأُمَمِ، فَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْ حَدِيثِ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).
[الْحَدِيثَ] «3» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ
الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَلَوْ مَرَّةً فِي
عُمْرِهِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَإِنَّ
فَضِيلَةَ الصُّحْبَةِ لَا يَعْدِلُهَا عَمَلٌ. وَذَهَبَ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ
فِي جُمْلَةِ الصحابة، وإن قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي) لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بِدَلِيلِ مَا
يَجْمَعُ الْقَرْنُ مِنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ. وَقَدْ
جَمَعَ قَرْنُهُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ
الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ
أَقَامَ عَلَيْهِمْ أو على بعضهم الخدود، وَقَالَ لَهُمْ: مَا
تَقُولُونَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالزَّانِي. وَقَالَ
مُوَاجَهَةً لِمَنْ هُوَ فِي قَرْنِهِ: (لا تسبوا أصحابي).
وقال لخالد ابن الْوَلِيدِ فِي عَمَّارٍ: (لَا تَسُبَّ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ) وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (طُوبَى لِمَنْ
رَآنِي وَآمَنَ بِي وَطُوبَى سَبْعَ مَرَّاتٍ لِمَنْ لَمْ
يَرَنِي وَآمَنَ بِي). وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ. قَالَ: كُنْتُ
جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ أَيُّ الخلق أفضل إيمانا)
قلنا
__________
(1). راجع ج 11 ص 101.
(2). راجع ج 2 ص 249، وص 394.
(3). الزيادة من هـ ود وب، في د وب: من كل من يأتي.
(4/171)
الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: (وَحُقَّ لَهُمْ
بَلْ غَيْرُهُمْ) قُلْنَا الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: (وَحُقَّ
لَهُمْ بَلْ غَيْرُهُمْ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَانًا
قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ
يَرَوْنِي يَجِدُونَ وَرَقًا فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا
فَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَانًا (. وَرَوَى صَالِحُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي جُمْعَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ:) نَعَمْ قَوْمٌ
يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ فَيَجِدُونَ كِتَابًا بَيْنَ
لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِي
وَلَمْ يَرَوْنِي (. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَبُو جُمْعَةَ
لَهُ صُحْبَةٌ وَاسْمُهُ حَبِيبُ بْنُ سِبَاعٍ، وَصَالِحُ بْنُ
جُبَيْرٍ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ. وَرَوَى أَبُو
ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ أَمَامَكُمْ
أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهَا عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى
الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا
يَعْمَلُ مثله عَمَلِهِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ مِنْكُمْ). قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ" بَلْ مِنْكُمْ" قَدْ سَكَتَ عَنْهَا
بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فَلَمْ يَذْكُرْهَا. وَقَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ:" كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قَالَ: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ
فِعْلِكُمْ كَانَ مِثْلَكُمْ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْخُصُوصِ،
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ
أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ: إِنَّ قَرْنَهُ إِنَّمَا فُضِّلَ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ لِكَثْرَةِ
الْكُفَّارِ وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَمَسُّكِهِمْ
بِدِينِهِمْ، وَإِنَّ أَوَاخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِذَا
أَقَامُوا الدِّينَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ وَصَبَرُوا عَلَى
طَاعَةِ رَبِّهِمْ فِي حِينِ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفِسْقِ
وَالْهَرْجِ وَالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَانُوا عِنْدَ
ذَلِكَ أَيْضًا غُرَبَاءَ، وَزَكَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ كَمَا زَكَتْ أَعْمَالُ أَوَائِلِهِمْ، [وَمِمَّا]
«1» يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بَدَأَ
الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى
لِلْغُرَبَاءِ). وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي
ثَعْلَبَةَ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى
أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ). ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ
هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ
الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ).
ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مُسْنَدِ حَدِيثِ مَالِكٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ثِقَةٌ لَا
يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عمر ابن عَبْدِ
الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَى سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بسيرة عمر بن الخطاب
__________
(1). في د وب وهـ.
(4/172)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
لِأَعْمَلَ بِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
سَالِمٌ: إِنْ عَمِلْتَ بِسِيرَةِ عُمَرَ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ
مِنْ عُمَرَ لِأَنَّ زَمَانَكَ لَيْسَ كَزَمَانِ عُمَرَ، وَلَا
رِجَالَكَ كَرِجَالِ عُمَرَ. قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى فُقَهَاءِ
زَمَانِهِ، فَكُلُّهُمْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِ
سَالِمٍ. وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْجِلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ
قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ النَّاسِ
قَرْنِي) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ
وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ).
قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي مَعَ
تَوَاتُرِ طُرُقِهَا وَحُسْنِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَوَّلِ
هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
فِي الزَّمَانِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُرْفَعُ فِيهِ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْفِسْقُ
وَالْهَرْجُ، وَيُذَلُّ الْمُؤْمِنُ وَيُعَزُّ الْفَاجِرُ
وَيَعُودُ الدِّينُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا وَيَكُونُ
الْقَائِمُ فِيهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، فَيَسْتَوِي
حِينَئِذٍ أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِآخِرِهَا فِي فَضْلِ
الْعَمَلِ إِلَّا أَهْلَ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ، وَمَنْ
تَدَبَّرَ آثَارَ هَذَا الْبَابِ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ «1»،
وَاللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ) مَدْحٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا أَقَامُوا
ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ. فَإِذَا تَرَكُوا التَّغْيِيرَ
وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْمُنْكَرِ زَالَ عَنْهُمُ اسْمُ
الْمَدْحِ وَلَحِقَهُمُ اسْمُ الذَّمِّ، وَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي
أَوَّلِ السُّورَةِ «2». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ آمَنَ
أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أَخْبَرَ أَنَّ
إِيمَانَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ
مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.
[سورة آل عمران (3): آية 111]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) يَعْنِي
كَذِبَهُمْ وَتَحْرِيفَهُمْ وَبُهْتَهُمْ، لَا أَنَّهُ تَكُونُ
لَهُمُ الْغَلَبَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا ضَرًّا يَسِيرًا، فَوَقَعَ الْأَذَى مَوْقِعَ
الْمَصْدَرِ. فَالْآيَةُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ
مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهُمُ اصْطِلَامٌ
«3» إلا إيذاء بالبهت
__________
(1). في د وب: الكتاب.
(2). راجع ص 46 من هذا الجزء. [ ..... ]
(3). الاصطلام: الاستئصال.
(4/173)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
وَالتَّحْرِيفِ، وَأَمَّا الْعَاقِبَةُ
فَتَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ،
وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ أَلْبَتَّةَ، لَكِنْ
يُؤْذُونَكُمْ بِمَا يُسْمِعُونَكُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ
رُءُوسَ الْيَهُودِ: كَعْبٌ وَعَدِيٌّ وَالنُّعْمَانُ وَأَبُو
رَافِعٍ وَأَبُو يَاسِرٍ وَكِنَانَةُ وَابْنُ صُورِيَّا
عَمَدُوا إِلَى مُؤْمِنِيهِمْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَأَصْحَابِهِ فَآذَوْهُمْ لِإِسْلَامِهِمْ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى:" لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً" يَعْنِي
بِاللِّسَانِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ: (وَإِنْ
يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) يَعْنِي
مُنْهَزِمِينَ، وَتَمَّ الْكَلَامُ." ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ"
مُسْتَأْنَفٌ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَتْ فِيهِ النُّونُ. وَفِي
هَذِهِ الْآيَةِ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
لِأَنَّ مَنْ قاتله من اليهود ولاه دبره.
[سورة آل عمران (3): الآيات 112 الى 115]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) يعنى
اليهود. (أَيْنَما ثُقِفُوا) أَيْ وُجِدُوا وَلُقُوا، وَتَمَّ
الْكَلَامُ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى ضَرْبِ
الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ «1». (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ)
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. أَيْ
لَكِنَّهُمْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. (وَحَبْلٍ
مِنَ النَّاسِ) يَعْنِي الذِّمَّةَ الَّتِي لَهُمْ.
وَالنَّاسُ: مُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمُ
الْخَرَاجَ فيؤمنونهم. وفي الكلام
__________
(1). راجع ج 1 ص 43.
(4/174)
اخْتِصَارٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ
يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ الله، فحذف، قاله الفراء. (وَباؤُ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أَيْ رَجَعُوا. وَقِيلَ احْتَمَلُوا.
وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ لَزِمَهُمْ، وَقَدْ مَضَى
فِي الْبَقَرَةِ «1»
. ثُمَّ أَخْبَرَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ. فَقَالَ: (ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ) وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ مستوفى «2». ثم
أخبر فقال: لَيْسُوا سَواءً) وتم الْكَلَامُ. وَالْمَعْنَى:
لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءً، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ سَوَاءً. وَذَكَرَ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ
حَرْبٍ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [لَيْلَةً] «3» صَلَاةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ
إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ
فَقَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ
يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّاعَةِ غَيْرُكُمْ)
قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ
آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" مَنْ آمَنَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ «4»، وَأُسَيْدُ «5»
بْنُ سُعَيَّةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ
مِنْ يَهُودَ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي
الْإِسْلَامِ وَرَسَخُوا «6» فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ
وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا
تَبِعَهُ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارِنَا
مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِمْ:" لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ
قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ. إِلَى قَوْلِهِ:" وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ ذُو أُمَّةٍ، أَيْ ذُو طَرِيقَةٍ حسنة.
وأنشد:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
__________
(1). راجع ج 1 ص 150 وص 430.
(2). راجع ج 1 ص 431.
(3). الزيادة في د.
(4). سعية: بالسين والعين المهملتين وياء باثنتين.
(5). في الاستيعاب في ترجمة أسيد هذا:" رواء يونس ابن بكير عن
ابن إسحاق (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين، وكذلك قال الواقدي.
وفى رواية إبراهيم ابن سعد عن ابن إسحاق (أسيد) بالضم. والفتح
عندهم أصح".
(6). في د وب: نتجوا فيه.
(4/175)
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ،
وَالتَّقْدِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ، فَتَرَكَ الْأُخْرَى اكْتِفَاءً
بِالْأُولَى، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَصَانِي «1» إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ ...
مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
أَرَادَ: أَرُشْدٌ أَمْ غَيٌّ، فَحَذَفَ. قَالَ الْفَرَّاءُ:"
أُمَّةٌ"" رَفَعَ بِ" سَواءً، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ
يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ
آيَاتِ اللَّهِ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا
قَوْلٌ خَطَأٌ مِنْ جِهَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ يَرْفَعُ"
أُمَّةٌ" بِ" سَواءً" فَلَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ
بِشَيْءٍ، وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ
وَيُضْمِرُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِ فَلَيْسَ لِإِضْمَارِ هَذَا
وَجْهٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ:
أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَذَهَبُوا أَصْحَابُكَ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ، وَأَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ لَمْ يَتَقَدَّمْ
لَهُمْ ذِكْرٌ. وَ (آناءَ اللَّيْلِ) سَاعَاتُهُ. وَأَحَدُهَا
إِنًى وَأَنًى وَإِنْيٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ. وَ
(يَسْجُدُونَ) يُصَلُّونَ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ،
لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ:" وَلَهُ يَسْجُدُونَ" «2»
أَيْ يُصَلُّونَ. وَفِي الْفُرْقَانِ:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ" [الفرقان: 60] «3» وفي النجم"
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا" [النجم: 62] «4». وَقِيلَ:
يُرَادُ بِهِ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ خَاصَّةً. وَسَبَبُ
النُّزُولِ يَرُدُّهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ
كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَعَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ نَامُوا حَيْثُ جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ،
وَالْمُوَحِّدُونَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
صَلَاةِ الْعِشَاءِ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى
لَمَّا ذَكَرَ قِيَامَهُمْ قَالَ" وَهُمْ يَسْجُدُونَ" أَيْ
مَعَ الْقِيَامِ أَيْضًا. الثَّوْرِيُّ: هِيَ الصَّلَاةُ
بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ. وَقِيلَ: هِيَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ كَانَ يَدْرُسُ الْكُتُبَ
قَالَ: إِنَّا نَجِدُ كَلَامًا مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ
وَجَلَّ: أَيَحْسَبُ رَاعِي إِبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ إِذَا
جَنَّهُ اللَّيْلُ انْخَذَلَ «5» كَمَنْ هُوَ قَائِمٌ
وَسَاجِدٌ آنَاءَ اللَّيْلِ. (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) يَعْنِي
يُقِرُّونَ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)
قِيلَ: هُوَ عُمُومٌ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ
بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ
النَّهْيُ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. (وَيُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ) الَّتِي يَعْمَلُونَهَا مُبَادِرِينَ غير
متثاقلين
__________
(1). في الأصول: عصيت إليها القلب إنى لأمرها والتصويب عن
ديوان أبى ذؤيب. يقول: عصاني القلب وذهب إليها فأنا اتبع ما
يأمرني به.
(2). راجع ج 7 ص 356.
(3). راجع ج 13 ص 64.
(4). راجع ج 17 ص 121.
(5). انخذل: انفرد.
(4/176)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابِهِمْ.
وَقِيلَ: يُبَادِرُونَ «1» بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْفَوْتِ.
(وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أَيْ مَعَ الصَّالِحِينَ،
وَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْجَنَّةِ. (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ) قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِالْيَاءِ فِيهِمَا،
إِخْبَارًا عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل
عمران: 110]. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَانَ أَبُو
عَمْرٍو يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا الْيَاءَ وَالتَّاءَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وما تفعلوا من خير فإن تُجْحَدُوا
ثَوَابَهُ بَلْ يُشْكَرُ لَكُمْ وَتُجَازَوْنَ عَلَيْهِ.
[سورة آل عمران (3): آية 116]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسْمُ إِنَّ،
وَالْخَبَرُ (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً). قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا
ذَكَرَ تَعَالَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكَرَ
كُفَّارَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا".
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَعَلَ هَذَا ابْتِدَاءً فَقَالَ: إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كَثْرَةُ
أَمْوَالِهِمْ وَلَا كَثْرَةُ أَوْلَادِهِمْ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ شَيْئًا. وَخَصَّ الْأَوْلَادَ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ
أَنْسَابِهِمْ إِلَيْهِمْ. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَكَذَا وَ (هُمْ فِيها خالِدُونَ).
وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا.
[سورة آل عمران (3): آية 117]
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قوله تعالى: َثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)
"ا
" تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَتَصْلُحُ أَنْ
تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ
مَثَلُ مَا ينفقونه. ومعنى"مَثَلِ رِيحٍ
" كَمَثَلِ مَهَبِّ «2» رِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَالصِّرُّ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ
الصَّرِيرِ
__________
(1). في ب: مبادرين. [ ..... ]
(2). في ب ود وهـ: مهلك ريح.
