تفسير القرطبي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ- وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ. السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أَيْ بِالْبِدَارِ إِلَى مَا لَزِمَكُمْ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا حَنِثْتُمْ. وَقِيلَ: أَيْ بِتَرْكِ الْحَلِفِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَحْلِفُوا لَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تَقَدَّمُ مَعْنَى (الشُّكْرِ) وَ (لَعَلَّ) فِي (البقرة) «1» والحمد لله.

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 92]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إِذَا كَانَتْ شَهَوَاتٍ وَعَادَاتٍ تَلَبَّسُوا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَغَلَبَتْ عَلَى النُّفُوسِ، فَكَانَ نَفْيٌ «2» مِنْهَا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ هَوَى الزَّجْرِ بِالطَّيْرِ، وَأَخْذُ الْفَأْلِ فِي الْكُتُبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ. وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة.
__________
(1). راجع ج 1 ص 226 وما بعدها في (لعل) وص 397 وما بعدها في (الشكر).
(2). نفى: بقية.

(6/285)


وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا «1». وَأَمَّا" الْمَيْسِرُ" فَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «2» الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقِيلَ: هِيَ الْأَصْنَامُ. وَقِيلَ: هِيَ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ، وَيَأْتِي بَيَانُهُمَا في سورة" يونس" عند قوله تعالى:"فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ" [يونس: 32] «3». وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ الْقِدَاحُ، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِيهَا. وَيُقَالُ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ سَدَنَةِ الْبَيْتِ وَخُدَّامِ الْأَصْنَامِ، يَأْتِي الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَيَقْبِضُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمَرَنِي رَبِّي خَرَجَ إِلَى حَاجَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ. الثَّانِيَةُ- تَحْرِيمُ الْخَمْرِ كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِلَ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شأنها" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ" «4»] البقرة: 219] أَيْ فِي تِجَارَتِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: نَأْخُذُ مَنْفَعَتَهَا وَنَتْرُكُ إِثْمَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى " [النساء: 43] «5» فَتَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبَهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ" الْآيَةَ- فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيُوبَ الْخَمْرِ، وَمَا يَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا، وَدَعَا اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «6» وَ" النِّسَاءِ" «7». وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: 43]، و" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ"] البقرة: 219] نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمُكَ وَنَسْقِيكَ خَمْرًا،
__________
(1). راجع ج 3 ص 52 - 51.
(2). راجع ج 3 ص 52 - 51.
(3). راجع ج 8 ص 335.
(4). راجع ج 3 ص 52 - 51.
(5). راجع ج 5 ص 191.
(6). راجع ج 3 ص 52 - 51.
(7). راجع ج 5 ص 191.

(6/286)


وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حُشٍّ- وَالْحُشُّ الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٍّ [عِنْدَهُمْ] «1» وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ أَنْفِي- وَفَى رِوَايَةٍ فَفَزَرَهُ «2» وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا- فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ- يَعْنِي نَفْسَهُ شَأْنَ الْخَمْرِ-" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ". الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا مَعْمُولًا بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ النساء" لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: 43] عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَهَلْ كَانَ يُبَاحُ لَهُمْ شُرْبُ الْقَدْرِ الَّذِي يُسْكِرُ؟ حَدِيثُ حَمْزَةَ ظَاهِرٌ فِيهِ حِينَ بَقَرَ خَوَاصِرَ نَاقَتَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَبَّ أَسْنِمَتَهَمَا، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ إِلَى حَمْزَةَ فَصَدَرَ عَنْ حَمْزَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْلِ الْجَافِي الْمُخَالِفِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرِهِ وَتَعْزِيرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِمَا يُسْكِرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي: فَعَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِلٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى حَمْزَةَ وَلَا عَنَّفَهُ، لَا فِي حَالِ سُكْرِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ رَجَعَ لَمَّا قَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ عَنْهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَوْهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ لَا مَفَاسِدُهُمْ، وَأَصْلُ الْمَصَالِحِ الْعَقْلُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَفَاسِدِ ذَهَابُهُ، فَيَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ كُلِّ مَا يُذْهِبُهُ أَوْ يُشَوِّشُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ حَمْزَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِشُرْبِهِ السُّكْرَ لَكِنَّهُ أَسْرَعَ فِيهِ فَغَلَبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" رِجْسٌ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (رِجْسٌ) سُخْطٌ وَقَدْ يُقَالُ لِلنَّتْنِ وَالْعَذِرَةِ وَالْأَقْذَارِ رِجْسٌ. وَالرِّجْزُ بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة
__________
(1). الزيادة عن (صحيح مسلم).
(2). فزره: شقه.

(6/287)


لَا غَيْرَ. وَالرِّجْسُ يُقَالُ لِلْأَمْرَيْنِ. وَمَعْنَى" مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ" أَيْ بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ وَتَزْيِينِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ مَبَادِئَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتُدِيَ بِهِ فِيهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاجْتَنِبُوهُ" يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ نُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَحَصَلَ الِاجْتِنَابُ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ، فَبِهَذَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَوَرَدَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ لَا أَجِدُ" «1» وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيِ خَبَرًا، وَفِي الْخَمْرِ نَهْيًا وَزَجْرًا، وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدُهُ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، مَشَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَجُعِلَتْ عِدْلًا «2» لِلشِّرْكِ، يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْكٌ. ثُمَّ عَلَّقَ" لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فَعَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاسْتِخْبَاثِ الشَّرْعِ لَهَا، وَإِطْلَاقِ الرِّجْسِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهَا، الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ شُرْبُهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَتِهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ. وَالْجَوَابُ، أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوبٌ «3» وَلَا آبَارٌ يُرِيقُونَهَا فِيهَا، إِذِ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُفٌ فِي بُيُوتِهِمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنِ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ، وَنَقْلُهَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، فَإِنَّ طُرُقَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاسِعَةً، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ مِنَ الْكَثْرَةِ بحيث تصير نهرا
__________
(1). راجع ج 7 ص 115.
(2). عدل: مثل ونظير. [ ..... ]
(3). السرب: حفيرة تحت الأرض.

