تفسير القرطبي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
[سورة آل عمران (3): آية 137]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
هَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ،
وَالسُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ.
وَفُلَانٌ عَلَى السُّنَّةِ أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ
لَا يَمِيلُ إِلَى شي مِنَ الْأَهْوَاءِ، قَالَ الْهُذَلِيُّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ
رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وَالسُّنَّةُ: الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ الْمُؤْتَمُّ بِهِ،
يُقَالُ: سَنَّ فُلَانٌ سُنَّةً حَسَنَةً وَسَيِّئَةً إِذَا
عَمِلَ عَمَلًا اقْتُدِيَ بِهِ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ،
قَالَ لَبِيدٌ:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ
سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا
وَالسُّنَّةُ الْأُمَّةُ، وَالسُّنَنُ الْأُمَمُ، عَنِ
الْمُفَضَّلِ. وَأَنْشَدَ:
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِهِمُ ... وَلَا
رَأَوْا مِثْلَهُمْ فِي سَالِفِ السُّنَنِ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى أَهْلُ سُنَنٍ، فَحَذَفَ
الْمُضَافَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَمْثَالٌ. عَطَاءٌ:
شَرَائِعُ. مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى" قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ" يُعْنَى بِالْهَلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ
قَبْلَكُمْ كَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ
الْأَمْرِ، وَهَذَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ. يَقُولُ فَأَنَا
أُمْهِلُهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ وَأَسْتَدْرِجُهُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، يَعْنِي بِنُصْرَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهَلَاكِ
أعدائهم الكافرين.
[سورة آل عمران (3): آية 138]
هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
(138)
يَعْنِي الْقُرْآنَ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ:
هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ:" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ". والموعظة الوعظ. وقد تقدم.
[سورة آل عمران (3): آية 139]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ
الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ
عَدُوِّهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ فَقَالَ
(وَلا تَهِنُوا) أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَلَا تَجْبُنُوا يَا
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ لِمَا
أَصَابَكُمْ.
(4/216)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ
الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
أَصَابَكُمْ." وَلا تَحْزَنُوا" عَلَى
ظُهُورِهِمْ، وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ
وَالْمُصِيبَةِ." وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" أَيْ لَكُمْ
تَكُونُ الْعَاقِبَةُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ" إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ" أَيْ بِصِدْقِ وَعْدِي. وَقِيلَ:" إِنْ"
بِمَعْنَى" إِذْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْهَزَمَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد
فبيناهم كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
بِخَيْلٍ، مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ
عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا
اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ اللَّهُمَّ لَيْسَ
يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ
(. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَثَابَ «1» نَفَرٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ وَرَمَوْا
خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمُوهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" يَعْنِي الْغَالِبِينَ
عَلَى الْأَعْدَاءِ بَعْدَ أُحُدٍ. فَلَمْ يُخْرِجُوا بَعْدَ
ذَلِكَ عَسْكَرًا إِلَّا ظَفِرُوا فِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ
فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَفِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْبُلْدَانُ
كُلُّهَا إِنَّمَا افْتُتِحَتْ عَلَى عَهْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَ
انْقِرَاضِهِمْ مَا افْتُتِحَتْ بَلْدَةٌ عَلَى الْوَجْهِ
كَمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي
هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ
خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، لِأَنَّهُ
قَالَ لِمُوسَى:" إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى " [طه: 68] «2»
وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ".
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ اسْمِهِ الْأَعْلَى
فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ، وقال للمؤمنين:" وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ".
[سورة آل عمران (3): آية 140]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) الْقَرْحُ
الْجُرْحُ. وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَتَانِ عَنِ
الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، مِثْلُ عُقْرٍ «3» وَعَقْرٍ.
الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْفَتْحِ الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ
أَلَمُهُ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَرْحٌ مِثْلُهُ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السميقع" قرح" بفتح
__________
(1). في ح وأ: بات.
(2). راجع ج 11 ص 223.
(3). في الأصول:" قفر وقفر" وهو تحريف.
(4/217)
الْقَافِ وَالرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ.
(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) قِيلَ:
هَذَا فِي الْحَرْبِ، تَكُونُ مَرَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ
لِيَنْصُرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ، وَمَرَّةً
لِلْكَافِرِينَ إِذَا عَصَى الْمُؤْمِنُونَ لِيَبْتَلِيَهُمْ
وَيُمَحِّصَ ذُنُوبَهُمْ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْصُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. وَقِيلَ:"
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ" مِنْ فَرَحٍ وَغَمٍّ وَصِحَّةٍ
وَسَقَمٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَالدَّوْلَةُ الْكَرَّةُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ علينا ... ويوم نساء ويوم نسر
قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)
مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةُ لِيُرَى
الْمُؤْمِنَ مِنَ الْمُنَافِقِ فَيُمَيَّزَ بَعْضَهُمْ مِنْ
بَعْضٍ، كَمَا قَالَ:" وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا" [آل عمران: 167 - 166] «1».
وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ صَبْرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْعِلْمَ الَّذِي
يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا عَلِمَهُ غَيْبًا قَبْلَ
أَنْ كَلَّفَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2»
هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ" أَيْ يُكْرِمُكُمْ
بِالشَّهَادَةِ، أَيْ لِيُقْتَلَ قَوْمٌ فَيَكُونُوا شهدا
عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: لِهَذَا قِيلَ
شَهِيدٌ: وَقِيلَ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ
بِالْجَنَّةِ وَقِيلَ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمُ
احْتَضَرَتْ «3» دَارَ السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى
الْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيِ
الْحَاضِرِ لِلْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا
يَأْتِي وَالشَّهَادَةُ فَضْلُهَا عَظِيمٌ، وَيَكْفِيكَ فِي
فضلها قول تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ" [التوبة: 111] «4» الْآيَةَ."
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى
تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ" إلى قوله:" ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ" [الصف: 112 101] «5». وَفِي صَحِيحِ الْبُسْتِيِّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ
الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدَكُمْ مِنَ الْقُرْحَةِ).
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ
الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا
الشَّهِيدَ؟ قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى
رَأْسِهِ فِتْنَةً). وَفِي الْبُخَارِيِّ:" من قتل من المسلمين
__________
(1). راجع ص 265 من هذا الجزء. [ ..... ]
(2). راجع ج 2 ص 156.
(3). في ب، د، آه: أحضرت.
(4). راجع ج 8 ص 266.
(5). راجع ج 18 ص 86.
(4/218)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
يَوْمَ أُحُدٍ" مِنْهُمْ حَمْزَةُ
وَالْيَمَانُ وَالنَّضْرُ «1» بْنُ أَنَسٍ وَمُصْعَبُ بْنُ
عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ علي أن معاذ ابن هِشَامٍ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ
حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ قَتَادَةُ:
وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ
يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ
سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ. قَالَ: وَكَانَ
بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمُ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي
بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَقَالَ أَنَسٌ:
أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَبِهِ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ
جِرَاحَةً مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَجَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهَا
وَهِيَ تَلْتَئِمُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ لَمْ
تَكُنْ. الثَّانِيَةُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ غير
الامر كما يقوله أهل السنة، إن اللَّهَ تَعَالَى نَهَى
الْكُفَّارَ عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ: حَمْزَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَأَرَادَ قَتْلَهُمْ، وَنَهَى آدَمَ عَنْ
أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَأَرَادَهُ فَوَاقَعَهُ آدَمُ، وَعَكْسُهُ
أَنَّهُ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يُرِدْهُ
فَامْتَنَعَ مِنْهُ، وَعَنْهُ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:" وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ «2» ". وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَ جَمِيعَهُمْ
بِالْجِهَادِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الْكَسَلَ وَالْأَسْبَابَ
الْقَاطِعَةَ عَنِ الْمَسِيرِ فَقَعَدُوا. الثَّالِثَةُ-
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ «3»؟ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ:
(خَيِّرْ أَصْحَابَكَ فِي الْأُسَارَى إِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ
وَإِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عَامَ
الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ فَقَالُوا الْفِدَاءَ وَيُقْتَلُ
مِنَّا) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِشَهَادَةِ أَوْلِيَائِهِ بَعْدَ
أَنْ خَيَّرَهُمْ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ. (وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أَيِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ وَإِنْ
أَنَالَ «4» الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ لَا
يُحِبُّهُمْ، وَإِنْ أَحَلَّ أَلَمًا بِالْمُؤْمِنِينَ
فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة آل عمران (3): آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ (141)
__________
(1). الذي في شرح القسطلاني على صحيح البخاري:" وأنس بن النضر،
وهو عم أنس بن مالك كما ذكره أبو نعيم وابن عبد البر وغيرهما.
ولابي ذر" النضر بن أنس" وهو خطأ، والصواب الأول".
(2). راجع ج 8 ص 156.
(3). في ب ود وهـ: روى على.
(4). في هـ ود: أدال.
(4/219)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: يُمَحِّصُ:
يَخْتَبِرُ. الثَّانِي- يُطَهِّرُ، أَيْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ
فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. الْمَعْنَى: وَلِيُمَحِّصَ
اللَّهُ ذُنُوبَ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
الثَّالِثُ- يُمَحِّصُ يُخَلِّصُ، فَهَذَا أَغْرَبُهَا. قَالَ
الخليل: يقال محصى الْحَبْلُ يَمْحَصُ مَحْصًا إِذَا انْقَطَعَ
وَبَرُهُ، وَمِنْهُ (اللَّهُمَّ مَحِّصْ عَنَّا ذُنُوبَنَا)
أَيْ خَلِّصْنَا مِنْ عُقُوبَتِهَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
الزَّجَّاجُ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ
الْخَلِيلِ: التَّمْحِيصُ التَّخْلِيصُ. يُقَالُ: مَحَّصَهُ
[يُمَحِّصُهُ] «1» مَحْصًا إِذَا خَلَّصَهُ، فَالْمَعْنَى
عَلَيْهِ لِيَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُثِيبَهُمْ
وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)
أي يستأصلهم بالهلاك.
[سورة آل عمران (3): آية 142]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
(142)
" أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ. وَقِيلَ: الْمِيمُ زَائِدَةٌ،
وَالْمَعْنَى أَحَسِبْتُمْ يأمن انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَمَا دَخَلَ الَّذِينَ قُتِلُوا
وَصَبَرُوا عَلَى أَلَمِ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ
أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقَهُمْ وَتَصْبِرُوا صَبْرَهُمْ لَا،
حَتَّى (يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أَيْ
عِلْمَ شَهَادَةٍ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
وَالْمَعْنَى: وَلَمْ تُجَاهِدُوا فَيَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْكُمْ،
فَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ. وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ" لَمْ"
وَ" لَمَّا" فَزَعَمَ أَنَّ" لَمْ يَفْعَلْ" نَفْيُ فعل، وأن"
لم يَفْعَلْ". نَفْيُ قَدْ فَعَلَ. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)
مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، عَنِ الْخَلِيلِ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ" يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ"
بِالْجَزْمِ عَلَى النَّسَقِ. وقرى بِالرَّفْعِ عَلَى
الْقَطْعِ، أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ. وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ
عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَيْ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ حَتَّى يعلم صبرهم كما
تقدم آنفا.
[سورة آل عمران (3): آية 143]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ)
" أَيِ الشَّهَادَةَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ" مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلَاقُوهُ" أَيْ مِنْ قَبْلِ
الْقَتْلِ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْا أَسْبَابَ
الْمَوْتِ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرُوا
بَدْرًا كَانُوا يتمنون يوما يكون فيه قتال،
__________
(1). في ب ود وهـ.
(4/220)
وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمُوا،
وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَجَلَّدَ حَتَّى قُتِلَ، وَمِنْهُمْ
أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ
قَالَ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَبَاشَرَ
الْقِتَالَ وَقَالَ: إِيهًا إِنَّهَا رِيحُ الْجَنَّةِ! إِنِّي
لَأَجِدُهَا، وَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا
عَرَفْنَاهُ إِلَّا بِبَنَانِهِ وَوَجَدْنَا فِيهِ بِضْعًا
وَثَمَانِينَ جِرَاحَةً. وَفِيهِ أَمْثَالِهِ نَزَلَ" رِجالٌ
صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" [الْأَحْزَابِ: 23]
«1». فَالْآيَةُ عِتَابٌ فِي حَقِّ مَنِ انْهَزَمَ، لَا
سِيَّمَا وَكَانَ مِنْهُمْ حَمْلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَسَيَأْتِي. وَتَمَنِّي الْمَوْتِ يَرْجِعُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الْمَبْنِيَّةِ
عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ، لَا إِلَى
قَتْلِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ
وَلَا يَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا
يُحْمَلُ سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللَّهِ أَنْ
يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ، فَيَسْأَلُونَ الصَّبْرَ عَلَى
الْجِهَادِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قَالَ الأخفش: هو تكرير بمعنى
التأكيد لِقَوْلِهِ:" فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ" مِثْلَ" وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" [الانعام: 38] «2». وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ بُصَرَاءُ لَيْسَ فِي أَعْيُنِكُمْ
عِلَلٌ، [كَمَا] «3» تَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا
وَلَيْسَ فِي عَيْنَيْكَ عِلَّةٌ، أَيْ فَقَدْ رَأَيْتُهُ رؤية
حقيقة، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ:" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، أَيْ
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأنتم تنظرون فلم انهزمتم؟.
[سورة آل عمران (3): آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
(144)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ
بِسَبَبِ انْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ
الشَّيْطَانُ: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ. قَالَ عَطِيَّةُ
الْعَوْفِيُّ: فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ أُصِيبَ
مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ
إِخْوَانُكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ
أُصِيبَ أَلَا تَمْضُونَ عَلَى مَا مضى عليه نبيكم حتى
__________
(1). راجع ج 14 ص 158.
(2). راجع ج 6 ص 419.
(3). في ب ود وهـ.
(4/221)
تَلْحَقُوا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي ذَلِكَ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إلى قول:" فَآتاهُمُ اللَّهُ
ثَوابَ الدُّنْيا" [آل عمران: 148]. وما نَافِيَةٌ، وَمَا
بَعْدَهَا ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَبَطَلَ عَمَلُ" مَا".
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ. فَأَعْلَمَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرُّسُلَ لَيْسَتْ
بِبَاقِيَةٍ فِي قَوْمِهَا أَبَدًا، وَأَنَّهُ يَجِبُ
التَّمَسُّكَ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَإِنْ فُقِدَ
الرَّسُولُ بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ. وَأَكْرَمَ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَصَفِيَّهُ] «1» بِاسْمَيْنِ
مُشْتَقَّيْنِ مِنَ اسْمِهِ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وتقول
الْعَرَبُ: رَجُلٌ مَحْمُودٌ وَمُحَمَّدٌ إِذَا كَثُرَتْ
خِصَالُهُ الْمَحْمُودَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ «2»
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْفَاتِحَةِ «3». وَقَالَ عَبَّاسُ
بْنُ مِرْدَاسٍ:
يَا خَاتِمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْخَيْرِ
كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى «4» عَلَيْكَ مَحَبَّةً ... فِي
خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا
فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ الْعِتَابِ مَعَ
الْمُنْهَزِمِينَ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِانْهِزَامُ
وَإِنْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَالنُّبُوَّةُ لَا تَدْرَأُ
الْمَوْتَ، وَالْأَدْيَانُ لَا تَزُولُ بِمَوْتِ
الْأَنْبِيَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ
الْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى شُجَاعَةِ الصِّدِّيقِ وجرأته،
فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ وَالْجُرْأَةَ حَدُّهُمَا ثُبُوتُ
الْقَلْبِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ، وَلَا مُصِيبَةَ
أَعْظَمَ مِنْ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" «5»
فَظَهَرَتْ عِنْدَهُ شُجَاعَتُهُ وَعِلْمُهُ. قَالَ النَّاسُ:
لَمْ يَمُتْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَخَرِسَ عُثْمَانُ، وَاسْتَخْفَى
عَلِيٌّ، وَاضْطَرَبَ الْأَمْرُ فَكَشَفَهُ الصِّدِّيقُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ حِينَ قُدُومِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ
بِالسُّنْحِ «6»، الْحَدِيثَ، كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَفِي
سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَكْرٍ عِنْدَ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ خَارِجَةَ بِالْعَوَالِي،
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هو بعض ما كان يأخذه عند
__________
(1). في ب وهـ.
(2). هذا عجز بيت للأعشى، وصدره:
إليك أبيت اللعن كان كلالها
والذي في الديوان: الماجد الفرع. كذا في ب ود وهـ. وفرع كل شي:
أعلاه. [ ..... ]
(3). راجع ج 1 ص 133.
(4). في د، واللسان: ثنى ولم يعرف هذا في اللغة. والأصول بنى.
(5). راجع ج 2 ص 176.
(6). السنح (بضم أوله وسكون النون وقد تضم): موضع بعوالي
المدينة، وهى منازل بنى الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميل.
(4/222)
الْوَحْيِ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ
عَنْ وَجْهِهِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: أَنْتَ
أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ! مَرَّتَيْنِ.
قَدْ وَاللَّهِ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعُمْرُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ:
وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ
مِنَ المنافقين كثير وأرحلهم. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ
اللَّهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا
فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ،" وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ". قَالَ عُمَرُ:"
فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ". وَرَجَعَ
عَنْ مَقَالَتِهِ الَّتِي قَالَهَا فِيمَا ذَكَرَ
الْوَائِلِيُّ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ
الْإِبَانَةِ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَوَى
عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا
بَعْدُ فَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَمْسِ مَقَالَةً وَإِنَّهَا
لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ
الْمَقَالَةَ الَّتِي قُلْتُ لَكُمْ فِي كِتَابٍ أَنْزَلَهُ
اللَّهُ وَلَا فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو
أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا- يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ حَتَّى
يَكُونَ آخِرَنَا مَوْتًا- فَاخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِرَسُولِهِ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ،
وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ
فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هُدِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَائِلِيُّ
أَبُو: نَصْرٍ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالَهَا ثُمَّ رَجَعَ
عَنْهَا هِيَ" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَقْطَعَ
أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ" وَكَانَ قَالَ ذَلِكَ
لِعَظِيمِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَخَشِيَ الْفِتْنَةَ
وَظُهُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا شَاهَدَ قُوَّةَ يَقِينِ
الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَبِي بَكْرٍ، وَتَفَوُّهَهُ بِقَوْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ" [آل
عمران: 185] «1» وقوله:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ «2»
مَيِّتُونَ" [الزمر: 30] وما قاله ذلك اليوم- تنبه وَتَثْبِيتٌ
وَقَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ بِالْآيَةِ إِلَّا مِنْ أَبِي
بَكْرٍ. وَخَرَجَ النَّاسُ يَتْلُونَهَا فِي سِكَكِ
الْمَدِينَةِ، كَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا ذَلِكَ
الْيَوْمَ. وَمَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ بِلَا اخْتِلَافٍ، فِي وَقْتِ دُخُولِهِ
الْمَدِينَةَ فِي هِجْرَتِهِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ،
وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقِيلَ لَيْلَةَ
الْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ تَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
__________
(1). راجع ص 297 من هذا الجزء، وج 11 ص 287.
(2). راجع ج 15 ص 254.
(4/223)
أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ
رَجَاءَنَا ... وَكُنْتَ بِنَا بَرًّا وَلَمْ تَكُ جَافِيَا
وَكُنْتَ رَحِيمًا هَادِيًا وَمُعَلِّمًا ... لِيَبْكِ
عَلَيْكَ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ بَاكِيَا
لَعَمْرُكَ مَا أَبْكِي النَّبِيَّ لِفَقْدِهِ ... وَلَكِنْ
لِمَا أَخْشَى مِنَ الْهَرْجِ آتِيَا
كَأَنَّ عَلَى قَلْبِي لِذِكْرِ مُحَمَّدٍ ... وَمَا خِفْتُ
مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْمَكَاوِيَا
أَفَاطِمَ صَلَّى اللَّهُ رَبُّ مُحَمَّدٍ ... عَلَى جَدَثٍ
أَمْسَى بِيَثْرِبَ ثَاوِيَا
فِدًى لِرَسُولِ اللَّهِ أُمِّي وَخَالَتِي ... وَعَمِّي
وَآبَائِي وَنَفْسِي وَمَالِيَا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليت الْعُودِ أَبْلَجَ
صَافِيَا
فَلَوْ أَنَّ رَبَّ النَّاسِ أَبْقَى نَبِيَّنَا ...
سَعِدْنَا، وَلَكِنْ أَمْرُهُ كَانَ مَاضِيَا
عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ تَحِيَّةً ... وَأُدْخِلْتَ
جَنَّاتٍ من عدن رَاضِيَا
أَرَى حَسَنًا أَيْتَمْتَهُ وَتَرَكْتَهُ ... يُبَكِّي
وَيَدْعُو جَدَّهُ الْيَوْمَ نَاعِيَا «1»
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- فَلِمَ أُخِّرَ دَفْنُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
قَالَ لِأَهْلِ بَيْتٍ أَخَّرُوا دَفْنَ مَيِّتِهِمْ:
(عَجِّلُوا دَفْنَ جِيفَتِكُمْ وَلَا تُؤَخِّرُوهَا).
فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ- مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَوْتِهِ.
الثَّانِي- لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَيْثُ يَدْفِنُونَهُ.
قَالَ قَوْمٌ فِي الْبَقِيعِ، وَقَالَ آخَرُونَ فِي
الْمَسْجِدِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُحْبَسُ حَتَّى يُحْمَلَ إِلَى
أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. حَتَّى قَالَ الْعَالِمُ الْأَكْبَرُ
«2»: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَا دُفِنَ نَبِيٌّ إِلَّا حَيْثُ
يَمُوتُ) ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْمُوَطَّأُ
وَغَيْرُهُمَا. الثَّالِثُ أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ
الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي
الْبَيْعَةِ، فَنَظَرُوا فِيهَا حَتَّى اسْتَتَبَّ الْأَمْرُ
وَانْتَظَمَ الشَّمْلُ وَاسْتَوْثَقَتِ «3» الْحَالُ،
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي نِصَابِهَا فَبَايَعُوا أَبَا
بَكْرٍ، ثُمَّ بَايَعُوهُ مِنَ الْغَدِ بَيْعَةً أُخْرَى عَنْ
مَلَأٍ مِنْهُمْ وَرِضًا، فَكَشَفَ اللَّهُ بِهِ الْكُرْبَةَ
مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَقَامَ بِهِ الدِّينُ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَظَرُوا فِي دَفْنِهِ وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
__________
(1). في ج وب ود: نائيا.
(2). يريد به أبا بكر رضى الله عنه.
(3). في هـ: استوسقت.
(4/224)
الرَّابِعَةُ وَاخْتُلِفَ هَلْ صُلِّيَ
عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يُصَلِّ
عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَدْعُو،
لِأَنَّهُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ
السُّنَّةَ تُقَامُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْجِنَازَةِ،
كَمَا تُقَامُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ،
فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَنَا. وَقِيلَ: لَمْ
يُصَلَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَامٌ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُقِيمُ بِهِمُ
الصَّلَاةَ الْفَرِيضَةَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ بِهِمْ
فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ
أَفْذَاذًا، لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ،
فَأَرَادُوا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ أَحَدٍ بَرَكَتَهُ مَخْصُوصًا
دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَابِعًا لِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَدْ خَرَّجَ ابْنُ
مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ بَلْ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَفِيهِ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ
دَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا «1» يُصَلُّونَ عَلَيْهِ،
حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا
فَرَغْنَ أَدْخَلُوا الصِّبْيَانَ، وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحَدٌ. خَرَّجَهُ عن نصر ابن عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ
أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي حسين ابن عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْحَدِيثَ
بِطُولِهِ. الْخَامِسَةُ- فِي تَغْيِيرِ الْحَالِ بَعْدَ
مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَدِينَةَ أضاء منها كل شي، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ منها كل شي، وَمَا نَفَضْنَا
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْأَيْدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ
أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَّقِي الْكَلَامَ وَالِانْبِسَاطَ
إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا
الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمْنَا. وَأَسْنَدَ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهَا قَالَتْ] «2»: كَانَ
النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ المصلي [يصلي] «3» لم يعد بصر
__________
(1). أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة بعضهم يتلو بعضا، واحدهم
رسل، بفتح الراء والسين.
(2). زيادة عن ابن ماجة.
(3). زيادة عن ابن ماجة.
(4/225)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ (145)
أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ
أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ
جَبِينِهِ، فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ، فَكَانَ
النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ
أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ، فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ فِي
الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَإِنْ
ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) " أَفَإِنْ
ماتَ" شَرْطٌ" أَوْ قُتِلَ" عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ"
انْقَلَبْتُمْ". وَدَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ
الْجَزَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدِ انْعَقَدَ بِهِ وَصَارَ
جُمْلَةً وَاحِدَةً وَخَبَرًا وَاحِدًا. وَالْمَعْنَى:
أَفَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَ عَلَى حَرْفِ
الْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَمَوْضِعُهُ
أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ"
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ" تَمْثِيلٌ، ومعناه ارتددتم
كفارا بعد إيمانكم، قاله قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ
لِمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ: انْقَلَبَ عَلَى
عَقِبَيْهِ. وَمِنْهُ" نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ" «1». وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالِانْقِلَابِ هُنَا الِانْهِزَامُ، فَهُوَ
حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَعَلْتُمْ فِعْلَ
الْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِدَّةً. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً) بَلْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيُعَرِّضُهَا
لِلْعِقَابِ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا
تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ «2» الْمَعْصِيَةُ
لِغِنَاهُ. (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، أَيِ
الَّذِينَ صَبَرُوا وَجَاهَدُوا وَاسْتُشْهِدُوا. وَجَاءَ"
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" بَعْدَ قَوْلِهِ:" فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً" فهو اتصال وعد بوعيد.
[سورة آل عمران (3): آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ
مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) هَذَا حَضٌّ عَلَى
الْجِهَادِ، وَإِعْلَامٌ أَنَّ الموت لأبد مِنْهُ وَأَنَّ
كُلَّ إِنْسَانٍ مَقْتُولٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتُولٍ مَيِّتٌ
إِذَا بَلَغَ أَجَلَهُ الْمَكْتُوبَ لَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى"
مُؤَجَّلًا" إِلَى أَجَلٍ. وَمَعْنَى" بِإِذْنِ اللَّهِ"
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. وَ" كِتاباً" نُصِبَ عَلَى
الْمَصْدَرِ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا. وأجل
الموت هو الوقت الذي
__________
(1). راجع ج 8 ص 26.
(2). في هـ ود: ولا يتضرر بالمعصية. [ ..... ]
(4/226)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا
كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(147)
فِي مَعْلُومِهِ سُبْحَانَهُ، أَنَّ رُوحَ
الْحَيِّ تُفَارِقُ جَسَدَهُ، وَمَتَى قُتِلَ الْعَبْدُ
عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَجَلُهُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ:
لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِهِ:"
كِتاباً مُؤَجَّلًا" إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" [الأعراف: 34]
«1» " فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ" [العنكبوت: 5] " لِكُلِّ
أَجَلٍ كِتابٌ" [الرعد: 38]. وَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ:
يَتَقَدَّمُ الْأَجَلُ وَيَتَأَخَّرُ، وَإِنَّ مَنْ قُتِلَ
فَإِنَّمَا يَهْلِكُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا
ذُبِحَ مِنَ الْحَيَوَانِ كَانَ هَلَاكُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ،
لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الضَّمَانُ وَالدِّيَةُ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ
لَا تَهْلِكُ نَفْسٌ قَبْلَ أَجَلِهَا. وَسَيَأْتِي لِهَذَا
مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" الْأَعْرَافِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَتْبِ الْعِلْمِ
وَتَدْوِينِهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" طَهَ" عِنْدَ
قَوْلِهِ." قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ" [طه: 52]
«3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ
يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) يَعْنِي
الْغَنِيمَةَ. نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ
طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ
أَرَادَ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى نُؤْتِهِ
مِنْهَا مَا قُسِمَ لَهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" مَنْ كانَ
يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ" [الاسراء: 18] «4». (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْها) أَيْ نُؤْتِهِ جَزَاءَ عَمَلِهِ، عَلَى مَا
وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ لِمَنْ
يَشَاءُ. وَقِيلَ: لمراد مِنْهَا «5» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جُبَيْرٍ وَمَنْ لَزِمَ الْمَرْكَزَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا.
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أَيْ نُؤْتِيهِمُ الثَّوَابَ
الْأَبَدِيَّ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الانهزام، فهو تأكيد
لما تَقَدَّمَ مِنْ إِيتَاءِ مَزِيدِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ:"
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا
لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّاكِرَ يُحْرَمُ مَا قَسَمَ
لَهُ مِمَّا يناله الكافر.
[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 147]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما
ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
__________
(1). راجع ج 7 ص 202 وج 13 ص 327 وج 9 ص 327.
(2). راجع ج 7 ص 202.
(3). راجع ج 11 ص 205 فما بعد.
(4). راجع ج 10 ص 235.
(5). في د وج: بهذا.
(4/227)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ «1» مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قَالَ
الزُّهْرِيُّ: صَاحَ الشَّيْطَانُ يَوْمَ أُحُدٍ: قُتِلَ
مُحَمَّدٌ، فَانْهَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ،
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عرف رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَيْتُ
عَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ تُزْهِرَانِ، فَنَادَيْتُ
بِأَعْلَى صَوْتِي: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ اسْكُتْ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا" الْآيَةَ. وَ"
كَأَيِّنْ" بِمَعْنَى كَمْ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:
هِيَ أَيُّ دَخَلَتْ. عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ وَبُنِيَتْ
مَعَهَا فَصَارَ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى وَكَمْ وَصُوِّرَتْ
فِي الْمُصْحَفِ نُونًا، لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ. نُقِلَتْ عَنْ
أَصْلِهَا فَغُيِّرَ لَفْظُهَا لِتَغَيُّرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ
كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فَتَلَعَّبَتْ «2» بِهَا الْعَرَبُ
وَتَصَرَّفَتْ فِيهَا بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ، فَحَصَلَ
فِيهَا لُغَاتٌ أَرْبَعٌ قُرِئَ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ" وَكَائِنْ" مِثْلَ وَكَاعِنْ، عَلَى وَزْنِ فاعل،
وأصله كي فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا، كَمَا قُلِبَتْ فِي
يَيْأَسُ «3» فَقِيلَ يَاءَسُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَائِنْ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ
أُصِبْتُ هُوَ الْمُصَابَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ... يَجِيءُ
أَمَامَ الرَّكْبِ يَرْدِي «4» مُقَنَّعَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَائِنْ فِي الْمَعَاشِرِ «5» مِنْ أُنَاسٍ ... أَخُوهُمْ
فَوْقَهُمْ وَهُمُ كرام
وقرأ ابن محيصن" وكين" مَهْمُوزًا مَقْصُورًا مِثْلَ وَكَعِنْ،
وَهُوَ مِنْ كَائِنْ حُذِفَتْ أَلِفُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا"
وَكَأْيِنْ" مِثْلَ وَكَعْيِنْ وهو مقلوب كي الْمُخَفَّفِ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" كَأَيِّنْ" بِالتَّشْدِيدِ مِثْلَ
كَعَيِّنْ وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَيِّنْ مِنْ أُنَاسٍ لم يزالوا ... أخوهم فوقهم وهم كرام
__________
(1). قراءة نافع.
(2). في اوح: فلغت.
(3). القلب في ذلك على لغة من يقلب حرف العلة الساكن المفتوح
ما قبله ألفا، وهى لغة بلحارث بن كعب وخثعم وزبيد وقبائل من
اليمن، كما ذكره الواحدي في وسيطه في تفسير قوله تعالى:" إِنْ
هذانِ لَساحِرانِ".
(4). يردى: يمشى الرديان (بالتحريك) وهو ضرب من المشي فيه
تبختر. والمقنع: الذي تقنع بالسلاح، كالبيضة والمغفر.
(5). في البحر: المعاسر.
(4/228)
وَقَالَ آخَرُ:
كَأَيِّنْ أَبَدْنَا مِنْ عَدُوٍّ بِعِزِّنَا ... وَكَائِنْ
أَجَرْنَا مِنْ ضَعِيفٍ وَخَائِفِ
فَجَمَعَ بَيْنَ لُغَتَيْنِ: كَأَيِّنْ وَكَائِنْ، وَلُغَةٌ
خَامِسَةٌ كَيْئِنْ مِثْلَ كيعن، وكأنه مخفف من كيئ مَقْلُوبِ
كَأَيِّنْ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ غَيْرَ لُغَتَيْنِ:
كَائِنْ مِثْلَ كَاعِنْ، وَكَأَيِّنْ مِثْلَ كَعَيِّنْ،
تَقُولُ كَأَيِّنْ رَجُلًا لَقِيتُ، بِنَصْبِ مَا بَعْدَ
كَأَيِّنْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَتَقُولُ أَيْضًا: كَأَيِّنْ
مِنْ رَجُلٍ لَقِيتُ، وَإِدْخَالُ مِنْ بَعْدَ كَأَيِّنْ
أَكْثَرُ مِنَ النصب بها وأجود. وبكائن تَبِيعُ هَذَا
الثَّوْبَ؟ أَيْ بِكَمْ تَبِيعُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَكَائِنْ ذَعَرْنَا مِنْ مَهَاةٍ وَرَامِحٍ ... بِلَادُ
الْعِدَا «1» لَيْسَتْ لَهُ بِبِلَادِ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو" وَكَأَيْ"
بِغَيْرِ نُونٍ، لِأَنَّهُ تنوين. وروى ذلك سورة ابن
الْمُبَارَكِ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَوَقَفَ الْبَاقُونَ
بِالنُّونِ اتِّبَاعًا لِخَطِ الْمُصْحَفِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ
تَشْجِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَمْرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ خِيَارِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ
كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثير،
أو كثير من الأنبياء قالوا فَمَا ارْتَدَّ أُمَمُهُمْ،
قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِلْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَا قُتِلَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ نَبِيًّا قُتِلَ
فِي الْقِتَالِ. وَالثَّانِي عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ.