(4/177)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (118)
الَّذِي هُوَ الصَّوْتُ، فَهُوَ صَوْتُ
الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ. الزَّجَّاجُ: هُوَ صَوْتُ لَهَبِ
النَّارِ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الرِّيحِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ «1». وَفِي
الْحَدِيثِ: إِنَّهُ نَهَى عَنِ الْجَرَادِ الَّذِي قَتَلَهُ
الصِّرُّ «2». وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَةِ
الْكَافِرِينَ فِي بُطْلَانِهَا وَذَهَابِهَا وَعَدَمِ
مَنْفَعَتِهَا كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ أَوْ
نَارٌ فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا
يرجون فائدته «3» ونفعه. قال الله تعالى: َ- ما ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ)
بذلكَ- لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ زَرَعُوا فِي غَيْرِ
وَقْتِ الزِّرَاعَةِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا
فَأَدَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، لِوَضْعِهِمُ الشَّيْءَ فِي
غَيْرِ موضعه، حكاه المهدوي.
[سورة آل عمران (3): آية 118]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى
الزَّجْرَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَهُوَ
مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ:" إِنْ تُطِيعُوا
فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران: 100].
وَالْبِطَانَةُ مَصْدَرٌ، يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ
وَالْجَمْعُ. وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ
يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَطْنِ الَّذِي
هُوَ خِلَافُ الظَّهْرِ. وَبَطَنَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَبْطُنُ
بُطُونًا وَبِطَانَةً إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
أُولَئِكَ خُلَصَائِي «4» نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ
عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
الثَّانِيَةُ- نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ
بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ
وَالْيَهُودِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ وَوُلَجَاءَ،
يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ
أُمُورَهُمْ. وَيُقَالُ: كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ
مَذْهَبِكَ وَدِينِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُحَادِثَهُ،
قَالَ الشَّاعِرُ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فكل
«5» قرين بالمقارن يقتدي
__________
(1). راجع ج 3 ص 319.
(2). الصر في هذا الحديث: البرد.
(3). في ب وهـ ود: عائدته.
(4). ف هـ: خلصاني، عيبتي: خاصتي وموضع سرى.
(5). في د: فكم من قرين، وفى هـ: فإن القرين.
(4/178)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ
أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ). وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِإِخْوَانِهِمْ. ثُمَّ
بَيَّنَ تَعَالَى الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى عَنِ
الْمُوَاصَلَةِ فَقَالَ: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) يَقُولُ
فَسَادًا. يَعْنِي لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي فَسَادِكُمْ،
يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الظَّاهِرِ
فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي الْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَرُوِيَ «1»
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا" قَالَ: (هُمُ
الْخَوَارِجُ). وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ
اسْتَكْتَبَ ذِمِّيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يُعَنِّفُهُ
وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
بِحِسَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى عُمَرَ فَأَعْجَبَهُ، وَجَاءَ
عُمَرَ كِتَابٌ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: أَيْنَ كَاتِبُكَ
يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ
لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. فَقَالَ لِمَ! أَجُنُبٌ هُوَ؟
قَالَ: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: لَا
تُدْنِهِمْ وَقَدْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُكْرِمْهُمْ
وَقَدْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تَأْمَنْهُمْ وَقَدْ
خَوَّنَهُمُ اللَّهُ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: لَا تَسْتَعْمِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ
يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَا، «2» وَاسْتَعِينُوا عَلَى
أُمُورِكُمْ وَعَلَى رَعِيَّتِكُمْ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ
اللَّهَ تَعَالَى. وَقِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنْ نَصَارَى الْحِيرَةِ لَا أَحَدَ
أَكْتَبُ مِنْهُ وَلَا أَخَطُّ بِقَلَمٍ أَفَلَا يَكْتُبُ
عَنْكَ؟ فَقَالَ: لَا آخُذُ «3» بِطَانَةً مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَلَا يَجُوزُ اسْتِكْتَابُ أَهْلِ
الذِّمَّةِ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالِاسْتِنَابَةِ إِلَيْهِمْ. قُلْتُ:
وَقَدِ انْقَلَبَتِ الْأَحْوَالُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ
بِاتِّخَاذِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَتَبَةً وَأُمَنَاءَ
وَتَسَوَّدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ
مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ
وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ
بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ
عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ
عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى) «4».
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لَا تَسْتَضِيئُوا
بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ
غَرِيبًا". فَسَّرَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الحسن فقال: أراد
عليه
__________
(1). في ب ود وهـ: روى أبو أمامة.
(2). في أ: الربا.
(3). في ب ود وهـ: إذا اتخذ إلخ.
(4). الحديث كما في النسخ الاميرية، وسائر الأصول: بالخير، بدل
المعروف، وفى ج: تحثه عليه.
(4/179)
السلام لا تستشيروا المشركين في شي مِنْ
أُمُورِكُمْ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ مُحَمَّدًا.
قَالَ الْحَسَنُ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ" الْآيَةَ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ دُونِكُمْ" أَيْ «1» مِنْ سِوَاكُمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ:" وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ" «2»
أَيْ سِوَى ذَلِكَ. وَقِيلَ:" مِنْ دُونِكُمْ" يَعْنِي فِي
السَّيْرِ وَحُسْنِ الْمَذْهَبِ. وَمَعْنَى" لَا يَأْلُونَكُمْ
خَبالًا" لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ
عَلَيْكُمْ. وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ" بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ". يُقَالُ: لَا آلُو جَهْدًا أَيْ لَا أُقَصِّرُ.
وَأَلَوْتُ أَلْوًا قَصَّرْتُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ...
بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ
وَالْخَبَالُ: الْخَبْلُ. وَالْخَبْلُ: الْفَسَادُ، وَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ) أَيْ
جُرْحٍ يُفْسِدُ الْعُضْوَ. وَالْخَبْلُ: فَسَادُ
الْأَعْضَاءِ، وَرَجُلٌ خَبْلٌ وَمُخْتَبَلٌ، وَخَبَلَهُ
الْحُبُّ أَيْ أَفْسَدَهُ. قَالَ أَوْسٌ:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا
مَخْبُولَةَ «3» الْعَضُدِ
أَيْ فَاسِدَةَ الْعَضُدِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
نَظَرَ ابْنُ سَعْدٍ نَظْرَةً وَبَّتْ «4» بِهَا ... كَانَتْ
لصحبك والمطي خبالا
أي فساد. وَانْتَصَبَ" خَبالًا" بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي،
لِأَنَّ الْأَلْوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَإِنْ
شِئْتَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَخْبِلُونَكُمْ خَبَالًا:
وَإِنْ شِئْتَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِالْخَبَالِ، كَمَا
قَالُوا: أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا:" وَما" فِي قَوْلِهِ: (وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ وَدُّوا عَنَتَكُمْ. أَيْ
مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ. وَالْعَنَتُ الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ
مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «5» مَعْنَاهُ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) يَعْنِي ظَهَرَتِ الْعَدَاوَةُ وَالتَّكْذِيبُ
لَكُمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. وَالْبَغْضَاءُ: الْبُغْضُ، وَهُوَ
ضِدُّ الْحُبِّ. وَالْبَغْضَاءُ مَصْدَرٌ مُؤَنَّثٌ. وَخَصَّ
تَعَالَى الْأَفْوَاهَ بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَلْسِنَةِ
إِشَارَةً إِلَى تَشَدُّقِهِمْ وَثَرْثَرَتِهِمْ فِي
أَقْوَالِهِمْ هَذِهِ، فَهُمْ
__________
(1). في ب ود وهـ: يعنى.
(2). راجع ج 11 ص 322.
(3). الذي في ديوانه: إلا يدا ليست لها عضد
(4). الوب: التهبؤ للحملة في الحرب. [ ..... ]
(5). راجع ج 3 ص 66.
(4/180)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
فَوْقَ الْمُتَسَتِّرِ الَّذِي تَبْدُو
الْبَغْضَاءُ فِي عَيْنَيْهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى
نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَشْتَحِيَ «1» الرَّجُلُ
فَاهُ فِي عِرْضِ أَخِيهِ. مَعْنَاهُ أَنْ يَفْتَحَ، يُقَالُ:
شَحَى الْحِمَارُ فَاهُ بِالنَّهِيقِ، وَشَحَى الْفَمُ
نَفْسَهُ. وَشَحَى اللِّجَامُ فَمَ الْفَرَسِ شَحْيًا،
وَجَاءَتِ الْخَيْلُ شَوَاحِيَ: فَاتِحَاتٍ أَفْوَاهَهَا.
وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلُ خِطَابٍ عَلَى
الْجَوَازِ فَيَأْخُذُ أَحَدٌ فِي عِرْضِ أَخِيهِ هَمْسًا،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَفِي
التنزيل" وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" [الحجرات: 12] «2»
الْآيَةَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ). فَذِكْرُ الشَّحْوِ إِنَّمَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى
التَّشَدُّقِ وَالِانْبِسَاطِ، فَاعْلَمْ. الْخَامِسَةُ- وَفِي
هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ
عَلَى عَدُوِّهِ لَا يَجُوزُ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ جَوَازُ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ ابْنِ
شَعْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ
لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عدوه في شي وَإِنْ
كَانَ عَدْلًا، وَالْعَدَاوَةُ تُزِيلُ الْعَدَالَةَ فَكَيْفَ
بِعَدَاوَةِ كَافِرٍ. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) إِخْبَارٌ وَإِعْلَامٌ
بِأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ مِنَ الْبَغْضَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا
يُظْهِرُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ:" قَدْ بَدَأَ الْبَغْضَاءُ" بِتَذْكِيرِ الفعل، لما
كانت البغضاء بمعنى البغض.
[سورة آل عمران (3): آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا
آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
قَوْلُهُ تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) قَوْلُهُ تعالى: (ها
أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) يعني المنافقين، دليله قوله
تعالى:" وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا"، قَالَهُ أَبُو
الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ. وَالْمَحَبَّةُ هُنَا بِمَعْنَى
الْمُصَافَاةِ، أَيْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
تُصَافُونَهُمْ وَلَا يُصَافُونَكُمْ لِنِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى تُرِيدُونَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَهُمْ يُرِيدُونَ
لَكُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، قَالَهُ
الْأَكْثَرُ. وَالْكِتَابُ اسم جنس، قال ابن عباس: يعني
__________
(1). في هـ ود: يشحى. وفى اللسان شحا يشحو فاه فتحه، وشحا
يشحاه.
(2). راجع ج 16 ص 334.
(4/181)
بِالْكُتُبِ. وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ
بِالْبَعْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ
عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" [البقرة: 91] «1».
(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) أَيْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِذا خَلَوْا) فِيمَا
بَيْنَهُمْ (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) يَعْنِي
أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ (مِنَ الْغَيْظِ) وَالْحَنَقِ
عَلَيْكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ
إِلَى هَؤُلَاءِ ظَهَرُوا وَكَثُرُوا. وَالْعَضُّ عِبَارَةٌ
عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى
إِنْفَاذِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ
الْغَيْظِ أَطْرَافَ الْأَبَاهِيمِ
يُقَالُ: عَضَّ يَعَضُّ عَضًّا وَعَضِيضًا. وَالْعُضُّ (بِضَمِ
الْعَيْنِ): عَلَفُ دَوَابِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِثْلَ
الْكُسْبِ وَالنَّوَى الْمَرْضُوخِ، يُقَالُ مِنْهُ: أَعَضَّ
الْقَوْمُ، إِذَا أَكَلَتْ إِبِلُهُمُ الْعُضَّ. وَبَعِيرٌ
عُضَاضِيٌّ، أَيْ سَمِينٌ كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ.
وَالْعِضُّ (بِالْكَسْرِ): الدَّاهِي مِنَ الرِّجَالِ
وَالْبَلِيغُ الْمَكْرِ «2». وَعَضُّ الْأَنَامِلِ مِنْ فِعْلِ
الْمُغْضَبِ الَّذِي فَاتَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ
نَزَلَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ. وَهَذَا
الْعَضُّ هُوَ بِالْأَسْنَانِ كَعَضِّ الْيَدِ «3» عَلَى
فَائِتٍ قَرِيبِ الْفَوَاتِ. وَكَقَرْعِ السِّنِّ
النَّادِمَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَدِّ الْحَصَى
وَالْخَطِّ فِي الْأَرْضِ لِلْمَهْمُومِ. وَيُكْتَبُ هَذَا
الْعَضُّ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ، وَعَظَّ الزَّمَانُ
بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ، كَمَا قَالَ:
وَعَظُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ
المال إلا مسحتا أو مجلف «4»
وَوَاحِدُ الْأَنَامِلِ أُنْمُلَةٌ (بِضَمِ الْمِيمِ)
وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ. وَكَانَ أَبُو
الْجَوْزَاءِ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هُمُ
الْإِبَاضِيَّةُ «5». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ
الصِّفَةُ قَدْ تَتَرَتَّبُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ
«6» إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) إِنْ قِيلَ كَيْفَ لَمْ يَمُوتُوا وَاللَّهُ
تَعَالَى إِذَا قَالَ لِشَيْءٍ: كُنْ فَيَكُونُ. قِيلَ عَنْهُ
جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ فِيهِ الطَّبَرِيُّ وكثير
__________
(1). راجع ج 2 ص 29.
(2). في ب وهـ وج: المنكر.
(3). في ب ود وهـ: كعض اليد على اليد.
(4). البيت للفرزدق. وفى النقائض:" وعض زمان" بالضاد وهذه
الكلمة في هذا المعنى تقال بالضاد وبالظاء كما في القاموس.
والمسحت: المستأصل. والمجلف: الذي بقيت منه بقية، ويروى:
المجرف.
(5). الإباضية بريئون من ذلك، وتفسير كلام الله ينزه عن مثل
هذا التقول.
(6). في ب وهـ ود: في أهل البدع من الناس.
(4/182)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(120)
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ دُعَاءٌ
عَلَيْهِمْ. أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ أَدَامَ اللَّهُ
غَيْظَكُمْ إِلَى أَنْ تَمُوتُوا. فَعَلَى هَذَا يَتَّجِهُ
أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا مُوَاجَهَةً وَغَيْرَ
مُوَاجَهَةٍ بِخِلَافِ اللَّعْنَةِ. الثَّانِي: إِنَّ
الْمَعْنَى أَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مَا
يُؤَمِّلُونَ، فَإِنَّ الْمَوْتَ دُونَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا
الْمَعْنَى زَالَ مَعْنَى الدُّعَاءِ وَبَقِيَ مَعْنَى
التَّقْرِيعِ والاغاطة. ويجري «1» هذا المعنى مع قول مسافر ابن
أَبِي عَمْرٍو:
وَيَتَمَنَّى «2» فِي أَرُومَتِنَا ... وَنَفْقَأُ عَيْنَ مَنْ
حَسَدَا
وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَنْ
كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ
لْيَقْطَعْ" [الحج: 15] «3».