(6/288)


يَعُمُّ الطَّرِيقَ كُلَّهَا، بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا- هَذَا- مَعَ مَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ شُهْرَةِ إِرَاقَتِهَا فِي طُرُقِ «1» الْمَدِينَةِ، لِيَشِيعَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمِهَا مِنْ إِتْلَافِهَا، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: التَّنْجِيسُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، فَكَمْ مِنْ مُحَرَّمٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:" رِجْسٌ" يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، فَإِنَّ الرِّجْسَ فِي اللِّسَانِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ لَوِ الْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُمَ بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِدَ فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا قَلِيلَةٌ، فَأَيُّ نَصٍّ يُوجَدُ عَلَى تَنْجِيسِ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِرُ وَالْعُمُومَاتُ وَالْأَقْيِسَةُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْحَجِّ" «2» مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ:" فَاجْتَنِبُوهُ" يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا تَخْلِيلٍ وَلَا مُدَاوَاةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا [قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ رَجُلًا «4» فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بِمَ سَارَرْتَهُ [قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ:] إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا [، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا، فَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْجَائِزَةِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ فِي الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ.] هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ [الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعَذِرَاتِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلِذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ زِبْلِ الدَّوَابِّ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْقَاسِمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.
__________
(1). في ج وع وك. وفي ا: طريق.
(2). راجع ج 12 ص 53.
(3). الرواية: القربة التي فيها الخمر سماها مرة برواية ومرة بمزادة وهما بمعنى. وربما قالوا مزاد بغير (هاء) كما وقع في بعض النسخ.
(4). في ج وع وك: إنسانا.

(6/289)


التَّاسِعَةُ- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا لِأَحَدٍ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَعَ الرَّجُلَ أَنْ يَفْتَحَ الْمَزَادَةَ «1» حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِيهَا، لِأَنَّ الْخَلَّ مَالٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا. وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ خَمْرًا لِيَتِيمٍ، وَاسْتُؤْذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْلِيلِهَا فَقَالَ:] لَا [وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ بِتَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيٍّ «2» أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْكَ وَالْمِلْحَ فَصَارَتْ مُرَبًّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَالِ الْخَمْرِ جَازَ. وَخَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ: لَا تُعَالَجُ الْخَمْرُ بِغَيْرِ تَحْوِيلِهَا إِلَى الْخَلِّ وَحْدَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: احْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ بِأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْمُرَبَّى مِنْهُ، وَيَقُولُ: دَبَغَتْهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ. وَخَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ فِي رَأْيِ أَحَدٍ حُجَّةً مَعَ السُّنَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مِنْ تَخْلِيلِهَا كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا، لِئَلَّا يُسْتَدَامَ حَبْسُهَا لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِشُرْبِهَا، إِرَادَةً لِقَطْعِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِهَا حِينَئِذٍ، وَالْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ أَكْلِهَا إِذَا خُلِّلَتْ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيُّ خَمْرًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي كِتَابِهِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِجَ الْخَمْرَ حَتَّى يَجْعَلَهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعَهَا، وَلَكِنْ لِيُهْرِيقَهَا. الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْخَلِّ حَلَالٌ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَبِيصَةَ وَابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مذهبه عند أكثر أصحابه.
__________
(1). في ب: المزادتين، ما فيهما.
(2). أي بممارسة آدمي وعمله.

(6/290)


الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- ذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّهَا تُمْلَكُ، وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ بِهَا الْغَصَصُ، وَيُطْفَأَ بِهَا حَرِيقٌ، وَهَذَا نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ لِمَالِكٍ، بَلْ يُخَرَّجُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ. وَلَوْ جَازَ مِلْكُهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْكَ نَوْعُ نَفْعٍ وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الْآيَةَ. فَكُلُّ لَهْوٍ دَعَا قَلِيلُهُ إِلَى كَثِيرٍ، وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا مِثْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُورِثُ السُّكْرَ فَلَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِي اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ هَذَا الْمَعْنَى، قِيلَ لَهُ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ، وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ. وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِرُ لَا يُسْكِرُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ افْتِرَاقُهُمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ لَا يُسْكِرُ كَمَا أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لَا يُسْكِرُ ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْلَ الْكَثِيرِ، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامًا مِثْلَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْتِدَاءَ اللَّعِبِ يُورِثُ الْغَفْلَةَ، فَتَقُومُ تِلْكَ الْغَفْلَةُ الْمُسْتَوْلِيَةُ عَلَى الْقَلْبِ مَكَانَ السُّكْرِ «1»، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِرُ فَتَصُدُّ بِالْإِسْكَارِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلْيُحَرَّمِ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لِأَنَّهُ يُغْفِلُ وَيُلْهِي فَيَصُدُّ بِذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- مُهْدِي الرَّاوِيَةِ «2» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ- كما يقوله بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ- بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يوبخه،
__________
(1). في ج وع وك: مقام.
(2). كذا في ج وع وى وا وهـ وفي ك: هذه الرواية تدل. إلخ. ولعل أصل العبارة: حديث مهدي الراوية ... إلخ.

