تفسير القرطبي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ فَحَثَا
عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا. فَهَذَا مَا
تَعَلَّقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَالْأَصْلُ فِي" يَا وَيْلَتى " يَا وَيْلَتِي ثُمَّ أُبْدِلَ
مِنَ الْيَاءِ أَلِفٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَلَى الْأَصْلِ
بِالْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، لِأَنَّ حَذْفَ الْيَاءِ
فِي النِّدَاءِ أَكْثَرُ. وَهِيَ كَلِمَةٌ تَدْعُو بِهَا
الْعَرَبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ، قال سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ:" وَيْلٌ" بُعْدٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:"
أَعَجِزْتُ" بِكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ
لُغَةٌ شَاذَّةٌ، إِنَّمَا يُقَالُ عَجِزَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا
عَظُمَتْ عَجِيزَتُهَا، وَعَجَزْتُ عَنِ الشَّيْءِ عَجْزًا
وَمَعْجِزَةً وَمَعْجَزَةً. والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ
مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ
أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ
جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ جَرَّاءِ
ذَلِكَ الْقَاتِلِ وَجَرِيرَتِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ
مِنْ جِنَايَتِهِ، يُقَالُ: أَجَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ
شَرًّا يَأْجُلُ أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذ. قَالَ
الْخِنَّوْتُ «1»:
وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٍ كُنْتُ بَيْنَهُمْ ... قَدِ
احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهُ
أَيْ جَانِيهِ، وَقِيلَ: أَنَا جَارُّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ
عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
أَجَلْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ ... فَوْقَ مَنْ
أَحْكَأَ «2» صُلْبًا بِإِزَارِ
وَأَصْلُهُ الْجَرُّ، وَمِنْهُ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ وَقْتٌ
يُجَرُّ إِلَيْهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ. وَمِنْهُ الْآجِلُ
نَقِيضُ الْعَاجِلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى يُجَرُّ إِلَيْهِ أَمْرٌ
مُتَقَدِّمٌ. وَمِنْهُ أَجَلْ بِمَعْنَى نَعَمْ. لِأَنَّهُ
انْقِيَادٌ إِلَى مَا جُرَّ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ الْإِجْلُ «3»
لِلْقَطِيعِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ، لِأَنَّ بَعْضَهُ
يَنْجَرُّ إِلَى بَعْضٍ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَقَرَأَ
يزيد بن
__________
(1). قال في البحر: نسبه ابن عطية لخوات بن جبير وكذا في
اللسان. والبيت في ديوان زهير. وفي ج، ز، ك، هـ،: ذات بينهم.
(2). أحكأ العقدة: شدها وأحكمها. والمعنى: فضلكم الله على من
ائتزر فشد صلبه بإزار، أي فوق الناس أجمعين.
(3). في الأصول: الآجال وهو جمع.
(6/145)
الْقَعْقَاعِ أَبُو جَعْفَرٍ:" مِنِ أَجْلِ
ذَلِكَ" بِكَسْرِ النُّونِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ
لُغَةٌ، وَالْأَصْلُ" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ" فَأُلْقِيَتْ
كَسْرَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ.
ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:" مِنْ أَجْلِ
ذلِكَ" مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:" مِنَ النَّادِمِينَ"]
المائدة: 31]، فَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" مِنْ أَجْلِ
ذلِكَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ
وَهُوَ" كَتَبْنا". فَ" مِنْ أَجْلِ" ابْتِدَاءُ كَلَامٍ
وَالتَّمَامُ" مِنَ النَّادِمِينَ"، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ
النَّاسِ، أَيْ مِنْ سَبَبِ هَذِهِ النَّازِلَةِ كَتَبْنَا.
وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ- وَقَدْ
تَقَدَّمَتْهُمْ أُمَمٌ قَبْلَهُمْ كَانَ قَتْلُ النَّفْسِ
فِيهِمْ مَحْظُورًا- لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ
الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ الْأَنْفُسِ مَكْتُوبًا،
وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلًا مُطْلَقًا، فَغُلِّظَ الْأَمْرُ
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْكِتَابِ بِحَسَبِ طُغْيَانِهِمْ
وَسَفْكِهِمُ الدِّمَاءَ. وَمَعْنَى" بِغَيْرِ نَفْسٍ" أَيْ
بِغَيْرِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا فَيَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ.
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْقَتْلَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ
إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًى
بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا."
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ" أَيْ شِرْكٍ، وَقِيلَ: قَطْعُ
طَرِيقٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ-" أَوْ فَسَادًا" بِالنَّصْبِ
عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ
الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ، أَوْ أَحْدَثَ فَسَادًا، وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ:" مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ"
لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ-"
فَسادٍ" بِالْجَرِّ عَلَى مَعْنَى أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ.
(فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) اضْطَرَبَ لَفْظُ
الْمُفَسِّرِينَ فِي تَرْتِيبِ هَذَا التَّشْبِيهِ لِأَجْلِ
أَنَّ عِقَابَ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أَكْثَرُ مِنْ
عِقَابِ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامَ
عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ
أَحْيَاهُ بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ:
الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً وَانْتَهَكَ
حُرْمَتَهَا فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا،
وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَصَانَ حُرْمَتَهَا
وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا. وَعَنْهُ أَيْضًا. الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ، وَمَنْ
أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَةٍ فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ
الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ
(6/146)
إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
جَهَنَّمَ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، يَقُولُ: لَوْ قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ «1»، وَمَنْ لَمْ
يَقْتُلْ فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ
مِنَ الْقَوَدِ وَالْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتْلَ
النَّاسَ جَمِيعًا، قَالَ: وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ مَنْ عَفَا
عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْلُهُ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا،
أَيْ هُوَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْمَقْدِرَةِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَالْمُؤْمِنُونَ
كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ،
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا،
أَيْ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ شُكْرُهُ. وَقِيلَ: جُعِلَ إِثْمُ
قَاتِلِ الْوَاحِدِ إِثْمَ قَاتِلِ الْجَمِيعِ، وَلَهُ أَنْ
يَحْكُمَ بِمَا يُرِيدُ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالتَّشْبِيهُ عَلَى مَا
قِيلَ وَاقِعٌ كُلُّهُ، وَالْمُنْتَهِكُ فِي وَاحِدٍ مَلْحُوظٌ
بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الْجَمِيعِ، وَمِثَالُهُ رَجُلَانِ
حَلَفَا عَلَى شَجَرَتَيْنِ أَلَا يَطْعَمَا مِنْ ثَمَرِهِمَا
شَيْئًا، فَطَعِمَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً مِنْ ثَمَرِ
شَجَرَتِهِ، وَطَعِمَ الْآخَرُ ثَمَرَ شَجَرَتِهِ كُلِّهَا،
فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْحِنْثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ
مَنِ اسْتَحَلَّ وَاحِدًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ،
لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَمَنْ أَحْياها) تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ
التَّرْكِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ، وَإِلَّا
فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً- الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاعُ-
إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تعالى. وإنما هذا الأحياء بمنزلة قول
نمروذ اللعين:" أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ" «2»] البقرة: 258]
فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ
بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر
الله.
[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
__________
(1). أي لم يزد على ذلك من العذاب، كما في الطبري.
(2). راجع ج 3 ص 283.
(6/147)
فيه خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْأُولَى:
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ] نُزُولِ [«1» هَذِهِ الْآيَةِ،
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْعُرَنِيِّينَ، رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِأَبِي
دَاوُدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلَ
«2» - أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَةَ- قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَوَوْا «3»
الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا
مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا
صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ مِنْ أَوَّلِ
النَّهَارِ فَأَرْسَلَ فِي آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ
بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ «4» أَعْيُنَهُمْ وَأُلْقُوا فِي
الْحَرَّةِ «5» يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو
قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا
بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِي
رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ
وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ «6»،
وَفِي رِوَايَةٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً «7» فَأُتِيَ
بِهِمْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي
ذَلِكَ:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً" الْآيَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ
يَكْدِمُ «8» الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا. وَفِي
الْبُخَارِيِّ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي حديثه:
فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
أَدْرَكْنَاهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا «9» عَلَى بِلَادِهِمْ،
فَجِئْنَا بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ جَرِيرٌ: فَكَانُوا يَقُولُونَ
الْمَاءَ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (النَّارُ). وَقَدْ حَكَى أَهْلُ التَّوَارِيخِ
وَالسِّيَرِ: أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَيِ الرَّاعِيَ
وَرِجْلَيْهِ، وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى
مَاتَ، وَأُدْخِلَ الْمَدِينَةَ مَيِّتًا. وَكَانَ اسْمُهُ
يَسَارَ وَكَانَ نُوبِيًّا. وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنَ
الْمُرْتَدِّينَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرقهم بالنار
__________
(1). من ك.
(2). عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.
(3). أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك
إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. (النهاية) لابن الأثير.
(4). سمر عين فلان: سملها (فقأها).
(5). الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات
حجارة سود.
(6). حسم العرق: قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه.
(7). القافة (جمع (قائف) وهو الذي يتبع الأثر. [ ..... ]
(8). كدمه: عضه بأدنى فمه.
(9). في وو ا: وقد أشرفنا.
(6/148)
بعد ما قَتَلَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهَاِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَنَقَضُوا
الْعَهْدَ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ.
وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
إِلَى قَوْلِهِ:" غَفُورٌ رَحِيمٌ" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ أُخِذَ «1» مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ
يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ
عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ،
وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ" «2»] الأنفال: 38] وقوله عليه] الصلاة و [«3» السلام:
(الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ
فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ
صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ:
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ
أَهْلِ الشِّرْكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:" إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ"
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا
وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ
تُحَرَّمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي
أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ فَعَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ،
فَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ. وَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ
تَنْزِلَ الْحُدُودُ، يَعْنِي حَدِيثَ أَنَسٍ، ذَكَرَهُ أَبُو
دَاوُدَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَا
فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِوَفْدِ عُرَيْنَةَ نُسِخَ، «4» إِذْ لَا يَجُوزُ
التَّمْثِيلُ بِالْمُرْتَدِّ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَطَعَ
الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ
بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ" إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا"
الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ:
فَلَمَّا وُعِظَ وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ لَمْ يَعُدْ.
وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ
بِنَاسِخَةٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، لان ذلك وقع في مرتدين،
__________
(1). في مصنف أبي داود: تاب، بدل: أخذ.
(2). راجع ج 7 ص 401.
(3). من ج.
(4). من ك وهو الصواب، وفي هـ وج وا وز ول: لم يجز.
(6/149)
لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَكِتَابِ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا قَالَ:
إِنَّمَا سَمَلَ] النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [«1» أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا
أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، فَكَانَ هَذَا قِصَاصًا، وَهَذِهِ
الْآيَةُ فِي الْمُحَارِبِ الْمُؤْمِنِ. قُلْتُ: وَهَذَا
قَوْلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ"
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمْ
فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ
الْقُدْرَةِ كَمَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ.
وَالْمُرْتَدُّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ-
دُونَ الْمُحَارَبَةِ- وَلَا يُنْفَى وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ
وَلَا رِجْلُهُ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ بَلْ يُقْتَلُ إِنْ
لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا يُصْلَبُ أَيْضًا، فَدَلَّ أَنَّ مَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَا عُنِيَ بِهِ الْمُرْتَدُّ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:" قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ"
[الأنفال: 38]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ:" إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا" الْآيَةَ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَعَلَى مَا
قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَا إِشْكَالَ وَلَا لَوْمَ
وَلَا عِتَابَ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «2» [البقرة: 194]
فَمَثَّلُوا فَمُثِّلَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ الْعِتَابُ إِنْ صَحَّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي
الْقَتْلِ، وَذَلِكَ تَكْحِيلُهُمْ بِمَسَامِيرَ مُحْمَاةٍ
وَتَرْكُهُمْ عَطَاشَى حَتَّى مَاتُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُلْ أَعْيُنَ
الْعُرَنِيِّينَ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ نَاهِيَةً عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا،
فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الثَّابِتَةَ وَرَدَتْ بِالسَّمْلِ،
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ
فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي
الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ
نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْ الْيَهُودِ. وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ" اسْتِعَارَةٌ وَمَجَازٌ، إِذِ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ لِمَا
هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلِمَا وَجَبَ لَهُ
مِنَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ.
وَالْمَعْنَى: يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَعَبَّرَ
بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إِكْبَارًا
لِإِذَايَتِهِمْ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ
الضُّعَفَاءِ فِي قَوْلِهِ:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً"] البقرة: 245] حَثًّا عَلَى
الِاسْتِعْطَافِ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي صَحِيحِ
السُّنَّةِ (اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي). الْحَدِيثُ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وقد تقدم في" البقرة" «3».
__________
(1). من ج وك وهـ.
(2). راجع ج 2 ص 354.
(3). راجع ج 3 ص 240.
(6/150)
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ:
الْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرَ
أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ وَكَابَرَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ «1» وَلَا ذَحْلَ «2» وَلَا
عَدَاوَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَثْبَتَ الْمُحَارَبَةَ فِي
الْمِصْرِ مَرَّةً وَنَفَى ذَلِكَ مَرَّةً، وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي الْمَنَازِلِ
وَالطُّرُقِ وَدِيَارِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَى سَوَاءٌ
وَحُدُودُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَذَلِكَ هُوَ
لِأَنَّ كُلًّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارَبَةِ،
وَالْكِتَابُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ
يُخْرِجَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَةِ قَوْمًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي
الْمِصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمِصْرِ، هَذَا
قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالنُّعْمَانِ.
وَالْمُغْتَالُ كَالْمُحَارِبِ وَهُوَ الَّذِي يَحْتَالُ فِي
قَتْلِ إِنْسَانٍ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرِ
السِّلَاحَ لَكِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ أَوْ صَحِبَهُ فِي
سَفَرٍ فَأَطْعَمَهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَيُقْتَلُ حَدًّا لَا
قَوَدًا. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ
الْمُحَارِبِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَامُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ
فِعْلِهِ، فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ
قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ
الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ ثُمَّ صُلِبَ،
فَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَإِنْ هُوَ
لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ
عَلَى الْخَشَبَةِ، قَالَ اللَّيْثُ: بِالْحَرْبَةِ
مَصْلُوبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ قُتِلَ،
وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ
وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ
فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ
وَرِجْلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ
«3»، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى كُلِّ شي.
وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
إِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ،
ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ،
لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ زَادَتْ عَلَى السَّرِقَةِ
بِالْحِرَابَةِ، وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ
الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَإِنْ حَضَرَ
وَكَثَّرَ وَهِيبَ وَكَانَ رِدْءًا لِلْعَدُوِّ
__________
(1). نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة.
(2). الذحل: الثأر.
(3). في ك: لم يقطع وصلبه.
(6/151)
حُبِسَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ قَتَلَ
قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُصْلَبَ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَحُكِيَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ: أَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ مَصْلُوبًا لِنَهْيِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْمُثْلَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ
عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ
وَالضَّحَّاكِ وَالنَّخَعِيِّ كُلِّهِمْ قَالَ: الْإِمَامُ
مُخَيَّرٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، يَحْكُمُ
عَلَيْهِمْ بِأَيِ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ
النَّفْيِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا
كَانَ فِي الْقُرْآنِ" أَوْ" فَصَاحِبْهُ بِالْخِيَارِ،
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْعَرُ «1» بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ
أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ" أَوْ"
لِلتَّرْتِيبِ- وَإِنِ اخْتَلَفُوا- فَإِنَّكَ تَجِدُ
أَقْوَالَهُمْ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ حَدَّيْنِ
فَيَقُولُونَ: يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ:
يُصْلَبُ وَيُقْتَلُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: تُقْطَعُ يَدُهُ
وَرِجْلُهُ وَيُنْفَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَةُ وَلَا
مَعْنَى" أَوْ" فِي اللُّغَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَاحْتَجَّ
الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ
الْحُكْمِ فِي الْمُحَارِبِ فَقَالَ:" مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ
واخذ المال فأقطع به لِلْأَخْذِ وَرِجْلَهُ لِلْإِخَافَةِ
وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ وَمَنْ جَمَعَ ذَلِكَ فَاصْلُبْهُ".
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَقِيَ النَّفْيُ لِلْمُخِيفِ فَقَطْ
وَالْمُخِيفُ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَالِكٌ
يَرَى فِيهِ الْأَخْذَ بِأَيْسَرَ] العذاب و [«2» وَالْعِقَابِ
اسْتِحْسَانًا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ" اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ
السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ أَبَدًا بِالْخَيْلِ
وَالرِّجْلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ
اللَّهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ هَرَبًا
مِمَّنْ يَطْلُبُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ
وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيِّ. حَكَاهُ
الرُّمَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ،
وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمُ الحدود، وقاله اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا:
يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ هَذَا إِلَى
غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ كَالزَّانِي. وَقَالَ] مالك أيضا و
[«3» الكوفيون: نَفْيُهُمْ سَجْنُهُمْ فَيُنْفَى مِنْ سَعَةِ
الدُّنْيَا إِلَى
__________
(1). في ج وك: أسعد.
(2). من ك. [ ..... ]
(3). من ك.
(6/152)
ضِيقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ إِذَا سُجِنَ
فَقَدْ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ
اسْتِقْرَارِهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ
السُّجُونِ فِي ذَلِكَ:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ أَهْلِهَا ...
فَلَسْنَا مِنَ الأموات فيها ولا الأحياء
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا
وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
حَكَى مَكْحُولٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ وَقَالَ:
أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ، وَلَا
أَنْفِيَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَرْضُ
النَّازِلَةِ وَقَدْ تَجَنَّبَ النَّاسُ قَدِيمًا الْأَرْضَ
الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا الذُّنُوبَ، وَمِنْهُ الحديث «1»
(الذي ناء بصدره ونحو الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ). وَيَنْبَغِي
لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَارِبُ مَخُوفَ الْجَانِبِ
يَظُنُّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى حِرَابَةٍ أَوْ إِفْسَادٍ أَنْ
يَسْجُنَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مَخُوفِ الْجَانِبِ] فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ
إِلَى جِنَايَةٍ [«2» سرح، فال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا
صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُغَرَّبَ وَيُسْجَنَ حَيْثُ
يُغَرَّبُ، وَهَذَا عَلَى الْأَغْلَبِ فِي أَنَّهُ مَخُوفٌ،
وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الْوَاضِحُ «3»، لِأَنَّ
نَفْيَهُ مِنْ أَرْضِ النَّازِلَةِ هُوَ نَصُّ الْآيَةِ،
وَسَجْنُهُ بَعْدُ بِحَسَبِ الْخَوْفِ مِنْهُ، فَإِنْ تَابَ
وَفُهِمَتْ حَالُهُ سُرِّحَ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ" النَّفْيُ أَصْلُهُ
الْإِهْلَاكُ، وَمِنْهُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، فَالنَّفْيُ
الْإِهْلَاكُ بِالْإِعْدَامِ، وَمِنْهُ النفاية لردئ
الْمَتَاعِ، وَمِنْهُ النَّفِيُّ لِمَا تَطَايَرَ مِنَ
الْمَاءِ عَنِ الدَّلْوِ. قَالَ الرَّاجِزُ «4»:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ «5» مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ
الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلَا يُرَاعَى
الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ نِصَابًا كَمَا
يُرَاعَى فِي السَّارِقِ. وَقَدْ قِيلَ: يُرَاعَى فِي ذَلِكَ
النِّصَابُ رُبُعُ دينار، قال ابن العربي قال الشافعي
__________
(1). هو حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا. وناء بمعنى نهض،
ويحتمل أنه بمعنى بعد (النهاية لابن الأثير).
(2). من ك.
(3). من ك. وفي ج، هه، ز: الراجح.
(4). هو الأخيل.
(5). جاء في (اللسان) مادة نفى أن الصحيح (كأن متني) لان بعده
(من طول إشرافي على الطوى). ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين
وشمال من عصب ولحم. والصفي (بضم الصاد وكسرها) جمع صفا مقصور،
وصفا جمع صفاة وهي الحجر؟ الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. وفسر
بأنه شبه الماء وقد وقع على ظهر المستقى بذرق الطائر على
الصفي.
(6/153)
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُقْطَعُ مِنْ
قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَّا مَنْ أَخَذَ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ
فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى وَقَّتَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ،
وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي الْحِرَابَةِ شَيْئًا، بَلْ ذَكَرَ
جَزَاءَ الْمُحَارِبِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ
الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ، ثُمَّ
إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَالْأَدْنَى
بِالْأَسْفَلِ وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ
أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ
خَطْفَ الْمَالِ فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ، حَتَّى إِنَّ
السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ المال فإن منع
منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عَلَيْهِ بِحُكْمِ
الْمُحَارِبِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُنْتُ فِي
أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ
بِسَارِقٍ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ
عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَصْحَابُهُ
يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ
الْمُحَارِبِينَ، فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ،
وَارْتَفِعُوا إِلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ عَنْ حَضِيضِ
الْجَاهِلِينَ. قُلْتُ: الْيَفَعُ «1» أَعْلَى الْجَبَلِ
وَمِنْهُ غُلَامٌ يَفَعَةٌ إِذَا ارْتَفَعَ إِلَى الْبُلُوغِ،
وَالْحَضِيضُ الْحُفْرَةُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، كَذَا قَالَ
أَهْلُ اللُّغَةِ. السَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، وَلِلشَّافِعِيِّ
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ
لِأَنَّهُ قَتْلٌ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ
كَالْقِصَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُنَا
لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى
الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنَ التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ
يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا" فَأَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ
الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ
مُحَارَبَةً وَسَعْيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ
يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وضيع، ولا رفيعا من دنئ. الثَّامِنَةُ-
وَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ
الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ يَقْتُلْ
بَعْضٌ قُتِلَ الْجَمِيعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ قَتَلَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ،
فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ
__________
(1). اليفع بمعنى اليفاع.
(6/154)
الْوَقِيعَةَ شُرَكَاءٌ فِي الْغَنِيمَةِ
وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ جَمِيعُهُمْ، وَقَدِ اتُّفِقَ مَعَنَا
عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ الطَّلِيعَةُ، فَالْمُحَارِبُ
أَوْلَى. التَّاسِعَةُ- وَإِذَا أَخَافَ الْمُحَارِبُونَ
السَّبِيلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ
قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَوَجَبَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ التَّعَاوُنُ عَلَى قِتَالِهِمْ وَكَفِّهِمْ
عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لَمْ يَتْبَعْ
مِنْهُمْ مُدْبِرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ
مَالًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ أُتْبِعَ لِيُؤْخَذَ وَيُقَامَ
عَلَيْهِ ما وجب لجنايته، ولا يدفف «1» مِنْهُمْ عَلَى جَرِيحٍ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنْ أَخَذُوا وَوُجِدَ
فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ إِلَيْهِ
أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ صَاحِبٌ
جُعِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ
لِأَحَدٍ غَرِمُوهُ، وَلَا دِيَةَ لِمَنْ قَتَلُوا إِذَا
قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابُوا
وَجَاءُوا تَائِبِينَ وَهِيَ: الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَكُنْ
لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا كَانَ
حَدًّا لِلَّهِ وَأُخِذُوا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ،
فَاقْتُصَّ مِنْهُمْ مِنَ النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَكَانَ
عَلَيْهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ وَدَمٍ لِأَوْلِيَائِهِ
فِي ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ وَالْهِبَةُ كَسَائِرِ
الْجُنَاةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، هَذَا مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ
الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا أُخِذَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَضَمِنُوا قِيَمَةَ مَا اسْتَهْلَكُوا، لِأَنَّ
ذَلِكَ غَصْبٌ فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُ لَهُمْ، وَيُصْرَفُ
إِلَى أَرْبَابِهِ أَوْ يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ حَتَّى
يَعْلَمَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا بِمَا
وُجِدَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ فلا يطلب بِهِ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ
الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ
فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ
مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ
لَهُ بِسُقُوطِ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا
مَنْشُورًا، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ
عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، هَلْ يُتْبَعُ
دَيْنًا بِمَا أَخَذَ، أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ كَمَا يُسْقَطُ
عَنِ السَّارِقِ؟ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ
سواء.
__________
(1). دفف على الجريح أجهز عليه.
(6/155)
الحادية عشرة- وجمع أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى
أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ حَارَبَ، فَإِنْ قَتَلَ
مُحَارِبٌ أَخَا امْرِئٍ أَوْ أَبَاهُ فِي حَالِ
الْمُحَارَبَةِ، فَلَيْسَ إِلَى طَالِبِ الدم من أمر المحارب
شي، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّ الدَّمِ، وَالْقَائِمُ
بِذَلِكَ الْإِمَامُ، جَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَدٍّ مِنْ
حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ
أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ جَمَعْنَا غُرَرَهَا،
وَاجْتَلَبْنَا دُرَرَهَا، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي
تَفْسِيرِهَا وَهِيَ: الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وتفسير مجاهد
لها، قال مجاهد: الْمُرَادُ بِالْمُحَارَبَةِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ
نَبِيِّهِ أَنَّ السَّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَأَنَّ
الزَّانِيَ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا،
وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا مُحْصَنًا. وَأَحْكَامُ
الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِخَافَةَ الطَّرِيقِ
بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ قَصْدًا لِلْغَلَبَةِ عَلَى
الْفُرُوجِ، فَهَذَا أَفْحَشُ الْمُحَارَبَةِ، وَأَقْبَحُ مِنْ
أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً". الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُنَاشَدُ اللِّصُّ بِاللَّهِ
تَعَالَى، فَإِنْ كَفَّ تُرِكَ وَإِنْ أَبَى قُوتِلَ، فَإِنْ
أَنْتَ قَتَلْتَهُ فَشَرُّ قَتِيلٍ وَدَمُهُ هَدَرٌ. رَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى
مَالِي؟ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا
عَلَيَّ. قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا
عَلَيَّ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا
عَلَيَّ قَالَ: (فَقَاتِلْ فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ
وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ- وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَاشَدَةِ- عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ:
(فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟
قَالَ: (فَقَاتِلْهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟
قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ) قَالَ: فَإِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ:
(هُوَ فِي النَّارِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ رَأَوْا
قِتَالَ اللُّصُوصِ وَدَفْعَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ
وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَالنُّعْمَانِ، وَبِهَذَا يَقُولُ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ:
إِنَّ
(6/156)
لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ
وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا، لِلْأَخْبَارِ
الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَالًا
دُونَ حَالٍ إِلَّا السُّلْطَانَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ أَهْلِ
الْحَدِيثِ كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِلَّا
بِالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ أَنَّهُ لَا
يُحَارِبُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، لِلْأَخْبَارِ
الدَّالَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا
يَكُونُ مِنْهُمْ، مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَتَرْكِ
قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا
الصَّلَاةَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ مَذْهَبُنَا إِذَا
طَلَبَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ هَلْ
يُعْطُونَهُ أَوْ يُقَاتِلُونَ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ
عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ هَلِ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ لِأَنَّهُ
تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ؟
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَتِهِمْ
قَبْلَ الْقِتَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيا" لِشَنَاعَةِ الْمُحَارَبَةِ وَعِظَمِ ضَرَرِهَا،
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُحَارَبَةُ عَظِيمَةَ الضَّرَرِ،
لِأَنَّ فِيهَا سَدَّ سَبِيلِ الْكَسْبِ عَلَى النَّاسِ،
لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ وَأَعْظَمَهَا التِّجَارَاتُ،
وَرُكْنَهَا وَعِمَادَهَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" «1»] المزمل: 20] فَإِذَا
أُخِيفَ الطَّرِيقُ انْقَطَعَ النَّاسُ عَنِ السَّفَرِ،
وَاحْتَاجُوا إِلَى لُزُومِ الْبُيُوتِ، فَانْسَدَّ بَابُ
التِّجَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَطَعَتْ أَكْسَابُهُمْ،
فَشَرَعَ اللَّهُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْحُدُودَ
الْمُغَلَّظَةَ، وَذَلِكَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا رَدْعًا
لَهُمْ عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ، وَفَتْحًا لِبَابِ التِّجَارَةِ
الَّتِي أَبَاحَهَا لِعِبَادِهِ لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْهُمْ،
وَوَعَدَ فِيهَا بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَعَاصِي،
وَمُسْتَثْنَاةً مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَصَابَ مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ [لَهُ]
«2» (كَفَّارَةٌ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ الْخِزْيُ لِمَنْ عُوقِبَ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ
لِمَنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا، وَيَجْرِي هَذَا الذَّنْبُ
مَجْرَى غَيْرِهِ. وَلَا خُلُودَ لِمُؤْمِنٍ فِي النَّارِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَعْظُمُ عِقَابُهُ لِعِظَمِ
الذَّنْبِ، ثُمَّ يُخْرَجُ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ وَإِمَّا
بِالْقَبْضَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مشروط الإنفاذ
بالمشيئة
__________
(1). راجع ج 19 ص 50.
(2). الزيادة عن ابن عطية.
(6/157)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا
بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" «1»] النساء: 116] أَمَّا إِنَّ
الْخَوْفَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْوَعِيدِ وَكِبَرِ
الْمَعْصِيَةِ «2». الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ) استثنى عز وجل التَّائِبِينَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ
عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْهُمْ
بِقَوْلِهِ:" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
أَمَّا الْقِصَاصُ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ.
وَمَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ
التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ
كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَسْقُطُ
كُلُّ حَدٍّ بِالتَّوْبَةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ
أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ قِصَاصًا كَانَ
أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ
الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ وَآمَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ،
لِأَنَّهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ
يُقْتَلْ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا
يُسْقَطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ
بِالْكَذِبِ فِي تَوْبَتِهِمْ وَالتَّصَنُّعِ فِيهَا إِذَا
نَالَتْهُمْ يَدُ الْإِمَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِرَ
عَلَيْهِمْ صَارُوا بِمَعْرِضٍ أَنْ يُنَكَّلَ بِهِمْ فَلَمْ
تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، كَالْمُتَلَبِّسِ بِالْعَذَابِ مِنَ
الْأُمَمِ قَبْلَنَا، أَوْ مَنْ صَارَ إِلَى حَالِ
الْغَرْغَرَةِ فَتَابَ، فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ
تَوْبَتُهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُهْمَةَ وَهِيَ
نَافِعَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" يُونُسَ"
«3»، فَأَمَّا الشُّرَّابُ وَالزُّنَاةُ وَالسُّرَّاقُ إِذَا
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ
رُفِعُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَحُدَّهُمْ، وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا تُبْنَا لَمْ
يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُحَارِبِينَ
إِذَا غُلِبُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة المائدة (5): الآيات 35 الى 36]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا
بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)
__________
(1). راجع ج 5 ص 385.
(2). كذا في الأصل وفي تفسير ابن عطية. والذي في البحر: (وهذا
الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ولكن
في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد) وهو أوضح.
(3). راجع ج 8 ص 383.
(6/158)
يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ) الْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ
وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ،
وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ تَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْتُ،
قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ
يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي
وَالْجَمْعُ الْوَسَائِلُ، قَالَ:
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ
التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ
وَيُقَالُ: مِنْهُ سَلْتُ أَسْأَلُ أَيْ طَلَبْتُ، وَهُمَا
يَتَسَاوَلَانِ أَيْ يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ،
فَالْأَصْلُ الطَّلَبُ، وَالْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ الَّتِي
يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ بِهَا، وَالْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَا
فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (فَمَنْ
سَأَلَ لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
[سورة المائدة (5): آية 37]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
قَالَ يَزِيدُ الْفَقِيرُ: قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ إِنَّكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تَقُولُونَ إِنَّ
قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَاللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ:" وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها" فَقَالَ جَابِرٌ:
إِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ الْعَامَّ خَاصًّا وَالْخَاصَّ عَامًّا،
إِنَّمَا هَذَا فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً، فَقَرَأْتُ الْآيَةَ
كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا هِيَ فِي
الْكُفَّارِ خَاصَّةً. وَ" مُقِيمٌ" مَعْنَاهُ دَائِمٌ ثَابِتٌ
لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشَّعْبِ مني ... عذابا دائما لكم
مقيما
[سورة المائدة (5): آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً
بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(38)
فِيهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ «1» مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما) الْآيَةَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَخْذَ
الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ
ذَكَرَ حُكْمَ السَّارِقِ مِنْ غير حراب على ما يأتي
__________
(1). كذا في كل الأصول، غير أنها ست وعشرون سقط المسألة
الثالثة عشرة ما عدا: ل. سقط منها المسألة السادسة والعشرون. [
..... ]
(6/159)
بَيَانُهُ أَثْنَاءَ الْبَابِ، وَبَدَأَ
سُبْحَانَهُ بِالسَّارِقِ قَبْلَ السَّارِقَةِ عَكْسَ الزِّنَى
عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ آخِرَ الْبَابِ. وَقَدْ قُطِعَ
السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حُكِمَ
بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ،
فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ
أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ
الْخِيَارَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،
وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ
الْأَسَدِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَ
الْيَمَنِيِّ «1» الَّذِي سَرَقَ الْعِقْدَ، وَقَطَعَ عُمَرُ
يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن ابن سَمُرَةَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا تُقْطَعُ يَدُ
السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) فَبَيَّنَ
أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ:" وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ" بَعْضَ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا
تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ
فِيمَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ:
تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ
دَرَاهِمَ، فَإِنْ سَرَقَ دِرْهَمَيْنِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ
لِانْحِطَاطِ الصَّرْفِ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ فِيهِمَا.
وَالْعُرُوضُ لَا تُقْطَعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَلَّ الصَّرْفُ أَوْ كَثُرَ، فَجَعَلَ
مَالِكٌ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ
بِالدَّرَاهِمِ فِي الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ: إِنْ سَرَقَ ذَهَبًا فَرُبُعُ دِينَارٍ، وَإِنْ
سَرَقَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَانَتْ قِيمَتُهُ
رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ الْوَرِقِ.
وَهَذَا نَحْوَ مَا صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ
الْآخَرِ، وَالْحُجَّةُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ حَجَفَةً «2»، فَأَتَى به النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بِهَا فَقُوِّمَتْ
بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الرُّبُعِ دِينَارٍ
أَصْلًا رَدَّ إِلَيْهِ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ لَا
بِالثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ عَلَى غَلَاءِ الذَّهَبِ وَرُخْصِهِ،
وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لِمَا رَآهُ- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي الْمِجَنِّ
الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَنَسٌ
يَقُولُ: خمسة دراهم،
__________
(1). هو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل سرق عقدا لأسماء
بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضى الله عنه فقطع يده اليسرى.
(2). الحجفة بالتحريك: الترس، وقيل: هي من الجلود خاصة
كالدرقة.
(6/160)
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الرُّبُعِ
دِينَارٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَهُ، وَرَفَعَهُ «1»
مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ لِحِفْظِهِ وَعَدَالَتِهِ،
قَالَهُ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا فَإِنْ بَلَغَ
الْعَرَضُ الْمَسْرُوقُ رُبُعَ دِينَارٍ بِالتَّقْوِيمِ قُطِعَ
سَارِقُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، فَقِفْ عَلَى هَذَيْنَ
الْأَصْلَيْنِ فَهُمَا عُمْدَةُ الْبَابِ، وما أَصَحُّ مَا
قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ
وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَيْلًا، أَوْ دِينَارًا ذَهَبًا عَيْنًا
أَوْ وَزْنًا، وَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِالْمَتَاعِ
مِنْ مِلْكِ الرَّجُلِ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: قُوِّمَ الْمِجَنُّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
وَرَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ، أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ
إِلَّا فِي خَمْسٍ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ: قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي
مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ:
وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ
فَصَاعِدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ
تُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهُ، قَالَهُ عُثْمَانُ
الْبَتِّيُّ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ. وَقَوْلٌ سَابِعٌ: وَهُوَ
أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ في كل ماله قِيمَةٌ عَلَى ظَاهِرِ
الْآيَةِ، هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ
عَنْهُ، وَالثَّانِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ،
وَالثَّالِثَةُ حَكَاهَا قَتَادَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
تَذَاكَرْنَا الْقَطْعَ فِي كَمْ يَكُونُ عَلَى عَهْدِ
زِيَادٍ؟ فَاتَّفَقَ رَأْيُنَا عَلَى دِرْهَمَيْنِ. وَهَذِهِ
أَقْوَالٌ مُتَكَافِئَةٌ وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا
قَدَّمْنَاهُ لَكَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعَنَ
اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ
وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) وَهَذَا مُوَافِقٌ
لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
«2»، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ
بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ
التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ مَجْرَى الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ
مِثْلَ مَفْحَصِ «3» قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ).
__________
(1). حديث عائشة صحيح عند الإباضية مرفوع كما في مسند الربيع.
وحديث المجن أيضا فيه عن أبي سعيد الخدري الآتي بأربعة دراهم
إلا أن العمل بحديث عائشة.
(2). من ع.
(3). مفحص القطاة حيث تفرخ فيه من الأرض.
(6/161)
وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ضَرِيَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ
سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا
مَا قَالَهُ الْأَعْمَشُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ
الْحَدِيثِ كَالتَّفْسِيرِ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ
بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ
مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ. قُلْتُ: كَحِبَالِ
السَّفِينَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ- اتَّفَقَ جُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ
الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْرَجَ مِنْ حِرْزٍ
مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي
الْحَسَنِ: إِذَا جَمَعَ الثِّيَابَ في البيت قطع. وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا فِي قَوْلٍ آخَرَ
مِثْلَ قَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فصار اتفاقا صحيحا.
والحمد لله. الثالثة- الحزر هُوَ مَا نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ
أَمْوَالِ النَّاسِ، وهو يختلف في كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ
فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ ثَابِتٌ لَا مَقَالَ فِيهِ لِأَهْلِ
الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ
أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْحِرْزَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ
لِمَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ، أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ «1»
وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ
الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ)
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ يَتَّصِلُ مَعْنَاهُ مِنْ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
وَغَيْرِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ،
وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ
فَقَالَ: (مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ
مُتَّخِذٍ خُبْنَةً «2» فلا شي عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ
بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ
ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ) وَفِي
رِوَايَةٍ (وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ) بَدَلَ (وَالْعُقُوبَةُ).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْدُ وَجُعِلَ
مَكَانَهُ الْقَطْعُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُهُ (غَرَامَةُ
مِثْلَيْهِ) منسوخ لا أعلم أحد مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ
إِلَّا مَا جَاءَ عن عمر في دقيق حاطب ابن أبي بلتعة، خرج
مَالِكٌ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالَّذِي
عليه الناس في الغرم بالمثل،
__________
(1). الثمر المعلق: الثمر في الأشجار. وحريسة الجبل: ما يحرس
بالجبل. والجرين: البيدر موضع يداس فيه البر وقد يكون للتمر
والعنب.
(2). الخبنة: الحجزة في السراويل، والوعاء يحمل فيه الشيء أيضا
وما يحمل تحت الإبط.
(6/162)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى
عَلَيْكُمْ" «1»] البقرة: 194]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي
الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ «2» لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ
دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ
الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فأتيته فقلت أتقطع
مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَبِيعُهُ
وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا، قَالَ: (فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ
أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ)؟. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ
الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا
لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ الْحِكْمَةُ الْأَوَّلِيَّةُ
حَكَمَتْ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ
شَرْعًا، وَبَقِيَتِ الْأَطْمَاعُ مُتَعَلِّقَةً بِهَا،
وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا، فَتَكُفُّهَا الْمُرُوءَةُ
وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ
وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، فَإِذَا أَحْرَزَهَا
مَالِكُهَا فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ
الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَإِذَا
هُتِكَا فَحُشَتِ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتِ الْعُقُوبَةُ،
وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ
الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ. الرَّابِعَةُ- فَإِذَا اجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ فَاشْتَرَكُوا فِي إِخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ،
فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بعضهم ممن يقدر على
إخراجه، أولا إِلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ، فَإِذَا كَانَ
الْأَوَّلُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا يُقْطَعُ فِيهِ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ فِيهِ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَا: لَا
يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إِلَّا بِشَرْطٍ
أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حِصَّتِهِ نِصَابٌ،
لِقَوْلِهِ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [«3»: (لَا
تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ
نِصَابًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَوَجْهُ الْقَطْعِ فِي
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي
الْجِنَايَةِ لَا يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا كَالِاشْتِرَاكِ فِي
الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَقْرَبُ مَا
بَيْنَهُمَا فَإِنَّا إِنَّمَا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ
بِالْوَاحِدِ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ
عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
مِثْلُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ
قُطِعُوا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي
وَهُوَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ
فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، ذكره ابن العربي.