وَالْوَقْفُ- عَلَى هَذَا الْقَوْلِ- عَلَى" قُتِلَ" جَائِزٌ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي عَمْرٍو
وَيَعْقُوبَ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهَا
أَبُو حَاتِمٍ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ"
قُتِلَ" وَاقِعًا عَلَى النَّبِيِّ وَحْدَهُ، وَحِينَئِذٍ
يَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ" قُتِلَ"
وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ الْأَمِيرُ مَعَهُ
جَيْشٌ عَظِيمٌ، أَيْ وَمَعَهُ جَيْشٌ. وَخَرَجْتُ مَعِي
تِجَارَةٌ، أَيْ وَمَعِي. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ
الْقَتْلُ نَالَ النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الرِّبِّيِّينَ، وَيَكُونَ وَجْهُ الْكَلَامِ قُتِلَ بَعْضُ
مَنْ كَانَ مَعَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلْنَا بَنِي
تَمِيمٍ وَبَنِي سَلِيمٍ، وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ" فَما وَهَنُوا" رَاجِعًا إِلَى مَنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ
بِنُزُولِ الْآيَةِ وَأَنْسَبُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْتَلْ، وَقُتِلَ مَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ
عامر" قاتَلَ" وهي قراءة
__________
(1). كذا في الأصول المهاة: البقرة الوحشية. والرامح: الثور
الوحشي، لان قرنه بمنزلة الرمح فهو رامح: والمعنى لا يقيم مع
الانس في مكان. الذي في ديوانه:" بلاد الورى ليست له ببلاد".
(4/229)
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو
عُبَيْدٍ وَقَالَ. إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ
كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حَمِدَ مَنْ قُتِلَ
لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَقَاتَلَ أَعَمُّ
وَأَمْدَحُ. وَ" الرِّبِّيُّونَ" بِكَسْرِ الرَّاءِ قِرَاءَةُ
الْجُمْهُورِ. وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِضَمِّهَا. وَابْنِ عَبَّاسٍ بِفَتْحِهَا، ثَلَاثُ لُغَاتٍ.
وَالرِّبِّيُّونَ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ، وَاحِدُهُمْ رُبِّيٌ
بِضَمِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ
بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْضًا وَضَمِّهَا، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الرِّبِّيُّونَ
الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الرِّبِّيُّونَ الْأَتْبَاعُ. وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي
اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْخِرْقَةِ الَّتِي تُجْمَعُ
فِيهَا الْقِدَاحُ: رِبَّةٌ وَرُبَّةٌ. وَالرِّبَابُ قَبَائِلُ
تَجَمَّعَتْ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: الرِّبِّيُّ
عَشْرَةُ آلَافٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعُلَمَاءُ
الصُّبُرُ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَالرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، قَالَ
حَسَّانُ:
وَإِذَا معشر تجافوا عن الح ... ق حملنا عليهم ربيا
وقال الزجاج: ها هنا قراءتان" رِبِّيُّونَ" بضم الراء- و"
رِبِّيُّونَ" بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَمَّا الرُّبِّيُّونَ
(بِالضَّمِّ): الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَيُقَالُ:
عَشْرَةُ آلَافٍ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ"
رِبِّيُّونَ" بِفَتْحِ الرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبِّيُّ الْوَاحِدُ مِنَ الْعُبَّادِ
الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. وَهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ
وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ) " وَهَنُوا" أَيْ ضَعُفُوا، وَقَدْ
تَقَدَّمَ وَالْوَهْنُ: انْكِسَارُ الْجِدِّ «1» بِالْخَوْفِ.
وَقَرَأَ الحسن وأبو الْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ" وَهَنُوا"
بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا، لُغَتَانِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ.
وَهَنَ الشَّيْءُ يَهِنُ وَهْنًا. وَأَوْهَنْتُهُ أَنَا
وَوَهَّنْتُهُ ضَعَّفْتُهُ. وَالْوَاهِنَةُ: أَسْفَلُ
الْأَضْلَاعِ وَقِصَارُهَا «2». وَالْوَهَنُ مِنَ الْإِبِلِ:
الْكَثِيفُ. وَالْوَهْنُ: سَاعَةٌ تَمْضِي مِنَ اللَّيْلِ،
وَكَذَلِكَ الْمَوْهِنُ. وَأَوْهَنَّا صِرْنَا «3» فِي تِلْكَ
السَّاعَةِ، أَيْ مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ
لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، أَيْ مَا وَهَنَ بَاقِيهُمْ،
فَحَذَفَ الْمُضَافَ. (وَما ضَعُفُوا) أَيْ عَنْ عَدُوِّهِمْ.
(وَمَا اسْتَكانُوا) أَيْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ.
وَالِاسْتِكَانَةُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَأَصْلُهَا"
اسْتَكَنُوا" عَلَى افْتَعَلُوا، فَأُشْبِعَتْ فَتْحَةُ
الْكَافِ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِفٌ. وَمَنْ جَعَلَهَا مِنَ
الْكَوْنِ فهي استفعلوا، والأول
__________
(1). الواهنة: القصيري وهى أسفل الأضلاع.
(2). الواهنة: القصيري وهى أسفل الأضلاع.
(3). كذا في دو اللسان، وفى هـ وأ وح: ضربنا. [ ..... ]
(4/230)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
أشبه بمعنى الآية. وقرى" فَمَا وَهْنُوا
وَمَا ضَعْفُوا" بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى
الْكِسَائِيُّ" ضَعَفُوا" بِفَتْحِ الْعَيْنِ. ثُمَّ أَخْبَرَ
تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ
نَبِيُّهُمْ بِأَنَّهُمْ صَبَرُوا وَلَمْ يَفِرُّوا
وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَاسْتَغْفَرُوا
لِيَكُونَ مَوْتُهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ إِنْ
رُزِقُوا الشَّهَادَةَ، وَدَعَوْا فِي الثَّبَاتِ حَتَّى لَا
يَنْهَزِمُوا، وَبِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. وَخَصُّوا
الْأَقْدَامَ بِالثَّبَاتِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجَوَارِحِ
لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا. يَقُولُ: فَهَلَّا
فَعَلْتُمْ وَقُلْتُمْ مِثْلَ ذَلِكَ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ؟
فَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَأَعْطَاهُمُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ
وَالْغَنِيمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْمَغْفِرَةَ فِي الْآخِرَةِ
إِذَا صَارُوا إِلَيْهَا. وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَعَ
عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ التَّائِبِينَ الصَّادِقِينَ
النَّاصِرِينَ لِدِينِهِ، الثَّابِتِينَ عِنْدَ لِقَاءِ
عَدُوِّهِ بِوَعْدِهِ الْحَقِّ، وَقَوْلِهِ الصِّدْقِ.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) يَعْنِي الصَّابِرِينَ
عَلَى الْجِهَادِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ" وَمَا كَانَ
قَوْلُهُمْ" بِالرَّفْعِ، جَعَلَ الْقَوْلَ اسْمًا لَكَانَ،
فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلَّا
قَوْلَهُمْ: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) وَمَنْ قَرَأَ
بِالنَّصْبِ جَعَلَ الْقَوْلَ خَبَرَ كَانَ. وَاسْمُهَا"
إِلَّا أَنْ قالُوا". رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا يَعْنِي
الصَّغَائِرَ (وَإِسْرافَنا) يَعْنِي الْكَبَائِرَ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي الشَّيْءِ وَمُجَاوَزَةُ
الْحَدِّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي
فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ مِنِ الدُّعَاءِ
وَيَدَعَ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَقُولَ أَخْتَارُ كَذَا، فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ وَأَوْلِيَائِهِ
وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَدْعُونَ.
[سورة آل عمران (3): آية 148]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ) أَيْ أَعْطَاهُمْ
(ثَوابَ الدُّنْيا)، يَعْنِي النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى
عَدُوِّهِمْ. (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) يَعْنِي
الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ" فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ"
مِنَ الثَّوَابِ. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) " تقدم.
(4/231)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149)
[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 150]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (150)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ حَذَّرَ طَاعَةَ
الْكَافِرِينَ، يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَبَا سُفْيَانَ
وَأَصْحَابَهُ وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي
قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ: ارْجِعُوا
إِلَى دِينِ آبَائِكُمْ. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)
أَيْ إِلَى الْكُفْرِ. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أَيْ
فَتَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ. ثُمَّ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ
مَوْلاكُمْ) أَيْ مُتَوَلِّي نَصْرَكُمْ وَحِفْظَكُمْ إن
أطعتموه. وقرى" بَلِ اللَّهُ" بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ
بَلْ وَأَطِيعُوا الله مولاكم.
[سورة آل عمران (3): آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
نَظِيرُهُ" وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" «1». وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ" الرُّعُبَ" بِضَمِ الْعَيْنِ،
وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالرُّعْبُ: الْخَوْفُ، يُقَالُ:
رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا، فَهُوَ مَرْعُوبٌ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ مَصْدَرًا، وَالرُّعْبُ الِاسْمُ.
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَلْءِ، يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ يَمْلَأُ
الْوَادِيَ. وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ مَلَأْتُهُ. وَالْمَعْنَى:
سَنَمْلَأُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ «2» خَوْفًا وَفَزَعًا.
وَقَرَأَ السِّخْتِيَانِيُّ" سَيُلْقِي" بِالْيَاءِ،
وَالْبَاقُونَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ
وَغَيْرُهُ: لَمَّا ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ
وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّةَ
انْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا! قَتَلْنَاهُمْ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ «3»
تَرَكْنَاهُمْ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ، فَلَمَّا
عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ.
وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْأَجْسَامِ، قال
الله تعالى:" وَأَلْقَى الْأَلْواحَ" [الأعراف: 150] «4» "
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ" [الشعراء: 44] "
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ" [الأعراف: 107]. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى
__________
(1). راجع ج 18 ص 3.
(2). في د وج وهـ: الكافرين.
(3). في د: الشديد.
(4). راجع ج 7 ص 288 و256 وج 13 ص 97.
(4/232)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا كَمَا
فِي هَذِهِ الآية، وقوله:" وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً
مِنِّي" [طه: 39] «1» وَأُلْقِي عَلَيْكَ مَسْأَلَةً. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) تَعْلِيلٌ، أَيْ كَانَ
سَبَبُ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ إِشْرَاكَهَمْ،
فَمَا لِلْمَصْدَرِ. وَيُقَالُ أَشْرَكَ بِهِ أَيْ عَدَلَ بِهِ
غَيْرَهُ لِيَجْعَلَهُ شَرِيكًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حُجَّةً وَبَيَانًا، وَعُذْرًا
وَبُرْهَانًا، وَمِنْ هَذَا قِيلَ، لِلْوَالِي سُلْطَانٌ،
لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلِيطِ وَهُوَ مَا
يُضَاءُ بِهِ السِّرَاجُ، وَهُوَ دُهْنُ السِّمْسِمِ، قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَمَالَ «2» السَّلِيطَ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ
فَالسُّلْطَانُ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ
وَقَمْعِ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ السَّلِيطُ الْحَدِيدُ.
وَالسَّلَاطَةُ الْحِدَّةُ. وَالسَّلَاطَةُ مِنَ التَّسْلِيطِ
وَهُوَ الْقَهْرُ، وَالسُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، فَالنُّونُ
زَائِدَةٌ. فَأَصْلُ السُّلْطَانِ الْقُوَّةُ، فَإِنَّهُ
يُقْهَرُ بِهَا كَمَا يُقْهَرُ بِالسُّلْطَانِ. وَالسَّلِيطَةُ
الْمَرْأَةُ الصخابة. وَالسَّلِيطُ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ
اللِّسَانِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لم تثبت عبادة الأوثان في
شي مِنَ الْمِلَلِ. وَلَمْ يَدُّلُ عَقْلٌ عَلَى جَوَازِ
ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَصِيرِهِمْ
وَمَرْجِعِهِمْ فَقَالَ: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ثُمَّ
ذَمَّهُ فَقَالَ: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)
وَالْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، يُقَالُ:
ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً. وَالْمَأْوَى: كُلُّ مكان يرجع إليه شي
ليلا أو نهارا.
[سورة آل عمران (3): آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا
تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا رَجَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ وَقَدْ أُصِيبُوا قَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا
اللَّهُ النَّصْرَ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَبْعَةَ
نَفَرٍ مِنْهُمْ بَعْدَهُ عَلَى اللواء، وكان
__________
(1). راجع ج 11 ص 196.
(2). في الأصول: أهان: والذي أثبتناه هو ما في الديوان وكتب
اللغة.
(4/233)
الظَّفَرُ ابْتِدَاءً لِلْمُسْلِمِينَ
غَيْرَ أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ، وَتَرَكَ بَعْضُ
الرُّمَاةِ أَيْضًا مَرْكَزَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ
فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ
وَلَقِينَا الْمُشْرِكِينَ أَجْلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا مِنَ الرُّمَاةِ
وَأَمَّرَ عليهم عبد الله ابن جُبَيْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: (لَا
تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ [إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا
عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا] «1» وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ
ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا عَلَيْهِمْ) قَالَ:
فَلَمَّا الْتَقَى الْقَوْمُ وَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
حَتَّى نَظَرْنَا إِلَى النِّسَاءِ يَشْتَدِدْنَ «2» فِي
الْجَبَلِ، وَقَدْ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ
خَلَاخِلُهُنَّ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ
الْغَنِيمَةَ. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: أَمْهِلُوا!
أَمَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَبْرَحُوا، فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا
أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ وَقُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَشْرَفَ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي نَشَزٍ
فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُجِيبُوهُ) حَتَّى
قَالَهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ؟ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ قَالَ: (لَا تُجِيبُوهُ) ثُمَّ
قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] «3»؟
ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَا تُجِيبُوهُ) ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا.
فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسَهُ دُونَ
أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَدْ أَبْقَى
اللَّهُ لَكَ مَنْ يُخْزِيكَ بِهِ. فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ «4»،
مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (أَجِيبُوهُ) فَقَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: (قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ). قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى «5» وَلَا عُزَّى لَكُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(أَجِيبُوهُ). قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: قُولُوا (اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ).
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ
سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً
لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. وَفِي الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ
عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ
عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ الْقِتَالِ. وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ سَعْدٍ: عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ مَا
رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. يَعْنِي جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يُقَاتِلَانِ عَنْ
رَسُولِ الله
__________
(1). زيادة عن صحيح البخاري. والذي فيه:" لا تبرحوا إن
رأيتمونا".
(2). أي يسرعن المشي.
(3). في ج وهـ ود.
(4). أي أظهر دينك، أو رد علوا، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد
غلبت.
(5). العزى: اسم صنم لقريش.
(4/234)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ
الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا
بَعْدَهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ
الْمَلَائِكَةُ مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
إِنَّمَا أَرَادَ مُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا يَوْمَ
أُحُدٍ عَنِ الْقَوْمِ حِينَ عَصَوُا الرَّسُولَ وَلَمْ
يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ
عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى أَنْ يُمِدَّهُمْ بِخَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ: وَكَانَ قَدْ
فَعَلَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ وَتَرَكُوا
مَصَافَّهُمْ وَتَرَكُوا الرُّمَاةَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَلَّا
يَبْرَحُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَأَرَادُوا الدُّنْيَا،
رُفِعَ عَنْهُمْ مَدَدُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ" [آل عمران: 152] فَصَدَقَ اللَّهُ
وَعْدَهُ وَأَرَاهُمُ الْفَتْحَ، فَلَمَّا عَصَوْا
أَعْقَبَهُمُ الْبَلَاءَ. وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفُوا عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدٌ يَرْمِي
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفَتًى يُنَبِّلُ لَهُ، كُلَّمَا ذَهَبَتْ
نَبْلَةٌ أَتَاهُ بِهَا. قَالَ ارْمِ أَبَا إِسْحَاقَ.
فَلَمَّا فَرَغُوا نَظَرُوا مَنِ الشَّابُّ؟ فَلَمْ يَرَوْهُ
وَلَمْ يَعْرِفُوهُ «1». وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
وَلَمَّا قُتِلَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَقَطَ
لِوَاؤُهُمْ، رَفَعَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ
الْحَارِثِيَّةُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانٌ:
فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا ... يُبَاعُونَ
فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ
وَ (تَحُسُّونَهُمْ) مَعْنَاهُ تَقْتُلُونَهُمْ
وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ ...
بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ
فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحَسُّ الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ،
يُقَالُ: جَرَادٌ مَحْسُوسٌ إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْدُ.
وَالْبَرْدُ مُحَسَّةٌ لِلنَّبْتِ. أَيْ مَحْرَقَةٌ لَهُ
ذَاهِبَةٌ بِهِ. وسنة حسوس أي جديه تأكل كل شي، قَالَ
رُؤْبَةُ:
إِذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأْكُلُ بعد الأخضر «2»
اليبيسا"
أصله مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ.
فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ. (بِإِذْنِهِ)
بِعِلْمِهِ، أَوْ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ. (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ) أَيْ جَبُنْتُمْ وضعفتم. يقال: فشل يفشل فهو
__________
(1). في د: نقله محمد بن كعب.
(2). في اللسان: الخضرة.
(4/235)
فَشِلٌ وَفَشْلٌ. وَجَوَابُ" حَتَّى"
مَحْذُوفٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمُ امْتُحِنْتُمْ.
وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَقَوْلِهِ:" فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي
السَّماءِ" [الانعام: 35] «1» فَافْعَلْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
جَوَابُ" حَتَّى"،" وَتَنازَعْتُمْ" وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ
زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ" فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ" [الصافات: 104 - 103] «2» أَيْ
نَادَيْنَاهُ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيِ انْتَحَى. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ إِقْحَامُ الْوَاوِ
مِنْ" وَعَصَيْتُمْ". أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ. وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيمٌ
وَتَأْخِيرٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ
وفشلتم. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْجَوَابُ" صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ"،" ثُمَّ" زَائِدَةٌ،
وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ
وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ
النَّحْوِيِّينَ في زيادتها قوله الشاعر:
أراني إذا ما بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْتُ
أَصْبَحْتُ عَادِيًا
وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، كَمَا فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ
بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ" [التوبة: 118] «3». وَقِيلَ:" حَتَّى" بِمَعْنَى"
إِلَى" وَحِينَئِذٍ لَا جَوَابَ لَهُ، أَيْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ
وَعْدَهُ إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعْدُ
بِشَرْطِ الثَّبَاتِ. ومعنى (تَنازَعْتُمْ) اخْتَلَفْتُمْ،
يَعْنِي الرُّمَاةَ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَلْحَقُ
الْغَنَائِمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَثْبُتُ فِي
مَكَانِنَا الَّذِي أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثُّبُوتِ فِيهِ. (وَعَصَيْتُمْ) أَيْ
خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ فِي الثُّبُوتِ. (مِنْ بَعْدِ
مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) يَعْنِي مِنَ الْغَلَبَةِ
الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَوَّلَ
أَمْرِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ صُرِعَ صَاحِبُ لِوَاءِ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
صُرِعَ انْتَشَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَصَارُوا كَتَائِبَ مُتَفَرِّقَةً
فَحَاسُوا «4» الْعَدُوَّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ «5»
عَنْ أَثْقَالِهِمْ. وَحَمَلَتْ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ تُنْضَحُ
بِالنَّبْلِ فَتَرْجِعُ مَغْلُوبَةً «6»، وَحَمَلَ
الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا. فَلَمَّا أَبْصَرَ
الرُّمَاةُ الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ
فَتَحَ لِإِخْوَانِهِمْ قالوا: والله ما نجلس
__________
(1). راجع ج 6 ص 417. [ ..... ]
(2). راجع ج 15 ص 99.
(3). راجع ج 8 ص 281.
(4). الحووس: شدة الاختلاط ومداركة الضرب. أي بالغوا النكاية
فيهم، في هـ ود: جاسوا.
(5). أي نحوهم عنها وأزالوهم.
(6). في د: مفلولة.
(4/236)
هاهنا لِشَيْءٍ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ
الْعَدُوَّ وَإِخْوَانُنَا فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: عَلَامَ نَقِفُ وَقَدْ هَزَمَ
اللَّهُ الْعَدُوَّ؟ فَتَرَكُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي عَهِدَ
إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلِّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَلَّا يَتْرُكُوهَا، وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ فَأَوْجَفَتِ «1» الْخَيْلُ فِيهِمْ قَتْلًا.
وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي التَّوْبِيخَ لَهُمْ، وَوَجْهُ
التَّوْبِيخِ لَهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَبَادِئَ النَّصْرِ،
فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ تَمَامَ النَّصْرِ
فِي الثَّبَاتِ لَا فِي الِانْهِزَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ
التَّنَازُعِ فَقَالَ: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا).
يَعْنِي الْغَنِيمَةَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا شَعَرْنَا
أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا حَتَّى
كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)
وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزِهِمْ، وَلَمْ
يُخَالِفُوا أَمْرَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ،
فَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي
جَهْلٍ عَلَيْهِ، وَكَانَا يَوْمَئِذٍ كَافِرَيْنِ فَقَتَلُوهُ
مَعَ مَنْ بَقِيَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَالْعِتَابُ مَعَ مَنِ
انْهَزَمَ لَا مَعَ مَنْ ثَبَتَ، فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ فَازَ
بِالثَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِقَوْمٍ
عُقُوبَةٌ عَامَّةٌ فَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالصِّبْيَانِ
يَهْلِكُونَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَا حَلَّ بِهِمْ
عُقُوبَةً، بَلْ هُوَ سَبَبُ الْمَثُوبَةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ) أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَيْتُمْ
عَلَيْهِمْ رَدَّكُمْ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ. وَدَلَّ هَذَا
عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمَعْنَى ثُمَّ انْصَرَفْتُمْ،
فَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْبَ
مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتِلَاءٌ
لَهُمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا لَا يُغْنِيهِمْ،
لِأَنَّ إِخْرَاجَ الرُّعْبِ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
حَتَّى يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ قَبِيحٌ وَلَا يَجُوزُ
عِنْدَهُمْ، أَنْ يَقَعَ مِنَ اللَّهِ قَبِيحٌ، فَلَا يَبْقَى
لِقَوْلِهِ:" ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" مَعْنَى. وَقِيلَ:
مَعْنَى" صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" أَيْ لَمْ يُكَلِّفْكُمْ
طَلَبَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ لَمْ
يَسْتَأْصِلْكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ.
وَالْخِطَابُ قِيلَ هُوَ لِلْجَمِيعِ. وَقِيلَ: هُوَ
لِلرُّمَاةِ الَّذِينَ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ،
وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله:" ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ"
[البقرة: 52] «2». (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نُصِرَ النَّبِيُّ صلى الله
__________
(1). الإيجاف: سرعة السير.
(2). راجع ج 1 ص 397.
(4/237)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِنٍ كَمَا
نُصِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: وَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ
كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ
وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ- يَقُولُ ابْنُ
عَبَّاسٍ: وَالْحَسُّ الْقَتْلُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا
الرُّمَاةَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ قَالَ:
(احْمُوا ظُهُورَنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا
تَنْصُرُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا
تَشْرَكُونَا). فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ
الْمُشْرِكِينَ انْكَفَأَتِ الرُّمَاةُ جَمِيعًا فَدَخَلُوا
فِي الْعَسْكَرِ يَنْتَهِبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَهُمْ هَكَذَا- وَشَبَّكَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ- وَالْتَبَسُوا.
فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةِ «1» الَّتِي
كَانُوا فِيهَا دَخَلَتِ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْتَبَسُوا،
وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ حَتَّى قُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ،
وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ الْجَبَلِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا
حَيْثُ يَقُولُ النَّاسُ: الْغَارَ «2»، إِنَّمَا كَانُوا
تَحْتَ الْمِهْرَاسِ «3» وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ
مُحَمَّدٌ. فَلَمْ يُشَكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ، فَمَا زِلْنَا
كَذَلِكَ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قُتِلَ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
السَّعْدَيْنِ «4»، نَعْرِفُهُ بِتَكَفُّئِهِ «5» إِذَا مَشَى.
قَالَ: فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّا لَمْ يُصِبْنَا مَا
أَصَابَنَا. قَالَ: فَرَقِيَ نَحْوَنَا وَهُوَ يَقُولُ:
(اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ
نَبِيِّهِمْ) «6». وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا كُنْتُ
أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عَرَفْتُهُ بِعَيْنَيْهِ مِنْ
تَحْتِ الْمِغْفَرِ تُزْهِرَانِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى
صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! أَبْشِرُوا، هَذَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
أَقْبَلَ. فَأَشَارَ إلي أن اسكت.
__________
(1). أخل بالمكان ويمركزه: غاب عنه وتركه. والخلة: الطريق.
(2). كذا في الأصول. والذي في الدر المنثور، والمستدرك
للحاكم:" ... الغاب" بالباء بدل الراء.
(3). المهراس: ماء بجبل أحد.
(4). السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
(5). التكفؤ: التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها.
(6). في د وهـ وج: وجه رسوله.
(4/238)
إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
[سورة آل عمران (3): آية 153]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
" إِذْ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:" وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ".
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" تُصْعِدُونَ" بِضَمِ التَّاءِ
وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ
وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ، يَعْنِي
تَصْعَدُونَ الْجَبَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشِبْلٌ"
إِذْ يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تَلُونَ" بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَى
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ" وَلَا تُلْوُونَ"
بِضَمِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ ذَكَرَهَا
النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْعَدْتُ إِذَا
مَضَيْتُ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعِدْتُ إِذَا ارْتَقَيْتُ فِي
جَبَلٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوٍ
مِنَ الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ.
وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّطُوحِ
وَالسَّلَالِيمِ وَالدَّرَجِ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
صُعُودُهُمْ فِي الْجَبَلِ بَعْدَ إِصْعَادِهِمْ فِي
الْوَادِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ"
تُصْعِدُونَ" وَ" تَصْعَدُونَ". قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ:
أَصَعَدُوا يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْوَادِي. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ"
إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
صَعِدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا. فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ
صَوَابٌ، كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ مُصْعَدٌ
وَصَاعِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقُتَبِيُّ
وَالْمُبَرِّدُ: أَصْعَدَ إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ
وَأَمْعَنَ فِيهِ، فَكَأَنَّ الْإِصْعَادَ إِبْعَادٌ فِي
الْأَرْضِ كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاعِ، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أُصْعِدَتْ «2» ...
فَإِنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِصْعَادُ الِابْتِدَاءُ فِي
السَّفَرِ، وَالِانْحِدَارُ الرُّجُوعُ مِنْهُ، يُقَالُ:
أَصْعَدْنَا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى خُرَاسَانَ
وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي
السَّفَرِ، وَانْحَدَرْنَا إِذَا رَجَعْنَا. وَأَنْشَدَ أَبُو
عُبَيْدَةَ:
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الْإِصْعَادِ ... فاليوم سرحت
وصاح الحادي
__________
(1). هو أعشى قيس. [ ..... ]
(2). الذي في ديوان الأعشى وسيرة ابن هشام ص 255 طبع أوربا:"
أين يمت". والبيت من قصيدة يمدح بها النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا
(4/239)
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ
وَصَعَّدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى" تَلْوُونَ"
تُعَرِّجُونَ وَتُقِيمُونَ، أَيْ لَا يَلْتَفِتُ بَعْضُكُمْ
إِلَى بَعْضٍ هَرَبًا، فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الشَّيْءِ
يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عَنِانَ دَابَّتِهِ. (عَلَى
أَحَدٍ) يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
فِي أُخْراكُمْ) أَيْ فِي آخِرِكُمْ، يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ
فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَةِ النَّاسِ وَأُخْرَى النَّاسِ
وَأُخْرَيَاتِ النَّاسِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ" أُخْراكُمْ"
تَأْنِيثُ آخِرُكُمْ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ
حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ:
سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرجالة يوم أحد عبد
الله ابن جُبَيْرٍ وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ
يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ. وَلَمْ يَبْقَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ
عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ
دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيْ
عِبَادَ اللَّهِ ارجعوا). وكان دعاءه تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ،
وَمُحَالٌ أَنْ يَرَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُنْكَرَ وَهُوَ
الِانْهِزَامُ ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ. قُلْتُ: هَذَا عَلَى
أَنْ يَكُونَ الِانْهِزَامُ مَعْصِيَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) الْغَمُّ
فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ. غَمَّمْتُ الشَّيْءَ
غَطَّيْتُهُ. وَيَوْمٌ غَمٌّ وَلَيْلَةٌ غَمَّةٌ إِذَا كَانَا
مُظْلِمَيْنِ. وَمِنْهُ غُمَّ الْهِلَالُ إِذَا لَمْ يُرَ،
وَغَمَّنِي الْأَمْرُ يَغُمُّنِي. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَغَيْرُهُمَا: الْغَمُّ الْأَوَّلُ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ،
وَالْغَمُّ الثَّانِي الْإِرْجَافُ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ صَاحَ بِهِ الشَّيْطَانُ.
وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الظَّفَرِ
وَالْغَنِيمَةِ، وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ
وَالْهَزِيمَةِ. وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ الْهَزِيمَةُ،
والثاني إشراف أبي وسفيان وَخَالِدٍ عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَلِ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ غَمَّهُمْ ذَلِكَ،
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ
فَأَنْسَاهُمْ هَذَا مَا نَالَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللَّهُمَّ
لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا" كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَاءُ فِي"
بِغَمٍّ" عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى
بَابِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَمُّوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ،
فَأَثَابَهُمْ بِذَلِكَ غَمَّهُمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ:" فَأَثابَكُمْ غَمًّا" يَوْمَ أُحُدٍ"
بِغَمٍّ" يَوْمَ بَدْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ. وَسُمِّيَ الْغَمُّ
ثَوَابًا كَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ الذَّنْبِ ذَنْبًا. وَقِيلَ:
وَقَفَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَنْبِهِمْ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ
عَمَّا أَصَابَهُمْ.
(4/240)
ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ:" وَلَقَدْ
عَفا عَنْكُمْ" وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ:"
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ" أَيْ كَانَ هَذَا الْغَمُّ
بَعْدَ الْغَمِّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ
الْغَنِيمَةِ، وَلَا مَا أصابكم من الهزيمة. والأول أحسن. و"
غَمًّا" فِي قَوْلِهِ" مَا أَصابَكُمْ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ.
وَقِيلَ:" لَا" صِلَةٌ. أَيْ لِكَيْ تَحْزَنُوا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ وَمَا أَصَابَكُمْ عُقُوبَةٌ لَكُمْ عَلَى
مُخَالَفَتِكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" مَا مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ" [الأعراف: 12] «1» أَيْ أَنْ
تَسْجُدَ. وَقَوْلُهُ" لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ"
[الحديد: 29] «2» أَيْ لِيَعْلَمَ، وَهَذَا قَوْلُ
الْمُفَضَّلِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ" فَأَثابَكُمْ
غَمًّا بِغَمٍّ" أَيْ تَوَالَتْ عَلَيْكُمُ الْغُمُومُ،
لِكَيْلَا تَشْتَغِلُوا بَعْدَ هَذَا بِالْغَنَائِمِ."
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ" فِيهِ مَعْنَى
التَّحْذِيرِ وَالْوَعِيدِ.
[سورة آل عمران (3): آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الْأَمَنَةُ وَالْأَمْنُ سَوَاءٌ.
وَقِيلَ: الْأَمَنَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ أَسْبَابِ
الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ مَعَ عَدَمِهِ. وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِ"
أَنْزَلَ،" وَ" نُعاساً" بَدَلَ مِنْهَا. وَقِيلَ: نُصِبَ
عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ لِلْأَمَنَةِ «3» نُعَاسًا. وَقَرَأَ ابْنُ
مُحَيْصِنٍ" أَمْنَةً" بِسُكُونِ الْمِيمِ. تَفَضَّلَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْغُمُومِ فِي
يَوْمِ
__________
(1). راجع ج 7 ص 169.
(2). راجع ج 17 ص 266.
(3). في ز وهـ ود: أنزل عليهم للامعة نعاسا، وفى ج: أنزل عليكم
الأمنة.
(4/241)
أُحُدٍ بِالنُّعَاسِ حَتَّى نَامَ
أَكْثَرُهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ وَالْخَائِفُ
لَا يَنَامُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا
طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي
مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ
مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ. (يَغْشَى) قُرِئَ
بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. الْيَاءُ لِلنُّعَاسِ، والتاء للامنة.
والطائفة تطلق على الواحد والجماعة. (وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ:
مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابَهُ، وَكَانُوا خَرَجُوا
طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ وَخَوْفَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ
يَغْشَهُمُ النُّعَاسُ وَجَعَلُوا يَتَأَسَّفُونَ عَلَى
الْحُضُورِ، وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيلَ. وَمَعْنَى" قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ" حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمِّ،
وَالْهَمُّ مَا هَمَمْتُ بِهِ، يُقَالُ: أَهَمَّنِي الشَّيْءُ
أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي. وَأَمْرٌ مُهِمٌّ: شَدِيدٌ.