(6/291)


بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْمَ، وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاءَ «1»، إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ أَتَاهُمُ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ، فَمَالُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) «2» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ الْخَمْرِ وَاشْتِقَاقُهَا وَالْمَيْسِرُ «3». وَقَدْ مَضَى فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِي الْأَنْصَابِ «4» وَالْأَزْلَامِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). الْآيَةَ. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ «5» بَيْنَنَا بِسَبَبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ، فَحَذَّرَنَا مِنْهَا، وَنَهَانَا عَنْهَا. رُوِيَ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا رَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ «6» يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ بِي هَذَا، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الْآيَةَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) يَقُولُ: إِذَا سَكِرْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ وَلَمْ تُصَلُّوا، وَإِنْ صَلَّيْتُمْ خُلِطَ عَلَيْكُمْ كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ" «7». وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الشِّطْرَنْجِ أَهِيَ مَيْسِرٌ؟ وَعَنِ النَّرْدِ أَهُوَ مَيْسِرٌ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا صَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ". السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لَمَّا عَلِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى انْتَهُوا قَالَ: انْتَهَيْنَا. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَكُسِرَتِ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتِ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ في سكك المدينة.
__________
(1). قباء قرية على بعد ميلين من المدينة.
(2). راجع ج 2 ص 148 وما بعدها.
(3). راجع ج ص 51 وما بعدها.
(4). راجع ص 57 وما بعدها من هذا الجزء.
(5). في ج وك: بيننا. [ ..... ]
(6). في ج وع: الرجل.
(7). راجع ج 5 ص 200.

(6/292)


لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ، وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ، وَكَفٌّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحُسْنُ عَطْفٍ" وَأَطِيعُوا اللَّهَ" لَمَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مَعْنَى انْتَهُوا. وَكَرَّرَ" وَأَطِيعُوا" فِي ذِكْرِ الرسول تأكيدا. ثُمَّ حَذَّرَ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ تَوَلَّى بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ:" فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ" أَيْ خالفتم (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فِي تَحْرِيمِ مَا أَمَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَعَلَى الْمُرْسِلِ أَنْ يُعَاقِبَ أَوْ يُثِيبَ بِحَسَبِ مَا يُعْصَى أو يطاع.

[سورة المائدة (5): آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا وَيَأْكُلُ الْمَيْسِرَ؟ وَنَحْوَ هَذَا- فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ «1» مُنَادِيًا يُنَادِي، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ! قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا- وَكَانَ الْخَمْرُ مِنَ الْفَضِيخِ»
- قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَظِيرُ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَنَزَلَتْ" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" «3»] البقرة: 143]. وَمَنْ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ
__________
(1). أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2). الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، والمفضوخ هو المشدوخ.
(3). راجع ج 2 ص 157.

(6/293)


شي، لَا إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا أَجْرٌ وَلَا مَدْحٌ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَخَوَّفَ وَلَا يُسْأَلَ عَنْ حَالِ مَنْ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي بَطْنِهِ وَقْتَ إِبَاحَتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ غَفَلَ عَنْ دَلِيلِ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ، أَوْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَفَقَتِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَهَّمَ مُؤَاخَذَةً وَمُعَاقَبَةً لِأَجْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. الثَّالِثَةُ- هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ إِذَا أَسْكَرَ خَمْرٌ، وَهُوَ نَصٌّ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ] رَحِمَهُمُ «1» اللَّهُ [هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَدْ عَقَلُوا أَنَّ شَرَابَهُمْ ذَلِكَ خَمْرٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ الْحَكَمِيُّ:
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارَهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عن جابر عن النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هُوَ الْخَمْرُ]. وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَحَسْبُكُ بِهِ عَالِمًا بِاللِّسَانِ وَالشَّرْعِ- خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَهَذَا أَبْيَنُ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ، يَخْطُبُ بِهِ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى نَبِيذًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ ... وَصِرْتُ حَلِيفًا لِمَنْ عَابَهُ
شَرَابٌ يُدَنِّسُ عِرْضَ الْفَتَى ... وَيَفْتَحُ للشر أبوابه
__________
(1). من ب وج وك.

(6/294)


الرَّابِعَةُ- قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ حَرُمَ شُرْبُهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نِيئًا، كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حُدَّ، فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ الني فَهُوَ الَّذِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ نُقْطَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْإِسْكَارَ، وَفِي الْمَطْبُوخِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ الني، فأما المطبوخ منهما، والني وَالْمَطْبُوخُ مِمَّا سِوَاهُمَا فَحَلَالٌ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمُعْتَصَرِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عَلَى تَفْصِيلٍ، فَيَرَى أَنَّ سُلَافَةَ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا أَنْ تُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثَاهَا، وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ فَيَحِلُّ مَطْبُوخُهُمَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ مَسًّا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بحد، وأما الني مِنْهُ فَحَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِسْكَارُ اسْتَوَى الْجَمِيعُ. قَالَ شَيْخُنَا الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ] أَحْمَدُ [«1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعَجَبُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ حَرَامٌ كَكَثِيرِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَلِمَ حُرِّمَ الْقَلِيلُ مِنَ الْخَمْرِ وَلَيْسَ مُذْهِبًا لِلْعَقْلِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكَثِيرِ، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُمْ: كُلُّ مَا قَدَّرْتُمُوهُ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ فَيَحْرُمُ أَيْضًا، إِذْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ إِذَا سُلِّمَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ أَرْفَعُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ فِيهِ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيعِ أوصافه، وهذا كما يقوله فِي قِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ! فَإِنَّهُمْ يَتَوَغَّلُونَ فِي الْقِيَاسِ وَيُرَجِّحُونَهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ الْمَعْضُودَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ صدور الامة، لأحاديث لا يصح شي مِنْهَا عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَ عِلَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ في كتبهم، وليس في الصحيح شي مِنْهَا. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" النَّحْلِ" «2» تَمَامُ هَذِهِ المسألة إن شاء الله تعالى.
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 10 ص 127.