[سورة آل عمران (3): آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ"
قَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ.
وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَحْسُنُ وَيَسُوءُ. وَمَا
ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْخِصْبِ وَالْجَدْبِ
وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُولِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمْ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ أَمْثِلَةٌ وَلَيْسَ
بِاخْتِلَافٍ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كانت هذه
صِفَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ وَالْفَرَحِ
بِنُزُولِ الشَّدَائِدِ عَلَى «4» الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ
أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا
الْأَمْرِ الْجَسِيمِ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي
قَوْلِهِ:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِفَاقَتُهَا ... إِلَّا
عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) أَيْ عَلَى أَذَاهُمْ وَعَلَى الطَّاعَةِ
وَمُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ «5»
كَيْدُهُمْ شَيْئاً). يُقَالُ: ضَارَّهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ
ضَيْرًا وَضَوْرًا، فَشَرَطَ تَعَالَى نَفْيَ ضَرَرِهِمْ
بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَةً لِنُفُوسِهِمْ.
__________
(1). في و: يجوز.
(2). في هـ: ونتمى، وفى ابن عطية ونبني، وفى الأغاني: وزمزم من
أرومتنا.
(3). راجع ج 13 ص 21.
(4). في دوب وهـ بالمؤمنين.
(5). قراءة نافع. [ ..... ]
(4/183)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قُلْتُ- «1» قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ
وَأَبُو عَمْرٍو" لَا يَضُرُّكُمْ" مِنْ ضَارَّ يُضِيرُ كَمَا
ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ" لَا ضَيْرَ"، وَحُذِفَتِ
الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّكَ لَمَّا
حَذَفْتَ الضَّمَّةَ مِنَ الرَّاءِ بَقِيَتِ الرَّاءُ
سَاكِنَةً وَالْيَاءُ سَاكِنَةً فَحُذِفَتِ الْيَاءُ،
وَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحَذْفِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا مَا يَدُلُّ
عَلَيْهَا. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ" ضَارَّهُ
يَضُورُهُ" وَأَجَازَ" لَا يَضُرْكُمْ" وَزَعَمَ أَنَّ فِي
قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كعب" لا يضرركم" «2». [وقرا
الْكُوفِيُّونَ:" لَا يَضُرُّكُمْ" بِضَمِ الرَّاءِ
وَتَشْدِيدِهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ] «3». وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ الْفَاءِ،
وَالْمَعْنَى: فَلَا يَضُرُّكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
«4»
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، أَوْ يَكُونُ
مَرْفُوعًا على نية التقديم، وأنشد سيبويه:
إنك إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ «5»
أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا، وَضُمَّتِ الرَّاءُ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ عَلَى إِتْبَاعِ الضَّمِّ. وَكَذَلِكَ
قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ
مَجْزُومٌ، وَفَتَحَ" يَضُرُّكُمْ" لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ لِخِفَّةِ الْفَتْحِ، رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ
عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ.
وَحَكَى النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ عَنْ
عَاصِمٍ" لَا يَضُرِّكُمْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ لالتقاء
الساكنين.
[سورة آل عمران (3): آية 121]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ)
الْعَامِلُ فِي" إِذْ" فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ
إِذْ غَدَوْتَ، يَعْنِي خَرَجْتَ بِالصَّبَاحِ. (مِنْ
أَهْلِكَ) مِنْ مَنْزِلِكَ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ. (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) هَذِهِ غَزْوَةُ أُحُدٍ وَفِيهَا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ. وَعَنِ الْحَسَنِ
أَيْضًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا
غَزْوَةُ أُحُدٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ
هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا" [آل عمران: 122]
وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ
قَصَدُوا الْمَدِينَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ
لِيَأْخُذُوا بثأرهم
__________
(1). كذا في د، وفى ب وا: قراآت قرأ، وفى زوجة: قرأ.
(2). في د ر هـ: يضور والتصحيح من البحر قال: بفك الإدغام وهى
لغة أهل الحجاز.
(3). الزيادة من ب ودرهم.
(4). هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. وتمامه: والشر بالشر عند
الله سيان
(5). هذا عجز بيت لجرير بن عبد الله. وصدره: يا أقرع بن حابس
يا أقرع
(4/184)
إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَنَزَلُوا عِنْدَ
أُحُدٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي بِقَنَاةٍ مُقَابِلَ
الْمَدِينَةِ، يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، عَلَى رَأْسِ
أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، فَأَقَامُوا
هُنَالِكَ يَوْمَ الْخَمِيسَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ أَنَّ فِي
سَيْفِهِ ثُلْمَةً، وَأَنَّ بَقَرًا لَهُ تُذْبَحُ، وَأَنَّهُ
أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَتَأَوَّلَهَا أَنَّ
نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ يُصَابُ، وَأَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ
الْمَدِينَةُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ
عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مِنْ تِلْكَ الْغَزَاةِ.
وَأَصْلُ التَّبَوُّءِ اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، بَوَّأْتُهُ
مَنْزِلًا إِذَا أسكنته إياه، ومنه قول عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنَ النَّارِ) أَيْ لِيَتَّخِذِ فِيهَا مَنْزِلًا. فَمَعْنَى"
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ" تَتَّخِذُ لَهُمْ مَصَافَّ.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رَأَيْتُ
فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا وَكَأَنَّ
ضَبَّةَ سَيْفِي انْكَسَرَتْ فَأَوَّلْتُ أَنِّي أَقْتُلُ
كَبْشَ الْقَوْمِ وَأَوَّلْتُ كَسْرَ ضَبَّةِ سَيْفِي قَتْلَ
رَجُلٍ مِنْ عِتْرَتِي) فَقُتِلَ حَمْزَةُ وَقَتَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ، وَكَانَ
صَاحِبَ اللِّوَاءِ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ: وَكَانَ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال: أَنَا عَاصِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا مَعِي، فَقَالَ
لَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ أَخُو سَعِيدِ ابن عُثْمَانَ
اللَّخْمِيِّ: هَلْ لَكَ يَا عَاصِمُ فِي الْمُبَارَزَةِ؟
قَالَ نَعَمْ، فَبَدَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ. فَضَرَبَ
بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ طَلْحَةَ حَتَّى وَقَعَ السَّيْفُ
فِي لِحْيَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ قَتْلُ صَاحِبِ اللِّوَاءِ
«1» تَصْدِيقًا لِرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كأني مردف كبشا).
[سورة آل عمران (3): آية 122]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(122)
الْعَامِلُ فِي إذ" تَبُوءَ" أَوْ" سَمِيعٌ عَلِيمٌ".
وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو
حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ
يَوْمَ أُحُدٍ. وَمَعْنَى (أَنْ تَفْشَلا) أَنْ تَجْبُنَا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ
(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُما" قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ: بَنُو حَارِثَةَ
وَبَنُو سَلِمَةَ، وَمَا نُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ،
لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَاللَّهُ وَلِيُّهُما".
وَقِيلَ:
__________
(1). في ب وهـ وح وز: صاحب لواء المشركين. ما أثبتناه من د.
(4/185)
هُمْ بَنُو الْحَارِثِ وَبَنُو الْخَزْرَجِ
وَبَنُو النَّبِيتِ، وَالنَّبِيتُ هُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ
مِنْ بَنِي الْأَوْسِ. وَالْفَشَلُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُبْنِ،
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ. وَالْهَمُّ مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْخُرُوجِ لَمَّا رَجَعَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ فَحَفِظَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فَلَمْ
يَرْجِعُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاللَّهُ
وَلِيُّهُما" يعني قُلُوبَهُمَا عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا
الْهَمِّ. وَقِيلَ: أَرَادُوا التَّقَاعُدَ عَنِ الْخُرُوجِ،
وَكَانَ ذَلِكَ صَغِيرَةً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ
حَدِيثَ نَفْسٍ مِنْهُمْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ فَأَطْلَعَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فَازْدَادُوا
بَصِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْخَوَرُ «1» مُكْتَسَبًا
لَهُمْ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ، وَذَمَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
وَنَهَضُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى أَطَلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنَ
الْمَدِينَةِ فِي أَلْفٍ، فَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أبي بن سول بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مُغَاضِبًا «2»، إِذْ
خُولِفَ رَأْيُهُ حِينَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ وَالْقِتَالِ فِي
الْمَدِينَةِ إِنْ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، وَكَانَ
رَأْيُهُ وَافَقَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ،
وَسَيَأْتِي. وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ فَاسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ
مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ: قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ أُحُدٍ
أَرْبَعَةٌ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ. وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَكَانُ
الْقُعُودِ، [وَهَذَا] «3» بِمَنْزِلَةِ مَوَاقِفَ، وَلَكِنَّ
لَفْظَ الْقُعُودِ دَالٌّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَا سِيَّمَا
أَنَّ الرُّمَاةَ كَانُوا قُعُودًا. هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ
غَزَاةِ أُحُدٍ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَسَيَأْتِي مِنْ
تَفْصِيلِهَا مَا فِيهِ شِفَاءٌ. وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ
يومئذ مائة فرس عليها خاله بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ
مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فَرَسٌ. وَفِيهَا جُرِحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى
بِحَجَرٍ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ «4» مِنْ عَلَى رَأْسِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَزَاهُ عَنْ أُمَّتِهِ
ودينه بِأَفْضَلِ مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ
عَلَى صَبْرِهِ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ
قَمِيئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ جَدَّ
الْفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ هُوَ الَّذِي
شَجَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَبْهَتِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالثَّابِتُ «5» عِنْدَنَا
أَنَّ الَّذِي رَمَى فِي وَجْهِ «6» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن قميئة، والذي
__________
(1). كذا في د وز وب.
(2). كذا في دوب وهـ وج.
(3). من دوب وهـ.
(4). البيضة: الخوذة، وهى زود ينسخ على قدر الرأس يلبس تحت
القلنسوة، وفى ب ود وهـ، هشمت البيضة رأسه.
(5). في ب ود وهـ: الثبت.
(6). في د وهـ وب، وجني النبي.
(4/186)
أَدْمَى «1» شَفَتَهُ وَأَصَابَ
رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ:
شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ تَأْتِي مِنْ
كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَطَهَا كُلُّ [ذَلِكَ] «2» يُصْرَفُ عَنْهُ.
وَلَقَدْ رأيت عبد الله ابن شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ
يَوْمَئِذٍ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ دُلُّونِي عَلَى
مُحَمَّدٍ، فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. [وَأَنَّ] «3» رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ مَا
مَعَهُ أَحَدٌ ثُمَّ جَاوَزَهُ، فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ
صَفْوَانُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ
بِاللَّهِ إِنَّهُ مِنَّا مَمْنُوعٌ! خَرَجْنَا أَرْبَعَةً
فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ [فَلَمْ
نَخْلُصْ «4» إِلَى ذَلِكَ]. وَأَكَبَّتِ الْحِجَارَةُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
سَقَطَ فِي حُفْرَةٍ، كَانَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَدْ
حَفَرَهَا مَكِيدَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى جَنْبِهِ وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ حَتَّى
قَامَ، وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ مِنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّمَ، وتشبثت «5» حَلْقَتَانِ مِنْ
دِرْعِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجراح وعض
عليهما بثنيتيه فَسَقَطَتَا، فَكَانَ أَهْتَمَ يَزِينُهُ
هَتَمُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ
قُتِلَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ،
وَكَانَ وَحْشِيٌّ مَمْلُوكًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَقَدْ كَانَ جُبَيْرٌ قَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا
جَعَلْنَا لَكَ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ، وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَعَلْنَا لَكَ مِائَةَ نَاقَةٍ
كُلُّهَا سُودُ الْحَدَقِ، وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ
فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَالَ وَحْشِيٌّ: أَمَّا مُحَمَّدٌ
فَعَلَيْهِ حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ
أَحَدٌ. وَأَمَّا عَلِيٌّ مَا بَرَزَ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا
قَتَلَهُ. وَأَمَّا حَمْزَةُ فَرَجُلٌ شُجَاعٌ، وَعَسَى أَنْ
أُصَادِفَهُ فَأَقْتُلَهُ. وَكَانَتْ هِنْدٌ كُلَّمَا
تَهَيَّأَ وَحْشِيٌّ أَوْ مَرَّتْ بِهِ قَالَتْ: إِيهًا أَبَا
دَسَمَةَ اشْفِ وَاسْتَشْفِ. فَكَمِنَ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ،
وَكَانَ حَمْزَةُ حَمَلَ عَلَى الْقَوْمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ حَمْلَتِهِ وَمَرَّ بِوَحْشِيٍّ زَرَقَهُ
بِالْمِزْرَاقِ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا «6» رَحِمَهُ
اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَقَرَتْ
هِنْدٌ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ
أَنْ تَسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ
مُشْرِفَةٍ فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ
الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي من صبر ... ولا أخي وعمه بكري
__________
(1). في ب ود وهـ: رمى.
(2). زيادة عن مغازي الواقدي. [ ..... ]
(3). في ب ود وهـ: رمى.
(4). زيادة عن مغازي الواقدي.
(5). في د: تشبت، وفى هـ: نشبت.
(6). كذا في د، وفى ب وهـ وح: فسقط منها.
(4/187)
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي ...
شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي ... حَتَّى تَرِمَّ
أَعْظُمِي فِي قَبْرِي
فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ:
خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ ... يَا بِنْتَ وَقَّاعٍ
عَظِيمَ الْكُفْرِ
صَبَّحَكِ اللَّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ ... مِلْهَاشِمِيِّينَ
الطِّوَالِ الزُّهْرِ
بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي ... حَمْزَةُ لَيْثِي
وَعَلِيٌّ صَقْرِي
إِذْ رَامَ شَيْبَ «1» وَأَبُوكِ غدى ... فَخَضَبَا «2» مِنْهُ
ضَوَاحِيَ النَّحْرِ
وَنَذْرِكِ السُّوءَ فَشَرُّ نَذْرِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَبْكِي حَمْزَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغْنِي
الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
عَلَى أَسَدِ الْإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا ... أَحَمْزَةُ
ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ
أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعًا ... هُنَاكَ، وَقَدْ
أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ
أَبَا يَعْلَى لَكَ الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصل
عَلَيْكَ سَلَامُ رَبِّكِ فِي جِنَانٍ ... مُخَالِطُهَا
نَعِيمٌ لَا يَزُولُ
أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا ... فَكُلُّ
فِعَالِكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ
رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمُ ... بِأَمْرِ اللَّهِ
يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا ... فَبَعْدَ الْيَوْمِ
دَائِلَةٌ تَدُولُ
وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعَنَا
بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ
نَسِيتُمْ ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ «3» بَدْرٍ ... غَدَاةً
أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الْعَجِيلُ
غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ
حَائِمَةً تَجُولُ
وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرَّا جَمِيعًا ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ
السَّيْفُ الصَّقِيلُ
__________
(1). أرادت شيبة بن ربيعة أبا هند. وقد رخم هنا في غير النداء
لضرورة الشعر.