__________
(1). راجع ج 2 ص 354.
(2). الخميصة: ثوب خزا وصوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن
تكون سوداء معلمة.
(3). من ع وج.
(6/163)
الْخَامِسَةُ- فَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي
السَّرِقَةِ بِأَنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ
آخَرُ، فَإِنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا. وَإِنِ
انْفَرَدَ كُلٌّ «1» مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ دُونَ اتفاق بينهما،
بأن يجئ آخَرُ فَيُخْرِجُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ
مِنْهُمَا. وَإِنْ تَعَاوَنَا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ
أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ فَالْقَطْعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَطْعَ، لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ
وَلَمْ يَسْرِقْ، وَالْآخَرُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ
الْحُرْمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَارَكَ فِي
النَّقْبِ وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي
الِاشْتِرَاكِ فِي النَّقْبِ التَّحَامُلُ عَلَى آلَةٍ
وَاحِدَةٍ، بَلِ التَّعَاقُبُ فِي الضَّرْبِ تَحْصُلُ بِهِ
الشَّرِكَةُ. السَّادِسَةُ- وَلَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا
فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إِلَى بَابِ الْحِرْزِ فَأَدْخَلَ
الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخَذَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَيُعَاقَبُ
الْأَوَّلُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْطَعَانِ. وَإِنْ وَضَعَهُ
خَارِجَ الْحِرْزِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ لَا عَلَى الْآخِذِ،
وَإِنْ وَضَعَهُ فِي وَسَطِ النَّقْبِ فَأَخَذَهُ الْآخَرُ
وَالْتَقَتْ أَيْدِيهِمَا فِي النَّقْبِ قُطِعَا جَمِيعًا.
السَّابِعَةُ- وَالْقَبْرُ وَالْمَسْجِدُ حِرْزٌ، فَيُقْطَعُ
النَّبَّاشُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
قَطْعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا
مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ لَهُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ
لَا يَمْلِكُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ،
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ
السَّرِقَةُ بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُنُ، وَيُتَحَفَّظُ
مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى نَفْيِ السَّرِقَةِ عَوَّلَ أَهْلُ مَا
وَرَاءِ النَّهَرِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ سَارِقٌ
لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَاتَّقَى
الْأَعْيُنَ، وَقَصَدَ وَقْتًا لَا ناظر فيه ولا ماز عَلَيْهِ،
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ بُرُوزِ
النَّاسِ لِلْعِيدِ، وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ فباطل،
لان حرز كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمْكِنَةِ فِيهِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ فَبَاطِلٌ أَيْضًا،
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًا فَصَارَتْ
هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ. وَقَدْ
نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:" أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً" «2»]
المرسلات: 26 - 25] لِيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا، وَيُدْفَنُ
فِيهَا مَيِّتًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:] إِنَّهُ [«3» عُرْضَةٌ
لِلتَّلَفِ، فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا
مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ، إِلَّا
أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنَ الثَّانِي، وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (كَيْفَ
أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يكون البيت «4» فيه
بالوصيف)، يعني
__________
(1). في ج وهـ وز وك: كل واحد.
(2). راجع ج 19 ص 158.
(3). من ك وج وع.
(4). البيت هنا القبر. والوصيف الخادم غلاما كان أو جارية.
والمعنى، أن الموت يكثر حتى يشترى موضع قبر بعبد. [ ..... ]
(6/164)
الْقَبْرَ، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ) قَالَ حَمَّادٌ:
فَبِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ،
لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيِّتِ بَيْتَهُ. وَأَمَّا
الْمَسْجِدُ، فَمَنْ سَرَقَ حُصُرَهُ قُطِعَ، رَوَاهُ عِيسَى
عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ
بَابٌ، وَرَآهَا مُحْرَزَةً. وَإِنْ سَرَقَ الْأَبْوَابَ
قُطِعَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا إِنْ
كَانَتْ سَرِقَتُهُ لِلْحُصُرِ نَهَارًا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ
كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا لَيْلًا قُطِعَ، وَذُكِرَ عَنْ
سَحْنُونٍ إِنْ كَانَتْ حُصُرُهُ خِيطَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
قُطِعَ، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ. قَالَ أَصْبَغُ: يُقْطَعُ
سَارِقُ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ، كَمَا
لَوْ سَرَقَ بَابَهُ مُسْتَسِرًّا أَوْ خَشَبَةً مِنْ سَقْفِهِ
أَوْ مِنْ جَوَائِزِهِ «1». وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ: لَا قَطْعَ فِي شي مِنْ حُصُرِ الْمَسْجِدِ
وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكُونُ غُرْمٌ مَعَ الْقَطْعِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ مَعَ
الْقَطْعِ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ:"
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً
بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ قِيمَةَ السَّرِقَةِ مُوسِرًا
كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا
أَيْسَرَ أَدَّاهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنْ
كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً رَدَّهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ فَإِنْ
كَانَ مُوسِرًا غَرِمَ، وَإِنْ كان معسرا لم يتبع به دينا ولم
يكن عليه شي، وَرَوَى مَالِكٌ «2» مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ قِيلَ
إِنَّهُ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَعَ الْقَطْعِ مُوسِرًا كَانَ
أَوْ مُعْسِرًا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ] مِنْ
عُلَمَائِنَا [«3» مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتُدِلَّ
عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ
فَلَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كَالدِّيَةِ
وَالْكَفَّارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا أَقُولُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لِلْمَشْهُورِ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أُقِيمَ
عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)
وَأَسْنَدَهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ
الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ عُقُوبَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ،
وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي
عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ
وَافَقَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ السَّارِقُ مَا
سَرَقَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، قُطِعَ أَوْ لَمْ
يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ إذا قطع الطريق، قال: ولا يسقط
__________
(1). الجائز من البيت الخشبة التي تحمل خشب البيت، والجمع
أجوزة وجوزان وجوائز.
(2). سقط (مالك) من ج وهـ وك وع.
(3). من ك.
(6/165)
الْحَدُّ لِلَّهِ مَا أَتْلَفَ
لِلْعِبَادِ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا مِنَ
الْحَدِيثِ (إِذَا كَانَ معسرا) فيه احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ
وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
الْقِيَاسُ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ مَا اسْتَهْلَكَ. وَلَكِنْ
تَرَكْنَا ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: تَرْكُ الْقِيَاسِ لِضَعِيفِ الْأَثَرِ غَيْرُ
جَائِزٍ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا.
التَّاسِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ يَدِ مَنْ سَرَقَ
الْمَالَ مِنَ الذِي سَرَقَهُ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا:
يُقْطَعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ
سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ وَمِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا: حُرْمَةُ المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، وئد
السارق كلائد، كَالْغَاصِبِ لَوْ سُرِقُ مِنْهُ الْمَالُ
الْمَغْصُوبُ قُطِعَ، فَإِنْ قِيلَ: اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا
حِرْزٍ، قُلْنَا: الْحِرْزُ قَائِمٌ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ
وَلَمْ يَبْطُلِ الْمِلْكُ فِيهِ فَيَقُولُوا لَنَا أَبْطِلُوا
الْحِرْزَ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَرَّرَ
السَّرِقَةَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ،
فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُقْطَعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
قَطْعَ عَلَيْهِ. وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ
الْقَطْعُ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
أَيْضًا فِي السَّارِقِ يَمْلِكُ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ
بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ قَبْلَ الْقَطْعِ: فَإِنَّهُ لَا
يُقْطَعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" فَإِذَا وَجَبَ
الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يسقطه شي.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ" وَالسَّارِقُ"
بِالرَّفْعِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا فُرِضَ
عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. وَقِيلَ: الرَّفْعُ
فِيهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ" فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما". وَلَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى مُعَيَّنٍ إِذْ لَوْ
قَصَدَ مُعَيَّنًا لَوَجَبَ النَّصْبُ، تَقُولُ: زَيْدًا
اضْرِبْهُ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ: مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعْ
يَدَهُ. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرى"
وَالسَّارِقُ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ اقْطَعُوا
السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ،
لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْأَمْرِ أَوْلَى، قَالَ سِيبَوَيْهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
النَّصْبُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا اضربه، ولكن
(6/166)
الْعَامَّةَ أَبَتِ إِلَّا الرَّفْعَ،
يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ وَجُلَّهُمْ، فَأَنْزَلَ
سِيبَوَيْهِ النَّوْعَ السَّارِقَ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ
الْمُعَيَّنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَالسَّارِقُونَ
وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ" وَهُوَ يُقَوِّي
قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ. وَالسَّرِقُ وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ
الرَّاءِ فِيهِمَا هُوَ اسْمُ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ،
وَالْمَصْدَرُ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا بِفَتْحِ
الرَّاءِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَأَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ
إِنَّمَا هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ مِنَ
الْأَعْيُنِ، وَمِنْهُ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَسَارَقَهُ
النَّظَرُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ
هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا
لَيْسَ لَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ظَاهِرٍ فَهُوَ مُخْتَلِسٌ
وَمُسْتَلِبٌ وَمُنْتَهِبٌ وَمُحْتَرِسٌ «1»، فَإِنْ تَمَنَّعَ
«2» بِمَا فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ. قُلْتُ: وَفِي الْخَبَرِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ) قَالُوا:
وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا
وَلَا سُجُودَهَا) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَغَيْرُهُ،
فَسَمَّاهُ سَارِقًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ سَارِقًا مِنْ
حَيْثُ] هُوَ [«3» مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّهُ ليس قيه
مُسَارَقَةُ الْأَعْيُنِ غَالِبًا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاقْطَعُوا" الْقَطْعُ مَعْنَاهُ
الْإِبَانَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِجَمْعِ
أَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ وَفِي الشَّيْءِ
الْمَسْرُوقِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَفِي
صِفَتِهِ. فَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ فَخَمْسَةُ
أَوْصَافٍ، وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَأَنْ يَكُونَ
غَيْرَ مَالِكٍ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ
عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ إِنْ سَرَقَ
مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ إِنْ أَخَذَ
مَالَ عَبْدِهِ لَا قَطْعَ بِحَالٍ، لِأَنَّ الْعَبْدَ
وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ. وَلَمْ يُقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ
عَبْدِهِ لِأَنَّهُ آخِذٌ لِمَالِهِ، وَسَقَطَ قَطْعُ
الْعَبْدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ
«4»: غُلَامُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. وَذَكَرَ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ عَلَى
الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ قَطْعٌ وَلَا عَلَى
الذِّمِّيِّ) قَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ فَهْدِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، وَالصَّوَابُ] أَنَّهُ [«5» مَوْقُوفٌ. وَذَكَرَ
ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سرق
__________
(1). المحترس الذي يسرق حريسة الجبل.
(2). من ع.
(3). من ج.
(4). الخليفة عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- والسارق كان غلاما
لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهما.
(5). من ك.
(6/167)
الْعَبْدُ فَبِيعُوهُ وَلَوْ بِنَشٍّ «1»
(أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي
سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ مَاجَهْ:
وَحَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ
بْنُ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ
الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ. وَقَالَ: (مَالُ اللَّهِ سَرَقَ
بَعْضُهُ بَعْضًا) وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ مَتْرُوكٌ،
قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ. وَلَا قَطْعَ عَلَى
صَبِيٍّ ولا مجنون. وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ
وَالْمُعَاهَدِ، وَالْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ.
وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ
فَأَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ النِّصَابُ وَقَدْ مَضَى
الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَمَوَّلُ
وَيُتَمَلَّكُ وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا
يُتَمَوَّلُ وَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ حَاشَا
الْحُرِّ الصَّغِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ،
وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَالِ، وَلَمْ يُقْطَعِ
السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ. وَإِنَّمَا قُطِعَ
لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ
أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا
يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْكَلْبِ
الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَلُحُومِ الضَّحَايَا، فَفِي
ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْكَلْبِ، وَقَالَ
أَشْهَبُ: ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنِ اتِّخَاذِهِ، فَأَمَّا
الْمَأْذُونُ فِي اتِّخَاذِهِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ. قَالَ:
وَمَنْ سَرَقَ لَحْمَ أُضْحِيَّةٍ أَوْ جِلْدِهَا قُطِعَ إِذَا
كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: إِنْ سَرَقَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ
الذَّبْحِ قُطِعَ، وَأَمَّا إِنْ سَرَقَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ
فَلَا يُقْطَعُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اتِّخَاذُ
أَصْلِهِ وَبَيْعِهِ، فَصَنَعَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ كَالطُّنْبُورِ وَالْمَلَاهِي مِنَ
الْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَشِبْهِهِ مِنَ آلَاتِ اللَّهْوِ
فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ فَسَادِ
صُوَرِهَا وَإِذْهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا
رُبُعُ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي
أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهَا وَيُؤْمَرُ بِكَسْرِهَا فَإِنَّمَا يُقَوَّمُ
مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ صَنْعَةٍ.
وَكَذَلِكَ الصَّلِيبُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَالزَّيْتُ
النَّجِسُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ نِصَابًا
قُطِعَ فِيهِ. الْوَصْفُ الثَّالِثُ، أَلَّا يَكُونَ
لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ، كَمَنْ سَرَقَ مَا رَهَنَهُ
__________
(1). النش: (بفتح النون وتشديد الشين) عشرون درهما ويطلق على
النصف من كل شي فالمراد البيع ولو بنصف القيمة.
(6/168)
أَوْ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَا شُبْهَةُ
مِلْكٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ
فِي مُرَاعَاةِ شُبْهَةِ مِلْكٍ كَالَّذِي يَسْرِقُ مِنَ
الْمَغْنَمِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ
نَصِيبًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَرَقَ «1» مِغْفَرًا مِنَ الْخُمُسِ
فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا وَقَالَ: لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ
لَفْظِ آيَةِ «2» السَّرِقَةِ. وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ
سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ
الْكَبِيرِ، لِأَنَّ مَا لَا تَصِحُّ سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ
الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ. وَأَمَّا مَا
يُعْتَبَرُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوَصْفٌ
وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِرْزُ لِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ المسروق.
وجملة القول فيه أن كل شي له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شي
مَعَهُ حَافِظٌ فَحَافِظُهُ حِرْزُهُ، فَالدُّورُ
وَالْمَنَازِلُ وَالْحَوَانِيتُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، غَابَ
عَنْهَا أَهْلُهَا أَوْ حَضَرُوا، وَكَذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ
حِرْزٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالسَّارِقُ لَا
يَسْتَحِقُّ فِيهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّرِقَةِ
مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِمَامُ وَإِنَّمَا
يَتَعَيَّنُ حَقُّ كُلِّ مُسْلِمٍ بِالْعَطِيَّةِ، أَلَا تَرَى
أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الْمَالِ
إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُفَرِّقُهُ فِي
النَّاسِ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ آخَرَ
وَيَمْنَعُ مِنْهُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، فَفِي التَّقْدِيرِ
أَنَّ هَذَا السَّارِقَ مِمَّنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ الْمَغَانِمُ لَا تَخْلُو: أَنْ تَتَعَيَّنَ
بِالْقِسْمَةِ، فَهُوَ مَا ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس
التناول لمن شهد الوقعة، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى قَدْرُ مَا
سَرَقَ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ حَقِّهِ قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ
يُقْطَعْ «3». الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَظُهُورُ الدَّوَابِّ
حِرْزٌ لِمَا حَمَلَتْ، وَأَفْنِيَةُ الْحَوَانِيتِ حِرْزٌ
لِمَا وُضِعَ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ حَانُوتٌ، كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ أَمْ لَا،
سُرِقَتْ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ الشَّاةِ
فِي السُّوقِ مَرْبُوطَةً أَوْ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ،
وَالدَّوَابُّ عَلَى مَرَابِطِهَا مُحْرَزَةٌ، كَانَ مَعَهَا
أَهْلُهَا أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بِبَابِ
الْمَسْجِدِ أَوْ فِي السُّوقِ لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً إِلَّا
أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَافِظٌ، وَمَنْ رَبَطَهَا بِفِنَائِهِ
أَوِ اتَّخَذَ مَوْضِعًا مَرْبِطًا لِدَوَابِّهِ فَإِنَّهُ
حِرْزٌ لَهَا. وَالسَّفِينَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا وَسَوَاءُ
كَانَتْ سَائِبَةً أَوْ مَرْبُوطَةً، فَإِنْ سُرِقَتِ
السَّفِينَةُ نَفْسُهَا فَهِيَ كَالدَّابَّةِ إِنْ كَانَتْ
سَائِبَةً فَلَيْسَتْ بِمُحْرَزَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا
رَبَطَهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَرْسَاهَا فِيهِ فَرَبْطُهَا
حِرْزٌ،
__________
(1). المغفر (بكسر الميم): زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت
القلنسوة.
(2). من ع.
(3). كل الأصول لم تذكر الثالثة عشرة، إلا ك، ثم سقط منها
التاسعة عشرة.
(6/169)
وَهَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ
حَيْثُمَا كَانَتْ فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، كَالدَّابَّةِ بِبَابِ
الْمَسْجِدِ مَعَهَا حَافِظٌ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا
بِالسَّفِينَةِ فِي سَفَرِهِمْ مَنْزِلًا فَيَرْبِطُوهَا
فَهُوَ حِرْزٌ لَهَا كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا خِلَافَ أَنَّ السَّاكِنِينَ فِي
دَارٍ وَاحِدَةٍ كَالْفَنَادِقِ الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا كُلُّ
رَجُلٍ بَيْتَهُ عَلَى حِدَةٍ، يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ
مِنْ بَيْتِ صَاحِبِهِ إِذَا أَخَذَ وَقَدْ خَرَجَ
بِسَرِقَتِهِ إِلَى قَاعَةِ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ
بِهَا بَيْتَهُ وَلَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الدَّارِ. وَلَا
خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ
قَاعَةِ الدَّارِ شَيْئًا وَإِنْ أَدْخَلَهُ بَيْتَهُ أَوْ
أَخْرَجَهُ مِنَ الدَّارِ، لِأَنَّ قَاعَتَهَا مُبَاحَةٌ
لِلْجَمِيعِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ
دَابَّةً فِي مَرْبِطِهَا أَوْ مَا يُشْبِهُهَا مِنَ
الْمَتَاعِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا يُقْطَعُ
الْأَبَوَانِ بِسَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِمَا، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ).
وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ
لَهُ فِيهِ. وَقِيلَ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
وَهْبٍ وَأَشْهَبَ، لِأَنَّ الِابْنَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ
أَبِيهِ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا
يُقْطَعُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ فَلِأَنْ لَا يُقْطَعَ ابْنُهُ
فِي مَالِهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ، فَقَالَ
مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ أشهب:
يقطع. وقول مالك أصح لأنه أَبٌ، قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ
إِلَيَّ أَلَّا يُقْطَعَ الْأَجْدَادُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ
وَالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ لَهُمْ نَفَقَةٌ. قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَيُقْطَعُ مَنْ سِوَاهُمَا مِنَ
الْقَرَابَاتِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ مَنْ
سَرَقَ مِنْ جُوعٍ أَصَابَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِثْلُ
الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَالْأُخْتِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ
قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سَارِقٍ سَرَقَ مَا
تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، إِلَّا أَنْ يجمعوا على شي
فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«1».
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي سَارِقِ
الْمُصْحَفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو
ثَوْرٍ: يُقْطَعُ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا تُقْطَعُ فِيهِ
الْيَدُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ
النُّعْمَانُ: لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مُصْحَفًا. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرَّارِ «2» يَطُرُّ النَّفَقَةَ مِنَ
الْكُمِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْطَعُ مَنْ طَرَّ مِنْ
دَاخِلِ الْكُمِّ أو من خارج، وهو قول مالك
__________
(1). في ك.
(2). الطرار: هو الذي يشق كم الرجل ويسل ما فيه، من الطر وهو
القطع والشق. [ ..... ]
(6/170)
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَيَعْقُوبَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً
فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ فَطَرَّهَا فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ،
وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً إِلَى دَاخِلِ الْكُمِّ فَأَدْخَلَ
يَدَهُ فَسَرَقَهَا قُطِعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُقْطَعُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ طَرَّ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْيَدِ فِي
السَّفَرِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُقَامُ الْحُدُودُ
فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ
وَالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقِيمُ مَنْ غَزَا
عَلَى جَيْشٍ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ مِصْرَ مِنَ
الْأَمْصَارِ- الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ غَيْرَ الْقَطْعِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا غَزَا الْجُنْدُ أَرْضَ
الْحَرْبِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُ
الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامَ
مِصْرَ أَوْ الشَّامَ أَوْ الْعِرَاقَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ
فَيُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ. اسْتَدَلَّ
الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ جُنَادَةَ
بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ
أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ
مِصْدَرٌ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً «1»، فَقَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي في الغزو) «2» ولولا ذلك لقطعته. يسر
هَذَا] يُقَالُ [«3» وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ لَهُ أَخْبَارُ سُوءٍ
فِي جَانِبِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَ
طِفْلَيْنِ «4» لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَفَقَدَتْ
أُمُّهُمَا عَقْلَهَا فَهَامَتْ عَلَى وَجْهِهَا، فَدَعَا
عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُطِيلَ اللَّهُ
عُمُرَهُ ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى ابن مَعِينٍ: كَانَ
بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ رَجُلَ سُوءٍ. اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ
بِالْقَطْعِ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِمَنْ
مَنَعَ الْقَطْعَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْحُدُودِ:
مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالشِّرْكِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ
أَوِ الرِّجْلُ فَإِلَى أَيْنَ تُقْطَعُ؟ فَقَالَ الْكَافَّةُ:
تُقْطَعُ مِنَ الرُّسْغِ وَالرِّجْلُ مِنَ الْمَفْصِلِ،
وَيُحْسَمُ السَّاقُ إِذَا قُطِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يُقْطَعُ إِلَى الْمِرْفَقِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمَنْكِبِ،
لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ شَطْرِ
الْقَدَمِ وَيُتْرَكُ لَهُ الْعَقِبُ «5»، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ ابن المنذر: وقد روينا
__________
(1). البختية: الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق
واللفظة معربة.
(2). في التهذيب: وأسد الغابة (في السفر).
(3). من ج وع.
(4). كذا في الأصول. وفي التهذيب: وأسد الغابة: قتل عبد الرحمن
وقثم ابني عبيد الله بن العباس.
(5). العقب: مؤخر المقدم.
(6/171)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ:
(احْسِمُوهَا) وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى
الْبُرْءِ وَأَبْعَدُ مِنَ التَّلَفِ. الْمُوَفِّيَةُ
عِشْرِينَ- لَا خِلَافَ أَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي
تُقْطَعُ أَوَّلًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً،
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى،
ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي
الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ
خَامِسَةً يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ مِنْ
عُلَمَائِنَا: يُقْتَلُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
حَاطِبٍ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:] (اقْتُلُوهُ) «1»، قَالُوا:
يَا رسول إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ [: (اقْطَعُوا يَدَهُ)،
قَالَ: ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى
عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى قُطِعَتْ
قَوَائِمُهُ كُلُّهَا، ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا] الْخَامِسَةَ
[«2» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ
بِهَذَا حِينَ قَالَ: (اقْتُلُوهُ) ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى
فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ يُحِبُّ الْإِمَارَةَ
فَقَالَ: أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَبِحَدِيثِ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِسَارِقٍ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ).
قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ
اجْتَرَرْنَاهُ فَرَمَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ
الْحِجَارَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَخَرَّجَهُ
النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَحَدُ
رُوَاتِهِ «3» لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا
الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [«4»
أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ بَعْدَ الْيَدِ وَالرِّجْلَ بَعْدَ
الرِّجْلِ. وَقِيلَ: تُقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ
الْيُسْرَى ثُمَّ لَا قَطْعَ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ إِذَا عَادَ
عُزِّرَ وَحُبِسَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ
يَبْلُغْنَا فِي السُّنَّةِ إِلَّا قَطْعُ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى
خَاصَّةً وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ: ذَكَرَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فإن الصحابة
قالوا قبله خلافه.
__________
(1). من ك، هـ، ز.
(2). من ك، هـ، ز.
(3). هو مصعب بن ثابت. (النسائي).
(4). من ع.
(6/172)
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ-
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاكِمِ يَأْمُرُ بِقَطْعِ يَدِ
السَّارِقِ الْيُمْنَى فَتُقْطَعُ يَسَارُهُ، فَقَالَ
قَتَادَةُ: قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُزَادُ
عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَخْطَأَ الْقَاطِعُ
فَقَطَعَ شِمَالَهُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ
اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: عَلَى الْحَزَّازِ «1»
الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِلَّا
أَنْ يُمْنَعَ بِإِجْمَاعٍ «2». قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
لَيْسَ يَخْلُو قَطْعُ يَسَارِ السَّارِقِ مِنْ أَحَدِ
مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاطِعُ عَمَدَ ذَلِكَ
فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ يَكُونَ أَخْطَأَ فَدِيَّتُهُ
عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ، وَقَطْعُ يَمِينِ السَّارِقِ
يَجِبُ، وَلَا يَجُوزُ إِزَالَةُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِتَعَدِّي مُعْتَدٍ أَوْ خَطَأِ مُخْطِئٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الَّذِي يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي
يَمِينِهِ فَيُقَدِّمُ شِمَالَهُ فَتُقْطَعُ، قَالَ: تُقْطَعُ
يَمِينُهُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ أتلف يساره، ولا شي عَلَى الْقَاطِعِ
فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ. وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَتْ. وَقَالَ
قتادة والشعبي: لا شي عَلَى الْقَاطِعِ وَحَسْبُهُ مَا قَطَعَ
مِنْهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَتُعَلَّقُ يَدُ
السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَيْرِيزٍ سَأَلْتُ فَضَالَةَ عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ
السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ أَمِنَ السُّنَّةِ هو؟ فقال: جئ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ
فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي
عُنُقِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ- وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ- وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ- إِذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ
السَّارِقُ رَجُلًا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ
الْقَطْعُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ] وَيُقْتَلُ
[«3»، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ
يُوَفَّى لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ
ابْنِ الْعَرَبِيِّ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَيْدِيَهُما" لَمَّا قَالَ" أَيْدِيَهُما" وَلَمْ
يَقُلْ يَدَيْهِمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ اللِّسَانِ «4» فِي
ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَابَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ
عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ «5» - فقال الخليل بن
أحمد والفراء: كل شي يُوجَدُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذَا
أُضِيفَ إِلَى اثْنَيْنِ جُمِعَ تَقُولُ: هُشِّمَتْ
رُءُوسُهُمَا وَأُشْبِعَتْ بُطُونُهُمَا،
و__________
(1). في ك، ع: الجزار.
(2). في ج، ز، ك، هـ: إلا أن يمنع منه إجماع.
(3). من ع.
(4). في ج، ع: البيان.
(5). زاد ابن العربي (من غير تحقيق لكلامهم). [ ..... ]
(6/173)
" إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُما" «1»] التحريم: 4]، ولهذا قال:"
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا.
وَالْمُرَادُ فَاقْطَعُوا يَمِينًا مِنْ هَذَا وَيَمِينًا مِنْ
هَذَا. وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ، فَاقْطَعُوا يَدَيْهِمَا
وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ «2» فَجَمَعَ
بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ
ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
وَقِيلَ: فُعِلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ. وَقَالَ
سِيبَوَيْهِ: إِذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعُ إِذَا
أَرَدْتَ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ،
وَضَعَا رِحَالَهُمَا. وَيُرِيدُ] بِهِ [«3» رَحْلَيْ
رَاحِلَتَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بِنَاءٌ
عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ،
فَيَعُودُ قَوْلُهُ" أَيْدِيَهُما" «4» إِلَى أَرْبَعَةٍ
وَهِيَ جَمْعٌ فِي الِاثْنَيْنِ، وَهُمَا تَثْنِيَةٌ فَيَأْتِي
الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا، لِأَنَّ السَّارِقَ
وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً،
وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَزاءً بِما
كَسَبا) مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ
مَصْدَرًا وَكَذَا (نَكالًا مِنَ اللَّهِ) يُقَالُ: نَكَّلْتُ
بِهِ إِذَا فَعَلْتُ بِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَنْكُلَ بِهِ عَنْ
ذَلِكَ الْفِعْلِ. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لَا يُغَالَبُ
(حَكِيمٌ) فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ". وَمَعْنَى" مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ" مِنْ
بَعْدِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ.
وَالْقَطْعُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ
وَجَمَاعَةٌ: يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى
السَّارِقِ. وَقَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَعَزَاهُ إِلَى
الشَّافِعِيِّ قَوْلًا. وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهُ
تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ
الْوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُنَا، لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ
الْمُحَارِبِ قَالَ:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ
السَّارِقِ وَقَالَ فِيهِ:" فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" فَلَوْ كَانَ
مِثْلَهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيَا معشر
__________
(1). راجع ج 18 ص 188.
(2). راجع ج 5 ص 73.
(3). من ج.
(4). كذا في الأصول إلا ا، فيعود قول مالك إلى أربعة.
(6/174)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
الشَّافِعِيَّةِ سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ
الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ «1»، وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ،
الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ؟!
أَلَمْ تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدى بسلاحه،
الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إِلَى الْإِيجَافِ
بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ كَيْفَ أَسْقَطَ جَزَاءَهُ
بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا
فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ
اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا السَّارِقُ
وَالزَّانِي وَهُمَا فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْتَ
حُكْمِ الْإِمَامِ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ حُكْمَ
مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ؟! أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
يُقَاسُ عَلَى الْمُحَارِبِ وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا
الْحِكْمَةُ وَالْحَالَةُ! هَذَا مَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ
يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدَّ
لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ
وَالْقَطْعُ كَفَّارَةٌ لَهُ." وَأَصْلَحَ" أَيْ كَمَا تَابَ
عَنِ السَّرِقَةِ تَابَ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ. وَقِيلَ:"
وَأَصْلَحَ" أَيْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِالْكُلِّيَّةِ،
فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ السَّرِقَةَ بِالزِّنَى أَوِ
التَّهَوُّدَ بِالتَّنَصُّرِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ،
وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفِّقَهُ
لِلتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُ التَّوْبَةُ.
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- يُقَالُ: بَدَأَ اللَّهُ
بِالسَّارِقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ السَّارِقَةِ، وَفِي
الزِّنَى بِالزَّانِيَةِ قَبْلَ الزَّانِي مَا الْحِكْمَةُ فِي
ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ حُبُّ
الْمَالِ عَلَى الرِّجَالِ أَغْلَبَ، وَشَهْوَةُ
الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى النِّسَاءِ أَغْلَبَ بَدَأَ بِهِمَا في
الموضعين، هَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النُّورِ" «2» مِنَ
الْبِدَايَةِ بِهَا عَلَى الزَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ
جَعَلَ اللَّهُ حَدَّ السَّرِقَةِ قَطْعَ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ
الْمَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدَّ الزِّنَى قَطْعَ الذَّكَرِ
مَعَ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ بِهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُّهَا: أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْلَ يَدِهِ الَّتِي قُطِعَتْ
فَإِنِ انْزَجَرَ بِهَا اعْتَاضَ بِالثَّانِيَةِ «3»، وَلَيْسَ
لِلزَّانِي مِثْلُ ذَكَرِهِ إِذَا قُطِعَ فَلَمْ يَعْتَضْ
بِغَيْرِهِ لَوِ انْزَجَرَ بِقَطْعِهِ. الثَّانِي: أَنَّ
الْحَدَّ زَجْرٌ لِلْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ، وَقَطْعُ الْيَدِ
فِي السَّرِقَةِ ظَاهِرٌ: وَقَطْعُ الذَّكَرِ فِي الزِّنَى
بَاطِنٌ. الثَّالِثُ- أَنَّ قَطْعَ الذَّكَرِ فِيهِ إِبْطَالٌ
لِلنَّسْلِ وَلَيْسَ فِي قَطْعِ اليد إبطاله. والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 40]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
__________
(1). في ك: الفهمية.
(2). راجع ج 12 ص 159.
(3). في ك وج: الباقية.
(6/175)
يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةُ.
خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرِهِ، أَيْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَبَيْنَ أَحَدٍ تُوجِبُ الْمُحَابَاةَ حتى يقول قائل: نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَالْحُدُودُ تُقَامُ عَلَى
كُلِّ مَنْ يُقَارِفُ مُوجِبَ الْحَدِّ. وَقِيلَ: أَيْ لَهُ
أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُرِيدُ، فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ
الْمُحَارِبِ وَبَيْنَ السَّارِقِ غَيْرِ الْمُحَارِبِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ نَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا
فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. هَذَا
مَا يَتَعَلَّقُ بِآيَةِ السَّرِقَةِ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامِ
السَّرِقَةِ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 41]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ) الْآيَةَ فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا
وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا قَتَلُوا مِنْ بَنِي
قُرَيْظَةَ لَمْ يُقِيدُوهُمْ، وَإِنَّمَا يُعْطُونَهُمُ
الدِّيَةَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ
بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقُرَظِيِّ وَالنَّضِيرِيِّ،
فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلُوا. وَقِيلَ، إِنَّهَا
نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني قريضة
فَخَانَهُ حِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ «1».
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي زِنَى الْيَهُودِيَّيْنِ
وَقِصَّةِ الرَّجْمِ، وهذا أصح الأقوال، رواه
__________
(1). كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الامر؟ وعلام ننزل من
الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح
(6/176)
الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. قَالَ أَبُو
دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ (ائْتُونِي
بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ) فَجَاءُوا بِابْنَيْ
صُورِيَّا فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ تَعَالَى (كَيْفَ تَجِدَانِ
أَمْرَ هَذَيْنَ فِي التَّوْرَاةِ)؟ قَالَا: نَجِدُ فِي
التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا
ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ
رُجِمَا. قَالَ: (فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا)،
قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ
«1»، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي
فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا.
وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ،
فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ
بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ
أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ
بِالرَّجْمِ فَلَا تَأْخُذُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَدَعَا بِابْنِ
صُورِيَّا وَكَانَ عَالِمَهُمْ وَكَانَ أَعْوَرَ، فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَنْشُدُكَ اللَّهَ كَيْفَ تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي
كِتَابِكُمْ)، فَقَالَ ابْنُ صُورِيَّا: فَأَمَّا إِذْ
نَاشَدْتَنِي اللَّهَ فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ
النَّظَرَ زَنْيَةٌ، وَالِاعْتِنَاقَ زَنْيَةٌ، وَالْقُبْلَةَ
زَنْيَةٌ، فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِأَنَّهُمْ رَأَوْا
ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْمُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هُوَ ذَاكَ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا
«2» مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ
الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ) قَالُوا: نَعَمْ. فَدَعَا رَجُلًا
مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: (أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ
الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ) قَالَ: لَا- وَلَوْلَا أَنَّكَ
نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ- نَجِدُهُ الرَّجْمَ،
وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا
الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ
أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا: تَعَالَوْا فلنجتمع على
شي نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا
التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ
إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ)
فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ" إِلَى قَوْلِهِ:" إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ"
يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أمركم بالتحميم
__________
(1). في ج وع وك: باليهود.
(2). حممه تحميما: طلى وجهه بالفحم.
(6/177)
وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ
بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ"] المائدة 44]،" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"] المائدة:
45]،" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الْفاسِقُونَ"] المائدة: 47] فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا.
هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ: أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ فد زَنَيَا
فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى جاء يهود، قل: (مَا تَجِدُونَ فِي
التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى) الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ،
أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ
زَنَيَا. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: أَتَى نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَدَعَوْا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْقُفِّ «1» فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ «2»
فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى
بِامْرَأَةٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا. وَلَا تَعَارُضَ في شي مِنْ
هَذَا كُلِّهِ، وَهِيَ كُلُّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وفد
سَاقَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
سِيَاقَةً حَسَنَةً فَقَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ
وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا
إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ
بِالتَّخْفِيفَاتِ، فَإِنْ أَفْتَى بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ
قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقُلْنَا
فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، قَالَ: فَأَتَوُا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ
فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا
الْقَاسِمِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ
زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ،
فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: (أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي
التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ (، فَقَالُوا:
يُحَمَّمُ وَجْهُهُ وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ، وَالتَّجْبِيَةُ
أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ وَتُقَابَلَ
أَقْفِيَتُهُمَا وَيُطَافَ بِهِمَا، قَالَ: وَسَكَتَ شَابٌّ
مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَكَتَ أَلَظَّ «3» بِهِ النِّشْدَةَ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّا نَجِدُّ فِي
التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فإني
أحكم بما في التوراة) فأمر به فرجما.
__________
(1). القف: علم لواد من أودية المدينة عليه مال لأهلها.
(2). المدراس هو البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في
المكان. (اللسان). ومدراس أيضا صاحب دراسة كتبهم.
(3). ألظ به النشدة: ألح في سؤاله وألزمه إياها.
(6/178)
الثَّانِيَةُ- وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْيَهُودَ حَكَّمَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى
مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ
ابْنَيْ صُورِيَّا، وَأَنَّهُ سَمِعَ شَهَادَةَ الْيَهُودِ
وَعَمِلَ بِهَا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي
الْإِحْصَانِ. فَهَذِهِ مَسَائِلُ أَرْبَعٌ. فَإِذَا تَرَافَعَ
أَهْلُ الذِّمَّةِ إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ مَا
رَفَعُوهُ ظُلْمًا كَالْقَتْلِ وَالْعُدْوَانِ وَالْغَصْبِ
حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ
فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَتَرْكِهِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْإِعْرَاضَ
[عَنْهُمْ] «1» أَوْلَى، فَإِنْ حَكَمَ حَكَمَ [بَيْنَهُمْ]
«2» بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ
الزُّهْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" [المائدة: 49] عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ [بَعْدُ] «3»، احْتَجَّ مَالِكٌ بقوله
تعالى:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ" [المائدة: 42] وَهِيَ نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ. قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ
فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ، لِأَنَّ إِنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقٌّ
لِلْأَسَاقِفَةِ. وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ: لَا يُلْتَفَتُ
إِلَى الْأَسَاقِفَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ
الأصح، لان مسلمين لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا
لَنَفَذَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَا الْحَاكِمِ.
فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَقَالَ عِيسَى عَنِ
ابْنِ الْقَاسِمِ: لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِنَّمَا
كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إِنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا
مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ، وَكَانُوا حَرْبًا
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْمُ
الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ بُسْرَةُ، وَكَانُوا بَعَثُوا إِلَى
يَهُودَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُمُ اسْأَلُوا مُحَمَّدًا
عَنْ هَذَا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ]
مِنْهُ [«4» وَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِهِ
فَاحْذَرُوهُ «5»، الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ
بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا، وَإِنْ
لَمْ يكن عهد وذمة ودار لكان لَهُ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ
وَالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي
هَذَا، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:"
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ" وَلَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ، فَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي
الدِّينِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ.