وَأَهَمَّنِي الْأَمْرُ: أَقْلَقَنِي: وَهَمَّنِي: أَذَابَنِي
«1». وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ" وَطائِفَةٌ" وَاوُ الْحَالِ
بِمَعْنَى إِذْ، أَيْ إِذْ طَائِفَةٌ يَظُنُّونَ أَنَّ أَمْرَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ،
وَأَنَّهُ لَا يُنْصَرُ. (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أَيْ ظَنَ
أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَحُذِفَ. (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ
الْجَحْدُ، أَيْ مَا لنا شي مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ مِنْ أَمْرِ
الْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا خَرَجْنَا كُرْهًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ:" لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا". قَالَ الزُّبَيْرُ:
أُرْسِلَ عَلَيْنَا النَّوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنِّي
لَأَسْمَعَ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَالنُّعَاسُ
يَغْشَانِي يَقُولُ: لَوْ كَانَ لنا من الامر شي ما قلنا ها
هنا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَقُولُ لَيْسَ لَنَا مِنَ الظَّفَرِ
الذي وعدنا به محمد شي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) قَرَأَ
أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ" كُلَّهُ" بالرفع على الابتداء،
وخبره" بِاللَّهِ"، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ" إِنَّ". وَهُوَ
كَقَوْلِهِ:" وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ" [الزمر: 60] «2».
وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ
أَجْمَعَ لِلَّهِ. فَهُوَ تَوْكِيدٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى
أَجْمَعَ فِي الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَجْمَعُ لَا
يَكُونُ إِلَّا تَوْكِيدًا. وَقِيلَ: نَعْتٌ لِلْأَمْرِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: بَدَلٌ، أَيِ النَّصْرُ بِيَدِ اللَّهِ
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ
جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ" يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجاهِلِيَّةِ" يَعْنِي التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ. وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ
إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" يَعْنِي الْقَدَرَ خَيْرَهُ
وَشَرَّهُ مِنَ اللَّهِ. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أَيْ من
الشرك
__________
(1). أي حزنة الامر حتى أذا به.
(2). راجع ج 15 ص 273.
(4/242)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وَالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. (مَا لَا
يُبْدُونَ لَكَ) يُظْهِرُونَ لَكَ. (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا) أَيْ مَا قُتِلَ
عَشَائِرُنَا. فَقِيلَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لَوْ
كَانَ لَنَا عَقْلٌ مَا خَرَجْنَا إِلَى قِتَالِ أَهْلِ
مَكَّةَ، وَلَمَا قُتِلَ رُؤَسَاؤُنَا. فَرَدَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ) أَيْ لَخَرَجَ. (الَّذِينَ كُتِبَ) أَيْ فُرِضَ.
(عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) يعني في اللوح المحفوظ. (إِلى
مَضاجِعِهِمْ) أَيْ مَصَارِعِهِمْ. وَقِيلَ:" كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ" أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ،
فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ قد يؤول إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" لَبُرِّزَ" بِضَمِّ الْبَاءِ وَشَدِّ
الرَّاءِ، بِمَعْنَى يُجْعَلُ يُخْرَجُ. وَقِيلَ: لَوْ
تَخَلَّفْتُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ لَبَرَزْتُمْ إِلَى
مَوْطِنٍ آخَرَ غَيْرِهِ تُصْرَعُونَ فِيهِ حَتَّى يَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي الصُّدُورِ وَيُظْهِرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ (وَلِيَبْتَلِيَ) مقحمة كقوله:
(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الانعام: 75] «1» أَيْ
لِيَكُونَ، وَحُذِفَ الْفِعْلُ الَّذِي مَعَ لَامِ كَيْ.
وَالتَّقْدِيرُ (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالَ وَالْحَرْبَ وَلَمْ يَنْصُرْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ
لِيَخْتَبِرَ صَبْرَكُمْ وَلِيُمَحِّصَ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ. وَقِيلَ:
مَعْنَى" لِيَبْتَلِيَ
" لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ. وَقِيلَ:
لِيَقَعَ مِنْكُمْ مُشَاهَدَةُ مَا عَلِمَهُ غَيْبًا. وَقِيلَ:
هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ لِيَبْتَلِيَ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى
التَّمْحِيصِ. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أَيْ مَا
فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقِيلَ: ذَاتُ الصُّدُورِ هِيَ
الصُّدُورُ، لان ذات الشيء نفسه.
[سورة آل عمران (3): آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ
بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) هَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ خَبَرُ" إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا" وَالْمُرَادُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَغَيْرِهِ. السُّدِّيُّ: يَعْنِي مَنْ هَرَبَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِ الْهَزِيمَةِ دُونَ مَنْ صَعِدَ
الْجَبَلَ. وَقِيلَ: هِيَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ
تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ هَزِيمَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ
انْصَرَفُوا. وَمَعْنَى" اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ"
اسْتَدْعَى زَلَلَهُمْ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ خَطَايَا سَلَفَتْ
مِنْهُمْ، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 43.
(4/243)
وَهُوَ مَعْنَى" بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا"
وَقِيلَ:" اسْتَزَلَّهُمُ" حَمَلَهُمْ عَلَى الزَّلَلِ، وَهُوَ
اسْتَفْعَلَ مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ. وَقِيلَ:
زَلَّ وَأَزَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ قِيلَ: كَرِهُوا
الْقِتَالَ قَبْلَ إِخْلَاصِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّمَا
تَوَلَّوْا لِهَذَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَعَلَى الثَّانِي بِمَعْصِيَتِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِهِمُ الْمَرْكَزَ وَمَيْلِهِمْ
إِلَى الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:" مَا كَسَبُوا"
قَبُولُهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الِانْهِزَامُ مَعْصِيَةً، لِأَنَّهُمْ
أَرَادُوا التَّحَصُّنَ بِالْمَدِينَةِ، فَيَقْطَعُ الْعَدُوُّ
طَمَعَهُ فِيهِمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ: زَادَ عَدَدُ الْعَدُوِّ عَلَى الضِّعْفِ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةً وَالْعَدُوُّ ثَلَاثَةَ
آلَافٍ. وَعِنْدَ هَذَا يَجُوزُ الِانْهِزَامُ وَلَكِنَّ
الِانْهِزَامَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ، وَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحَازَ
إِلَى الْجَبَلِ أَيْضًا. وَأَحْسَنُهَا الْأَوَّلُ. وَعَلَى
الْجُمْلَةِ فَإِنْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَنْبٍ مُحَقَّقٍ
فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى انْهِزَامٍ
مُسَوَّغٍ فَالْآيَةُ فِيمَنْ أَبْعَدَ فِي الْهَزِيمَةِ
وَزَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَوَّغِ. وَذَكَرَ أَبُو
اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
قَالَ حَدَّثَنَا السَّرَّاجُ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ غَيْلَانَ عَنْ جَرِيرٍ:
أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ: أَتَسُبُّنِي وَقَدْ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ
تَشْهَدْ، وَقَدْ بَايَعْتُ تَحْتَ شجرة وَلَمْ تُبَايِعْ،
وَقَدْ كُنْتَ تُوَلَّى مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ الْجَمْعِ،
يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَقَالَ:
أَمَّا قَوْلُكَ: أَنَا شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ،
فَإِنِّي لَمْ أَغِبْ عَنْ شي شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّ بِنْتَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَرِيضَةً
وَكُنْتُ مَعَهَا أُمَرِّضُهَا، فَضَرَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا فِي سِهَامِ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا بَيْعَةُ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي
رَبِيئَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ- الرَّبِيئَةُ هُوَ
النَّاظِرُ- فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فَقَالَ: (هَذِهِ
لِعُثْمَانَ) فَيَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَالُهُ خَيْرٌ لِي مِنْ يَمِينِي
وَشِمَالِي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى:" وَلَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَنْهُمْ" فَكُنْتُ فِيمَنْ عَفَا الله عنهم. فحج «1»
عثمان عبد الرحمن.
__________
(1). في ب وهـ ود: فخاصم، وفى ج: فحاج.
(4/244)
قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ
أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ
فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُودُ؟
قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ. قَالَ: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالُوا:
ابْنُ عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شي أَتُحَدِّثُنِي؟
قَالَ: أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ، أَتَعْلَمُ
أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ
يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ
تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟
قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَكَبَّرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ
لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ،
أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ
عَفَا عَنْهُ. وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ
كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لَكَ
أَجْرَ رَجُلٍ من شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ). وَأَمَّا
تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ
أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
لَبَعَثَهُ مَكَانُهُ، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما
ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ «1» النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:
(هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ «2»
فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ). اذْهَبْ بِهَذَا «3» الْآنَ
مَعَكَ. قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْبَةُ اللَّهِ
عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أَيْ غَلَبَهُ
بِالْحُجَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَرَادَ تَوْبِيخَ آدَمَ وَلَوْمَهُ فِي إِخْرَاجِ نَفْسِهِ
وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنَ
الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: (أَفَتَلُومُنِي عَلَى
أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ
أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً تَابَ عَلَيَّ مِنْهُ وَمَنْ
تَابَ عَلَيْهِ فَلَا ذَنْبَ لَهُ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا
يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لَوْمٌ (. وَكَذَلِكَ مَنْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى
بِذَلِكَ، وَخَبَرُهُ صِدْقٌ. وَغَيْرُهُمَا مِنَ
الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ
وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ أَلَّا
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، وَإِنْ قُبِلَتْ فَالْخَوْفُ أَغْلَبُ
عَلَيْهِمْ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بذلك. فأعلم.
__________
(1). قال: أشار، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال
وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال
برجله أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وكل ذلك على الاتساع
والمجاز (عن نهاية ابن الأثير).
(2). أي اليسرى.
(3). في رواية (بها) أي بالأجوبة التي أجبتك التي أجبتك بها
حتى يزول عنك ما كنت تعتقده من عيب عثمان. (عن القسطلاني) في ب
وهـ ود: بهذه.
(4/245)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ
كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
[سورة آل عمران (3): آية 156]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ
أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ.
(وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) يَعْنِي فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي
النَّسَبِ فِي السَّرَايَا الَّتِي بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ. (لَوْ
كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا) فَنُهِيَ
الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ:
(إِذا ضَرَبُوا) هُوَ لِمَا مَضَى، أَيْ إِذْ ضَرَبُوا،
لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ كان"
الَّذِينَ" بهما غَيْرَ مُوَقَّتٍ، فَوَقَعَ" إِذا" مَوْقِعَ"
إِذْ" كَمَا يَقَعُ الْمَاضِي فِي الْجَزَاءِ مَوْضِعَ
الْمُسْتَقْبَلِ. وَمَعْنَى (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)
سَافَرُوا فِيهَا وَسَارُوا لِتِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا
فَمَاتُوا. (أَوْ كانُوا غُزًّى) غُزَاةً فَقُتِلُوا.
وَالْغُزَّى جَمْعٌ مَنْقُوصٌ لَا يَتَغَيَّرُ لَفْظُهَا فِي
رَفْعٍ وَخَفْضٍ، وَاحِدُهُمْ غَازٍ، كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ،
وَصَائِمٍ وَصُوَّمٍ، وَنَائِمٍ وَنُوَّمٍ، وَشَاهِدٍ
وَشُهَّدٍ، وَغَائِبٍ وَغُيَّبٍ. وَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ
غُزَاةٌ مِثْلَ قُضَاةٍ، وَغُزَّاءُ بِالْمَدِّ مِثْلُ
ضُرَّابٍ وَصُوَّامٍ. وَيُقَالُ: غُزًّى «1» جَمْعُ
الْغَزَاةِ. قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا
وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَهُ" غُزًّى"
بالتخفيف. والمغزية المرأة التي غرا زَوْجُهَا. وَأَتَانٌ
مُغْزَيَةٌ مُتَأَخِّرَةُ النِّتَاجِ ثُمَّ تُنْتَجُ.
وَأَغْزَتِ النَّاقَةُ إِذَا عَسُرَ لِقَاحُهَا. وَالْغَزْوُ
قَصْدُ الشَّيْءِ. وَالْمَغْزَى الْمَقْصِدُ. وَيُقَالُ فِي
النَّسَبِ إِلَى الغزو: غزوى.
__________
(1). في اللسان مادة" غزا" أنه جمع غاز مثل حاج وحجيج وقاطن
وقطين وناد وندى وناج وتجئ.
(2). هو زياد الأعجم. وقيل: هو الصلتان العبدي، وتمامه كما في
اللسان:
والباكرين وللمجد الرامح
(4/246)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) يَعْنِي ظَنَّهُمْ
وَقَوْلَهُمْ. وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ" قالُوا"
أَيْ لِيَجْعَلَ ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا
قُتِلُوا." حَسْرَةً" أَيْ نَدَامَةً" فِي قُلُوبِهِمْ".
وَالْحَسْرَةُ الِاهْتِمَامُ عَلَى فَائِتٍ لَمْ يُقْدَرْ
بلوغه، قال الشاعر:
فوا حسرتى لَمْ أَقْضِ مِنْهَا لُبَانَتِي ... وَلَمْ
أَتَمَتَّعْ بِالْجِوَارِ وَبِالْقُرْبِ
وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: لَا
تَكُونُوا مِثْلَهُمْ" لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ" الْقَوْلَ"
حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ" لِأَنَّهُمْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُوا
إِلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ.
وَقِيلَ:" لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ"
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ
وَالنَّدَامَةِ، وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ من النعيم
والكرامة. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أَيْ
يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَى الْقِتَالِ،
وَيُمِيتَ مَنْ أَقَامَ فِي أَهْلِهِ. (وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. ثُمَّ
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَوْتَ فِيهِ خَيْرٌ من جميع الدنيا.
[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 158]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى
اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
جَوَابُ الْجَزَاءِ مَحْذُوفٌ، اسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِجَوَابِ
الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ) وَكَانَ الِاسْتِغْنَاءُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ
أَوْلَى، لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ
لَيَغْفِرَنَّ لَكُمْ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ:
مِتُّمْ، بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلَ نِمْتُمْ، مِنْ مَاتَ
يُمَاتُ مِثْلَ خِفْتُ يُخَافُ. وَسُفْلَى مُضَرَ يَقُولُونَ:
مُتُّمْ، بِضَمِ الْمِيمِ مِثْلَ صُمْتُمْ، مِنْ مَاتَ
يَمُوتُ. كَقَوْلِكَ كَانَ يَكُونُ، وَقَالَ يَقُولُ. هَذَا
قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: (لَإِلَى
اللَّهِ تُحْشَرُونَ) وَعْظٌ. وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا
الْقَوْلِ، أَيْ لَا تَفِرُّوا مِنَ الْقِتَالِ وَمِمَّا
أَمَرَكُمْ بِهِ، بَلْ فِرُّوا مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ
عَذَابِهِ، فَإِنَّ مَرَدَّكُمْ إِلَيْهِ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ
أَحَدٌ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا غَيْرُهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(4/247)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران (3): آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
" فَبِما" صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، أَيْ
فَبِرَحْمَةٍ، كَقَوْلِهِ:" عَمَّا قَلِيلٍ" [المؤمنون: 40]
«1» " فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ" [النساء: 155] «2» "
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ" [ص: 11] «3». وَلَيْسَتْ
بِزَائِدَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ
عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ زَالَ
عَمَلُهَا. ابن كيسان:" فَبِما" نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ
بِالْبَاءِ (ورَحْمَةٍ) بَدَلٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى
يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ بَيَّنَ الرَّبُّ تَعَالَى
أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بتوفيق الله تعالى إياه.
وقيل:" فَبِما" اسْتِفْهَامٌ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، فَهُوَ تَعْجِيبٌ.
وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ"
فَبِمَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لِنْتَ) مِنْ لَانَ يَلِينُ لِينًا
وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ. وَالْفَظُّ الْغَلِيظُ الْجَافِي.
فَظِظْتَ تَفِظُّ فَظَاظَةً وَفَظَاظًا فَأَنْتَ فَظٌّ.
وَالْأُنْثَى فَظَّةٌ وَالْجَمْعُ أَفْظَاظٌ. وَفِي صِفَةِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ
وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ فِي
الْمُذَكَّرِ:
وَلَيْسَ بِفَظٍّ فِي الْأَدَانِيِّ وَالْأُولَى ...
يَؤُمُّونَ جَدْوَاهُ وَلَكِنَّهُ سَهْلُ
وَفَظٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ يَحْذَرُونَهُ ... فَسَطْوَتُهُ
حَتْفٌ وَنَائِلُهُ جَزْلٌ
وَقَالَ آخَرُ فِي الْمُؤَنَّثِ:
أَمُوتُ مِنَ الضُّرِّ فِي مَنْزِلِي ... وَغَيْرِي يَمُوتُ
مِنَ الْكِظَّهْ «4»
وَدُنْيَا تَجُودُ عَلَى الْجَاهِلِي ... نَ وَهْيَ عَلَى ذِي
النُّهَى فَظَّهْ
وَغِلَظُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَهُّمِ الْوَجْهِ،
وَقِلَّةِ الِانْفِعَالِ فِي الرَّغَائِبِ، وَقِلَّةِ
الْإِشْفَاقِ وَالرَّحْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أحد؟ ... لنحن أغلظ
أكبادا من الإبل
__________
(1). راجع ج 12 ص 124. [ ..... ]
(2). راجع ج 6 ص 211.
(3). راجع 15 ص 151.
(4). الكظة: البطنة.
(4/248)
وَمَعْنَى (لَانْفَضُّوا) لَتَفَرَّقُوا،
فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ فَرَّقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا،
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ يَصِفُ إِبِلًا:
مُسْتَعْجِلَاتُ الْقَيْضِ «1» غَيْرُ جُرْدٍ «2» ...
يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمْدِ «3»
وَأَصْلُ الْفَضِّ الْكَسْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا
يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا
رِفْقُكَ لَمَنَعَهُمُ الِاحْتِشَامُ وَالْهَيْبَةُ مِنَ
الْقُرْبِ مِنْكَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الْأُولَى- قَالَ الْعُلَمَاءُ:
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ
بَلِيغٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ
مَا لَهُ فِي خَاصَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ، فَلَمَّا
صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ
فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ أَيْضًا، فَإِذَا
صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا
لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ
الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا إِذَا عَلِمْتُ خَبَرَهَا بِجَرْيٍ
أَوْ غَيْرِهِ. وَيُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُضُ
فِيهِ: مِشْوَارٌ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ
الْعَسَلَ وَاشْتَرْتُهُ فَهُوَ مَشُورٌ وَمُشْتَارٌ إِذَا
أَخَذْتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ ... وَحَدِيثٍ مِثْلِ
مَاذِيٍّ مُشَارِ «4»
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّورَى مِنْ
قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، مَنْ لَا
يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ.
هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:" وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ"
[الشورى: 38] «5». قَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا غُبِنْتُ قَطُّ
حَتَّى يُغْبَنَ قومي، قيل:
__________
(1). كذا في الأصول بالقاف والياء المثناة، ولعله مصحف عن"
القبض" بالقاف والباء الموحدة وهو السوق السريع، وإنما سمى
السوق السريع قبضا لان البسائق؟ للإبل يقبضها أي يجمعها إذا
أراد سوقها، فإذا انتشرت تعذر عليه سوقها: أو القبض بمهملة:
العدو الشديد.
(2). كذا في الأصول بالمعجمة، ولعله" حرد" بالحاء المهملة،
والحرد في البعير أن تنقطع عصبة ذراعه فتسترخي يده فلا يزال
يخفق بها أبدا.
(3). الصمد: المكان الغيظ المرتفع من الأرض لا يبلغ أن يكون
جبلا.
(4). يأذن: يستمع. والماذي: العسل الأبيض والمشار: المجتنى.
(5). راجع ج 16 ص 36.
(4/249)
وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا أَفْعَلُ
شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ
فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب،
وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ
الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَكَانَ يُقَالُ: مَا
نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ «1». وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ أُعْجِبَ
بِرَأْيِهِ ضَلَّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ وَالْأَخْذِ بِالظُّنُونِ مَعَ
إِمْكَانِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُشَاوِرَ فِيهِ
أَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فِي مكايد
الْحُرُوبِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَتَطْيِيبًا
لِنُفُوسِهِمْ، وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفًا عَلَى
دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ
رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ
وَالرَّبِيعِ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ (وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ)
تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: كَانَتْ سَادَاتُ
الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْرِ شَقَّ
عَلَيْهِمْ: فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، نَبِيَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ: فَإِنَّ ذَلِكَ
أَعْطَفُ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ لِأَضْغَانِهِمْ،
وَأَطْيَبُ لِنُفُوسِهِمْ. فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا
إِكْرَامَهُ لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِيمَا لَمْ
يَأْتِهِ فِيهِ وَحْيٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: مَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى
رَأْيِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا فِي
الْمُشَاوَرَةِ مِنَ الْفَضْلِ، وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ
مِنْ بَعْدِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"
وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ" وَلَقَدْ أَحْسَنَ
الْقَائِلُ:
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ ... وَاقْبَلْ
نَصِيحَةَ نَاصِحٍ مُتَفَضِّلِ
فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نبيه ... في قوله:
(شاوِرْهُمْ) و (فَتَوَكَّلْ)
الرابعة- جَاءَ فِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ). قَالَ
الْعُلَمَاءُ: وَصِفَةُ المستشار إن كان في الأحكام أن
__________
(1). هذا حديث رواه الطبري في أوسطه والقضاعي عن أنس وحسنه
السيوطي وفى كشف الخفا: في سنده؟ ضعيف جدا.
(4/250)
يَكُونَ عَالِمًا دَيِّنًا، وَقَلَّمَا
يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا
كَمُلَ دِينُ امْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ. فَإِذَا
اسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاحِ
وَبَذَلَ جَهْدَهُ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ خَطَأً فَلَا
غَرَامَةَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.
الْخَامِسَةُ- وَصِفَةُ الْمُسْتَشَارِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِيرِ.
قَالَ:
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْكَ الْتَوَى ... فَشَاوِرْ لَبِيبًا
وَلَا تَعْصِهِ
فِي أَبْيَاتٍ «1». وَالشُّورَى بَرَكَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنِ
اسْتَخَارَ). وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما شَقِيَ
قَطُّ عَبْدٌ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ
رَأْيٍ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ
الْأُمُورَ، فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا وَقَعَ
عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا. وَقَدْ
جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْخِلَافَةَ- وَهِيَ أَعْظَمُ النَّوَازِلِ- شُورَى. قَالَ
الْبُخَارِيُّ: وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ
الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ
الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ: لِيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِكَ أَهْلَ التَّقْوَى
وَالْأَمَانَةِ، وَمَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ
الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ إِلَّا
هَدَاهُمْ لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُ «2» بِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ
قَوْمٍ كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَةٌ فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنِ
اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَأَدْخَلُوهُ فِي
مَشُورَتِهِمْ إِلَّا خِيرَ لهم).
__________
(1). وقيل البيت:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
وبعده:
ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإل ... هـ تبين ذلك في شخصه
(2). في ب وج: ما بحضرتهم.
(4/251)
السَّادِسَةُ- وَالشُّورَى مَبْنِيَّةٌ
عَلَى اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَالْمُسْتَشِيرُ يَنْظُرُ فِي
ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَيَنْظُرُ أَقْرَبَهَا قَوْلًا إِلَى
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا أَرْشَدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ
وَأَنْفَذَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، إِذْ هَذِهِ غَايَةُ
الِاجْتِهَادِ الْمَطْلُوبِ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. السَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ) قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ يَمْضِيَ
فِيهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، لَا عَلَى
مُشَاوَرَتِهِمْ. وَالْعَزْمُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُرَوَّى
الْمُنَقَّحُ، وَلَيْسَ رُكُوبُ الرَّأْيِ دُونَ رَوِيَّةٍ
عَزْمًا، إِلَّا عَلَى مَقْطَعِ الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاكِ
الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ «1»:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ... وَنَكَّبَ
عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَا
وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ... وَلَمْ
يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا
وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَزْمُ وَالْحَزْمُ وَاحِدٌ،
وَالْحَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا خَطَأٌ، فَالْحَزْمُ جَوْدَةُ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ
وَتَنْقِيحُهُ وَالْحَذَرُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَالْعَزْمُ
قَصْدُ الْإِمْضَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:"
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ".
فَالْمُشَاوَرَةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْمُ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ «2».
وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ:" فَإِذا
عَزَمْتَ" بِضَمِ التَّاءِ. نَسَبَ الْعَزْمَ إِلَى نَفْسِهِ
سُبْحَانَهُ إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا
قَالَ:" وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى "
[الأنفال: 17] «3». وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ عَزَمْتُ لَكَ
وَوَفَّقْتُكَ وَأَرْشَدْتُكَ" فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ".
وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ:
وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَقَالَ: (لَا يَنْبَغِي
لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ «4» أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ). أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ
أَنْ يَنْصَرِفَ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي
شَرَطَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْعَزِيمَةِ. فَلُبْسُهُ
لَأْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَشَارَ
عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْمَ أُحُدٍ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ
بِالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهُمْ صُلَحَاءُ الْمُؤْمِنِينَ
مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ
بِنَا إِلَى عدونا، دال على العزيمة. وكان
__________
(1). هو سعد بن ناشب المازني (عن الكامل للبرد وخزانة الأدب
للبغدادي).
(2). يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأى فأنا حازم،
وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمى. (عن
الكامل للمبرد).
(3). راجع ج 7 ص 384. [ ..... ]
(4). اللامة: الدرع، وقيل: السلاح. ولامة الحرب: أداتها. وقد
يترك الهمز تخفيفا.
(4/252)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ
بِالْقُعُودِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَشَارَ
بِذَلِكَ وَقَالَ: أَقِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَخْرُجْ
إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ، فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا
بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ جَاءُونَا إِلَى الْمَدِينَةِ
قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَةِ وَأَفْوَاهِ السِّكَكِ،
وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ
الآطام «1»، فو الله مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوٌّ فِي هَذِهِ
الْمَدِينَةِ إِلَّا غَلَبْنَاهُ، وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا
إِلَى عَدُوٍّ إِلَّا غَلَبَنَا. وَأَبَى هَذَا الرَّأْيَ مَنْ
ذَكَرْنَا، وَشَجَّعُوا النَّاسَ وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ.
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجُمْعَةَ، وَدَخَلَ إِثْرَ صَلَاتِهِ بَيْتَهُ وَلَبِسَ
سِلَاحَهُ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ وَقَالُوا:
أَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحِهِ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ إِنْ شِئْتَ فَإِنَّا لَا نُرِيدُ
أَنْ نُكْرِهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحَهُ
أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ). الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ) التَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ
مَعَ إِظْهَارِ الْعَجْزِ، وَالِاسْمُ التُّكْلَانُ. يُقَالُ
مِنْهُ: اتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي، وَأَصْلُهُ:"
اوْتَكَلْتُ" قُلِبَتِ الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت
مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ.
وَيُقَالُ: وَكَّلْتُهُ بِأَمْرِي تَوْكِيلًا، وَالِاسْمُ
الْوِكَالَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا. وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُتَصَوِّفَةِ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ
يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفُ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ سَبْعٍ أَوْ
غَيْرِهِ، وَحَتَّى يَتْرُكَ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ
لِضَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ:
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160] «2».
وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ خَافَ مُوسَى
وَهَارُونُ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي
قَوْلِهِ" لَا تَخافا" «3». وَقَالَ:" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ
خِيفَةً مُوسى قُلْنا لَا تَخَفْ" [طه: 68 - 67] «4».
وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ:" فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ" [هود: 70] «5». فإذا كان
الخليل وموسى والكليم قَدْ خَافَا وَحَسْبُكَ بِهِمَا-
فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى. وَسَيَأْتِي بيان هذا المعنى.
[سورة آل عمران (3): آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
__________
(1). الآطام (جمع أطم بضمتين): الأبنية المرتفعة كالحصون.
وقيل: حصون مبنية بالحجارة.
(2). راجع ص 189 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 11 ص 201 و221.
(4). راجع ج 11 ص 201 و221.
(5). راجع ج 9 ص 62.
(4/253)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (161)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلُوا
فَإِنَّهُ إِنْ يُعِنْكُمْ وَيَمْنَعْكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ
لَنْ تُغْلَبُوا .. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) يَتْرُكْكُمْ مِنْ
مَعُونَتِهِ. (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)
أَيْ لَا يَنْصُرُكُمْ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ
خِذْلَانِهِ إِيَّاكُمْ، لِأَنَّهُ قَالَ:" وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ" وَالْخِذْلَانُ تَرْكُ الْعَوْنِ.
وَالْمَخْذُولُ: الْمَتْرُوكُ لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَخَذَلَتِ
الْوَحْشِيَّةُ أَقَامَتْ عَلَى وَلَدِهَا فِي الْمَرْعَى
وَتَرَكَتْ صَوَاحِبَاتِهَا، فَهِيَ خَذُولُ. قَالَ طَرَفَةُ:
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ
أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي «1»
وَقَالَ أَيْضًا:
نَظَرَتْ إِلَيْكِ بِعَيْنٍ جَارِيَةٍ ... خَذَلَتْ
صَوَاحِبَهَا عَلَى طِفْلِ
وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، لِأَنَّهَا هِيَ
الْمَخْذُولَةُ إِذَا تُرِكَتْ. وَتَخَاذَلَتْ رِجْلَاهُ إِذَا
ضَعُفَتَا. قَالَ:
وَخَذُولِ الرِّجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسْحِ
«2» وَرَجُلٌ خُذَلَةٌ للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما
غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا أَخَلَّ
الرُّمَاةُ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَرَاكِزِهِمْ- عَلَى مَا
تَقَدَّمَ- خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى الْغَنِيمَةِ فلا يصرف إليهم شي، بَيَّنَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَجُورُ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ
حَقِّكُمْ أَنْ تَتَّهِمُوهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَلِ
السَّبَبُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ طَلَائِعَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ ثُمَّ
غَنِمَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، فَقَسَمَ لِلنَّاسِ وَلَمْ
يَقْسِمْ لِلطَّلَائِعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
عِتَابًا:" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ"
أَيْ يَقْسِمُ لِبَعْضٍ وَيَتْرُكُ بَعْضًا. وَرُوِيَ نَحْوُ
هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم:
__________
(1). الربوب: القطيع من بقر الوحش والظباء وغير ذلك. الخميلة:
الأرض السهلة اللينة ذات الشجر. البرير:؟؟؟ الأراك.
(2). هذا عجز بيت للأعشى وصدره: كل وضاح كريم جده.
(4/254)
نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ
فُقِدَتْ فِي الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ
كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخَذَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ كَانَتْ هَذِهِ
الْمَقَالَةُ مِنْ مُؤْمِنِينَ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ فِي
ذَلِكَ حَرَجًا. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُودَ كَانَ سَيْفًا. وَهَذِهِ
الْأَقْوَالُ تُخَرَّجُ عَلَى قِرَاءَةِ" يَغُلَّ" بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ. وَرَوَى أَبُو صَخْرٍ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ"
قَالَ: تَقُولُ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِيهِ مَنْقُولَةٌ،
أَيْ وَمَا كَانَ نَبِيٌّ لِيَغُلَّ، كَقَوْلِهِ:" مَا كانَ
لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ" [مريم: 35]
«1». أي ما كان الله ليتخذ ولدا. وقرى" يُغَلِّ" بِضَمِ
الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
[لَمْ نَسْمَعْ فِي الْمَغْنَمِ إِلَّا غَلَّ غلولا، وقرى «2»
و [ما كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَيُغَلَّ. قَالَ:
فَمَعْنَى" يَغُلَّ" يَخُونُ، وَمَعْنَى" يُغَلَّ" يَخُونُ،
وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُخَانُ أَيْ يُؤْخَذُ
مِنْ غَنِيمَتِهِ، وَالْآخَرُ يُخَوَّنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى
الْغُلُولِ: ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي
خَفَاءٍ فَقَدْ غَلَّ يَغُلُّ غُلُولًا: قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:
سُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِيَ مَغْلُولَةٌ مِنْهَا،
أَيْ مَمْنُوعَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُلُولُ مِنَ
الْمَغْنَمِ خَاصَّةً، وَلَا نَرَاهُ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَا
مِنَ الْحِقْدِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ
مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يُغِلُّ، وَمِنَ الْحِقْدِ: غَلَّ
يَغِلُّ بِالْكَسْرِ، وَمِنَ الْغُلُولِ: غَلَّ يَغُلُّ
بِالضَّمِّ. وَغَلَّ الْبَعِيرُ أَيْضًا [يَغَلُّ غَلَّةً] «3»
إِذَا لَمْ يَقْضِ رِيَّهُ وَأَغَلَّ الرَّجُلُ خَانَ، قَالَ
النَّمِرُ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا حَمْزَةَ «4» ابْنَةَ نَوْفَلٍ ...
جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ
وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ) أَيْ لَا
خِيَانَةَ وَلَا سَرِقَةَ، وَيُقَالُ: لَا رِشْوَةَ. وَقَالَ
شُرَيْحٌ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ
ضَمَانٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثٌ
لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ) مَنْ رَوَاهُ
بِالْفَتْحِ «5» فَهُوَ مِنَ الضِّغْنِ. وَغَلَّ [دخل] «6»
يتعدى ولا يتعدى، يقال:
__________
(1). راجع ج 11 ص 105.
(2). زيادة عن الصحاح واللسان.
(3). زيادة عن كتب اللغة.
(4). كذا في الأصول واللسان، وفى الصحاح للجوهري" جمرة" بالجيم
المعجمة والراء.
(5). أي بفتح الياء.