(2). في د: مخضبا.
(3). القليب (بفتح أوله وكسر ثانيه): البئر العادية القديمة
التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري، يذكر ويؤنث.
(4/188)
وَمَتْرَكُنَا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا «1»
... وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ «2»
وهام بني ربيعة سائلوها ... ففي أسيافها مِنْهَا فُلُولُ
أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا ... بِحَمْزَةَ إِنَّ
عِزَّكُمُ ذَلِيلُ
أَلَا يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي ... فَأَنْتِ
الْوَالِهُ الْعَبْرَى الْهَبُولُ «3»
وَرَثَتْهُ أَيْضًا أُخْتُهُ صَفِيَّةُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ
فِي السِّيرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ
التَّوَكُّلِ. وَالتَّوَكُّلُ فِي اللُّغَةِ إِظْهَارُ
الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْغَيْرِ «4» وَوَاكَلَ
فُلَانٌ إِذَا ضَيَّعَ أَمْرَهُ مُتَّكِلًا عَلَى غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ،
فَسُئِلَ عَنْهُ سَهْلُ بن عبد الله فقال: قالت فرقة أرض
الرِّضَا بِالضَّمَانِ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ مِنَ
الْمَخْلُوقِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: التَّوَكُّلُ تَرْكُ
الْأَسْبَابِ وَالرُّكُونُ إِلَى مُسَبَّبِ الْأَسْبَابِ،
فَإِذَا شَغَلَهُ السَّبَبُ عَنِ الْمُسَبِّبِ زَالَ عَنْهُ
اسْمُ التَّوَكُّلِ. قَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَالَ إِنَّ
التَّوَكُّلَ يَكُونُ بِتَرْكِ السَّبَبِ فَقَدْ طَعَنِ فِي
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً" [الأنفال: 69] «5»
فَالْغَنِيمَةُ اكْتِسَابٌ. وَقَالَ تَعَالَى:" فَاضْرِبُوا
فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ"
[الأنفال: 12] «6» فَهَذَا عَمَلٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ
الْمُحْتَرِفَ). وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِضُونَ عَلَى السَّرِيَّةِ
«7». وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ،
وَأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ هُوَ الثِّقَةُ بِاللَّهِ
وَالْإِيقَانُ بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ، وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ
نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السعي فيما
لأبد مِنْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ
وَتَحَرُّزٍ مِنْ عَدُوٍّ وَإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ
وَاسْتِعْمَالِ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى
الْمُعْتَادَةُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَقِّقُو
الصُّوفِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ التَّوَكُّلِ
عِنْدَهُمْ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ
وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا بِالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا لَا
تَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضُرًّا، بَلِ السَّبَبُ
وَالْمُسَبَّبُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُلُّ مِنْهُ
وَبِمَشِيئَتِهِ، وَمَتَى وَقَعَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِ رُكُونٌ
إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَقَدِ انْسَلَخَ عن ذلك الاسم. ثم
المتوكلون على
__________
(1). المجلعب: المصروع إما ميتا وإما صرعا شديدا.
(2). الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللدن: الرمح.
(3). الهبول من النساء: الثكول.
(4). في ب ود: غيرك وفى هـ: غيره.
(5). راجع ج 8 ص 51.
(6). راجع ج 7 ص 377.
(7). السرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سموا بذلك
لأنهم تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.
[ ..... ]
(4/189)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ (125)
حَالَيْنِ: الْأَوَّلُ- حَالُ
الْمُتَمَكِّنِ فِي التَّوَكُّلِ فَلَا يلتفت إلى شي مِنْ
تِلْكَ الْأَسْبَابِ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَاطَاهُ إِلَّا
بِحُكْمِ الْأَمْرِ. الثَّانِي- حَالُ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ
وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ لَهُ الِالْتِفَاتُ إِلَى تِلْكَ
الْأَسْبَابِ أَحْيَانًا غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْ
نَفْسِهِ بِالطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْبَرَاهِينِ
الْقَطْعِيَّةِ، وَالْأَذْوَاقِ الْحَالِيَّةِ، فَلَا يَزَالُ
كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرَقِّيَهُ اللَّهُ بِجُودِهِ إِلَى مقام
المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.
[سورة آل عمران (3): الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) كَانَتْ بَدْرٌ يَوْمَ
سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ
لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَدْرٌ
مَاءٌ هُنَالِكَ وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِرَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ
يُسَمَّى بَدْرًا، وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَالْأَوَّلُ
أَكْثَرُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: بَدْرٌ اسْمٌ
لِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ. وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ بَدْرٍ
فِي" الْأَنْفَالِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَ"
أَذِلَّةٌ" مَعْنَاهَا قَلِيلُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أربعة عشر رجلا. وكان
عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و" أَذِلَّةٌ" جَمْعُ
ذَلِيلٍ. وَاسْمُ الذُّلِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَعَارٌ،
وَلَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا أَعِزَّةً،
وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ وَإِلَى جَمِيعِ
الْكُفَّارِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَقْتَضِي عِنْدَ
التَّأَمُّلِ ذِلَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ.
وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ،
وَقَتَلَ فِيهِ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ
الْيَوْمِ ابْتُنِيَ «2» الْإِسْلَامُ، وَكَانَ أَوَّلَ
قِتَالٍ قَاتَلَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ:
غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ إسحاق قال: لقيت
__________
(1). راجع ج 7 ص 370 فما بعد.
(2). في ب، ود: انبنى؟؟.
(4/190)
زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ
غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال
تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أَنْتَ مَعَهُ؟ فَقَالَ: سَبْعَ
عَشْرَةَ غَزْوَةً. قَالَ فَقُلْتُ: فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ
غَزَاهَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعَسِيرِ أَوِ الْعَشِيرِ. وَهَذَا
كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّوَارِيخِ
وَالسِّيَرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ
الطَّبَقَاتِ لَهُ: إِنَّ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً،
وَسَرَايَاهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتٌّ
وَأَرْبَعُونَ، «1» وَالَّتِي قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ
وَالْمُرَيْسِيعُ والخندق وخيبر وقريظة والفتح وَالطَّائِفُ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: هَذَا الَّذِي اجْتَمَعَ لَنَا عَلَيْهِ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي بَنِي
النَّضِيرِ وَفِي وَادِي الْقُرَى مُنْصَرَفِهِ مِنْ خَيْبَرَ
وَفِي الْغَابَةِ «2». وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ:
زَيْدٌ وَبُرَيْدَةُ إِنَّمَا أَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِمَا فِي عِلْمِهِ أَوْ شَاهَدَهُ. وَقَوْلُ
زَيْدٍ:" إِنَّ أَوَّلَ غَزَاةٍ غَزَاهَا ذَاتُ الْعَسِيرَةِ"
مُخَالِفٌ أَيْضًا لِمَا قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ
وَالسِّيَرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ قَبْلَ
غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ ثَلَاثُ غَزَوَاتٍ، يَعْنِي غَزَاهَا
بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ
الدُّرَرِ فِي الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. أَوَّلُ غَزَاةٍ
غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَزْوَةُ وَدَّانَ «3» غَزَاهَا بِنَفْسِهِ فِي صَفَرٍ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِاثْنَتَيْ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَقَامَ
بِهَا بَقِيَّةَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبَاقِي الْعَامِ
كُلِّهِ. إِلَى صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة: ثم
حرج فِي صَفَرٍ الْمَذْكُورِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ فَوَادَعَ «4»
بَنِي ضَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ
يَلْقَ حَرْبًا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِغَزْوَةِ
الْأَبْوَاءِ. ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى [شَهْرِ]
رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ
فِيهَا وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السَّائِبَ بْنَ
عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى بَلَغَ بَوَاطَ «5» مِنْ
نَاحِيَةِ رَضْوَى «6»، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المدينة
__________
(1). الذي في كتاب الطبقات لابن سعد:" وكانت سراياه التي بعث
بها سبعا وأربعين سرية".
(2). الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام.
(3). ودان (بفتح الواو وشد المهملة): قرية جامعة من أمهات
القرى من عمل الفرع. وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من
حجاج المدينة. (عن شرح المواهب).
(4). الموادعة: المصالحة.
(5). بواط (بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره طاء
مهملة): جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من
المدينة.
(6). رضوى (بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور): جبل بالمدينة،
وهو على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة.
(4/191)
وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا، ثُمَّ أَقَامَ
بِهَا بَقِيَّةَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَبَعْضَ جُمَادَى
الْأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَأَخَذَ
عَلَى طَرِيقِ مِلْكٍ «1» إِلَى الْعُسَيْرَةِ. قُلْتُ: ذَكَرَ
ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنْتُ
أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ
الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ فَلَمَّا نَزَلَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ
بِهَا شَهْرًا فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ
مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ فَوَادَعَهُمْ، فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكَ أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ تَأْتِيَ
هَؤُلَاءِ؟ نَفَرٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ
لَهُمْ نَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ. فَأَتَيْنَاهُمْ
فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ
فَعَمَدْنَا إِلَى صَوْرٍ «2» مِنَ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ
مِنَ الْأَرْضِ فَنِمْنَا فيه، فو الله مَا أَهَبَّنَا إِلَّا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ
الدَّقْعَاءِ فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: (مَا بَالُكَ يَا أَبَا
تُرَابٍ)، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا
فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ)
قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (أُحَيْمِرُ
ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا
عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ- وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ- حَتَّى
يَبَلَّ مِنْهَا هَذِهِ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ.
فَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى
الْأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَوَادَعَ
فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا.
ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى
بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، هَذَا الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ
التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ، فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إِنَّمَا
أَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ:
ذَاتٌ الْعُسَيْرِ بِالسِّينِ وَالشِّينِ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا
هَاءٌ فَيُقَالُ: الْعُشَيْرَةُ. ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ
الْكُبْرَى وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَشَاهِدِ فَضْلًا لِمَنْ
شَهِدَهَا، وَفِيهَا أَمَدَّ اللَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ
نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ
الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ، لَا فِي
يَوْمِ أُحُدٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ
أُحُدٍ جَعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ" إِلَى قَوْلِهِ:" تَشْكُرُونَ"؟؟
اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. هَذَا قول عامر الشعبي،
وخالفه الناس. تظاهرت الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ
حَضَرَتْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَاتَلَتْ، ومن ذلك قول أبي أسيد
مالك بن ربيعة وكان شهيد
__________
(1). ملك (بالكسر ثم السكون والكاف): واد بمكة.
(2). الصور جماعة النخل الصغار، لا واحد له من لفظه. الدقعاء:
التراب.
(4/192)
بَدْرٍ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ
بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ «1»
الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا
أَمْتَرِي. رَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي
حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
لَا يُعْرَفُ لِلزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ غَيْرُ هَذَا
الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ يُقَالُ إِنَّهُ
آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ
فِي الِاسْتِيعَابِ وَغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ عمر ابن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ
نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ
بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي
اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ
هَذِهِ الْعِصَابَةَ من الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي
الْأَرْضِ) فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ
مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ
مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ
فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ
وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ
مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا
وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ"
[الأنفال: 9] «2» فَأَمَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْمَلَائِكَةِ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ «3»: فَحَدَّثَنِي
ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المشركين أمامه
إذ يسمع ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ
يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، «4» فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ
أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا
هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ [كَضَرْبَةِ
السَّوْطِ] «5» فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ
الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ
مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ) فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ
سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي آخِرِ" الْأَنْفَالِ" «6» إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَتَظَاهَرَتِ السُّنَّةُ
وَالْقُرْآنُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: (مَنِ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ أَقْدِمْ حَيْزُومُ)؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: (يَا
مُحَمَّدُ مَا كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ). وَعَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ
فَقَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْتَحُ «7» مِنْ قَلِيبِ بَدْرٍ
جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، ثُمَّ
ذَهَبَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا
قط إلا التي كانت
__________
(1). الشعب (بالكسر): الطريق في الجبل.
(2). راجع ج 7 ص 370.
(3). أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب).
(4). حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة. [ ..... ]
(5). زيادة عن صحيح مسلم، واخضر بأسود؟.
(6). ج 8 ص 48.
(7). متح: جذب الدلو من البئر مستقيما، والماتح: المستقى.
(4/193)
قَبْلَهَا. قَالَ: وَأَظُنُّهُ ذَكَرَ:
ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَتِ الرِّيحُ الْأُولَى
جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ
الرِّيحُ الثَّانِيَةُ مِيكَائِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ عَنْ يَمِينِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ،
وَكَانَتِ الرِّيحُ الثَّالِثَةُ إِسْرَافِيلَ نَزَلَ فِي
أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ أَحَدَنَا يُشِيرُ
بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ
جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ
أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ
قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبٍ فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدْ
أُحْرِقَ بِهِ، ذَكَرَ جَمِيعَهُ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا
يُقَاتِلُونَ وَكَانَتْ عَلَامَةُ ضَرْبِهِمْ فِي الْكُفَّارِ
ظَاهِرَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أَصَابَتْ ضَرْبَتُهُمُ
اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، حَتَّى إِنَّ
أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إِنَّمَا قَتَلَنِي
الَّذِي لَمْ يَصِلْ سِنَانِي إِلَى سُنْبُكِ فَرَسِهِ «1»
وَإِنِ اجْتَهَدْتَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي
كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ لَتَسْكِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ
مُجَاهِدِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ عَسْكَرٍ
صَبَرَ وَاحْتَسَبَ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَيُقَاتِلُونَ
مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَمْ تُقَاتِلِ
الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ
يَشْهَدُونَ وَلَا يُقَاتِلُونَ إِنَّمَا يَكُونُونَ عَدَدًا
أَوْ مَدَدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتِ
الْفَائِدَةُ فِي كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَدْعُونَ وَيُسَبِّحُونَ، وَيُكَثِّرُونَ «2» الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ يَوْمَئِذٍ، فَعَلَى هَذَا لَمْ تُقَاتِلِ
الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ «3» وَإِنَّمَا حَضَرُوا
لِلدُّعَاءِ بِالتَّثْبِيتِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. قَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَدَّهُمُ اللَّهُ
بِأَلْفٍ ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا
خَمْسَةَ آلَافٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" «4»
وَقَوْلُهُ:" أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ" [آل عمران:
124] وَقَوْلُهُ:" بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران:
125] فَصَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاتَّقَوُا
اللَّهَ فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ، فَهَذَا كُلُّهُ يَوْمَ
بَدْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ آلَافٍ
رِدْءٌ «5» لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ القيامة. قال الشعبي:
بلغ النبي
__________
(1). في د: قدميه. وسنبك الدابة طرف حافرها.