قال مالك: إذا حكم رَجُلًا فَحُكْمُهُ مَاضٍ وَإِنْ رُفِعَ
إِلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا.
وَقَالَ سحنون: يمضيه إن رآه] صوابا [«6». قال
__________
(1). من ج وهـ وع. [ ..... ]
(2). من ع وك.
(3). من ك وع.
(4). من ج وك وهـ وع.
(5). من ك وع.
(6). من ع وك.
(6/179)
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ فِي
الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ،
فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يَحْكُمُ فِيهَا إِلَّا
السُّلْطَانَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتُصَّ بِهِ
الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنُفِّذَ تَحْكِيمُ
الْمُحَكَّمِ فِيهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَ
النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقَّ الْحَاكِمِ بَيْدَ
أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ
الْوِلَايَةِ، وَمُؤَدٍّ إِلَى تَهَارُجِ النَّاسِ كَتَهَارُجِ
«1» الْحُمُرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ، فَأَمَرَ الشَّرْعُ
بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرْجِ، وَأَذِنَ
فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ
التَّرَافُعِ لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ وَتَحْصُلَ
الْفَائِدَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: التَّحْكِيمُ
جَائِزٌ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوًى. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا كَانَ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ
إِقَامَةً لِحُكْمِ كِتَابِهِمْ، لِمَا حَرَّفُوهُ
وَأَخْفَوْهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ
أَمَاتُوهُ) وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ،
وَلِذَلِكَ اسْتَثْبَتَ ابْنَيْ صُورِيَّا عَنْ حُكْمِ
التَّوْرَاةِ وَاسْتَحْلَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَقْوَالُ
الْكُفَّارِ فِي الْحُدُودِ وَفِي شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهَا
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ
عَلَى طَرِيقِ إِلْزَامِهِمْ مَا الْتَزَمُوهُ وَعَمِلُوا
بِهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ بكون حُصُولُ طَرِيقِ الْعِلْمِ
بِذَلِكَ الْوَحْيَ، أَوْ مَا أَلْقَى اللَّهُ فِي رَوْعِهِ
مِنْ تَصْدِيقِ ابْنَيْ صُورِيَّا فِيمَا قَالَاهُ مِنْ ذَلِكَ
لَا قَوْلُهُمَا مُجَرَّدًا، فَبَيَّنَ لَهُ [النَّبِيُّ] «2»
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ
بِمَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْمِ، وَمَبْدَؤُهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ،
فَيَكُونُ أَفَادَ بِمَا فَعَلَهُ إِقَامَةَ حُكْمِ
التَّوْرَاةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ شَرِيعَتِهِ،
وَأَنَّ التَّوْرَاةَ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً
وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا"
[المائدة: 44] «3» وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ
عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي
التَّوْرَاةِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ-
وَالْجُمْهُورُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تُقْبَلُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا
عَلَى كَافِرٍ، وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جماعة من التابعين
وغيرهم إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
آخِرَ السُّورَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَكَمَ
بِشَهَادَتِهِمْ وَرَجَمَ الزَّانِيَيْنِ «4»: فَالْجَوَابُ،
أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ
حُكْمُ التَّوْرَاةِ وَأَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ بِهِ، عَلَى
نَحْوِ مَا عَمِلَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلْزَامًا
لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارًا لِتَحْرِيفِهِمْ
وَتَغْيِيرِهِمْ، فَكَانَ مُنَفِّذًا لَا حَاكِمًا «5».
وَهَذَا عَلَى التَّأْوِيلِ الأول، وعلى
__________
(1). من ع.
(2). من ك، ع.
(3). راجع ص 88، ص 349 من هذا الجزء،
(4). في ع: في رجم.
(5). في ك وع: منفذا لأحكامها.
(6/180)
مَا ذُكِرَ مِنِ الِاحْتِمَالِ فَيَكُونُ
ذَلِكَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، إِذْ لَمْ يُسْمَعْ فِي
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ فِي مِثْلِ
ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" لَا يَحْزُنْكَ" قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الْيَاءِ
وَكَسْرِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ
الزَّايِ. وَالْحُزْنُ وَالْحَزَنُ خِلَافُ السُّرُورِ،
وَحَزِنَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ حَزِنٌ وَحَزِينٌ،
وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْلُ أَسْلَكَهُ
وَسَلَكَهُ، وَمَحْزُونٌ بُنِيَ عَلَيْهِ. قَالَ
الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةْ
تَمِيمٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ
بِمَعْنًى. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ لَا يَحْزُنْكَ
مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
وَعَدَكَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ)
وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أَيْ
لَمْ يُضْمِرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا نَطَقَتْ
بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يَعْنِي
يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَيَكُونُ هَذَا تَمَامَ الْكَلَامِ،
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ" أَيْ هم
سماعون، ومثله" طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ" «1»] النور: 58].
وَقِيلَ الِابْتِدَاءُ مِنْ قَوْلِهِ:" وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا" أي وَمِنَ الذِينَ هَادُوا قَوْمٌ سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ، أَيْ قَابِلُونَ لِكَذِبِ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ
تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: أَيْ يَسْمَعُونَ كَلَامَكَ
يَا مُحَمَّدُ لِيَكْذِبُوا عَلَيْكَ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ
يَحْضُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
يَكْذِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، وَيُقَبِّحُ صُورَتَهُ
فِي أَعْيُنِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وَكَانَ فِي
الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَيَجُوزُ سَمَّاعِينَ وَطَوَّافِينَ، كَمَا قَالَ:"
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا" «2» وَكَمَا قَالَ:" إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ" «3»] الطور: 17] ثُمَّ
قَالَ:" فاكِهِينَ"" آخِذِينَ" «4». وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ فِي
الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:" سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ" وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتِ الْأَحْكَامُ وَلَا
تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ. وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْجَاسُوسِ فِي"
الْمُمْتَحِنَةِ" «5» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ
تَأْوِيلِهِ بَعْدَ أَنْ فَهِمُوهُ عَنْكَ وَعَرَفُوا
مَوَاضِعَهُ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ، فَقَالُوا:
__________
(1). راجع ج 12 ص 306.
(2). راجع ج 14 ص 245.
(3). راجع ج 17 ص 64 وص 75.
(4). راجع ج 17 ص 64 وص 75. [ ..... ]
(5). راجع ج 18 ص 53.
(6/181)
سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(42)
شَرْعُهُ تَرْكُ الرَّجْمِ، وَجَعْلُهُمْ
بَدَلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ أَرْبَعِينَ تَغْيِيرًا
لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. و" يُحَرِّفُونَ" فِي
مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ" سَمَّاعُونَ" وَلَيْسَ بِحَالٍ
مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي" يَأْتُوكَ" لِأَنَّهُمْ إِذَا
لَمْ يَأْتُوا لَمْ يَسْمَعُوا، وَالتَّحْرِيفُ إِنَّمَا هُوَ
مِمَّنْ يَشْهَدُ وَيَسْمَعُ فَيُحَرِّفُ. وَالْمُحَرِّفُونَ
مِنَ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ
حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى" مِنَ الَّذِينَ هادُوا" فَرِيقٌ
سَمَّاعُونَ أَشْبَهَ. (يَقُولُونَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ
مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" يُحَرِّفُونَ". (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ) أَيْ إِنْ أَتَاكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا وَإِلَّا فَلَا.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
فِتْنَتَهُ) أَيْ ضَلَالَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتَهُ
فِي الْآخِرَةِ. (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً)
أَيْ فَلَنْ تَنْفَعَهُ. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بَيَانٌ مِنْهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ. وَدَلَّتِ
الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى
رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ،
أَيْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ مِنَ
الطَّبْعِ عَلَيْهَا وَالْخَتْمِ كَمَا طَهَّرَ قُلُوبَ
الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابًا لَهُمْ. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) قِيلَ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ حِينَ أَنْكَرُوا
الرَّجْمَ، ثُمَّ أُحْضِرَتِ التَّوْرَاةُ فَوُجِدَ فِيهَا
الرَّجْمُ. وَقِيلَ: خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخْذُ
الْجِزْيَةِ والذل. والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(42)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَتَفْخِيمًا،
وَقَدْ تَقَدَّمُ «1». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) عَلَى التَّكْثِيرِ. وَالسُّحْتُ فِي
اللُّغَةِ أَصْلُهُ الْهَلَاكُ وَالشِّدَّةُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَيُسْحِتَكُمْ بعذاب" «2». وقال الفرزدق:
__________
(1). راجع ج 11 ص 211.
(2). في ج وز: وقد تقدم في البقرة.
(6/182)
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ
يَدَعْ ... مِنَ المال إلا مسحتا «1» أو مجلف «2»
كَذَا الرِّوَايَةُ. أَوْ مُجَلَّفٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى
الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى لَمْ يَدَعْ لَمْ يُبْقِ.
وَيُقَالُ لِلْحَالِقِ: أَسْحَتَ أَيِ اسْتَأْصَلَ. وَسُمِّيَ
الْمَالُ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ الطَّاعَاتِ
أَيْ يُذْهِبُهَا وَيَسْتَأْصِلُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
أَصْلُهُ كَلَبُ الْجُوعِ، يُقَالُ رَجُلٌ مَسْحُوتُ
الْمَعِدَةِ أَيْ أَكُولٌ، فَكَأَنَّ بِالْمُسْتَرْشِي وَآكِلِ
الْحَرَامِ مِنَ الشَّرَهِ إِلَى مَا يُعْطَى مِثْلَ الَّذِي
بِالْمَسْحُوتِ الْمَعِدَةِ مِنَ النَّهَمِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ
الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ مُرُوءَةَ
الْإِنْسَانِ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى،
لِأَنَّ بِذَهَابِ الدِّينِ تَذْهَبُ الْمُرُوءَةُ، وَلَا
مُرُوءَةَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
وَغَيْرُهُ: السُّحْتُ الرُّشَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنَ
السُّحْتِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ
فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
السُّحْتُ؟ قَالَ: (الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ). وَعَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: السُّحْتُ أَنْ يَقْضِيَ
الرَّجُلُ لِأَخِيهِ حَاجَةً فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً
فَيَقْبَلُهَا. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: مِنَ
السُّحْتِ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِجَاهِهِ، وَذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَيَسْأَلُهُ
إِنْسَانٌ حَاجَةً فَلَا يَقْضِيهَا إِلَّا بِرِشْوَةٍ
يَأْخُذُهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَخْذَ
الرِّشْوَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ مَا لَا يَجُوزُ
سُحْتٌ حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى
الْحَاكِمُ انْعَزَلَ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ،
وَبَطَلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ:
وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، لِأَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ مِنْهُ فِسْقٌ،
وَالْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال
عليه الصلاة والسلام: (لعن اله الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ).
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
السُّحْتُ الرِّشْوَةُ وَحُلْوَانُ «3» الْكَاهِنِ
وَالِاسْتِجْعَالُ فِي الْقَضِيَّةِ «4». وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي
كُلِّ شي؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنَ الرِّشْوَةِ
أَنْ تَرْشِيَ لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ، أَوْ تَدْفَعُ حقا
فد لَزِمَكَ، فَأَمَّا أَنْ تَرْشِيَ لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ
ودمك ومالك
__________
(1). ويروى: (إلا مسحت) ومن رواه كذلك جعل (معنى لم يدع) لم
يتقار. (اللسان) مادة سحت.
(2). المجلف: الذي بقيت منه بقية.
(3). هو ما يعطي على الكهانة.
(4). في ج، ك، ع، ز: الاستعجال في المعصية.
(6/183)
فَلَيْسَ بِحَرَامٍ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ
السَّمَرْقَنْدِيُّ الْفَقِيهُ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لَا
بَأْسَ بِأَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ
بِالرِّشْوَةِ. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا دِينَارَيْنِ
وَقَالَ: إِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ
الدَّافِعِ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ كَسْبَ
الْحَجَّامِ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ سُحْتًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ
يَسْحَتُ مُرُوءَةَ آخِذِهِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ فِي كَسْبِ
الْحَجَّامِ أَنَّهُ طَيِّبٌ، وَمَنْ أَخَذَ طَيِّبًا لَا
تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَا تَنْحَطُّ مَرْتَبَتُهُ. وَقَدْ
رَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أنه قال:
احتج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ] رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [«1» بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ
وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ،
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
كَسْبَ الْحَجَّامِ طَيِّبٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْعَلُ ثَمَنًا وَلَا
جُعْلًا [وَلَا] «2» عِوَضًا لِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا حَرَّمَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَمَنِ الدَّمِ،
وَنَاسِخٌ لِمَا كَرِهَهُ مِنْ إِجَارَةِ الْحَجَّامِ. وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ
يُعْطِهِ. وَالسُّحْتُ وَالسُّحُتُ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا،
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ
بِضَمَّتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّينِ وَحْدَهَا.
وَرَوَى الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ
مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ" أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ" بِفَتْحِ
السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَهَذَا مَصْدَرٌ مِنْ
سَحَتَهُ، يُقَالُ: أَسْحَتَ وَسَحَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَحَتَهُ ذَهَبَ بِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا.
قَوْلُهُ تعالى: (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ) هَذَا تَخْيِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى،
ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ
كَانُوا أَهْلَ مُوَادَعَةٍ لَا أَهْلَ ذِمَّةٍ، فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ وَادَعَ الْيَهُودَ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا
الْحُكْمُ بَيْنَ الْكُفَّارِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ
ذِمَّةٍ، بَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ إِنْ أَرَدْنَا. فَأَمَّا
أَهْلُ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ
بَيْنَهُمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا؟ قَوْلَانِ
لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنِ ارْتَبَطَتِ الْخُصُومَةُ بِمُسْلِمٍ
يَجِبُ الْحُكْمُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي
الذِّمِّيِّينَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ
مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ
النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وهو مذهب مالك
__________
(1). من ج وك وهـ وع.
(2). من ج وك وهـ وع.
(6/184)
وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، سِوَى مَا
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى
أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّنَى، فَإِنَّهُ إِنْ زَنَى
الْمُسْلِمُ بِالْكِتَابِيَّةِ حُدَّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا،
فَإِنْ كَانَ الزَّانِيَانِ ذِمِّيَّيْنِ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: يُجْلَدَانِ وَلَا
يُرْجَمَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: عَلَيْهِمَا الْحَدُّ إِنْ أَتَيَا
رَاضِيَيْنِ بِحُكْمِنَا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ:
وَلَا يُرْسِلُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ إِذَا اسْتَعْدَى
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُحْضِرُ الْخَصْمَ مَجْلِسَهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَالِمِ
الَّتِي يَنْتَشِرُ مِنْهَا الْفَسَادُ كَالْقَتْلِ وَنَهْبِ
الْمَنَازِلِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الدُّيُونُ
وَالطَّلَاقُ وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ إِلَّا بَعْدَ التَّرَاضِي، وَالِاخْتِيَارُ لَهُ
أَلَّا يَحْكُمَ وَيَرُدَّهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ. فَإِنْ
حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا
إِجْبَارُهُمْ عَلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَنْتَشِرُ
مِنْهُ الْفَسَادُ فَلَيْسَ عَلَى الْفَسَادِ عَاهَدْنَاهُمْ،
وَوَاجِبُ قَطْعِ الْفَسَادِ عَنْهُمْ، مِنْهُمْ وَمِنْ
غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ أَمْوَالِهِمْ
وَدِمَائِهِمْ، وَلَعَلَّ فِي دِينِهِمِ اسْتِبَاحَةَ ذَلِكَ
فَيَنْتَشِرُ مِنْهُ الْفَسَادُ بَيْنَنَا، وَلِذَلِكَ
مَنَعْنَاهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْخَمْرَ جِهَارًا وَأَنْ
يُظْهِرُوا الزِّنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَاذُورَاتِ،
لِئَلَّا يَفْسُدَ بِهِمْ سُفَهَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا
الْحُكْمُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ دِينُهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ
وَالزِّنَى وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ
يَتَدَيَّنُوا بِدِينِنَا، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ]
بِذَلِكَ [«1» إِضْرَارٌ بِحُكَّامِهِمْ وَتَغْيِيرُ
مِلَّتِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدُّيُونُ وَالْمُعَامَلَاتُ،
لِأَنَّ فِيهَا وَجْهًا مِنَ الْمَظَالِمِ وَقَطْعِ
الْفَسَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَانٍ:
وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالنَّخَعِيِّ أَيْضًا أَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي
الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" وَأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ
أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عن عكرمة أنه قال:" فَإِنْ جاؤُكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" نَسَخَتْهَا
آيَةٌ أُخْرَى" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ"] المائدة: 49]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُنْسَخْ
مِنْ" الْمَائِدَةِ" إِلَّا آيَتَانِ، قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نَسَخَتْهَا" وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ"، وَقَوْلُهُ:" لا
تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ" «2»] المائدة: 2] نسختها"
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «3»]
التوبة: 5]. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ
يُرَدَّ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي حُقُوقِهِمْ وَمَوَارِيثِهِمْ
إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَأْتُوا رَاغِبِينَ فِي
حُكْمِ اللَّهِ فيحكم بينهم بكتاب الله. قال
__________
(1). من ع.
(2). راجع ص 37 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 8 ص 72.
(6/185)
السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ
يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا يُحْكَمُ
بَيْنَهُمْ مَا لَمْ يَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا. وَقَالَ
النَّحَّاسُ فِي" النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" لَهُ قول تعالى:"
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ"
مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
وَالْيَهُودُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَكَانَ الْأَدْعَى
لَهُمْ وَالْأَصْلَحُ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى أَحْكَامِهِمْ،
فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ". وَقَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وعمر
ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ: وَلَا
خِيَارَ لَهُ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صاغِرُونَ" «1»] التوبة: 29]. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ
أَصَحِّ الِاحْتِجَاجَاتِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى
قَوْلِهِ:" وَهُمْ صاغِرُونَ" أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ
أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَلَّا يُرَدُّوا إِلَى
أَحْكَامِهِمْ، فَإِذَا وَجَبَ هَذَا فَالْآيَةٌ مَنْسُوخَةٌ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لَا اخْتِلَافَ
بَيْنِهِمْ إِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى
الْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ،
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا جَاءَتِ
الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا وَلَمْ
يَرْضَ الزَّوْجُ لَمْ يَحْكُمْ. وَقَالَ الْبَاقُونَ:
يَحْكُمُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إِنَّ
الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ مَعَ مَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ تَوْقِيفِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ لَكَانَ النَّظَرُ يُوجِبُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ،
لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا
تَحَاكَمُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ
بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بَيْنَهُمْ مُصِيبٌ عِنْدَ
الْجَمَاعَةِ، وَأَلَّا يُعْرِضَ عَنْهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَارِكًا فَرْضًا، فَاعِلًا مَا لَا
يَحِلُّ وَلَا يَسَعُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلِمَنْ قَالَ
بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ قَوْلٌ آخَرُ،
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلَى الْإِمَامِ إِذَا عَلِمَ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
أَنْ يُقِيمَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ
وَيَحْتَجَّ بِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ" يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا-
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْكَ.
وَالْآخَرُ- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَيْكَ- إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ مِنْهُمْ-
قَالُوا: فَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوجِبُ
إِقَامَةَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَيْنَا، فَأَمَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فقوله تعالى:
__________
(1). راجع ج 8 ص 109.
(6/186)
وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ
اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ" «1»] النساء: 135].
وَأَمَّا مَا فِي السُّنَّةِ فَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ قَدْ جُلِدَ وَحُمِّمَ
فَقَالَ: (أَهَكَذَا حَدُّ الزَّانِي عِنْدَكُمْ) فَقَالُوا:
نَعَمْ. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (سألت بِاللَّهِ أَهَكَذَا
حَدُّ الزَّانِي فِيكُمْ) فَقَالَ: لَا. الْحَدِيثَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ
بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ لَهُ:
لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّ اللَّذَيْنِ زَنَيَا
رَضِيَا بِالْحُكْمِ وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: لَوْ تَدَبَّرَ مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ
لَمْ يَحْتَجَّ، لِأَنَّ فِي دَرْجِ الْحَدِيثِ تَفْسِيرَ
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا"] المائدة: 41] يَقُولُ:
إِنْ أَفْتَاكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوهُ،
وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُمْ حَكَّمُوهُ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ حَكَّمَا رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَضِيَا بِحُكْمِهِ.
قِيلَ لَهُ: حَدُّ الزَّانِي حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَى الْحَاكِمِ إِقَامَتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْيَهُودَ كَانَ لَهُمْ حَاكِمٌ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ،
وَيُقِيمُ حُدُودَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ
النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ إِذَا قَتَلَ
رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ،
وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ
قُرَيْظَةَ وَدَى مِائَةَ وَسْقٍ «2» مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا
بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتْلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ
فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا لِنَقْتُلَهُ، فَقَالُوا:
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ" النَّفْسُ بالنفس، ونزلت:" أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"] المائدة: 50].
[سورة المائدة (5): آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها
حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما
أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
__________
(1). راجع ج 5 ص 410. [ ..... ]
(2). الوسق: ستون صاعا.
(6/187)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ
اللَّهِ) قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّجْمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
هُوَ الْقَوَدُ. وَيُقَالُ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فِيها حُكْمُ اللَّهِ" عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ؟
الْجَوَابُ- وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَوْ
نُسِخَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّسْخِ أَنَّهُ
حُكْمُ اللَّهِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ
تَحْلِيلُ الْخَمْرِ أَوْ تَحْرِيمُ السَّبْتِ وَقَوْلُهُ:
(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِحُكْمِكَ أَنَّهُ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّ مَنْ
طَلَبَ غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لم يرضى به فهو
كافر، وهذه حالة اليهود.
[سورة المائدة (5): آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً
قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
قوله تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً
وَنُورٌ). أَيْ بَيَانٌ وَضِيَاءٌ وَتَعْرِيفٌ أَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ." هُدىً"
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ" وَنُورٌ" عَطْفٌ
عَلَيْهِ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هادُوا) قِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَّرَ
عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ بُعِثَ مِنْ
بَعْدِ مُوسَى بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ
قَالَتْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يَهُودًا. وَقَالَتْ
النَّصَارَى: كَانُوا نَصَارَى، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ كَذِبَهُمْ. وعمني (أَسْلَمُوا) صَدَّقُوا
بِالتَّوْرَاةِ مِنْ لَدُنْ مُوسَى إِلَى] زَمَانِ [«1» عِيسَى
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَبَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ،
وَيُقَالُ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَيُقَالُ: أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ، كَانُوا يَحْكُمُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ:
مَعْنَى" أَسْلَمُوا" خَضَعُوا وَانْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ
فِيمَا بُعِثُوا بِهِ. وَقِيلَ: أَيْ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَمَعْنَى"
(لِلَّذِينَ هادُوا) " عَلَى الَّذِينَ هَادُوا فَاللَّامُ
بِمَعْنَى (عَلَى). وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وعليهم، فحذف (عليهم). و" الَّذِينَ أَسْلَمُوا" هاهنا نعت فيه
معنى المدح مثل
__________
(1). من ع وك.
(6/188)
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"."
هادُوا" أَيْ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: فِيهِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينَ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، أَيْ
وَيَحْكُمُ بِهَا الرَّبَّانِيُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ
يَسُوسُونَ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَيُرَبُّونَهُمْ بِصِغَارِهِ
قَبْلَ كِبَارِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ «1». وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ:
الرَّبَّانِيُّونَ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ وَالْأَحْبَارُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ: وَالْحِبْرُ
وَالْحَبْرُ الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وَهُوَ
التَّحْسِينُ، فَهُمْ يُحَبِّرُونَ الْعِلْمَ أَيْ
يُبَيِّنُونَهُ وَيُزَيِّنُونَهُ، وَهُوَ مُحَبَّرٌ فِي
صُدُورِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ
الْعُلَمَاءِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْمُبَالَغَةِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالْحِبْرُ وَالْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ
الْيَهُودِ، وَبِالْكَسْرِ أَفْصَحُ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى
أَفْعَالٍ دُونَ «2» الْفُعُولِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ
حِبْرٌ بِالْكَسْرِ يُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ: سَأَلْتُ الْفَرَّاءَ لِمَ سُمِّيَ الْحِبْرُ
حِبْرًا؟ فَقَالَ: يُقَالُ لِلْعَالِمِ حِبْرٌ وَحَبْرٌ
فَالْمَعْنَى مِدَادُ حِبْرٍ ثُمَّ حُذِفَ كَمَا قَالَ:"
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «3» [يوسف: 82] أَيْ أَهْلَ
الْقَرْيَةِ. قَالَ: فَسَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ فَقَالَ لَيْسَ
هَذَا بِشَيْءٍ، إِنَّمَا سُمِّيَ حِبْرًا لِتَأْثِيرِهِ،
يُقَالُ: عَلَى أَسْنَانِهِ حِبْرٌ «4» أَيْ صُفْرَةٌ أَوْ
سَوَادٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُمِّيَ الْحِبْرُ
الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حِبْرًا لِأَنَّهُ يُحْبَرُ بِهِ أَيْ
يُحَقَّقُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي عِنْدِي
فِي وَاحِدِ الْأَحْبَارِ الْحَبْرُ بِالْفَتْحِ وَمَعْنَاهُ
الْعَالِمُ بِتَحْبِيرِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَتَحْسِينِهِ.
قَالَ: وَهَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ كُلُّهُمْ
بِالْفَتْحِ، وَالْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ وَمَوْضِعُهُ
الْمِحْبَرَةُ بِالْكَسْرِ. وَالْحِبْرُ أَيْضًا الْأَثَرُ
وَالْجَمْعُ حُبُورٌ، عَنْ يَعْقُوبَ. (بِمَا اسْتُحْفِظُوا
مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أَيِ اسْتُوْدِعُوا مِنْ عِلْمِهِ.
وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ ب" الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ"
كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. أَوْ
تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِ"- يَحْكُمُ" أَيْ يَحْكُمُونَ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أَيْ عَلَى
الْكِتَابِ بأنه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ:
شُهَدَاءُ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ)
أَيْ فِي إِظْهَارِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَإِظْهَارِ الرَّجْمِ (وَاخْشَوْنِ) أَيْ فِي
كِتْمَانِ ذَلِكَ، فَالْخِطَابُ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ.
وَقَدْ يَدْخُلُ بِالْمَعْنَى كُلُّ مَنْ كَتَمَ حَقًّا وَجَبَ
عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى" وَلا
تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا" مستوفى «5».
__________
(1). راجع ج 4 ص 122.
(2). في القاموس: ج أحبار وحبور.
(3). راجع ج 9 ص 245.
(4). في ج وع وك: حبرة. في المصباح: الحبر بفتحتين صفرة أخ.
(5). راجع ج 1 ص 334.
(6/189)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و
(الظَّالِمُونَ) و (الْفاسِقُونَ) نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي
الْكُفَّارِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
الْبَرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ
كَبِيرَةً. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ رَدًّا لِلْقُرْآنِ،
وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا. قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالْكُفَّارِ أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ
وَمُسْتَحِلًّا لَهُ، فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ
مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ رَاكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ
عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ
وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِلَّا أَنَّ
الشَّعْبِيَّ قَالَ: هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً،
وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ذُكِرُوا
قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ:" لِلَّذِينَ هادُوا"، فَعَادَ
الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ" وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ" فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ،
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا
الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:" مَنْ" إِذَا
كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ
دَلِيلٌ على تخصيصها؟ قيل له:" فَمَنْ" هُنَا بِمَعْنَى
الَّذِي مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ،
وَالتَّقْدِيرُ: وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَهَذَا
مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا، وَيُرْوَى أَنَّ
حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَهِيَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ، وَلَتَسْلُكُنَّ
سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ. وَقِيلَ:"
الْكافِرُونَ" لِلْمُسْلِمِينَ، و" الظَّالِمُونَ" لليهود، و"
الَفاسِقُونَ" لِلنَّصَارَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ.
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وابن شبرمة والشعب أَيْضًا. قَالَ
طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عن الملة، ولكنه
كفر دون كفر، «1»
__________
(1). قال في البحر: يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر.
قلت: هو كفر النعمة عند الإباضية.
(6/190)
وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا
عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ تَبْدِيلٌ
لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى
وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى
أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ
ارْتَشَى وَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ،
وَعُزِيَ هَذَا إِلَى الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ
الْحَسَنُ أَيْضًا: أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَلَّا يَتَّبِعُوا
الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا
يَشْتَرُوا بآياته ثمنا قليلا.
[سورة المائدة (5): آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ
تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّفْسِ وَالنَّفْسِ
فِي التَّوْرَاةِ فَخَالَفُوا ذَلِكَ، فَضَلُّوا، فَكَانَتْ
دِيَةُ النَّضِيرِيِّ أَكْثَرَ، وَكَانَ النَّضِيرِيُّ لَا
يُقْتَلُ بِالْقُرَظِيِّ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْقُرَظِيُّ
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَاجَعَ بَنُو قُرَيْظَةَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَحَكَمَ
بِالِاسْتِوَاءِ، فَقَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: قَدْ حَطَطْتَ
مِنَّا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. و" كَتَبْنا" بِمَعْنَى
فَرَضْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَانَ شَرْعُهُمُ الْقِصَاصَ
أَوِ الْعَفْوَ، وَمَا كَانَ فِيهِمُ الدِّيَةُ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «1» بَيَانُهُ. وَتَعَلَّقَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يُقْتَلُ
الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2» بَيَانُ هَذَا. وَقَدْ رَوَى
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ خَصَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ:
لَا، إِلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ
سَيْفِهِ وَإِذَا فِيهِ (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ
دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُقْتَلُ
مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) وَأَيْضًا
فَإِنَّ الآية إنما جاءت
__________
(1). راجع ج 2 ص 244، 246.
(2). راجع ج 2 ص 244، 246.
(6/191)
لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي
الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَأَخْذِهِمْ مِنْ
قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَمِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى رَجُلًا
بِرَجُلَيْنِ. وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ
شَرْعًا لَنَا، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1» فِي
الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَا يَكْفِي فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" وَكَانَ ذَلِكَ
مَكْتُوبًا عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَهُمْ مِلَّةٌ
وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ كَمَا
لِلْمُسْلِمِينَ أهل ذمة، لان الجزية في وغنيم أَفَاءَهَا
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْفَيْءَ
لِأَحَدٍ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ
فِيمَا مَضَى مَبْعُوثًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، فَأَوْجَبَتِ
الْآيَةُ الْحُكْمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَانَتْ
دِمَاؤُهُمْ تَتَكَافَأُ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْوَاحِدِ
مِنَّا فِي دِمَاءِ سِوَى الْمُسْلِمِينَ النَّفْسُ
بِالنَّفْسِ، إِذْ يُشِيرُ إِلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ،
وَيَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّفْسَ
مِنْهُمْ «2» بِالنَّفْسِ، فَالَّذِي يَجِبُ بِحُكْمِ هَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِيمَا
بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ-: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ،
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ.
الثَّانِيَةُ- قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ: إِذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْأُذُنَ أَوِ الْيَدَ
ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا
أَخَذَ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا:
إِنْ قَصَدَ بِهِ الْمُثْلَةَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ
قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي
الْمُثْلَةِ يَجِبُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ،
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ «3».
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ
بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِهَا عَلَى الْعَطْفِ، وَيَجُوزُ
تَخْفِيفُ" أَنَّ" وَرَفْعُ الْكُلِّ بِالِابْتِدَاءِ
وَالْعَطْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِنَصْبِ الْكُلِّ إلا الجروح. وكان
الكسائي وأبو عبيد يقرءان" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ" بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا. قَالَ
أَبُو عبيد: حدثنا حجاج عن هرون عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ
عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزهري عن
__________
(1). راجع ج 2 ص 244.
(2). في ع: أن النفس بالنفس بينهم.
(3). راجع ص 148 من هذا الجزء.
(6/192)
أنس النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ «1»
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ". وَالرَّفْعُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ،
بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَعَلَى الْمَعْنَى عَلَى
مَوْضِعِ" أَنَّ النَّفْسَ"، لِأَنَّ الْمَعْنَى قُلْنَا
لَهُمْ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ-
قَالَهُ الزَّجَّاجُ- يَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي
النَّفْسِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي النَّفْسِ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ
مَأْخُوذَةٌ بِالنَّفْسِ، فَالْأَسْمَاءُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى
هِيَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ
جَعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، حُكْمٌ فِي الْمُسْلِمِينَ،
«2» وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا
قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" وَكَذَا مَا بَعْدَهُ. وَالْخِطَابُ
لِلْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِهَذَا. وَمَنْ خَصَّ الْجُرُوحَ
بِالرَّفْعِ فَعَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهَا
وَالِاسْتِئْنَافِ بِهَا، كَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا
بِهَذَا خَاصَّةً وَمَا قَبْلَهُ لَمْ يُوَاجَهُوا بِهِ.
الرَّابِعَةُ-: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ
الْقِصَاصِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ تَعَلَّقَ ابْنُ شُبْرُمَةَ
بِعُمُومِ قَوْلِهِ:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" عَلَى أَنَّ
الْيُمْنَى تُفْقَأُ بِالْيُسْرَى وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ،
وَأَجْرَى ذَلِكَ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى،
وَقَالَ: تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ وَالضِّرْسِ
بِالثَّنِيَّةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ". وَالَّذِينَ خَالَفُوهُ وَهُمْ عُلَمَاءُ
الْأُمَّةِ قَالُوا: الْعَيْنُ الْيُمْنَى هِيَ الْمَأْخُوذَةُ
بِالْيُمْنَى عِنْدَ وُجُودِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ
إِلَى الْيُسْرَى «3» مَعَ الرِّضَا، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَنَا
أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ"
اسْتِيفَاءُ مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْجَانِي، فَلَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَتَعَدَّى
مِنَ الرِّجْلِ إِلَى الْيَدِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا،
وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. الْخَامِسَةُ- وَأَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ إِذَا أُصِيبَتَا
خَطَأً فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ
نِصْفُ الدِّيَةِ. وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ إِذَا فُقِئَتِ
الدِّيَةُ كَامِلَةً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ،
وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالزُّهْرِيُّ
وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ. وَقِيلَ: نِصْفُ الدِّيَةِ، رُوِيَ] ذَلِكَ [«4»
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَمَسْرُوقٍ
وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قال الثوري
__________
(1). في البحر: بتخفيف أن. إلخ، ثم قال: يحتمل أن وجهين أحدهما
أن تكون مصدرية. إلخ. [ ..... ]
(2). أي وبيان حكم جديد في المسلمين. كما في (روح المعاني).
(3). كذا في الأصول وصوابه: إلا مع الرضا. كما في البحر.
(4). من ع وك.
(6/193)
وَالشَّافِعِيُّ وَالنُّعْمَانُ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ
(فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ) وَمَعْقُولٌ إِذْ كَانَ
كَذَلِكَ أَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ
عُلَمَاؤُنَا قَالُوا: إِنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْوَرِ
بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ،
فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ دِيَتِهِ. السَّادِسَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ صَحِيحٍ،
فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُ لَا
قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، وَبِهِ
قَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ فَتَرَكَهُ
أَعْمَى، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ كَامِلَةً (دِيَةَ
عَيْنِ «1» الْأَعْوَرِ). وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنْ شَاءَ
اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ
قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ،
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" وَجَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ، فَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَالْقِصَاصُ بَيْنَ صَحِيحِ الْعَيْنِ وَالْأَعْوَرِ
كَهَيْئَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ. وَمُتَعَلَّقُ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهُ أَخْذَ جَمِيعِ
الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةٍ، وَبِمَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ،
وَمُتَمَسَّكُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا تَعَارَضَتْ
خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ. فال ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي
عَيْنِ الْأَعْوَرِ الَّتِي لَا يُبْصِرُ بِهَا، فَرُوِيَ عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: فِيهَا ثُلُثُ
دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهَا
نِصْفُ دِيَتِهَا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ: فِيهَا
حُكُومَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ لِأَنَّهُ
الْأَقَلُّ مِمَّا قِيلَ. الثَّامِنَةُ- وَفِي إِبْطَالِ
الْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَتَيْنِ
كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَعْمَشُ «2»
وَالْأَخْفَشُ «3». وَفِي إِبْطَالِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا مَعَ
بَقَائِهَا النِّصْفُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وأحسن
__________
(1). كذا في الأصول إلا ع: دية غير الأعور. وهو الوجه.
(2). العمش (محركة) ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات.
(3). الخفش (محركة): ضعف في البصر خلقة وضيق في العين أو فساد
في الجفون بلا وجع، أو أن يبصر بالليل دون النهار وفي يوم غيم
دون صحو.
(6/194)
مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ
فَغُطِّيَتْ وَأُعْطِيَ رَجُلٌ بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا
وَهُوَ يَنْظُرُ حَتَّى انْتَهَى نَظَرُهُ، ثُمَّ أَمَرَ
بِخَطٍّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الْأُخْرَى
فَغُطِّيَتْ وَفُتِحَتِ الصَّحِيحَةُ، وَأُعْطِيَ رَجُلٌ
بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ حَتَّى انْتَهَى
نَظَرُهُ ثُمَّ خَطَّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ
فَحُوِّلَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَفُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ
فَوَجَدَهُ سَوَاءً، فَأَعْطَى مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِهِ مِنْ
مَالِ الْآخَرِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ
قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَهِيَ: التَّاسِعَةُ- وَلَا خِلَافَ
بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا قَوَدَ فِي بَعْضِ
الْبَصَرِ، إِذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ الْوُصُولُ إِلَيْهِ.
وَكَيْفِيَّةُ الْقَوَدِ فِي الْعَيْنِ أَنْ تُحْمَى مِرْآةٌ
ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنَةٌ، ثُمَّ
تُقَرَّبُ الْمِرْآةُ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى يَسِيلَ
إِنْسَانُهَا، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَاخْتُلِفَ
فِي جَفْنِ الْعَيْنِ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِيهِ
رُبُعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ «1» وَالثَّوْرِيِّ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْجَفْنِ الْأَعْلَى ثُلُثُ
الدِّيَةِ وَفِي الْجَفْنِ الْأَسْفَلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ،
وَبِهِ قَالَ مالك. العشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ) " جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (وَفِي الْأَنْفِ إِذَا
أُوعِبَ «2» جَدْعًا الدِّيَةُ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَالْقِصَاصُ مِنَ الْأَنْفِ إِذَا
كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا كَالْقِصَاصِ مِنْ سَائِرِ
الْأَعْضَاءِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا
فِي كَسْرِ الْأَنْفِ. فَكَانَ مَالِكُ يَرَى فِي الْعَمْدِ
مِنْهُ الْقَوَدَ، وَفِي الْخَطَأِ الِاجْتِهَادَ. وَرَوَى
ابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْأَنْفِ حَتَّى
يَسْتَأْصِلَهُ مِنْ أَصْلِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
التُّونِسِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ.
وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَعْرُوفِ فَفِي بَعْضِ
الْمَارِنِ مِنَ الدية بحساب مِنَ الْمَارِنِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَمَا قُطِعَ مِنَ الْأَنْفِ فَبِحِسَابِهِ،
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَارِنِ إِذَا قُطِعَ وَلَمْ
يَسْتَأْصِلِ الْأَنْفَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ
الدية كاملة، ثم إن قطع منه شي بعد ذلك ففيه
__________
(1). سقط أبو هاشم من ك وع، وهو الرماني من أقران الثوري. وفي
ج: ابن هاشم.
(2). أي استؤصل قطعه.