(6/295)


الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" طَعِمُوا" أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْأَكْلِ، يُقَالُ: طَعِمَ الطَّعَامَ وَشَرِبَ الشَّرَابَ، لَكِنْ قَدْ تُجُوِّزَ فِي ذَلِكَ فَيُقَالُ: لَمْ أَطْعَمَ خُبْزًا وَلَا مَاءً وَلَا نَوْمًا، قَالَ الشاعر:
نعاما بوجرة «1» صفر الْخُدُو ... دِ لَا تَطْعَمُ النَّوْمَ إِلَّا صِيَامَا
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" الْبَقَرَةِ" «2» فِي قَوْلِهِ تعالى:" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ"] البقرة: 249] بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنَاوُلَ الْمُبَاحِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالِانْتِفَاعَ بِكُلِّ لَذِيذٍ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَنْكَحٍ وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ وَتُنُوهِيَ فِي ثَمَنِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ"] المائدة: 87] وَنَظِيرُ قَوْلِهِ:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ" «3»] الأعراف: 32]. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ التَّقْوَى تَكْرَارٌ، وَالْمَعْنَى اتَّقَوْا شُرْبَهَا، وَآمَنُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي دَامَ اتِّقَاؤُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، وَالثَّالِثُ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ إِلَى الِاتِّقَاءِ. وَالثَّانِي: اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا، ثُمَّ اتَّقَوْا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ «4»، وَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ. الثَّالِثُ- اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي ثُمَّ اتَّقَوُا الْكَبَائِرَ، وَازْدَادُوا إيمانا، ومعنى الثَّالِثُ ثُمَّ اتَّقَوُا الصَّغَائِرَ وَأَحْسَنُوا أَيْ تَنَفَّلُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الِاتِّقَاءُ «5» الْأَوَّلُ هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ، وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي، الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل.
__________
(1). وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله:
فأما بنو عامر بالنار ... غداة لقونا فكانوا نعاما

(2). راجع ج 3 ص 252.
(3). راجع ج 7 ص 195.
(4). في ع: أعمارهم.
(5). لعل قول ابن جرير هو الرابع.

(6/296)


الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِيَ الْمُحْسِنَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَّقِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَضَّلَهُ بِأَجْرِ الْإِحْسَانِ. التَّاسِعَةُ- قَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ أَخَوَيْهِ عُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَعُمِّرَ «1». وَكَانَ خَتْنُ «2» عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، خَالُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَفْصَةُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِشَهَادَةِ الْجَارُودِ- سَيِّدِ عَبْدِ الْقَيْسِ- عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ فُلَيْحٍ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ كَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ حَتَّى أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شرب فأمر به أن يجلد، فقال لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: وَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. فَأَنَا مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ] كُلَّهَا [«3»، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الآيات أنزلن عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وإذا
__________
(1). عمر: عاش زمانا طويلا. [ ..... ]
(2). الختن (بالتحريك): الصهر، أو كل ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
(3). من ع.

(6/297)


هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبُرْقَانِيِّ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْجَارُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا، وَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ حَقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ حِينَ شَرِبَ، وَرَأَيْتُهُ سَكْرَانَ يقي، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ تَنَطَّعْتَ «2» فِي الشَّهَادَةِ، ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ، فَقَالَ: أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ: أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ؟ فَقَالَ الْجَارُودُ: أَنَا شَهِيدٌ، قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَدَّيْتُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: إِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ! فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ لِسَانَكَ أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ، فَقَالَ الْجَارُودُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ، أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّكَ وَتَسُوءَنِي! فَأَوْعَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى هِنْدٍ يَنْشُدُهَا بِاللَّهِ، فَأَقَامَتْ هِنْدٌ عَلَى زَوْجِهَا الشَّهَادَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا قُدَامَةُ إِنِّي جَالِدُكَ، فَقَالَ قُدَامَةُ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتَ- كَمَا يَقُولُونَ- مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ. قَالَ: وَلِمَ يَا قُدَامَةُ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ إِلَى" الْمُحْسِنِينَ". فَقَالَ عُمَرُ: أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا «3»، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَحْتَ السَّوْطِ، أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ فِي عُنُقِي! وَاللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ، فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ: أَخَذَتْكَ دِقْرَارَةُ «4» أَهْلِكَ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ،
__________
(1). البرقاني (بفتح الموحدة وسكون الراء): هذه النسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم وخربت، وصارت مزرعة. (الأنساب) للسمعاني.
(2). تنطع في الكلام: تعمق وغالى.
(3). وجع: مريض.
(4). الدقرارة (واحدة الدقارير): وهي الأباطيل وعادات السوء، أراد أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعميل بالباطل (؟؟؟؟) وعرضت لك فعملت بها، وكان أسلم عبدا بجاويا.