(2). في د وهـ وب: والثواب للذين يقاتلون ...
(3). في هـ ود: إلا يوم بدر.
(4). راجع ج 7 ص 370.
(5). الردء: العون والناصر.
(4/194)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ
الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلَنْ
يَكْفِيَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ" فَبَلَغَ كُرْزًا
الْهَزِيمَةُ فَلَمْ يُمِدَّهُمْ وَرَجَعَ، فَلَمْ يُمِدَّهُمُ
«1» اللَّهُ أَيْضًا بِالْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَكَانُوا قَدْ
مُدُّوا بِأَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ إِنْ صَبَرُوا عَلَى طَاعَتِهِ،
وَاتَّقَوْا مَحَارِمَهُ أَنْ يُمِدَّهُمْ أَيْضًا فِي
حُرُوبِهِمْ كُلِّهَا، فَلَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا
مَحَارِمَهُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَأَمَدَّهُمْ
حِينَ حَاصَرُوا قُرَيْظَةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا
يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْمَدَدَ إِنْ صَبَرُوا،
فَمَا صَبَرُوا فَلَمْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ
أُمِدُّوا لَمَا هُزِمُوا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يمين رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ بَدْرٍ
«2» رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ
أَشَدَّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.
قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَصَّهُ بِمَلَكَيْنِ
يُقَاتِلَانِ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِمْدَادًا
لِلصَّحَابَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- نُزُولُ
الْمَلَائِكَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ لَا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
الْمَخْلُوقُ فَلْيُعَلِّقِ الْقَلْبَ بِاللَّهِ وَلْيَثِقْ
بِهِ، فَهُوَ النَّاصِرُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ،" إِنَّما
أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ" [يس: 82] «3». لَكِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ
لِيَمْتَثِلَ الْخَلْقُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلٌ،" وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا" [الأحزاب: 62] «4»، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ
فِي التَّوَكُّلِ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْأَسْبَابَ إِنَّمَا سُنَّتْ فِي حَقِّ الضُّعَفَاءِ لَا
لِلْأَقْوِيَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا الْأَقْوِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ
هُمُ الضُّعَفَاءُ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَ" مَدَّ" فِي الشَّرِّ
وَ" أَمَدَّ" فِي الْخَيْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ
«5». وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" مُنْزِلِينَ" بِكَسْرِ الزَّايِ
مُخَفَّفًا، يَعْنِي مُنْزِلِينَ النَّصْرَ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ مُشَدَّدَةَ الزَّايِ مَفْتُوحَةً عَلَى التَّكْثِيرِ.
ثُمَّ قَالَ: (بَلَى) وَتَمَّ الْكَلَامُ." إِنْ تَصْبِرُوا"
شَرْطٌ، أَيْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. (وَتَتَّقُوا) عَطْفٌ
عليه، أي معصيته. والجواب" يُمِدَّكُمْ". وَمَعْنَى" مِنْ
فَوْرِهِمْ" مِنْ وَجْهِهِمْ. هَذَا عَنْ عكرمة وقتادة والحسن
__________
(1). في ج وا: فأمدهم. والمثبت هو ما في باقى الأصول وهو
التحقيق قال الألوسي: ولم يمدوا بها بناء على تعليق الامداد
بها بمجموع الأمور الثلاثة إلخ.
(2). في ب وهـ: يوم أحد.
(3). راجع ج 15 ص 60.
(4). راجع ج 14 ص 247.
(5). راجع ج 1 ص 209.
(4/195)
والربيع والسدي وأبي زَيْدٍ. وَقِيلَ: مِنْ
غَضَبِهِمْ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. كَانُوا قَدْ
غَضِبُوا يَوْمَ أُحُدٍ لِيَوْمِ بَدْرٍ مِمَّا لَقُوا.
وَأَصْلُ الْفَوْرِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ
فِيهِ بِجِدٍّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ
تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا إِذَا غَلَتْ. وَالْفَوْرُ
الْغَلَيَانُ. وَفَارَ غَضَبُهُ إِذَا جَاشَ. وَفَعَلَهُ مِنْ
فوره أي قبل أن يسكن. والفوراة مَا يَفُورُ مِنَ الْقِدْرِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ" وَفارَ التَّنُّورُ" [هود: 40] «1». قَالَ
الشَّاعِرُ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسَوِّمِينَ) بِفَتْحِ
الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ
وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ. أَيْ مُعَلَّمِينَ
بِعَلَامَاتٍ. وَ" مُسَوِّمِينَ" بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ
فَاعِلٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ كَثِيرٍ
وَعَاصِمٍ، فَيَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ
قَدْ أَعْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ، وَأَعْلَمُوا
خَيْلَهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ
الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:
مُسَوِّمِينَ أَيْ مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ، فِي الْغَارَةِ.
وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي" مُسَوِّمِينَ"
بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
الْكُفَّارِ. وَقَالَهُ ابْنُ فُورَكَ أَيْضًا. وَعَلَى
الْقِرَاءَةِ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي سِيمَا
الْمَلَائِكَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ
اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ قَدْ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ
أَكْتَافِهِمْ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ. إِلَّا جِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ كَانَ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى مِثَالِ
الزُّبَيْرِ بْنِ العوام، وقال ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ
الرَّبِيعُ: كَانَتْ سِيمَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى
خَيْلٍ بُلْقٍ. قُلْتُ: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُهَيْلِ
بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ
يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعَلَّمِينَ يَقْتُلُونَ
وَيَأْسِرُونَ. فَقَوْلُهُ:" مُعَلَّمِينَ" دَلَّ عَلَى أَنَّ
الْخَيْلَ الْبُلْقَ لَيْسَتِ السِّيمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ خَيْلُهُمْ مَجْزُوزَةَ
الْأَذْنَابِ وَالْأَعْرَافِ مُعَلَّمَةَ النَّوَاصِي
وَالْأَذْنَابِ بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ «2». وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَوَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ
بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ
وَأَذْنَابِهَا. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتِ
الْمَلَائِكَةُ فِي سِيمَا الزُّبَيْرِ عَلَيْهِمْ عمائم صفر
مرخاة عَلَى أَكْتَافِهِمْ. وَقَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ
وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
كَانَتْ مُلَاءَةً صَفْرَاءَ اعْتَمَّ بِهَا الزُّبَيْرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قلت: ودلت الآية-
__________
(1). راجع ج 9 ص 33. [ ..... ]
(2). العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
(4/196)
وهي الرابعة- على اتخاذ [الشارة و] «1»
العلامة لِلْقَبَائِلِ وَالْكَتَائِبِ يَجْعَلُهَا
السُّلْطَانُ لَهُمْ، لِتَتَمَيَّزَ كُلُّ قَبِيلَةٍ
وَكَتِيبَةٍ مِنْ غَيْرِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَعَلَى فَضْلِ
الْخَيْلِ الْبُلْقِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا.
قُلْتُ:- وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهَا مُوَافَقَةً
لِفَرَسِ الْمِقْدَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَبْلَقَ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ فَرَسٌ غَيْرُهُ، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ
عَلَى الْخَيْلِ الْبُلْقِ إِكْرَامًا لِلْمِقْدَادِ، كَمَا
نَزَلَ جِبْرِيلُ مُعْتَجِرًا «2» بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى
مِثَالِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ
أَيْضًا- وَهِيَ الْخَامِسَةُ- عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ وَقَدْ
لَبِسَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لِي أَبِي: لَوْ شَهِدْتَنَا
وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ لَحَسِبْتَ أَنَّ
رِيحَنَا رِيحُ الضَّأْنِ. وَلَبِسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جُبَّةً رُومِيَّةً مِنْ صُوفٍ ضَيِّقَةِ
الْكُمَّيْنِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَلَبِسَهَا يُونُسُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا
الْمَعْنَى مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" النَّحْلِ" «3» إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- قُلْتُ: وَأَمَّا مَا
ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ خَيْلَهُمْ كَانَتْ مَجْزُوزَةَ
الأذناب والأعراف فبعد، فَإِنَّ فِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ
عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا تَقُصُّوا نَوَاصِيَ الْخَيْلِ وَلَا مَعَارِفَهَا وَلَا
أَذْنَابَهَا فَإِنَّ أَذْنَابَهَا مَذَابُّهَا وَمَعَارِفَهَا
دِفَاؤُهَا وَنَوَاصِيَهَا مَعْقُودٌ فِيهَا الخير (. فيقول
مُجَاهِدٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ مِنْ أَنَّ خَيْلَ
الْمَلَائِكَةِ كَانَتْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُسْنِ الْأَبْيَضِ
وَالْأَصْفَرِ مِنَ الْأَلْوَانِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ
بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا
أَصْفَرَ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ
ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ وَأَمَّا
الْعَمَائِمُ فَتِيجَانُ الْعَرَبِ وَلِبَاسُهَا (. وَرَوَى
رُكَانَةُ- وَكَانَ صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ رُكَانَةُ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فَرْقُ مَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى
الْقَلَانِسِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ
«4»: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِهِ
مِنْ بعض.
__________
(1). من دوفى هـ: الإشارة، والشارة: الهيئة.
(2). الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على
وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقته، وفى ب: معتما.
(3). ج 10 ص 154.
(4). كذا في د وهـ وب. وفى أوح: النحاس.
(4/197)
وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
[سورة آل عمران (3): الآيات 126 الى 127]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى
لَكُمْ) الْهَاءُ لِلْمَدَدِ، وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ
الْوَعْدُ أَوِ الْإِمْدَادُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ"
يُمْدِدْكُمْ" أَوْ لِلتَّسْوِيمِ أَوْ لِلْإِنْزَالِ أَوِ
الْعَدَدِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافٍ عَدَدٌ.
(وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) اللَّامُ لَامُ كَيْ، أَيْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ جَعَلَهُ، كَقَوْلِهِ:"
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً"
[فصلت: 12] «1» أَيْ وَحِفْظًا لَهَا جَعَلَ ذَلِكَ. (وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يَعْنِي نَصْرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نَصْرُ
الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ غَلَبَةٍ
إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ مَحْفُوفٌ بِخِذْلَانٍ وَسُوءِ
عَاقِبَةٍ وَخُسْرَانٍ. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أَيْ بِالْقَتْلِ. وَنَظْمُ الْآيَةِ: وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ" يُمْدِدْكُمْ"، أَيْ
يُمْدِدُكُمْ لِيَقْطَعَ. وَالْمَعْنَى: مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ.
السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِهِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَمَعْنَى (يَكْبِتَهُمْ) يُحْزِنُهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ
الْمَحْزُونُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَرَأَى
ابْنَهُ مَكْبُوتًا فَقَالَ: (مَا شَأْنُهُ)؟. فَقِيلَ: مَاتَ
بَعِيرُهُ. وَأَصْلُهُ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ"
يَكْبِدُهُمْ" أَيْ يُصِيبُهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فِي
أَكْبَادِهِمْ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُّ تَاءً، كَمَا قُلِبَتْ
فِي سَبَتَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ أَيْ حَلَقَهُ. كَبَتَ اللَّهُ
الْعَدُوَّ كَبْتًا إِذَا «2» صَرَفَهُ وَأَذَلَّهُ، كَبَدَهُ،
أَصَابَهُ فِي كَبِدِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَحْرَقَ الْحُزْنُ
كَبِدَهُ، وَأَحْرَقَتِ الْعَدَاوَةُ كَبِدَهُ. وَتَقُولُ
الْعَرَبُ لِلْعَدُوِّ: أَسْوَدُ الْكَبِدِ، قَالَ الْأَعْشَى:
فَمَا أَجْشَمْتِ «3» مِنْ إِتْيَانِ قَوْمٍ ... هُمُ
الْأَعْدَاءُ وَالْأَكْبَادُ سُودُ
كَأَنَّ الْأَكْبَادَ لَمَّا احْتَرَقَتْ بِشِدَّةِ
الْعَدَاوَةِ اسْوَدَّتْ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ" أَوْ
يَكْبِدَهُمْ" بِالدَّالِ. وَالْخَائِبُ: الْمُنْقَطِعُ
الْأَمَلِ. خَابَ يَخِيبُ إِذَا لَمْ يَنَلْ مَا طَلَبَ.
والخياب: القدح لا يوري.
__________
(1). راجع ج 15 ص 345.
(2). في ب: أي صرفه.
(3). أجشمت: كلفت على مشقة.
(4/198)
لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
[سورة آل عمران (3): الآيات 128 الى 129]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ،
فجعل يسلب الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ
شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ
يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). الضَّحَّاكُ:
هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَدْعُوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ". وَقِيلَ: اسْتَأْذَنَ فِي
أَنْ يَدْعُوَ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَلِمَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَيُسْلِمُ وَقَدْ آمَنَ
كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابن عامر قَالَ: وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى
أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" فَهَدَاهُمُ اللَّهُ
لِلْإِسْلَامِ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ"
قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى" لِيَقْطَعَ طَرَفاً".
وَالْمَعْنَى: لِيَقْتُلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، أَوْ
يُحْزِنَهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ. وَقَدْ تَكُونُ" أَوْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى"
حَتَّى" وَ" إِلَّا أَنْ". قَالَ امْرُؤُ القيس:
... أو نموت فنعذرا
قال علماؤنا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ
قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ) اسْتِبْعَادٌ لِتَوْفِيقِ
مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ لَكَ
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" تَقْرِيبٌ لِمَا اسْتَبْعَدَهُ
وَإِطْمَاعٌ فِي إِسْلَامِهِمْ، وَلَمَّا أُطْمِعَ فِي ذَلِكَ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كَمَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي
نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ
يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ
لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ
(4/199)
لَا يَعْلَمُونَ (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
فَالْحَاكِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ الرَّسُولُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ
عَنْهُ، بِدَلِيلٍ مَا قَدْ جَاءَ صَرِيحًا مُبَيَّنًا أَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كُسِرَتْ
رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ
عَلَى أَصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ
عَلَيْهِمْ! فَقَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا
وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (. فَكَأَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِ
قَضِيَّةِ أُحُدٍ، وَلَمْ يعلنه لَهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ،
فَلَمَّا وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ
بِذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. ويبينه أَيْضًا مَا قَالَهُ
عُمَرُ لَهُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي
يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ:" رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ
دَيَّاراً" [نوح: 26] «1» الْآيَةَ. وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا
مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، فَقَدْ وُطِئَ
ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ
فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا، فَقُلْتَ: (رَبِّ
اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وَقَوْلُهُ:
(اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ كَسَرُوا رَبَاعِيَةَ
نَبِيِّهِمْ) يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُبَاشِرَ لِذَلِكَ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا اسْمَهُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
قلنا إنه خصوصي فِي الْمُبَاشِرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ
جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ.