(6/195)
حُكُومَةٌ. قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي فِيهِ
الدِّيَةُ مِنَ الْأَنْفِ أَنْ يُقْطَعَ الْمَارِنُ، وَهُوَ
دُونَ الْعَظْمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ قُطِعَ
الْمَارِنُ مِنَ الْعَظْمِ أَوِ اسْتُؤْصِلَ الْأَنْفُ مِنَ
الْعَظْمِ مِنْ تَحْتِ الْعَيْنَيْنِ إِنَّمَا فِيهِ
الدِّيَةُ، كَالْحَشَفَةِ فِيهَا الدِّيَةُ: وَفِي
اسْتِئْصَالِ الذَّكَرِ الدِّيَةُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ-
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا خُرِمَ الْأَنْفُ أَوْ كُسِرَ
فَبَرِئَ عَلَى عَثْمٍ «1» فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ
فِيهِ دِيَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عثم فلا
شي فِيهِ. قَالَ: وَلَيْسَ الْأَنْفُ إِذَا خُرِمَ فَبَرِئَ
عَلَى غَيْرِ عَثْمٍ كَالْمُوضِحَةِ «2» تَبْرَأُ عَلَى غَيْرِ
عَثْمٍ فَيَكُونُ فِيهَا دِيَتُهَا، لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ
بِهَا السُّنَّةُ، وَلَيْسَ فِي خَرْمِ الْأَنْفِ أَثَرٌ.
قَالَ: وَالْأَنْفُ عَظْمٌ مُنْفَرِدٌ لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ.
وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا عَلَى
أَنْ لَا جَائِفَةَ فِيهِ، وَلَا جَائِفَةَ عِنْدَهُمْ إِلَّا
فِيمَا كَانَ فِي الْجَوْفِ،. وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنَ
الْأَنْفِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: وَأَظُنُّ رَوْثَتَهُ مَارِنَهُ، وَأَرْنَبَتَهُ
طَرَفَهُ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَرْنَبَةُ وَالرَّوْثَةُ
وَالْعَرْتَمَةُ طَرَفُ الْأَنْفِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ
الْفُقَهَاءُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَمَنْ
تَبِعَهُمْ، فِي الشَّمِّ إِذَا نَقَصَ أَوْ فُقِدَ حُكُومَةٌ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ،
وَيُقَاسُ فِي نُقْصَانِهِ كَمَا يُقَاسُ فِي الْبَصَرِ. وَفِي
إِبْطَالِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ يَسْمَعُ إِلَّا بِهَا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ
الْعَوْرَاءِ فِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةً، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ السَّمْعُ إِذَا
سُئِلَ عَنْهُ قِيلَ إِنَّ أَحَدَ السَّمْعَيْنِ يَسْمَعُ مَا
يَسْمَعُ السَّمْعَانِ فَهُوَ عِنْدِي كَالْبَصَرِ، وَإِذَا
شُكَّ فِي السَّمْعِ جُرِّبَ بِأَنْ يُصَاحَ بِهِ مِنْ
مَوَاضِعَ عِدَّةٍ، يُقَاسُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَسَاوَتْ أَوْ
تَقَارَبَتْ أُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ سَمْعِهِ
وَيُحَلَّفُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَشْهَبُ: وَيُحْسَبُ لَهُ
ذَلِكَ عَلَى سَمْعٍ وَسَطٍ من الرجل مِثْلَهُ، فَإِنِ
اخْتُبِرَ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ له شي. وَقَالَ
عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: إِذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ عقل له الأقل
مع يمينه.
__________
(1). العثم، الجبر على غير استواء.
(2). الموضحة: هي التي بلغت العظم فأوضحت عنه. وقيل: هي التي
تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم أو تشقها حتى تبدو وضح
العظم.
(6/196)
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ سِنٍّ وَقَالَ: (كِتَابُ اللَّهِ
الْقِصَاصُ). وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (فِي السِّنِّ خَمْسٌ
مِنَ الْإِبِلِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَبِظَاهِرِ هَذَا
الْحَدِيثِ نَقُولُ، لَا فَضْلَ لِلثَّنَايَا مِنْهَا عَلَى
الْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ وَالرَّبَاعِيَاتِ «1»،
لِدُخُولِهَا كُلِّهَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهِ يَقُولُ
الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ
الحديث ولم يفضل شيئا منها على شي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَالنُّعْمَانُ وَابْنُ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ.
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ- رُوِّينَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ
بِخَمْسِ فَرَائِضَ خَمْسِ فَرَائِضَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ
دِينَارًا، قِيمَةُ كُلِّ فَرِيضَةٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ.
وَفِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ. وَكَانَ عَطَاءٌ
يَقُولُ: فِي السِّنِّ وَالرَّبَاعِيَتَيْنِ وَالنَّابَيْنِ
خَمْسٌ خَمْسٌ، وَفِيمَا بَقِيَ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ،
أَعْلَى الْفَمِ وَأَسْفَلُهُ سَوَاءٌ، وَالْأَضْرَاسُ
سَوَاءٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي
مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ
بَعِيرٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَضْرَاسَ
عِشْرُونَ ضِرْسًا، وَالْأَسْنَانَ اثْنَا عَشَرَ سِنًّا:
أَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ وَأَرْبَعُ
أَنْيَابٍ، فَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ تَصِيرُ الدِّيَةُ
ثَمَانِينَ بَعِيرًا، فِي الْأَسْنَانِ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ،
وَفِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ. وَعَلَى قَوْلِ
مُعَاوِيَةَ فِي الْأَضْرَاسِ وَالْأَسْنَانِ خَمْسَةُ
أَبْعِرَةٍ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، تَصِيرُ الدِّيَةُ سِتِّينَ
وَمِائَةَ بَعِيرٍ. وَعَلَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ فِي الْأَضْرَاسِ وَهِيَ عِشْرُونَ
ضِرْسًا. يَجِبُ لَهَا أَرْبَعُونَ. وَفِي الأسنان خمسة أبعرة
خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ فَذَلِكَ سِتُّونَ، وَهِيَ تَتِمَّةُ
الْمِائَةِ بَعِيرٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ كَامِلَةً مِنَ
الْإِبِلِ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي
الْأَضْرَاسِ لَا فِي الْأَسْنَانِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
فِي دِيَاتِ الْأَسْنَانِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ
كَثِيرٌ جِدًّا، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْفُقَهَاءُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ،
بِظَاهِرِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (وَفِي السن خمس من الإبل)
__________
(1). الرباعية (كثمانية): والسن التي بين الثنية والناب.
(6/197)
وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الْأَسْنَانِ.
رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ
وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ
هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا نَصٌّ أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذِهِ الْآثَارِ جَمَاعَةُ
فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
الْأَصَابِعَ فِي الدِّيَةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ
الْأَسْنَانَ فِي الدِّيَةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ، الثَّنَايَا
وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ لَا يفضل شي منها على شي، عَلَى
مَا فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. ذَكَرَ الثَّوْرِيُّ
عَنْ أَزْهَرَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إِلَى شُرَيْحٍ
رَجُلَانِ ضَرَبَ أَحَدُهُمَا ثَنِيَّةَ الْآخَرِ وَأَصَابَ
الْآخَرُ ضِرْسَهُ فَقَالَ شُرَيْحٌ: الثَّنِيَّةُ
وَجَمَالُهَا وَالضِّرْسُ وَمَنْفَعَتُهُ سِنٌّ بِسِنٍّ
قُوِّمَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذَا الْعَمَلُ
الْيَوْمَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ
فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَشُرَيْحٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ:
فِيهَا حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وهذا عندي خلاف
يؤول إِلَى وِفَاقٍ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ
مَنْفَعَتَهَا وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ
الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي
وُجُوبِ الدِّيَةِ، ثُمَّ إن كان بقي من منفعتها شي أو جميعه
لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ
حُكُومَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[«1» فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا لَمْ يَصِحْ عَنْهُ سَنَدًا
وَلَا فِقْهًا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي
سِنِّ الصَّبِيِّ يُقْلَعُ قَبْلَ أَنْ يُثْغِرَ «2»، فَكَانَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ:
إِذَا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شي عَلَى الْقَالِعِ، إِلَّا
أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: إِذَا نَبَتَتْ
نَاقِصَةَ الطُّولِ عَنِ التِي تُقَارِبُهَا أُخِذَ لَهُ مِنْ
أَرْشِهَا بِقَدْرِ نَقْصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهَا
حُكُومَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وبه قال
النعمان. قال ابن المنذر:
__________
(1). من ع.
(2). اثغر الغلام: سقطت أسنانه الرواضع.
(6/198)
يُسْتَأْنَى بِهَا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي
يَقُولُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إِنَّهَا لَا تَنْبُتُ، فَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا قَدْرُهَا تَامًّا، عَلَى ظَاهِرِ
الْحَدِيثِ، وَإِنْ نَبَتَتْ رُدَّ الْأَرْشُ. وَأَكْثَرُ مَنْ
يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ:
يُسْتَأْنَى بِهَا سَنَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَزَيْدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ
وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وأصحاب الرأي. ولم يجعل
الشافع لِهَذَا «1» مُدَّةً مَعْلُومَةً. السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ- إِذَا قُلِعَ سِنُّ الْكَبِيرِ فَأَخَذَ دِيَتَهَا
ثُمَّ نَبَتَتْ، فَقَالَ مَالِكٌ لَا يَرُدُّ مَا أَخَذَ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَرُدُّ إِذَا نَبَتَتْ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: يَرُدُّ وَلَا يرد، لان هذا نبات
لم تجربه عَادَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ،
هَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا. تَمَسَّكَ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ
عِوَضَهَا قَدْ نَبَتَ فَيُرَدُّ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا جَانٍ آخَرَ
وَقَدْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً كَانَ فِيهَا أَرْشُهَا تَامًّا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ،
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالِعُ سِنٍّ، وَقَدْ جَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّنِّ
«2» خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَلَوْ
قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فردها صاحبها فالتحمت فلا شي
فِيهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَقَالَهُ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ. وَلَوْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ
صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ
قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَرَدَّهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ
فَالْتَزَقَتْ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْبِرُهُ
السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ
أَلْصَقَهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا غَلَطٌ،
وَقَدْ جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا
وَعَوْدَهَا بِصُورَتِهَا لَا يُوجِبُ عَوْدَهَا بِحُكْمِهَا،
لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ، وَقَدْ
عَادَتْ مُتَّصِلَةٌ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ
صِفَاتٌ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ
إِلَى قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا وَإِخْبَارِهِ
عَنْهَا. قُلْتُ: مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ عَطَاءٍ
خِلَافَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي السِّنِّ تُقْلَعُ قَوَدًا
ثُمَّ تُرَدُّ مَكَانَهَا فَتَنْبُتُ، فَقَالَ عَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا بَأْسَ
بِذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ:
تُقْلَعُ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلشِّيْنِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مِنْ قِبَلِ
أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَيُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى القلع.
__________
(1). في ع وك: لها. [ ..... ]
(2). في ع: فيها.
(6/199)
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- فَلَوْ كَانَتْ
لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَبِهِ
قَالَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ:
فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَيْسَ
فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا يَصِحُّ مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: فِي السِّنِّ إِذَا
كُسِرَ بَعْضُهَا أُعْطِيَ صَاحِبُهَا بِحِسَابِ مَا نَقَصَ
مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَهُنَا انْتَهَى مَا نَصَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرِ
الشَّفَتَيْنِ وَاللِّسَانَ وَهِيَ: التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ-
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وفي كل
واحدة منهما نص الدِّيَةِ لَا فَضْلَ لِلْعُلْيَا مِنْهُمَا
عَلَى السُّفْلَى. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ: فِي الشَّفَةِ
الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الشَّفَةِ السُّفْلَى
ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ
الْأَوَّلِ أَقُولُ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (وَفِي
الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ) وَلِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ
وَمَنَافِعَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَمَا قُطِعَ مِنَ
الشَّفَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. وَأَمَّا اللِّسَانُ
فَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ).
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ
الرَّأْيِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ
يَجْنِي عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ فَيَقْطَعُ مِنَ اللِّسَانِ
شَيْئًا، وَيَذْهَبُ مِنَ الْكَلَامِ بَعْضُهُ، فَقَالَ
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُنْظَرُ إِلَى مِقْدَارِ مَا
ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا
فَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ
كَلَامِهِ، وَإِنْ ذَهَبَ الْكَلَامُ كُلُّهُ فَفِيهِ
الدِّيَةُ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ
فِي اللِّسَانِ قَوَدٌ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ
الْقَوَدِ. فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ الْأَصْلُ.
الحادية والعشرون- وَاخْتَلَفُوا فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ
يُقْطَعُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَصَاحِبَاهُ:
فِيهِ حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ
شَاذَّانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُ النَّخَعِيِّ إِنَّ فِيهِ
الدِّيَةَ. وَالْآخَرُ- قَوْلُ قَتَادَةَ أن فيه ثلث الدية.
فال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ،
لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ مِمَّا قِيلَ. قَالَ
(6/200)
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَصَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ
بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا، فَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ
الْقِصَاصُ إِذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ،
وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ «1» مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ
صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ
إِمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أَيْ مُقَاصَّةٌ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2». وَلَا قِصَاصَ فِي
كُلِّ مَخُوفٍ وَلَا فِيمَا لَا يُوصَلُ إِلَى الْقِصَاصِ
فِيهِ إِلَّا بِأَنْ يُخْطِئَ الضَّارِبُ أَوْ يَزِيدَ أَوْ
يَنْقُصَ. وَيُقَادُ مِنْ جِرَاحِ الْعَمْدِ إِذَا كَانَ
مِمَّا يُمْكِنُ الْقَوَدُ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي
الْعَمْدِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَالدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَتِ
الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُخْتَ
الرُّبَيِّعِ- أُمَّ حَارِثَةَ- جَرَحَتْ إِنْسَانًا
فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الْقِصَاصُ الْقِصَاصُ)، فَقَالَتْ أُمُّ الربيع:
يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ
مِنْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ
الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ) قَالَتْ:] لَا [«3» وَاللَّهِ لَا
يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا،] قَالَ [«4» فَمَا زَالَتْ حَتَّى
قَبِلُوا الدِّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ
أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ). قُلْتُ: الْمَجْرُوحُ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَارِيَةٌ، وَالْجُرْحُ كَسْرُ
ثَنِيَّتُهَا، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا
أَنَّ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَقَضَى نَبِيُّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ،
فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ
فُلَانَةٍ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ
ثَنِيَّتُهَا. قَالَ: وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا
أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالْأَرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا
وَهُوَ عَمُّ أَنَسٍ- وَهُوَ الشَّهِيدُ يَوْمَ أُحُدٍ- رَضِيَ
الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ من عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ
أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ). وَخَرَّجَهُ أَبُو
دَاوُدَ أَيْضًا، وَقَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يُقْتَصُّ من السن؟ قال: تبرد.
__________
(1). في ع. ذهبت.
(2). راجع ج 2 ص 244 فما بعدها.
(3). الزيادة عن صحيح مسلم.
(4). من ج وع وك.
(6/201)
قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ
الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلَفَ فَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُمَا. وَفِي
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ «1» إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.] فَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّثَبُّتَ عَلَى
الْإِيمَانِ بِكَرَامَاتِهِمْ وَأَنْ يَنْظِمَنَا فِي
سِلْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ مِحْنَةٍ وَلَا فِتْنَةٍ [«2».
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ" أَنَّهُ فِي
الْعَمْدِ، فَمَنْ أَصَابَ سِنَّ أَحَدٍ عَمْدًا فَفِيهِ
الْقِصَاصُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ
عِظَامِ الْجَسَدِ إِذَا كُسِرَتْ عَمْدًا، فَقَالَ مَالِكٌ:
عِظَامُ الْجَسَدِ كُلُّهَا فِيهَا الْقَوَدُ إِلَّا مَا كَانَ
مَخُوفًا مِثْلَ الْفَخِذِ وَالصُّلْبِ وَالْمَأْمُومَةِ
وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْهَاشِمَةِ، فَفِي ذَلِكَ الدِّيَةُ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ يُكْسَرُ مَا
خَلَا السِّنَّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ"
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ كَسْرٌ كَكَسْرٍ أَبَدًا، فَهُوَ
مَمْنُوعٌ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
قِصَاصَ فِي عَظْمِ الرَّأْسِ، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ
الْعِظَامِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي
السِّنِّ وَهِيَ عَظْمٌ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِظَامِ إِلَّا
عَظْمًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، لِخَوْفِ
ذَهَابِ النَّفْسِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَنْ
قَالَ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ للحديث،
والخروج إلى النظر غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ وُجُودِ الْخَبَرِ.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «3»] البقرة: 194]، وَقَوْلُهُ:" وَإِنْ
عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ" «4»]
النحل: 126] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. [وَاللَّهُ
«5» أَعْلَمُ] وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الرَّابِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَمَا
جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ فِي الشِّجَاجِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ
وَغَيْرُهُ: دَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، أَوَّلُ
الشِّجَاجِ- الْحَارِصَةُ وَهِيَ: الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ-
يَعْنِي الَّتِي تَشُقُّهُ قَلِيلًا- وَمِنْهُ قِيلَ: حَرَصَ
الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ، وَقَدْ يُقَالُ لَهَا:
الْحَرْصَةُ أَيْضًا. ثُمَّ الْبَاضِعَةُ- وَهِيَ: الَّتِي
تَشُقُّ اللَّحْمَ تَبْضَعُهُ بَعْدَ الْجِلْدِ. ثُمَّ
الْمُتَلَاحِمَةُ- وَهِيَ: الَّتِي أَخَذَتْ فِي الجلد ولم
تبلغ السمحاق.
__________
(1). هي قصته المشهورة مع سيدنا موسى عليهما السلام وستأتي في
سورة (الكهف) إن شاء الله. ج 11 ص 16 فما بعد.
(2). من ع.
(3). راجع ج 2 ص 354.
(4). راجع ج 10 ص 200
(5). من ع.
(6/202)
وَالسِّمْحَاقُ: جِلْدَةٌ أَوْ قِشْرَةٌ
رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: هِيَ عِنْدَنَا الْمِلْطَى. وَقَالَ غَيْرُهُ:
هِيَ الْمِلْطَاةُ، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا
الْحَدِيثُ (يُقْضَى فِي الْمِلْطَاةِ بِدَمِهَا). ثُمَّ
الْمُوضِحَةُ- وَهِيَ: الَّتِي تَكْشِطُ عَنْهَا ذَلِكَ
الْقِشْرَ أَوْ تَشُقُّ حَتَّى يَبْدُوَ وَضَحُ «1» الْعَظْمِ،
فَتِلْكَ الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شي مِنَ الشِّجَاجِ
قِصَاصٌ إِلَّا فِي الْمُوضِحَةِ خَاصَّةً، لأنه ليس منها شي
لَهُ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ سِوَاهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا
مِنَ الشِّجَاجِ فَفِيهَا دِيَتُهَا. ثُمَّ الْهَاشِمَةُ-
وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ. ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ-
بِكَسْرِ الْقَافِ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ- وَهِيَ الَّتِي
تُنَقِّلُ الْعَظْمَ- أَيْ تَكْسِرُهُ- حَتَّى يَخْرُجَ
مِنْهَا فَرَاشُ الْعِظَامِ مَعَ الدَّوَاءِ. ثُمَّ الْآمَّةُ-
وَيُقَالُ لَهَا الْمَأْمُومَةُ- وَهِيَ التي تبلغ أم الرأس،
يعني الدماغ. فال أَبُو عُبَيْدٍ وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ:
(وَيُقْضَى فِي الْمِلْطَاةِ بِدَمِهَا) أَنَّهُ إِذَا شَجَّ
الشَّاجُّ حُكِمَ عَلَيْهِ لِلْمَشْجُوجِ بِمَبْلَغِ
الشَّجَّةِ سَاعَةَ شُجَّ وَلَا يُسْتَأْنَى بِهَا. قَالَ:
وَسَائِرُ الشِّجَاجِ] عِنْدَنَا [«2» يُسْتَأْنَى بِهَا
حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهَا ثُمَّ يُحْكَمُ
فِيهَا حِينَئِذٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْأَمْرُ
عِنْدَنَا فِي الشِّجَاجِ كُلِّهَا وَالْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا؟
أَنَّهُ؟ يُسْتَأْنَى بِهَا، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ
حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا
دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا صُلْحٌ. وَقَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ
قِصَاصٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ
الْمُوضِحَةِ الْمِلْطَى وَالدَّامِيَةُ وَالْبَاضِعَةُ وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزَادُوا
السِّمْحَاقَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: الدَّامِيَةُ الَّتِي تَدْمَى مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ. وَالدَّامِعَةُ: أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا
دَمٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ. وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالدَّامِيَةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَدْمَى
وَلَا تَسِيلُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الدَّامِيَةُ هِيَ
الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ. وَلَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ
الْمُوضِحَةِ، مِنَ الْهَاشِمَةِ لِلْعَظْمِ،
وَالْمُنَقِّلَةِ- عَلَى خِلَافٍ فِيهَا خَاصَّةً- وَالْآمَّةُ
هِيَ الْبَالِغَةُ إِلَى أُمِّ الرَّأْسِ، وَالدَّامِغَةُ
الْخَارِقَةُ لِخَرِيطَةِ الدِّمَاغِ. وَفِي هَاشِمَةِ
الْجَسَدِ الْقِصَاصُ، إِلَّا مَا هُوَ مَخُوفٌ كَالْفَخِذِ
وَشِبْهِهِ. وَأَمَّا هَاشِمَةُ الرَّأْسِ فَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: لَا قَوَدَ فِيهَا، لِأَنَّهَا لَا بُدَّ تَعُودُ
مُنَقِّلَةً. وَقَالَ أَشْهَبُ: فِيهَا الْقِصَاصُ، إِلَّا
أَنْ تُنَقِّلَ فَتَصِيرُ مُنَقِّلَةً لا قود فيها. وأما
الاطراف فيجب
__________
(1). وضح العظم بياضه.
(2). من ع.
(6/203)
الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِ الْمَفَاصِلِ
إِلَّا الْمَخُوفِ مِنْهَا. وَفِي مَعْنَى الْمَفَاصِلِ
أَبْعَاضُ الْمَارِنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالذَّكَرِ
وَالْأَجْفَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، لِأَنَّهَا تَقْبَلُ
التَّقْدِيرَ. وَفِي اللِّسَانِ رِوَايَتَانِ. وَالْقِصَاصُ
فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا كَانَ مُتْلِفًا كَعِظَامِ
الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ وَشِبْهِهِ.
وَفِي كَسْرِ عِظَامِ الْعَضُدِ الْقِصَاصُ. وَقَضَى أَبُو
بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي رَجُلٍ
كَسَرَ فَخِذَ رَجُلٍ أَنْ يُكْسَرَ فَخِذَهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدِ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى
مَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ: إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ
عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ «1»، وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي بِلَادِنَا
فِي الرَّجُلِ يَضْرِبُ الرَّجُلَ فيتقيه بيده فكسرها يُقَادُ
مِنْهُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ الْعُلَمَاءُ:
الشِّجَاجُ فِي الرَّأْسِ، وَالْجِرَاحُ فِي الْبَدَنِ.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِيمَا دُونَ
الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ فيا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْأَرْشِ. وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ
شِجَاجٌ خَمْسٌ: الدَّامِيَةُ وَالدَّامِعَةُ وَالْبَاضِعَةُ
وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ، فَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ] وَإِسْحَاقُ [«2» وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ فِي الدَّامِيَةِ حُكُومَةٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ
حُكُومَةٌ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ حُكُومَةٌ. وَذَكَرَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فِي الدَّامِيَةِ
بَعِيرٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَانِ، وَفِي
الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي
السِّمْحَاقُ أَرْبَعٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ، وَفِي
الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ،
وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الرَّجُلِ
يُضْرَبُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، أَوْ
يُضْرَبُ حَتَّى يُغَنَّ «3» وَلَا يُفْهِمُ الدِّيَةُ
كَامِلَةً، أَوْ حَتَّى يُبَحَّ وَلَا يُفْهِمُ الدِّيَةُ
كَامِلَةً، وَفِي جَفْنِ الْعَيْنِ رُبُعُ «4» الدِّيَةِ.
وَفِي حَلَمَةِ الثَّدْيِ رُبُعُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي السِّمْحَاقِ مِثْلُ
قَوْلِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا
قَالَا: فِيهَا نِصْفُ الْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيُّ
فِيهَا حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُوضِحَةَ
فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ، وَفِيهِ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ. وَأَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ تَكُونُ فِي
الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ مُوضِحَةِ
الْوَجْهِ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا سواء. وقال بقولهما
__________
(1). في ع: عندنا.
(2). من ج وك وهـ وع، ز. [ ..... ]
(3). يغن أي يخرج صوته من خياشيمه. وفي ك، ع: يجن. وسقط من ج.
أو يضرب إلخ.
(4). في ع: الدية كاملة.
(6/204)
جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ
يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ تَضْعِيفُ مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَلَى
مُوضِحَةِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مُوضِحَةُ الْوَجْهِ
أَحْرَى أَنْ يُزَادَ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَأْمُومَةُ
وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْمُوضِحَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي
الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا تَكُونُ الْمَأْمُومَةُ إِلَّا
فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً إِذَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغِ، قَالَ:
وَالْمُوضِحَةُ مَا تَكُونُ فِي جُمْجُمَةِ الرَّأْسِ، وَمَا
دُونَهَا فَهُوَ مِنَ الْعُنُقِ لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ. قَالَ
مَالِكٌ: وَالْأَنْفُ لَيْسَ مِنَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِيهِ
مُوضِحَةٌ، وَكَذَلِكَ اللَّحْيُ الْأَسْفَلُ لَيْسَ فِيهِ
مُوضِحَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُوضِحَةِ فِي غَيْرِ
الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ:
لَيْسَ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ وَمُنَقِّلَتِهِ
وَمَأْمُومَتِهِ إِلَّا الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ
مَعْلُومٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ،
وَبِهِ نَقُولُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ
الْمُوضِحَةَ إِذَا كَانَتْ فِي جَسَدِ الْإِنْسَانِ فِيهَا
خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاتَّفَقَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ
رَجُلًا مَأْمُومَتَيْنِ أَوْ مُوضِحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ
مَأْمُومَاتٍ أَوْ مُوضِحَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي ضَرْبَةٍ
وَاحِدَةٍ أَنَّ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ- وَإِنِ انْخَرَقَتْ
فَصَارَتْ وَاحِدَةً- دِيَةً كَامِلَةً. وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ
فَلَا دِيَةَ فِيهَا عِنْدَنَا بَلْ حُكُومَةً. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَجِدْ فِي كُتُبِ الْمَدَنِيِّينَ ذِكْرَ
الْهَاشِمَةِ، بَلْ قَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ كَسَرَ أَنْفَ
رَجُلٍ إِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَكَانَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يُوَقِّتُ فِي الْهَاشِمَةِ
شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ
فَفِيهَا حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: النَّظَرُ
يَدُلُّ عَلَى هَذَا، إِذْ لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا
إِجْمَاعَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ:
فِيهَا مَا فِي الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً
فَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ صَارَتْ مَأْمُومَةً فَثُلُثُ
الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَوَجَدْنَا أَكْثَرَ
مَنْ لَقِينَاهُ وَبَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
يَجْعَلُونَ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ.
وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ
قَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ:
فِيهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَمُرَادُهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ.
وَأَمَّا الْمُنَقِّلَةُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ؟
الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ
الْإِبِلِ) وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُنَقِّلَةَ هِيَ الَّتِي
تُنْقَلُ
(6/205)
مِنْهَا الْعِظَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ- وَهُوَ
قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ- إِنَّ الْمُنَقِّلَةَ
لَا قَوَدَ فِيهَا، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ-
وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ- أَنَّهُ أَقَادَ مِنَ
الْمُنَقِّلَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْأَوَّلُ
أَوْلَى، لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ
وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ
الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ).
وَأَجْمَعَ] عَوَامُّ [«1» أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ
بِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ إِلَّا
مَكْحُولًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمَأْمُومَةُ
عَمْدًا فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَإِذَا كَانَتْ خَطَأً
فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ،
وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؟؟ وَاخْتَلَفُوا؟؟ فِي
الْقَوَدِ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ: لَا قَوَدَ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ؟؟
الزُّبَيْرِ؟؟ أَنَّهُ؟؟ أَقَصَّ؟؟ مِنَ الْمَأْمُومَةِ،
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا عَلِمْنَا
أَحَدًا أَقَادَ مِنَّا قَبْلَ؟؟ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا
الْجَائِفَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ
مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا
ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا ثُلُثُ
الدِّيَةِ. وَالْجَائِفَةُ كُلُّ مَا خَرَقَ إِلَى الْجَوْفِ
وَلَوْ مَدْخَلَ إِبْرَةٍ، فَإِنْ نَفَذَتْ مِنْ جِهَتَيْنِ
عِنْدَهُمْ جَائِفَتَانِ، وَفِيهَا مِنَ الدِّيَةِ
الثُّلُثَانِ. قَالَ أَشْهَبُ: وَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَائِفَةٍ نَافِذَةٍ
مِنَ الْجَنْبِ الْآخَرِ. بِدِيَةِ جَائِفَتَيْنِ. وَقَالَ
عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَا قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ. السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ مِنَ اللَّطْمَةِ
وَشِبْهِهَا، فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [«2» أَنَّهُمْ أَقَادُوا مِنَ
اللَّطْمَةِ وَشِبْهِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَخَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ
وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنْ
كَانَتِ اللَّطْمَةُ فِي الْعَيْنِ فَلَا قَوَدَ فِيهَا «3»،
لِلْخَوْفِ «4» عَلَى الْعَيْنِ وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ.
وإن كانت على الخد ففيها القود.
وقالت طَائِفَةٌ: لَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ، رُوِيَ هَذَا
عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لَطْمَةُ الْمَرِيضِ الضَّعِيفِ مِثْلَ
لَطْمَةِ الْقَوِيِّ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدِ يُلْطَمُ
مِثْلَ الرَّجُلِ ذِي الْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الِاجْتِهَادُ لِجَهْلِنَا بمقدار اللطمة.
__________
(1). من ع وك.
(2). من ع.
(3). في ج. ك. هـ: فلا قصاص.
(4). في ك: للخوف فيها.
(6/206)
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ-
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ مِنْ ضَرْبِ السَّوْطِ، فَقَالَ
اللَّيْثُ] وَالْحَسَنُ [«1»: يُقَادُ مِنْهُ، وَيُزَادُ
عَلَيْهِ لِلتَّعَدِّي «2». وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقَادُ
مِنْهُ. وَلَا يُقَادُ مِنْهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ
وَالشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يُجْرَحَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
إِنْ جَرَحَ السَّوْطُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَمَا أُصِيبَ «3» بِهِ مِنْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا
أَوْ حَجَرٍ فَكَانَ دُونَ النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ، وَفِيهِ
الْقَوَدُ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ
ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ «4»، وَأَقَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ. وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ
سَوْطٍ وَخُمُوشٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَحَدِيثُ لُدِّ
«5» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ
الْبَيْتِ حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ الْقَوَدَ فِي كُلِّ أَلَمٍ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُرْحٌ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ-
وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْلِ جِرَاحَاتِ النِّسَاءِ، فَفِي"
الْمُوَطَّأِ" عَنْ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: تُعَاقِلُ
الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ] الرَّجُلِ [«6»،
إِصْبَعُهَا كَإِصْبَعِهِ وَسِنُّهَا كَسِنِّهِ،
وَمُوضِحَتُهَا كَمُوضِحَتِهِ، وَمُنَقِّلَتُهَا
كَمُنَقِّلَتِهِ. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ مَالِكٌ: فَإِذَا
بَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ
مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِّينَا
هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ [وَالزُّهْرِيُّ] «7»
وَقَتَادَةُ وَابْنُ هُرْمُزٍ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ وعبد الملك ابن الْمَاجِشُونِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ
فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلُ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وبه قَالَ الثَّوْرِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَصَاحِبَاهُ،
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى الْكَثِيرِ
وَهُوَ الدِّيَةُ كَانَ الْقَلِيلُ مِثْلَهُ، وَبِهِ نَقُولُ.
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ: وَكُلُّ مَا فِيهِ جَمَالٌ مُنْفَرِدٌ عَنْ
مَنْفَعَةٍ أَصْلًا فَفِيهِ حُكُومَةٌ، كَالْحَاجِبَيْنِ
وَذَهَابِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ؟؟ الرَّأْسِ وثديي؟؟
الرجل واليته «8». وصفه
__________
(1). من ع وك.
(2). في ع: لأجل التعدي.
(3). في ع: أصبت.
(4). الدرة (بالكسر): التي يضرب بها.
(5). اللد: أن يؤخد بلسان الصبي؟؟؟؟؟؟ إلى أحد شقيه ويؤجر في
الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق. وحديث اللد أنه
لد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرضه فلما أفاق
قال:" لا يبقى في البيت أحد إلا لد" فعل ذلك عقوبة لهم لأنهم
لدوه بغير إذنه.
(6). من ك وع. يريد أن ما دون ثلث الدية عقلها فيه كعقل الرجل،
حتى إذا بلغت في عقل ما جنى عليها ثلث الدية كان عقلها نصف عقل
الرجل. وقوله: (إصبعها كإصبعه ... إلخ) يريد أن عقل هذه كلها
دون الثلث فلذلك ساوت فيه الرجل (الموطأ).
(7). من ج وك وهـ وع.
(8). في ع وك: أليتيه. [ ..... ]
(6/207)
وَقَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا سَلِيمًا، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ
الْجِنَايَةِ فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ جُعِلَ جُزْءًا مِنْ
دِيَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،
قَالَ: وَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ رَجُلَيْنِ ثِقَتَيْنِ مِنْ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَقِيلَ: بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ عَدْلٍ
وَاحِدٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ جُمَلٌ
مِنْ أَحْكَامِ الْجِرَاحَاتِ وَالْأَعْضَاءِ تَضَمَّنَهَا
مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فِيهَا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا
كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ] بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ [«1». الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)
شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، أَيْ تَصَدَّقَ بِالْقِصَاصِ فَعَفَا
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، أَيْ لِذَلِكَ الْمُتَصَدِّقِ.
وَقِيلَ: هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ فَلَا يُؤَاخَذُ
بِجِنَايَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ
أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَأَجْرُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى
الْأَوَّلِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَرُوِيَ
الثَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَنْ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ بِخِلَافٍ
عَنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْعَائِدَ فِيهِ
يَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ، وَهُوَ" مَنْ". وَعَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
فَيَهَبُهُ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ
عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي
يَقُولُ إِنَّهُ إِذَا عَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ عَفَا
اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فلا معنى له.
[سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) أَيْ جَعَلْنَا عِيسَى يَقْفُو آثَارَهُمْ،
أَيْ آثَارَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. (مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يَعْنِي التَّوْرَاةَ، فَإِنَّهُ رَأَى
التَّوْرَاةَ حَقًّا، وَرَأَى وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهَا إِلَى
أَنْ يَأْتِيَ نَاسِخٌ." مُصَدِّقاً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ
مِنْ عِيسَى. (فِيهِ هُدىً) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
بِالِابْتِدَاءِ. وَنُورٌ عُطِفَ عَلَيْهِ." وَمُصَدِّقاً"
فِيهِ وَجْهَانِ، يَجُوزُ أَنْ يكون
__________
(1). من ع وك.
(6/208)
وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي
مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (48)
لِعِيسَى وَتَعْطِفُهُ عَلَى مُصَدِّقًا
الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْجِيلِ،
وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
مُسْتَقِرًّا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا. (وَهُدىً
وَمَوْعِظَةً)
عُطِفَ عَلَى" مُصَدِّقاً" أَيْ هَادِيًا وَوَاعِظًا."
لِلْمُتَّقِينَ" وَخَصَّهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ
بِهِمَا. وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى
قَوْلِهِ:" فِيهِ هُدىً وَنُورٌ". قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ) قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِنَصْبِ الْفِعْلِ
عَلَى أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ كَيْ. وَالْبَاقُونَ
بِالْجَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ
اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ:" وَآتَيْناهُ" فَلَا
يَجُوزُ الْوَقْفُ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ لِيَحْكُمَ
أَهْلُهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ. وَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى
الْأَمْرِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ"]
المائدة: 49] فَهُوَ إِلْزَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُبْتَدَأُ بِهِ،
أَيْ لِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ أَيْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ، فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: هَذَا
أَمْرٌ لِلنَّصَارَى الْآنَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ وُجُوبَ
الْإِيمَانِ بِهِ، وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي
الْفُرُوعِ لَا فِي الْأُصُولِ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَالِاخْتِيَارُ الْجَزْمُ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ،
وَلِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِأَهْلِ الإنجيل. فال النَّحَّاسُ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي
أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ كِتَابًا إِلَّا لِيُعْمَلَ بِمَا
فِيهِ، وَأَمَرَ «1» بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، فصحتا جميعا.
[سورة المائدة (5): آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ)
الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَ" الْكِتابَ" الْقُرْآنُ (بِالْحَقِّ) أَيْ] هُوَ [«2»
بِالْأَمْرِ الْحَقِّ (مُصَدِّقاً) حَالٌ (لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) أي من
__________
(1). من ع. وفي ك وج: أمر.
(2). من ج.
(6/209)
جنس الكتب. (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي
عاليا عليها وَمُرْتَفِعًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْوِيلِ
مَنْ يَقُولُ بِالتَّفْضِيلِ أَيْ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ،
عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي"
الْفَاتِحَةِ" «1» وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن الحصار في كتاب شرح
السنة له. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِنَا فِي
شَرْحِ الْأَسْمَاءِ] الْحُسْنَى [«2» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: المهيمن معناه المشاهد. وَقِيلَ:
الْحَافِظُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُصَدِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُّ
يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" أَيْ
مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
الْقُرْآنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَيْضًا: الْمُهَيْمِنُ
الْأَمِينُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ أُبْدِلَ
مِنَ الْهَمْزَةِ هَاءٌ، كَمَا قِيلَ فِي أَرَقْتُ الْمَاءَ
هَرَقْتُ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَأَبُو عَلِيٍّ.
وَقَدْ صُرِفَ فقيل: هيمن يهين هَيْمَنَةً، وَهُوَ مُهَيْمِنٌ
بِمَعْنَى كَانَ أَمِينًا. الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مَنْ آمَنَ
غَيْرَهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَأَصْلُهُ أَأْمَنَ فَهُوَ
مُؤَأْمَنٌ بِهَمْزَتَيْنِ، قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ
يَاءً كَرَاهَةً لِاجْتِمَاعِهِمَا فَصَارَ مُؤَيْمَنٌ، ثُمَّ
صُيِّرَتِ الْأُولَى هَاءً كَمَا قَالُوا: هَرَاقَ الْمَاءَ
وَأَرَاقَهُ، يُقَالُ مِنْهُ: هَيْمَنَ عَلَى الشَّيْءِ
يُهَيْمِنُ إِذَا كَانَ لَهُ حَافِظًا، فَهُوَ مُهَيْمِنٌ،
عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:"
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْتَمَنٌ
عَلَى الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) يُوجِبُ الْحُكْمَ، فَقِيلَ: هَذَا
نَسْخٌ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْلِهِ:" فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا وُجُوبًا،
وَالْمَعْنَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إِنْ شِئْتَ، إِذْ لَا
يَجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا
مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَفِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرَدُّدٌ
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ فَاحْكُمْ
بَيْنَ الْخَلْقِ، فَهَذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ
«3»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) يَعْنِي لَا تَعْمَلْ بِأَهْوَائِهِمْ
وَمُرَادِهِمْ عَلَى مَا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، يَعْنِي لَا
تَتْرُكِ الْحُكْمَ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ
الْقُرْآنِ مِنْ بيان الحق وبيان
__________
(1). راجع ج 1 ص 109.
(2). من ع.
(3). كذا في الأصول ولم يذكر المصنف الثانية ولعلها قوله
تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا) الآية.