(6). زيادة عن كتب اللغة. [ ..... ]
(4/255)
غَلَّ فُلَانٌ الْمَفَاوِزَ، أَيْ
دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَهَا. وَغَلَّ مِنَ الْمَغْنَمِ غُلُولًا،
أَيْ خَانَ. وَغَلَّ الْمَاءَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ إِذَا جَرَى
فِيهَا، يَغُلُّ بِالضَّمِّ «1» فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقِيلَ:
الْغُلُولُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَغْنَمِ
شَيْئًا يَسْتُرُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ
الْمَاءُ فِي الشَّجَرِ إِذَا تَخَلَّلَهَا. وَالْغَلَلُ:
الْمَاءُ الْجَارِي فِي أُصُولِ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ
مُسْتَتِرٌ بِالْأَشْجَارِ، كَمَا قَالَ «2»:
لَعِبَ السُّيُولُ بِهِ فَأَصْبَحَ مَاؤُهُ ... غَلَلًا
يُقَطِّعُ فِي أُصُولِ الْخِرْوَعِ
وَمِنْهُ الْغِلَالَةُ لِلثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَسُ تَحْتَ
الثِّيَابِ. وَالْغَالُّ: أَرْضٌ مُطْمَئِنَّةٌ ذَاتُ شَجَرٍ.
وَمَنَابِتُ السَّلْمِ «3» وَالطَّلْحِ يُقَالُ لَهَا: غَالٌّ.
وَالْغَالُّ أَيْضًا نَبْتٌ، وَالْجَمْعُ غُلَّانُ بِالضَّمِّ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ مَعْنَى" يَغُلَّ" يُوجَدُ
غَالًّا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ وَجَدْتُهُ
مَحْمُودًا. فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ
تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى" يَغُلَّ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ
الْغَيْنِ. وَمَعْنَى" يَغُلُّ" عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلَّهُ، أَيْ
يَخُونُهُ فِي الْغَنِيمَةِ. فَالْآيَةُ فِي مَعْنَى نَهْيِ
النَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْغَنَائِمِ، وَالتَّوَعُّدِ
عَلَيْهِ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَانَ
غَيْرُهُ، وَلَكِنْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ
مَعَهُ أَشَدُّ وَقْعًا وَأَعْظَمُ وِزْرًا، لِأَنَّ
الْمَعَاصِيَ تَعْظُمُ بِحَضْرَتِهِ لِتَعَيُّنِ تَوْقِيرِهِ.
وَالْوُلَاةُ إِنَّمَا هُمْ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ حَظُّهُمْ مِنَ
التَّوْقِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَى" يَغُلَّ" أَيْ مَا غَلَّ
نَبِيٌّ قَطُّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ النَّهْيَ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ
وَرَقَبَتِهِ، مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَلِهِ، وَمَرْعُوبًا
بِصَوْتِهِ، وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَتِهِ عَلَى
رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَهَذِهِ
الْفَضِيحَةُ الَّتِي يُوقِعُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَالِّ
نَظِيرُ الْفَضِيحَةِ الَّتِي تُوقَعُ بِالْغَادِرِ، فِي أَنْ
يُنْصَبَ لَهُ لِوَاءٌ عِنْدَ إِسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ.
وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمُعَاقَبَاتِ حَسْبَمَا
يَعْهَدُهُ الْبَشَرُ وَيَفْهَمُونَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ ... رُفِعَ
اللِّوَاءُ لَنَا بِهَا في المجمع
__________
(1). أي بضم الغين.
(2). البيت للحويدرة، كما في اللسان.
(3). في ب ود: الساج.
(4/256)
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَرْفَعُ لِلْغَادِرِ
لِوَاءً، وَكَذَلِكَ يُطَافُ بِالْجَانِي مَعَ جِنَايَتِهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ
فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ
أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: (لَا ألفين أحدكم يجئ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ
شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجئ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ «1»
فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا
أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ
أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا
ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا
أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ
أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا
صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ
لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ
أحدكم يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ «2»
تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ
لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ
أَحَدَكُمْ يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ
«3» فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا
أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ) وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ «4» بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ
غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ
بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ وَيَقْسِمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ
يَوْمًا بَعْدَ النِّدَاءِ بِزِمَامٍ مِنَ الشَّعْرِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنَ
الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ: (أَسْمَعْتَ بِلَالًا يُنَادِي
ثَلَاثًا)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فما منعك أن تجئ به)؟
فاعتذر إليه. فقال: (كلا «5» أنت تجئ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ). قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
أَرَادَ يُوَافِي بِوِزْرِ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا
قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ
عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ" [الانعام: 31] «6».
وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ، أَيْ
يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ شَهَّرَ اللَّهُ أَمْرَهُ
كَمَا يُشَهَّرُ لَوْ حَمَلَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ
فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ. قُلْتُ: وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ
الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ، وَإِذَا دَارَ
الْكَلَامُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَالْحَقِيقَةُ
الْأَصْلُ كَمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَقَدْ أَخْبَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحقيقة،
__________
(1). حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل، والثغاء: صياح الغنم.
(2). الرقاع (بالكسر جمع رقعة بالضم) وهى التي تكتب. وأراد بها
ما عليها من الحقوق المكتوبة. وخفوقها: حركتها.
(3). الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
(4). في سنن أبى داود:" عن عبد الله بن عمرو"، وكذا في مسند
الامام أحمد بن حنبل.
(5). في سنن أبى داود" كن أنت تجئ به".
(6). راجع ج 6 ص 314.
(4/257)
وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ. وَيُقَالُ:
إِنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا يُمَثَّلُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ:
انْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ، فَيَهْبِطُ إِلَيْهِ، فَإِذَا
انْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى
الْبَابِ سَقَطَ عَنْهُ إِلَى أَسْفَلِ جَهَنَّمَ، فَيَرْجِعُ
إِلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ، لَا يَزَالُ هَكَذَا إِلَى مَا شَاءَ
اللَّهُ. وَيُقَالُ" يَأْتِ بِما غَلَّ" يَعْنِي تَشْهَدُ
عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِلْكَ الْخِيَانَةُ
وَالْغُلُولُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْغُلُولُ
كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ
يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدْعِمٍ «1»: (وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ
مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ
عَلَيْهِ نَارًا) قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ
جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شِرَاكٌ أَوْ
شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ). أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ. فَقَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ)
وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ غَلَّ دَلِيلٌ
عَلَى تَعْظِيمِ الْغُلُولِ وَتَعْظِيمِ الذَّنْبِ فِيهِ
وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقِصَاصِ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ صَاحَبَهُ فِي
الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُهُ: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ
نَارٍ) مِثْلَ قَوْلِهِ: (أَدُّوا الْخِيَاطَ «2»
وَالْمِخْيَطَ). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ
وَالْكَثِيرَ لَا يَحِلُّ أَخْذُهُ فِي الْغَزْوِ قَبْلَ
الْمَقَاسِمِ، إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ
الْمَطَاعِمِ «3» فِي أَرْضِ الْغَزْوِ وَمِنَ الِاحْتِطَابِ
وَالِاصْطِيَادِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: لَا يُؤْخَذُ الطَّعَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ إِلَّا
بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّ
الْآثَارَ تُخَالِفُهُ، عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ الْحَسَنُ:
كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحُوا الْمَدِينَةَ أَوِ الْحِصْنَ
أَكَلُوا مِنَ السَّوِيقِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّمْنِ
وَالْعَسَلِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ
أَرْضِ الْعَدُوِّ الطَّعَامَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ
وَيَعْلِفُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْمُسُوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي
الْغُزَاةِ يَكُونُونَ فِي السَّرِيَّةِ فَيُصِيبُونَ
أَنْحَاءَ «4» السَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَالطَّعَامِ
فَيَأْكُلُونَ، وَمَا بَقِيَ رَدُّوهُ إِلَى إِمَامِهِمْ،
وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ.
__________
(1). مدعم: عبد أسود أهداه رفاعة بن زيد لرسول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ.
(2). الخياط هاهنا الخيط. والمخيط بالكسر: الإبرة.
(3). في هـ ود وج وب: الطعام، وكلها: أرض العدو، الأب: أرض
الغزو.
(4). أنحاء: جمع نحى بالكسر وهو زق السمن. وقيل مطلقا.
(4/258)
الرَّابِعَةُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَالَّ لَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ،
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يُحَرِّقْ مَتَاعَ «1» الرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَ
الشَّمْلَةَ، وَلَا أَحْرَقَ مَتَاعَ صَاحِبِ الْخَرَزَاتِ «2»
الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَرْقُ
مَتَاعِهِ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ
فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ). فَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ-
عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِحُ
بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ وَهُوَ
مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْهُ
قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ وَمَعَنَا
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مَتَاعًا فَأَمَرَ الْوَلِيدُ
بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ، وَطِيفَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ
سَهْمَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحُّ
الْحَدِيثَيْنِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا
مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَزَادَ
فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنِ الْوَلِيدِ- وَلَمْ أَسْمَعْهُ
مِنْهُ-: وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ
بَعْضُ رُوَاةٍ هَذَا الْحَدِيثِ: وَاضْرِبُوا عُنُقَهُ
وَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُورُ عَلَى
صَالِحِ ابن مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) وَهُوَ يَنْفِي الْقَتْلَ فِي
الْغُلُولِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ
عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا عَلَى
الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ). وَهَذَا
يُعَارِضُ حَدِيثَ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ
جِهَةِ الْإِسْنَادِ. وَالْغَالُّ خَائِنٌ فِي اللُّغَةِ
وَالشَّرِيعَةِ وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ فَأَحْرَى
الْقَتْلُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ صَالِحٍ
الْمَذْكُورُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حِينَ كَانَتِ
الْعُقُوبَاتُ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا قال في مانع
__________
(1). في هـ وج وب: لم يحرق رحل الذي أخذ الشملة. [ ..... ]
(2). صاحب الخرزات: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لم يسمه أبو داود في سننه)
توفى يوم خيبر، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" صلوا على صاحبكم" فتغيرت
وجوه الناس لذلك، فقال (إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا
متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوى درهمين (عن سنن أبى
داود).
(4/259)
الزَّكَاةِ: (إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ
مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) «1».
وَكَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ في ضالة الإبل المكتومة: فيها
غرامتها ومثله مَعَهَا. وَكَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ غَرَامَةُ
مِثْلَيْهِ وَجَلْدَاتُ نَكَالٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- فَإِذَا غَلَّ الرَّجُلُ
فِي الْمَغْنَمِ وَوُجِدَ أُخِذَ مِنْهُ، وَأُدِّبَ وَعُوقِبَ
بِالتَّعْزِيرِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَاللَّيْثِ: لَا يُحَرَّقُ
مَتَاعُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ ودَاوُدُ: إِنْ
كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عُوقِبَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
يُحَرَّقُ مَتَاعُ الْغَالِّ كُلُّهُ إِلَّا سِلَاحَهُ
وَثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ وَسَرْجَهُ، وَلَا تُنْزَعُ
مِنْهُ دَابَّتُهُ، وَلَا يُحْرَقُ الشَّيْءُ الَّذِي غُلَّ.
وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ مُصْحَفًا. وَقَالَ ابْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضَرَبَا الْغَالَّ وَأَحْرَقَا
مَتَاعَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِمَّنْ قَالَ
يُحَرَّقُ رَحْلُ الْغَالِّ وَمَتَاعُهُ مَكْحُولٌ وَسَعِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا
حَدِيثُ صَالِحٍ الْمَذْكُورُ. وَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ لَا
يَجِبُ بِهِ انْتَهَاكُ حُرْمَةٍ، وَلَا إِنْفَاذُ حُكْمٍ،
لِمَا يُعَارِضُهُ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى
مِنْهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصَحُّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَصَحِيحِ
الْأَثَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- لَمْ يَخْتَلِفْ
مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَدَنِ، فَأَمَّا
فِي الْمَالِ فَقَالَ فِي الذِّمِّيِّ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنَ
الْمُسْلِمِ: تُرَاقُ الْخَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُنْزَعُ
الثَّمَنُ مِنَ الذِّمِّيِّ عُقُوبَةً لَهُ، لِئَلَّا يَبِيعَ
الْخَمْرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ: تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ فِي الْمَالِ. وَقَدْ أَرَاقَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ.
السَّابِعَةُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْغَالِّ
أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ مَا غَلَّ إِلَى صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ
قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّاسُ إِنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى
ذَلِكَ، وَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ تَوْبَةٌ لَهُ،
وَخُرُوجٌ عَنْ ذَنْبِهِ.
__________
(1). في نهاية ابن الأثير:" قال الحربي غلط الراوي في لفظ
الرواية، إنما هو وشطر ماله شطرين، أي يجعل ماله شطرين، ويتخير
عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة
فأما ما لا تلزمه فلا". وعزمة حق من حقوقه وواجب من واجباته.
(4/260)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَلُ بِهِ إِذَا
افْتَرَقَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَدْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ
خُمُسَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي. هَذَا مَذْهَبُ
الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ
وَالثَّوْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
وَمُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَهُوَ يُشْبِهُ
مَذْهَبَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُمَا
كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا
يُعْرَفُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أحمد ابن حَنْبَلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِ
غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذَا عِنْدِي فِيمَا
يُمْكِنُ وُجُودُ صَاحِبِهِ وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى
ورثته، وأما إن لم يكن شي مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
لَا يَكْرَهُ الصَّدَقَةَ حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ
بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَهَا وَانْقِطَاعِ صَاحِبِهَا،
وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ- مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْرِ
وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ. وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ. وفي تحريم الْغُلُولِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتَرَاكِ
الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ
يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ، فَمَنْ غَصَبَ
شَيْئًا مِنْهَا أُدِّبَ اتِّفَاقًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
الثَّامِنَةُ- وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ،
فَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. التَّاسِعَةُ-
وَمِنَ الْغُلُولِ هَدَايَا الْعُمَّالِ، وَحُكْمُهُ فِي
الْفَضِيحَةِ فِي الْآخِرَةِ حُكْمُ الْغَالِّ. رَوَى أَبُو
دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي
حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ
يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ «1» [قَالَ ابْنُ السَّرْحِ
ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ] «2» عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ
فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:
(مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ هَذَا
لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ
أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، لَا
يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاءٌ
وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً فَلَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ
(«3» - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ «4»
إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ:-) اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ
اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ (. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عن بريدة
عن النبي
__________
(1). ابن اللتبية (بضم فسكون) هو عبد الله بن اللتبية الصحابي،
واللتبية أمة. ويروى بفتح اللام والمثناة.
(2). هذه الزيادة في صلب: ج وهـ ود، وابن السرح هو أحمد بن
عمرو الأموي أبو الطاهر المصري.
(3). اليعار (بضم الياء): صوت الغنم والمعزى. يعرف بفتح العين
تيعر بالكسر والفتح يعارا بالضم.
(4). العفرة (بضم فسكون): بياض ليس بالناصح الشديد، ولكن كلون
عفر الأرض وهو وجهها.
(4/261)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(163)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا
فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ). وَرَوَى أَيْضًا
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا
ثُمَّ قَالَ: (انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتِي عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ
إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ (. قَالَ:
إِذًا لَا أَنْطَلِقُ. قَالَ:) إِذًا لَا أُكْرِهُكَ (. وَقَدْ
قَيَّدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
أَيْضًا عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ
كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ «1» زَوْجَةً فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا (. قَالَ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ
ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ سَارِقٌ (. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ- وَمِنَ الْغُلُولِ حَبْسُ الْكُتُبِ عَنْ
أَصْحَابِهَا، وَيَدْخُلُ غَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا. قَالَ
الزُّهْرِيُّ: إِيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ. فَقِيلَ لَهُ:
وَمَا غُلُولُ الْكُتُبِ؟ قَالَ: حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما كانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ" أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ
رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً أَوْ مُدَاهَنَةً. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ
وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَطْوِيَ ذَلِكَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
بَشَّارٍ «2». وَمَا بَدَأْنَا بِهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) تقدم القول
فيه «3».
[سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ
اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ
دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ
(163)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ)
يُرِيدُ بِتَرْكِ الْغُلُولِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ.
(كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) يُرِيدُ بِكُفْرٍ أَوْ
غُلُولٍ أَوْ تَوَلٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَرْبِ. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أَيْ
مَثْوَاهُ النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه. (وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) أي المرجع. وقرى
__________
(1). والحديث بالسند والمتن في ابن كثير.
(2). في د وهـ وب: يسار. هو أبو عبد الله المروزي الخرساني،
وابن بشار هو ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدى البصري.
(3). راجع ج 3 ص 375.
(4/262)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
رضوان بكسر الراء وضمها كالعدوان
[والعدوان] «1». ثم قال تعالى: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ)
أَيْ لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ
بِسَخَطٍ مِنْهُ. قيل:" هُمْ دَرَجاتٌ" متفاوتة، أي هم مختلفوا
المنازل عند الله، فلمن ابتغى رِضْوَانَهُ الْكَرَامَةُ
وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَلِمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ
الْمَهَانَةُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَمَعْنَى" هُمْ
دَرَجاتٌ"- أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ. أَوْ عَلَى دَرَجَاتٍ، أَوْ
فِي دَرَجَاتٍ، أَوْ لَهُمْ دَرَجَاتٌ. وَأَهْلُ النَّارِ
أَيْضًا ذَوُو دَرَجَاتٍ، كَمَا قَالَ: (وَجَدْتُهُ فِي
غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ) «2».
فَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي
الدَّرَجَةِ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا،
فَبَعْضُهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ
الْكُفَّارُ. وَالدَّرَجَةُ الرُّتْبَةُ، وَمِنْهُ الدَّرَجِ،
لِأَنَّهُ يُطْوَى رُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ. وَالْأَشْهَرُ
فِي مَنَازِلَ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ، كَمَا قَالَ:" إِنَّ
الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"
[النساء: 145] «3» فَلِمَنْ لَمْ يَغُلَّ دَرَجَاتٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَلِمَنْ غَلَّ دَرَكَاتٌ فِي النَّارِ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: جَهَنَّمُ أَدْرَاكٌ، أَيْ مَنَازِلٌ،
يُقَالُ لِكُلِّ مَنْزِلٍ مِنْهَا: دَرَكٌ وَدَرْكٌ.
وَالدَّرْكُ إِلَى أَسْفَلَ، وَالدَّرَجُ إلى أعلى.
[سورة آل عمران (3): آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(164)
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمَ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ
بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْنَى فِي الْمِنَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ: مِنْهَا أَنْ
يَكُونَ مَعْنَى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أَيْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ.
فَلَمَّا أَظْهَرَ الْبَرَاهِينَ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ
عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ:" مِنْ
أَنْفُسِهِمْ" مِنْهُمْ. فَشَرُفُوا بِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْمِنَّةُ. وَقِيلَ:"
مِنْ أَنْفُسِهِمْ" لِيَعْرِفُوا حَالَهُ وَلَا تَخْفَى
عَلَيْهِمْ طَرِيقَتُهُ. وَإِذَا كَانَ مَحَلُّهُ فِيهِمْ
هَذَا كَانُوا أَحَقَّ بِأَنْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ وَلَا
ينهزموا دونه. وقرى فِي الشَّوَاذِّ «4» " مِنْ أَنْفَسِهِمْ"
(بِفَتْحِ الْفَاءِ) يَعْنِي مِنْ أَشْرَفِهِمْ، لِأَنَّهُ
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَفْضَلُ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَقُرَيْشٌ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ
مِنْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص
__________
(1). في هـ وج ود.
(2). الضحضاح: مارق من الماء على وجه الأرض ولا يبلغ الكعبين،
فاستعارة للنار.
(3). راجع ج 5 ص 124.
(4). هذه قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وفاطمة وابن عباس رضى الله عنهما.
(4/263)
أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
فِي الْعَرَبِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيٌّ
مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُمْ فِيهِ نَسَبٌ، إِلَّا
بَنِي تَغْلِبَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى فَطَهَّرَهُ
اللَّهُ مِنْ دَنَسِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَبَيَانُ هَذَا
التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ" [الجمعة: 2] «1». وَذَكَرَ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
أَحْمَدَ الْبَصْرِيُّ «2» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ
يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا:" لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ" قَالَتْ:
هَذِهِ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ بِهِ
الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ. وَمَعْنَى" مِنْ أَنْفُسِهِمْ"
أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَبَشَرٌ وَمِثْلُهُمْ، وَإِنَّمَا
امْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ"
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" [التوبة: 128] «3»
وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ
الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، فَالْمِنَّةُ عليهم أعظم. وقوله تعالى:
(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) " يَتْلُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ نَعْتٌ
لِرَسُولٍ، وَمَعْنَاهُ يَقْرَأُ. وَالتِّلَاوَةُ
الْقِرَاءَةُ. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)
تَقَدَّمَ فِي" البقرة" «4». ومعنى (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ) أَيْ وَلَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ
مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ:" إِنْ" بِمَعْنَى مَا، وَاللَّامُ فِي
الْخَبَرِ بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ
إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَمِثْلُهُ" وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ" [البقرة: 198] أَيْ وَمَا
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ إِلَّا مِنَ الضَّالِّينَ. وَهَذَا
مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" البقرة" «5»
معنى هذه الآية.
[سورة آل عمران (3): آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ.
(مُصِيبَةٌ) أَيْ غَلَبَةٌ. (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها)
يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ سَبْعِينَ
وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ. وَالْأَسِيرُ فِي حُكْمِ
الْمَقْتُولِ، لِأَنَّ الْآسِرَ يَقْتُلُ أَسِيرَهُ إِنْ
أَرَادَ. أَيْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ
أُحُدٍ أَيْضًا فِي الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من
__________
(1). راجع ج 18 ص 91. [ ..... ]
(2). في ب وهـ ود: المصري.
(3). راجع ج 8 ص 301.
(4). راجع ج 2 ص 130.
(5). راجع ج 2 ص 427.
(4/264)
وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
عِشْرِينَ، قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ فِي
يَوْمَيْنِ، وَنَالُوا مِنْكُمْ فِي يَوْمٍ أُحُدٍ." قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا" أَيْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا
الِانْهِزَامُ وَالْقَتْلُ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، وَفِينَا النَّبِيُّ
وَالْوَحْيُ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ) يَعْنِي مُخَالَفَةَ الرُّمَاةِ. وَمَا مِنْ
قَوْمٍ أَطَاعُوا نَبِيَّهُمْ فِي حَرْبٍ إِلَّا نُصِرُوا،
لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوا فَهُمْ حِزْبُ اللَّهِ، وَحِزْبُ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ
بْنُ أَنَسٍ: يَعْنِي سُؤَالَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ مَا أَرَادَ
الْإِقَامَةَ بِالْمَدِينَةِ. وَتَأَوَّلَهَا فِي الرُّؤْيَا
الَّتِي رَآهَا دِرْعًا حَصِينَةً «1». عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ اخْتِيَارُهُمُ
الْفِدَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْقَتْلِ. وَقَدْ قِيلَ
لَهُمْ: إِنْ فَادَيْتُمُ الْأُسَارَى قُتِلَ مِنْكُمْ عَلَى
عِدَّتِهِمْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ:
(إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ
فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ
وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ). فَكَانَ آخِرَ
السَّبْعِينَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
فَمَعْنَى" مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" عَلَى الْقَوْلَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ بِذُنُوبِكُمْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ
باختياركم.
[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً
لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ
وَالْهَزِيمَةِ. (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ بِعِلْمِهِ.
وَقِيلَ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: أَيْ
فَبِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، لَا أَنَّهُ
أَرَادَ ذَلِكَ. وَهَذَا تَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي" فَبِإِذْنِ اللَّهِ" لِأَنَّ" مَا"
بِمَعْنَى الَّذِي. أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ، فَأَشْبَهَ
الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطَ، كَمَا قال سيبويه: الذي قام فله
درهم.
__________
(1). كذا في د وب وج وهـ، وفى ا: حصنا حصينا.
(4/265)
(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا) أَيْ لِيَمِيزَ. وَقِيلَ لِيَرَى.
وَقِيلَ: لِيَظْهَرَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِثُبُوتِهِمْ
فِي الْقِتَالِ، وَلِيَظْهَرَ كُفْرُ الْمُنَافِقِينَ
بِإِظْهَارِهِمُ الشَّمَاتَةَ فَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ هِيَ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ
انْصَرَفُوا مَعَهُ عَنْ نُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ. فَمَشَى فِي
أَثَرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
الأنصاري، أبو جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمُ:
اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيَّكُمْ، وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ
الْقَوْلِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى أَنْ
يَكُونَ قِتَالٌ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ
لَكُنَّا مَعَكُمْ. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ
قَالَ: اذْهَبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ
رَسُولَهُ عَنْكُمْ. وَمَضَى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
واخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (أَوِ ادْفَعُوا)
فَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا:
كَثِّرُوا سَوَادَنَا وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا،
فَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا وَقَمْعًا لِلْعَدُوِّ، فَإِنَّ
السَّوَادَ إِذَا كَثُرَ حَصَلَ دَفْعُ الْعَدُوِّ. وَقَالَ
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: رَأَيْتُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى وَعَلَيْهِ دِرْعٌ
يَجُرُّ أَطْرَافهَا، وَبِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، فَقِيلَ
لَهُ «1»: [أَلَيْسَ] «2» قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَكَ؟
قَالَ: بَلَى! وَلَكِنِّي أُكَثِّرُ [سَوَادَ] «3»
الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
فَكَيْفَ بِسَوَادِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ! وَقَالَ أَبُو
عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ: مَعْنَى" أَوِ ادْفَعُوا" رَابِطُوا.
وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ
الْمُرَابِطَ مُدَافِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْلَا مَكَانُ
الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُورِ لَجَاءَهَا الْعَدُوُّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو" أَوِ ادْفَعُوا" إِنَّمَا هُوَ
اسْتِدْعَاءٌ إِلَى الْقِتَالِ [حَمِيَّةً، لِأَنَّهُ
اسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ] «4» فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا،
فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ
عَلَيْهِمُ الْوَجْهَ الَّذِي يَحْشِمُهُمْ وَيَبْعَثُ
الْأَنَفَةَ. أَيْ أَوْ قَاتِلُوا دِفَاعًا عَنِ الْحَوْزَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ قُزْمَانَ «5» قَالَ: وَاللَّهِ مَا
قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي. وَأَلَا تَرَى أَنَّ
بعض الأنصار
__________
(1). في ز: فقلت له.
(2). الزيادة من ابن عطية.
(3). الزيادة من ابن عطية.
(4). الزيادة من ب ود وج.
(5). هو قزمان بن الحارث العبسي المنافق الَّذِي قَالَ فِيهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن الله
ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
(4/266)
الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168)
قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا رَأَى
قُرَيْشًا قَدْ أَرْسَلَتِ الظَّهْرَ «1» فِي زُرُوعِ قَنَاةٍ
«2»، أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ «3» وَلَمَّا
نُضَارِبْ؟ وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أَيْ بَيَّنُوا حَالَهُمْ، وَهَتَكُوا
أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ لِمَنْ كَانَ
يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَصَارُوا أَقْرَبَ إِلَى
الْكُفْرِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ
عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أَيْ أَظْهَرُوا
الْإِيمَانَ، وَأَضْمَرُوا الْكُفْرَ. وَذِكْرُ الأفواه تأكيد،
مثل قوله:" يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" [الانعام: 38] «4».
[سورة آل عمران (3): آية 168]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا
مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ)
مَعْنَاهُ لِأَجْلِ «5» إِخْوَانِهِمْ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ
الْمَقْتُولُونَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ إِخْوَةُ نَسَبٍ
وَمُجَاوَرَةٍ، لَا إِخْوَةُ الدِّينِ. أَيْ قَالُوا
لِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ: لَوْ قَعَدُوا، أَيْ بِالْمَدِينَةِ
مَا قُتِلُوا. وَقِيلَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
وَأَصْحَابُهُ لِإِخْوَانِهِمْ، أَيْ لِأَشْكَالِهِمْ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ: لَوْ أَطَاعُونَا، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
قُتِلُوا، لَمَا قُتِلُوا. وَقَوْلُهُ (لَوْ أَطاعُونا)
يُرِيدُ فِي أَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى قُرَيْشٍ. وَقَوْلُهُ:
(وَقَعَدُوا) أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَدُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بقوله: (قُلْ فَادْرَؤُا) أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ:
إِنْ صَدَقْتُمْ فَادْفَعُوا الْمَوْتَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ.
وَالدَّرْءُ الدَّفْعُ. بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحَذَرَ لَا
يَنْفَعُ مِنَ الْقَدَرِ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ يُقْتَلُ
بِأَجَلِهِ، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِهِ كَائِنٌ لَا
مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَاتَ يَوْمَ قِيلَ هَذَا، سَبْعُونَ
مُنَافِقًا. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ بِسَمَرْقَنْدَ يَقُولُ: لما
نزلت الآية" قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ"
مَاتَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ نَفْسًا من المنافقين.
__________
(1). الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال في السفر، لحملها إياها
على ظهورها.
(2). قناة: واد بالمدينة، وهى أحد أوديتها الثلاثة، عليه حرث
ومال. قال المدائني: وقناة يأتي من الطائف ويصيب في الارحضية
وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معونة، ثم يمر على طرف القدوم في
أصل قبور الشهداء بأحد. (عن معجم البلدان).
(3). قيلة: أم الأوس والخزرج، هي قيلة بنت كاهل بن عذرة،
قضاعية. ويقال: بنت جفنة، غسانية. (عن شرح القاموس).
(4). راجع ج 6 ص 419. [ ..... ]
(5). في ب: لأهل.
(4/267)
وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(170)
فيه ثمان مسائل: الْأُولَى- لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا يُمَيِّزُ
الْمُنَافِقَ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَنْهَزِمْ فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْحَيَاةُ عِنْدَهُ.
وَالْآيَةُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي
شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي
جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَّا أُصِيبَ
إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي
جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ
مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ
مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ
مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا مَنْ
يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي
الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا
يَنْكَلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ (- قَالَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْواتاً ... ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَرَوَى بَقِيُّ «1»
بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا جَابِرُ مالي
أَرَاكَ مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا)؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،
فَقَالَ: (أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِهِ أَبَاكَ)؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا
«2» وَمَا كُلِّمَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبُّ
فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً
فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ
مِنِّي أَنَّهُمْ [إِلَيْهَا] «3» لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا
رَبُّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ،
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ الْأَفْطَسِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ"
__________
(1). حافظ الأندلس ابن يزيد القرطبي.
(2). كفاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.
(3). زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة.
(4/268)
قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطْلَّبِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَأَوْا مَا
رُزِقُوا مِنَ الْخَيْرِ قَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا
يَعْلَمُونَ مَا أَصَابَنَا مِنَ الْخَيْرِ كَيْ يَزْدَادُوا
فِي الْجِهَادِ رَغْبَةً، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا
أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْواتاً- إِلَى قَوْلِهِ: لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ". وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي أَهْلِ أُحُدٍ خَاصَّةً. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ
يَقْتَضِي «1» صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا، ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسِتَّةٌ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ
مَعُونَةَ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ «2» وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ
أَوْلِيَاءَ الشُّهَدَاءِ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ
نِعْمَةٌ وَسُرُورٌ تَحَسَّرُوا وَقَالُوا: نَحْنُ فِي
النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا
وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ حَالِ
قَتْلَاهُمْ. قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ بِسَبَبِ الْمَجْمُوعِ فَقَدْ
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَنِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ
أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَلَا مَحَالَةَ
أَنَّهُمْ مَاتُوا وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ فِي التُّرَابِ،
وَأَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ
حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. فَالَّذِي
عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ حَيَاةَ
الشُّهَدَاءِ مُحَقَّقَةٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
تُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ فِي قُبُورِهِمْ
فَيُنَعَّمُونَ، كَمَا يَحْيَا الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهِمْ
فَيُعَذَّبُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ
الْجَنَّةِ، أَيْ يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا.
وَصَارَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى
أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّنَعُّمِ
فِي الْجَنَّةِ. وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: مَا مَاتَ فُلَانٌ،
أَيْ ذِكْرُهُ حَيٌّ، كَمَا قِيلَ:
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فَنَاءَ لَهَا ... قَدْ مَاتَ
قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
__________
(1). كذا في أوح. وفى د: يقتضى هذا القول، وفى ب وج وهـ: يقضى
بصحة إلخ.
(2). راجع سيرة ابن هشام ص 64 طبع أوربا.
(4/269)
فالمعنى أنهم يرزقون الشاء الْجَمِيلَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ
وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ
وَيَتَنَعَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ،
لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ النَّقْلُ فَهُوَ الْوَاقِعُ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَصٌّ يَرْفَعُ الْخِلَافَ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي
كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُورِ
الْآخِرَةِ". وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ
كم الشُّهَدَاءَ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُو الْحَالِ. وَأَمَّا
مَنْ تَأَوَّلَ فِي الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ
بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فَبَعِيدٌ يَرُدُّهُ
الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" بَلْ
أَحْياءٌ" دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ
وَلَا يُرْزَقُ إِلَّا حَيٌّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُكْتَبُ
لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَوَابُ غَزْوَةٍ، وَيُشْرَكُونَ فِي
ثَوَابِ كُلِّ جِهَادٍ كَانَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُمْ سَنُّوا أَمْرَ الْجِهَادِ.
نَظِيرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً"
[المائدة: 32] «1». عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ
تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، كَأَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى وُضُوءٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهِيدَ
لَا يَبْلَى فِي الْقَبْرِ وَلَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي" التَّذْكِرَةِ" وَأَنَّ
الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ
وَالْعُلَمَاءَ وَالْمُؤَذِّنِينَ الْمُحْتَسِبِينَ وَحَمَلَةَ
الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- إِذَا كَانَ الشَّهِيدُ حَيًّا
حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَالْحَيِّ حِسًّا. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غُسْلِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةِ
عَلَيْهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى غُسْلِ جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ
وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا قَتِيلَ الْمُعْتَرَكِ فِي
قِتَالِ الْعَدُوِّ خَاصَّةً، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْفِنُوهُمْ
بِدِمَائِهِمْ) يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ،
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ
الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا؟ بِدِمَائِهِمْ
وَثِيَابِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَالْأَوْزَاعِيُّ ودَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةُ
فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَابْنُ
عُلَيَّةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ:
يُغَسَّلُونَ. قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ
شُهَدَاءُ أُحُدٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْلِ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيدٍ
وَالْحَسَنِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا
عُبَيْدُ اللَّهِ بن الحسن العنبري، وليس
__________
(1). راجع ج 6 ص 145.
(4/270)
مَا ذَكَرُوا مِنَ الشُّغْلِ عَنْ غُسْلِ
شُهَدَاءِ أُحُدٍ عِلَّةً، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
كَانَ لَهُ وَلِيٌّ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ.
وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ فِي دِمَائِهِمْ (أَنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كَرِيحِ الْمِسْكِ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّةَ
لَيْسَتِ الشُّغْلَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ،
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَدْخَلٌ فِي الْقِيَاسِ
وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ اتِّبَاعٍ لِلْأَثَرِ
الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّةُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَمْ
يُغَسَّلُوا. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى
هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
خُصُوصِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا يُشْبِهُ الشُّذُوذَ، وَالْقَوْلُ
بِتَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى
أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ
قَالَ: رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ
فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ. قَالَ: وَنَحْنُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثانية- وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ
وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ إِلَى
أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ
بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ)؟
فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي
اللَّحْدِ وَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ
يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ فُقَهَاءُ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ.
وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَةً أَكْثَرُهَا مَرَاسِيلُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى
حَمْزَةَ وَعَلَى سَائِرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ. والرابعة-
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ إِذَا حُمِلَ
حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَكِ وَعَاشَ وَأَكَلَ
فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِجِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ:
كُلُّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَكِنَّهُ
يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ شَهِيدٍ، وَهُوَ قَوْلٌ
سَائِرٌ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَرَوَوْا من طرق كثير صِحَاحٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ:
لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا.
وَثَبَتَ «1» عَنْ عَمَّارِ بْنِ ياسر أنه قال مثل قول زيد
__________
(1). كذا في د وج وهـ وب. وفى أوح: روى.
(4/271)
ابن صُوحَانَ. وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ
يَاسِرٍ بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلْهُ عَلِيٌّ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يُغَسَّلُ كَجَمِيعِ
الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَهَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يُغَسَّلُ مَنْ قتله
الكفار ومات في المعترك. وكان مَقْتُولٍ غَيْرِ قَتِيلِ
الْمُعْتَرَكِ- قَتِيلِ الْكُفَّارِ- فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ-
لَا يُغَسَّلُ قَتِيلُ الْبُغَاةِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ،
فَإِنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ
وَنَقْلِ الْكَافَّةِ. فَوَاجِبٌ غُسْلُ كُلِّ مَيِّتٍ إِلَّا
مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَامِسَةُ- الْعَدُوُّ إِذَا
صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ قَتِيلِ
الْمُعْتَرَكِ، أَوْ حُكْمَ سَائِرِ الْمَوْتَى، وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ نَزَلَتْ عِنْدَنَا بِقُرْطُبَةَ أَعَادَهَا
الله: أغار العدوقصمه اللَّهُ- صَبِيحَةَ الثَّالِثِ مِنْ
رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةِ وَالنَّاسُ فِي أَجْرَانِهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ،
فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ
وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا الْمُقْرِئَ
الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفَ بِأَبِي
«1» حِجَّةَ فقال، غسله وصلي عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَاكَ لَمْ
يُقْتَلْ فِي الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. ثُمَّ
سَأَلْتُ شَيْخَنَا رَبِيعَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ رَبِيعِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ
حُكْمُ الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَكِ. ثُمَّ سَأَلْتُ قَاضِيَ
الْجَمَاعَةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ قَطْرَالٍ
وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: غَسِّلْهُ
وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَفَعَلْتُ. ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ وَقَفْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي" التَّبْصِرَةِ"
لِأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا غَسَّلْتُهُ، وَكُنْتُ دَفَنْتُهُ
بِدَمِهِ فِي ثِيَابِهِ. السَّادِسَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ
تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ ثَوَابِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالشَّهَادَةِ فِيهِ حَتَّى إِنَّهُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ،
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْقَتْلُ
فِي سَبِيلِ الله يكفر كل شي إِلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ
لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا). قَالَ
عُلَمَاؤُنَا ذِكْرُ الدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي
مَعْنَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَمِ،
كَالْغَصْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ
الْعَمْدِ وَجِرَاحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّبِعَاتِ،
فَإِنَّ كُلَّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَرَ بِالْجِهَادِ
مِنَ الدَّيْنِ فإنه أشد، والقصاص في هذا
__________
(1). في ج:" بابن حجة".
(4/272)
كُلِّهِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ. رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ
الْعِبَادَ- أَوْ قَالَ النَّاسَ، شَكَّ هَمَّامٌ «1»،
وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ- عُرَاةً غُرْلًا «2»
بُهْمًا. قُلْنَا: مَا بُهْمٌ؟ «3» قَالَ: لَيْسَ معهم شي
فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ
أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ
وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ
حَتَّى اللَّطْمَةِ. قَالَ قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي
اللَّهَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا؟. قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ (. أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي
أُسَامَةَ «4». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:) أَتَدْرُونَ مَنَ الْمُفْلِسُ (؟. قَالُوا:
الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.
فَقَالَ:) إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي
قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا
وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ
حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ
حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ
خطاياه فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ (.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ
قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يُقْضَى عَنْهُ (. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) نَفْسُ
الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ (. وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: سُئِلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ:
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الشُّهَدَاءِ لَا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ حِينِ الْقَتْلِ، وَلَا تكون
أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، وَلَا يَكُونُونَ فِي
قُبُورِهِمْ، فَأَيْنَ يَكُونُونَ؟ قُلْنَا: قَدْ وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ
يُقَالُ لَهُ بَارِقٌ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهَؤُلَاءِ طَبَقَاتٌ وَأَحْوَالٌ
مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُهَا أَنَّهُمْ" يُرْزَقُونَ". وَقَدْ
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ فِي سُنَنِهِ عن
__________
(1). هو همام بن يحيى، أحد رجال سند هذا الحديث.
(2). الغرل (بضم فسكون): جمع الأغرل، وهو الأقلف.
(3). في ط وهـ وب: ما بهما؟.
(4). في ج: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد.
(4/273)
سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (شَهِيدُ الْبَحْرِ
مِثْلُ شَهِيدَيِ «1» الْبَرِّ وَالْمَائِدُ «2» فِي الْبَحْرِ
كَالْمُتَشَحِّطِ «3» فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ وَمَا بَيْنَ
الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ
بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ إِلَّا شُهَدَاءَ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ
سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ وَيَغْفِرُ
لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الدَّيْنَ
وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلَّهَا
وَالدَّيْنَ (. السَّابِعَةُ- الدَّيْنُ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ
صَاحِبُهُ عَنِ الْجَنَّةِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ الَّذِي
قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً وَلَمْ يُوصِ بِهِ. أَوْ قَدَرَ
عَلَى الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ، أَوِ ادَّانَهُ فِي سَرَفٍ
أَوْ فِي سَفَهٍ وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ. وَأَمَّا مَنِ
ادَّانَ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِفَاقَةٍ وَعُسْرٍ وَمَاتَ وَلَمْ
يَتْرُكْ وَفَاءً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْبِسُهُ عَنِ
الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ
فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ دَيْنَهُ، إِمَّا مِنْ جُمْلَةِ
الصَّدَقَاتِ، أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، أَوْ مِنَ
الْفَيْءِ الرَّاجِعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ
ضَيَاعًا «4» فَعَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ تَرَكَ
مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ). وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَابَ
بَيَانًا فِي كتاب (التذكرة) والحمد لله. الثانية- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فِيهِ حَذْفُ
مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. وَ" عِنْدَ"
هُنَا تَقْتَضِي غَايَةَ الْقُرْبِ، فَهِيَ كَ (- لَدَى)
وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّرْ فَيُقَالُ! عُنَيدَ، قَالَ
سِيبَوَيْهِ. فَهَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ لَا
عِنْدِيَّةُ الْمَسَافَةِ وَالْقُرْبِ. وَ" يُرْزَقُونَ" هُوَ
الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ
حَيَاةُ الذِّكْرِ قَالَ: يُرْزَقُونَ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ.
وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ
تُدْرِكُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَسْرَحُونَ فيها من
روائح الجنة وطيبها ونعبمها وَسُرُورِهَا مَا يَلِيقُ
بِالْأَرْوَاحِ، مِمَّا تُرْتَزَقُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ.
وَأَمَّا اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَإِذَا أُعِيدَتْ
تِلْكَ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا اسْتَوْفَتْ مِنَ
النَّعِيمِ جَمِيعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ
حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ، فَهُوَ
الْمُوَافِقُ لِمَا اخْتَرْنَاهُ. وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ.
وَ (فَرِحِينَ) نصب في موضع الحال
__________
(1). قال في شرح الجامع: بلفظ التثنية. [ ..... ]
(2). المائد: الذي تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة
بالأمواج.
(3). تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ.
(4). الضياع: (بفتح أوله): العيال.
(4/274)
يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" يُرْزَقُونَ".
وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ" فَرِحُونَ" عَلَى النَّعْتِ
لِأَحْيَاءٍ. وَهُوَ مِنَ الْفَرَحِ بِمَعْنَى السُّرُورِ.
وَالْفَضْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النَّعِيمُ
الْمَذْكُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ" فَارِحِينَ"
بِالْأَلِفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ،
وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ، وَالطَّمِعِ وَالطَّامِعِ،
وَالْبَخِلِ وَالْبَاخِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ فِي
غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُهُ، يَكُونُ نَعْتًا لِأَحْيَاءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) الْمَعْنَى لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَضْلٌ.
وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَشَرَةِ «1»، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
فَرِحَ ظَهَرَ أَثَرُ السُّرُورِ فِي وَجْهِهِ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ.: يُؤْتَى الشَّهِيدُ بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ مَنْ
يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَيَسْتَبْشِرُ كَمَا
يَسْتَبْشِرُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِقُدُومِهِ فِي الدنيا. وقال
قتادة وابن جريح وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: اسْتِبْشَارُهُمْ
بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِخْوَانُنَا الَّذِينَ تَرَكْنَا
خَلْفَنَا فِي الدُّنْيَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مَعَ نَبِيِّهِمْ، فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنَالُونَ مِنَ
الْكَرَامَةِ مِثْلَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيُسَرُّونَ
وَيَفْرَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ
بِالِاسْتِبْشَارِ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِلَى
جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلُوا، وَلَكِنَّهُمْ
لَمَّا عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَقَعَ الْيَقِينُ بِأَنَّ
دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثِيبُ اللَّهُ
عَلَيْهِ، فَهُمْ فَرِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، مُسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ
بِأَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. ذَهَبَ
إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك.
[سورة آل عمران (3): آية 171]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
أَيْ بِجَنَّةٍ مِنَ اللَّهِ. وَيُقَالُ: بِمَغْفِرَةٍ مِنَ
اللَّهِ. (وَفَضْلٍ) هَذَا لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ.
وَالْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
اتِّسَاعِهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: جَاءَ الْفَضْلُ بَعْدَ النِّعْمَةِ عَلَى وَجْهِ
التأكيد، روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ- كَذَا في الترمذي
وابن ماجة" ست"،
__________
(1). كذا في ب وز وهـ وج. وفى ط: البشارة.
(4/275)
الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
وَهِيَ فِي الْعَدَدِ «1» سَبْعٌ- يُغْفَرُ
لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ «2» وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنَ
الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ
الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً
مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ
أَقَارِبِهِ) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلنِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ. وَالْآثَارُ فِي
هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ
قَالَ: السُّيُوفُ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ:
(أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى الشُّهَدَاءَ بِخَمْسِ كَرَامَاتٍ
لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا أَنَا
أَحَدُهَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ قَبَضَ أَرْوَاحَهُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ الَّذِي سَيَقْبِضُ رُوحِي وَأَمَّا
الشُّهَدَاءُ فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ
بِقُدْرَتِهِ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَا يُسَلِّطُ عَلَى
أَرْوَاحِهِمْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَالثَّانِي أَنَّ جَمِيعَ
الْأَنْبِيَاءِ قَدْ غُسِّلُوا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَا
أُغَسَّلُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالشُّهَدَاءُ لَا يُغَسَّلُونَ
وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى مَاءِ الدُّنْيَا، وَالثَّالِثُ
أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كُفِّنُوا وَأَنَا
أُكَفَّنُ وَالشُّهَدَاءُ لَا يُكَفَّنُونَ بَلْ يُدْفَنُونَ
فِي ثِيَابِهِمْ، وَالرَّابِعُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمَّا
مَاتُوا سُمُّوا أَمْوَاتًا وَإِذَا مُتُّ يُقَالُ قَدْ مَاتَ
وَالشُّهَدَاءُ لَا يُسَمَّوْنَ مَوْتَى، وَالْخَامِسُ أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ تُعْطَى لَهُمُ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَشَفَاعَتِي أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي كُلِّ
يَوْمٍ فِيمَنْ يَشْفَعُونَ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَأَنَّ
اللَّهَ قَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ،
وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ
فَمَعْنَاهُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى
الِابْتِدَاءِ. وَدَلِيلُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ"
وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ".
[سورة آل عمران (3): آية 172]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما
أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
__________
(1). في حاشية السندي على سنن ابن ماجة:" قوله ست خصال
المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجارة والأمن من الفزع واحدة".
(2). دفعة: قال الدميري: ضبطناه في جامع الترمذي بضم الدال،
وكذلك قال أهل اللغة: الدفعة بالضم ما دفع من إناء أو سقاء
فانصب بمرة، وكذلك الدفعة من المطر وغيره مثل الدفقة بالقاف.
وأما الدفعة بالفتح فهي المرة الواحدة فلا يصلح هاهنا".
(4/276)
" الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ" مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ
الْقَرْحُ". وَيَجُوزُ أَنْ يكون في موضع خفض، بدل «1» من
المؤمنين، أو من" بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا". (اسْتَجابُوا)
بِمَعْنَى أَجَابُوا وَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ «2»
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
قَالَتْ لِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ أَبُوكَ
مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدَ
مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وعنه عَائِشَةَ:
يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ- تَعْنِي الزُّبَيْرَ
وَأَبَا بَكْرٍ- مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ.
وَقَالَتْ: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُدٍ
وَأَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ:
(مَنْ يَنْتَدِبُ لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا
قُوَّةً) قَالَ فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ فِي
سَبْعِينَ، فَخَرَجُوا فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَسَمِعُوا
بِهِمْ وَانْصَرَفُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.
وَأَشَارَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مَا جَرَى
فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَهِيَ عَلَى نَحْوِ
ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، وَهُوَ الثَّانِي مِنْ
يَوْمِ أُحُدٍ، نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ،
وَقَالَ: (لَا يَخْرُجُ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَهَا
بِالْأَمْسِ) فَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُلٍ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: (مَنْ يَذْهَبُ
فِي إِثْرِهِمْ) فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا.
قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ، حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، مُرْهِبًا
لِلْعَدُوِّ، فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمُ الْمُثْقَلُ
بِالْجِرَاحِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ وَلَا يَجِدُ
مَرْكُوبًا، فَرُبَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَكُلُّ
ذَلِكَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ كَانَا مُثْخَنَيْنِ بِالْجِرَاحِ، يَتَوَكَّأُ
أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَخَرَجَا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَصَلُوا
حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، لَقِيَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَبَا سفيان ابن حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ
مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ جَمَعُوا جُمُوعَهُمْ، وَأَجْمَعُوا
رَأْيَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا «3» إِلَى المدينة
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في النحاس والعبارة له: بدلا.
(2). هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار،
وصدره:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى
(3). في ج وهـ وط: يرجعوا.
(4/277)
فَيَسْتَأْصِلُوا أَهْلَهَا، فَقَالُوا مَا
أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَنْهُمْ:" حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ". وَبَيْنَا قُرَيْشٌ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ
إِذْ جَاءَهُمْ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ
حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَيْبَةَ «1» نُصْحِهِ، وَكَانَ قَدْ رَأَى حَالَ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ، وَلَمَّا رَأَى عَزْمَ قُرَيْشٍ عَلَى الرُّجُوعِ
لِيَسْتَأْصِلُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ احْتَمَلَهُ خَوْفُ
ذَلِكَ، وَخَالَصَ نُصْحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى أَنْ خَوَّفَ
قُرَيْشًا بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: قَدْ تَرَكْتُ مُحَمَّدًا
وَأَصْحَابَهُ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، قَدِ
اجْتَمَعَ لَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَهُمْ قَدْ
تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ، فالنجاء النجاء! فإني أنهاك عن ذلك،
فو الله لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ أَنْ قُلْتُ فِيهِ
أَبْيَاتًا مِنَ الشِّعْرِ. قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ:
قُلْتُ:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ
سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ «2»
تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ
اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَعَازِيلِ «3»
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا
سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا
تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ «4»
إِنِّي نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلِّ ذِي
إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لَا وَخْشٌ قَنَابِلُهُ ... وَلَيْسَ
يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ «5»
قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ،
وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَرَجَعُوا إِلَى
مَكَّةَ خَائِفِينَ مُسْرِعِينَ، وَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ مَنْصُورًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ" [آل عمران: 174] أي قتال ورعب. واستأذن
__________
(1). عيبة الرجل: موضع سره.
(2). الجرد: خيل قصيرة شعر الجلد. أبابيل: فرقا.
(3). ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الأرض بحوافرها في سيرها
وعدوها. والتنابلة: القصار، واحدهم تنبال. والأميل: الذي يميل
على السرج ولا يستوي عليه. وقيل: هو الكسل الذي لا يحسن الركوب
والفروسية. والمعازيل: القوم ليس معهم سلاح، واحدهم معزال.
(4). في الروض الأنف:" تغطمطت البطحاء، لفظ مستعار عن الغطمطة،
وهو صوت غليان القدر. قوله (الخيل) وفى هـ وابن هشام ط أوربا:
الجيل. والأول فيه سناد. ولعله: الخيل جمع أخيل فلا سناد.
(5). الوخش: رذال الناس. والقنابل: الطائفة من الناس ومن
الخيل، وفى ج وز والسيرة ط مصر مع الروض: تنابلة. وفى ط وى
وهـ: تناتلة: تنتل الرجل إذا الرجل إذا تقذر بعد التنظف. [
..... ]
(4/278)
الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ
مَعَهُ فَأَذِنَ لَهُ. وَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ
الْأَجْرَ الْعَظِيمَ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُمْ بِهَذِهِ
الْقَفْلَةِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (إِنَّهَا غَزْوَةٌ). هَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ
لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَشَذَّ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مِنْ قَوْلِهِ:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ"- إِلَى
قوله:-" عَظِيمٍ" [آل عمران: 174 - 173] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي
خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
بَدْرٍ الصُّغْرَى. وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ لِمِيعَادِ أَبِي
سُفْيَانَ فِي أُحُدٍ، إِذْ قَالَ: مَوْعِدُنَا بَدْرٌ مِنَ
الْعَامِ الْمُقْبِلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُولُوا نَعَمْ) فَخَرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ، وَكَانَ
بِهَا سُوقٌ عَظِيمٌ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ دَرَاهِمَ، وَقَرُبَ
مِنْ بَدْرٍ فَجَاءَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ
الْأَشْجَعِيُّ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ قُرَيْشًا قَدِ
اجْتَمَعَتْ وَأَقْبَلَتْ لِحَرْبِهِ هِيَ وَمَنِ انْضَافَ
إِلَيْهَا، فَأَشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ،
لَكِنَّهُمْ قَالُوا:" حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"
فَصَمَّمُوا «1» حَتَّى أَتَوْا بَدْرًا فَلَمْ يَجِدُوا
أَحَدًا، وَوَجَدُوا السُّوقَ فَاشْتَرَوْا بِدَرَاهِمِهِمْ
أُدْمًا وَتِجَارَةً، وَانْقَلَبُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا،
وَرَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، فلذلك قول تَعَالَى:"
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ" أَيْ وفضل في
تلك التجارات. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 173]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
اختلف فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
النَّاسُ) فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ
وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ.
وَاللَّفْظُ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ، كقوله:" أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ" [النساء: 54] «2» يَعْنِي مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السُّدِّيُّ: هُوَ
أَعْرَابِيٌّ جُعِلَ لَهُ جُعْلٌ عَلَى ذَلِكَ. وقال ابن إسحاق
وجماعة: يريد الناس رَكْبَ عَبْدِ الْقَيْسِ، مَرُّوا بِأَبِي
سُفْيَانَ فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُثَبِّطُوهُمْ.
وَقِيلَ: النَّاسُ هُنَا الْمُنَافِقُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ:
لَمَّا تَجَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِلْمَسِيرِ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى
لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ أَتَاهُمُ الْمُنَافِقُونَ
وَقَالُوا: نَحْنُ أصحابكم الذين
__________
(1). صمم في السير وغيره: مضى.
(2). راجع ج 5 ص 250.
(4/279)
نَهَيْنَاكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ
وَعَصَيْتُمُونَا، وَقَدْ قَاتَلُوكُمْ فِي دِيَارِكُمْ
وَظَفِرُوا، فَإِنْ أَتَيْتُمُوهُمْ فِي دِيَارِهِمْ فَلَا
يَرْجِعُ مِنْكُمْ أَحَدٌ. فَقَالُوا:" حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: دَخَلَ نَاسٌ
مِنْ هُذَيْلٍ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ الْمَدِينَةَ،
فَسَأَلَهُمْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا:" قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ" جُمُوعًا كَثِيرَةً" فَاخْشَوْهُمْ" أَيْ
فَخَافُوهُمْ وَاحْذَرُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَكُمْ
بِهِمْ. فَالنَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى بَابِهِ
مِنَ الْجَمْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَزادَهُمْ إِيماناً) أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ
إِيمَانًا، أَيْ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا فِي دِينِهِمْ،
وَإِقَامَةً عَلَى نُصْرَتِهِمْ، وَقُوَّةً وَجَرَاءَةً
وَاسْتِعْدَادًا. فَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا هِيَ
فِي الْأَعْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
وَالْعَقِيدَةُ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ
الَّذِي هُوَ تَاجٌ وَاحِدٌ، وَتَصْدِيقٌ وَاحِدٌ بِشَيْءٍ
مَا، إِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فَرْدٌ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُ
زِيَادَةٌ إِذَا حَصَلَ، وَلَا يَبْقَى منه شي إِذَا زَالَ،
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ
وَالنُّقْصَانُ فِي مُتَعَلَّقَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ. فَذَهَبَ
جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ
مِنْ حَيْثُ الْأَعْمَالُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا
أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ يُوقِعُونَ اسْمَ
الْإِيمَانِ عَلَى الطَّاعَاتِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا
فَأَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا
إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ (وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ
الْإِيمَانِ) وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَبْدُوُ لُمَظَةً بَيْضَاءَ فِي
الْقَلْبِ، كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتِ
اللُّمَظَةُ. وَقَوْلُهُ" لُمَظَةٌ" قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
اللُّمَظَةُ مِثْلُ النُّكْتَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْبَيَاضِ،
وَمِنْهُ قِيلَ: فَرَسٌ أَلْمَظُ، إِذَا كان بجحفلته شي مِنْ
بَيَاضٍ. وَالْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ" لَمَظَةٌ"
بِالْفَتْحِ. وَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَبِالضَّمِّ، مِثْلَ
شُبْهَةٍ وَدُهْمَةٍ وَخُمْرَةٍ. وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ
أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. أَلَا
تَرَاهُ يَقُولُ: كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتِ
اللُّمَظَةُ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَكَذَلِكَ
النِّفَاقُ يَبْدُو لُمَظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ كُلَّمَا
ازْدَادَ النِّفَاقُ اسْوَدَّ الْقَلْبُ حَتَّى يَسْوَدَّ
الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ
عَرَضٌ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ زَمَانَيْنِ، فَهُوَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلصُّلَحَاءِ
مُتَعَاقِبٌ، فَيَزِيدُ بِاعْتِبَارِ تَوَالِي أَمْثَالِهِ
عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَبِاعْتِبَارِ دَوَامِ حُضُورِهِ.
(4/280)
وَيَنْقُصُ بِتَوَالِي الْغَفَلَاتِ عَلَى
قَلْبِ الْمُؤْمِنِ. أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْمَعَالِي.
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ،
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِيهِ: (فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ يَا رَبَّنَا إِخْوَانُنَا
كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ
أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى
النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ
النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ
يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ
أَمَرْتَنَا بِهِ فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا
لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتِنَا ثُمَّ يَقُولُ
ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبه مثقال نصف دينار من خير
فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ
يَقُولُونَ رَبَّنَا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يَقُولُ
ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «1». وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ
وَالْخَوْفِ وَالنَّصِيحَةِ وَشَبَهِ ذَلِكَ. وَسَمَّاهَا
إِيمَانًا لِكَوْنِهَا فِي مَحَلِّ الْإِيمَانِ أَوْ عُنِيَ
بِالْإِيمَانِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ
الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِذَا جَاوَرَهُ، أَوْ كَانَ
مِنْهُ بِسَبَبٍ. دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الشافعين
بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
مِنْ خَيْرٍ: (لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا) مَعَ أَنَّهُ
تَعَالَى يُخْرِجُ بَعْدَ ذَلِكَ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِمَّنْ
يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ
قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَمَا
أَخْرَجَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ
الَّذِي يُرَكَّبُ «2» عَلَيْهِ الْمِثْلُ لَمْ تَكُنْ
زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَقُدِّرَ ذَلِكَ فِي الْحَرَكَةِ.
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا
وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْلَهُ أَوْ أَمْثَالَهُ بِمَعْلُومَاتٍ
فَقَدْ زَادَ عِلْمُهُ، فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
فَقَدْ نَقَصَ، أَيْ زَالَتِ الزِّيَادَةُ. وَكَذَلِكَ إِذَا
خَلَقَ حَرَكَةً وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلَهَا أَوْ
أَمْثَالَهَا. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ
زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَنَقْصَهُ إنما هو من طَرِيقُ
الْأَدِلَّةِ، فَتَزِيدُ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ وَاحِدٍ
فَيُقَالُ فِي ذَلِكَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ،
وَبِهَذَا الْمَعْنَى- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ- فُضِّلَ
الْأَنْبِيَاءُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، أَكْثَرَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلِمَهُ
الْخَلْقُ بِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى
الْآيَةِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ
فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْأَدِلَّةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى
أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْإِيمَانِ
إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَخْبَارِ فِي
مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي
المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر.
__________
(1). بقيته" فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ
رَبَّنَا لَمْ نذر فيها خبرا" مسلم ج 1 ص 116.
(2). في ز: يتركب. ()
(4/281)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174)
وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ إِيمَانٍ،
فَالْقَوْلُ فِيهِ إِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ قَوْلٌ
مَجَازِيٌّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْصُ عَلَى هَذَا
الْحَدِّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ
عَلِمَ. فَاعْلَمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أَيْ كَافِينَا اللَّهُ.
وَحَسْبُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِحْسَابِ، وَهُوَ الْكِفَايَةُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَمْلَأُ بَيْتَنَا إِقْطًا «1» وَسَمْنًا ... وَحَسْبُكَ
مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌ
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ:-" وَقالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ
الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 174]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا فَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ،
وَاعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، أَعْطَاهُمْ مِنَ
الْجَزَاءِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ: النِّعْمَةُ، وَالْفَضْلُ،
وَصَرْفُ السُّوءِ، وَاتِّبَاعُ الرِّضَا. فرضاهم عنه، ورضي
عنهم.
[سورة آل عمران (3): آية 175]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا
تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى يُخَوِّفُكُمْ
أَوْلِيَاءَهُ، أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ، أَوْ مِنْ
أَوْلِيَائِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ
إِلَى الِاسْمِ فَنَصَبَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:" لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً" [الكهف: 2] «2» أَيْ لِيُنْذِرَكُمْ
بِبَأْسٍ شَدِيدٍ، أَيْ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ، لِيَقْعُدُوا عَنْ قِتَالِ
الْمُشْرِكِينَ. فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا
يَخَافُونَهُ إِذَا خَوَّفَهُمْ. وَقَدْ
__________
(1). الأقط: شي يتخذ من اللبن المخيض ويترك حتى يمصل.
(2). راجع ج 10 ص 246.
(4/282)
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هَذَا الَّذِي
يُخَوِّفُكُمْ بِجَمْعِ الْكُفَّارِ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ
الْإِنْسِ، إِمَّا نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ أَوْ غَيْرُهُ،
عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَلا
تَخافُوهُمْ) أَيْ لَا تَخَافُوا الْكَافِرِينَ
الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ". أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ إِنْ قُلْتُ:
إِنَّ الْمَعْنَى يُخَوِّفُ بِأَوْلِيَائِهِ أَيْ
يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخافُونِ)
أَيْ خَافُونِي فِي تَرْكِ أَمْرِي إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ
بِوَعْدِي. وَالْخَوْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذُّعْرُ.
وَخَاوَفَنِي فُلَانٌ فَخُفْتُهُ، أَيْ كُنْتُ أَشَدَّ خَوْفًا
مِنْهُ. وَالْخَوْفَاءُ «1» الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا.
وَيُقَالُ: نَاقَةٌ خَوْفَاءُ وَهِيَ الْجَرْبَاءُ.
وَالْخَافَةُ كَالْخَرِيطَةِ «2» مِنَ الْأَدَمِ يُشْتَارُ
فِيهَا الْعَسَلُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
اجْتَمَعَ بَعْضُ الصِّدِّيقِينَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ فَقَالُوا: مَا الْخَوْفُ؟ فَقَالَ: لَا تَأْمَنُ
حَتَّى تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ. قَالَ سَهْلٌ: وَكَانَ
الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ إِذَا مَرَّ بِكِيرٍ «3» يُغْشَى
عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ ذَلِكَ،
فَقَالَ: إِذَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَأَعْلِمُونِي. فَأَصَابَهُ
فَأَعْلَمُوهُ، فَجَاءَهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي قَمِيصِهِ
فَوَجَدَ حَرَكَتَهُ عَالِيَةً فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا
أَخْوَفُ [أَهْلِ] «4» زَمَانِكُمْ. فَالْخَائِفُ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى هُوَ أَنْ يَخَافَ أَنْ يُعَاقِبَهُ إِمَّا فِي
الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ
الْخَائِفُ الَّذِي يَبْكِي وَيَمْسَحُ عَيْنَيْهِ، بَلِ
الْخَائِفُ الَّذِي يَتْرُكُ مَا يَخَافُ أَنْ يُعَذَّبَ
عَلَيْهِ. فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَنْ
يَخَافُوهُ فَقَالَ: (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وَقَالَ:" وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ". وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْخَوْفِ فَقَالَ:" يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ"
[النحل: 50]. وَلِأَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ فِي الْخَوْفِ
عِبَارَاتٌ مَرْجِعُهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ
الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: دَخَلَتُ عَلَى أَبِي
بَكْرِ بْنِ فُورَكَ رَحِمَهُ الله عائدا، فلما رءاني دَمَعَتْ
عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَافِيكَ
وَيَشْفِيكَ. فَقَالَ لِي: أَتَرَى أَنِّي أَخَافُ مِنَ
الْمَوْتِ؟ إِنَّمَا أَخَافُ مِمَّا وَرَاءَ الْمَوْتِ. وَفِي
سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ
__________
(1). يقال مفازة خوقاء (بالقاف لا بالفاء) أي واسعة الجوف أو
لا ماء بها، كما يقال ناقة خوفاء (بالقاف كذلك) أي جرباء (انظر
اللسان مادة خوق) وليس فيه ولا في كتاب آخر من كتب اللغة هذان
المعنيان في مادة" خوف" بالفاء.
(2). كذا في الأصول. وفى اللسان: والخافة: خريطة.
(3). الكير: كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو خافات، وهو
المعروف ألان بالمنفاخ. وأما الكور فهو المبني من الطين.
(4). عن ج ود.
(4/283)
وَلَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ
لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ
وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ «1» السَّمَاءُ
وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ
أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا
لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ
قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ
بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى
الصُّعُدَاتِ «2» تَجْأَرُونَ «3» إِلَى اللَّهِ وَاللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ («4» خَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَيُرْوَى
مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ:
(لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شجرة تعضد). والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ
أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (176)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ) هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا
خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاغْتَمَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِهِ
الْمُنَافِقِينَ وَرُؤَسَاءَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا صِفَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ
فَنَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَّا لَمْ
يُؤْمِنُوا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ
وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ
حَقًّا لَاتَّبَعُوهُ، فَنَزَلَتْ" وَلا يَحْزُنْكَ".
قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِضَمِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ حَيْثُ
وَقَعَ إِلَّا فِي- الْأَنْبِيَاءِ-" لَا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ" «5» فَإِنَّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَبِضَمِ الزَّايِ. وَضِدَّهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وقرا ابن محيصن
كلها بضم الياء و [كسر] «6» الزَّايِ. وَالْبَاقُونَ كُلَّهَا
بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ.