الثَّانِيَةُ- زَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْقُنُوتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ بَعْدَ
الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الصُّبْحِ،
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلَاةِ
الْفَجْرَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ- ثُمَّ
قَالَ- اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا) فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ" الْآيَةَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَتَمَّ مِنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَ نَسْخٍ وَإِنَّمَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
نَبِيِّهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ
لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ شَيْئًا إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ،
وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
وَيُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ لِمَنْ يَشَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ:
لَيْسَ لَكَ من الامر شي ولله ما في السموات وَمَا فِي
الْأَرْضِ دُونَكَ وَدُونَهُمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. فَلَا نَسْخَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ" أَنَّ الْأُمُورَ «2» بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ
ردا على القدرية وغيرهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 312.
(2). في نسخة: هـ وب ود، وفى غيرها: الامر.
(4/200)
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَغَيْرِهَا، فَمَنَعَ
الْكُوفِيُّونَ مِنْهُ فِي الْفَجْرِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ
مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ
الْأَنْدَلُسِيِّ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الشَّعْبِيُّ.
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يقنت
في شي مِنَ الصَّلَاةِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنْبَأَنَا
قُتَيْبَةُ عَنْ خَلَفٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ
خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ
عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ
يَقْنُتْ وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ
قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا بِدْعَةٌ. وَقِيلَ: يَقْنُتُ فِي
الْفَجْرِ دَائِمًا وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إِذَا نَزَلَ
بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ
وَالطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي صَلَاةِ
الْفَجْرِ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَسَحْنُونٌ: إِنَّهُ سُنَّةٌ. وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ
عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ بِإِعَادَةِ تَارِكِهِ
لِلصَّلَاةِ عَمْدًا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى
أَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ. وَعَنِ
الْحَسَنِ: فِي تَرْكِهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَهُوَ أَحَدُ
قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الدارقطني عن سعيد ابن
عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ نَسِيَ الْقُنُوتَ فِي صَلَاةِ
الصُّبْحِ قَالَ: يَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. وَاخْتَارَ
مَالِكٌ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ
أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَرُوِيَ عَنِ
الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَيْضًا. وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ
قَالَ: مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى فَارَقَ
الدُّنْيَا. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ
خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو على مضر إذ جاءه
جبريل فاؤ ما إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (يَا
مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْكَ سَبَّابًا وَلَا
لَعَّانًا وَإِنَّمَا بَعَثَكَ رَحْمَةً وَلَمْ يَبْعَثْكَ
عَذَابًا، لَيْسَ لك من الامر شي أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) قَالَ: ثُمَّ عَلَّمَهُ
هَذَا الْقُنُوتَ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ
وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْنَعُ «1» لَكَ
وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ «2»
وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجَدَّ إِنَّ
عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ «3»).
__________
(1). الخنوع: الخضوع والذل.
(2). الحقد (بفتح فسكون): الإسراع في العمل والخدمة.
(3). الرواية بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار.
وقيل: هو بمعنى لا حق، لغة في لحق. ويروى بفتح الحاء على
المفعول، أي إن عذابك يلحق بالكفاء ويصابون به. (عن ابن
الأثير).
(4/201)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(132)
[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا
أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) هَذَا النَّهْيُ
عَنْ أَكْلِ الرِّبَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَثْنَاءِ قِصَّةِ
أُحُدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا أَحْفَظُ فِي ذَلِكَ
شَيْئًا مَرْوِيًّا. قُلْتُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا
يَبِيعُونَ الْبَيْعَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ
زَادُوا فِي الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرُوا، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً". [قُلْتُ] «1»
وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَعَاصِي،
لِأَنَّهُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ بِالْحَرْبِ فِي
قَوْلِهِ:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 279] «2» وَالْحَرْبُ يُؤْذِنُ
بِالْقَتْلِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَتَّقُوا
الرِّبَا هُزِمْتُمْ وَقُتِلْتُمْ. فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ
الرِّبَا، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ (أَضْعافاً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَ
(مُضاعَفَةً) نعته. وقرى" مُضَعَّفَةً" وَمَعْنَاهُ: الرِّبَا
الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُضَعِّفُ فِيهِ الدَّيْنَ، فَكَانَ
الطَّالِبُ يَقُولُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ كَمَا تَقَدَّمَ
فِي" الْبَقَرَةِ". وَ (مُضاعَفَةً) إِشَارَةٌ إِلَى تَكْرَارِ
التَّضْعِيفِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ،
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الْمُؤَكَّدَةُ عَلَى شُنْعَةِ
فِعْلِهِمْ وَقُبْحِهِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ حَالَةُ
التَّضْعِيفِ خَاصَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا
اللَّهَ أَيْ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهَا.
ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فقال:) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي قَالَ
كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذَا الْوَعِيدُ لِمَنِ
اسْتَحَلَّ الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا فَإِنَّهُ
يَكْفُرُ [وَيُكَفَّرُ] «3». وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اتَّقُوا
الْعَمَلَ الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ
فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ، لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا
يَسْتَوْجِبُ بِهِ صَاحِبُهُ نَزْعَ الْإِيمَانِ وَيُخَافُ
عَلَيْهِ، مِنْ ذَلِكَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَقَدْ جَاءَ
فِي ذَلِكَ أَثَرٌ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ
يُقَالُ لَهُ عَلْقَمَةُ، فَقِيلَ لَهُ عَنْدَ الْمَوْتِ: قُلْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ
حَتَّى جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَرَضِيَتْ عَنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ
قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَأَكْلُ الرِّبَا والخيانة
__________
(1). في هـ. [ ..... ]
(2). راجع ج 3 ص 256.
(3). في د وه وفي ب: وبضر.
(4/202)
وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
فِي الْأَمَانَةِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ
الْوَرَّاقُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا
يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَوْتِ. ثُمَّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَظَرْنَا فِي الذُّنُوبِ الَّتِي
تَنْزِعُ الْإِيمَانَ فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا أَسْرَعَ نَزْعًا
لِلْإِيمَانِ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ رَدًّا عَلَى
الْجَهْمِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكُونُ مُعَدًّا.
ثُمَّ قَالَ: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) [يَعْنِي أَطِيعُوا
اللَّهَ] «1» فِي الْفَرَائِضِ (وَالرَّسُولَ) فِي السُّنَنِ:
وَقِيلَ:" أَطِيعُوا اللَّهَ" فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا"
وَالرَّسُولَ" فِيمَا بَلَّغَكُمْ مِنَ التَّحْرِيمِ.
(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أَيْ كَيْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ تقدم «2».
[سورة آل عمران (3): آية 133]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
(133)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَسارِعُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ" سارِعُوا"
بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ"
وَسارِعُوا". وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ
شَائِعٌ «3» مُسْتَقِيمٌ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْوَاوِ
فَلِأَنَّهُ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَنْ
تَرَكَ الْوَاوَ فَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ
مُلْتَبِسَةٌ بِالْأُولَى مُسْتَغْنِيَةٌ بِذَلِكَ عَنِ
الْعَطْفِ بِالْوَاوِ. وَالْمُسَارَعَةُ الْمُبَادَرَةُ،
وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ. وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ. أَيْ سَارِعُوا
إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وهي الطاعة. قال أنس ابن
مَالِكٍ وَمَكْحُولٌ فِي تَفْسِيرِ (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ): مَعْنَاهُ إِلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِلَى أَدَاءِ
الْفَرَائِضِ. عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: إِلَى الْإِخْلَاصِ.
الْكَلْبِيُّ: إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا. وَقِيلَ:
إِلَى الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا.
وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الجميع، ومعناها معني"اسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ
" [البقرة: 148] وَقَدْ تَقَدَّمَ «4». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)
تَقْدِيرُهُ كَعَرْضِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ:" مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ" [لقمان:
28] «5» أَيْ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا.
قَالَ الشاعر:
__________
(1). في هـ.
(2). راجع ج 1 ص 227.
(3). في هـ: سائغ.
(4). راجع ج 2 ص 165.
(5). راجع ج 14 ص 78.
(4/203)
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا ...
وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ «1»
يُرِيدُ صَوْتَ عَنِاقٍ. نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ"
وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" [الحديد:
21] «2» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: تقرن السموات وَالْأَرْضُ بَعْضُهَا إِلَى
بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ وَيُوصَلُ بَعْضُهَا
بِبَعْضٍ، فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَلَا يَعْلَمُ
طُولَهَا إِلَّا اللَّهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ،
وَذَلِكَ لَا يُنْكَرُ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا السموات
السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا
كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا
الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ «3» أُلْقِيَتْ
فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ (. فَهَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ أَعْظَمُ
بِكَثِيرٍ جِدًّا من السموات وَالْأَرْضِ، وَقُدْرَةُ اللَّهِ
أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْجِنَانُ أَرْبَعَةٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ الْمَأْوَى
وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَكُلُّ
جَنَّةٍ مِنْهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَوْ وُصِلَ
بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات
والأرض وصرن خردلا، فبكل خَرْدَلَةٍ جَنَّةٌ عَرْضُهَا
كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي الصَّحِيحِ: (إِنَّ
أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَتَمَنَّى
وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قال
الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثال) رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ يَعْلَى
بْنُ أَبِي مُرَّةَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصَ
شَيْخًا كَبِيرًا قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ هِرَقْلَ،
فَنَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ:
فَقُلْتُ مَنْ صَاحِبُكُمُ الَّذِي يَقْرَأُ؟ قَالُوا:
مُعَاوِيَةُ، فَإِذَا كِتَابُ صَاحِبِي: إِنَّكَ كَتَبْتَ
تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ فَأَيْنَ اللَّيْلُ
إِذَا جَاءَ النَّهَارُ). وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ
اسْتَدَلَّ الْفَارُوقُ عَلَى الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا لَهُ:
أَرَأَيْتَ قَوْلَكُمْ" وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ" فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ
نَزَعْتَ «4» بِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَنَبَّهَ تَعَالَى
بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الطُّولَ
يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْعَرْضِ، وَالطُّولُ إِذَا ذُكِرَ لَا
يَدُلُّ على قدر
__________
(1). بغام الناقة: صوت لا تفصح به. والعناق (بالفتح): الأنثى
من المعز. وويب، بمعنى ويل. والبيت لذي الخرق الطهوي يخاطب
ذئبا تبعه في طريقه. (عن اللسان).
(2). راجع ج 17 ص 254.
(3). في هـ: من حديد.
(4). نزعت بما في التوراة. جئت بما يشبهها.
(4/204)
الْعَرْضِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا
وَصَفَ عَرْضَهَا، فَأَمَّا طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا
كقول تَعَالَى:" مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ" [الرحمن: 54] «1» فَوَصَفَ الْبِطَانَةَ
بِأَحْسَنِ مَا يُعْلَمُ مِنَ الزِّينَةِ، إِذْ مَعْلُومٌ
أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَكُونُ أَحْسَنَ وَأَتْقَنَ مِنَ
الْبَطَائِنِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بِلَادٌ عَرِيضَةٌ،
وَفَلَاةٌ عَرِيضَةٌ، أَيْ وَاسِعَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى
الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ «2»
وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَامُ جَارٍ عَلَى مَقْطَعِ الْعَرَبِ
مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ
الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قُصْوَى حَسُنَتِ
الْعِبَارَةُ عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ
لِلرَّجُلِ: هَذَا بَحْرٌ، وَلِشَخْصٍ كَبِيرٍ مِنَ
الْحَيَوَانِ: هَذَا جَبَلٌ. وَلَمْ تَقْصِدِ الْآيَةُ
تَحْدِيدَ الْعَرْضِ، وَلَكِنْ «3» أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا
أوسع شي رَأَيْتُمُوهُ. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ
الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ: لِقَوْلِهِ" أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ" وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِهِ
فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ:
إِنَّهُمَا غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ فِي وَقْتِنَا، وَإِنَّ
اللَّهَ تعالى إذا طوى السموات وَالْأَرْضَ ابْتَدَأَ خَلْقَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَيْثُ شَاءَ، لِأَنَّهُمَا دَارَ
جَزَاءٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَخُلِقَتَا بَعْدَ
التَّكْلِيفِ فِي وَقْتِ الْجَزَاءِ، لِئَلَّا تَجْتَمِعَ
دَارُ التَّكْلِيفِ وَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا
لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ:
الْجَنَّةُ يُزَادُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا مُتَعَلَّقٌ لِمُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ
وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ
بَعْدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ ابْنِ فُورَكَ"
يُزَادُ فِيهَا" إِشَارَةٌ إِلَى مَوْجُودٍ، لَكِنَّهُ
يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ فِي الزِّيَادَةِ.
قُلْتُ: صَدَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا
قَالَ: وإذا كانت السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي
فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْكُرْسِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ،
فَالْجَنَّةُ الْآنَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ
عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ الْعَرْشُ سَقْفُهَا،
حَسْبَ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ
السَّقْفَ يَحْتَوِي عَلَى مَا تَحْتَهُ وَيَزِيدُ. وَإِذَا
كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ
كَالْحَلْقَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَدِّرُهُ وَيَعْلَمُ
طُولَهُ وَعَرْضَهُ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهُ الَّذِي لَا
نِهَايَةَ لِقُدْرَتِهِ «4»، وَلَا غَايَةَ لِسَعَةِ مملكته،
سبحانه وتعالى.
__________
(1). راجع ج 17 ص 179.
(2). الكفة (بالكسر): ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق.
(3). في د وهـ: ولكنه يراد. [ ..... ]
(4). في د وب وهـ: لمقدوراته.