(6/298)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ، فَحَجَّا وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ حَتَّى قَفَلُوا عَنْ حَجِّهِمْ وَنَزَلَ عُمَرُ بِالسُّقْيَا «1» وَنَامَ بِهَا فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ: عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ، فَوَاللَّهِ لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ: سَالِمْ قُدَامَةَ فَإِنَّهُ أَخُوكَ، فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إِلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ وَاسْتَغْفَرَ له، فكان أول صلحهما. قال أيوب ابن أَبِي تَمِيمَةَ: لَمْ يُحَدَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِي الْخَمْرِ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبُرْقَانِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ مَا حُدَّ عَلَى الْخَمْرِ أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ، وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ «2» إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى عُمَرَ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ] رَضِيَ اللَّهُ «3» عَنْهُ [أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوا بِالشَّامِ وَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَجْمَعَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، ذَكَرَهُ إِلْكِيَا الطبري.

[سورة المائدة (5): آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ" أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. وَكَانَ الصَّيْدُ أَحَدَ مَعَايِشِ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ، وَشَائِعًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْهُمْ، مُسْتَعْمَلًا جِدًّا، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، كَمَا ابْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَلَّا يَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض
__________
(1). السقيا (بالضم): موضع بين المدينة ووادي الصفراء.
(2). الشجو: الهم والحزن.
(3). من ع.

(6/299)


صَيْدٌ اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ" فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحَلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ" أَيْ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ. الثالثة- قوله تعالى:" بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ" يُرِيدُ بِبَعْضِ الصَّيْدِ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَعُمَّ الصَّيْدَ كله لان للبحر صيدا، قال الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدَ، لِقَوْلِهِ:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ". الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ:" يَنَالُهُ" بِالْيَاءِ مَنْقُوطَةٌ مِنْ تَحْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدِي تَنَالُ الْفِرَاخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ، وَالرِّمَاحُ تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْدِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" وكل شي يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ صَيْدٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ «1» التَّصَرُّفِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَفِيهَا تَدْخُلُ الْجَوَارِحُ وَالْحِبَالَاتُ، وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخٍ وَشِبَاكٍ، وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ، وَفِيهَا يَدْخُلُ السَّهْمُ وَنَحْوُهُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالسِّهَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ «2» بِمَا فيه الكفاية والحمد لله.
__________
(1). أي معظمه.
(2). راجع ص 65 فما بعد من هذا الجزء.

(6/300)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

السَّادِسَةُ- مَا وَقَعَ فِي الْفَخِّ وَالْحِبَالَةِ فَلِرَبِّهَا، فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْدَ إِلَيْهَا أَحَدٌ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَخْذُهُ فَرَبُّهَا فِيهِ شَرِيكُهُ. وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْحِ «1» الْمَنْصُوبِ فِي الْجَبَلِ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخِّ، وَحَمَامُ الْأَبْرِجَةِ تُرَدُّ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنِ اسْتُطِيعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَحْلُ الْجِبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَامُ أَوِ النَّحْلُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ أَلْجَأَتِ الْكِلَابُ صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْتِ أَحَدٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِلُ الْكِلَابِ دُونَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارِ الْكِلَابِ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْتِ. السَّابِعَةُ- احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّامِنَةُ- كَرِهَ مَالِكٌ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أهل العلم، لقوله تَعَالَى:" وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ"] المائدة: 94] وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الْإِلْزَامُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَيَلْزَمُنَا أَكْلُهُ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 95]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
__________
(1). الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح).

(6/301)


فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَهَذَا النَّهْيُ هُوَ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ" الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيَسَرِ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ «1» - كَانَ مُحْرِمًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فَقَتَلَ حِمَارَ وَحْشٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ" لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) الْقَتْلُ هُوَ كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا النَّحْرُ وَالذَّبْحُ وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ. الثَّالِثَةُ- مَنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ دُونَ أَكْلِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، يَعْنِي قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شي عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ مَيْتَةً أُخْرَى، وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَهَا مُحْرِمٌ آخَرُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَتْلِ هُوَ التَّنَاوُلُ، فَإِذَا كَانَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ- مَحْظُورٌ إِحْرَامُهُ- مُوجِبًا عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَانَ أَوْلَى. الرَّابِعَةُ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ، لِنَهْيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ذَكَاةٌ، وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ، مُضَافٌ إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ، فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ، أَصْلُهُ ذَبْحُ الْحَلَالِ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَالْمُحْرِمُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ، إذ الأهلية لا تستفاد
__________
(1). كذا بالأصل، واسمه في (التهذيب) وغيره: كعب بن عمرو ... إلخ.

(6/302)


عَقْلًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْحِ، أَوْ بِنَفْيِهَا وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنِ الذَّبْحِ، وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ:" لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ" فَقَدِ انْتَفَتِ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ. وَقَوْلُكُمْ أَفَادَ مَقْصُودَهُ فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَكُمْ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الصَّيْدَ" مَصْدَرٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ، فَأُوقِعَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ، وَلَفْظُ الصَّيْدِ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ حَتَّى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إِبَاحَةً مُطْلَقَةً، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَتَخْصِيصِهَا مِنْهُ، فقال مالك: كل شي لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ مِثْلُ الْهِرِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبْعِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ. قَالَ: وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ كُلِّ مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ فِي الْأَغْلَبِ، مِثْلِ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] خَمْسُ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ [الْحَدِيثَ، فَسَمَّاهُنَّ فُسَّاقًا، وَوَصَفَهُنَّ بِأَفْعَالِهِنَّ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ فَاعِلٌ [لِلْفِسْقِ] «1»، وَالصِّغَارُ لَا فِعْلَ لَهُنَّ، وَوَصَفَ الْكَلْبَ بِالْعَقُورِ وَأَوْلَادُهُ لَا تَعْقِرُ، فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا النَّعْتِ. قَالَ [الْقَاضِي] «2» إِسْمَاعِيلُ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ مِمَّا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ، لِأَنَّهُمَا يَخْطَفَانِ اللَّحْمَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: إِنَّمَا أُذِنَ فِي قَتْلِ الْعَقْرَبِ لِأَنَّهَا ذَاتُ حُمَةٍ «3»، وَفِي الْفَأْرَةِ لِقَرْضِهَا السِّقَاءَ «4» وَالْحِذَاءَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ الْمُسَافِرِ. وفي الغراب
__________
(1). من ك. [ ..... ]
(2). من ك.
(3). الحمة: السم أو الإبرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك.
(4). السقاء: القربة.