__________
(1). الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي
إن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل
وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام
تقريب أريد به تقرير عظمة الله عز وجل (عن ابن الأثير).
(2). الصعدات: الطرق، وهى جمع صعد، كطرق وطرقات. وقيل: جمع
صعدة، كظلمة وهى فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه.
(3). جأر القوم جؤارا: رفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين.
(4). تعضد: تقطع بالمعضد، والمعضد، والمعضاد مثل المنجل يقطع
به الشجر. [ ..... ]
(5). راجع ج 11 ص 346.
(6). الأصول كلها: بضم الياء والزاي. والصواب ما أثبتناه. راجع
ص 346 ج 11.
(4/284)
وَهُمَا لُغَتَانِ: حَزَنَنِي الْأَمْرُ
يَحْزُنُنِي، وَأَحْزَنَنِي أَيْضًا وَهِيَ [لُغَةٌ] «1»
قَلِيلَةٌ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ، قَالَهُ
النَّحَّاسُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي" أَحْزَنَ":
مَضَى صَحْبِي وَأَحْزَنَنِي الدِّيَارُ
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" يُسارِعُونَ". وَقَرَأَ طَلْحَةُ"
يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ". قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ كُفَّارُ
قُرَيْشٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ:
هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي
جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَمُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ
الْمُظَاهَرَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْحُزْنُ عَلَى كُفْرِ
الْكَافِرِ طَاعَةٌ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ عَلَى كُفْرِ
قَوْمِهِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ:" فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" [فاطر: 8] «2» وَقَالَ:"
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف: 6] «3».
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أَيْ لَا
يَنْقُصُونَ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ شَيْئًا،
يَعْنِي لَا يَنْقُصُ بِكُفْرِهِمْ. وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ
قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى
نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا
تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ
هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي
كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي
أُطْعِمُكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ
كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسِكُمْ. يَا عِبَادِي
إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا
أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ
لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي
فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا
عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ
وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي
لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ
كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ
ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ
مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا
يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي
إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ
أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ
اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا
نَفْسَهُ (. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ فِيهِ
طُولٌ
__________
(1). عن ط.
(2). راجع ج 14 ص 324.
(3). راجع ج 10 ص 353.
(4/285)
إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ
شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
يُكْتَبُ كُلُّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى" لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً" أَيْ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ حِينَ تَرَكُوا نَصْرَهُمْ إِذْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ نَاصِرَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ
أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) أَيْ نَصِيبًا. وَالْحَظُّ النَّصِيبُ وَالْجِدُّ.
يُقَالُ: فُلَانُ أَحَظُّ مِنْ فُلَانٍ، وَهُوَ مَحْظُوظٌ.
وَجَمْعُ الْحَظِّ أَحَاظٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ «1». قَالَ
أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ حَظِيظٌ، أَيْ جَدِيدٌ إِذَا
كَانَ ذَا حَظٍّ مِنَ الرِّزْقِ. وَحَظِظْتُ فِي الْأَمْرِ
أَحَظُّ. وَرُبَّمَا جُمِعَ الْحَظُّ أَحُظًّا. أَيْ لَا
يَجْعَلُ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّةِ. وَهُوَ نَصٌّ فِي
أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
[سورة آل عمران (3): آية 177]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ) تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «2». (لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ:
أَيْ مِنْ سُوءِ تَدْبِيرِهِ اسْتِبْدَالُ الْإِيمَانِ
بِالْكُفْرِ وَبَيْعُهُ بِهِ، فَلَا يَخَافُ جَانِبَهُ وَلَا
تَدْبِيرَهُ. وَانْتَصَبَ" شَيْئاً" فِي الْمَوْضِعَيْنِ
لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ ضَرَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَيَجُوزُ
انْتِصَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ
قَالَ: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بشيء.
[سورة آل عمران (3): آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الْإِمْلَاءُ
طُولُ الْعُمْرِ وَرَغَدُ الْعَيْشِ. وَالْمَعْنَى: لَا
يَحَسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُسْلِمِينَ،
فَإِنَّ اللَّهَ قادر
__________
(1). قال الجوهري: كأنه جمع أحظ. قال ابن برى: وقوله" أحاظ على
غير قياس" وهم منه، بل أحاظ جمع أحظ، وأصله أحظظ فقلبت الظاء
الثانية ياء فصارت أحظ، ثم جمعت على أحاظ. (عن اللسان).
(2). راجع ج 1 ص 210.
(4/286)
عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطُولُ
أَعْمَارُهُمْ لِيَعْمَلُوا بِالْمَعَاصِي، لَا لِأَنَّهُ
خَيْرٌ لَهُمْ. وَيُقَالُ:" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ" بِمَا
أَصَابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ
لِيَزْدَادُوا عُقُوبَةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ إِلَّا
وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَرًّا فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرارِ" [آل عمران: 198] «1» وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا
فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ" لَا يَحْسَبَنَّ"
بِالْيَاءِ وَنَصْبِ السِّينِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالتَّاءِ
وَنَصْبِ السِّينِ. وَالْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ وَكَسْرِ
السِّينِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالَّذِينَ فَاعِلُونَ.
أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ الْكُفَّارُ. وَ" أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ" تسد مسد المفعولين. و" أَنَّما"
بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَ" خَيْرٌ"
خَبَرُ" أَنَّ". وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدَّرَ" مَا" وَالْفِعْلُ
مَصْدَرًا، وَالتَّقْدِيرُ وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء
فالفاعل هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ" الَّذِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ
الْأَوَّلِ لِتَحْسَبَ. وَأَنَّ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنَ
الَّذِينَ، وَهِيَ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، كَمَا
تَسُدُّ لَوْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا. وَلَا يَصْلُحُ أَنْ
تَكُونَ" أَنَّ" وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولًا ثَانِيًا
لِتَحْسَبُ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي هَذَا
الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ حَسِبَ
وَأَخَوَاتَهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ،
فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ. هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو
عَلِيٍّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ" خَيْرًا" بِالنَّصْبِ،
لِأَنَّ" أَنَّ" تَصِيرُ بَدَلًا مِنَ" الَّذِينَ كَفَرُوا"،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاءَ الَّذِينَ
كَفَرُوا خَيْرًا، فَقَوْلُهُ" خَيْرًا" هُوَ الْمَفْعُولُ
الثَّانِي لِحَسِبَ. فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ" لَا
تَحْسَبَنَّ" بِالتَّاءِ إِلَّا أَنْ تُكْسَرَ" إِنَّ" فِي"
أَنَّما" وَتُنْصَبَ خَيْرًا، وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ
حَمْزَةَ، وَالْقِرَاءَةُ عَنْ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ، فَلَا
تَصِحُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِذًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ
وَالْكِسَائِيُّ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ جَائِزَةٌ عَلَى
التَّكْرِيرِ، تَقْدِيرُهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا،
وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا،
فَسَدَّتْ" أَنَّ" مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبُ
الثَّانِي، وَهِيَ وَمَا عَمِلَتْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَحْسَبُ
الْأَوَّلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا
ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي دَعْوَى الْبَدَلِ، وَالْقِرَاءَةُ
صَحِيحَةٌ. فَإِذًا غَرَضُ أَبِي عَلِيٍّ تَغْلِيطُ
الزَّجَّاجِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ
قِرَاءَةَ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ هُنَا، وَقَوْلَهُ:" وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" [آل عمران: 180] لَحْنٌ
لَا يَجُوزُ. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ.
__________
(1). راجع ص 322 من هذا الجزء.
(4/287)
مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي
مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَلِصِحَّةِ
الْقِرَاءَةِ وَثُبُوتِهَا نَقْلًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ
وَثَّابٍ" إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ" بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا
جَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِرَاءَةُ يَحْيَى
حَسَنَةٌ. كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ عَمْرًا أَبُوهُ خَالِدٌ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَسَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ"
إِنَّ" يَحْتَجُّ بِهِ لِأَهْلِ الْقَدَرِ، لِأَنَّهُ كَانَ
مِنْهُمْ. وَيَجْعَلُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ"
وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ". قَالَ: وَرَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَدْ زَادُوا فِيهِ حَرْفًا فَصَارَ"
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ إِيمَانًا" فَنَظَرَ إِلَيْهِ
يَعْقُوبُ الْقَارِئُ فَتَبَيَّنَ اللَّحْنَ فَحَكَّهُ.
وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ،
لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُطِيلُ أَعْمَارَهُمْ
لِيَزْدَادُوا الْكُفْرَ بِعَمَلِ الْمَعَاصِي، وَتَوَالِي
أَمْثَالِهِ عَلَى الْقَلْبِ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
ضِدِّهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا
مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ
ثُمَّ تَلَا" إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً"
وَتَلَا" وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ" أخرجه
رزين.
[سورة آل عمران (3): آية 179]
مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ
اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (179)
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ
يُعْطَوْا عَلَامَةً يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ
وَالْمُنَافِقِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَا كانَ
اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)
الْآيَةَ. وَاخْتَلَفُوا مَنِ الْمُخَاطَبُ بِالْآيَةِ عَلَى
أَقْوَالٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ
لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ
الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ قُرَيْشًا مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ مِنَّا تَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ،
وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دِينَنَا وَاتَّبَعَ دِينَكَ قُلْتَ
هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ! فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا مِنْ
أَيْنَ هُوَ؟ وَأَخْبِرْنَا مَنْ يَأْتِيكَ مِنَّا؟ وَمَنْ
لَمْ يَأْتِكَ؟. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" مَا كانَ
اللَّهُ لِيَذَرَ
(4/288)
الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
" مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ." حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ". وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ:" لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ" مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِمَّنْ
يُؤْمِنُ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمُ
الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا (وَما كانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ) كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ
لِلْمُؤْمِنِينَ. أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا
مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ
اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ بِالْمُنَافِقِ، حَتَّى يُمَيِّزَ
بَيْنَكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيفِ، فَتَعْرِفُوا
الْمُنَافِقَ الْخَبِيثَ، وَالْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ. وَقَدْ
مَيَّزَ يَوْمُ أُحُدٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ
أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَعَانِي. (وَما كانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ.
أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَيِّنَ لَكُمُ الْمُنَافِقِينَ
حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ لَكُمْ
بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي
يَوْمِ أُحُدٍ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا
وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَةَ، فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا
الْغَيْبَ قَبْلَ هَذَا، فَالْآنَ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ
مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَحْبَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى" لِيُطْلِعَكُمْ" أَيْ وَمَا كَانَ [اللَّهُ]
«1» لِيُعْلِمَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ. فَقَوْلُهُ:" وَما
كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [عَلَى الْغَيْبِ] «2» " عَلَى
هَذَا مُتَّصِلٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ
مُنْقَطِعٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لِمَ
لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا؟ قَالَ:" وَما كانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ
النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ.
(وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي) أَيْ يَخْتَارُ (مِنْ رُسُلِهِ)
لِإِطْلَاعِ غَيْبِهِ (مَنْ يَشاءُ) يُقَالُ: طَلَعْتُ عَلَى
كَذَا وَاطَّلَعْتُ [عَلَيْهِ] «3»، وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِ
غيري، فهو لازم ومتعد. وقرى" حَتَّى يَمِيزَ" بِالتَّشْدِيدِ
مِنْ مَيَّزَ، وَكَذَا فِي" الْأَنْفَالِ" «4» وَهِيَ
قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَالْبَاقُونَ" يَمِيزَ" بِالتَّخْفِيفِ
مِنْ مَازَ يَمِيزُ. يُقَالُ: مِزْتُ الشَّيْءَ بَعْضَهُ مِنْ
بَعْضٍ أَمِيزُهُ مَيْزًا، وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا. قَالَ
أَبُو مُعَاذٍ: مِزْتُ الشَّيْءَ أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا
فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءً
قُلْتُ: مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا. وَمِثْلُهُ إِذَا جَعَلَتُ
الْوَاحِدَ شَيْئَيْنِ قُلْتُ: فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا،
مُخَفَّفًا، وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْرَ. فَإِنْ جَعَلْتُهُ
أَشْيَاءً قُلْتُ: فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا. قُلْتُ: وَمِنْهُ
امْتَازَ الْقَوْمُ، تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَيَكَادُ يَتَمَيَّزُ: يَتَقَطَّعُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" [الملك:
8] «5» وَفِي الْخَبَرِ (مَنْ مَازَ أَذًى عَنِ الطَّرِيقِ فهو
له صدقة).
__________
(1). وز وهـ وج.
(2). وز وهـ وج.
(3). وز وهـ وج.
(4). راجع ج 7 ص 400.
(5). راجع ج 18 ص 218.
(4/289)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (180)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ) يُقَالُ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَنْ «1» يُؤْمِنُ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ" فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" يَعْنِي لَا
تَشْتَغِلُوا بِمَا لَا يَعْنِيكُمْ، وَاشْتَغِلُوا بِمَا
يَعْنِيكُمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ. (فَآمِنُوا) أَيْ صَدِّقُوا،
أَيْ عَلَيْكُمُ التَّصْدِيقُ لَا التَّشَوُّفُ إِلَى
اطِّلَاعِ الْغَيْبِ. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَيِ الْجَنَّةُ. وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا
كَانَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ
مُنَجِّمًا، فَأَخَذَ الْحَجَّاجُ حَصَيَاتٍ بِيَدِهِ قَدْ
عَرَفَ عَدَدَهَا فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ: كَمْ فِي يَدِي؟
فَحَسَبَ فَأَصَابَ الْمُنَجِّمُ. فَأَغْفَلَهُ الْحَجَّاجُ
وَأَخَذَ حَصَيَاتٍ لَمْ يَعُدْهُنَّ فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ:
كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ، ثُمَّ حَسَبَ أَيْضًا
فَأَخْطَأَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَظُنُّكَ لَا
تَعْرِفُ عَدَدَ مَا فِي يَدِكَ؟ قَالَ لَا: قَالَ: فَمَا
الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ أَحْصَيْتَهُ
فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْغَيْبِ، فَحَسَبْتُ فَأَصَبْتُ،
وَإِنَّ هَذَا لَمْ تَعْرِفْ عَدَدَهَا فَصَارَ غَيْبًا، وَلَا
يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي
هَذَا الْبَابِ فِي" الْأَنْعَامِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
[سورة آل عمران (3): آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) " الَّذِينَ" «3» فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ
الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى الْبُخْلُ
خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ
خَيْرًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ
عَلَى الْبُخْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَنْ صدق كان خيرا له. أي
كان الصِّدْقُ خَيْرًا لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ
وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
فَالْمَعْنَى: جَرَى: إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ
عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ
فَبَعِيدَةٌ جِدًّا، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَجَوَازُهَا أَنْ
يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ هُوَ خيرا لهم. قال
__________
(1). في ط وج وهـ: أيهم. [ ..... ]
(2). راجع ج 7 ص 1 فما بعد.
(3). في ط وج.
(4/290)
الزجاج: وهي مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ".
وَ" هُوَ" فِي قَوْلِهِ" هُوَ خَيْراً لَهُمْ" فَاصِلَةٌ
عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَهِيَ الْعِمَادُ عِنْدَ
الْكُوفِيِّينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ" هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيِ الْبُخْلُ شَرٌّ لَهُمْ. وَالسِّينُ
فِي" سَيُطَوَّقُونَ" سِينُ الْوَعِيدِ، أَيْ سَوْفَ
يُطَوَّقُونَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ
نَزَلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَهَذِهِ
كَقَوْلِهِ:" وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
[التوبة: 34] الْآيَةَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُتَأَوِّلِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَأَبُو وَائِلٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالشَّعْبِيُّ
قَالُوا: وَمَعْنَى (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ) هُوَ
الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ
آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا «1» أَقْرَعَ «2» لَهُ
زَبِيبَتَانِ «3» يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ
يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ «4» ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ
أَنَا كَنْزُكَ- ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ-" وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ
النَّسَائِيُّ «5». وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ
إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ
حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" الْآيَةَ.
وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: (مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ
فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ
عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ
مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ «6» حَتَّى يُطَوِّقَهُ). وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ
الْكِتَابِ وَبُخْلِهِمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ذَلِكَ
مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَعْنَى"
سَيُطَوَّقُونَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ سَيَحْمِلُونَ
عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ، فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ"
__________
(1). الشجاع (بالضم): الحية الذكر، أو الذي يقوم على ذنبه
ويواثب الراجل والفارس.
(2). الأقرع: هو الذي تمرط جلد رأسه، لكثرة سمه وطول عمره.
(3). الزبيتان: النكتنان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما
يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما زيدتان في شدقي الحية.
(4). اللهزمتان: شدقاه. وقيل:: هما عظمان ناتئان في اللحيين
تحت الأذنين.
(5). هذه رواية البخاري عن أبى هريرة ولفظه. أما ما خرجه
النسائي فبلفظ آخر عن ابن مسعود. راجع صحيح البخاري وسنن
النسائي في باب الزكاة.
(6). تلظت الحية: أخرجت لسانها كتلمظ الأكل.
(4/291)
[البقرة: 184] وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْنَى" سَيُطَوَّقُونَ"
سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنَ النَّارِ.
وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ [أَيْ] «1»
قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَقِيلَ: يُلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا
يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طُوِّقَ فُلَانٌ
عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ أُلْزِمَ عَمَلَهُ. وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى:" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي
عُنُقِهِ" [الاسراء: 13] «2». ومن هذا المعنى قول عبد الله ابن
جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارَ «3» ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا ... تقتضي بِهَا عَنْكَ
الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاللَّهِ رَبِّ ... النَّاسِ مُجْتَهِدُ
الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوِّقْتَهَا طَوْقَ
الْحَمَامَهْ
وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الثَّانِي. والبخل والبخل
في اللغة أن يمنع الانسال الحق الواجب عليه؟؟. فأما من منع
مالا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ، لِأَنَّهُ لَا
يُذَمُّ بِذَلِكَ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ:
يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا. وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ:
بَخِلُوا يَبْخَلُونَ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَبَخِلَ يَبْخَلُ
بُخْلًا وَبَخَلًا، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ. الثَّالِثَةُ- فِي
ثَمَرَةِ الْبُخْلِ وَفَائِدَتِهِ. وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلْأَنْصَارِ: (مَنْ سَيِّدُكُمْ؟) قَالُوا الْجَدُّ بْنُ
قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى «4» مِنَ الْبُخْلِ)
قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّ
قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ
نُزُولَ الْأَضْيَافِ بِهِمْ فَقَالُوا: لِيَبْعُدِ الرِّجَالُ
مِنَّا عَنِ النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إِلَى
الْأَضْيَافِ ببعد النساء، وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا
وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ
وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي
كِتَابِ" أَدَبِ الدُّنْيَا والدين". والله أعلم.
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام.
(2). راجع ج 10 ص 229.
(3). لما هاجر بنو جحش من مكة إلى المدينة تركوا دورهم هجرة
مغلقة، ليس فيها ساكن، فباعها أبو سفيان من عمرو بن علقمة.
فقال عبد الله لابي سفيان هذه الا بيان بعد فتح مكة. (راجع
سيرة ابن هشام ص 339 طبع أوربا).
(4). أي أي عيب أقبح منه.
(4/292)
الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْلِ
وَالشُّحِّ، هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ
بِمَعْنَيَيْنِ. فَقِيلَ: الْبُخْلُ الِامْتِنَاعُ مِنْ
إِخْرَاجِ مَا حَصَلَ عِنْدَكَ. وَالشُّحُّ: الْحِرْصُ عَلَى
تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الشُّحَّ هُوَ
الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اتَّقُوا
الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ
وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ). وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ
قَالَ: إِنَّ الْبُخْلَ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحَّ مَنْعُ
الْمُسْتَحَبِّ. إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحُّ مَنْعَ
الْمُسْتَحَبِّ لَمَا دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ
الْعَظِيمِ، وَالذَّمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «1». وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى
مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجْتَمِعُ
غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي
مَنْخِرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ
وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا (. وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّحَّ أَشَدُّ فِي الذَّمِّ مِنَ
الْبُخْلِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى
مُسَاوَاتِهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ- وَقَدْ سُئِلَ، أَيَكُونُ
الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: (لَا) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ
فِي كِتَابِ" أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ" أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: (مَنْ
سَيِّدُكُمْ) قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ
فِيهِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَخْبَرَ
تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَامِ مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ فِي
الْأَبَدِ كَهُوَ فِي الْأَزَلِ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ،
فَيَرِثُ الْأَرْضَ بَعْدَ فِنَاءِ خَلْقِهِ وَزَوَالِ
أَمْلَاكِهِمْ، فَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ وَالْأَمْوَالُ لَا
مُدَّعَى فِيهَا. فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَةِ فِي
عَادَةِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي
الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ «2» فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ
الَّذِي يَرِثُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قبل، والله
سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما، وكانت السموات
وَمَا فِيهَا، وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا لَهُ، وَإِنَّ
الْأَمْوَالَ كَانَتْ عَارِيَةً عِنْدَ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا
مَاتُوا رُدَّتِ الْعَارِيَةُ إِلَى صَاحِبِهَا الَّذِي
كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها" [مريم: 40] «3» الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى فِي
الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ
يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا
وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى، ولا ينفعهم
إلا ما أنفقوا.
__________
(1). في ج: هلاك الدنيا والأخرى والدين.
(2). في الأصول: الميراث. والصواب ما ذكر. [ ..... ]
(3). راجع ج 11 ص 105.
(4/293)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا
وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا
عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ذَكَرَ
تَعَالَى قَبِيحَ قَوْلِ الْكُفَّارِ لا سِيَّمَا الْيَهُودُ.
وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ" مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: 245]
«1» قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ- مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ
أَخْطَبَ، فِي قَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ
وَغَيْرُهُ: هُوَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ- إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ يَقْتَرِضُ مِنَّا. وَإِنَّمَا
قَالُوا هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ هَذَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ.
وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمْ
أَرَادُوا تَشْكِيكَ الضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَمِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْذِيبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ إِنَّهُ فَقِيرٌ عَلَى قَوْلِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ
اقْتَرَضَ مِنَّا. (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا سَنُجَازِيهِمْ
عَلَيْهِ. وَقِيلَ: سَنَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ،
أَيْ نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِمْ حَتَّى
يَقْرَءُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي
يُؤْتَوْنَهَا، حَتَّى يَكُونَ أَوْكَدَ لِلْحُجَّةِ
عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ"
[الأنبياء: 94] «2». وَقِيلَ: مَقْصُودُ الْكِتَابَةِ
الْحِفْظُ، أَيْ سَنَحْفَظُ مَا قالوا لنجازيهم. و" ما" فِي
قَوْلِهِ" مَا قالُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ب سَنَكْتُبُ".
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ" سَيَكْتُبُ" بِالْيَاءِ،
فَيَكُونُ" مَا" اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَاعْتَبَرَ حَمْزَةُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:"
وَيُقَالُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ". قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ونكتب قتلهم
الأنبياء، أي رضاهم بِالْقَتْلِ. وَالْمُرَادُ قَتْلُ
أَسْلَافِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لَكِنْ لَمَّا رَضُوا بِذَلِكَ
صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ. وَحَسَّنَ رَجُلٌ عِنْدَ
الشَّعْبِيِّ، قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ
لَهُ الشَّعْبِيُّ: شَرِكْتَ فِي دَمِهِ. فَجَعَلَ الرضا
بالقتل قتلا، رضي الله عنه.
__________
(1). راجع ج 2 ص 237.
(2). راجع ج 12 ص 339.
(4/294)
الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي
قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
(184)
قُلْتُ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى،
حَيْثُ يَكُونُ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةً. وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ، الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ
الْكِنْدِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ
كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا- وَقَالَ مَرَّةً
فَأَنْكَرَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا
فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا). وَهَذَا نَصٌّ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (بِغَيْرِ حَقٍّ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي القرة «1»
(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ
فِي جَهَنَّمَ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْحِسَابِ
هَذَا. ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ
مِنْ الْمَلَائِكَةِ، قَوْلَانِ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ"
وَيُقَالُ". وَالْحَرِيقُ اسْمٌ لِلْمُلْتَهِبَةِ مِنَ
النَّارِ، وَالنَّارُ تَشْمَلُ الْمُلْتَهِبَةَ وَغَيْرَ
الْمُلْتَهِبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ بِمَا سَلَفَ مِنَ
الذُّنُوبِ. وَخَصَّ الْأَيْدِيَ بِالذِّكْرِ لِيَدُلَّ عَلَى
تَوَلِّي الْفِعْلِ وَمُبَاشَرَتِهِ، إِذْ قَدْ يُضَافُ
الْفِعْلُ إِلَى الْإِنْسَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ به،
كقوله:" يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ" [القصص: 4] «2» وَأَصْلُ"
أَيْدِيكُمْ" أَيْدِيُكُمْ فَحُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا.
وَاللَّهُ أعلم.
[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ
نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ
النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ
وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا
مِنَ" الَّذِينَ" فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" لَقَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا" أَوْ نَعْتٌ" لِلْعَبِيدِ"
أَوْ خَبَرُ ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب
وَغَيْرُهُ. نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكِ
بْنِ الصَّيْفِ، وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا، وَفِنْحَاصُ بْنُ
عَازُورَاءَ وَجَمَاعَةٍ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَهُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ
أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا
عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا بِهِ صَدَّقْنَاكَ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي
التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ: حَتَّى
يَأْتِيَكُمُ الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ فَإِذَا أَتَيَاكُمْ
فآمنوا بهما من غير قربان.
__________
(1). راجع ج 1 ص 431.
(2). راجع ج 13 ص 247.
(4/295)
وَقِيلَ: كَانَ أَمْرُ الْقَرَابِينِ
ثَابِتًا إِلَى أَنْ نسخت على لسان عيسى بن مَرْيَمَ. وَكَانَ
النَّبِيُّ مِنْهُمْ يَذْبَحُ وَيَدْعُو فَتَنْزِلُ نَارٌ
بَيْضَاءُ لَهَا دَوِيٌّ وَحَفِيفٌ لَا دُخَانَ لَهَا،
فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ. فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَعْوَى
مِنَ الْيَهُودِ، إِذْ كَانَ ثَمَّ اسْتِثْنَاءٌ فَأَخْفَوْهُ،
أَوْ نُسِخَ، فَكَانُوا فِي تَمَسُّكِهِمْ بِذَلِكَ
مُتَعَنِّتِينَ، وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي إِبْطَالِ
دَعْوَاهُمْ، وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ عِيسَى، وَمَنْ وَجَبَ
صِدْقُهُ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِقَامَةً
لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ (قَدْ جاءَكُمْ)
يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) مِنَ الْقُرْبَانِ (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يَعْنِي زَكَرِيَّا
وَيَحْيَى وَشَعْيَا، وَسَائِرَ مَنْ قَتَلُوا مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَمْ تُؤْمِنُوا
بِهِمْ. أَرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ
هِيَ الَّتِي تَلَاهَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، فَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى الَّذِي حَسَّنَ قَتْلَ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْيَهُودَ قَتَلَةً لِرِضَاهُمْ
بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ مِنْ
سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نُسُكٍ «1» وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ
صَالِحٍ، وَهُوَ فَعْلَانُ مِنَ الْقُرْبَةِ. وَيَكُونُ اسْمًا
وَمَصْدَرًا، فَمِثَالُ الِاسْمِ السُّلْطَانُ وَالْبُرْهَانُ.
وَالْمَصْدَرُ الْعُدْوَانُ والخسران. وكان عيسى ابن عُمَرَ
يَقْرَأُ" بِقُرْبانٍ" بِضَمِ الرَّاءِ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ
الْقَافِ، كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ: ظُلُمَاتٌ، وَفِي
حُجْرَةٍ حُجُرَاتٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَزِّيًا
لِنَبِيِّهِ وَمُؤْنِسًا لَهُ. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أَيْ
بِالدِّلَالَاتِ. (وَالزُّبُرِ) أَيِ الْكُتُبِ
الْمَزْبُورَةِ، يَعْنِي الْمَكْتُوبَةَ. وَالزُّبُرُ جَمْعُ
زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ. وَأَصْلُهُ مِنْ زَبَرْتُ أَيْ
كَتَبْتُ. وَكُلُّ زَبُورٍ فَهُوَ كِتَابٌ، قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي كَخَطِّ
زَبُورٍ فِي عَسِيبِ «2» يَمَانِي وَأَنَا أَعْرِفُ
تَزْبِرَتِي أَيْ كِتَابَتِي. وَقِيلَ: الزَّبُورُ مِنَ
الزَّبْرِ بِمَعْنَى الزَّجْرِ. وَزَبَرْتُ الرَّجُلَ
انْتَهَرْتُهُ. وَزَبَرْتُ الْبِئْرَ: طَوَيْتُهَا
بِالْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" بِالزُّبُرِ
وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ" بِزِيَادَةِ بَاءٍ فِي
الْكَلِمَتَيْنِ «3». وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ
الشَّامِ. (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح المضي، مِنْ
قَوْلِكَ: أَنَرْتُ الشَّيْءَ أُنِيرُهُ، أَيْ أَوْضَحْتُهُ:
يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ وَأَنَارَهُ وَنَوَّرَهُ
وَاسْتَنَارَهُ بِمَعْنًى،
__________
(1). في هـ وط: نسيكة.
(2). العسيب: سعف النخل الذي جرد عنه خوصة، وهى الجريدة.
(3). في ط وب: في الحرفين.
(4/296)
كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَازِمٌ
وَمُتَعَدٍّ. وَجَمَعَ بَيْنَ الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ- وَهُمَا
بِمَعْنًى- لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا، وَأَصْلُهَا كما ذكرنا.
[سورة آل عمران (3): آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا
إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
فِيهِ سَبْعُ «1» مَسَائِلَ: الْأُولَى- لَمَّا أَخْبَرَ جَلَّ
وَتَعَالَى عَنِ الْبَاخِلِينَ وَكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:"
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ" وَأَمَرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ فِي قَوْلِهِ:"
لَتُبْلَوُنَّ" [آل عمران: 186] الْآيَةَ- بَيَّنَ أَنَّ
ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُومُ، فَإِنَّ أَمَدَ
الدُّنْيَا قَرِيبٌ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْجَزَاءِ.
(ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مِنَ الذَّوْقِ، وَهَذَا مِمَّا لَا
مَحِيصَ عَنْهُ لِلْإِنْسَانٍ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ
لِحَيَوَانٍ. وَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً «2» يَمُتْ هَرَمًا ... للموت كأس
والمرء ذَائِقُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ... فَلَيْتَ
شَعْرِيَ بَعْدَ الْبَابِ مَا الدَّارُ
الثَّانِيَةُ- قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" ذائِقَةُ الْمَوْتِ"
بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَابْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ" ذَائِقَةٌ الْمَوْتَ" بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ
الْمَوْتِ. قَالُوا: لِأَنَّهَا لَمْ تَذُقْ بَعْدُ. وَذَلِكَ
أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ
يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ. وَالثَّانِي بِمَعْنَى
الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ
فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَةُ إِلَى مَا بَعْدَهُ، كَقَوْلِكَ:
هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ، وَقَاتِلُ بَكْرٍ أَمْسِ،
لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ
الْعَلَمُ، نَحْوَ غُلَامُ زَيْدٍ، وَصَاحِبُ بَكْرٍ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
الْحَافِظُو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف «3»
__________
(1). كذا في الأصول والتقسيم ثمانية إلا ج فسبعة وعليها
الاعتماد.
(2). مات عبطة: أي شابا صحيحا.
(3). الوكف: العيب: والبيت لعمرو بن امرئ القيس، ويقال لقيس بن
الخطيم. (عن اللسان).
(4/297)
وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ جَازَ
الْجَرُّ. وَالنَّصْبُ وَالتَّنْوِينُ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ
هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفِعْلِ
الْمُضَارِعِ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ غَيْرَ متعد، لم يتعد نحو
قاتم زَيْدٌ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا عَدَّيْتَهُ
وَنَصَبْتَ بِهِ، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا.
وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ تَخْفِيفًا،
كَمَا قَالَ الْمَرَّارُ":
سَلِّ الْهُمُومَ بِكُلِّ مُعْطِي رَأْسِهِ ... نَاجٍ
مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ «1»
مُغْتَالِ أَحْبُلِهِ مُبِينٍ عُنْقُهُ ... فِي مَنْكِبٍ
زَبَنَ الْمَطِيَّ عَرَنْدَسِ «2»
[فَحَذَفَ التَّنْوِينَ تَخْفِيفًا، وَالْأَصْلُ: مُعْطٍ
رَأْسَهُ بِالتَّنْوِينِ وَالنَّصْبِ، وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا
فِي التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ" [الزمر: 38] وَمَا كَانَ مِثْلَهُ «3»].
الثَّالِثَةُ- ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَوْتِ أَسْبَابًا
وَأَمَارَاتٍ، فَمِنْ عَلَامَاتِ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ عَرَقُ
الْجَبِينِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:" الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ
الْجَبِينِ". وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي" التَّذْكِرَةِ" فَإِذَا
احْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَةَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ) لِتَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ
بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يُعَادُ عَلَيْهِ مِنْهَا لِئَلَّا
يَضْجَرَ. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ" يس" ذَلِكَ الْوَقْتَ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" اقْرَءُوا يس عَلَى
مَوْتَاكُمْ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ الْآجُرِيُّ
فِي كِتَابِ النَّصِيحَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ سُورَةُ يس إِلَّا
هُوِّنَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ). فَإِذَا قُضِيَ وَتَبِعَ
الْبَصَرُ الرُّوحَ- كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ- وَارْتَفَعَتِ الْعِبَادَاتُ
وَزَالَ التَّكْلِيفُ، تَوَجَّهَتْ عَلَى الْأَحْيَاءِ
أَحْكَامٌ، مِنْهَا: تَغْمِيضُهُ. وَإِعْلَامُ إِخْوَانِهِ
الصُّلَحَاءِ بِمَوْتِهِ. وَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَقَالُوا: هُوَ
مِنَ النَّعْيِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْهَا الْأَخْذُ فِي
تَجْهِيزِهِ بِالْغُسْلِ وَالدَّفْنِ لِئَلَّا يُسْرِعَ
إِلَيْهِ التَّغَيُّرُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ أَخَّرُوا دَفْنَ مَيِّتِهِمْ: (عَجِّلُوا
بِدَفْنِ جيفتكم) وقال: (أسرعوا بالجنازة) الحديث، وسيأتي.