(6/210)
الْأَحْكَامِ. وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ
هَوًى، وَلَا يُجْمَعُ أَهْوِيَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «1». فَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَتَّبِعَهُمْ فِيمَا
يُرِيدُونَهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ
قَالَ: تُقَوَّمُ الْخَمْرُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا
عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا لَهُمْ فَتَكُونُ
مَضْمُونَةً عَلَى مُتْلِفِهَا، لِأَنَّ إِيجَابَ ضَمَانِهَا
عَلَى مُتْلِفِهَا حُكْمٌ بِمُوجَبِ أَهْوَاءِ الْيَهُودِ،
وَقَدْ أُمِرْنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى (عَمَّا جاءَكَ)
عَلَى مَا جَاءَكَ. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِشَرَائِعِ
الْأَوَّلِينَ. وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَةُ
الظَّاهِرَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى النَّجَاةِ.
وَالشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ
مِنْهُ إِلَى الْمَاءِ. وَالشَّرِيعَةُ مَا شَرَعَ اللَّهُ
لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ، وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَعُ
شَرْعًا أَيْ سَنَّ. وَالشَّارِعُ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ.
وَالشِّرْعَةُ أَيْضًا الوتر، والجمع شرع وشرع وَشِرَاعٌ
جَمْعُ الْجَمْعِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ.
وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ النَّهْجُ
وَالْمَنْهَجُ، أَيِ الْبَيِّنُ، قَالَ الرَّاجِزُ:
مَنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ «2»
وَطَرِيقٌ نَهْجُ
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ:
الشَّرِيعَةُ ابتداء الطريق، والمنهاج الطَّرِيقُ
الْمُسْتَمِرُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ
وَغَيْرِهِمَا" شِرْعَةً وَمِنْهاجاً" سُنَّةً وَسَبِيلًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاةَ لِأَهْلِهَا،
وَالْإِنْجِيلَ لِأَهْلِهِ، وَالْقُرْآنَ لِأَهْلِهِ، وَهَذَا
فِي الشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ، وَالْأَصْلُ التَّوْحِيدُ
لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ دِينُ
مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ نُسِخَ بِهِ كُلُّ مَا
سِوَاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أَيْ لَجَعَلَ شَرِيعَتَكُمْ
وَاحِدَةً فَكُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ
أَرَادَ بِالِاخْتِلَافِ إِيمَانَ قَوْمٍ وَكُفْرَ قَوْمٍ.
(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ) فِي الْكَلَامِ
حَذْفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ لَامُ كَيْ، أَيْ وَلَكِنْ جَعَلَ
شَرَائِعَكُمْ مُخْتَلِفَةً لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ
الِاخْتِبَارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) أَيْ سَارِعُوا إِلَى الطَّاعَاتِ، وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ
تَأْخِيرِهَا، وَذَلِكَ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فِي
الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا إِلَّا فِي الصلاة في أول
__________
(1). راجع ج 2 ص 24.
(2). (ما رواه) ممدود مفتوح الراء أي عذب؟؟؟؟
(6/211)
وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى
أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهَا، وَعُمُومُ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَيْهِ، قَالَهُ إِلْكِيَا «1». وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «2». (إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ بِمَا اخْتَلَفْتُمْ فيه، وتزول
الشكوك.
[سورة المائدة (5): آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَنَّهَا نَاسِخَةٌ
لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ دَعْوَى
عَرِيضَةٌ، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهَا
مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ
وَالْمُتَأَخِّرِ، وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً
مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى
حَالِهِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
النَّحَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي
النُّزُولِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي
الْكَلَامِ" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ"
إِنْ شِئْتَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ
لَهُ، فَآخِرُ الْكَلَامِ حُذِفَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ
لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ
عَلَيْهِ، فَحُكْمُ التَّخْيِيرِ كَحُكْمِ الْمَعْطُوفِ
عَلَيْهِ، فَهُمَا شَرِيكَانَ وَلَيْسَ الْآخَرُ بِمُنْقَطِعٍ
مِمَّا قَبْلَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ،
فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:" وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" مَعْطُوفًا عَلَى مَا
قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ" وَمِنْ قَوْلِهِ:" فَإِنْ جاؤُكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" فَمَعْنَى"
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" أَيِ
احْكُمْ بِذَلِكَ إِنْ حَكَمْتَ وَاخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَهُوَ
كُلُّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا
يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِالْمَنْسُوخِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ،
فَالتَّخْيِيرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ منسوخ، قاله مكي رحمه اله." وَأَنِ
احْكُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أنزله
__________
(1). في ع: الطبري. وهو الكيا الطبري.
(2). راجع ج 2 ص 280.
(6/212)
إليك في كتابه. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ) " أَنِ" بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي"
وَاحْذَرْهُمْ" وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ
أَجْلِهِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْتِنُوكَ. وَعَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ
الْأَحْبَارِ مِنْهُمُ ابْنُ صُورِيَّا وكعب بن أسد وابن صلوبا
وشأس ابن عَدِيٍّ وَقَالُوا: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ
فَلَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ،
فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّا
أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَإِنِ اتَّبَعْنَاكَ لَمْ يُخَالِفْنَا
أَحَدٌ مِنَ اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم
إِلَيْكَ، فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نُؤْمِنَ بِكَ،
فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ
الِاخْتِبَارُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ
مَعْنَاهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا" يَفْتِنُوكَ"
مَعْنَاهُ يَصُدُّوكَ وَيَرُدُّوكَ، وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ
بِمَعْنَى الشِّرْكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «1» " وَقَوْلُهُ:" وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «2» ". وَتَكُونُ والفتنة
بِمَعْنَى الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ:" لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا «3» ". ولا تَجْعَلْنا فِتْنَةً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85] «4». وَتَكُونُ
الْفِتْنَةُ الصَّدَّ عَنِ السَّبِيلِ كَمَا فِي هَذِهِ
الْآيَةِ. وَتَكْرِيرُ" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ" لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ هِيَ أَحْوَالٌ
وَأَحْكَامٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
النِّسْيَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَالَ:" أَنْ يَفْتِنُوكَ" وَإِنَّمَا
يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ نِسْيَانٍ لَا عَنْ تَعَمُّدٍ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ
هَذَا فِي" الْأَنْعَامِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمَعْنَى (عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) عَنْ
كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَالْبَعْضُ
يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ «5»:
أَوْ يَعْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
وَيُرْوَى" أَوْ يَرْتَبِطْ". أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ،
وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ" «6» [الزخرف: 63]. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ" بَعْضِ" عَلَى
حَالِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الرَّجْمُ أَوِ الْحُكْمُ الَّذِي كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ
يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنِ الْكُلِّ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
__________
(1). راجع 3 ص 40.
(2). راجع ج 7 ص 404 وص 351 ج 2.
(3). راجع ج 18 ص 56.
(4). راجع ج 8 ص 370. [ ..... ]
(5). هو لبيد، وصدره: (تراك أمكنة إذا لم أرضها). وفي اللسان:
(أو يتعلق) ابن سيده: (وليس هذا عندي على ما ذهب إليه أهل
اللغة من أن البعض في معنى الكل، هذا نقض، ولا دليل في هذا
البيت لأنه إنما عنى ببعض النفوس نفسه.
(6). راجع ج 16 ص 107.) (
(6/213)
أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا)
أَيْ فَإِنْ أَبَوْا حُكْمَكَ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ (فَاعْلَمْ
أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ) أَيْ يُعَذِّبُهُمْ بِالْجَلَاءِ وَالْجِزْيَةِ
وَالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَإِنَّمَا قَالَ:" بِبَعْضِ"
لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ بِالْبَعْضِ كَانَتْ كَافِيَةً فِي
التَّدْمِيرِ عَلَيْهِمْ. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
لَفاسِقُونَ) يَعْنِي اليهود.
[سورة المائدة (5): آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) " أَفَحُكْمَ" نُصِبَ
بِ"- يَبْغُونَ" وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا
يَجْعَلُونَ حُكْمَ الشَّرِيفِ خِلَافَ حُكْمِ الْوَضِيعِ،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَكَانَتْ الْيَهُودُ
تُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَلَا
يُقِيمُونَهَا عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ،
فَضَارَعُوا الْجَاهِلِيَّةَ فِي هَذَا الْفِعْلِ.
الثَّانِيَةُ- رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ
الرَّجُلِ يُفَضِّلُ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ يَقْرَأُ
هَذِهِ الْآيَةَ" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"
فَكَانَ طَاوُسٌ يَقُولُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ
بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذْ
وَفُسِخَ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِثْلُهُ، وَكَرِهَهُ، الثَّوْرِيُّ
وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ
أَحَدٌ نَفَذَ وَلَمْ يُرَدَّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيقِ فِي نَحْلِهِ
عَائِشَةَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (فَارْجِعْهُ) «1» وَقَوْلُهُ: (فَأَشْهِدْ عَلَى
هَذَا غَيْرِي). وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِبَشِيرٍ: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا) قَالَ
نَعَمْ، فَقَالَ: (أَكُلُّهُمْ وهبت له مثل هذا) فقال لا،
__________
(1). ذكر النسائي من حديث النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن
سعد جاء بابنه النعمان فقال: يا رسول الله إنى نحلت ابني هذا
غلاما كان لي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أكل بنيك نحلت) قال: لا. قال:" فارجعه"
قلت: هذا في جميع الأصول وهو كما يرى دليل للأولين كما سيأتي.
(6/214)
قَالَ: (فَلَا تُشْهِدُنِي إِذًا فَإِنِّي
لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ) فِي رِوَايَةٍ (وَإِنِّي لَا
أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ). قَالُوا: وَمَا كَانَ جَوْرًا
وغير حق فهو باطل لا يجوز. وقول: (أَشْهِدْ عَلَى هَذَا
غَيْرِي) لَيْسَ إِذْنًا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا هُوَ
زَجْرٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَمَّاهُ
جَوْرًا وَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ
أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ
بِوَجْهٍ. وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ نَحَلَ أَوْلَادَهُ نُحْلًا يُعَادِلُ
ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي
مَالِهِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ الْكُلِّيُّ
وَالْوَاقِعَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْمُخَالِفَةُ لِذَلِكَ
الْأَصْلِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا كَالْعُمُومِ
وَالْخُصُوصِ. وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحِيحَ بِنَاءُ
الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ
الْعُقُوقُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ
مُحَرَّمٌ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَرَّمِ فَهُوَ
مَمْنُوعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ
أَوْلَادِكُمْ). قَالَ النُّعْمَانُ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ
تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَالصَّدَقَةُ لَا يَعْتَصِرُهَا «1»
الْأَبُ بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْلُهُ: (فَارْجِعْهُ) مَحْمُولٌ
عَلَى مَعْنَى فَارْدُدْهُ، وَالرَّدُّ ظَاهِرٌ فِي الْفَسْخِ،
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ مَرْدُودٌ مَفْسُوخٌ.
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَتَرْجِيحٌ جَلِيٌّ فِي
الْمَنْعِ. الثَّالِثَةُ- قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ
وَالنَّخَعِيُّ" أَفَحُكْمُ" بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى
يَبْغُونَهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ كَمَا حَذَفَهَا أَبُو
النَّجْمِ فِي قَوْلِهِ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ
ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
فِيمَنْ رَوَى" كُلُّهُ" بِالرَّفْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
التَّقْدِيرُ: أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ حُكْمٌ يَبْغُونَهُ،
فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ" أَفَحَكَمَ" بِنَصْبِ الْحَاءِ
وَالْكَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى
قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ
الْحَكَمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحُكْمُ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: أَفَحُكْمُ حَكَمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وَقَدْ
يَكُونُ الْحَكَمُ وَالْحَاكِمُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدًا
وَكَأَنَّهُمْ يريدون
__________
(1). يعتصر: يرتجع.
(6/215)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
الْكَاهِنَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حُكَّامِ
الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الشُّيُوعُ
وَالْجِنْسُ، إِذْ لَا يُرَادُ بِهِ حَاكِمٌ بِعَيْنِهِ،
وَجَازَ وُقُوعُ الْمُضَافِ جِنْسًا كَمَا جَازَ فِي
قَوْلِهِمْ: مَنَعَتْ مِصْرُ «1» إِرْدَبَّهَا، وَشِبْهِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" تَبْغُونَ" بِالتَّاءِ، الْبَاقُونَ
بالياء. وقوله تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ
الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى: لا أحد أحسن، فهذا ابتداء وخبر. و"
حُكْماً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ. [لِقَوْلِهِ] «2» "
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" أَيْ عند قوم يوقنون.
[سورة المائدة (5): آية 51]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-" الْيَهُودَ وَالنَّصارى
أَوْلِياءَ" مَفْعُولَانِ لِ [تَتَّخِذُوا] «3»، وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الْمُوَالَاةِ شَرْعًا، وَقَدْ مَضَى
فِي" آلِ عِمْرَانَ" «4» بَيَانُ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا بِظَاهِرِهِمْ، وَكَانُوا يُوَالُونَ
الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ يَوْمِ أُحُدٍ حِينَ
خَافَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى هَمَّ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُوَالُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ
سَلُولٍ، فَتَبَرَّأَ عُبَادَةُ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [«5»
مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا ابْنُ أُبَيٍّ
وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ.
(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، وَهُوَ
يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الشَّرْعِ الْمُوَالَاةَ فِيمَا
بَيْنَهُمْ حَتَّى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
__________
(1). الإردب مكيال معروف لأهل مصر، وفي الحديث"؟؟؟؟ العراق
درهمها وقفيزها ومنعت مصر إردبها وعدتم من حيث بدأتم".
(اللسان).
(2). من ك وع.
(3). من ك وع.
(4). راجع ج 4 ص 188.
(5). من ع.
(6/216)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أَيْ يَعْضُدْهُمْ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ
حُكْمَهُ كَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ يَمْنَعُ إِثْبَاتَ الْمِيرَاثِ
لِلْمُسْلِمِ مِنَ الْمُرْتَدِّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّاهُمِ
ابْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ فِي قَطْعِ الْمُوَالَاةِ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى:" وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" «1»] هود: 113] وَقَالَ تَعَالَى فِي"
آلِ عِمْرَانَ":" لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" «2»] آل عمران: 28]
وَقَالَ تَعَالَى:" لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ"
«3»] آل عمران: 118] وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ:
إِنَّ مَعْنَى" بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" أي في النصرة"
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" شَرْطٌ
وَجَوَابُهُ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ اللَّهَ تَعَالَى
وَرَسُولَهُ كَمَا خَالَفُوا، وَوَجَبَتْ مُعَادَاتُهُ كَمَا
وَجَبَتْ مُعَادَاتُهُمْ، وَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ كَمَا
وَجَبَتْ لَهُمْ، فَصَارَ منهم أي من أصحابهم.
[سورة المائدة (5): الآيات 52 الى 53]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ
(52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ
لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) شَكٌّ وَنِفَاقٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"
«4» وَالْمُرَادُ ابْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ (يُسارِعُونَ
فِيهِمْ) أَيْ فِي مُوَالَاتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ.
(يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أَيْ يَدُورُ
الدَّهْرُ عَلَيْنَا إِمَّا بِقَحْطٍ فلا يميروننا وَلَا
يُفْضِلُوا عَلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ يَظْفَرَ الْيَهُودُ
بِالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَدُومُ الْأَمْرُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ
بِالْمَعْنَى، كَأَنَّهُ مِنْ دَارَتْ تَدُورُ، أَيْ نَخْشَى
أَنْ يَدُورَ الْأَمْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ"،
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَرُدُّ عَنْكَ الْقَدَرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائِرَاتِ
الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا
__________
(1). راجع ج 9 ص 107.
(2). راجع ج 4 ص 57 و178.
(3). راجع ج 4 ص 57 و178.
(4). راجع ج 1 ص 197.
(6/217)
يَعْنِي دُوَلَ الدَّهْرِ الدَّائِرَةَ
مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ،
فَقِيلَ: الْفَتْحُ الْفَصْلُ وَالْحُكْمُ، عَنْ قَتَادَةَ
وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ
فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسُبِيَتْ
ذَرَارِيُّهُمْ وَأُجْلِيَ بَنُو النَّضِيرِ. وَقَالَ أَبُو
عَلِيٍّ: هُوَ فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِالْفَتْحِ
فَتْحَ مَكَّةَ. (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) قَالَ
السُّدِّيُّ: هُوَ الْجِزْيَةُ. الْحَسَنُ: إِظْهَارُ أَمْرِ
الْمُنَافِقِينَ وَالْإِخْبَارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَالْأَمْرِ
بِقَتْلِهِمْ. وَقِيلَ: الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ
(فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)
أَيْ فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى تَوَلِّيهِمِ الْكُفَّارَ
إِذَا رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا
عَايَنُوا عِنْدَ الْمَوْتِ فَبُشِّرُوا بِالْعَذَابِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا). وَقَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ:" يَقُولُ" بِغَيْرِ
وَاوٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:"
وَيَقُولَ" بِالْوَاوِ وَالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى" أَنْ
يَأْتِيَ" عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، التَّقْدِيرُ:
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَأَنْ يَقُولَ.
وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ على المعنى، لان معنى" فَعَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ" وعسى ن يَأْتِيَ اللَّهُ
بِالْفَتْحِ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَأْتِيَ
وَيَقُومَ عَمْرٌو، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِذَا
قُلْتَ: وَعَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ عَمْرٌو، وَلَكِنْ لَوْ
قُلْتُ: عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَيَأْتِيَ عَمْرٌو كَانَ
جَيِّدًا. فَإِذَا قَدَّرْتَ التَّقْدِيمَ فِي أَنْ يَأْتِيَ
إِلَى جَنْبِ عَسَى حَسُنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ:
عَسَى أَنْ يَأْتِيَ وَعَسَى أَنْ يَقُومَ، وَيَكُونُ مِنْ
بَابِ قَوْلِهِ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا
وَرُمْحًا «1»
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ- وَهُوَ أَنْ تَعْطِفَهُ عَلَى
الْفَتْحِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقر عيني «2»
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ" أَنْ يَأْتِيَ" بَدَلًا مِنِ اسْمِ
اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: عَسَى أَنْ
يَأْتِيَ اللَّهُ وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَرَأَ
الْكُوفِيُّونَ" وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا" بِالرَّفْعِ
عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْأَوَّلِ. (أَهؤُلاءِ) إِشَارَةٌ إِلَى
الْمُنَافِقِينَ. (أَقْسَمُوا بِاللَّهِ) حَلَفُوا
وَاجْتَهَدُوا فِي الْأَيْمَانِ. (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)
__________
(1). يروى هكذا في الأصول. وفي اللسان وشرح الشواهد لسيبويه:
(يا ليت زوجك قد غدا). [ ..... ]
(2). تمام البيت: (أحب إلى من لبس الشفوف).
(6/218)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
أَيْ قَالُوا إِنَّهُمْ، وَيَجُوزُ"
أَنَّهُمْ"] نُصِبَ [«1» بِ"- أَقْسَمُوا" أَيْ قَالَ
الْمُؤْمِنُونَ لِلْيَهُودِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ:
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أَنَّهُمْ يُعِينُونَكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ
مُؤْمِنُونَ فَقَدْ هَتَكَ «2» اللَّهُ الْيَوْمَ سِتْرَهُمْ.
(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بَطَلَتْ بِنِفَاقِهِمْ.
(فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أَيْ خَاسِرِينَ الثَّوَابَ.
وَقِيلَ: خَسِرُوا فِي مُوَالَاةِ الْيَهُودِ فَلَمْ تَحْصُلْ
لَهُمْ ثَمَرَةٌ بَعْدَ قتل اليهود وأجلائهم.
[سورة المائدة (5): آية 54]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ"
فَسَوْفَ". وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ" مَنْ
يَرْتَدِدْ" بِدَالَيْنِ. الْبَاقُونَ" مَنْ يَرْتَدَّ".
وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذْ أَخْبَرَ عَنِ
ارْتِدَادِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ وَكَانَ
ذَلِكَ غَيْبًا، فَكَانَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بَعْدَ مُدَّةٍ،
وَأَهْلُ الرِّدَّةِ كَانُوا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قُبِضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتِ
الْعَرَبُ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ،
وَمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَمَسْجِدِ جُؤَاثَى «3»، وَكَانُوا فِي
رِدَّتِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ نَبَذَ الشَّرِيعَةَ
كُلَّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا، وَقِسْمٌ نَبَذَ وُجُوبَ
الزَّكَاةِ وَاعْتَرَفَ بِوُجُوبِ غَيْرِهَا، قَالُوا نَصُومُ
وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، فَقَاتَلَ الصِّدِّيقُ
جَمِيعَهُمْ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ
بِالْجُيُوشِ فَقَاتَلَهُمْ «4» وَسَبَاهُمْ، على ما هو مشهور
من أخبارهم.
__________
(1). من ع وك.
(2). في ج وك وع: انهتك سترهم.
(3). جؤاثا مهموز: اسم حصن بالبحرين. وفي الحديث" أول جمعة
جمعت بعد المدينة بجواثا. (النهاية).
(4). في ج وك وز وع: فقتلهم.
(6/219)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) " فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ. قَالَ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي
الْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْمٍ لَمْ
يَكُونُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ «1» الْوَقْتِ، وَأَنَّ
أَبَا بَكْرٍ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِقَوْمٍ لَمْ
يَكُونُوا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ مِنَ
الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ، وَمِنْ أَشْجَعَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ، فَفِي
الْخَبَرِ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِيَسِيرٍ سَفَائِنُ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ
مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ، فَكَانَ لَهُمْ بَلَاءٌ فِي
الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ عَامَّةُ فُتُوحِ الْعِرَاقِ
فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى يَدَيْ
قَبَائِلَ الْيَمَنِ، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي نُزُولِهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
فِي" الْمُسْتَدْرَكِ" بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ:
(هُمْ قَوْمُ هَذَا) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَأَتْبَاعُ أَبِي
الْحَسَنِ مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أُضِيفَ
فِيهِ قَوْمٌ إِلَى نَبِيٍّ أُرِيدَ بِهِ الْأَتْبَاعُ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) " أَذِلَّةٍ" نَعْتٌ لِقَوْمٍ، وَكَذَلِكَ"
(أَعِزَّةٍ) " أَيْ يَرْأَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
وَيَرْحَمُونَهُمْ وَيَلِينُونَ لَهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ:
دَابَّةٌ ذَلُولٌ أَيْ تنقاد سهلة، وليس من الذل في شي.
وَيَغْلُظُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُعَادُونَهُمْ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ
وَالسَّيِّدِ لِلْعَبْدِ، وَهُمْ فِي الْغِلْظَةِ عَلَى
الْكُفَّارِ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
" «2»] الفتح: 29]. وَيَجُوزُ" أَذِلَّةً" بِالنَّصْبِ عَلَى
الْحَالِ، أَيْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فِي هَذَا
الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ
تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ «3». الرَّابِعَةُ-
قوله تعالى: (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِي مَوْضِعِ
الصِّفَةِ أَيْضًا. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)
بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ يَخَافُونَ الدَّوَائِرَ، فَدَلَّ
بِهَذَا عَلَى تَثْبِيتِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ
جَاهَدُوا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَيَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَاتَلُوا
الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كانت فيه
هذه الصفات فهو ولي
__________
(1). في ك وع: وقت نزول الآية، وهم أحياء. إلخ.
(2). راجع ج 16 ص 292.
(3). راجع ج 4 ص 59 وما بعدها.
(6/220)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْآيَةُ
عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ إِلَى قِيَامِ
السَّاعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ابتداء وخبر. (وَاللَّهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) أَيْ وَاسِعُ الْفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خلقه.
[سورة المائدة (5): آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ (55)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ عبد الله ابن سَلَامٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمَنَا مِنْ قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرِ قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَلَّا
يُجَالِسُونَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ مُجَالَسَةَ أَصْحَابِكَ
لِبُعْدِ الْمَنَازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ:
رَضِينَا بِاللَّهِ وبرسوله وبالمؤمنين أولياء." وَالَّذِينَ"
عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ سُئِلَ أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «1» بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ
مَعْنَى" إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا" هَلْ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ:
عَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا
لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ
بَيِّنٌ، لِأَنَّ" الَّذِينَ" لِجَمَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ
وَالسُّدِّيُّ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ) وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ- وَذَلِكَ
أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فِي مَسْجِدِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ شَيْئًا،
وَكَانَ عَلِيٌّ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي
يَمِينِهِ خَاتَمٌ، فَأَشَارَ إِلَى السَّائِلِ] بِيَدِهِ [«2»
حَتَّى أَخَذَهُ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ
الصَّلَاةَ، فَإِنَّ التَّصَدُّقَ بِالْخَاتَمِ فِي الرُّكُوعِ
عَمَلٌ جَاءَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ
الصَّلَاةُ. وَقَوْلُهُ:" وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ
تُسَمَّى زَكَاةً.، فَإِنَّ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ
فِي الرُّكُوعِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما
آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُضْعِفُونَ" «3»] الروم: 39] وقد
__________
(1). من ع. كذا في التهذيب.
(2). من ز، وفي ج وا ول: به.
(3). راجع ج 14 ص 36.
(6/221)
وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
انْتَظَمَ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ، فَصَارَ
اسْمُ الزَّكَاةِ شَامِلًا لِلْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، كَاسْمِ
الصَّدَقَةِ وَكَاسْمِ الصَّلَاةِ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ.
قُلْتُ: فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا بِالزَّكَاةِ التَّصَدُّقُ
بِالْخَاتَمِ، وَحَمْلُ لَفْظِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّصَدُّقِ
بِالْخَاتَمِ فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي
إِلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَهُوَ الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ
سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1». وَأَيْضًا فَإِنَّ قَبْلَهُ"
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ" وَمَعْنَى يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
يَأْتُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا،
وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَرْضِ. ثُمَّ قَالَ:" وَهُمْ
راكِعُونَ" أَيِ النَّفْلُ. وَقِيلَ: أَفْرَدَ الرُّكُوعَ
بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَقْتَ
نُزُولِ الْآيَةِ كَانُوا بَيْنَ مُتَمِّمٍ لِلصَّلَاةِ
وَبَيْنَ رَاكِعٍ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ"
تَضَمَّنَتْ جَوَازَ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ،
وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَأَقَلُّ
مَا فِي بَابِ الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ [عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ] «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَعْطَى السَّائِلَ شَيْئًا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي الْفَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
الْمَدْحُ مُتَوَجِّهًا عَلَى اجْتِمَاعِ حَالَتَيْنِ،
كَأَنَّهُ وَصْفُ مَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ، فَعُبِّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ، وَعَنِ
الِاعْتِقَادِ لِلْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقُولُ:
الْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ، وَلَا تُرِيدُ أَنَّهُمْ
فِي تِلْكَ الْحَالِ مُصَلُّونَ وَلَا يُوَجَّهُ الْمَدْحُ
حَالَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ مَنْ يفعل هذا الفعل
ويعتقده.
[سورة المائدة (5): آية 56]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى
اللَّهِ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَسُولِهِ، وَوَالَى
الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أي ومن
يتولى الْقِيَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ
وَالْمُؤْمِنِينَ. (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ)
قَالَ الْحَسَنُ: حِزْبُ اللَّهِ جُنْدُ اللَّهِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: أَنْصَارُ اللَّهِ قال الشاعر:
وكيف أضوى «3» وبلال حزبي
__________
(1). راجع ج 1 ص 179.
(2). من ج وك وع.
(3). أضوى: أي استضعف وأضام، من الشيء الضاوي. (الطبري). وفي
ع: وكيف أخزى. [ ..... ]
(6/222)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
أَيْ نَاصِرِي. وَالْمُؤْمِنُونَ حِزْبُ
اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ غَلَبُوا الْيَهُودَ بِالسَّبْيِ
وَالْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ. وَالْحِزْبُ
الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُهُ مِنَ النَّائِبَةِ مِنْ
قَوْلِهِمْ: حَزَبَهُ كَذَا أَيْ نَابَهُ، فَكَأَنَّ
الْمُحْتَزِبِينَ مُجْتَمِعُونَ كَاجْتِمَاعِ أَهْلِ
النَّائِبَةِ عَلَيْهَا. وَحِزْبُ الرَّجُلِ أَصْحَابُهُ.
وَالْحِزْبُ الْوِرْدُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (فَمَنْ فَاتَهُ
حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ). وَقَدْ حَزَّبْتُ الْقُرْآنَ.
وَالْحِزْبُ الطَّائِفَةُ. وَتَحَزَّبُوا اجْتَمَعُوا.
وَالْأَحْزَابُ: الطَّوَائِفُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى
مُحَارَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ «1». وَحَزَبَهُ أَمْرٌ أَيْ
أصابه.
[سورة المائدة (5): آية 57]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ
وَالْمُشْرِكِينَ ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ
سُجُودِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُزُؤِ فِي" الْبَقَرَةِ" «2»." مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ
أَوْلِياءَ" قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ
بِالْخَفْضِ بِمَعْنَى وَمِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ
الْكِسَائِيُّ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ" وَمِنَ
الْكُفَّارِ"، و" من" هَاهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ،
وَالنَّصْبُ أَوْضَحُ «3» وَأَبْيَنُ. قَالَهُ النَّحَّاسُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ مِنْهُ
وَهُوَ قَوْلُهُ:" مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ"
فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ
الْفَرِيقَيْنِ اتَّخَذُوا دِينَ الْمُؤْمِنِينَ هُزُوًا
وَلَعِبًا. وَمَنْ نَصَبَ عَطَفَ عَلَى" الَّذِينَ" الْأَوَّلِ
فِي قَوْلِهِ:" لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ" أَيْ
لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أولياء، فالموصوف
بالهزو وَاللَّعِبِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْيَهُودُ لَا
غَيْرَ. وَالْمَنْهِيُّ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ
الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكِلَاهُمَا في القراءة بالخفض
موصوف بالهزو وَاللَّعِبِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَوْلَا
اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ عَلَى النَّصْبِ لَاخْتَرْتُ
الْخَفْضَ، لِقُوَّتِهِ فِي الْإِعْرَابِ وَفِي المعنى
والتفسير والقرب من المعطوف
__________
(1). في هـ ع: الاعداء.
(2). راجع ج 1 ص 446.
(3). في ج: أفصح.
(6/223)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا
تَتَّخِذُوا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أولياء، بدليل
قولهم:" إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ" «1»] البقرة: 14]
وَالْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، لَكِنْ يُطْلَقُ فِي
الْغَالِبِ لَفْظُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ،
فَلِهَذَا فَصَلَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ
الْكَافِرِينَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ:
هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ"] المائدة: 51]، و" لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ" «2»] آل عمران: 118] تَضَمَّنَتِ الْمَنْعَ مِنْ
التَّأْيِيدِ وَالِانْتِصَارِ بِالْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَ
ذَلِكَ. وَرَوَى جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ
جَاءَهُ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: نَسِيرُ مَعَكَ،
فَقَالَ] عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ [«3»: (إِنَّا لَا
نَسْتَعِينُ عَلَى أَمْرِنَا بِالْمُشْرِكِينَ) وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ
جَوَّزَ الِانْتِصَارَ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى
خِلَافِ مَا قَالُوهُ مَعَ مَا جَاءَ من السنة ذلك. والله
أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً
وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ
الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ
الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَتِ الْيَهُودُ: قَدْ
قَامُوا لَا قَامُوا، وَكَانُوا يَضْحَكُونَ إِذَا رَكَعَ
الْمُسْلِمُونَ وَسَجَدُوا وَقَالُوا فِي حَقِّ الْأَذَانِ:
لَقَدِ ابْتَدَعْتَ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ فِيمَا مَضَى
مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ مِثْلُ صِيَاحِ
الْعِيرِ؟ فَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ صَوْتٍ، وَمَا أَسْمَجَهُ
مِنْ أَمْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ تَضَاحَكُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَتَغَامَزُوا عَلَى طَرِيقِ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ،
تَجْهِيلًا لِأَهْلِهَا، وَتَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْهَا
وَعَنِ الدَّاعِي إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا
يَرَوْنَ الْمُنَادِيَ إِلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ اللَّاعِبِ
الْهَازِئِ بِفِعْلِهَا، جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَتِهَا،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:"
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صالِحاً" «4»] فصلت: 33] والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد
يُضَمُّ مِثْلَ الدُّعَاءِ وَالرُّغَاءِ. وَنَادَاهُ
مُنَادَاةً وَنِدَاءً أي صاح به. وتنادوا أي نادى
__________
(1). راجع ج 1 ص 206.
(2). راجع ج 4 ص 178.
(3). من ج وع.
(4). راجع ج 15 ص 359.
(6/224)
بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَتَنَادَوْا أَيْ
جَلَسُوا فِي النَّادِي، وَنَادَاهُ جَالَسَهُ فِي النَّادِي.
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ
إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَا إِنَّهُ ذُكِرَ فِي
الْجُمُعَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ
الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ بمكة فبل الهجرة،
وإنما كانوا ينادون" الصلاة جامعة" فلم هَاجَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ
إِلَى الْكَعْبَةِ أُمِرَ بِالْأَذَانِ، وَبَقِيَ «1» "
الصَّلَاةَ جَامِعَةً" لِلْأَمْرِ يَعْرِضُ. وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهَمَّهُ
أَمْرُ الْأَذَانِ حَتَّى أُرِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَمِعَ الْأَذَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي السَّمَاءِ،
وَأَمَّا رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيِّ
الْأَنْصَارِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَمَشْهُورَةٌ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ
أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذَلِكَ لَيْلًا طَرَقَهُ بِهِ، وَأَنَّ عُمَرَ] رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ [«2» قَالَ: إِذَا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا
فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ أَذَانَ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَزَادَ
بِلَالٌ فِي الصُّبْحِ" الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"
فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَيْسَتْ فِيمَا أُرِيَ الْأَنْصَارِيُّ، ذَكَرَهُ
ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أُرِيَ الْأَذَانَ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بلالا بالأذان
قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ الْأَنْصَارِيُّ، ذَكَرَهُ فِي
كِتَابِ" المدبج" لَهُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَحَدِيثِ
أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي وُجُوبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَمَّا مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّ الْأَذَانَ عندهم إنما بجب فِي
الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ،
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى
قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ فِي الْمِصْرِ وَمَا جرى مجرى مصر مِنَ الْقُرَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى
الطَّبَرِيُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِنْ تَرَكَ أَهْلُ مِصْرَ
الْأَذَانَ عَامِدِينَ أَعَادُوا الصَّلَاةَ، قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَلَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي وُجُوبِ الْأَذَانِ
جُمْلَةً عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ هُوَ
الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ دَارِ
الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ، وكان رسول الله صلى الله
__________
(1). في ز: بقيت.
(2). من ع.
(6/225)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً
قَالَ لَهُمْ: (إذا سَمِعْتُمُ الْأَذَانَ فَأَمْسِكُوا
وَكُفُّوا وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا الْأَذَانَ فَأَغِيرُوا-
أَوْ قَالَ- فَشُنُّوا الْغَارَةَ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، فَإِنْ سَمِعَ
أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ الْحَدِيثَ وَقَالَ
عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ: الْأَذَانُ
فَرْضٌ، ولم يقولوا على الكفاية. قال الطَّبَرِيُّ: الْأَذَانُ
سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَذُكِرَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ
مَالِكٍ: إِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ مُسَافِرٌ عَمْدًا فَعَلَيْهِ
إِعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَكَرِهَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يُصَلِّيَ
الْمُسَافِرُ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، قَالُوا:
وَأَمَّا] سَاكِنُ [«1» الْمِصْرِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ
يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، فَإِنِ اسْتَجْزَأَ «2» بِأَذَانِ
النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ:
تُجْزِئُهُ الْإِقَامَةُ عَنِ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ،
وَإِنْ شِئْتَ أَذَّنْتَ وَأَقَمْتَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: يُؤَذِّنُ الْمُسَافِرُ عَلَى حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ
الْحُوَيْرِثِ. وَقَالَ دَاوُدُ: الْأَذَانُ وَاجِبٌ عَلَى
كُلِّ مُسَافِرٍ فِي خَاصَّتِهِ وَالْإِقَامَةُ، لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ
بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلِصَاحِبِهِ:" إِذَا كُنْتُمَا فِي
سَفَرٍ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا)
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِمَالِكٍ بْنِ الْحُوَيْرِثِ
وَلِابْنِ عَمٍّ لَهُ: (إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا
وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا). قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ عَلَى
كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
بِالْأَذَانِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ «3». قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمَا وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا
تَرَكَ الْأَذَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ
صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُمْ،
وَهُمْ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِتَرْكِهِ «4» الْإِقَامَةَ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ
وَاجِبٍ] وَلَيْسَ [«5» فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ
بِسُقُوطِ الْأَذَانِ لِلْوَاحِدِ عِنْدَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ
وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي
الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ كَالشَّافِعِيِّ سَوَاءً.
الرَّابِعَةُ- وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مَثْنَى
وَالْإِقَامَةَ مَرَّةً مَرَّةً، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ
يُرَبِّعُ التَّكْبِيرَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ مِنْ
روايات الثقات في حديث أبي محذورة «6»،
__________
(1). من ع.
(2). في ع: اجتزئ.
(3). في ج، ك، ع، ز، على الفرض.
(4). من ج، ع.
(5). من ك. [ ..... ]
(6). هو: أبو محذورة سمرة بن معير: مؤذن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أحسن الناس أذانا وأنداهم صوتا.
(6/226)
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ،
قَالَ: وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا. وَزَعَمَ
الشَّافِعِيُّ أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَزَلْ فِي
آلِ أَبِي مَحْذُورَةَ كَذَلِكَ إِلَى وَقْتِهِ وَعَصْرِهِ.
قَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَذَلِكَ هُوَ الْآنَ عِنْدَهُمْ، وَمَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مَوْجُودٌ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ
صِحَاحٍ فِي أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَفِي أَذَانِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْعَمَلُ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ
عَلَى ذَلِكَ فِي آلِ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ إِلَى زَمَانِهِمْ.
وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى التَّرْجِيعِ فِي
الْأَذَانِ، وَذَلِكَ رُجُوعُ الْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ:"
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ أَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ" رَجَّعَ
فَمَدَّ مِنْ صَوْتِهِ جَهْدَهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ فِي الْإِقَامَةِ إِلَّا قَوْلَهُ:" قَدْ
قَامَتِ الصَّلَاةُ" فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُهَا مَرَّةً،
وَالشَّافِعِيَّ مَرَّتَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ
بْنُ حَيٍّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ جَمِيعًا مَثْنَى
مَثْنَى، وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ
وَأَوَّلِ الْإِقَامَةِ" اللَّهُ أَكْبَرُ" أَرْبَعَ مَرَّاتٍ،
وَلَا تَرْجِيعَ عِنْدِهِمْ فِي الْأَذَانِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي
ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:
حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ عَبْدَ الله ابن زَيْدٍ جَاءَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَانَ رَجُلًا قَامَ
وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ عَلَى جِذْمِ «1» حَائِطٍ
فَأَذَّنَ مَثْنَى وَأَقَامَ مَثْنَى وَقَعَدَ بَيْنَهُمَا
قَعْدَةً، فَسَمِعَ بِلَالُ بِذَلِكَ فَقَامَ وَأَذَّنَ
مَثْنَى وَقَعَدَ قَعْدَةً وَأَقَامَ مَثْنَى، رَوَاهُ
الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ التَّابِعِينَ
وَالْفُقَهَاءِ بِالْعِرَاقِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ
يَشْفَعُونَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَهَذَا أَذَانُ
الْكُوفِيِّينَ، مُتَوَارَثٌ عِنْدَهُمْ بِهِ الْعَمَلُ
قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَيْضًا، كَمَا يَتَوَارَثُ
الْحِجَازِيُّونَ، فَأَذَانُهُمْ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ
مِثْلُ الْمَكِّيِّينَ. ثُمَّ الشَّهَادَةُ بِأَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ حَيَّ
عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّةً، ثُمَّ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
مَرَّةً، ثُمَّ يُرَجِّعُ الْمُؤَذِّنُ فَيَمُدُّ صَوْتَهُ
وَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ-
الْأَذَانُ كُلُّهُ- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ
وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى إِجَازَةِ
الْقَوْلِ بِكُلِّ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ
وَالتَّخْيِيرِ، قَالُوا: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ رسول الله
__________
(1). الجذم (بكسر الجيم وسكون الذال): الأصل، أراد بقية حائط
أو قطعة من حائط. وفي ع: حرم.