(6/303)


لِوُقُوعِهِ عَلَى الظَّهْرِ «1» وَنَقْبِهِ عَنْ لُحُومِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال] القاضي [«2» إسماعيل: واختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لاحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شي في قتله، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يُطْعِمُ قَاتِلُهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَتَلَ الْبُرْغُوثَ وَالذُّبَابَ وَالنَّمْلَ وَنَحْوَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرأي: لا شي عَلَى قَاتِلِ هَذِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالذِّئْبَ خَاصَّةً، سَوَاءٌ ابْتَدَآهُ أَوِ ابْتَدَأَهُمَا، وَإِنْ قَتَلَ غَيْرَهُ مِنَ السِّبَاعِ فَدَاهُ. قَالَ: فَإِنِ ابْتَدَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ السِّبَاعِ فَقَتَلَهُ فَلَا شي عليه، قال: ولا شي عَلَيْهِ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، هَذِهِ جُمْلَةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إِلَّا زُفَرَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ دواب بِأَعْيَانِهَا وَأَرْخَصَ لِلْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهَا مِنْ أَجْلِ ضَرَرِهَا، فَلَا وَجْهَ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا إِلَّا أن يجمعوا على شي فَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا. قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ والشافعي رحمهما الله! وقال زفر ابن الْهُذَيْلِ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الذِّئْبُ وَحْدَهُ، وَمَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ أَوْ لَمْ يَبْتَدِئْهُ، لِأَنَّهُ عَجْمَاءُ فَكَانَ فِعْلُهُ هَدَرًا، وَهَذَا رَدٌّ لِلْحَدِيثِ وَمُخَالَفَةٌ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَصِغَارُ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ، إِلَّا السِّمْعَ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبْعِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالْقِرْدَانِ وَالْحَلَمِ «3» وما لا يؤكل لحمه شي، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فدل أن الصيد
__________
(1). الظهر: الإبل الذاتي يحمل عليها ويركب.
(2). من ك.
(3). الحلم- بالتحريك- يجمع (الحلمة) وهي الصغيرة من القردان. وقيل: الضخم منها.

(6/304)


الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَلَالًا، حَكَى عَنْهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ تُفْدَى الْقَمْلَةُ وَهِيَ تُؤْذِي وَلَا تُؤْكَلُ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تُفْدَى إِلَّا عَلَى مَا يُفْدَى بِهِ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ وَلُبْسُ مَا لَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ، لِأَنَّ فِي طَرْحِ الْقَمْلَةِ إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَتْ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَكَأَنَّهُ أَمَاطَ بَعْضَ شَعْرِهِ، فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ فَقُتِلَتْ فَإِنَّهَا لَا تُؤْذِي. وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي هَذَا الْبَابِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. السَّابِعَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ). اللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا [. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْغِرْبَانِ إِلَّا الْأَبْقَعُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ [. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: وَالسَّبُعُ الْعَادِي، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ، كَقَوْلِهِمْ: قَذَالٌ وَقُذُلٌ. وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْهَلَ دَخَلَ فِي السَّهْلِ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالْعُمُومِ. يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ، إِلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. التَّاسِعَةُ- حَرَمُ الْمَكَانِ حَرَمَانِ، حَرَمُ الْمَدِينَةِ وَحَرَمُ مَكَّةَ- وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفَ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ قَطْعُ شَجَرِهِ، وَلَا صَيْدُ صَيْدِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَرَمُ

(6/305)


الْمَدِينَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِاصْطِيَادُ لِأَحَدٍ وَلَا قَطْعُ الشَّجَرِ كَحَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَيْدُ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ شَجَرِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِي حُدُودِ الْمَدِينَةِ أَوْ يَقْطَعُ شَجَرَهَا فَخُذُوا سَلَبَهُ [. وَأَخَذَ سَعْدٌ سَلَبَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ سَلَبُ مَنْ صَادَ فِي الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَاحْتَجَّ لَهُمِ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ- ما فعل النفير، فَلَمْ يُنْكِرْ صَيْدَهُ وَإِمْسَاكَهُ- وَهَذَا كُلُّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السَّلَبِ مَا يُسْقِطُ مَا صَحَّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، فَكَمْ مِنْ مُحْرِمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَيْدٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْشٌ فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَضَ، فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ «1» كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا «2» حَرَامٌ [فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا ذَعَرْتُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ نَزْعُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ النُّهَسَ- وَهُوَ طَائِرٌ- مِنْ يَدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ كَانَ صَادَهُ بِالْمَدِينَةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا الِاصْطِيَادَ وَلَا تَمَلُّكَ مَا يُصْطَادُ. وَمُتَعَلَّقُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ:] اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُخْتَلَى «3» خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا [وَلِأَنَّهُ
حَرَّمَ مَنْعَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ فَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِهِ كَحَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وهذا قول أقيس عندي
__________
(1). أي سكن ولم يتحرك.
(2). لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها.
(3). الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.