__________
(1). قوله معطى رأسه، أي ذلول، وناج: سريع. والصهبة: أن يضرب
بياضه إلى الحمرة. والمتعيس والاعيس: الأبيض، وهو أفضل ألوان
الإبل. والمعنى: سل همومك اللازمة لفراق من تهوى ونأيه عنك بكل
بعير ترتحله للسفر.
(2). وصف بعيرا بعظم الجوف، فإذا شد رحله عليه اغتال أحبله
(جمع حبل) واستوفاها لعظم جوفه. والاغتيال: الذهاب بالشيء.
والمبين: البين الطويل. وزبن: زاحم ودفع. والعرندس: الشديد.
ويروى: متين عنقه. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(3). الزيادة من ج وط ود وهـ. [ ..... ]
(4/298)
الثالثة- فَأَمَّا غُسْلُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ
لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَاشَا الشهيد على ما تقدم. وقيل:
غُسْلُهُ وَاجِبٌ. قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ.
وَالْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الْكِتَابِ «1»، وَعَلَى هَذَيْنَ
الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاءُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُمِّ عَطِيَّةَ فِي غُسْلِهَا
ابْنَتَهُ زَيْنَبَ، عَلَى مَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ:
هِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ، عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ:
(اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) الْحَدِيثَ. وَهُوَ الْأَصْلُ
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي غَسْلِ الْمَوْتَى. فَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ بَيَانُ حُكْمِ الْغُسْلِ
فَيَكُونُ وَاجِبًا. وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْلِيمُ
كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى
الْوُجُوبِ. قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (إِنْ
رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) وَهَذَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ ظَاهِرِ
الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى
نَظَرِهِنَّ. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ
رَدَّكَ (إِنْ رَأَيْتُنَّ) إِلَى الْأَمْرِ، لَيْسَ
السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ بَلِ السَّابِقُ رُجُوعُ هَذَا
الشَّرْطِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ (أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ) أَوْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْأَعْدَادِ. وَعَلَى
الْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ
مَشْرُوعٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُتْرَكُ.
وَصِفَتُهُ كَصِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَى مَا هُوَ
مَعْرُوفٌ. وَلَا يُجَاوِزُ السَّبْعَ غَسَلَاتٍ فِي غُسْلِ
الْمَيِّتِ بِإِجْمَاعٍ، عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ.
فَإِنْ خَرَجَ منه شي بَعْدَ السَّبْعِ غَسَلَ الْمَوْضِعَ
وَحْدَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجُنُبِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ
غُسْلِهِ. فَإِذَا فَرَغَ من غسله كفنه في ثيابه وهي: الرابعة-
وَالتَّكْفِينُ وَاجِبٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ فَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ:
مِنَ الثُّلُثِ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. فَإِنْ
كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ تَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ فِي
حَيَاتِهِ مِنْ سَيِّدٍ- إِنْ كَانَ عَبْدًا- أَوْ أَبٍ أَوْ
زَوْجٍ أَوِ ابْنٍ، فَعَلَى السَّيِّدِ بِاتِّفَاقٍ، وَعَلَى
الزَّوْجِ وَالْأَبِ وَالِابْنِ بِاخْتِلَافٍ. ثُمَّ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
الْكِفَايَةِ. وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ مِنْهُ بِتَعْيِينِ
الْفَرْضِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْجَسَدِ غُطِّيَ
رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ، إِكْرَامًا لِوَجْهِهِ وَسَتْرًا لِمَا
يَظْهَرُ مِنْ تَغَيُّرِ مَحَاسِنِهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا
قِصَّةُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَإِنَّهُ تَرَكَ يَوْمَ أحد
نمرة «2» كان
__________
(1). كذا في كل الأصول.
(2). النمرة (بفتح فكسر): شملة فيما خطوط بيض وسود، أو بردة من
صوف تلبسها الاعراب.
(4/299)
إِذَا غُطِّيَ رَأْسُهُ خَرَجَتْ
رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ
مِنَ الْإِذْخِرِ) «1» أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ.
وَالْوِتْرُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي
الْكَفَنِ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ حَدٌّ. وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْبَيَاضُ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ
الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا
فِيهَا مَوْتَاكُمْ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَكُفِّنَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ
بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ «2». وَالْكَفَنُ فِي غَيْرِ
الْبَيَاضِ جَائِزٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَرِيرًا أَوْ خَزًّا.
فَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ قُضِيَ عَلَيْهِمْ
فِي مِثْلِ لِبَاسِهِ فِي جُمُعَتِهِ وَأَعْيَادِهِ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ
أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إِلَّا
أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ أَوْصَى بِسَرَفٍ
قِيلَ: يَبْطُلُ الزَّائِدُ. وَقِيلَ: يَكُونُ فِي الثُّلُثِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ تعالى: (وَلا تُسْرِفُوا)
[الانعام: 141] «3». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ
لِلْمُهْلَةِ «4». فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ
وَوُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَاحْتَمَلَهُ الرجال على أعناقهم
وهي: الخامسة- فَالْحُكْمُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ
فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ
وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ
رِقَابِكُمْ). لَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ الْجُهَّالُ فِي
الْمَشْيِ رُوَيْدًا وَالْوُقُوفُ بِهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ
المرة، وقراءة القرآن بالالحان إل مَا لَا يَحِلُّ وَلَا
يَجُوزُ حَسْبَ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِمَوْتَاهُمْ. رَوَى النَّسَائِيُّ:
أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ
حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ أَنْبَأَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: شَهِدْتُ جِنَازَةَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَخَرَجَ زِيَادٌ يَمْشِي
بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ، فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَوَالِيهِمْ يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِيرَ
وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: رُوَيْدًا
رُوَيْدًا، بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ! فَكَانُوا يَدِبُّونَ
دَبِيبًا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ المريد «5»
لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بغلة
فلما
__________
(1). الإذخر (بكسر الهمزة): حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها
البيوت فوق الخشب.
(2). قوله: سحولية، يروى بفتح السين وضمهما، فالفتح منسوب إلى
السحول، وهو الإقصار لأنه يسحلها أي يغسلها، أو إلى سحول وهى
قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي:
ولا يكون إلا من قطن. والكرسف كعصفر: القطن.
(3). راجع ج 7 ص 110.
(4). المهلة (مثلثة الميم): القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من
الجسد.
(5). المربد كمنبر: موضع قرب المدينة.
(4/300)
رَأَى الَّذِينَ يَصْنَعُونَ حَمَلَ
عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
فَقَالَ: خَلُّوا! فَوَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ أَبِي
الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رأينا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِنَّهَا لِنَكَادَ نَرْمُلُ بِهَا رَمْلًا، فَانْبَسَطَ
الْقَوْمُ. وَرَوَى أَبُو مَاجِدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ
عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: (دُونَ الْخَبَبِ
إِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّلُ إِلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ
ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ) الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ
الْإِسْرَاعُ فَوْقَ السَّجِيَّةِ قَلِيلًا، وَالْعَجَلَةُ
أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِبْطَاءِ. وَيُكْرَهُ
الْإِسْرَاعُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ مِمَّنْ
يَتْبَعُهَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: بَطِّئُوا
بِهَا قَلِيلًا وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى. وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ الْإِسْرَاعَ فِي
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَعْجِيلَ الدَّفْنِ لَا الْمَشْيِ،
وَلَيْسَ بشيء لما ذكرنا. وبالله التوفيق. السادسة- وَأَمَّا
الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ
كَالْجِهَادِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ: مالك وغيره، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّجَاشِيِّ: (قُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ).
وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنَّهَا سُنَّةٌ. وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا المعنى زيادة بيان في" براءة" «1».
السابعة- وَأَمَّا دَفْنُهُ فِي التُّرَابِ وَدَسُّهُ
وَسَتْرُهُ فَذَلِكَ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَبَعَثَ
اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ" [المائدة: 31] «2». وَهُنَاكَ
يُذْكَرُ حُكْمُ بُنْيَانِ الْقَبْرِ وَمَا يُسْتَحَبُّ
مِنْهُ، وَكَيْفِيَّةُ جَعْلِ الْمَيِّتِ فِيهِ. وَيَأْتِي
فِي" الْكَهْفِ" حُكْمُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ «3» عَلَيْهِ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ
أَحْكَامِ الْمَوْتَى وَمَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْأَحْيَاءِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ
فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْهَا أَيْضًا
قَالَتْ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَالِكٌ بِسُوءٍ فَقَالَ: (لا تذكروا هلكاكم إلا
بخير).
__________
(1). راجع ج 8 ص 218.
(2). راجع ج 6 ص 141.
(3). راجع ج 10 ص 378.
(4/301)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فَأَجْرُ الْمُؤْمِنِ
ثَوَابٌ، وَأَجْرُ الْكَافِرِ عِقَابٌ، وَلَمْ يَعْتَدَّ
بِالنِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا أَجْرًا
وَجَزَاءً، لِأَنَّهَا عَرْصَةُ الْفَنَاءِ. (فَمَنْ زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ) أَيْ أُبْعِدَ. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فازَ) ظَفِرَ بِمَا يَرْجُو، وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ. وَرَوَى
الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ
يُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ
يُؤْتَى إِلَيْهِ (. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَوْضِعُ
سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ" (. وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أَيْ تَغُرُّ الْمُؤْمِنَ
وَتَخْدَعُهُ فَيَظُنُّ طُولَ الْبَقَاءِ وَهِيَ فَانِيَةٌ.
وَالْمَتَاعُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، كَالْفَأْسِ
وَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى
مِلْكُهُ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ:
كَخَضُرَةِ النَّبَاتِ، وَلَعِبِ الْبَنَاتِ لَا حَاصِلَ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ تُوشِكُ أَنْ
تَضْمَحِلَّ بِأَهْلِهَا، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ بِطَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
مَا اسْتَطَاعَ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى ... وَدَارُ
الْفِنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ «1»
فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا ... لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ
مِنْهَا الْوَطَرْ
أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ ... وَطُولُ الْخُلُودِ
عَلَيْهِ ضَرَرْ
إِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ ... فَلَا خَيْرَ فِي
الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ
وَالْغَرُورُ (بِفَتْحِ الْغَيْنِ) الشَّيْطَانُ، يَغُرُّ
النَّاسَ بِالتَّمْنِيَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ. قَالَ
ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا
تُحِبُّهُ، وَفِيهِ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ.
وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى مَحَابِّ
النَّفْسِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا
بَيْعُ الْغَرَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرُ بَيْعٍ يغر
وباطن مجهول.
__________
(1). في ج: العبر.
(4/302)
لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
[سورة آل عمران (3): آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(186)
هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ وَالْمَعْنَى: لَتُخْتَبَرُنَّ
وَلَتُمْتَحَنُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ بِالْمَصَائِبِ
وَالْأَرْزَاءِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَائِرِ
تَكَالِيفِ الشَّرْعِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ
بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاضِ وَفَقْدِ الْأَحْبَابِ. وَبَدَأَ
بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ لِكَثْرَةِ الْمَصَائِبِ بِهَا.
(وَلَتَسْمَعُنَّ) إِنْ قِيلَ: لَمَ ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي"
لَتُبْلَوُنَّ" وَحُذِفَتْ مِنْ" وَلَتَسْمَعُنَّ"،
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاوَ فِي" لَتُبْلَوُنَّ" قَبْلَهَا
فَتْحَةٌ فَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَخُصَّتْ
بِالضَّمَّةِ لِأَنَّهَا وَاوُ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَجُزْ
حَذْفُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا،
وَحُذِفَتْ مِنْ" وَلَتَسْمَعُنَّ" لِأَنَّ قَبْلَهَا مَا
يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَلَا يَجُوزُ هَمْزُ الْوَاوِ فِي"
لَتُبْلَوُنَّ" لِأَنَّ حَرَكَتَهَا عَارِضَةٌ، قَالَهُ
النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ
الْمُذَكَّرِ: لَتُبْلَيَنَّ يَا رَجُلُ. وَلِلِاثْنَيْنِ:
لَتُبْلَيَانِّ يَا رَجُلَانِ. وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ:
لَتُبْلَوُنَّ. وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ يَهُودِيًّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ. رَدًّا عَلَى الْقُرْآنِ
وَاسْتِخْفَافًا بِهِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ" مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: 245]
فَلَطَمَهُ، فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهَا
فِنْحَاصٌّ الْيَهُودِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ. الزُّهْرِيُّ:
هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ
شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيُؤَلِّبُ عَلَيْهِ كُفَّارَ
قُرَيْشٍ، وَيُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بَعَثَ
[إِلَيْهِ] «1» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابَهُ فَقَتَلَهُ
الْقِتْلَةَ الْمَشْهُورَةَ «2» فِي السِّيَرِ وَصَحِيحِ
الْخَبَرِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ بِهَا
الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، فَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
يَسْمَعُونَ أَذًى كَثِيرًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِابْنِ أُبَيِّ وَهُوَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى حِمَارٍ فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
فَقَالَ ابْنُ أُبَيِّ: إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَا
تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا! ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ،
فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. وَقَبَضَ عَلَى أَنْفِهِ
لِئَلَّا يُصِيبَهُ غُبَارُ الْحِمَارِ، فَقَالَ
__________
(1). في ج وهـ وز.
(2). راجع سيرة ابن هشام ص 548 طبع أوربا.
(4/303)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ (187)
ابْنُ رَوَاحَةَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ
ذَلِكَ. وَاسْتَبَّ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ
ابْنِ أُبَيٍّ وَالْمُسْلِمُونَ، وَمَا زَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَكِّنُهُمْ حَتَّى
سَكَنُوا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ يَعُودُهُ
وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: (أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ فُلَانٌ)
فَقَالَ سَعْدٌ: اعْفُ عَنْهُ واصفح، فو الذي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ
الَّذِي نَزَلَ، وَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ
«1» عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ،
فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ
شَرِقَ بِهِ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا
عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ونزلت هَذِهِ الْآيَةُ. قِيلَ: هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ
الْقِتَالِ، وَنَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى الصَّبْرِ
وَالتَّقْوَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
وَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، إِنَّ
ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقِتَالِ. وَالْأَظْهَرُ
أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، فَإِنَّ الْجِدَالَ بِالْأَحْسَنِ
وَالْمُدَارَاةَ أَبَدًا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَكَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ يُوَادِعُ
الْيَهُودَ وَيُدَارِيهِمْ، وَيَصْفَحُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ،
وَهَذَا بَيِّنٌ. وَمَعْنَى (عَزْمِ الْأُمُورِ) شَدُّهَا
وَصَلَابَتُهَا «2». وَقَدْ تَقَدَّمَ «3».
[سورة آل عمران (3): آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هَذَا
مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا
بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَانِ
أَمْرِهِ، فَكَتَمُوا نَعْتَهُ «4». فَالْآيَةُ تَوْبِيخٌ
لَهُمْ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هُوَ خَبَرٌ عَامٌّ لَهُمْ
وَلِغَيْرِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ فِي كل من
أوتي علم شي مِنَ الْكِتَابِ. فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا
فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ
فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا
يَحِلُّ لِعَالِمٍ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى عِلْمِهِ، وَلَا
لِلْجَاهِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى جَهْلِهِ، قال الله تعالى:
__________
(1). يريد المدينة. [ ..... ]
(2). في ج وهـ وز وى: سدها وصلاحها. من السداد.
(3). راجع ج 3 ص 110.
(4). في ج: أمره. وفى ز: بعثه.
(4/304)
لَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ" الآية. وقال:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [النحل: 42] «1» وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ
الْكِتَابِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تلا هذه الآية"
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ".
وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما تَرَكَ الْحَدِيثَ،
فَأَلْفَيْتُهُ عَلَى بَابِهِ فَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ
تُحَدِّثَنِي. فَقَالَ: أَمَّا عَلِمْتَ أَنِّي تَرَكْتُ
الْحَدِيثَ؟ فَقُلْتُ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَنِي وَإِمَّا أَنْ
أُحَدِّثَكَ. قَالَ حَدِّثْنِي. قُلْتُ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ
بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ قَالَ سَمِعْتُ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى
الْجَاهِلِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى
الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَلِّمُوا. قَالَ: فَحَدَّثَنِي
أَرْبَعِينَ حَدِيثًا. الثَّانِيَةُ- الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ:
(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) تَرْجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بَيَانُ
أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لِأَنَّهُ فِي الكتاب. وقال: (وَلا تَكْتُمُونَهُ) وَلَمْ
يَقُلْ تَكْتُمُنَّهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَالِ، أَيْ
لَتُبَيِّنُنَّهُ غَيْرَ كَاتِمِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَهْلُ مَكَّةَ"
لَتُبَيِّنُنَّهُ" بِالتَّاءِ عَلَى حِكَايَةِ الْخِطَابِ.
وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُمْ «2» غُيَّبٌ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ «3» " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَيُبَيِّنُنَّهُ". فَيَجِيءُ قَوْلُهُ
(فَنَبَذُوهُ) عَائِدًا عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ بَيَّنَ
لَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ"
لَيُبَيِّنُونَهُ" دُونَ النُّونِ الثَّقِيلَةِ. وَالنَّبْذُ
الطَّرْحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" «4».
(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مُبَالَغَةٌ فِي الاطراح، ومنه"
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا" [هود: 92] وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «5» بَيَانُهُ أَيْضًا.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً
قَلِيلًا) فِي" الْبَقَرَةِ" «6» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
(فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) تقدم أيضا «7». والحمد لله.
[سورة آل عمران (3): آية 188]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (188)
__________
(1). راجع ج 10 ص 108 وج 11 ص 272.
(2). كذا في ج ود وهـ وز وب، وفى أوح: لأنه غيب.
(3). الذي في الطبري أنها قراءة عبد الله، وسيأتي.
(4). راجع ج 2 ص 40.
(5). راجع ج 2 ص 40.
(6). راجع ج 1 ص 334.
(7). راجع ج 2 ص 27.
(4/305)
أَيْ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الْقُعُودِ فِي
التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ وَجَاءُوا بِهِ مِنَ الْعُذْرِ.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ
تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا
إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما
لَمْ يَفْعَلُوا) الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا
أَنَّ مَرْوَانَ «1» قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ
إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ
مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا
لَمْ يَفْعَلْ معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ! إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ" وَ" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شي فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ،
وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ
قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا
بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ،
وَمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
الَّذِينَ كَتَمُوا الْحَقَّ، وَأَتَوْا مُلُوكَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ مَا يُوَافِقُهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ،" وَاشْتَرَوْا
بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا" أَيْ بِمَا أَعْطَاهُمُ الْمُلُوكُ
مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا بِمَا أَفْسَدُوا مِنَ الدِّينِ عَلَى عِبَادِ
اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا
يَقُولُونَ لِلْمُلُوكِ إِنَّا نجد في كتابنا أن الله يبعث
نبيا فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْتِمُ بِهِ النُّبُوَّةَ،
فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ سَأَلَهُمُ الْمُلُوكُ أَهُوَ هَذَا
الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالَ الْيَهُودُ
طَمَعًا فِي أَمْوَالِ الْمُلُوكِ: هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ،
فَأَعْطَاهُمُ الْمُلُوكُ الْخَزَائِنَ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما
أَتَوْا" الْمُلُوكَ مِنَ الْكَذِبِ حَتَّى يَأْخُذُوا عَرَضَ
الدُّنْيَا. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ خِلَافُ مُقْتَضَى
الْحَدِيثِ الثَّانِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا
عَلَى السببين
__________
(1). هو مروان بن الحكم بن العاصي، وكان يومئذ أميرا على
المدينة من قبل معاوية. (عن شرح القسطلاني).
(4/306)
لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ،
فَكَانَتْ جَوَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبُوا
أَنْ يُحْمَدُوا. وَقَوْلُ مَرْوَانَ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ
امْرِئٍ مِنَّا إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ
صِيَغًا مَخْصُوصَةً، وَأَنَّ" الَّذِينَ" مِنْهَا. وَهَذَا
مَقْطُوعٌ بِهِ مَنْ تَفَهُّمِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا" إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ لَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ عَلَى دِينِ
إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِهِ، وَكَانُوا
يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْكِتَابِ، يُرِيدُونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِذَلِكَ. وَ"
الَّذِينَ" فَاعِلٌ بِيَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ. وَهِيَ
قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي
عَمْرٍو، أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحَهُمْ
مُنَجِّيًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ
الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ. وَالثَّانِي"
بِمَفازَةٍ". وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" تَحْسَبَنَّ"
بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ
الْفَارِحِينَ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ" فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ" بِالتَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، إِعَادَةُ
تَأْكِيدٍ، وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ الْهَاءُ وَالْمِيمُ،
وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ كَذَلِكَ،
وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ أَوْ زَائِدَةٌ عَلَى بَدَلِ الْفِعْلِ
الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعِيسَى
بْنُ عُمَرَ بِالتَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ" فَلَا
تَحْسَبَنَّهُمْ" أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ
وَأَبُو عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِالْيَاءِ وَضَمِّ
الْبَاءِ خَبَرًا عَنِ الْفَارِحِينَ، أَيْ فَلَا يَحْسَبُنَّ
أَنْفُسَهُمْ،" بِمَفازَةٍ" الْمَفْعُولُ الثَّانِي.
وَيَكُونُ" فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ" تَأْكِيدًا. وَقِيلَ:"
الَّذِينَ" فَاعِلٌ" بِيَحْسَبَنَّ" وَمَفْعُولَاهَا
مَحْذُوفَانِ لِدِلَالَةِ" يَحْسَبَنَّهُمْ" عَلَيْهِ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ آيَةٍ «1» ... تَرَى حُبَّهُمْ
عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ
اسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَفْعُولِ الْوَاحِدِ عَنْ ذِكْرِ
مَفْعُولِ، الثَّانِي، وَ" بِمَفازَةٍ" الثَّانِي، وَهُوَ
بَدَلٌ مِنَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَأَغْنَى لِإِبْدَالِهِ
مِنْهُ عَنْ ذِكْرِ مَفْعُولَيْهِ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ: قَدْ تجئ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُلْغَاةً لَا فِي
حُكْمِ الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَا خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودة ... عراض المذاكي المسنفات
القلائصا
__________
(1). في ط وز: سنة. وهى الرواية المشهورة
(4/307)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (189)
الْمَذَاكِي: الْخَيْلُ الَّتِي قَدْ أَتَى
عَلَيْهَا بَعْدَ قُرُوحِهَا سَنَةٌ أَوْ سَنَتَانِ،
الْوَاحِدُ مُذَكٍّ، مِثْلَ الْمُخْلِفِ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي
الْمَثَلِ جَرْيُ الْمُذَكَّيَاتِ غِلَابٌ «1»،
وَالْمُسْنِفَاتُ اسْمُ مَفْعُولٍ، يُقَالُ: سَنَفْتُ
الْبَعِيرَ أَسْنِفُهُ سَنْفًا إِذَا كَفَفْتُهُ بِزِمَامِهِ
وَأَنْتَ رَاكِبُهُ، وَأَسْنَفَ الْبَعِيرَ لُغَةٌ فِي
سَنَفَهُ، وَأَسْنَفَ الْبَعِيرُ بِنَفْسِهِ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَكَانَتِ الْعَرَبُ
تَرْكَبُ الْإِبِلَ وَتَجْنُبُ الْخَيْلَ، تَقُولُ: الْحَرْبُ
لَا تُبْقِي مَوَدَّةً. وَقَالَ كَعْبُ «2» بْنُ أَبِي
سُلْمَى:
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُهَا ... وما إخال
لدنيا مِنْكِ تَنْوِيلُ
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ"
أَتَوْا" بِقَصْرِ الْأَلِفِ، أَيْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ
الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ. وَقَرَأَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ
وَالْأَعْمَشُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ" آتَوْا"
بِالْمَدِّ، بِمَعْنَى أَعْطَوْا: وقرا سعيد ابن جبير" أوتوا"
على ما لم يسو فَاعِلُهُ، أَيْ أُعْطُوا. وَالْمَفَازَةُ
الْمَنْجَاةُ، مَفْعَلَةٌ مِنْ فَازَ يَفُوزُ إِذَا نَجَا،
أَيْ لَيْسُوا بِفَائِزِينَ. وَسُمِّيَ مَوْضِعُ الْمَخَاوِفِ
مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَفْوِيزٍ وَمَظَنَّةُ هَلَاكٍ،
تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوَّزَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ. قَالَ
ثَعْلَبٌ: حَكَيْتُ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَوْلَ
الْأَصْمَعِيِّ فَقَالَ أَخْطَأَ، قَالَ لِي أَبُو
الْمَكَارِمِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَةً، لِأَنَّ مَنْ
قَطَعَهَا فَازَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُمِّيَ اللَّدِيغُ
سَلِيمًا تَفَاؤُلًا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لِأَنَّهُ
مُسْتَسْلِمٌ لِمَا أَصَابَهُ. وَقِيلَ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ التباعد
عن المكروه. والله أعلم.
[سورة آل عمران (3): آية 189]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ. وقيل:
المعنى لا تظن الْفَرِحِينَ يَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ،
فَإِنَّ لِلَّهِ كُلَّ شي، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْقَدِيرِ،
فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى، الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَيْ
إِنَّهُمْ لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِهِ، يَأْخُذُهُمْ مَتَى
شَاءَ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مُمْكِنٍ (قَدِيرٌ)
وَقَدْ مَضَى فِي" البقرة" «3».
__________
(1). الغلاب: المغالبة. أي أن المذكى يغالب مجاريه فيغلبه
لقوته.
(2). كذا في الأصول. وهو اختصار من كعب بن زهير إلخ. [ ..... ]
(3). راجع ج 1 ص 422.
(4/308)
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا
وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
(197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 200]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي
لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ
إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ
عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ
لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا
وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
(4/309)
فيه خمس وعشرون مسا له: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي"
الْبَقَرَةِ" «1» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَخَتَمَ تَعَالَى
هَذِهِ السُّورَةَ بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ
فِي آيَاتِهِ، إِذْ لَا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سَلَامٍ
غَنِيٍّ عَنِ الْعَالَمِينَ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُهُمْ
مُسْتَنِدًا إِلَى الْيَقِينِ لَا إِلَى التَّقْلِيدِ.
(لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ
عُقُولَهُمْ فِي تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ. وَرُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة،
فرءاه يَبْكِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبْكِي وَقَدْ
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ! فَقَالَ: (يَا بِلَالُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا
شَكُورًا وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ
آيَةً" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ"- ثُمَّ
قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا.
الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنِ
انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِهِ،
وَيَسْتَفْتِحَ قِيَامَهُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْعَشْرِ
الْآيَاتِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
وَسَيَأْتِي، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ
بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْعَمَلِ
عَلَى 17 خط حذف شده است. مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ"
كُلَّ لَيْلَةٍ، خَرَّجَهُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ
السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ" الْإِبَانَةِ" مِنْ
حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ
الْمَخْزُومِيِّ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ «2» السُّورَةِ عَنْ عُثْمَانَ
قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ
لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى
جُنُوبِهِمْ) ذَكَرَ تَعَالَى ثلاث هيئات لا يخلوا ابْنُ آدَمَ
مِنْهَا فِي غَالِبِ أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهَا تَحْصُرُ
زَمَانَهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
__________
(1). راجع ج 2 ص 191.
(2). راجع ص 2 من هذا الجزء.
(4/310)
أَحْيَانِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ عَلَى الْخَلَاءِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَأَجَازَ
ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ
وَالنَّخَعِيُّ، وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ
وَالشَّعْبِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ
وَالْحَدِيثِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذِكْرِ.
اللَّهِ فِي الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ. الْمَعْنَى:
تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَكْتُوبًا فِي صُحُفِهِمْ،
فَحَذَفَ الْمُضَافَ. دَلِيلُهُ قول تَعَالَى:" مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" [ق: 18] «1».
وقال:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ"
[الانفطار: 11 - 10] «2». ولان اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ
عِبَادَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ
فَقَالَ:" اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً" [الأحزاب: 41]
«3» وقال:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 152] «4»
وَقَالَ:" إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"
[الكهف: 3] «5» فَعَمَّ. فَذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى
كُلِّ حَالَاتِهِ مُثَابٌ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
مَرْوَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ قَالَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ
فَأُنَاجِيَكَ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ قَالَ: يَا مُوسَى
أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا
نَكُونُ مِنَ الْحَالِ عَلَى حَالٍ نُجِلُّكَ وَنُعَظِّمُكَ
أَنْ نَذْكُرَكَ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْجَنَابَةُ
وَالْغَائِطُ قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ
(. وَكَرَاهِيَةُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ إِمَّا لِتَنْزِيهِ
ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَاضِعِ الْمَرْغُوبِ عَنْ
ذِكْرِهِ فِيهَا كَكَرَاهِيَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي
الْحَمَّامِ، وَإِمَّا إِبْقَاءً عَلَى الْكِرَامِ
الْكَاتِبِينَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهُمْ مَوْضِعَ الْأَقْذَارِ
وَالْأَنْجَاسِ لِكِتَابَةِ مَا يَلْفِظُ بِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَ (قِياماً وَقُعُوداً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ.
(وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فِي موضع الحال، أي ومضطجعين ومثله قول
تَعَالَى:" دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً"
[يونس: 12] «6» عَلَى الْعَكْسِ، أَيْ دَعَانَا مُضْطَجِعًا
عَلَى جَنْبِهِ. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغير
إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ" يَذْكُرُونَ اللَّهَ" إِلَى آخِرِهِ،
إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا
يُضَيِّعُونَهَا، فَفِي حَالِ الْعُذْرِ يُصَلُّونَهَا
قُعُودًا أَوْ على جنوبهم. وهي مثل قول تَعَالَى:" فَإِذا
قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبِكُمْ" [النساء: 103] «7» فِي قَوْلِ ابْنِ
مَسْعُودٍ عَلَى، مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِذَا كَانَتِ
الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَفِقْهُهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ
يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ، كَمَا ثبت عن عمران
__________
(1). راجع ج 17 ص 8.
(2). راجع ج 19 ص 245.
(3). راجع ج 14 ص 197.
(4). راجع ج 2 ص 171.
(5). راجع ج 10 ص 395.
(6). راجع ج 8 ص 317.
(7). راجع ج 5 ص 373.
(4/311)
ابن حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ بِي
الْبَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى
جَنْبٍ) رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ
فِي النَّافِلَةِ، عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَرَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا. قَالَ أبو عبد الرحمن «1»: لا أعلم أحد
رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ «2»
وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا
خَطَأً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْقَاعِدِ
وَهَيْئَتِهَا، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ فِي قيامه، وقال الْبُوَيْطِيُّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ تَهَيَّأَ
لِلسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ
الْمُتَنَفِّلُ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَكَذَلِكَ
قَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ
الْمُزَنِيِّ: يَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا كَجُلُوسِ
التَّشَهُّدِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ،
وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ «3» وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: يَجْلِسُ كَجُلُوسِ
التَّشَهُّدِ، وَكَذَلِكَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ. الْخَامِسَةُ-
قَالَ «4»: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ صَلَّى عَلَى
جَنْبِهِ أَوْ ظَهْرِهِ عَلَى التَّخْيِيرِ، هَذَا مَذْهَبُ
الْمُدَوَّنَةِ وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ
يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى
جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ. وَفِي
كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَكْسُهُ، يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ
الْأَيْمَنِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ، وَإِلَّا فَعَلَى
الظَّهْرِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُصَلِّي عَلَى الْأَيْمَنِ
كَمَا يُجْعَلُ فِي لَحْدِهِ، وَإِلَّا فَعَلَى ظَهْرِهِ
وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ: إِذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا تَكُونُ رِجْلَاهُ مِمَّا
يَلِي الْقِبْلَةَ. وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: يُصَلِّي
عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. السَّادِسَةُ-
فَإِنْ قَوِيَ لِخِفَّةِ الْمَرَضِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ،
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنَّهُ يَقُومُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ وَالطَّبَرِيِّ. وقال أبو حنيفة
__________
(1). أبو عبد الرحمن: كنية النسائي.
(2). الحفري (بفتح المهملة والفاء) نسبة إلى موضع بالكوفة
واسمه عمر بن سعد بن عبيد.
(3). في ى: المذهب. وذلك في الهامش تصحيحا.