(4/205)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(134)
[سورة آل عمران (3): آية 134]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ
أَنَّهَا مَدْحٌ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إليه. و (السَّرَّاءِ)
الْيُسْرُ (وَالضَّرَّاءِ) الْعُسْرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ
وَالضَّحَّاكُ: السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ الرَّخَاءُ
وَالشِّدَّةُ. وَيُقَالُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَفِي الضَّرَّاءِ
يَعْنِي يُوصِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ
فِي الْعُرْسِ وَالْوَلَائِمِ، وَفِي الضَّرَّاءِ فِي
النَّوَائِبِ وَالْمَآتِمِ. وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ
النَّفَقَةُ الَّتِي تَسُرُّكُمْ، مِثْلَ النَّفَقَةِ عَلَى
الْأَوْلَادِ وَالْقَرَابَاتِ، وَالضَّرَّاءِ عَلَى
الْأَعْدَاءِ. وَيُقَالُ: فِي السَّرَّاءِ مَا يُضِيفُ بِهِ
الْفَتَى «1» وَيُهْدَى إِلَيْهِ. وَالضَّرَّاءِ مَا
يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ الضُّرِّ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ
عَلَيْهِمْ. قُلْتُ:- وَالْآيَةُ تَعُمُّ. ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ:
الثَّانِيَةُ- وَكَظْمُ الْغَيْظِ رَدُّهُ فِي الْجَوْفِ،
يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ أَيْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ
يُظْهِرْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيقَاعِهِ بعدوه، وكظمت
السقاء أي ملائه وَسَدَدْتُ عَلَيْهِ، وَالْكِظَامَةُ مَا
يُسَدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ الْكِظَامُ
لِلسَّيْرِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ فَمُ الزِّقِّ وَالْقِرْبَةِ.
وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جِرَّتَهُ «2» إِذَا رَدَّهَا فِي
جَوْفِهِ، وَقَدْ يُقَالُ لِحَبْسِهِ الْجِرَّةُ قَبْلَ أَنْ
يُرْسِلَهَا إِلَى فِيهِ: كَظَمَ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ.
يُقَالُ: كَظَمَ الْبَعِيرُ وَالنَّاقَةُ إِذَا لَمْ
يَجْتَرَّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي:
فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِنْ ذِي
الأبارق «3» إذ رَعَيْنَ حَقِيلَا
الْحَقِيلُ: مَوْضِعٌ. وَالْحَقِيلُ: نَبْتٌ. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْجَهْدِ فَلَا
تَجْتَرُّ، قَالَ أَعْشَى بَاهِلَةَ يَصِفُ رَجُلًا نَحَّارًا
لِلْإِبِلِ فَهِيَ تَفْزَعُ مِنْهُ:
قَدْ تَكْظِمُ الْبُزْلَ «4» مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ...
حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجوافها الجرر
__________
(1). في د، وز: الغنى.
(2). الجرة (بالكسر): ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم
يبلعه.
(3). في ب وهـ ود: ذى الأباطح.
(4). ليزل (بضم فسكون): جمع بازل، وهى البعير الذي كملت قوته
ودخل في التاسعة وفطر نابه.
(4/206)
وَمِنْهُ: رَجُلٌ كَظِيمٌ وَمَكْظُومٌ
إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا غَمًّا وَحُزْنًا. وَفِي
التَّنْزِيلِ:" وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ" [يوسف:] «1»." ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ" [النحل: [." إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ" [القلم: [.
وَالْغَيْظُ أَصْلُ الْغَضَبِ، وَكَثِيرًا مَا يَتَلَازَمَانِ
لَكِنَّ فُرْقَانَ مَا بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْغَيْظَ لَا
يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، بِخِلَافِ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ
يَظْهَرُ فِي الجوارح مع فعل ما لأبد، وَلِهَذَا جَاءَ «2»
إِسْنَادُ الْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ
عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ النَّاسِ الْغَيْظَ بِالْغَضَبِ،
وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الْعَفْوُ
عَنِ النَّاسِ أَجَلُّ ضُرُوبِ فِعْلِ الْخَيْرِ، حَيْثُ
يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْفُوَ وَحَيْثُ يَتَّجِهُ
حَقُّهُ. وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَتُرِكَتْ لَهُ
فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" عَنِ
النَّاسِ"، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ
وَالزَّجَّاجُ:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" يُرِيدُ عَنِ
الْمَمَالِيكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَسَنٌ عَلَى
جِهَةِ الْمِثَالِ، إِذْ هُمُ الْخَدَمَةُ فَهُمْ يُذْنِبُونَ
كَثِيرًا وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمْ مُتَيَسِّرَةٌ، وَإِنْفَاذُ
الْعُقُوبَةِ سَهْلٌ، فَلِذَلِكَ مَثَّلَ هَذَا الْمُفَسِّرُ
بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ
جَارِيَتَهُ جَاءَتْ ذَاتَ يَوْمٍ بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَةٌ
حَارَّةٌ، وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتِ
الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يضربها، فقالت
الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تَعَالَى:" وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ". قَالَ لَهَا: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَتْ: اعْمَلْ
بِمَا بَعْدَهُ" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ". فَقَالَ: قَدْ
عَفَوْتُ عَنْكِ. فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ:" وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ". قَالَ مَيْمُونٌ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكِ،
فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنِ
الأحنف بن قيس مثله. وقال زيد ابن سلم:" وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ" عَنْ ظُلْمِهِمْ وَإِسَاءَتِهِمْ «3». وَهَذَا
عَامٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَ
ذَلِكَ: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِي قَلِيلٌ إِلَّا مَنْ
عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَمِ
الَّتِي مَضَتْ). فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ
يَغْفِرُونَ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ:"
وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" [الشورى: 37] «4»،
وَأَثْنَى عَلَى الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ بِقَوْلِهِ:"
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ"، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ
بِإِحْسَانِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَوَرَدَتْ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ
وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ وَمِلْكِ النَّفْسِ عِنْدَ
الْغَضَبِ أَحَادِيثُ، وَذَلِكَ مِنْ
__________
(1). راجع ج 9 ص 247 وج 10 ص 116 وج 18 ص 252.
(2). في د: جاز.
(3). في هـ: عمن ظلمهم وأساء إليهم.
(4). راجع ج 16 ص 35.
(4/207)
أَعْظَمِ الْعِبَادَةِ وَجِهَادِ
النَّفْسِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ «1» وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ
الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ). وَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَا مِنْ جَرْعَةٍ يَتَجَرَّعُهَا
الْعَبْدُ خَيْرٍ لَهُ وَأَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ جَرْعَةِ
غَيْظٍ فِي اللَّهِ). وَرَوَى أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا أشد من كل شي؟ قَالَ: (غَضَبُ اللَّهِ).
قَالَ فَمَا يُنَجِّي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا
تَغْضَبْ). قَالَ الْعَرْجِيُّ:
وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا ... لِلْغَيْظِ
تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ
فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَبَصُّرُ سَاعَةٍ ... يَرْضَى بِهَا
عَنْكَ الْإِلَهُ وَتُرْفَعُ
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْعَفْوِ:
لَنْ يَبْلُغَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ شَرُفُوا ... حَتَّى
يُذَلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ
وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الْأَلْوَانَ مُشْرِقَةً ... لَا عَفْوَ
ذُلٍّ وَلَكِنْ عَفْوَ إِكْرَامِ
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ
سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من
كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ) قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا
كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ مَنْ ذَا
الَّذِي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُومُ الْعَافُونَ عَنِ
النَّاسِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ (. ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كُنْتُ عِنْدَ
الْمَنْصُورِ جَالِسًا فَأَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ، فَقُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ
كَانَتْ لَهُ يَدٌ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَتَقَدَّمْ فَلَا
يَتَقَدَّمُ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْ ذَنْبٍ (، فَأَمَرَ
بِإِطْلَاقِهِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أَيْ يُثِيبُهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ.
قَالَ سَرِيُّ السَّقَطِيُّ: الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ
وَقْتَ الْإِمْكَانِ، فَلَيْسَ كُلَّ وَقْتٍ يمكنك الإحسان،
قال الشاعر:
__________
(1). الصرعة (بضم الصاد وفتح الراء): المبالغ في الصراع الذي
لا يغلب، فنقله إلى الذي يغلب نفسه عند الغضب ويقهرها.
(4/208)
وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
بَادِرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا كُنْتَ
مُقْتَدِرًا ... فَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُمَّانِيُّ فَأَحْسَنَ:
لَيْسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ ... تَتَهَيَّأْ صَنَائِعُ
الْإِحْسَانِ
وَإِذَا أَمْكَنْتَ فَبَادِرْ إِلَيْهَا ... حَذَرًا مِنْ
تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ
وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1» الْقَوْلُ فِي الْمُحْسِنِ
وَالْإِحْسَانِ فَلَا معنى للإعادة.
[سورة آل عمران (3): آية 135]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ
صِنْفًا، هُمْ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَأَلْحَقَهُمْ بِهِ
«2» بِرَحْمَتِهِ وَمَنِّهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ التَّوَّابُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ- وَكُنْيَتُهُ أَبُو
مُقْبِلٍ- أَتَتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ بَاعَ مِنْهَا
تَمْرًا، فَضَمَّهَا إِلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَهَا فَنَدِمَ «3»
عَلَى ذَلِكَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ له، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ- وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا
غُفِرَ لَهُ- ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ-" وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" الْآيَةَ، وَالْآيَةَ
الْأُخْرَى- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه
[النساء: 110] «4». وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا عَامٌّ. وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ
بِسَبَبٍ خَاصٍّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خَرَجَ
فِي غَزَاةٍ وَخَلَّفَ صَاحِبًا لَهُ أَنْصَارِيًّا على أهله،
فخانه فيها بأن
__________
(1). راجع ج 1 ص 415.
(2). في ابن عطية: بهم.
(3). في ب ود وهـ: ثم.
(4). راجع ج 5 ص 380. [ ..... ]
(4/209)
اقْتَحَمَ عَلَيْهَا فَدَفَعَتْ عَنْ
نَفْسِهَا فَقَبَّلَ يَدَهَا، فَنَدِمَ «1» عَلَى ذَلِكَ
فَخَرَجَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ نَادِمًا تَائِبًا، فَجَاءَ
الثَّقَفِيُّ فَأَخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ،
فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ فَأَتَى بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ
وَعُمْرَ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ عِنْدَهُمَا فَرَجًا
فَوَبَّخَاهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِفِعْلِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ. وَالْعُمُومُ أَوْلَى لِلْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ
مِنَّا، حَيْثُ كَانَ الْمُذْنِبُ مِنْهُمْ تُصْبِحُ
عُقُوبَتُهُ [مَكْتُوبَةً] «2» عَلَى بَابِ دَارِهِ، وَفِي
رِوَايَةٍ: كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةٌ عَلَى عَتَبَةِ
دَارِهِ: اجْدَعْ أَنْفَكَ، اقْطَعْ أُذُنَكَ، افْعَلْ كَذَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ تَوْسِعَةً
وَرَحْمَةً وَعِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ. وَيُرْوَى أَنَّ إِبْلِيسَ بَكَى حِينَ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْفَاحِشَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ
مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِصَاصُهَا بِالزِّنَا حَتَّى
فَسَّرَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالسُّدِّيُّ هَذِهِ
الْآيَةَ بِالزِّنَا. وَ" أَوْ" فِي قَوْلِهِ:" أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ" قِيلَ هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمُرَادُ
مَا دُونَ الْكَبَائِرِ. (ذَكَرُوا اللَّهَ) مَعْنَاهُ
بِالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ. الضَّحَّاكُ:
ذَكَرُوا الْعَرْضَ الْأَكْبَرَ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ
تَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ
عَنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ
أَيْضًا: ذَكَرُوا اللَّهَ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الذُّنُوبِ.
(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أَيْ طَلَبُوا الْغُفْرَانَ
لِأَجْلِ ذُنُوبِهِمْ. وَكُلُّ دُعَاءٍ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى
أَوْ لَفْظُهُ فَهُوَ اسْتِغْفَارٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ «3» سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ،
وَأَنَّ وَقْتَهُ الْأَسْحَارُ. فَالِاسْتِغْفَارُ عَظِيمٌ
وَثَوَابُهُ جَسِيمٌ، حَتَّى لَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ (. وَرَوَى مَكْحُولٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ
اسْتِغْفَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ
اسْتِغْفَارًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَانَ مَكْحُولٌ
كَثِيرَ الِاسْتِغْفَارِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الِاسْتِغْفَارُ
الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَحُلُّ عُقَدَ الْإِصْرَارِ
وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجَنَانِ، لَا التَّلَفُّظُ
بِاللِّسَانِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: أَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ، وَقَلْبُهُ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ
فَاسْتِغْفَارُهُ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ،
وَصَغِيرَتُهُ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ. وَرُوِيَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اسْتِغْفَارُنَا يحتاج
إلى استغفار.
__________
(1). في ب ود وهـ: ثم.
(2). كذا في ابن عطية، وهى الرواية.
(3). راجع ص 38.
(4/210)
قُلْتُ: هَذَا يَقُولُهُ فِي زَمَانِهِ،
فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي يُرَى فِيهِ
الْإِنْسَانُ مُكِبًّا عَلَى الظُّلْمِ! حَرِيصًا عَلَيْهِ لَا
يُقْلِعُ، وَالسُّبْحَةُ فِي يَدِهِ زَاعِمًا أَنَّهُ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِهِ وَذَلِكَ اسْتِهْزَاءٌ
مِنْهُ وَاسْتِخْفَافٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللَّهِ هُزُواً" [البقرة: 231]. وَقَدْ تَقَدَّمَ «1».
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا اللَّهُ) أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يَغْفِرُ الْمَعْصِيَةَ
وَلَا يُزِيلُ عُقُوبَتَهَا إِلَّا اللَّهُ. (وَلَمْ
يُصِرُّوا) أَيْ وَلَمْ يَثْبُتُوا وَيَعْزِمُوا عَلَى مَا
فَعَلُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ وَلَمْ يَمْضُوا. وَقَالَ
مَعْبَدُ بْنُ صُبَيْحٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ وَعَلِيٌّ
إِلَى جَانِبِي، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: صَلَّيْتُ
بِغَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى. (وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
الْإِصْرَارُ هُوَ الْعَزْمُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْأَمْرِ
وَتَرْكُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ. وَمِنْهُ صَرُّ الدَّنَانِيرِ
أَيِ الرَّبْطُ عَلَيْهَا، قَالَ الْحُطَيْئَةُ يَصِفُ
الْخَيْلَ:
عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إِذَا ابْتَغَوْا ...
عُلَالَتَهَا بِالْمُحْصَدَاتِ «2» أَصَرَّتِ
أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى عَدْوِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْإِصْرَارُ الثُّبُوتُ عَلَى الْمَعَاصِي، قَالَ الشَّاعِرُ:
يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوَاكِلُهُ «3» ... يَا
وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ الْقَلْبِ خَتَّارِ «4»
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْجَاهِلُ مَيِّتٌ،
وَالنَّاسِي نَائِمٌ، وَالْعَاصِي سَكْرَانُ، وَالْمُصِرُّ
هَالِكٌ، وَالْإِصْرَارُ هُوَ التَّسْوِيفُ، وَالتَّسْوِيفُ
أَنْ يَقُولَ: أَتُوبُ غَدًا، وَهَذَا دَعْوَى النفس، كيف يتوب
غدا وغدا لَا يَمْلِكُهُ!. وَقَالَ غَيْرُ سَهْلٍ:
الْإِصْرَارُ هُوَ أن ينوي أن يَتُوبَ فَإِذَا نَوَى
التَّوْبَةَ [النَّصُوحَ] «5» خَرَجَ عَنِ الْإِصْرَارِ.