(6/306)


عَلَى أُصُولِنَا، لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَلَّا يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِجَزَاءٍ وَلَا أَخْذِ سَلَبٍ- فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ:] الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ «1» فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا [«2» فَأَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ سَعْدٍ فَذَلِكَ مَذْهَبٌ لَهُ مَخْصُوصٌ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا- أَوْ يَخْبِطُهُ- فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَوْلُهُ: (نَفَّلَنِيهِ) ظَاهِرُهُ الْخُصُوصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ، وَالْمُتَعَمِّدُ هُنَا هُوَ الْقَاصِدُ لِلشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ. وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا، وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا يَذْكُرُ إِحْرَامَهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- مَا أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا التَّكْفِيرُ فِي الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا غَلَّظُوا فِي الْخَطَأِ لِئَلَّا يَعُودُوا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:" مُتَعَمِّداً" خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ كأصول الشريعة. الثالث- أنه لا شي عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ بِأَنْ قَالَ: لَمَّا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ. وَزَادَ بِأَنْ قَالَ: الْأَصْلُ براءة الذمة فمن
__________
(1). عير جبل بناحية المدينة، أما ثور فيرى بعض أهل الحديث أن ذكره هنا وهم من الراوي، وإنما هو جبل بمكة، والصحيح (من عير إلى أحد) وهي رواية قليلة. وقدر بعض: حرم المدينة مقدار ما بين عير وثور. وفي (النووي) قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ.
(2). لا يقبل منه صرف ولا عدل: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقيل: الصرف النافلة والعدل الفريضة. وقيل: غير ذلك.

(6/307)


ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. الرَّابِعُ- أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً. الْخَامِسُ- أَنْ يَقْتُلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ- وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا، قَالَ: وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِئُهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَى مُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَادَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ أَوْ نَاسِيًا لَهُ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الضَّبْعِ فَقَالَ:] هِيَ صَيْدٌ [وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأَ. وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" مُتَعَمِّداً" لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ" مُتَعَمِّداً" لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا كَفَّارَةً، وَأَنَّ الصَّيْدَ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ قَتَلَهُ فِي إِحْرَامِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حُكِمَ عَلَيْهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" فَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا فَمَتَى قَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وإبراهيم ومجاهد

(6/308)


وَشُرَيْحٌ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دين الإسلام. الثانية عشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ،" فَجَزاءٌ مِثْلُ" بِرَفْعِ جَزَاءٌ وَتَنْوِينِهِ، وَ" مِثْلُ" عَلَى الصِّفَةِ، وَالْخَبَرِ مُضْمَرٌ، التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ وَاجِبٌ أَوْ لَازِمٌ مِنَ النَّعَمِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ. وَ" جَزَاءُ" بِالرَّفْعِ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَ" مِثْلُ" بِالْإِضَافَةِ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَ" مِثْلُ" مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِكَ أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَكَ، وَأَنْتَ تَقْصِدُ أَنَا أُكْرِمُكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" «1»] الانعام: 122] التَّقْدِيرُ كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَقَوْلُهُ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" «2»] الشورى: 11] أي ليس كهو شي «3». وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ، لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَوْلُهُ:" مِنَ النَّعَمِ" صِفَةٌ لِجَزَاءٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" مِنَ النَّعْمِ" بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ" فَجَزاءٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ" مِثْلَ" بِالنَّصْبِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:" مِثْلَ" مَنْصُوبَةٌ بِنَفْسِ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُجْزَى مِثْلَ مَا قَتَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ" فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ" بِإِظْهَارِ (هَاءٍ)، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الصَّيْدِ أَوْ عَلَى الصَّائِدِ الْقَاتِلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- الْجَزَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ لَا بِنَفْسِ أَخْذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَفِي (الْمُدَوَّنَةِ): مَنْ اصْطَادَ طَائِرًا فَنَتَفَ رِيشَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى نَسَلَ رِيشَهُ فَطَارَ، قَالَ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.] قَالَ [«4» وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ صَيْدٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَسَلِمَتْ نَفْسُهُ وَصَحَّ وَلَحِقَ بِالصَّيْدِ فلا شي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَهُ. وَلَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَدْرِ مَا فَعَلَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَلَوْ زَمِنَ الصَّيْدُ وَلَمْ يَلْحَقِ الصيد، أو تركه محوفا «5» عليه
فعليه جزاؤه كاملا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 78.
(2). راجع ج 16 ص 7.
(3). من ب، ى وسقطت الجملة مع الآية من ج، ك، هـ، ع، ز، وفي أ، و، ل: ليس هو كشيء. [ ..... ]
(4). من ك.
(5). من ع، ك. في ج، أ: مخوفا.