(4). في هـ. [ ..... ]
(4/312)
وَصَاحِبَاهُ يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ
فِيمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا رَكْعَةً ثُمَّ صَحَّ: أَنَّهُ
يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا، وَلَوْ كَانَ
قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ثُمَّ صَحَّ بَنَى فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَبْنِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ
قَائِمًا ثُمَّ صَارَ إِلَى حَدِّ الْإِيمَاءِ فَلْيَبْنِ،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرِيضِ
الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ وَهُوَ
يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْجُلُوسَ: إِنَّهُ يُصَلِّي
قَائِمًا وَيُومِئُ إِلَى الرُّكُوعِ، فَإِذَا أَرَادَ
السُّجُودَ جَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ، أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَلِّي قَاعِدًا. السَّابِعَةُ-
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّاقِدِ الصَّحِيحِ فَرُوِيَ عَنْ حَدِيثِ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي
غَيْرِهِ، وَهِيَ" صَلَاةُ الرَّاقِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلَاةِ
الْقَاعِدِ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَجُمْهُورُ أَهْلِ
الْعِلْمِ لَا يُجِيزُونَ النَّافِلَ مُضْطَجِعًا، وَهُوَ
حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ إلا حسين المعلم وهو حسين ابن ذَكْوَانَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى حُسَيْنٍ فِي إِسْنَادِهِ
وَمَتْنِهِ اخْتِلَافًا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَنْهُ، وَإِنْ
صَحَّ فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ أَجَازَ النَّافِلَةَ مُضْطَجِعًا
لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَوْ عَلَى الْقِيَامِ
فَوَجْهُهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهِيَ
حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى
كَرَاهَةِ النَّافِلَةِ رَاقِدًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى
الْقُعُودِ أَوِ الْقِيَامِ، فَحَدِيثُ حُسَيْنٍ هَذَا إِمَّا
غَلَطٌ وَإِمَّا مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآية الذين
يستدلون بخلق السموات وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ
لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُغَيِّرُ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ
الرُّسُلَ، فَإِنْ بَعَثَ رَسُولًا وَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ
بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ،
فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
حَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد
بينا معنى" يَذْكُرُونَ" وَهُوَ إِمَّا ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ
وَإِمَّا الصَّلَاةُ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، فَعَطَفَ تَعَالَى
عِبَادَةً أُخْرَى عَلَى إِحْدَاهُمَا «1» بِعِبَادَةٍ
أُخْرَى، وَهِيَ التَّفَكُّرُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَخْلُوقَاتِهِ وَالْعِبَرِ الَّذِي بَثَّ «2»، لِيَكُونَ
ذَلِكَ أزيد بَصَائِرِهِمْ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أنه واحد
__________
(1). في اوج وب وهـ وى وط: بعبادة أخرى وهى الفكر.
(2). كذا في هـ وب ود وج وى. وفى أوح: نبه، وفى ز: ثبت.
(4/313)
وَقِيلَ:" يَتَفَكَّرُونَ" عَطْفٌ عَلَى
الْحَالِ. وَقِيلَ: يَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَالْأَوَّلُ
أَشْبَهُ. وَالْفِكْرَةُ: تَرَدُّدُ الْقَلْبِ فِي الشَّيْءِ،
يُقَالُ: تَفَكَّرَ، وَرَجُلٌ فَكِيرٌ كَثِيرٌ الْفِكْرِ،
وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّهِ فَقَالَ: (تَفَكَّرُوا فِي
الْخَلْقِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّكُمْ
لَا تَقْدِرُونَ قَدْرَهُ) وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ
وَالِاعْتِبَارُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ
كَمَا قَالَ:" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ". وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَأَى
الْكَوَاكِبَ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَبُولُ الدَّمَ مِنْ
طُولِ حُزْنِهِ وَفِكْرَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ
عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى
النُّجُومِ وَإِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لَكِ
رَبًّا وَخَالِقًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّهُ
إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَا عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ). وَرُوِيَ عَنْهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ
عِبَادَةِ سَنَةٍ). وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ
التَّفَكُّرَ. قِيلَ له: أفترى التفكر عمل مِنَ الْأَعْمَالِ؟
قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ
فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ: لَيْسَتْ
هَذِهِ عِبَادَةً، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ وَالتَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ،
وَقَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: الْفِكْرَةُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ يَنْظُرُ فِيهَا
إِلَى حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ. وَمِمَّا يَتَفَكَّرُ فِيهِ
مَخَاوِفُ الْآخِرَةِ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ
وَنَعِيمِهَا وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ
قَدَحَ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِنْدَهُ
ضَيْفٌ، فَرَآهُ لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِ
الْقَدَحِ أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ
الْفَجْرُ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟
قَالَ: إِنِّي لَمَّا طَرَحْتُ أُصْبُعِي فِي أُذُنِ الْقَدَحِ
تَفَكَّرْتُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" إِذِ الْأَغْلالُ
فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ" [المؤمن: 71] «1»
تَفَكَّرْتُ، فِي حَالِي وَكَيْفَ أَتَلَقَّى الْغُلَّ إِنْ
طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زِلْتُ فِي
ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَهَذَا
نِهَايَةُ الْخَوْفِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا،
وَلَيْسَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ
عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، وَقِرَاءَةُ عِلْمِ كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى وَمَعَانِي سنة رسول الله
__________
(1). راجع ج 15 ص 332.
(4/314)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ
يَفْهَمُ وَيُرْجَى نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا". قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّ الْعَمَلَيْنِ
أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ
الصُّوفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ
يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ، الْمَقَامَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ
أَفْضَلُ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَثِّ
عَلَيْهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ
عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ
عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ العشر الحواتم مِنْ
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَامَ إِلَى شَنٍّ «1» مُعَلَّقٍ
فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى
جَمْعِهِ بَيْنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ
إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ
هِيَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا طَرِيقَةُ
الصُّوفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَوْمًا
وَلَيْلَةً وَشَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ، فَطَرِيقَةٌ
بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالْبَشَرِ،
وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى السُّنَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ قَالَ:
كُنْتُ بَائِتًا فِي مَسْجِدِ الْأَقْدَامِ «2» بِمِصْرَ
فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا قَدِ اضْطَجَعَ
فِي كِسَاءٍ لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ،
وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أُقِيمَتْ
صَلَاةُ الصُّبْحِ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَعْظَمْتُ
جَرَاءَتَهُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا
فَرَغَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ فَتَبِعْتُهُ لِأَعِظَهُ، فَلَمَّا
دَنَوْتُ مِنْهُ سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ شِعْرًا:
مُسَجَّى الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرْ ... مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ
صَامِتٌ ذَاكِرْ
مُنْقَبِضٌ فِي الْغُيُوبِ مُنْبَسِطْ ... كَذَاكَ مَنْ كَانَ
عَارِفًا ذَاكِرْ
يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرْ ... فَهْوَ مدى الليل نائم
ماهر
قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ بِالْفِكْرَةِ،
فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا) أَيْ يَقُولُونَ: مَا
خَلَقْتَهُ عَبَثًا وَهَزْلًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى
قُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ
الذَّاهِبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كل شي ما خلا الله باطل
__________
(1). الشن: القربة.
(2). مسجد الاقدام: مسجد كان بجهة مصر العتيقة قريبا من سقاية
ابن طولون. راجع المقريزي ج 2 ص 445 طبع بولاق.
(4/315)
أَيْ زَائِلٌ. وَ" باطِلًا" نُصِبَ
لِأَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا
وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ مَا
خَلَقْتَهَا لِلْبَاطِلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَفْعُولِ
الثَّانِي، وَيَكُونُ خَلَقَ بِمَعْنَى جَعَلَ. (سُبْحانَكَ)
أَسْنَدَ النَّحَّاسُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
مَعْنَى" سُبْحَانَ اللَّهِ" فَقَالَ: (تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ
السُّوءِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" البقرة" «1» معناه مستوفى. و
(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أَجِرْنَا مِنْ عَذَابِهَا، وَقَدْ
تَقَدَّمَ «2». الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا
إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أَيْ
أَذْلَلْتَهُ وَأَهَنْتَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَيْ
أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ:
أَخْزَى الْإِلَهُ مِنَ الصَّلِيبِ عَبِيدَهُ ...
وَاللَّابِسِينَ قَلَانِسَ الرُّهْبَانِ
وَقِيلَ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ
اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ. وَالِاسْمُ الْخِزْيُ. قَالَ
ابْنُ السِّكِّيتِ: خَزِيَ يَخْزَى خِزْيًا إِذَا وَقَعَ فِي
بَلِيَّةٍ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ
الْوَعِيدِ وَقَالُوا: مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ يَنْبَغِي
أَلَّا يَكُونَ مُؤْمِنًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ" فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:" يَوْمَ لَا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [التحريم: 8]
«3». وَمَا قَالُوهُ مَرْدُودٌ، لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى
أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ
الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي. وَالْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ:" مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ" مَنْ تُخَلِّدْ فِي
النَّارِ، قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
تُدْخِلُ مَقْلُوبُ تُخَلِّدُ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ
أَهْلُ حَرُورَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي قَوْمٍ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ،
وَلِهَذَا قَالَ: (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أَيِ
الْكُفَّارُ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْخِزْيُ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَيَاءِ، يُقَالُ:
خَزِيَ يَخْزَى خِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا، فَهُوَ خَزْيَانُ.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
خِزَايَةٌ أَدْرَكَتْهُ عِنْدَ «4» جَوْلَتِهِ ... مِنْ
جَانِبِ الْحَبْلِ مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَبُ
فَخِزْيُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ اسْتِحْيَاؤُهُمْ فِي
دُخُولِ النَّارِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إِلَى أَنْ
يَخْرُجُوا مِنْهَا. وَالْخِزْيُ لِلْكَافِرِينَ هُوَ
إِهْلَاكُهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ
يَمُوتُونَ، فَافْتَرَقُوا. كَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ويأتي.
__________
(1). راج ج 1 ص 276.
(2). راجع ج 2 ص 433.
(3). راجع ج 18 ص 791.
(4). في الديوان: بعد.
(4/316)
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ)
أَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ
الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِذْ
قَالُوا:" إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ" [الجن: 2 - 1] «1». وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ
فَقَالُوا: مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا لَقِيَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا صحيح
معنى. ولِلْإِيمانِ «2» مِنْ (أَنْ آمِنُوا) فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْخَفْضِ، أَيْ بِأَنْ آمِنُوا.
وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ سَمِعْنَا
مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ،
كَقَوْلِهِ:" ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ" [المجادلة:
8] «3». وقوله:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" [الزلزلة: 5]
«4» وقوله:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا"
[الأعراف: 43] «5» أَيْ إِلَى هَذَا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) تَأْكِيدٌ
وَمُبَالَغَةٌ فِي الدُّعَاءِ. وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ
وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْغَفْرَ وَالْكَفْرَ: السَّتْرُ.
(وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أَيْ أَبْرَارًا مَعَ
الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ في جملتهم. واحدهم وبر وَبَارٌّ
وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَرَّ مُتَّسِعٌ
فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ.
الثالثة عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا
عَلى رُسُلِكَ) أَيْ على ألسنة رسلك، مثل" وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ" «6». وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالزُّهْرِيُّ"
رُسْلِكَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ
اسْتِغْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ دُعَاءِ نُوحٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ. (وَلا تُخْزِنا) أَيْ
لَا تُعَذِّبْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا وَلَا تَفْضَحْنَا، وَلَا
تُهِنَّا وَلَا تُبْعِدْنَا وَلَا تَمْقُتْنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ). إِنْ قِيلَ:
مَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ" رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ" [آل عمران: 194] وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ- أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَ مَنْ آمَنَ
بِالْجَنَّةِ، فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا ممن وعد بذلك دون
الخزي: والعقاب.
__________
(1). راجع ج 19 ص 6.
(2). من هـ وج وط.
(3). راجع ج 17 ص 290.
(4). راجع ج 20 ص 140.
(5). راجع ج 7 ص 802. [ ..... ]
(6). راجع ج 9 ص 245.
(4/317)
الثَّانِي- أَنَّهُمْ دَعَوْا بِهَذَا
الدُّعَاءِ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ،
وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" قالَ
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" [الأنبياء: 112] «1» وَإِنْ كَانَ
هُوَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ. الثَّالِثُ- سَأَلُوا
أَنْ يُعْطَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَى
عَدُوِّهِمْ مُعَجَّلًا، لِأَنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ
ذَلِكَ إِعْزَازًا لِلدِّينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أنس
ابن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ رَحْمَةً وَمَنْ
وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ (.
وَالْعَرَبُ تَذُمُّ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْوَعْدِ
وَتَمْدَحُ بِذَلِكَ فِي الْوَعِيدِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ
«2»:
وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي ... وَلَا
أَخْتَفِي «3» مِنْ خَشْيَةِ الْمُتَهَدِّدِ
وَإِنِّي مَتَى «4» أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ...
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَجابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ) أَيْ أَجَابَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا
زَالُوا يَقُولُونَ رَبَّنَا رَبَّنَا حَتَّى اسْتَجَابَ
لَهُمْ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ حَزَبَهُ «5»
أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ رَبَّنَا أنجاه لله مِمَّا
يَخَافُ وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟
قَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ- إِلَى
قَوْلِهِ: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ" [آل عمران: 194 -
191]. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَنِّي"
أَيْ بِأَنِّي. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" إِنِّي" بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، أَيْ فَقَالَ: إِنِّي. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ
النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ: ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَدَخَلَتْ" مِنْ"
لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا حَرْفَ نَفْيٍ. وَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ: هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا،
لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى لَا يَصْلُحُ الْكَلَامُ إِلَّا
بِهِ، وَإِنَّمَا تُحْذَفُ إِذَا كَانَ تَأْكِيدًا لِلْجَحْدِ.
(بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ دِينُكُمْ
وَاحِدٌ. وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الثَّوَابِ
وَالْأَحْكَامِ وَالنُّصْرَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: رِجَالُكُمْ شَكْلُ نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَةِ،
وَنِسَاؤُكُمْ شَكْلُ رِجَالِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، نَظِيرُهَا
قَوْلُهُ
__________
(1). على قراءة نافع راجع ج 11 ص 351.
(2). هو عامر بن الطفيل، كما في اللسان.
(3). في هـ وى: أختبي.
(4). كذا في جميع الأصول، والذي في اللسان: وإني إن، وفى
التاج: وإني وإن.
(5). حزبه الامر: إذا نزل به مهم أو أصابه غم.
(4/318)
عَزَّ وَجَلَّ:" وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" [التوبة: 71]
«1». وَيُقَالُ: فُلَانٌ مِنِّي، أَيْ عَلَى مَذْهَبِي
وَخُلُقِي. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ هَجَرُوا
أَوْطَانَهُمْ وَسَارُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. (وَأُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ) فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجل. (قاتَلُوا)
أَيْ وَقَاتَلُوا أَعْدَائِي. (وَقُتِلُوا) أَيْ فِي سَبِيلِي.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ:" وَقَاتَلُوا
وَقُتِّلُوا" عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ"
وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا" لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ
إِضْمَارُ قَدْ، أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا، وَمِنْهُ
قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ
أَيْ وَقَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ. وَقِيلَ: أَيْ وَقَدْ قَاتَلَ
مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلْنَا بَنِي
تَمِيمٍ، وَإِنَّمَا قُتِلَ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
فَإِنْ تُقَاتِلُونَا نُقَتِّلْكُمُ
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:" وَقَتَلُوا
وَقُتِلُوا" خَفِيفَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أَيْ لَأَسْتُرَنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي
الْآخِرَةِ، فَلَا أُوَبِّخُهُمْ بِهَا وَلَا أُعَاقِبُهُمْ
عَلَيْهَا. (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى"
لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ" لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا. الْكِسَائِيُّ:
انْتَصَبَ عَلَى الْقَطْعِ. الْفَرَّاءُ: عَلَى التَّفْسِيرِ.
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أَيْ حُسْنُ
الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ «2»
جَرَّاءِ عَمَلِهِ، مِنْ ثَابَ يَثُوبُ. السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) قِيلَ: الْخِطَابُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ
الْأُمَّةُ. وَقِيلَ: لِلْجَمِيعِ. وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَهُمْ
تَجَائِرُ وَأَمْوَالٌ وَاضْطِرَابٌ فِي الْبِلَادِ، وَقَدْ
هَلَكْنَا نَحْنُ مِنَ الْجُوعِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ سَلَامَتُهُمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي
أَسْفَارِهِمْ. (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ
قَلِيلٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ" يَغُرَّنْكَ" سَاكِنَةَ
النُّونِ، وَأَنْشَدَ:
لَا يَغُرَّنْكَ عِشَاءُ سَاكِنٍ ... قَدْ يوافي بالمنيات
السحر
__________
(1). راجع ج 8 ص 202.
(2). في ز وهـ ود وج: جزاء.
(4/319)
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ"
[المؤمن: 4] «1» وَالْمَتَاعُ: مَا يُعَجَّلُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ، وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ فَانٍ، وَكُلُّ فَانٍ
وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ. وَفِي صَحِيحِ
التِّرْمِذِيِّ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا
يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فلينظر بماذا
يَرْجِعُ (. قِيلَ:) يَرْجِعُ) بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ.
(وَبِئْسَ الْمِهادُ) أَيْ بِئْسَ مَا مَهَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ
بِكُفْرِهِمْ، وَمَا مَهَدَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا
كَقَوْلِهِ:" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ" [آل عمران: 178]
«2» الآية." وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ"
[الأعراف: 183] «3»." أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ وَبَنِينَ" [المؤمنون: 55] «4»." سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ" [الأعراف: 182] «5» دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ. مُنْعَمٍ عَلَيْهِمْ فِي
الدُّنْيَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ الْخُلُوصُ مِنْ
شَوَائِبِ الضَّرَرِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَنِعَمُ
الْكُفَّارِ. مَشُوبَةٌ بِالْآلَامِ وَالْعُقُوبَاتِ، فَصَارَ
كَمَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ حَلَاوَةً مِنْ عَسَلٍ
فِيهَا السُّمُّ، فَهُوَ وَإِنِ اسْتَلَذَّ آكِلُهُ لَا
يُقَالُ: أَنْعَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ رُوحِهِ.
ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ
قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَذَهَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَيْفُ السُّنَّةِ وَلِسَانُ الْأُمَّةِ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ
عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالُوا: وَأَصْلُ النِّعْمَةِ
مِنَ النَّعْمَةِ بِفَتْحِ النُّونِ، وَهِيَ لِينُ الْعَيْشِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها
فاكِهِينَ" [الدخان: 27] «6». يُقَالُ: دَقِيقٌ نَاعِمٌ، إِذَا
بُولِغَ فِي طَحْنِهِ وَأُجِيدَ سَحْقُهُ. وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَوْجَبَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنْ يَشْكُرُوهُ وَعَلَى جَمِيعِ
الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ:" فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ"
[الأعراف: 74] «7»." وَاشْكُرُوا لِلَّهِ" [البقرة: 172] «8»
وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَقَالَ:"
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" [القصص: 77] «9»
وَهَذَا خِطَابٌ لِقَارُونَ. وَقَالَ:" وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً" [النحل: 112]
«10» الْآيَةَ. فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدْ أَنْعَمَ
عَلَيْهِمْ نعمة دنياوية فجحدوها. وقال:" يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها" [النحل: 83] «11» وقال:" يا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"
[فاطر: 3] «12». وهذا عام
__________
(1). راجع ج 15 ص 286.
(2). راجع ص 286 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 7 ص 329 وص 237.
(4). راجع ج 12 ص 130.
(5). راجع ج 7 ص 329 وص 237.
(6). راجع ج 16 ص 138. [ ..... ]
(7). راجع ج 7 ص 329 وص 237.
(8). راجع ج 2 ص 215.
(9). راجع ج 13 ص 314.
(10). راجع ج 10 ص 193 وص 166.
(11) راجع ج 10 ص 193 وص 166.
(12) راجع ج 14 ص 321.
(4/320)
فِي الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا
إِذَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا فِيهِ سُمٌّ فَقَدْ رَفَقَ
بِهِ فِي الْحَالِ، إِذْ لَمْ يُجَرِّعْهُ السُّمَّ بَحْتًا،
بَلْ دَسَّهُ فِي الْحَلَاوَةِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ
يُقَالَ: قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَالنِّعَمُ ضَرْبَانِ: نِعَمُ نَفْعٍ وَنِعَمُ دَفْعٍ،
فَنِعَمُ النَّفْعِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فُنُونِ
اللَّذَّاتِ، وَنِعَمُ الدَّفْعِ مَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ
أَنْوَاعِ الْآفَاتِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْعَمَ عَلَى
الْكُفَّارِ نِعَمَ الدَّفْعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا
زُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَا خِلَافَ
بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةَ
دِينِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)
اسْتِدْرَاكٌ بَعْدَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ فِيهِ مَعْنَى
النَّفْيِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ كَبِيرُ «1» الِانْتِفَاعِ،
لَكِنِ الْمُتَّقُونَ لَهُمُ الِانْتِفَاعُ الْكَبِيرُ «2»
وَالْخُلْدُ الدَّائِمُ. فَمَوْضِعُ" لكِنِ" رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ القعقاع" لكن" بتشديد
النون. الموافية عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُزُلًا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ) نُزُلًا مِثْلُ ثَوَابًا عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ يَكُونُ مَصْدَرًا.
الْفَرَّاءُ: هُوَ مُفَسِّرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ
وَالنَّخَعِيُّ" نُزُلًا" بِتَخْفِيفِ الزَّاي اسْتِثْقَالًا
لِضَمَّتَيْنِ، وَثَقَّلَهُ الْبَاقُونَ. وَالنُّزُلُ مَا
يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالنَّزِيلُ الضَّيْفُ. قَالَ
الشَّاعِرُ: نَزِيلُ الْقَوْمِ أَعْظَمُهُمْ حُقُوقًا وَحَقُّ
اللَّهِ فِي حَقِّ النَّزِيلِ وَالْجَمْعُ الْأَنْزَالُ.
وَحَظٌّ نَزِيلٌ: مُجْتَمِعٌ. وَالنُّزُلُ «3»: أَيْضًا
الرِّيعُ، يُقَالُ، طَعَامٌ النُّزُلِ وَالنُّزْلِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قُلْتُ: وَلَعَلَّ النُّزُلَ-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ «4» الْحَبْرِ الَّذِي سَأَلَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ يَكُونُ
النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
والسموات؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ) قَالَ:
فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: (فُقَرَاءُ
الْمُهَاجِرِينَ) قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ
حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ (زِيَادَةُ كَبِدِ
النُّونِ) قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ فَقَالَ:
(يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ
مِنْ أَطْرَافِهَا) قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ:
(مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) وذكر الحديث. قال
أهل
__________
(1). في ج وا: كثير.
(2). في ج وا: كثير.
(3). النزل. بضم فسكون وبالتحريك.
(4). من ج وهـ وى ود. وفي ب وا: من حديث.
(4/321)
اللُّغَةِ: وَالتُّحْفَةُ مَا يُتْحَفُ
بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْفَوَاكِهِ. وَالطُّرَفُ مَحَاسِنُهُ
وَمَلَاطِفُهُ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
النُّزُلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزِيَادَةُ الْكَبِدِ:
قِطْعَةٌ مِنْهُ كَالْأُصْبُعِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ:" نُزُلًا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" أَيْ ثَوَابًا. وَقِيلَ رِزْقًا. (وَما
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أَيْ مِمَّا يَتَقَلَّبُ
بِهِ الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) الآية.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ
النَّجَاشِيِّ)، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَأْمُرُنَا
أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ مِنْ عُلُوجِ الْحَبَشَةِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ". قَالَ الضَّحَّاكُ: (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) الْقُرْآنُ. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ)
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وفي التنزيل: أُولئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، [القصص: 54] «1». وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ- فَذَكَرَ- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ
بِنَبِيِّهِ ثُمَّ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ
فَلَهُ أَجْرَانِ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «2» الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي
الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ، فَلَا مَعْنَى
لِلْإِعَادَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ
زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا
عَامٌّ وَالنَّجَاشِيُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَاسْمُهُ
أَصْحَمَةُ، وهو بالعربية عطية. و (خاشِعِينَ) أَذِلَّةً،
وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ الَّذِي فِي"
يُؤْمِنَّ". وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ فِي" إِلَيْهِمْ" أَوْ
فِي" إِلَيْكُمْ". وَمَا فِي الْآيَةِ بَيِّنٌ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) الآية. خَتَمَ
تَعَالَى السُّورَةَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ
الْعَاشِرَةُ مِنَ الْوُصَاةِ الَّتِي جَمَعَتِ الظُّهُورَ فِي
الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ
الْآخِرَةِ، فَحَضَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ
الشَّهَوَاتِ، وَالصَّبْرُ الْحَبْسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" بَيَانُهُ «3». وَأَمَرَ بِالْمُصَابَرَةِ
فَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُصَابَرَةُ الْأَعْدَاءِ، قَالَهُ زَيْدُ
بن أسلم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 297.
(2). راجع ج 2 ص 81.
(3). راجع ج 2 ص 174.
(4/322)
وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ. وَقِيلَ: إِدَامَةُ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ عَنْ
شَهَوَاتِهَا فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ. وَقَالَ عَطَاءٌ
وَالْقُرَظِيُّ: صَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وُعِدْتُمْ. أَيْ
لَا تَيْأَسُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ
عِبَادَةٌ). وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
عَنْتَرَةَ:
فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا ... وَلَا
كافحوا مثل الذين نكافح
قوله" صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا" أَيْ صَابَرُوا الْعَدُوَّ
فِي الْحَرْبِ وَلَمْ يَبْدُ مِنْهُمْ جُبْنٌ وَلَا خَوَرٌ.
وَالْمُكَافَحَةُ: الْمُوَاجَهَةُ وَالْمُقَابَلَةُ فِي
الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
(وَرابِطُوا) فَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ: رابطوا أعدائكم
بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم، ومنه قوله تعالى:"
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ" [الأنفال: 60] «1» وَفِي
الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
كتب أبو عبيدة ابن الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
يَذْكُرُ لَهُ جموعا الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا
يَنْزِلُ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلِ شِدَّةٍ يَجْعَلُ
اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ
عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي
كِتَابِهِ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ" وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ،
وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، رَوَاهُ
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ. وَاحْتَجَّ
أَبُو سَلَمَةَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَلَا
أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا
وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى
الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ
وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ
الرِّبَاطُ) ثَلَاثًا، رَوَاهُ مَالِكٌ. قَالَ ابن عطية:
والقول الصحيح هو أن الربط [هُوَ] «2» الْمُلَازَمَةُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ. أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ، ثُمَّ
سُمِّيَ كُلُّ مُلَازِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ
«3» مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا. وَاللَّفْظُ
مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّبْطِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ) إِنَّمَا هُوَ
تَشْبِيهٌ بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالرِّبَاطُ
اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَذَا «4» كَقَوْلِهِ:
(لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) «5» وَقَوْلِهِ (لَيْسَ
الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ) إِلَى غير ذلك.
__________
(1). راجع ج 8 ص 36. [ ..... ]
(2). من ب وج وهـ وط.
(3). في ب: المسلمين.
(4). في ب: هكذا.
(5). الصرعة بضم ففتح المبالغ في الصراع الذي لا يغلب.
(4/323)
قُلْتُ: قَوْلُهُ" وَالرِّبَاطُ
اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ" لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، فَإِنَّ
الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ
وَثِقَاتُهَا قَدْ قَالَ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثُّغُورِ،
وَمُوَاظَبَةُ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَقَدْ حَصَلَ أَنَّ
انْتِظَارَ الصَّلَاةِ رِبَاطٌ لُغَوِيٌّ حَقِيقَةً، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَكْثَرُ مِنْ
هَذَا مَا قَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: مَاءٌ
مُتَرَابِطٌ أَيْ دَائِمٌ لَا يُنْزَحُ «1»، حَكَاهُ ابْنُ
فَارِسٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الرِّبَاطِ لُغَةً إِلَى
غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَ
الْعَرَبِ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَنْحَلَّ،
فَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ، فَيَحْبِسُ
الْقَلْبَ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمَ عَلَى
فِعْلِ الطَّاعَةِ. وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَهَمِّهَا
ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ:" وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ" [الأنفال: 60] عَلَى مَا يَأْتِي. وَارْتِبَاطُ
النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ
وَجَابِرٌ وَعَلِيٌّ وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- الْمُرَابِطُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْخَصُ إِلَى
ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا،
قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ [وَرَوَاهُ] «2». وَأَمَّا
سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ
يَعْمُرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ، فهم وإن كانوا حماة
فليسوا بمرابطين. قال ابن عطية. وقال ابن خويز منداد:
وَلِلرِّبَاطِ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَكُونُ الثَّغْرُ
مَأْمُونًا مَنِيعًا يَجُوزُ سُكْنَاهُ بِالْأَهْلِ
وَالْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ جَازَ أَنْ
يُرَابِطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْقِتَالِ، وَلَا يَنْقُلُ إِلَيْهِ الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ
لِئَلَّا يَظْهَرَ الْعَدُوُّ فَيَسْبِيَ وَيَسْتَرِقَّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- جَاءَ فِي
فَضْلِ الرِّبَاطِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ
مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
سَلْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:) رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى
عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ («3». وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ في سننه عن فضالة
__________
(1). في الأصول: لا يبرح. والتصويب من اللسان.
(2). كذا في ز وب وج ود وهـ وى وط وابن عطية وفى اوح وداود.
(3). الفتان: الشيطان. ويروى بفتح الفاء وضمها. فمن رواه
بالفتح فهو واحد، لأنه يفتن الناس عن الدين. ومن رواه بالضم
فهو جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الأخر على الذين يضلون الناس عن
الحق ويفتنونهم.
(4/324)
ابن عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ
عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يَنْمُو
لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ
فَتَّانِ الْقَبْرِ (. وَفِي هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَاطَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ
الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا مَاتَ
الْإِنْسَانُ «1» انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ
ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ
يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) وَهُوَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ،
فَإِنَّ الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ وَالْعِلْمَ
الْمُنْتَفَعَ بِهِ وَالْوَلَدَ الصَّالِحَ الذي يَدْعُو
لِأَبَوَيْهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ بِنَفَادِ الصَّدَقَاتِ
وَذَهَابِ الْعِلْمِ وَمَوْتِ الْوَلَدِ. وَالرِّبَاطُ
يُضَاعَفُ أَجْرُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ
لَا مَعْنَى لِلنَّمَاءِ إِلَّا الْمُضَاعَفَةُ، وَهِيَ
غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى سَبَبٍ فَتَنْقَطِعُ
بِانْقِطَاعِهِ، بَلْ هِيَ فَضْلٌ دَائِمٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ
أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهَا
إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ وَالتَّحَرُّزِ
مِنْهُ بِحِرَاسَةِ بَيْضَةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ
شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي
يَجْرِي عَلَيْهِ ثَوَابُهُ هُوَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ
مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ
مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ
أَجْرُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ
وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ
وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ
الْفَزَعِ (. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَيْدٌ ثَانٍ وَهُوَ
الْمَوْتُ حَالَةَ الرِّبَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
(مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ
كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا). وَرُوِيَ
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ
مُحْتَسِبًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ
أَجْرًا مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ صِيَامِهَا
وَقِيَامِهَا وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ
وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وأعظم أجرا-
__________
(1). هذه رواية مسلم كما في كتاب الوصية. وكذا في ز وط وى
وج وهـ. وفى رواية: (ابن آدم) والحديث رواه الترمذي وأبو
داود وأبو داود والنسائي بلفظ: إلا من ثلاث صدقة الحديث،
والبخاري في الأدب المفرد
(4/325)
أَرَاهُ قَالَ: مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ
سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ
إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا لم تكتب عليه سينه أَلْفَ سَنَةٍ
وَتُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَيُجْرَى لَهُ أَجْرُ
الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «1»
. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ رِبَاطَ يَوْمٍ
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُحَصِّلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ
الدَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مُرَابِطًا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ
مِنْ صِيَامِ رَجُلٍ وَقِيَامِهِ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ
سَنَةٍ السَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةِ يَوْمٍ [وَسِتُّونَ «2»
يَوْمًا] وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ). قُلْتُ: وَجَاءَ
فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ
رِبَاطٌ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَوَاتِ
ذَلِكَ الْفَضْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ ح «3» وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ
الْأَزْدِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ الْمَغْرِبَ
فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ
رَجَعَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَثُوبَ «4» النَّاسُ لِصَلَاةِ
الْعِشَاءِ، فَجَاءَ وَقَدْ حَضَرَهُ النَّاسُ رَافِعًا
أُصْبُعَهُ وَقَدْ عَقَدَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يُشِيرُ
بِالسَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ فَحَسَرَ ثَوْبَهُ عَنْ
رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَبْشِرُوا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ
أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ
يَقُولُ يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي
هَؤُلَاءِ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى
(. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عبد الله: أن نوفا
__________
(1). رواية ابن ماجة.
(2). في ج.
(3). جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو
أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد" ح" وهى حاء
مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من
إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها:" ح"
ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين
إذا حجز، لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند
الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز
إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا
إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا
وهى كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع
مقدمة النوري على صحيح مسلم).
(4). في ج: يتوجه.
(4/326)
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو اجْتَمَعَا
فَحَدَّثَ نَوْفٌ عَنِ التَّوْرَاةِ وَحَدَّثَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ)
أي لم تؤمروا بِالْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْوَى.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنَ
الْفَلَاحِ. وَقِيلَ: لَعَلَّ بِمَعْنَى لِكَيْ.
وَالْفَلَاحُ الْبَقَاءُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي"
الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «1»، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
نُجِزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ (جَامِعِ
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ
السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ) بحمد الله وعونه.
صححه أبو إسحاق إبراهيم الطفيش
تَمَّ الْجُزْءُ الرَّابِعُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ
يَتْلُوهُ إن شاء تعالى الجزء الخامس، وأقوله:" سورة
النساء بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الرابع من
كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي
__________
(1). راجع ج 1 ص 162، 182، 227.
(4/327)
|