(6/227)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ
ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَنْ شَاءَ قَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ، وَمَنْ
شَاءَ قَالَ ذَلِكَ أَرْبَعًا، وَمَنْ شَاءَ رَجَّعَ فِي
أَذَانِهِ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُرَجِّعْ، وَمَنْ شَاءَ ثَنَّى
الْإِقَامَةَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْرَدَهَا «1»، إِلَّا
قَوْلَهُ:" قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ" فَإِنَّ ذَلِكَ
مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ!!. الْخَامِسَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّثْوِيبِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ- وَهُوَ
قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ-
فَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ: يَقُولُ
الْمُؤَذِّنُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ- بَعْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ
عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ- الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ
النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
بِالْعِرَاقِ، وَقَالَ بِمِصْرَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَقُولُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ
مِنَ الْأَذَانِ إِنْ شَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ
ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَذَانِ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ فِي
صَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ
الصُّبْحِ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ). وَرُوِيَ
عَنْهُ أَيْضًا ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ
أَنْ يُقَالَ فِي الْفَجْرِ" الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ
النَّوْمِ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي" الْمُوَطَّأِ"
أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ
نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ،
فَأَمَرَهُ] عُمَرُ [«2» أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ
الصُّبْحِ فَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ
جِهَةٍ يُحْتَجُّ بِهَا وتعلم صحتها، وإنما فيه حديث هشام ابن
عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ" إِسْمَاعِيلُ"
فَاعْرِفْهُ، ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ
بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ" إِسْمَاعِيلُ" قَالَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ
يُؤْذِنُ عُمَرَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ" الصَّلَاةُ
خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ" فَأُعْجِبَ بِهِ عُمَرُ وَقَالَ
لِلْمُؤَذِّنِ:" أَقِرَّهَا فِي أَذَانِكَ". قَالَ أَبُو
عُمَرَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ:
نِدَاءُ الصُّبْحِ مَوْضِعُ الْقَوْلِ بِهَا لَا هَاهُنَا،
كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ نِدَاءٌ آخَرُ عِنْدَ
بَابِ الْأَمِيرِ كَمَا أَحْدَثَهُ الْأُمَرَاءُ بَعْدُ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: وَإِنَّمَا حَمَلَنِي عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ
وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْخَبَرِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ
التَّثْوِيبَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَشْهَرُ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ، وَالْعَامَّةِ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَهِلَ] شَيْئًا [«3» سُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). كذا في الأصول.
(2). الزيادة عن موطأ مالك.
(3). من ع.
(6/228)
وَأَمَرَ بِهِ مُؤَذِّنِيهِ،
بِالْمَدِينَةِ بِلَالًا، وَبِمَكَّةَ أَبَا مَحْذُورَةَ،
فَهُوَ مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ فِي تَأْذِينِ بِلَالٍ، وَأَذَانُ
أَبِي مَحْذُورَةَ فِي صَلَاةِ «1» الصُّبْحِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَشْهُورٌ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ. رَوَى وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ أَرْسَلَ
إِلَى مُؤَذِّنِهِ إِذَا بَلَغْتَ" حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ"
فَقُلْ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ أَذَانُ
بِلَالٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِلَالًا لَمْ يُؤَذِّنْ قَطُّ
لِعُمَرَ، وَلَا سَمِعَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً بِالشَّامِ إِذْ
دَخَلَهَا. السَّادِسَةُ- وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى
أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُؤَذَّنَ لِلصَّلَاةِ إِلَّا
بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الْفَجْرَ، فَإِنَّهُ
يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرِ،
وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ). وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ:
لَا يؤدن لِصَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُهَا،
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: (إِذَا حَضَرَتِ
الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا
أَكْبَرُكُمَا) وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِذَا كَانَ
لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ أَذَّنَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَذِّنِ يُؤَذِّنُ
وَيُقِيمُ غَيْرُهُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ،
لِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَهُ إِذْ رَأَى النِّدَاءَ فِي النوم أن يلقيه
على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله ابن زَيْدٍ فَأَقَامَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ أذن
فهو يقيم، لحديث عبد الرحمن ابن زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ عَنْ
زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ عن] زياد [«2» بن الحرث الصُّدَائِيِّ
قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الصُّبْحِ أَمَرَنِي
فَأَذَّنْتُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَجَاءَ بِلَالٌ
لِيُقِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فهو
يقيم). قال أبو عمر:
__________
(1). كذا في ك وز وج وع. وفي ا، ل: أذان.
(2). بالأصل، (عبد الله بن الحرث الصدائي) وهو خطأ والتصويب عن
كتب المصطلح والترمذي في سند هذا الحديث.
(6/229)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ هُوَ
الْإِفْرِيقِيُّ، وَأَكْثَرُهُمْ يُضَعِّفُونَهُ، وَلَيْسَ
يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ
إِسْنَادًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ
الْإِفْرِيقِيِّ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ
يُوَثِّقُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى
لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ
عن قصة عبد الله ابن زَيْدٍ مَعَ بِلَالٍ، وَالْآخَرِ،
فَالْآخَرُ مِنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ، وَمَعَ هَذَا
فَإِنِّي أَسْتَحِبُّ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا
رَاتِبًا أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ، فَإِنْ أَقَامَهَا
غَيْرُهُ فَالصَّلَاةُ مَاضِيَةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. الثَّامِنَةُ- وَحُكْمُ الْمُؤَذِّنِ أَنْ
يَتَرَسَّلَ فِي أَذَانِهِ، وَلَا يُطَرِّبَ «1» بِهِ كَمَا
يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ، بَلْ وَقَدْ
أَخْرَجَهُ كَثِيرٌ مِنَ الطَّغَامِ وَالْعَوَامِّ عَنْ حَدِّ
الْإِطْرَابِ، فَيُرَجِّعُونَ فِيهِ التَّرْجِيعَاتِ،
وَيُكْثِرُونَ فِيهِ التَّقْطِيعَاتِ حَتَّى لَا يُفْهَمُ مَا
يَقُولُ، وَلَا بِمَا بِهِ يَصُولُ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ
مِنْ حَدِيثِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ
فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا
تُؤَذِّنُ). وَيَسْتَقْبِلُ فِي أذانه القبلة عند جماعة من «2»
الْعُلَمَاءِ، وَيَلْوِي رَأْسَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي"
حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ" عِنْدَ
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَدُورُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَنَارَةٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْمِعَ
النَّاسُ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ
مُتَطَهِّرًا. التَّاسِعَةُ- وَيُسْتَحَبُّ لِسَامِعِ
الْأَذَانِ أَنْ يَحْكِيَهُ إِلَى آخِرِ التَّشَهُّدَيْنِ
وَإِنْ أَتَمَّهُ جَازَ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «3»، وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا
قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ
أَحَدُكُمُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ أَشْهَدُ أَنْ
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى
الْفَلَاحِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ اللَّهُ
أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ
الْجَنَّةَ (. وَفِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وقاص عن
__________
(1). التطريب مد الصوت وتحسينه.
(2). في ع وهـ: جماعة العلماء.
(3). الظاهر حديث ابن عمر لأنه صح عنه:) إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثل ما يقول" الحديث في مسلم والترمذي والنسائي وأبي
داود وأحمد.
(6/230)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ
الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ (. الْعَاشِرَةُ- وَأَمَّا فَضْلُ الْأَذَانِ
وَالْمُؤَذِّنِ فَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَيْضًا آثَارٌ صِحَاحٌ،
مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ
حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) الْحَدِيثَ. وَحَسْبُكَ
أَنَّهُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَمٌ عَلَى الْإِيمَانِ
كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ
النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَهَذِهِ إِشَارَةٌ
إِلَى الْأَمْنِ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بِطُولِ الْعُنُقِ عَنْ
أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَسَادَاتِهِمْ، كَمَا قال قائلهم «1»:
طِوَالُ «2» أَنْضِيَةِ الْأَعْنَاقِ وَاللِّمَمِ
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا يَسْمَعُ مَدَى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شي إِلَّا
شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أَذَّنَ مُحْتَسِبًا سَبْعَ
سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ) وَفِيهِ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً
وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي
كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ
ثَلَاثُونَ حَسَنَةً (. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا
الْإِسْنَادُ مُنْكَرٌ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ
بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَّا
أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا)
حَدِيثٌ ثَابِتٌ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي
أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ
الْقَاسِمُ «3» بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ
بِهِ. وَقَالَ الأوزاعي: ذلك مكروه،
__________
(1). قيل: هو لليلى الأخيلية: ويروى للشمردل بن شريك اليربوعي،
وهو عجز بيت وصدره: (يشبهون ملوكا في تجلتهم،- ويروى- يشبهون
سيوفا في صرائمهم). والنضي ما بين الرأس والكاهل من العنق.
واللمة (بالكسر): الشعر المجاوز شحمه الاذن، فإذا بلغت
المنكبين فهي جمة. قال في (اللسان): والصحيح (والأمم) جمع أمة
وهي القامة لان الكهول لا تمدح بطول اللمم إنما تمدح به النساء
والأحداث.
(2). رواية اللسان: وطول أنضية.
(3). في ع وك: القاسم بن محمد.
(6/231)
وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
يُرْزَقُ الْمُؤَذِّنُ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى
الْأَذَانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَخْذِ
الْأُجْرَةِ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ،
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا
قَالَ: خَرَجْتُ فِي نَفَرٍ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ وَنَحْنُ
عَنْهُ مُتَنَكِّبُونَ «1» فَصَرَخْنَا نَحْكِيهُ نَهْزَأُ
بِهِ، فَسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا قَوْمًا فَأَقْعَدُونَا بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَالَ: (أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ
ارْتَفَعَ) فَأَشَارَ إِلَيَّ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَصَدَقُوا
فَأَرْسَلَ كُلُّهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ لِي: (قُمْ فأذن)
فقمت ولا شي أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنْ] أَمَرَ [«2» رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِمَّا
يَأْمُرُنِي بِهِ، فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْذِينَ هُوَ
بِنَفْسِهِ فَقَالَ: (قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (، ثُمَّ قَالَ لِي:) ارْفَعْ
فَمُدَّ صَوْتَكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ
عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ
اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (، ثُمَّ دَعَانِي
حِينَ قَضَيْتُ التَّأْذِينَ فأعطاني صرة فيها شي من فضة، ثم
وَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ ثُمَّ
أَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ عَلَى «3» ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ
عَلَى كَبِدِهِ حَتَّى بَلَغَتْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّةُ أَبِي مَحْذُورَةَ، ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ)، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ، قَالَ: (قد
أمرتك). فذهب كل شي كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةٍ، وَعَادَ ذَلِكَ كُلُّهُ
مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَامِلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ
فَأَذَّنْتُ مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفظ ابن ماجة.
__________
(1). متنكبون: اسم فاعل من تنكب عنه أي عدل عنه، أي معرضون
متجنبون. وفي ج: متنكرون. [ ..... ]
(2). من ج وك وز وع.
(3). في ج وك وع: بين.
(6/232)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
الثانية عشرة- قوله تعالى: (ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) أَيْ أَنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يَمْنَعُهُ مِنَ
الْقَبَائِحِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ النَّصَارَى وَكَانَ
بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ:" أَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: حُرِقَ الْكَاذِبُ،
فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ
فَتَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ
الْكَافِرَ مَعَهُ، فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ"
وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ" وَقَدْ كَانُوا
يُمْهَلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا، فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ
ذَلِكَ، ذكره ابن العربي.
[سورة المائدة (5): الآيات 59 الى 60]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ
أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ
شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ
تَنْقِمُونَ مِنَّا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ- فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ
بْنُ أَخْطَبَ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ- إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ
يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ:
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ إِلَى قَوْلِهِ:" وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ")] البقرة: 133]، فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ. جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا
نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ،
فَنَزَلَتْ هَذِّهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ
مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَهَا مِنْ إِنْكَارِهِمِ الْأَذَانَ،
فَهُوَ جَامِعٌ لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ،
وَلِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ، وَالْمُتَنَاقِضُ دِينُ مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لَا دِينَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْكُلِّ. وَيَجُوزُ إدغام اللام في التاء لقربها منها. و"
تَنْقِمُونَ" مَعْنَاهُ تَسْخَطُونَ، وَقِيلَ: تَكْرَهُونَ
(6/233)
وَقِيلَ: تُنْكِرُونَ، وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ، يُقَالُ: نَقَمَ مِنْ كَذَا يَنْقِمُ وَنَقِمَ
يَنْقَمُ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ
يَحْلُمُونَ إِنْ غضبوا
وفي التنزيل" وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ" «1»] البروج: 8]
وَيُقَالُ: نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ فَأَنَا
نَاقِمٌ إِذَا عَتَبْتُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: مَا نَقِمْتُ
عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: نَقِمْتُ
بِالْكَسْرِ لُغَةً، وَنَقَمْتُ الْأَمْرَ أَيْضًا
وَنَقِمْتُهُ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ
أَيْ عَاقَبَهُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ النَّقِمَةُ، وَالْجَمْعُ
نَقِمَاتٌ وَنَقِمَ مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَكَلِمٍ،
وَإِنْ شِئْتَ سَكَّنْتَ الْقَافَ وَنَقَلْتَ حَرَكَتَهَا
إِلَى النُّونِ فَقُلْتَ: نِقْمَةٌ وَالْجَمْعُ نِقَمٌ، مِثْلُ
نِعْمَةٍ وَنِعَمٍ، (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- تَنْقِمُونَ" وَ" تَنْقِمُونَ" بِمَعْنَى
تَعِيبُونَ، أَيْ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا
بِاللَّهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ. (وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أَيْ فِي تَرْكِكُمُ الْإِيمَانَ،
وَخُرُوجِكُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، فَقِيلَ هُوَ
مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَلْ تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي
عَفِيفٌ وَأَنَّكَ فَاجِرٌ. وَقِيلَ: أَيْ لِأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تَنْقِمُونَ مِنَّا ذَلِكَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أَيْ
بِشَرٍّ مِنْ نَقْمِكُمْ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: بِشَرٍّ مَا
تُرِيدُونَ لَنَا مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا جَوَابُ
قَوْلِهِمْ: مَا نَعْرِفُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ."
مَثُوبَةً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ وَأَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ
فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الثَّاءِ فَسُكِّنَتِ
الْوَاوُ وَبَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا
لِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ مَقُولَةٌ وَمَجُوزَةٌ وَمَضُوفَةٌ عَلَى
مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
وَكُنْتُ إِذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفَةٍ ... أُشَمِّرُ حَتَّى
يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي
وَقِيلَ: مَفْعُلَةٌ كَقَوْلِكَ مَكْرُمَةٌ وَمَعْقُلَةٌ.
(مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) " مِنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا
قَالَ:" بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ" «3»] الحج: 72]
وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهِ،
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ على
__________
(1). راجع ج 19 ص 292.
(2). هو: أبو جندب الهزلي. والمضوفة: الامر يشق منه ويخاف.
(3). راجع ج 12 ص 95.
(6/234)
الْبَدَلِ مِنْ شَرٍّ وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ
الْيَهُودُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الطَّاغُوتِ «1»،
أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ،
وَالْمَوْصُولُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ
الْبَصْرِيُّونَ: لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ،
وَالْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ النَّخَعِيُّ" أنبئكم"
بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ:" عَبُدَ الطَّاغُوتِ"
بِضَمِ الْبَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى
فَعُلَ كَعَضُدٍ فَهُوَ بِنَاءٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ
كَيَقُظٍ وَنَدُسٍّ «2» وَحَذُرٍ، وَأَصْلُهُ الصِّفَةُ،
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ «3»:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُوشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي
الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرُدِ
بِضَمِّ الرَّاءِ. وَنَصْبِهِ بِ"- جَعَلَ"، أَيْ جعل منم
عَبُدًا لِلطَّاغُوتِ، وَأَضَافَ عَبُدَ إِلَى الطَّاغُوتِ
فَخَفَضَهُ. وَجَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، وَالْمَعْنَى:
وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ،
وَجَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَعَطَفُوهُ عَلَى فعل ماضي
وَهُوَ غَضِبَ وَلَعَنَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، أَوْ مَنْصُوبًا
بِ"- جَعَلَ"، أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطَّاغُوتِ.
وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي عَبَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ" مِنْ"
دُونَ مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ"
وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ" عَلَى الْمَعْنَى. ابْنُ عَبَّاسٍ:"
وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ"، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبْدٍ
كَمَا يُقَالُ: رَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَسَقْفٌ وَسُقُفٌ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عِبَادٍ كَمَا يُقَالُ: مِثَالٌ وَمُثُلٌ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبِيدٍ كَرَغِيفٍ ورغف، ويجوز
أن يكون جمع عابد كَبَازِلٍ وَبُزُلٍ، وَالْمَعْنَى: وَخَدَمَ
الطَّاغُوتَ. وَعِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا" وَعُبَّدَ
الطَّاغُوتِ" «4» جَعَلَهُ جَمْعَ عَابِدٍ كما يقال: شاهد وشهد
وغائب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت
__________
(1). راجع ج 3 ص 281 وما بعدها.
(2). الندس (بفتح فضم أو فتح فكسر): الفهم الكيس.
(3). هو الذبياني، ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، قال الأصمعي:
هي أربعون ميلا ليس فيها منزل، فهي مرت للوحش. والوشي في ألوان
البهائم بياض في سواد في بياض- طاوي: ضامر. المصير: المصران.
والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. والفرد والفرد (بفتح الراء
وضمها): أي هو منقطع القرين لا مثيل له في جودته.
(4). قال ابن عطية: وهذه القراءة تتخرج على أنه أراد و (عبدا)
منونا ثم حذف للالتقاء كما قال: (ولا ذاكر الله).
(6/235)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ
(61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
لِلْمُبَالَغَةِ، جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا،
كَعَامِلٍ وَعُمَّالٍ، وَضَارِبٍ وَضُرَّابٍ. وَذَكَرَ
مَحْبُوبٌ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ قَرَءُوا: (وَعُبَّادُ
الطَّاغُوتِ) جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَقَائِمٍ وَقُيَّامٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ عَبْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ «1» (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) عَلَى
الْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ.
وَقَرَأَ عَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ بُرَيْدَةَ: «2»
(وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ يُؤَدِّي
عَنْ جَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا (وَعُبِدَ
«3» الطَّاغُوتُ) وَعَنْهُ أَيْضًا] وَأُبَيٍّ [«4»
(وَعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ) عَلَى تَأْنِيثِ الجماعة، كما قال
تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ) «5»] الحجرات: 14] وَقَرَأَ
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: (وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتَ) مِثْلَ
كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ وَجْهًا. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً" لِأَنَّ مَكَانَهُمُ
النَّارَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَرَّ فِي
مَكَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا
عَلَى قَوْلِكُمْ. النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ
فِيهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا
فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا
لَحِقَكُمْ مِنَ الشَّرِّ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ نَقَمُوا
عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ
شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لهم: يا إخوة
القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افْتِضَاحًا، وَفِيهِمْ
يَقُولُ الشَّاعِرُ:
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليهود ... إن اليهود إخوة القرود
[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 63]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا
يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
__________
(1). راجع هامش ج 4 ص 1 في ضبط (الرؤاسى).
(2). في ابن عطية والشواذ قراءة ابن بريدة (بفتح الدال) و (ضم
الدال) قراءة العقيلي ولعله يقرأ كالعقيلي في رواية أخرى عنه.
(3). قال ابن عطية: (بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء)
اسم مفرد يراد به الجمع كحطم ولبد.
(4). من ج وك وع وز.
(5). راجع ج 16 ص 348. [ ..... ]
(6/236)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا
آمَنَّا) الآية. هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى
أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوهُ، بَلْ
دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَافِرِينَ." وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ
" أَيْ مِنْ نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ
الَّذِينَ قَالُوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ إِذَا دَخَلْتُمْ
الْمَدِينَةَ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى
بُيُوتِكُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ
وَمَا يَأْتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ)
يَعْنِي مِنَ الْيَهُودِ." يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ" أَيْ يُسَابِقُونَ فِي الْمَعَاصِي
وَالظُّلْمِ" وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ" قَوْلُهُ تعالى: (لَوْلا يَنْهاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (لَوْلا) بمعنى أفلا.
(يَنْهاهُمُ) يَزْجُرُهُمْ. (الرَّبَّانِيُّونَ) عُلَمَاءُ
النَّصَارَى. (وَالْأَحْبارُ) عُلَمَاءُ الْيَهُودِ قَالَهُ
الْحَسَنُ. وَقِيلَ الْكُلُّ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ هَذِهِ
الْآيَاتِ فِيهِمْ. ثُمَّ وَبَّخَ عُلَمَاءَهُمْ فِي
تَرْكِهِمْ نَهْيَهُمْ فَقَالَ: (لَبِئْسَ مَا كانُوا
يَصْنَعُونَ) كَمَا وَبَّخَ مَنْ يُسَارِعُ فِي الْإِثْمِ
بِقَوْلِهِ:" لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ" وَدَلَّتِ
الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
كَمُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ، فَالْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْعُلَمَاءِ
فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ في هذا المعنى في
(البقرة) «1» و (وآل عمران) «2». وروى سفيان ابن عُيَيْنَةَ
قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ
بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ
فَقَالَ: يَا رَبِّ فِيهَا فُلَانٌ الْعَابِدُ فَأَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: (أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ
لَمْ يَتَمَعَّرْ «3» وَجْهُهُ فِي سَاعَةٍ قَطُّ). وَفِي
صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا
الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا على يديه أو شك أَنْ يَعُمَّهُمُ
اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ). وَسَيَأْتِي. وَالصُّنْعُ
بِمَعْنَى الْعَمَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوْدَةَ،
يقال: سيف صنيع إذا جود عمله.
[سورة المائدة (5): آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
__________
(1). راجع ج 1 ص 365 وما بعدها.
(2). راجع ج 4 ص 47.
(3). تمعر وجهه: تغير.
(6/237)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ). قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا قَالَ
هَذَا فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ] لَعَنَهُ اللَّهُ [«1»،
وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَمَّا كَفَرُوا
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل ما لهم،
فقالوا: إن الله بخيل، وئد اللَّهِ مَقْبُوضَةٌ عَنَّا فِي
الْعَطَاءِ، فَالْآيَةُ خَاصَّةً فِي بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ:
لَمَّا قَالَ قَوْمٌ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ
صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا. وَقَالَ
الْحَسَنُ: الْمَعْنَى يَدُ اللَّهِ مَقْبُوضَةٌ عَنْ
عَذَابِنَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَقْرٍ وَقِلَّةِ مَالٍ
وَسَمِعُوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً) «2» وَرَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي الدِّيَاتِ
قَالُوا: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا:
بَخِيلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: (يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ) فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَلا
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) «3»] الاسراء:
29]. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ
الْكَفِّ، وَكَزُّ الْأَصَابِعِ، وَمَغْلُولُ الْيَدِ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا ... وَكُلُّ
بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّمَا
وَجْهَهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحٌ
وَالْيَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَكُونُ لِلْجَارِحَةِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً" «4»] ص: 44]
هذا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَكُونُ لِلنِّعْمَةِ،
تَقُولُ الْعَرَبُ: كَمْ يَدٍ لِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ كَمْ
مِنْ نِعْمَةٍ لِي قَدْ أَسْدَيْتُهَا لَهُ، وَتَكُونُ
لِلْقُوَّةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَاذْكُرْ
عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ" «5»] ص: 17]، أي ذا القوة
وتكون يد الملك وَالْقُدْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ" «6»]
آل عمران: 73]. وَتَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً" «7»] يس: 71]
أي مما عملنا نحن. وقال:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ" «8»] الْبَقَرَةِ: 237] أَيِ الذِي لَهُ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّأْيِيدِ
وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَدُ
اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِمِ حَتَّى
يَقْسِمَ). وَتَكُونُ لاضافة الفعل إلى المخبر عند تَشْرِيفًا
لَهُ وَتَكْرِيمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا إِبْلِيسُ
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" «9»] ص:
75] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ
الْبَارِيَ جَلَّ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ
التبعيض، ولا على القوة والملك
__________
(1). من ع.
(2). راجع ج 3 ص 237، 04 2.
(3). راجع ج 10 ص 249.
(4). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(5). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(6). راجع ج 4 ص 11 2.
(7). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(8). راجع ج 3 ص 237، 04 2.
(9). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(6/238)
وَالنِّعْمَةِ وَالصِّلَةِ، لِأَنَّ
الِاشْتِرَاكَ يَقَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ وَلِيِّهِ آدَمَ
وَعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، وَيَبْطُلُ مَا ذُكِرَ مِنْ
تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ،
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ «1» عَلَى صِفَتَيْنِ
تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَمَ تَشْرِيفًا لَهُ دُونَ خَلْقِ
إِبْلِيسَ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ، لَا مِنْ
طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّةُ،
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أنه] عز اسمه وتعالى علاه وجد أَنَّهُ
[«2» كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ دَارَ
الْكَرَامَةِ] بِيَدِهِ [«3» لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِمُقْتَضَاهَا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا)
حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا، أَيْ غُلَّتْ
فِي الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ،
وَكَذَا" وَلُعِنُوا بِما قالُوا" وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيمُنَا
كَمَا قَالَ:" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللَّهُ" «4»] الفتح: 27]، عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا
عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى أَبِي لهب بقوله:" تَبَّتْ يَدا
أَبِي لَهَبٍ" «5»] المسد: 1] وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ
أَبْخَلُ الْخَلْقِ، فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْرَ لَئِيمٍ.
وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ الْوَاوِ،
أَيْ قَالُوا: يَدُ اللَّهِ مغلولة وغلت أيديهم. واللعن
بالابعاد، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ بَلْ نِعْمَتُهُ
مَبْسُوطَةٌ، فَالْيَدُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ. قَالَ
بَعْضُهُمْ: هَذَا غَلَطٌ، لِقَوْلِهِ:" بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ" فَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُونُ بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؟
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَثْنِيَةَ
جِنْسٍ لَا تَثْنِيَةَ وَاحِدٍ مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَثَلُ الْمُنَافِقِ
كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ «6») 6 (بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ).
فَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي
نِعْمَةُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نِعْمَتَا الدُّنْيَا
النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاطِنَةُ، كَمَا
قَالَ:" وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً"
«7»] لقمان: 20]. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ:
(النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقِكَ،
وَالْبَاطِنَةُ مَا سُتِرَ عَلَيْكَ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِكَ).
وَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ اللَّتَانِ
النِّعْمَةُ بِهِمَا وَمِنْهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ النِّعْمَةَ
«8» لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: (لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ) وَلَيْسَ يُرِيدُ الِاقْتِصَارَ عَلَى
مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: ما لي بهذا الامر يد
أو قُوَّةٌ. قَالَ السُّدِّيُّ، مَعْنَى قَوْلِهِ (يَداهُ)
قُوَّتَاهُ بالثواب
__________
(1). كذا في الأصول إلا في ج، ز: تحملا. ولا وجه للتثنية هنا.
(2). من ز. [ ..... ]
(3). من ع.
(4). راجع ج 16 ص 289.
(5). راجع ج 20 ص 234.
(6). العائرة بين الغنمين: أي المترددة بين قطيعين، لا تدرى
أيهما تتبع.
(7). راجع ج 14 ص 73.
(8). تلك عبارة الأصول، أو صوابها ما في الجصاص: إن التثنية
للمبالغة في صفة النعمة كقولك إلخ. راجع ج 2 ص 448.
(6/239)
وَالْعِقَابِ، بِخِلَافِ مَا قَالَتِ
الْيَهُودُ: إِنَّ يَدَهُ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِهِمْ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْكَ). وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَمِينُ
اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ «1» أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مذ خلق السموات
وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ- قَالَ-
وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ
«2» يرفع ويخفض (. السح الصب الكثير. وبغيض يَنْقُصُ،
وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:"
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ" «3»] البقرة: [. وَأَمَّا
هَذِهِ الْآيَةُ فَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" بل يداه
بسطان" «4» [المائدة:] حَكَاهُ الْأَخْفَشُ، وَقَالَ يُقَالُ:
يَدٌ بُسْطَةٌ، أَيْ مُنْطَلِقَةٌ مُنْبَسِطَةٌ.) يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ) أَيْ يَرْزُقُ كَمَا يُرِيدُ. وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْيَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ،
أَيْ قُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ
قَتَّرَ. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) لَامُ قَسَمٍ.
(مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أَيْ بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ. (طُغْياناً وَكُفْراً) أي إذا نزل شي مِنَ
الْقُرْآنِ فَكَفَرُوا ازْدَادَ كُفْرُهُمْ. (وَأَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ) قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا" لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ"] المائدة: 51]. وَقِيلَ:
أَيْ أَلْقَيْنَا بَيْنَ طَوَائِفِ الْيَهُودِ، كَمَا قال:"
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى" «5»] الحشر: 14]
فهم متباغضون مُتَّفِقِينَ، فَهُمْ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ
إِلَى النَّاسِ. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) يريد
اليهود. و" كُلَّما" ظَرْفٌ أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا
وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللَّهُ جَمْعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْيَهُودَ لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كتاب الله- التوراة-
أرسل الله عليهم بخت نصر، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا كُلَّمَا اسْتَقَامَ
أَمْرُهُمْ شَتَّتَهُمُ اللَّهُ فَكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى حَرْبِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أَطْفَأَهَا
اللَّهُ" وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرَهُمْ فَذِكْرُ النَّارِ
مُسْتَعَارٌ. قَالَ قَتَادَةُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فَلَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي
__________
(1)." الليل والنهار" قال النووي: هو بنصب الليل والنهار
ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على الفاعل. قال في هامش
مسلم: لكن على تقدير النصب ماذا يكون الفاعل في (لا يغيضها) لم
يذكره، ولو كانت الرواية (لا يغيضها سح الليل والنهار)
بالإضافة لبان الفاعل كما في رواية زهير بن حرب" لا يغيضها
شي".
(2). الفيض: ضبطوه (بالفاء والياء) ومعناه الإحسان، و (بالقاف
والباء) ومعناه الموت.
(3). راجع ج 3 ص 237.
(4). كذا في البحر وفي الشواذ لابن خالويه: بسطتان. بضم السين.
(5). راجع ج 18 ص 35.
(6/240)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
المجوس، ثم قال عز وجل: (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) أَيْ يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَالِ
الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا نَارُ
الْغَضَبِ، أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارَ الْغَضَبِ فِي
أَنْفُسِهِمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّةِ
النُّفُوسِ مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَارِ الْغَضَبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ حَتَّى يَضْعُفُوا وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ
الرُّعْبِ نُصْرَةً بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) (أَنَّ)
فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَكَذَا" وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا
التَّوْراةَ". (آمَنُوا) صَدَّقُوا. (وَاتَّقَوْا) أَيِ
الشِّرْكَ والمعاصي. (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) اللام جواب
(لَوْ). وكفرنا غَطَّيْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِقَامَةُ
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُمَا
وَعَدَمُ تَحْرِيفِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى
فِي (الْبَقَرَةِ) «1» مُسْتَوْفًى. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
مِنْ رَبِّهِمْ) أَيِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: كُتُبُ
أَنْبِيَائِهِمْ. (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي
الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
كَانُوا فِي جَدْبٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لوسعنا عليهم في
أرزاقهم ولأكلوا أَكْلًا مُتَوَاصِلًا، وَذِكْرُ فَوْقَ
وَتَحْتَ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ
الدُّنْيَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ" وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ" «2»] الطلاق: 2] " وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً" «3»] الجن: 16]
" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا
عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" «4»]
الأعراف: 96] فَجَعَلَ تَعَالَى التُّقَى مِنْ أَسْبَابِ
الرِّزْقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ
لِمَنْ شَكَرَ فقال:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"
«5»] إبراهيم: 7] ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا- وهم
الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ كَالنَّجَاشِيِّ وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سلام اقتصدوا فلم
__________
(1). راجع ج 1 ص 437 وما بعدها.
(2). راجع ج 18 ص 159.
(3). راجع ج 19 ص 16. [ ..... ]
(4). راجع ج 7 ص 253.
(5). راجع ج 9 ص 342.
(6/241)
يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ (67)
يَقُولُوا فِي عِيسَى وَمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «1» إلا ما يليق بهما.
وقد: أَرَادَ بِالِاقْتِصَادِ قَوْمًا لَمْ يُؤْمِنُوا،
وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْذِينَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِاقْتِصَادُ
الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ مِنَ الْقَصْدِ،
وَالْقَصْدُ إِتْيَانُ الشَّيْءِ، تَقُولُ: قَصَدْتُهُ
وَقَصَدْتُ لَهُ وَقَصَدْتُ إِلَيْهِ بِمَعْنًى. (ساءَ مَا
يَعْمَلُونَ) أَيْ بِئْسَ شي عَمِلُوهُ، كَذَّبُوا الرُّسُلَ،
وَحَرَّفُوا الْكُتُبَ وَأَكَلُوا السُّحْتَ.
[سورة المائدة (5): آية 67]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَظْهِرِ التَّبْلِيغَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُخْفِيهِ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
ثُمَّ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ
وَقَالَ: لَا نَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا، وَفِي ذَلِكَ
نَزَلَتْ:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" «2» [الأنفال: 64] فَدَلَّتِ
الْآيَةُ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ
الدِّينِ تَقِيَّةً، وَعَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُمْ
الرَّافِضَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسِرْ إِلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ
أَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ ظَاهِرًا، وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ فَائِدَةٌ. وَقِيلَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ فِي أَمْرِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
الْأَسَدِيَّةِ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا [«3». وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ، فَإِنْ كَتَمْتَ شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ، وَهَذَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأْدِيبٌ لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ مِنْ
أُمَّتِهِ أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ شَرِيعَتِهِ،
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ نَبِيِّهِ أَنَّهُ
لَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنْ وَحْيِهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قالت: من حدثك
__________
(1). كذا في ج وك وع.
(2). راجع ج 8 ص 42.
(3). من ع.
(6/242)
أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ،
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ" وَقَبَّحَ اللَّهُ الرَّوَافِضَ حَيْثُ
قَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ
شَيْئًا مما أوحى إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ) دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَمَنْ ضَمِنَ
سُبْحَانَهُ لَهُ الْعِصْمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ
تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَسَبَبُ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ «1» سَيْفَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
فَقَالَ:" اللَّهُ"، فَذُعِرَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ
السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ
حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ قَالَ:
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّ
غورث ابن الْحَارِثِ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ، فَرَجَعَ
إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ
النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ:" إِذْ هَمَّ قَوْمٌ
أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ" «2» [المائدة: 11]
مُسْتَوْفًى، وَفِي" النِّسَاءِ" أَيْضًا فِي ذِكْرِ صَلَاةِ
الْخَوْفِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
الله قال: غزونا مع وسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِيرِ
الْعِضَاهِ «3» فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ
بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي
الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن رَجُلًا
أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ
وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا والسيف
مصلتا «4» فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي-
قَالَ- قُلْتُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ مَنْ
يَمْنَعُكَ مِنِّي- قَالَ- قُلْتُ اللَّهُ قَالَ فَشَامَ «5»
السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ" ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَمَّا بَعَثَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ضِقْتُ
بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ مِنَ الناس من يكذبني
__________
(1). اخترط سيفه: استله.
(2). راجع ص 111 من هذا الجزء. وج 5 ص 372.
(3). العضاه: شجر عظيم له شوك، وقيل: أعظم الشجر.
(4). صلتا: أي مجردا من غمده. وفي ك: صلت.
(5). شام السيف. أي غمده ورده في غمده، يقال: شام السيف إذا
سله وإذا أغمده، فهو من الأضداد. والمراد هنا أغمده.
(6/243)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ)
وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُرْسِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ:" وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا عَمَّاهُ «1» إِنَّ اللَّهَ قَدْ
عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى
مَنْ يَحْرُسُنِي". قُلْتُ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ
مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً
فَقَالَ:" لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي
يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ" قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ
سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ «2» سِلَاحٍ، فَقَالَ:" مَنْ هَذَا"؟
قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا جَاءَ بِكَ"؟
فَقَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ،
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ قَالَتْ:
فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْتُ صَوْتَ السِّلَاحِ،
فَقَالَ:" مَنْ هَذَا"؟ فَقَالُوا: سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ
جِئْنَا نَحْرُسُكَ، فَنَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ «3» وَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةِ أَدَمٍ وَقَالَ:" انْصَرِفُوا
أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ". وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ:" رِسَالَاتِهُ" عَلَى الْجَمْعِ. وَأَبُو
عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ:" رِسالَتَهُ" عَلَى
التَّوْحِيدِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ
حَسَنَتَانِ وَالْجَمْعُ أَبْيَنُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَنْزِلُ عَلَيْهِ
الْوَحْيُ شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُبَيِّنُهُ،
وَالْإِفْرَادُ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَهِيَ
كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ لَا
يُجْمَعُ وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعِهِ
بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا
تُحْصُوها" «4» [إبراهيم: 34]. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أَيْ لَا يُرْشِدُهُمْ وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَةُ
فَإِلَيْنَا. نَظِيرُهُ" مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا
الْبَلاغُ" «5»] المائدة: 99] والله أعلم.
__________
(1). من ك وع وج.
(2). خشخشة سلاح: أي صوت سلاح صدم بعضه بعضا.
(3). الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(4). راجع ج 9 ص 367. [ ..... ]
(5). راجع ص 327 من هذا الجزء.
(6/244)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
[سورة المائدة (5): آية 68]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى
تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ
التَّوْرَاةَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ:] بَلَى [.
فَقَالُوا: فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُؤْمِنُ بِمَا
عَدَاهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، أَيْ لستم على شي من الدين حتى
تعملوا بِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ
مِنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُمَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أَيْ يَكْفُرُونَ
بِهِ فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَالطُّغْيَانُ
تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ صَغِيرَةٌ وَمِنْهُ
كَبِيرَةٌ، فَمَنْ تَجَاوَزَ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرَةِ فَقَدْ
طَغَى. وَمِنْهُ قوله تعالى:" كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى " «1»] العلق: 6] أَيْ يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي
الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أَيْ لَا تَحْزَنُ
عَلَيْهِمْ. أَسىَ يَأْسَى أَسًى إِذَا حَزِنَ. قَالَ:
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى
وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنِ الْحُزْنِ، لِأَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ تَسْلِيَةٌ وَنَهْيٌ عَنِ
التَّعَرُّضِ لِلْحُزْنِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي
آخر (آل عمران) «2» مستوفى.
__________
(1). راجع ج 20 ص 122.
(2). راجع ج 4 ص 284 وما بعدها.