وَقَوْلُ سَهْلٍ أَحْسَنُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَوْبَةَ مَعَ
إِصْرَارٍ). الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْبَاعِثُ
عَلَى التَّوْبَةِ وَحَلِّ الْإِصْرَارِ إِدَامَةُ الْفِكْرِ
فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، وَمَا ذَكَرَهُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْجَنَّةِ وَوَعَدَ بِهِ
الْمُطِيعِينَ، وما وصفه من
__________
(1). راجع ج 1 ص 446 وج 3 ص 156.
(2). العلالة (بالضم): بقية جرى الفرس، والمحصدات: السباط
المفتولة.
(3). الشواكل: الطرق المنشعبة عن الطريق الأعظم.
(4). الختر: شبيه بالغدر والخديعة. وقيل: هو أسوأ الغدر
وأقبحه، و" اخْتارَ" للبالغة
(5). في ب ود.
(4/211)
عَذَابِ النَّارِ وَتَهَدَّدَ بِهِ
الْعَاصِينَ، وَدَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَوِيَ خَوْفُهُ
وَرَجَاؤُهُ فَدَعَا اللَّهَ رَغَبًا وَرَهَبًا، وَالرَّغْبَةُ
وَالرَّهْبَةُ ثَمَرَةُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، يَخَافُ مِنَ
الْعِقَابِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ
لِلصَّوَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ
تَنْبِيهٌ إِلَهِيٌّ يُنَبِّهُ بِهِ مَنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُ،
لِقُبْحِ الذُّنُوبِ وَضَرَرِهَا إِذْ هِيَ سَمُومٌ
مُهْلِكَةٌ. قُلْتُ: وَهَذَا خِلَافٌ فِي اللَّفْظِ لَا فِي
الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي وَعْدِ
اللَّهِ وَوَعِيدِهِ إِلَّا بِتَنْبِيهِهِ، فَإِذَا نَظَرَ
الْعَبْدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ
فَوَجَدَهَا مَشْحُونَةً بِذُنُوبٍ اكْتَسَبَهَا وَسَيِّئَاتٍ
اقْتَرَفَهَا، وَانْبَعَثَ مِنْهُ النَّدَمُ عَلَى مَا
فَرَّطَ، وَتَرَكَ مِثْلَ مَا سَبَقَ مَخَافَةَ عُقُوبَةِ
اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَائِبٌ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ
وَمُلَازِمًا لِأَسْبَابِ الْهَلَكَةِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: عَلَامَةُ التَّائِبِ أَنْ يَشْغَلَهُ الذنب
على الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا «1». الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) فِيهِ أَقْوَالٌ. فَقِيلَ: أَيْ يَذْكُرُونَ
ذُنُوبَهُمْ فَيَتُوبُونَ مِنْهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا
قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أَنِّي
أُعَاقِبُ عَلَى الْإِصْرَارِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أَنَّهُمْ إِنْ
تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ:" يَعْلَمُونَ"
أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْفَرُوا غُفِرَ لَهُمْ. وَقِيلَ:"
يَعْلَمُونَ" بِمَا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أَنَّ الْإِصْرَارَ
ضَارٌّ، وَأَنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي. وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أَنَّ لَهُمْ
رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ. قُلْتُ: وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي
عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبدا «2» ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا
فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ
بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ
اغْفِرْ لِي ذَنْبِي- فَذَكَرَ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ، وَفِي
آخِرِهِ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) أخرجه
مسلم.
__________
(1). هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعة.
تخلفوا عن الخروج مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فلما رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه (لا تكلمن أحدا
من هؤلاء الثلاثة) إلى أن نزل فيهم قوله تعالى:" وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ... " راجع ج 8 ص 281، وسيرة
ابن هشام ص 893 طبع أوربا.
(2). في هـ: عبدي. والثابت هو ما في مسلم.
(4/212)
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّوْبَةِ
بَعْدَ نَقْضِهَا بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ
التَّوْبَةَ الْأُولَى طَاعَةٌ وَقَدِ انْقَضَتْ وَصَحَّتْ،
وَهُوَ مُحْتَاجٌ بَعْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ الثَّانِي
إِلَى تَوْبَةٍ أُخْرَى مُسْتَأْنَفَةٍ، وَالْعَوْدُ إِلَى
الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ أَقْبَحَ مِنَ ابْتِدَائِهِ، لِأَنَّهُ
أَضَافَ «1» إِلَى الذَّنْبِ نَقْضَ التَّوْبَةِ، فَالْعَوْدُ
إِلَى التَّوْبَةِ أَحْسَنُ مِنَ ابْتِدَائِهَا، لِأَنَّهُ
أَضَافَ «2» إِلَيْهَا مُلَازَمَةَ الْإِلْحَاحِ بِبَابِ
الْكَرِيمِ، وَإِنَّهُ لَا غَافِرَ لِلذُّنُوبِ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (اعْمَلْ مَا شِئْتَ) أَمْرٌ
مَعْنَاهُ الْإِكْرَامُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، فَيَكُونُ
مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:" ادْخُلُوها بِسَلامٍ" [الحجر: 46] «3».
وَآخِرُ الْكَلَامِ خَبَرٌ «4» عَنْ حَالِ الْمُخَاطَبِ
بِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ،
وَمَحْفُوظٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَسْتَقْبِلُ
مِنْ شَأْنِهِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَلَى عَظِيمِ
فَائِدَةِ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَالِاسْتِغْفَارِ
مِنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ
الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى
اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَخْرَجَاهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ:
يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اعْتَرَفْ ... بِمَا
جَنَى مِنَ الذُّنُوبِ وَاقْتَرَفْ
وَقَالَ آخَرُ:
أَقْرِرْ بِذَنْبِكَ ثُمَّ اطْلُبْ تَجَاوُزَهُ ... إِنَّ
الْجُحُودَ جُحُودَ الذَّنْبِ ذَنْبَانِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ
اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ
وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ (. وَهَذِهِ فَائِدَةُ
اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْغَفَّارِ وَالتَّوَّابِ، عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ
اللَّهِ الْحُسْنَى. الْخَامِسَةُ- الذُّنُوبُ الَّتِي يُتَابُ
مِنْهَا إِمَّا كُفْرٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَتَوْبَةُ الْكَافِرِ
إِيمَانُهُ مَعَ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِ،
وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ نَفْسَ تَوْبَةٍ، وَغَيْرُ
الْكُفْرِ إِمَّا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا حَقٌّ
لِغَيْرِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ
مِنْهُ التَّرْكُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْتَفِ
الشَّرْعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ بَلْ أَضَافَ إِلَى
ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا قَضَاءً كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ،
وَمِنْهَا مَا أَضَافَ إِلَيْهَا كَفَّارَةً كَالْحِنْثِ فِي
الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا حُقُوقُ
الْآدَمِيِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِهَا إِلَى
مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا تَصَدَّقَ عَنْهُمْ،
وَمَنْ لَمْ يَجِدِ السَّبِيلَ لِخُرُوجِ مَا عَلَيْهِ
لِإِعْسَارٍ فَعَفْوُ اللَّهِ مَأْمُولٌ، وَفَضْلُهُ
مَبْذُولٌ، فَكَمْ ضَمِنَ مِنَ التَّبِعَاتِ وَبَدَّلَ مِنَ
السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ. وَسَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ
لهذا المعنى «5».
__________
(1). في ب ود وهـ: انضاف.
(2). في ب ود وهـ: انضاف.
(3). راجع ج 10 ص 32، وج 17 ص 21.
(4). في أوح: أخبر. [ ..... ]
(5). راجع ج 13 ص 77.
(4/213)
السَّادِسَةُ: لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ
إِذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَنْبَهُ وَيَعْلَمْهُ أَنْ يَتُوبَ
مِنْهُ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ إِذَا ذَكَرَ ذَنْبًا
تَابَ مِنْهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيمَا
ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُعْطِي
الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ
الْمُحَاسِبِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى أَنَّ التَّوْبَةَ
مِنْ أَجْنَاسِ الْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ، وَأَنَّ النَّدَمَ
عَلَى جُمْلَتِهَا لَا يَكْفِي، بَلْ لأبد أَنْ يَتُوبَ مِنْ
كُلِّ فِعْلٍ بِجَارِحَتِهِ وَكُلِّ عَقْدٍ بِقَلْبِهِ عَلَى
التَّعْيِينِ. ظَنُّوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا
مُرَادَهُ، وَلَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ، بَلْ حُكْمُ
الْمُكَلَّفِ إِذَا عَرَفَ حُكْمَ أَفْعَالِهِ، وَعَرَفَ
الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِهَا، صَحَّتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ
مِنْ جُمْلَةِ مَا عَرَفَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ
كَوْنَ فِعْلِهِ الْمَاضِي مَعْصِيَةً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَتُوبَ مِنْهُ لَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا عَلَى
التَّفْصِيلِ، وَمِثَالُهُ رَجُلٌ كَانَ يَتَعَاطَى بَابًا
مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ رِبًا فَإِذَا
سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 279]
«1» عَظُمَ عَلَيْهِ هَذَا التَّهْدِيدُ، وَظَنَّ أَنَّهُ
سَالِمٌ مِنَ الرِّبَا، فَإِذَا عَلِمَ حَقِيقَةَ الرِّبَا
الْآنَ، ثُمَّ تَفَكَّرَ فِيمَا مَضَى مِنْ أَيَّامِهِ
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَابَسَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا فِي
أَوْقَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ، صَحَّ أَنْ يَنْدَمَ عَلَيْهِ الْآنَ
جُمْلَةً، وَلَا يَلْزَمَهُ تَعْيِينُ أَوْقَاتِهِ، وَهَكَذَا
كُلُّ مَا وَاقَعَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ
كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً،
فَإِذَا فَقِهَ الْعَبْدُ وَتَفَقَّدَ مَا مَضَى مِنْ
كَلَامِهِ تَابَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً، وَنَدِمَ عَلَى مَا
فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تعالى، وإذا استحل من كان
ظلمه فحالله عَلَى الْجُمْلَةِ وَطَابَتْ نَفْسُهُ بِتَرْكِ
حَقِّهِ جَازَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ،
هَذَا مَعَ شُحِّ الْعَبْدِ وَحِرْصِهِ عَلَى طَلَبِ حَقِّهِ،
فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ الْمُتَفَضِّلِ
بِالطَّاعَاتِ وَأَسْبَابِهَا وَالْعَفْوِ عَنِ الْمَعَاصِي
صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا. قَالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: هَذَا مُرَادُ الْإِمَامِ، وَالَّذِي يَدُلُّ
عَلَيْهِ كَلَامُهُ لِمَنْ تَفَقَّدَهُ، وَمَا ظَنَّهُ بِهِ
الظَّانُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّدَمُ إِلَّا عَلَى
فِعْلٍ فِعْلٍ وَحَرَكَةٍ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ سَكَنَةٍ عَلَى
التعيين هو من باب تكليف مالا يُطَاقُ، الَّذِي لَمْ يَقَعْ
شَرْعًا وَإِنْ جَازَ عَقْلًا، وَيَلْزَمُ عَنْهُ أَنْ
يَعْرِفَ كَمْ جَرْعَةٍ جَرَعَهَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ،
وَكَمْ حَرَكَةٍ تَحَرَّكَهَا فِي الزِّنَا، وَكَمْ خُطْوَةٍ
مَشَاهَا إِلَى مُحَرَّمٍ، وهذا مالا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، وَلَا
تَتَأَتَّى مِنْهُ تَوْبَةٌ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَسَيَأْتِي
لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ
وَشُرُوطِهَا فِي" النِّسَاءِ" «2» وَغَيْرِهَا إِنْ شاء الله
تعالى.
__________
(1). راجع ج 3 ص 362.
(2). راجع ج 5 ص 90 وج 11 ص 231، وج 231 وج 13 ص 238.
(4/214)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
(136)
السَّابِعَةُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَلَمْ يُصِرُّوا) حُجَّةٌ واضحة ودلالة قاطعة لما قال سيف
السنة، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بْنُ الطَّيِّبِ: أَنَّ
الْإِنْسَانَ يُؤَاخَذُ بِمَا وَطَّنَ عَلَيْهِ بِضَمِيرِهِ
«1»، وَعَزَمَ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
قُلْتُ: وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ" [الحج: 25] «2» وقال:"
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ" [القلم: 20] «3»
. فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ بِعَزْمِهِمْ وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ. وَفِي البخاري (إذا التقى المسلمان بسيفهما
فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟
قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ).
فَعَلَّقَ الْوَعِيدَ عَلَى الْحِرْصِ وَهُوَ الْعَزْمُ
وَأَلْغَى إِظْهَارَ السِّلَاحِ، وَأَنَصُّ مِنْ هَذَا مَا
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةٍ
الْأَنْمَارِيِّ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا (إِنَّمَا الدُّنْيَا
لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا
وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فيه رحمه
ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ [صَادِقُ
النِّيَّةِ] «4» يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ
فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ نيته فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ،
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يؤته علما فهو [يخبط في
مال بِغَيْرِ عِلْمٍ] «5» لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا
يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا
فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ
اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أن مالا
لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ (.
وَهَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي
عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا
يُلْتَفَتُ إِلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا يَهُمُّ
الْإِنْسَانُ بِهِ وَإِنْ وَطَّنَ عَلَيْهِ «6» لَا يُؤَاخَذُ
بِهِ. ولا حجة [له] «7» في قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ
هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ
فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) لِأَنَّ
مَعْنًى (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) فَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى عَمَلِهَا
بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى (فَإِنْ عَمِلَهَا) أَيْ
أَظْهَرَهَا أَوْ عَزَمَ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ ما وصفنا. وبالله
توفيقنا.
[سورة آل عمران (3): آية 136]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ
أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
رَتَّبَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ
لِمَنْ أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى ذنبه.
ويكن أَنْ يَتَّصِلَ هَذَا بِقِصَّةِ أُحُدٍ، أَيْ مَنْ فَرَّ
ثُمَّ تَابَ وَلَمْ يُصِرَّ فَلَهُ مَغْفِرَةُ الله.
__________
(1). في أوح وطن عليه ضميره، وعلى ما أثبت يقدر المعمول.
(2). راجع ج 12 ص 34.
(3). راجع ج 18 ص 241.
(4). زيادة عن سنن الترمذي.
(5). زيادة عن سنن الترمذي.
(6). المعمول محذوف في كل الأصول، وتقديره في قوله القاضي
السابق.
(7). في هـ.
(4/215)
|