(6/245)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
[سورة المائدة (5): آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69)
تَقَدَّمَ الكلام فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ." وَالَّذِينَ
هادُوا" مَعْطُوفٌ، وَكَذَا" وَالصَّابِئُونَ" مَعْطُوفٌ عَلَى
الْمُضْمَرِ فِي" هادُوا" فِي قَوْلِ الْكِسَائِيِّ
وَالْأَخْفَشِ. قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ
يَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ
وَالْكِسَائِيِّ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا
أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ يَقْبُحُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ
حَتَّى يُؤَكَّدَ. وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ
شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ
الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ وَهَذَا
مُحَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ فِي"
وَالصَّابِئُونَ" لِأَنَّ" إِنَّ" ضَعِيفَةٌ فَلَا تُؤَثِّرُ
إلا في الاسم دون الخبر، و" الَّذِينَ" هُنَا لَا يَتَبَيَّنُ
فِيهِ الْإِعْرَابُ فَجَرَى عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ
الْأَمْرَانِ «1»، فَجَازَ رَفْعُ الصَّابِئِينَ رُجُوعًا
إِلَى أَصْلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَبِيلُ مَا
يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَمَا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ
الْإِعْرَابُ وَاحِدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:
الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ،
وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ. وَأَنْشَدَ «2»
سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُهُ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا
بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وَقَالَ ضَابِئِ الْبُرْجُمِيِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي
وَقَيَّارٌ «3» بِهَا لَغَرِيبُ
وَقِيلَ:" إِنَّ" بِمَعْنَى" نَعَمْ" فَالصَّابِئُونَ
مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَحُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ
الثَّانِي عَلَيْهِ، فَالْعَطْفُ يَكُونُ عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وانقضاء الاسم والخبر.
وقال قيس الرقيات:
__________
(1). في ع: فجرى على جهة واحدة، ألا ترى أن جاز رفع الصابئين
إلخ.
(2). البيت لبشر بن أبي حازم. والبغاة: جمع باغ وهو الساعي
بالفساد. والشقاق: الخلاف.
(3). قيار: قيل اسم جمل ضابئ، وقيل: اسم فرسه. يقول: من كان
بالمدينة بيته ومنزله، فلست منها ولا لي بها منزل.
(6/246)
لَقَدْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا ... حَ
يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ
إِنَّهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: (إِنَّهْ) بِمَعْنَى (نَعَمْ)، وهذه
(الهاء) أدخلت للسكت.
[سورة المائدة (5): آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا). قَدْ تَقَدَّمَ
فِي (الْبَقَرَةِ) «1» مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَهُوَ أَلَّا
يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ.
وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ] الْآيَةِ [«2» لَا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا
إِلَيْهِمْ، وَأَرْسَلْنَا الرُّسُلَ فَنَقَضُوا الْعُهُودَ.
وَكُلُّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ
وَهُوَ قَوْلُهُ:" أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"] المائدة: 1].
(كُلَّما جاءَهُمْ) أَيْ الْيَهُودَ (رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ) لَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ (فَرِيقاً كَذَّبُوا
وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا
فَرِيقًا، فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْلَهُ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ، وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى
وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِنَّمَا قَالَ:"
يَقْتُلُونَ" لِمُرَاعَاةِ رَأْسِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
فَرِيقًا كَذَّبُوا، وَفَرِيقًا قَتَلُوا، وَفَرِيقًا
يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، فَهَذَا دَأْبُهُمْ
وَعَادَتُهُمْ فَاخْتَصَرَ. وَقِيلَ: فَرِيقًا كذبوا لم
يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و" يَقْتُلُونَ" نعت لفريق.
والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ
تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
الْمَعْنَى، ظَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ
الْمِيثَاقُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ بِالشَّدَائِدِ، اغْتِرَارًا
بِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ،
وَإِنَّمَا اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ. وَقَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو وَحَمْزَةُ والكسائي" تكون" بالرفع، ونصب)
__________
(1). راجع ج 1 ص 246 وما بعدها.
(2). من ج وع وك وهـ.
(6/247)
الْبَاقُونَ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ
حَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَيَقَّنَ. وَ" أَنْ" مُخَفَّفَةٌ
مِنَ الثَّقِيلَةِ وَدُخُولُ" لَا" عِوَضٌ مِنَ التَّخْفِيفِ،
وَحُذِفَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَلِيَهَا
الْفِعْلُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ،
فَفَصَلُوا بَيْنَهُمَا (بِلَا). وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ" أَنَّ"
نَاصِبَةً لِلْفِعْلِ، وَبَقِيَ حَسِبَ عَلَى بَابِهِ مِنَ
الشَّكِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَسِبْتُ أَلَّا
يَقُولَ ذَلِكَ، أَيْ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَإِنْ
شِئْتَ نَصَبْتَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالرَّفْعُ عِنْدَ
النَّحْوِيِّينَ فِي حَسِبَ وَأَخَوَاتِهَا أَجْوَدُ كما قال
«1»:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ
وَأَلَّا يَشْهَدُ اللَّهْوَ أَمْثَالِي
وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْعُ أَجْوَدَ، لان حسب وأخواتها بمنزلة
العلم لأنه «2» شي ثَابِتٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَمُوا)
أَيْ عَنِ الْهُدَى. (وَصَمُّوا) أَيْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا رَأَوْهُ وَلَا
سَمِعُوهُ. (ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) فِي الْكَلَامِ
إِضْمَارٌ، أَيْ أُوقِعَتْ بِهِمُ الْفِتْنَةُ فَتَابُوا
فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ الْقَحْطِ، أَوْ
بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ
آمَنُوا، فَهَذَا بَيَانُ" تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" أَيْ
يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لَا أَنَّهُمْ
تَابُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ. (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ) أَيْ عَمِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَصَمَّ بَعْدَ
تَبَيُّنِ الْحَقِّ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، فَارْتَفَعَ" كَثِيرٌ" عَلَى الْبَدَلِ مِنَ
الْوَاوِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: كَمَا تَقُولُ
رَأَيْتَ قَوْمَكَ ثُلُثَيْهِمْ. وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى
إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيِ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ. وَإِنْ شِئْتَ كَانَ التَّقْدِيرُ الْعُمْيُ
وَالصُّمُّ مِنْهُمْ كَثِيرٌ. وَجَوَابٌ رَابِعٌ أَنْ يَكُونَ
عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: (أَكَلُونِي البراغيث) وعليه قول
الشاعر «3»:
وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ
يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:" وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
«4» الَّذِينَ ظَلَمُوا"] الأنبياء: 3]. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ
الْقُرْآنِ (كَثِيرًا) بِالنَّصْبِ يَكُونُ نعتا لمصدر محذوف.
__________
(1). البيت لامرئ القيس ويروى في ديوانه (ألا يحسن اللهو).
وبسباسة امرأة من بني أسد.
(2). في ج وع: في أنه.
(3). البيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف قرية بالشام،
وقيل: بالجزيرة، وأهلها نبط الشام. والسليط: الزيت.
(4). راجع ج 11 ص 268.
(6/248)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى
اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
[سورة المائدة (5): آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) هَذَا قَوْلُ
الْيَعْقُوبِيَّةِ فرد الله عليهم ذَلِكَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ
مِمَّا يُقِرُّونَ بِهِ، فَقَالَ: (وَقالَ الْمَسِيحُ يَا
بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أَيْ
إِذَا كَانَ الْمَسِيحُ يَقُولُ: يَا رَبِّ وَيَا اللَّهُ
فَكَيْفَ يَدْعُو نَفْسَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْأَلُهَا؟ هَذَا
مُحَالٌ. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) قيل: وهو مِنْ
قَوْلِ عِيسَى. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى. وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يَعْتَقِدَ مَعَهُ مُوجِدًا.
وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) «1» الْقَوْلُ فِي
اشْتِقَاقِ الْمَسِيحِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. (وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).
[سورة المائدة (5): الآيات 73 الى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ
وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا
عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). أَيْ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ. وَلَا
يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ، عَنِ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهِ لِلْعَرَبِ مَذْهَبٌ آخَرُ، يَقُولُونَ: رَابِعُ
ثَلَاثَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ،
لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَةُ أَرْبَعَةً
بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: ثَالِثُ
اثْنَيْنِ، «2» جَازَ التَّنْوِينُ. وَهَذَا قَوْلُ فِرَقِ
النَّصَارَى مِنَ الْمَلِكِيَّةِ «3» وَالنُّسُّطُورِيَّةِ
وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَبٌ وَابْنٌ
وَرُوحُ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَقُولُونَ ثَلَاثَةَ
آلِهَةٍ وَهُوَ مَعْنَى مَذْهَبِهِمْ، وَإِنَّمَا
يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْعِبَارَةِ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُمْ.
وَمَا كَانَ هكذا صح أن
__________
(1). راجع ج 4 ص 88 وما بعدها.
(2). في ع: ثالث اثنين بالتنوين. [ ..... ]
(3). كذا في الأصول وتقدم أنهم الملكائية.
(6/249)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ
كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ (75)
يُحْكَى بِالْعِبَارَةِ اللَّازِمَةِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الِابْنَ إِلَهٌ
وَالْأَبَ إِلَهٌ وَرُوحَ الْقُدُسِ إِلَهٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي (النِّسَاءِ) «1» فَأَكْفَرَهُمُ
اللَّهُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا، [وَقَالَ «2»]: (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أَيْ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَتَعَدَّدُ
وَهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لَفْظًا، وقد مضى
في (البقرة) «3» معنى الواحد. و (مِنْ) زَائِدَةٌ. وَيَجُوزُ
فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ (إِلَهًا وَاحِدًا) عَلَى
الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ الْخَفْضَ عَلَى
الْبَدَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ
يَكُفُّوا عَنِ الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ لَيَمَسَّنَّهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (أَفَلا
يَتُوبُونَ) تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، أَيْ فَلْيَتُوبُوا
إِلَيْهِ وَلْيَسْأَلُوهُ سَتْرَ ذُنُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ
الْكَفَرَةُ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَفَرَةُ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْقَائِلُونَ بذلك دون المؤمنين.
[سورة المائدة (5): آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا
يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ، أَيْ مَا الْمَسِيحُ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْآيَاتُ
عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِهَا
الرُّسُلُ، فَإِنْ كَانَ إِلَهًا فَلْيَكُنْ كُلُّ رَسُولٍ
إِلَهًا، فَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ بَالَغَ فِي الْحُجَّةِ فَقَالَ:" وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ"
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ" كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" أَيْ
أَنَّهُ مَوْلُودٌ مَرْبُوبٌ، وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ
وَكَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَسَائِرِ
الْمَخْلُوقِينَ، وَلَمْ يَدْفَعْ هَذَا أَحَدٌ مِنْهُمْ،
فَمَتَى يَصْلُحُ الْمَرْبُوبُ لِأَنْ يَكُونُ رَبًّا؟!
وَقَوْلُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ «4» بِنَاسُوتِهِ لَا
بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِيرٌ إِلَى الِاخْتِلَاطِ،
وَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ إِلَهٍ بِغَيْرِ إِلَهٍ، وَلَوْ
جَازَ اخْتِلَاطُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ
يَصِيرَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ
عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ:
اللَّاهُوتُ مُخَالِطٌ لِكُلِّ مُحْدَثٍ. وَقَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ:" كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ"
إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وَفِي هذا
دلالة
__________
(1). راجع ص 23 وما بعدها من هذا الجزء.
(2). من ج، ك، ع، هـ.
(3). راجع ج 2 ص 190.
(4). في ع: يأكل الطعام. إلخ.
(6/250)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ. وَقَدِ
اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ
لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ". قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ صِدِّيقَةً مَعَ كَوْنِهَا نَبِيَّةً كَإِدْرِيسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «1»
مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا
قِيلَ لَهَا صِدِّيقَةٌ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهَا بِآيَاتِ
رَبِّهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَدَهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ،
عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أَيِ
الدَّلَالَاتِ. (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيْ
كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ،
يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ. وَفِي هَذَا
رَدٌّ عَلَى القدرية والمعتزلة.
[سورة المائدة (5): آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) زِيَادَةٌ فِي
الْبَيَانِ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ] عَلَيْهِمْ [«2»، أَيْ
أَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ
أُمِّهِ، لَا يَمْلِكُ لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَإِذْ
أَقْرَرْتُمْ أَنَّ عِيسَى كَانَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ وَلَا يَنْفَعُ
وَلَا يَضُرُّ، فَكَيْفَ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا؟. (وَاللَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا
عَلِيمًا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ. وَمَنْ كَانَتْ
هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ الاله على الحقيقة. والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 77]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ
قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ
(77)
__________
(1). راجع ج 4 ص 82 وما بعدها
(2). من ع وك.
(6/251)
لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) أَيْ
لَا تُفَرِّطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
فِي عِيسَى، غُلُوُّ الْيَهُودِ قَوْلُهُمْ فِي عِيسَى، لَيْسَ
وَلَدَ رِشْدَةٍ «1»، وَغُلُوُّ النَّصَارَى قَوْلُهُمْ:
إِنَّهُ إِلَهٌ. وَالْغُلُوُّ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي (النِّسَاءِ) «2» بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) «3»
. وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي
النَّارِ." قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ" قَالَ مُجَاهِدٌ
وَالْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أَيْ
أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ) أَيْ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكْرِيرُ ضَلُّوا عَلَى
مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَضَلُّوا مِنْ بَعْدُ،
وَالْمُرَادُ الْأَسْلَافُ الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَةَ
وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ اليهود والنصارى.
[سورة المائدة (5): آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ
داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ جَوَازُ لَعْنِ
الْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَنَّ شَرَفَ النَّسَبِ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اللَّعْنَةِ
فِي حَقِّهِمْ. وَمَعْنَى" عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ" أَيْ لُعِنُوا فِي الزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ،
فَإِنَّ الزَّبُورَ لِسَانُ دَاوُدَ، وَالْإِنْجِيلَ لِسَانُ
عِيسَى أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الْكِتَابَيْنِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُمَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَغَيْرُهُمَا. لَعَنَهُمْ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.
قَالَ أَبُو مَالِكٍ: الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ
دَاوُدَ مُسِخُوا قِرَدَةً. وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى
لِسَانِ عِيسَى مُسِخُوا خَنَازِيرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ أَصْحَابُ
السَّبْتِ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا.
وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: لُعِنَ الْأَسْلَافُ وَالْأَخْلَافُ
مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى، لِأَنَّهُمَا أَعْلَمَا أَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ
مَبْعُوثٌ فَلَعَنَا مَنْ يَكْفُرُ بِهِ.
__________
(1). ولد رشدة (بكسر الراء وقد تفتح): أي ولد نكاح.
(2). راجع ص 21 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 2 ص 24 وما بعدها.
(6/252)
كَانُوا لَا
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا).
ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ ذَلِكَ
اللَّعْنُ بِمَا عَصَوْا، أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيِ الْأَمْرُ
ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ
فَعَلْنَا ذَلِكَ بهم لعصيانهم واعتدائهم.
[سورة المائدة (5): آية 79]
كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ). فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ" أَيْ لَا يَنْهَى
بَعْضُهُمْ بَعْضًا:" لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ" ذَمٌّ
لِتَرْكِهِمُ النَّهْيَ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُمْ يُذَمُّ مَنْ
فَعَلَ فِعْلَهُمْ. خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَلْقَى
الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا
تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ
الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ
وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ
اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ:" لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ" إِلَى قَوْلِهِ:" فاسِقُونَ" ثُمَّ قَالَ:]
كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى
يَدَيِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ
وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ
اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ [وَخَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا. وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ
لَتَرُدُّنَّهُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ
الْمُنْكَرِ فَرْضٌ لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى
نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِرُ
بِقَلْبِهِ وَيَهْجُرُ ذَا الْمُنْكَرِ وَلَا يُخَالِطُهُ.
وَقَالَ حُذَّاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ
النَّاهِي أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ مَعْصِيَةٍ بَلْ يَنْهَى
الْعُصَاةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ بَعْضُ
الْأُصُولِيِّينَ: فُرِضَ عَلَى الذين يتعاطون الكئوس أَنْ
يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا
(6/253)
تَرَى كَثِيرًا
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ،
قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ:" كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ
مُنكَرٍ فَعَلُوهُ" يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْفِعْلِ
وَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّنَاهِي. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُجْرِمِينَ وَأَمْرٍ
بِتَرْكِهِمْ وَهِجْرَانِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْيَهُودِ:" تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ
يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا" وَ" مَا" مِنْ قَوْلِهِ:"
مَا كانُوا" يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمَا
بَعْدَهَا نَعْتٌ لَهَا، التَّقْدِيرُ لَبِئْسَ شَيْئًا
كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. أَوْ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وهي
بمعنى الذي.
[سورة المائدة (5): آية 80]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ
الْيَهُودِ، قِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ (يَتَوَلَّوْنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسُوا عَلَى
دِينِهِمْ. (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أَيْ
سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَبِئْسَ مَا
قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ) " أَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ
مُبْتَدَأٍ كقولك: بئس رجلا زَيْدٌ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ"
مَا" فِي] قَوْلِهِ [«1» " لَبِئْسَ" عَلَى أَنْ تَكُونَ" مَا"
نَكِرَةٌ فَتَكُونُ رَفْعًا أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى لان سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ:" وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ" ابتداء وخبر.
[سورة المائدة (5): آية 81]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِياءَ) يَدُلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ
كَافِرًا وَلِيًّا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ إِذَا اعْتَقَدَ
اعْتِقَادَهُ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُ. (وَلكِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أَيْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ
بِنَبِيِّهِمْ لِتَحْرِيفِهِمْ، أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفاقهم.
__________
(1). من ع.
(6/254)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ (82)
[سورة المائدة (5): آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ
مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى
ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ" اللام لام قسم وَدَخَلَتِ
النُّونُ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فَرْقًا
بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ." عَداوَةً" نُصِبَ عَلَى
الْبَيَانِ وَكَذَا" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى " وَهَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا
قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى-
حَسَبَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَغَيْرِهِ- خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتِهِمْ،
وَكَانُوا ذَوِي عَدَدٍ. ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، حَالَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْحَرْبُ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ
وَقَتَلَ اللَّهُ فِيهَا صَنَادِيدَ الْكُفَّارِ، قَالَ
كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ،
فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ
رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ
عِنْدَهُ فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ،
فَبَعَثَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِهَدَايَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ،
فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَا
جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَأَرْسَلَ
إِلَى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أَنْ يَقْرَأَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ سُورَةَ (مَرْيَمَ) فَقَامُوا
تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، فَهُمُ الَّذِينَ
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ
مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى
" وَقَرَأَ إِلَى" الشَّاهِدِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ
قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الحرث بْنِ هِشَامٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْهِجْرَةَ الْأُولَى
هِجْرَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَسَاقَ
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ
(6/255)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ،
مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ،
فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ «1» فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ،
وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا،
دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ،
فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ،
ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ،
وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ
مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ
أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: خَيَّبَكُمُ
اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ
دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ
الرَّجُلِ، فَلَمْ تَظْهَرْ «2» مُجَالَسَتُكُمْ عِنْدَهُ
حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ
لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ- أَوْ كَمَا
قَالَ لَهُمْ- فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا
نُجَاهِلُكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، لَا
نَأْلُوا أَنْفُسَنَا خَيْرًا. فَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ
النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِمْ
نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ" «3»] القصص:
52] إلى قوله:" لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ"] القصص: 55]
وَقِيلَ: إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ قَدِمَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ
رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فِيهِمُ اثْنَانِ
وَسِتُّونَ مِنَ الحبشة وثمانية من أهل الشام] وهم [«4» بحيراء
«5» الرَّاهِبُ وَإِدْرِيسُ وَأَشْرَفُ وَأَبْرَهَةُ
وَثُمَامَةُ وَقُثَمٌ وَدُرَيْدٌ وَأَيْمَنُ «6»، فَقَرَأَ
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُورَةَ" يس" إِلَى آخِرِهَا، فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا
الْقُرْآنَ وَآمَنُوا، وَقَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِمَا
كَانَ يَنْزِلُ عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ" لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى " يَعْنِي
وَفْدَ النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَيْضًا" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ"] القصص: 52]
إلى قوله" أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ"]
القصص: 54] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
نَجْرَانَ مِنْ بَنِي الحرث بْنِ كَعْبٍ، وَاثْنَانِ
وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ وستون من
__________
(1). في ج، ك، هـ، ع: في المجلس.
(2). في ع. تطل.
(3). راجع ج 13 ص 296. [ ..... ]
(4). عن (البحر) (وروح المعاني).
(5). بحيراء الراهب: كأمير ممدودا وفي رواية بالألف المقصورة.
(6). الأصول محرفة في ذكر الأسماء وصوبت عن (البحر) و (روح
المعاني). في ج، ك، ع: تمام: نشيم بدل أبرهة وقثم.
(6/256)
أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى
شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، فَلَمَّا
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً)
وَاحِدُ" الْقِسِّيسِينَ" قَسٌّ وَقِسِّيسٌ، قَالَهُ قُطْرُبٌ.
وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَسَّ إِذَا
تَتَبَّعَ الشَّيْءَ فَطَلَبَهُ، قَالَ «1» الرَّاجِزُ:
يُصْبِحْنَ عَنْ قَسِّ الْأَذَى غَوَافِلَا
وَتَقَسَّسَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتُهَا.
وَالْقَسُّ النَّمِيمَةُ. وَالْقَسُّ أَيْضًا رَئِيسٌ مِنْ
رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَجَمْعُهُ
قُسُوسٌ، وَكَذَلِكَ الْقِسِّيسُ مِثْلُ الشَّرِّ
وَالشِّرِّيرِ فَالْقِسِّيسُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ. وَيُقَالُ فِي جَمْعِ قِسِّيسٍ
مُكَسَّرًا: قَسَاوِسَةٌ «2» أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السينين
واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. وَالْأَصْلُ قَسَاسِسَةٌ
فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَاتِ وَاوًا لِكَثْرَتِهَا.
وَلَفْظُ الْقِسِّيسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلُغَةِ الرُّومِ وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ
الْعَرَبُ بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتِهِمْ إِذْ لَيْسَ
فِي الْكِتَابِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا
أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو
عُبَيْدٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ
عَنْ نُصَيْرٍ الطَّائِيِّ عَنِ الصَّلْتِ عَنْ حَامِيَةَ بْنِ
رَبَابٍ «3» قَالَ: قُلْتُ لِسَلْمَانَ" بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً" فَقَالَ: دَعِ الْقِسِّيسِينَ فِي
الصَّوَامِعِ وَالْمِحْرَابِ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بِأَنَّ مِنْهُمْ
صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا". وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ: ضَيَّعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ،
وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ الَّذِينَ غَيَّرُوهُ، لُوقَاسُ وَمَرْقُوسُ وَيحْنَسُ
وَمَقْبُوسُ «4»، وَبَقِيَ قِسِّيسٌ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى
الِاسْتِقَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَهَدْيِهِ
فَهُوَ قِسِّيسٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرُهْباناً)
الرُّهْبَانُ جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة:
__________
(1). الرجز لرؤية بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتبعن النمائم.
(2). كذا في الأصول وهو موافق لما في (القاموس) وبها يظهر قوله
بعد: (أبدل من إحدى السينين واو)، وفي (اللسان): قساقسة على
مثال مهالبة. ويؤخذ من شرح (القاموس) أن فيه الجمعين.
(3). كذا في الأصول، وفي ابن كثير: جاثمة بن رئاب.
(4). كذا في كل الأصول: ولعل الصواب: متيوس. وهو متى. لان أنا
جيلهم المعتمدة أربعة لكل من لوقا ومرقص ويوحنا ومتى إنجيل.
(6/257)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطِ رَاهِبٍ
... عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ «1» مُتَعَبِّدِ
لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ... وَلَخَالَهُ
رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَهِبَ اللَّهَ يَرْهَبُهُ أَيْ خَافَهُ
رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَةً. وَالرَّهْبَانِيَّةُ
وَالتَّرَهُّبُ التَّعَبُّدُ فِي صَوْمَعَةٍ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ (رُهْبَانٌ) لِلْوَاحِدِ
وَالْجَمْعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُجْمَعُ (رُهْبَانٌ) إِذَا
كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَةً وَرَهَابِينَ كَقُرْبَانٍ
وَقَرَابِينَ، قَالَ جَرِيرٌ فِي الْجَمْعِ:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ... وَالْعُصْمُ
مِنْ شَعَفِ الْعُقُولِ الْفَادِرُ
الْفَادِرُ الْمُسِنُّ مِنَ الْوُعُولِ. وَيُقَالُ:
الْعَظِيمُ، وَكَذَلِكَ الْفَدُورُ وَالْجَمْعُ فُدْرٌ
وَفُدُورٌ وموضعها المفدرة، قال الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ آخَرُ
فِي التَّوْحِيدِ:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلِ ...
لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيُصَلْ
مِنَ الصَّلَاةِ. وَالرَّهَابَةُ عَلَى وَزْنِ السَّحَابَةِ
عَظْمٌ فِي الصَّدْرِ مُشْرِفٌ عَلَى الْبَطْنِ مِثْلُ
اللِّسَانِ. وَهَذَا الْمَدْحُ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَنْ
أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ: (وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن الانقياد إلى الحق.
[سورة المائدة (5): آية 83]
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أَيْ
بِالدَّمْعِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَذَا"
يَقُولُونَ". وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى
النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي «2»
وَخَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ إِذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ كَفَيْضِ
الْمَاءِ عَنِ الْكَثْرَةِ. وَهَذِهِ أَحْوَالُ الْعُلَمَاءِ
يَبْكُونَ وَلَا يُصْعَقُونَ، وَيَسْأَلُونَ وَلَا يَصِيحُونَ،
وَيَتَحَازَنُونَ وَلَا يَتَمَوَّتُونَ، كما قال تعالى:
__________
(1). الصرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصر على تركهن وفي
الحديث" لا صرورة في الإسلام" وهو التبتل.
(2). المحمل (كمرجل) علاقة السيف.
(6/258)
وَمَا لَنَا لَا
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ
أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» "] الزمر: 23]
وَقَالَ:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" وَفِي (الْأَنْفَالِ) «2»
يَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ
أَنَّ أَشَدَّ الْكُفَّارِ تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا وَعَدَاوَةً
لِلْمُسْلِمِينَ الْيَهُودُ، وَيُضَاهِيهُمُ الْمُشْرِكُونَ،
وَبَيَّنَ أَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً النَّصَارَى.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ" أَيْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ" «3»] البقرة:
143] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ
أَبُو عَلِيٍّ: الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِ نَبِيِّكَ
وَكِتَابِكَ. وَمَعْنَى" فَاكْتُبْنا" اجْعَلْنَا، فيكون
بمنزلة ما قد كتب ودون.
[سورة المائدة (5): آية 84]
وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ
وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما
جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) بَيَّنَ اسْتِبْصَارَهُمْ فِي الدِّينِ،
أَيْ يَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ، أَيْ وَمَا لَنَا
تَارِكِينَ الْإِيمَانَ. فَ"- نُؤْمِنُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
عَلَى الْحَالِ. (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) أَيْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:" أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ" «4»] الأنبياء:
105] يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ أَيْ نَطْمَعُ أَنْ
يُدْخِلَنَا ربنا الجنة. وقيل:" نَطْمَعُ" بِمَعْنَى (فِي)
كَمَا تُذْكَرُ (فِي) بِمَعْنَى (مَعَ) تَقُولُ: كُنْتُ
فِيمَنْ لَقِيَ الْأَمِيرُ، أَيْ مَعَ مَنْ لَقِيَ الْأَمِيرُ.
وَالطَّمَعُ يَكُونُ مُخَفَّفًا وَغَيْرَ مُخَفَّفٍ، يُقَالُ:
طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعَةً وَطَمَاعِيَةً مخفف فهو طمع.
[سورة المائدة (5): الآيات 85 الى 86]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
__________
(1). راجع ج 15 ص 248.
(2). راجع ج 7 ص 365.
(3). راجع ج 2 ص 153.
(4). راجع ج 11 ص 349.
(6/259)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَثابَهُمُ اللَّهُ
بِما قالُوا جَنَّاتٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ إِيمَانِهِمْ
وَصِدْقِ مَقَالِهِمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُؤَالَهُمْ
وَحَقَّقَ طَمَعَهُمْ- وَهَكَذَا مَنْ خَلَصَ إِيمَانُهُ
وَصَدَقَ يَقِينُهُ يَكُونُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ
قَالَ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وَالْجَحِيمُ النَّارُ الشَّدِيدَةُ
الِاتِّقَادُ. يُقَالُ: جَحَمَ فُلَانٌ النَّارَ إِذَا شَدَّدَ
إِيقَادَهَا. وَيُقَالُ أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَدِ: جَحْمَةٌ،
لِشِدَّةِ اتِّقَادِهَا. وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ
الشَّاعِرُ:
وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا ... حِمِهَا التَّخَيُّلُ
وَالْمِرَاحُ «1»
إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّارُ فِي ... النَّجَدَاتِ وَالْفَرَسُ
الوقاح «2»
[سورة المائدة (5): آية 87]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا). فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَسْنَدَ
الطَّبَرِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ
بِسَبَبِ رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ
مِنَ اللَّحْمِ انْتَشَرْتُ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي
فَحَرَّمْتُ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَسَالِمٌ مَوْلَى
أَبِي حُذَيْفَةَ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَسَلْمَانُ
الْفَارِسِيُّ وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ،
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا
اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَلَا يَأْكُلُوا
اللَّحْمَ وَلَا الْوَدَكَ «3» وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ
وَالطِّيبَ، وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَرْفُضُوا الدُّنْيَا
وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، وَيَتَرَهَّبُوا وَيَجُبُّوا
الْمَذَاكِيرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهَا ذكر النزول وهي:
__________
(1). في ع: لا تبقى. المزاح. [ ..... ]
(2). وقح الحافر صلب.
(3). الودك: الدسم.
(6/260)
الثَّانِيَةُ- خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ
أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي
السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
لَا أَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ فَقَالَ:" وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا
وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي" وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ
أَيْضًا وَلَفْظُهُ قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى
بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا
كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا- فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: [أَمَّا] «1» أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي
اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ «2»
الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا
فَأَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"
أَنْتُمُ الَّذِينَ «3» قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ
لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي". وَخَرَّجَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
قَالَ: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ
فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا. وَخَرَّجَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
مُسْنَدِهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ
حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ
بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ قَالَ: فمر رجل بغار فيه شي مِنَ
الْمَاءِ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ
الْغَارِ فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ، وَيُصِيبُ
مَا حَوْلَهُ مِنَ الْبَقْلِ، وَيَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا،
قَالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنَ لِي
فَعَلْتُ وَإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي
مِنَ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ
أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إِنِّي
لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ ولا النصرانية وَلَكِنِّي
بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ «4» أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمُقَامُ
أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ
سَنَةً"،.
__________
(1). من ك وهـ وع.
(2). من ك وهـ وع.
(3). في ج وع وك: أنتم القائلون.
(4). الغدوة المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح.
(6/261)
الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا شَابَهَهَا
وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي مَعْنَاهَا رَدٌّ عَلَى
غُلَاةِ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَطَالَةِ مِنَ
الْمُتَصَوِّفِينَ، إِذْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَدْ عَدَلَ
عَنْ طَرِيقِهِ، وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقِهِ، قَالَ
الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تحريم
شي مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَنَاكِحِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ
بِهَا بَعْضَ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ
عَلَى ابْنِ مَظْعُونٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لا فضل في ترك شي
مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ
وَالْبِرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ مَا نَدَبَ عِبَادَهُ
إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ، وَاتَّبَعَهُ
عَلَى مِنْهَاجِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ، إِذْ كَانَ
خَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأُ
مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ
الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاسِ ذَلِكَ
مِنْ حِلِّهِ، وَآثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ
وَتَرْكَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَذَرًا مِنْ عَارِضِ
الْحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ
ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخَيْرَ «1» فِي غَيْرِ الَّذِي قُلْنَا
لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ
عَلَى النَّفْسِ وَصَرْفِ مَا فَضُلَ بَيْنَهُمَا مِنَ
الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً،
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاحُ نَفْسِهِ
وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، ولا شي أَضَرَّ
لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيئَةِ لِأَنَّهَا
مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي
جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ. وَقَدْ جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ لِي
جَارًا لَا يَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ:
يَقُولُ لَا يُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ:
أَفَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ:
إِنَّ جَارَكَ جَاهِلٌ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي
الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي
الْفَالُوذَجِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
هَذَا إِذَا كَانَ الدِّينُ قَوَامًا، وَلَمْ يَكُنِ الْمَالُ
حَرَامًا، فَأَمَّا إِذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ
وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ أَفْضَلُ، وَتَرْكُ
اللَّذَّاتِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ
وَأَعْلَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ مِنْ
أَجْلِ أَنَّهُ مُكَاثِرٌ بِأُمَّتِهِ الْأُمَمَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُقَاتِلٌ بِهِمْ
طَوَائِفَ الْكُفَّارِ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ يُقَاتِلُونَ
الدَّجَّالَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يكثر النسل.
__________
(1). في ج وك: الفضل.
(6/262)
وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
تَعْتَدُوا" قِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فَتُحِلُّوا «1»
مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَالنَّهْيَانِ عَلَى هَذَا تَضَمَّنَا
الطَّرَفَيْنِ، أَيْ لَا تُشَدِّدُوا فَتُحَرِّمُوا حَلَالًا،
وَلَا تَتَرَخَّصُوا فَتُحِلُّوا حَرَامًا، قَالَهُ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ لِقَوْلِهِ:"
تُحَرِّمُوا"، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ
وَغَيْرُهُمَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ
وَشَرَعَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ- مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ
شَرَابًا أَوْ أَمَةً لَهُ، أَوْ شَيْئًا مما أحل الله فلا شي
عليه، ولا كفارة في شي مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، إِلَّا
أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِتَحْرِيمِ الْأَمَةِ عِتْقَهَا صَارَتْ
حُرَّةً وَحَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ
جَدِيدٍ] بَعْدَ عِتْقِهَا [«2». وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ
لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فإنه تُطَلَّقُ عَلَيْهِ
ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ
أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ بالطلاق صريحا وكناية،
وحرام مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَسَيَأْتِي مَا
لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي سُورَةِ (التَّحْرِيمِ) «3» إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ مَنْ
حَرَّمَ شَيْئًا صَارَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا
تَنَاوَلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا بَعِيدٌ
وَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
لَغْوُ الْيَمِينِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ. وَهُوَ معنى قول
الشافعي على ما يأتي.
[سورة المائدة (5): آية 88]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حَلالًا طَيِّباً) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: الْأَكْلُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَخُصَّ الْأَكْلُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ
الْمَقْصُودِ وَأَخَصُّ الِانْتِفَاعَاتِ بِالْإِنْسَانِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَاللِّبَاسِ فِي" الْأَعْرَافِ" «4»] إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى [«5». وَأَمَّا شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُلِذَّةِ،
وَمُنَازَعَةُ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ
الشَّهِيَّةِ، فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ
مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْفَ النَّفْسِ
عَنْهَا وَقَهْرَهَا عَنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أحرى ليذل له
قيادها، ويهون عليه
__________
(1). في ل: وتقتحموا.
(2). من ج وك وع.
(3). راجع ج 18 ص 177.
(4). راجع ج 7 ص 189.
(5). من ج وك وع.
(6/263)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (89)
عِنَادُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا
الْمُرَادَ يَصِيرُ أَسِيرَ شَهَوَاتِهَا، وَمُنْقَادًا
بِانْقِيَادِهَا. حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ كَانَ يَمُرُّ
عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُولُ: مَوْعِدُكِ
الْجَنَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ
لَذَّاتِهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنِ ارْتِيَاحِهَا
وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلِ التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى، لِأَنَّ فِي
إِعْطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنْعِهَا أُخْرَى جَمْعٌ
بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ النَّصَفُ مِنْ غَيْرِ شَيْنٍ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ وَالرِّزْقِ فِي" البقرة"
«1» والحمد لله.
[سورة المائدة (5): آية 89]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
فِيهِ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ مَسَأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَى اللَّغْوِ فِي" الْبَقَرَةِ"
«2» وَمَعْنَى" فِي أَيْمانِكُمْ" أَيْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ،
وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ. وَقِيلَ: وَيَمِينٌ فَعِيلٌ
مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، سَمَّاهَا اللَّهُ
تَعَالَى بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَحْفَظُ الْحُقُوقَ. وَيَمِينٌ
تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُجْمَعُ أَيْمَانٌ وَأَيْمُنٌ. قَالَ
زُهَيْرٌ:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ «3»
الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا
الْقَوْمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ
وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَلَفُوا
عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ" لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ" قَالُوا: كَيْفَ نصنع بأيماننا؟
فنزلت هذه الآية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 177 في (الرزق) وص 432 (في الاعتداء) من الجزء
نفسه.
(2). راجع ج 3 ص 99 وما بعدها. [ ..... ]
(3). عجز البيت:
بمقسمة تمور بها الدماء
.
(6/264)
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِذَا
أَتَيْتُمْ؟؟ بِالْيَمِينِ ثُمَّ أَلْغَيْتُمُوهَا- أَيْ
أَسْقَطْتُمْ حُكْمَهَا بِالتَّكْفِيرِ وَكَفَّرْتُمْ- فَلَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُلْغُوهُ، أَيْ فَلَمْ
تُكَفِّرُوا، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْحَلِفَ لَا يُحَرِّمُ
شَيْئًا. وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ
لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ، وَأَنَّ
تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوٌ، كَمَا أَنَّ تَحْلِيلَ
الْحَرَامِ لَغْوٌ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: اسْتَحْلَلْتُ
شُرْبَ الْخَمْرِ، فَتَقْتَضِي الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوًا
فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، فَقَالَ:" لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ" أَيْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ لَهُ
أَيْتَامٌ وَضَيْفٌ، فَانْقَلَبَ مِنْ شُغْلِهِ بَعْدَ سَاعَةٍ
مِنَ اللَّيْلِ. فَقَالَ: أَعَشَّيْتُمْ ضَيْفِي؟ فَقَالُوا:
انْتَظَرْنَاكَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا آكُلُهُ
اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ضَيْفُهُ: وَمَا أَنَا بِالَّذِي
يَأْكُلُ، وَقَالَ أَيْتَامُهُ: وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَكَلَ وَأَكَلُوا. ثُمَّ أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
فَقَالَ لَهُ:" أَطَعْتَ الرَّحْمَنَ وَعَصَيْتَ الشَّيْطَانَ"
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّالِثَةُ- الْأَيْمَانُ فِي
الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَانِ فِيهِمَا
الْكَفَّارَةُ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا. خَرَّجَ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ
هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَبْثَرُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ
وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ
يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ وَاللَّهِ لَا
أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ
وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَفْعَلُ،
وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ
يَحْلِفُ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ،
وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ
يَفْعَلْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ فِي (جَامِعِهِ) وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ
عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ سُفْيَانُ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ،
يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ
وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَيَفْعَلُ، أَوْ يَقُولُ وَاللَّهِ
لَأَفْعَلَنَّ ثُمَّ لَا يَفْعَلُ، وَيَمِينَانِ لَا
يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ وَاللَّهِ مَا
فَعَلْتُ وَقَدْ فَعَلَ، أَوْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ
فَعَلْتُ وَمَا فَعَلَ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمَّا
الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَمَّا
الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ
الْعِلْمِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ
فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يَرَى أَنَّهُ
عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ
(6/265)
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: وَلَيْسَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ. قَالَ: وَإِنْ
كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ
مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مالك وسفيان
الثوري وأصحاب الرأي وأحمد ابن حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُكَفِّرُ،
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ]
قَوْلِ [«1» الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمِيلُ
إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. قَالَ: فَأَمَّا يَمِينُ
اللَّغْوِ الَّذِي اتَّفَقَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
أَنَّهَا لَغْوٌ فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ،
وَبَلَى وَاللَّهِ، فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ
مُنْعَقِدٍ لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدُهَا. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ عِنْدَ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ
وَالْعَجَلَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) مُخَفَّفُ
الْقَافِ مِنَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كعقد البيع، قال
الشاعر «2»:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا
الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
فَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ مُنْفَعِلَةٌ مِنَ الْعَقْدِ،
وَهِيَ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَلَّا يَفْعَلَ
فَفَعَلَ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَلُ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلُّهَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالْكَفَّارَةُ
عَلَى ما يأتي. وقرى" عَاقَدْتُمْ" بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ
عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ
اثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مَنْ
حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ، أَوْ يَكُونُ
الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، لِأَنَّ
عَاقَدَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ
الْجَرِّ، لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ، وَعَاهَدَ
يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ
جَرٍّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ
عَلَيْهُ اللَّهَ" «3»] الفتح: 10] وَهَذَا كَمَا عَدَّيْتَ"
نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ" بِإِلَى، وَبَابُهَا أَنْ تَقُولَ
نَادَيْتُ زَيْدًا" وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ" «4»] مريم: 52] لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى
دَعَوْتُ عُدِّيَ بِإِلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ" «5»] فصلت: 33]
ثُمَّ اتَّسَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ
الْأَيْمَانَ" «6». فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَوَصَلَ
الْفِعْلُ إِلَى المفعول فصار عاقدتموه،
__________
(1). في ج، ك، ع.
(2). البيت للحطيئة يمدح قوما عقدوا لجارهم عهدا فوفوا به ولم
يخفروه. وقد تقدم شرحه بهامش ص 32 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 16 ص 277.
(4). راجع ج 11 ص 113.
(5). راجع ج 15 ص 359.
(6). كذا في الأصول إلا ز، ففيه: في قوله عاقدتم ... إلخ.
(6/266)
ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ كَمَا حُذِفَتْ
مِنْ قَوْلِهِ تعالى:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» "] الحجر:
94]. أَوْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ
تعالى:" قاتَلَهُمُ اللَّهُ" «2»] التوبة: 30] أَيْ
قَتَلَهُمْ. وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ مِنْ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مَعْنَى (فَاعَلْتُ)
كَقَوْلِهِمْ: سافرت وظاهرت. وقرى عَقَّدْتُمْ" بِتَشْدِيدِ
الْقَافِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ تَعَمَّدْتُمْ أَيْ
قَصَدْتُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ التَّشْدِيدَ
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
إِلَّا إِذَا كُرِّرَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إِنِّي
وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي [فَذَكَرَ وُجُوبَ
الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ مَرَّةً
بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَسْتُ آمَنَ أَنْ يَلْزَمَ مَنْ قَرَأَ
بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَلَّا تُوجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي
الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُرَدِّدَهَا مِرَارًا. وهذا
قول خلاف الإجماع. روى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا
حَنِثَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِينَ أَطْعَمَ
عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، فَإِذَا وَكَّدَ الْيَمِينَ أَعْتَقَ
رَقَبَةً. قِيلَ: لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى وَكَّدَ الْيَمِينَ؟
قَالَ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا. الْخَامِسَةُ-
اخْتُلِفَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هَلْ هِيَ يَمِينٌ
مُنْعَقِدَةٌ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ
أَنَّهَا يَمِينُ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَكَذِبٍ فَلَا
تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ
بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ،
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ،
وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُ النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" وَقَوْلُهُ:"
فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَنْ
حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِمَّا يُسْتَقْبَلُ فَلَا
يَفْعَلُهُ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ أَلَّا يَفْعَلَهُ فِيمَا
يُسْتَقْبَلُ فَيَفْعَلُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ
وَهُوَ أَنْ يُكَفِّرَ وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِفَ
بِاللَّهِ كَاذِبًا، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو
بَكْرٍ: وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ،
__________
(1). راجع ج 10 ص 61.
(2). راجع ج 8 ص 116.
(6/267)
وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَالَّانِ عَلَى
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ"»
] البقرة: 224] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ
أَلَّا يَصِلَ قَرَابَتَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا
فِي التَّكْفِيرِ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلَّ بِاللَّهِ
وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ. وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى
أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ يَقْتَطِعُ
بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهَا
مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْآيَةُ
وَرَدَتْ بِقَسَمَيْنِ: لَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، وَخَرَجَتْ
عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ فَدَعْ مَا بَعْدَهَا
يَكُونُ مِائَةَ قَسَمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ. قُلْتُ: خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ:" الْإِشْرَاكُ
بِاللَّهِ" قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:" عُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ" قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:] الْيَمِينُ
الْغَمُوسُ [قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ:]
الَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا
كَاذِبٌ [. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:]
مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ
أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
[فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ:] وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ [وَمِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينِ صَبْرٍ «2» يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
[فَنَزَلَتْ" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا" «3»] آل عمران: 77] إِلَى
آخِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، فَلَوْ
أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَةً لَسَقَطَ جُرْمُهُ، وَلَقِيَ
اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ
الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ
جَمَعَ هَذَا الْحَالِفُ الْكَذِبَ، وَاسْتِحْلَالَ مَالِ
الْغَيْرِ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ
تَعَالَى، وَالتَّهَاوُنَ بِهَا وَتَعْظِيمَ الدُّنْيَا؟
فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ
اللَّهُ وَحَسْبُكَ. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ
الْيَمِينُ الْغَمُوسُ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ
صَاحِبَهَا فِي النَّارِ. السَّادِسَةُ- الْحَالِفُ بِأَلَّا
يَفْعَلَ عَلَى بِرٍّ مَا لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ
وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُ،
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْتُ. وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ
لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ عَلَى حِنْثٍ لِوُجُودِ
الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ
إِنْ لَمْ أَفْعَلْ.
__________
(1). راجع ج 3 ص 96.
(2). اليمين الصبر التي ألزم بها وأكره عليها. والصبر الإكراه،
يقال: صبر الحاكم فلانا على يمين صبرا أي أكرهه.
(3). راجع ج 4 ص 119.
(6/268)
السَّابِعَةُ- قَوْلُ الْحَالِفِ:
لَأَفْعَلَنَّ، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ
وَقَوْلِهِ: لَا أَفْعَلُ، وَإِنْ فَعَلْتُ، بِمَنْزِلَةِ
النَّهْيِ. فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَفْعَلَ
جَمِيعَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: مِثَالُهُ لَآكُلَنَّ هَذَا
الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَأْكُلَ
جَمِيعَهُ: لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ- مُطْلَقًا- فَإِنَّهُ
يَبَرُّ بِأَقَلِّ جُزْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ،
لِإِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا
فِي النَّهْيِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ الِاسْمُ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُلَ
فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ،
فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى
رِجْلَيْهِ حَنِثَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا
الشَّارِعَ غَلَّظَ جِهَةَ التَّحْرِيمِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ
فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آباؤُكُمْ" «1»] النساء: 22]، فَمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ
وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ،
وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَةِ التَّحْلِيلِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ
فَقَالَ:] لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ [. الثَّامِنَةُ-
الْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَسْمَاؤُهُ
الْحُسْنَى، كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ
وَالْعَلِيمِ وَالْحَلِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ
وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ
وَإِرَادَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَهْدِهِ
وَمِيثَاقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِ ذَاتِهِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ
بِقَدِيمٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، فَكَانَ الْحَالِفُ بِهَا
كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّةِ وَرَجَعَ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا
أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّارِ:
وعزتك لا يسمع بها أحدا فَيَدْخُلَهَا. وَخَرَّجَا أَيْضًا
وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَا
وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ [وَفَى رِوَايَةٍ] لَا وَمُصَرِّفِ
الْقُلُوبِ [وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ
حَلَفَ فَقَالَ: وَاللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ
فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
يَقُولُونَ: مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ
وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ نَقُولُ وَلَا
أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. قُلْتُ: قَدْ نُقِلَ (فِي بَابِ
ذِكْرِ الْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ)، وَقَالَ يَعْقُوبُ: مَنْ
حَلَفَ بِالرَّحْمَنِ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَالرَّحْمَنُ مِنْ أَسْمَائِهِ سبحانه مجمع عليه ولا
خلاف فيه.
__________
(1). راجع ج 5 ص 103.
(6/269)
التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقِّ
اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِ
اللَّهِ وَلَعَمْرِ اللَّهِ وَايْمِ اللَّهِ، فَقَالَ مَالِكٌ:
كُلُّهَا أَيْمَانٌ تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: فِي وَحَقِّ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ
وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ، يَمِينٌ إِنْ نَوَى
بِهَا الْيَمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ
بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَحَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ
وَقُدْرَتُهُ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ:
لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَلَعَمْرِ اللَّهِ وَايْمِ اللَّهِ إِنْ
لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ
أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِذَا قَالَ: وَعَظَمَةِ اللَّهِ
وَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ
وَأَمَانَةِ اللَّهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي وَحَقِّ اللَّهِ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ
وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
حَكَاهُ عَنْهُ الرَّازِيُّ. وَكَذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ
وَمِيثَاقُهُ وَأَمَانَتُهُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هِيَ يَمِينٌ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ:
لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: وَعِلْمُ اللَّهِ
لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ
صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ وَهُوَ
الْمُحْدَثُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ
الْقُدْرَةَ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، فَكُلُّ كَلَامٍ
لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] وَايْمِ اللَّهِ
إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ [فِي قِصَّةِ زَيْدٍ
وَابْنِهِ أُسَامَةَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَايْمِ
اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ:
إِذَا أَرَادَ بِايْمِ اللَّهِ يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا
بِالْإِرَادَةِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ. الْعَاشِرَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَبِهِ قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ
يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا
نَكْرَهُ ذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- لَا تَنْعَقِدُ
الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ
وَصِفَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِذَا حَلَفَ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْعَقَدَتْ
يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ
إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ
بِاللَّهِ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ
وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ
(6/270)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَلَا إِنَّ اللَّهَ
يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ [وَهَذَا
حَصْرٌ فِي عَدَمِ الْحَلِفِ بكل شي سِوَى اللَّهِ تَعَالَى
وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا
يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لَا تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ
وَلَا تحلفوا إلا بالله وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا
وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ [ثُمَّ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِمَنْ
قَالَ: وَآدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا
بِهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ
لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ
فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ
فَلْيَتَصَدَّقْ [. وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْ مُصْعَبِ
بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ
الْأَمْرِ وَأَنَا حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ
فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي بَعْضُ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بِئْسَ مَا قُلْتَ: وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتُ هُجْرًا،
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:] قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شي قَدِيرٍ وَانْفُثْ عَنْ
يَسَارِكَ ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
ثُمَّ لَا تَعُدْ [. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَطَقَ
بِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ، وَتَذْكِيرًا مِنَ
الْغَفْلَةِ، وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ. وَخَصَّ اللَّاتَ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى
أَلْسِنَتِهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ
آلِهَتِهِمْ حُكْمُهَا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا، وَكَذَا
مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ
فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّاتِ، لِأَنَّهُمْ
كَانُوا اعْتَادُوا الْمُقَامَرَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْلِ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نصراني أو برئ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ
مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ أُشْرِكُ بِاللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ
بِاللَّهِ: إِنَّهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ،
وَلَا تَلْزَمُ فِيمَا إِذَا قَالَ: وَالْيَهُودِيَّةِ
وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَإِنْ
كَانَتْ عَلَى صِيغَةِ الْأَيْمَانِ. وَمُتَمَسَّكُهُ مَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ
مَوْلَاتَهُ أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ، وَيَوْمًا
نَصْرَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ
لَهَا
(6/271)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَيْهَا مَشْيٌ
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا،
فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ
عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ فَكُلُّهُمْ قَالَ لَهَا:
أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ؟
وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا وَتُخَلِّيَ
بَيْنَهُمَا. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ
مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ،
وَكُلُّ مَالٍ لَهَا فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ يَوْمًا
يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ
إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، قَالَ:
فَانْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ
فَقُلْتُ: إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنِي
وَبَيْنَ امْرَأَتِي، فَقَالَتِ انْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتِكَ
فَقُلْ لَهَا: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكِ، قَالَ:
فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ
فَأَخْبَرْتُهُ فَجَاءَ حَتَّى انْتَهَى إلى الباب فقال: ها
هنا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَقَالَتْ: إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ
مَالٍ لِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَمِمَّ
تَأْكُلِينَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ
وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ، فَقَالَ:
إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ
تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ، قَالَتْ: فَمَا تأمرني؟ قال: تكفري عَنْ
يَمِينِكِ، وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ فَتَاكِ وَفَتَاتِكِ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ:
أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَنَّهَا يَمِينٌ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا
قَالَ أُقْسِمُ أو أشهد ليكون كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ
بِاللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَيْمَانًا عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا
أَرَادَ بِاللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاللَّهِ لَمْ تَكُنْ
أَيْمَانًا تُكَفَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ أَيْمَانٌ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ
أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، هَذِهِ
رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ. وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ
مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- إِذَا قَالَ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، فَإِنْ أَرَادَ سُؤَالَهُ
فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَرَادَ
الْيَمِينَ كَانَ ما ذكرناه آنفا. الخامشة عَشْرَةَ- مَنْ
حَلَفَ بِمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ
بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ: وَخَلْقِ اللَّهِ ورزقه وبيته لا شي
عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَحَلِفٌ
بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِذَا
انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوِ
الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ:
الِاسْتِثْنَاءُ بَدَلٌ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَتْ حَلًّا
لِلْيَمِينِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ حَلٌّ لِلْيَمِينِ،
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ
مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا
(6/272)
بِهِ لَفْظًا، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى
فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْرِ حِنْثٍ
[فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ:
يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا
وَلَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ، قَالَ: فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا
وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ
فَرَغَتْ عَارِيَةً مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَوُرُودُهَا
بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ كَالتَّرَاخِي، وَهَذَا يَرُدُّهُ
الْحَدِيثُ] مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى [وَالْفَاءُ،
لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلَّ
يَمِينٌ ابْتُدِئَ عَقْدُهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى
اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ تَخْصِيصَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ
ظَلَمَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ
حَتَّى يُسْمِعَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يَصِحُّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ
لَمْ يَسْمَعِ الْمَحْلُوفُ لَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي
نَفْسِهِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُعْتَبَرُ بِالنِّيَّاتِ،
وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّكَ بِهِ
لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا،
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَلَامِ يَقَعُ بِالْكَلَامِ دُونَ
غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ
ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى
حَسَبٍ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ، فَلَمَّا لَمْ
تَكُنِ الْيَمِينُ عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ بَلْ كَانَتْ
مُسْتَوْفَاةً مِنْهُ، وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهَا
حُكْمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْرِكُ الِاسْتِثْنَاءُ
الْيَمِينَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو
الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" «1»]
الفرقان: 68] الْآيَةَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
عَامٍ نَزَلَ" إِلَّا مَنْ تابَ"] مريم: 60]. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مَنْ قَالَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
أَجْزَأَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنِ اسْتَثْنَى
بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَهُ
أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: إِنِ اسْتَثْنَى قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَوْ
يَتَكَلَّمَ فَلَهُ ثُنْيَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَإِسْحَاقُ: يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ قَدْرَ حَلْبِ النَّاقَةِ
الْغَزِيرَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ
الْآيَةِ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الآيتين
كانتا متصلتين في علم الله تعالى وَفِي لَوْحِهِ، وَإِنَّمَا
تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ الله
__________
(1). راجع ج 13 ص 75. [ ..... ]
(6/273)
ذَلِكَ فِيهَا، أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّبُ
عَلَيْهَا فَرْعٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ
وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ
دَخَلْتِ الدَّارَ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ الْأَوَّلِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ
الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ
لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ أَوْ
سَبَبٍ أَوْ مَشِيئَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنِ
الِاسْتِثْنَاءِ إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ] لَهُ [«1»،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ
عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَحْضُرْهُ
الْبَيِّنَةُ «2»، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ
مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ
نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا. قُلْتُ: وَجْهُ
الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَةَ
الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَةَ، فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ
إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاءَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ
الْمَرَاغِيُّ «3» يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ «4»،
وَكَانَتِ الْكُتُبُ تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ،
فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا
مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ
وَيُقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
خَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَضَى غَرَضًا مِنَ الطَّلَبِ وَعَزَمَ
عَلَى الرَّحِيلِ، شَدَّ رَحْلَهُ وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ
وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلَ، فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ
أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ مَا
تَمَكَّنَ بَعْدَهُ مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنَ الْعِلْمِ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّةِ قُمَاشَهُ «5»
وَخَرَجَ إِلَى بَابِ الْحَلَبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ،
وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ «6» بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ
عَلَى فَامِيٍّ «7» يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ «8»،
فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ
يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ: أَمَا سَمِعْتَ الْعَالِمَ يَقُولُ-
يَعْنِي الْوَاعِظَ- إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ
الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، لَقَدِ اشْتَغَلَ
بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْتُهُ فَظَلَلْتُ فِيهِ
مُتَفَكِّرًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ:" وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً
فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ" «9»] ص: 44] وَمَا الَّذِي
يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ!
فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ: بَلَدٌ يَكُونُ فِيهِ
الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَةِ؟ لَا
أَفْعَلُهُ أَبَدًا، وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ وَحَلَّلَهُ
مِنَ الْكِرَاءِ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ.
__________
(1). الزيادة عن ابن العربي.
(2). في ع: النية فإن حضرته نية. إلخ.
(3). نسبة إلى المراغة، وهي بلدة مشهورة من بلاد أذربيجان.
(4). مدينة السلام بغداد وقيل: سميت بذلك لان دجلة يقال لها
وادي السلام وقيل: سماها المنصور بذلك تفاؤلا بالسلامة. وتسمى
أيضا بدار السلام على التشبيه بالجنة. (معجم البلدان).
(5). القماش: متاع البيت.
(6). الكرى: المستأجر.
(7). الفامي هاهنا الخباز.
(8). السفرة: طعام يتخذه المسافر.
(9). راجع ج 15 ص 212.
(6/274)
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- الِاسْتِثْنَاءُ
إِنَّمَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ
رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ
اللَّهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
الِاسْتِثْنَاءُ يَقَعُ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ
تَعَالَى- قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ
الْحَقُّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالِاسْتِثْنَاءِ
فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا فِي غَيْرِ
ذَلِكَ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَكَفَّارَتُهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيمِ
الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ تُجْزِئُ أَمْ لَا؟ -
بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ قَبْلَ
الْكَفَّارَةِ مُبَاحٌ حَسَنٌ وَهُوَ عِنْدُهُمْ أَوْلَى-
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُجْزِئُ مُطْلَقًا
وَهُوَ مَذْهَبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُجْزِئُ
بِوَجْهٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ
الْجَوَازِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى
يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ
عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ
سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" ذلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ" فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إِلَى
الْيَمِينِ وَالْمَعَانِي تُضَافُ إِلَى أَسْبَابِهَا،
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَلٌ عَنِ الْبِرِّ
فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ
مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) زَادَ
النَّسَائِيُّ (وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ [وَمِنْ جِهَةِ
الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ
الْإِثْمِ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا
يُرْفَعُ فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا، وَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:" إِذا حَلَفْتُمْ" أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَحَنِثْتُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ فُعِلَتْ
قَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَصِحَّ اعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ
وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ
بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا تُجْزِئُ
بِالصَّوْمِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْبَدَنِ لَا يَقُومُ قَبْلَ
وَقْتِهِ. وَيُجْزِئُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَقْدِيمُ
الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. الْمُوَفِّيَةُ
عِشْرِينَ- ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْكَفَّارَةِ
الْخِلَالَ الثَّلَاثَ فَخَيَّرَ فِيهَا، وَعَقَّبَ عِنْدَ
عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ، وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ
كَانَ الْأَفْضَلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ
الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ شبعهم،
(6/275)
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ
الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ، فَإِنْ
عَلِمْتَ مُحْتَاجًا فَالطَّعَامُ أَفْضَلُ، لِأَنَّكَ إِذَا
أَعْتَقْتَ لَمْ تَدْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْتَ مُحْتَاجًا
حَادِيَ عَشَرَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ تَلِيهِ،
وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ الْحَاجَةَ بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ
الْمُهِمِّ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لَا بُدَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يُخْرَجُ
لَهُمْ، وَدَفْعِهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ
وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَهُوَ يُطْعِمُ
وَلا يُطْعَمُ" «1»] الانعام: 14] وَفِي الْحَدِيثِ (أَطْعَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّ
السُّدُسَ)، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ
يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيكُ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ،
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ عُلَمَائِنَا،
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّ التَّمْكِينَ مِنَ
الطَّعَامِ إِطْعَامٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً"
«2»] الإنسان: 8] فَبِأَيِ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي
الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قَدْ تَقَدَّمَ
فِي (الْبَقَرَةِ) «3» أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْأَعْلَى
وَالْخِيَارِ، وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ منزلتين ونصفا
بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ] خَيْرُ الْأُمُورِ
أَوْسَطُهَا [. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى، حدثنا عبد الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي
الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ
وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ شِدَّةٌ،
فَنَزَلَتْ:" مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ
مَا كَانَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ-
الْإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ مُدٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ
الْمَسَاكِينِ الْعَشَرَةِ، إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ
بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ،
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَاخْتُلِفَ
__________
(1). راجع ص 396 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 19 ص 125.
(3). راجع ج 2 ص 153 وما بعدها.
(6/276)
إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: يُجْزِئُهُ الْمُدُّ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ: أَفْتَى ابْنُ وَهْبٍ بِمِصْرَ بِمُدٍّ
وَنِصْفٍ. وَأَشْهَبُ بِمُدٍّ وَثُلُثٍ، قَالَ: وَإِنَّ مُدًّا
وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْشِ الْأَمْصَارِ فِي الْغَدَاءِ
وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ مِنَ
الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا،
عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ
صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ
رَأْسٍ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَبِهِ أَخَذَ
سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ،] رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ [«1» وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ
قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ
بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ] مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ «2» أَهْلِيكُمْ [، خَرَّجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا
يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِمٍ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ
فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطْعِمَهُ،
وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ، فَإِنْ
أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي (الْمُدَوَّنَةِ)
وَغَيْرِ كِتَابٍ لَا يُجْزِئُ، وَفِي (الْأَسَدِيَّةِ)
أَنَّهُ يُجْزِئُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَيُخْرِجُ
الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ
زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: إِنَّهُ
إِذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ
فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَهَذَا سَهْوٌ
بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْمُكَفِّرَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي
خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّعِيرَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ
يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] صَاعًا مِنْ طَعَامٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ
[فَفَصَّلَ ذِكْرُهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ
مِمَّا يَأْكُلُ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ فِيهِ.
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ مَالِكٌ: إِنْ غَدَّى
عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ جُمْلَةً
وَاحِدَةً، لِأَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَكْلِ، وَلَكِنْ
يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ
الْعَشَرَةِ وَجْبَةً وَاحِدَةً، يَعْنِي غَدَاءً دُونَ
عَشَاءٍ، أَوْ عَشَاءً دُونَ غَدَاءٍ، حَتَّى يُغَدِّيَهُمْ
وَيُعَشِّيَهُمْ، قَالَ أَبُو عمر: وهو قول أئمة الفتوى
بالأمصار.
__________
(1). من ع.
(2). هذه الزيادة غير موجودة في ابن ماجة في هذا الحديث. [
..... ]
(6/277)
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ: وَلَا يُجْزِئُ الْخُبْزُ قَفَارًا «1» بَلْ يُعْطِي
مَعَهُ إِدَامَهُ زَيْتًا أَوْ كَشْكًا أَوْ كَامَخًا «2» أَوْ
مَا تَيَسَّرَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ زِيَادَةٌ
مَا أَرَاهَا وَاجِبَةً أَمَّا إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ
يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ السُّكَّرَ- نَعَمْ- وَاللَّحْمَ،
وَأَمَّا تَعْيِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ فَلَا سَبِيلَ
إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَضَمَّنُهُ. قُلْتُ:
نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْوَسَطِ يَقْتَضِي الْخُبْزَ
وَالزَّيْتَ أَوِ الْخَلَّ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ
الْجُبْنِ وَالْكَشْكِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: [نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ] وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: إِنْ أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ
خُبْزًا وَزَيْتًا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ حَتَّى
يَشْبَعُوا أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ
وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ انس
ابن مَالِكٍ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ
عِنْدَنَا دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ
يَمْنَعُونَ صَرْفَ الْجَمِيعِ إِلَى وَاحِدٍ دَفْعَةً
وَاحِدَةً، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا صَرَفَ الْجَمِيعَ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ
أَجَازَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْفِعْلُ حَسُنَ
أَنْ يُقَالَ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي لَا يُمْنَعُ مِنَ الذِي
دُفِعَتْ إِلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنَّ اسْمَ الْمِسْكِينِ
يَتَنَاوَلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ
إِلَيْهِ فِي أَيَّامٍ، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الْأَيَّامِ يَقُومُ
مَقَامَ أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ
التَّعْرِيفُ بِقَدْرِ مَا يُطْعِمُ «3»، فَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ
الْقَدْرَ. لِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ. وَدَلِيلُنَا نَصُّ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَى الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ
عَنْهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَكِفَايَتَهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا،
فَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَلِدُعَائِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُكَفِّرِ بِسَبَبِ
ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكَفَّارَتُهُ) الضَّمِيرُ عَلَى الصناعة
النحوية عائد على (بِما) وَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ
مَصْدَرِيَّةً. أَوْ يَعُودُ عَلَى إِثْمِ الْحِنْثِ وَإِنْ
لَمْ يَجْرِ لَهُ ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه.
__________
(1). خبز قفار: غير مأدوم مأخوذ من البلد الذي لا شي فيه.
(2). الكامخ: نوع من الأدم، معرب.
(3). في ع وك: يطعمهم.
(6/278)
الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَهْلِيكُمْ" هُوَ جَمْعُ أهل على السلامة. وقرا
جعفر ابن مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: (أَهَالِيكُمْ) وَهَذَا جَمْعٌ
مُكَسَّرٌ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: أَهَالٍ بِمَنْزِلَةِ
لَيَالٍ وَاحِدُهَا أَهْلَاتٍ وَلَيْلَاتٍ، وَالْعَرَبُ
تَقُولُ: أَهْلٌ وَأَهْلَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
وَأَهْلَةِ وُدٍّ قَدْ تَبَرَّيْتُ وُدَّهُمْ ...
وَأَبْلَيْتُهُمْ فِي الْجَهْدِ حَمْدِي وَنَائِلِي
يَقُولُ: تَعَرَّضْتُ لِوُدِّهِمْ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ.
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ
كِسْوَتُهُمْ) قُرِئَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَضَمِّهَا هُمَا
لُغَتَانِ مِثْلُ إِسْوَةٍ وَأُسْوَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ الْيَمَانِيُّ: (أَوْ
كَإِسْوَتِهِمْ) يَعْنِي كَإِسْوَةِ أَهْلِكَ. وَالْكِسْوَةُ
فِي حَقِّ الرِّجَالِ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ
لِجَمِيعِ الْجَسَدِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَأَقَلُّ
مَا يُجْزِئُهُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَهُوَ الدِّرْعُ
وَالْخِمَارُ، وَهَكَذَا حُكْمُ الصِّغَارِ. قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي (الْعُتْبِيَّةِ): تُكْسَى الصَّغِيرَةُ
كِسْوَةَ كَبِيرَةٍ، وَالصَّغِيرُ كِسْوَةَ كَبِيرٍ، قِيَاسًا
عَلَى الطَّعَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَقَعُ
عَلَيْهِ الِاسْمُ وَذَلِكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَفِي رِوَايَةِ
أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَمُغِيرَةُ: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلِّ مِنْ
ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الثَّوْبُ التُّبَّانَ «2»، أَسْنَدَهُ
الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ تُجْزِئُ
عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا كَانَ
أَحْرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا
كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا
أَنَّ عليه طعاما يشبعه من الجوع فَأَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا
الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيهِ، وَاللَّهُ
يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِعَوْنِهِ. قُلْتُ:
قَدْ رَاعَى قَوْمٌ مَعْهُودَ الزِّيِّ وَالْكِسْوَةِ
الْمُتَعَارَفَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ الثَّوْبُ
الْوَاحِدُ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا مِمَّا قَدْ
يُتَزَيَّا «3» بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَةِ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَإِزَارٌ، أَوْ رِدَاءٌ
أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قباء أو كساء.
__________
(1). هو أبو الطمحان القيني: يقول: رب من هو أهل للود قد تعرضت
له، وبذلت له في ذلك طاقتي من نائل. في التاج: بذلي ونائلي.
وفي اللسان: في الحمد جهدي ونائلي.
(2). التبان (بالضم والتشديد): سراويل صغير مقدار شبر، يستر
العورة المغلظة.
(3). في ج: يتردى به، وفي ع: يؤتزر به.
(6/279)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْسِيَ عَنْهُ ثَوْبَينِ ثَوْبَيْنِ
«1»، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَهَذَا مَعْنَى
مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنِ
الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ، وَهُوَ يَقُولُ: تُجْزِئُ
الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ! قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ
الْخَلَّةِ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ
فِيهِ. قُلْنَا: إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَى سَدِّ الْخَلَّةِ
فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ؟] وَأَيْنَ [«2» نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى
الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ، وَالِانْتِقَالِ بالبيان من نوع
إلى نوع؟! الثالثة والعشرون- إِذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إِلَى
ذِمِّيٍّ أَوْ إِلَى عَبْدٍ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ
لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ
الْآيَةِ. قُلْنَا: هَذَا يَخُصُّهُ بِأَنْ يَقُولَ جُزْءٌ
مِنَ الْمَالِ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا
يَجُوزُ دَفْعُهُ لِلْكَافِرِ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ، وَقَدِ
اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ
لِلْمُرْتَدِّ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خُصَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ
فَهُوَ دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ
بِمِسْكِينٍ لِاسْتِغْنَائِهِ بِنَفَقَةِ سَيِّدِهِ فَلَا
تُدْفَعُ إِلَيْهِ كَالْغَنِيِّ. الرَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ) التَّحْرِيرُ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ،
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَسْرِ وَالْمَشَقَّاتِ وَتَعَبِ
الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ مَرْيَمَ:"
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «3» "] آل
عمران: 35] أَيْ مِنْ شُغُوبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ:
أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ
لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ
أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ. وَخَصَّ الرَّقَبَةَ مِنَ
الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ
الْغُلُّ وَالتَّوَثُّقُ غَالِبًا مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ
مَوْضِعُ الْمِلْكِ فَأُضِيفَ التَّحْرِيرُ إِلَيْهَا.
الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إِلَّا
إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَامِلَةٍ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ
لِغَيْرِهِ، وَلَا عَتَاقَةُ بَعْضِهَا، وَلَا عِتْقٌ إِلَى
أَجَلٍ، وَلَا كِتَابَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ، وَلَا تَكُونُ أُمَّ
وَلَدٍ وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ، وَلَا
يَكُونُ بِهَا مِنَ الْهَرَمِ وَالزَّمَانَةِ مَا يَضُرُّ
بِهَا فِي الِاكْتِسَابِ، سَلِيمَةً غير معيبة،
__________
(1). أي ثوبان لكل مسكين.
(2). الزيادة عن ابن العربي.
(3). راجع ج 4 ص 65
(6/280)
خِلَافًا لِدَاوُدَ فِي تَجْوِيزِهِ
إِعْتَاقَ الْمَعِيبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ
عِتْقُ الْكَافِرَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ
يَقْتَضِيهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا
يَكُونُ الْكَافِرُ مَحَلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ، وَأَيْضًا
فَكُلُّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا فَهُوَ رَاجِعٌ
إِلَى الْمُقَيَّدِ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ
الْخَطَأِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ فِيهَا شِرْكٌ،
لقوله تعالى:" فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ"] النساء: 92] وَبَعْضُ
الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا
يَكُونُ فِيهَا عَقْدُ عِتْقٍ، لِأَنَّ التَّحْرِيرَ يَقْتَضِي
ابْتِدَاءَ عِتْقٍ دُونَ تَنْجِيزِ عِتْقٍ مُقَدَّمٍ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: سَلِيمَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَحْرِيرَ
رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَالْعَمْيَاءُ نَاقِصَةٌ. وَفِي
الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا
إِلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ
بِعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ [وَهَذَا
نَصٌّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَعْوَرِ قَوْلَانِ فِي
الْمَذْهَبِ، كذلك في الأصم والخصي. السادسة والثلاثون- من
أخرج مَالًا لِيُعْتِقَ رَقَبَةً فِي كَفَّارَةٍ فَتَلِفَ
كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مُخْرِجِ
الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ،
أَوْ لِيَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَةً فَتَلِفَ، لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ. السَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا مَاتَ
الْحَالِفُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ:
كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ تُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِ
الْمَيِّتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ فِي الثُّلُثِ،
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ إِنْ أَوْصَى بِهَا. الثَّامِنَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- مَنْ حَلَفَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ
حَتَّى أَعْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَمْ
يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ
يُكَفِّرْ حَتَّى عُتِقَ، فَالْمُرَاعَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
بِوَقْتِ التَّكْفِيرِ لَا وَقْتِ الْحِنْثِ. التَّاسِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي
أَهْلِهِ «1» آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ
كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ) اللِّجَاجُ فِي
الْيَمِينِ هُوَ الْمُضِيُّ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِنْ لَزِمَ
مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة
__________
(1). (في أهله) أي في قطيعتهم كالحلف على ألا يكلمهم وذكر
الأهل في هذا المقام للمبالغة. راجع شرح الحديث في هامش ص مسلم
ط الآستانة ج 5 ص 88.
(6/281)
أو آجلة، فإن كان شي مِنْ ذَلِكَ
فَالْأَوْلَى بِهِ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ وَفِعْلُ الْكَفَّارَةِ،
وَلَا يَعْتَلُّ بِالْيَمِينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ"
«1»] البقرة: 224] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ [أَيِ الذِي هُوَ أَكْثَرُ خَيْرًا. الْمُوَفِّيَةُ
أَرْبَعِينَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ [قَالَ
الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ
فِي حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ وَهُوَ يَنْوِي غَيْرَهُ
لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا عَنْ إِثْمِ
تِلْكَ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ:] يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ
صَاحِبُكَ [. وَرُوِيَ] يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ [خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ أَيْضًا. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ لِطَالِبِهِ فِي
حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ، أَوْ
حَرَّكَ لِسَانَهُ أَوْ شَفَتَيْهِ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، لَمْ
يَنْفَعْهُ اسْتِثْنَاؤُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النِّيَّةَ نِيَّةُ
الْمَحْلُوفِ لَهُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا
تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ لَا
عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ
مِنْهُ. هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ. الْحَادِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)
مَعْنَاهُ لَمْ يَجِدْ فِي مِلْكِهِ أَحَدَ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ، مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوْ عِتْقِ
الرَّقَبَةِ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا عَدِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ
الْأَشْيَاءَ صَامَ. وَالْعَدَمُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا
بِمَغِيبِ الْمَالِ] عَنْهُ [«2» أَوْ عَدَمِهِ، فَالْأَوَّلُ
أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ فَإِنْ وَجَدَ مَنْ
يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ
يُسَلِّفُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَنْتَظِرُ
إِلَى بَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ لَا
يَلْزَمُهُ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ
قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ] وَالشَّرْطِ مِنَ [«3»
الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ،
فَلْيُكَفِّرْ مَكَانَهُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْأَنْوَاعِ
الثَّلَاثَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ".
وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ
الَّذِي يَعِيشُ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ. وَقِيلَ:
هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قُوتُ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَضْلٌ يُطْعِمُهُ، وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ تَفْضُلُ عَنْهُ نَفَقَةُ يَوْمِهِ
فَإِنَّهُ لَا يَصُومُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ
ابْنِ مُزَيْنٍ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْحَانِثِ
__________
(1). راجع ج 3 ص 96.
(2). من ج وهـ وع وك.
(3). الزيادة عن ابن العربي.
(6/282)
فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ أَطْعَمَ
إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْجُوعَ، أَوْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا
يُعْطَفُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ. وَقَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ أَطْعَمَ مَا فَضَلَ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ
وَعِيَالِهِ وَكِسْوَةٌ تَكُونُ لِكِفَايَتِهِمْ، ثُمَّ
يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا لِقَدْرِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ
عِنْدَنَا وَاجِدٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ أَبِي
عُبَيْدٍ حسن. الثانية والأربعون- قوله تعالى: قَرَأَهَا ابْنُ
مَسْعُودٍ (مُتَتَابِعَاتٍ) فَيُقَيَّدُ بِهَا الْمُطْلَقُ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ
قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ قِيَاسًا
عَلَى الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاعْتِبَارًا
بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: يُجْزِئُهُ التَّفْرِيقُ، لِأَنَّ
التَّتَابُعَ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ
عَلَى مَنْصُوصٍ وَقَدْ عُدِمَا. الثَّالِثَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ- مَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ
الصِّيَامِ نَاسِيًا فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الصِّيَامِ فِي (الْبَقَرَةِ)»
. الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- هَذِهِ الْكَفَّارَةُ
الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ لِلْحُرِّ
الْمُسْلِمِ بِاتِّفَاقٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْهَا
عَلَى الْعَبْدِ إِذَا حَنِثَ، فَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: لَيْسَ
عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ، فَحَكَى عَنْهُ ابْنُ
نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُكَفِّرُ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ،
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَلَكِنْ يُكَفِّرُ
بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَأَصْوَبُ ذَلِكَ
أَنْ يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أن قَالَ: إِنْ أَطْعَمَ أَوْ
كَسَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فما هو بالبين، وفي قلبي منه شي.
الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) أَيْ تَغْطِيَةُ أَيْمَانِكُمْ،
وَكَفَّرْتُ الشَّيْءَ غَطَّيْتُهُ وَسَتَرْتُهُ وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي
الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ
التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِعْلُ
الْخَيْرِ الذي حلف في تركه.
__________
(1). راجع ج 2 ص 322، وما بعدها. [ ..... ]
(6/283)
وَتَرْجَمَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ
(مَنْ قَالَ كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ
حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] مَنْ حَلَفَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فِيمَا لا
يصلح فَبِرُّهُ أَلَّا يُتِمَّ عَلَى ذَلِكَ [«1» وَأَسْنَدَ
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا [. قُلْتُ:
وَيَعْتَضِدُ هَذَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ حِينَ حَلَفَ أَلَّا يَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَحَلَفَتِ
امْرَأَتُهُ أَلَّا تَطْعَمَهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، وَحَلَفَ
الضَّيْفُ- أَوِ الْأَضْيَافُ- أَلَّا يَطْعَمَهُ أَوْ لَا
يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ
هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ
وَأَكَلُوا. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ قَالَ:
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَرُّوا
وَحَنِثْتُ، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ، قَالَ:] بَلْ أَنْتَ
أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ [قَالَ: وَلَمْ تَبْلُغْنِي
كَفَّارَةٌ. السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي
كَفَّارَةِ غَيْرِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ أَخْرَجَ
ثُلُثَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرُوِيَ
عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقال
الشعبي وعطاء وطاوس: لا شي عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ
بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ عِنْدَ
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي
ثَوْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بن محمد: لا
شي عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا يُوجِبُونَ فِي
الْيَمِينِ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ كَفَّارَةً مِثْلَ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ
فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَفْتَى بِهِ ابْنُ
الْقَاسِمِ ابْنَهُ عَبْدَ الصَّمَدِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ
قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عِنْدَهُ فِي الْمَشْيِ
إِلَى مَكَّةَ إِلَّا بِالْمَشْيِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْحَالِفُ بِالْعِتْقِ
فَعَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ فِي قول
مالك والشافعي وغيرهما. وروي
__________
(1). ظاهره أنه البر شرعا فلا حاجة معه إلى كفارة أخرى لكن
الأحاديث المشهورة تدل على وجوب الكفارة، فالحديث إن صح يحمل
على إنه بمنزلة البر في كونه مطلوبا شرعا. (هامش ابن ماجة).
(6/284)
|