(6/309)


الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- مَا يُجْزَى مِنَ الصَّيْدِ شَيْئَانِ: دَوَابٌّ وَطَيْرٌ، فَيُجْزَى مَا كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ بِنَظِيرِهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ، فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَقَلُّ مَا يَجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ أُضْحِيَّةً، وَذَلِكَ كَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِمَّا سِوَاهُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ جَزَاؤُهُ ذَلِكَ فَفِيهِ إِطْعَامٌ أَوْ صِيَامٌ. وَفِي الْحَمَامِ كُلِّهُ قِيمَتُهُ إِلَّا حَمَامَ مَكَّةَ، فَإِنَّ فِي الْحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةً اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَالدُّبْسِيُّ «1» وَالْفَوَاخِتُ وَالْقُمْرِيُّ وَذَوَاتُ الْأَطْوَاقِ كُلُّهُ حَمَامٌ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَفِرَاخِهَا شَاةً، قَالَ: وَكَذَلِكَ حَمَامُ الْحَرَمِ، قَالَ: وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَرَى الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ كَمَا فِي الْمُتْلَفَاتِ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ، وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْمِثْلِ كَقِيمَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ الْإِضَافَةِ (فَجَزَاءٌ مِثْلُ). احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعُدُولِ وَالنَّظَرِ مَا تُشْكِلُ الْحَالُ فِيهِ، وَيَضْطَرِبُ وَجْهَ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" الْآيَةَ. فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرَةِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ:" مِنَ النَّعَمِ" فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ" وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى مِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عليه نص بما وقع عليه النص.
__________
(1). الدبسي: نوع من الفواخت.

(6/310)


الْخَّامِسَةَ عَشْرَةَ- مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ فَأَغْلَقَ بَابَ بَيْتِهِ عَلَى فِرَاخِ حَمَامٍ فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ فَرْخٍ شَاةٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ، وَهُوَ قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شي بِعَنَاقٍ «1» وَلَا جَفْرَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِثْلُ الدِّيَةِ، الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَفِي الضَّبِّ عِنْدَهُ وَالْيَرْبُوعِ «2» قِيمَتُهُمَا طَعَامًا. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي صِغَارِ الصَّيْدِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ، وَيَقُولُ بِقَوْلِ عُمَرَ: فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] فِي الضَّبْعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ [قَالَ: وَالْجَفْرَةُ الَّتِي قَدِ ارْتَعَتْ. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ قُلْتُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ: وَمَا الْجَفْرَةُ؟ قَالَ: الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي فَرْخِهَا فَصِيلٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي سَخْلِهِ «3» عِجْلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَالصِّغَرُ وَالْكِبَرُ مُتَفَاوِتَانِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ أعور أو أعرج أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَتَحَقَّقِ الْمِثْلِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. وَقَوْلُهُ:" هَدْياً" يَقْتَضِي مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْهَدْيِ لِحَقِّ الْإِطْلَاقِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْهَدْيَ التَّامَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عِنْدَهُ عُشْرُ ثَمَنِ الشَّاةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ الْقِيمَةَ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «4» قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] فِي كُلِّ بَيْضَةِ نعام صيام يوم أو إطعام مسكين [.
__________
(1). العناق: الأنثى من أولاد المعز.
(2). اليربوع: دويبة فوق الفأر.
(3). في كل الأصول: سخلة. والسخل ولد الضأن والمعز. أما ولد حمار الوحش فهو الجحش والهنبر والدوبل والقلو واللكع.
(4). كذا في ب، ج، ع.

(6/311)


السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْفِيَلَةِ فَقِيمَةُ لَحْمِهِ أَوْ عَدْلِهِ مِنَ الطَّعَامِ، دُونَ مَا يُرَادُ لَهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ «1»، لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِيمَا لَهُ مِثْلُ وُجُوبٍ مِثْلُهُ، فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ قَائِلَانِ- أَيْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ- مُعْتَبِرٌ لِلْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، وَمُقْتَصِرٌ بِهَا عَلَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَأَمَّا الْفِيلُ فَقِيلَ: فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ، وَهِيَ بِيضٌ خُرَاسَانِيَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شي مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ، وَيُنْظَرُ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُخْرَجُ الْفِيلُ وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبِ طَعَامٌ حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ وَالْفِيلُ فِيهِ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَأَمَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) روى مالك عن عبد الملك ابن قُرَيْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثَغْرَةِ ثَنِيَّةٍ «2»، فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ، فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ"؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- إِذَا اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ لَزِمَ الْحُكْمُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنِ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: لَا يَأْخُذُ بِأَرْفَعِ مِنْ قَوْلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ. وَكَذَلِكَ
__________
(1). في ى: الأغراض. بمعجمة. وباقي الأصول بمهملة.
(2). الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجبل.

(6/312)


لَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ إِذَا حَكَمَا بِهِ إِلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ، قال ابْنُ شَعْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنَ الْمِثْلِ فَفَعَلَا، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الطَّعَامِ جَازَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (الْعُتْبِيَّةِ): مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَكَمَانِ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ، كَمَا خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي أَنْ يُخْرِجَ" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" فَإِنِ اخْتَارَ الْهَدْيَ حَكَمَا عَلَيْهِ بِمَا يَرَيَانِهِ نَظِيرًا لِمَا أَصَابَ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَدْلُ ذَلِكَ شَاةً لِأَنَّهَا أَدْنَى الْهَدْيِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ شَاةً حَكَمَا فِيهِ بِالطَّعَامِ ثُمَّ خُيِّرَ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي (الْمُدَوَّنَةِ). الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَيُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا مَضَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ أَوْ لَمْ تَمْضِ، وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكُومَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ وَحِمَارَ الْوَحْشِ وَالظَّبْيِ وَالنَّعَامَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُكُومَةِ، وَيُجْتَزَأُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِحُكُومَةِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَكُونُ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ فَحَذْفُ بَعْضِ الْعَدَدِ إِسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَزِيَادَةُ ثَانٍ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا إِذْ مَرَّتْ بِهِمْ ضَبْعٌ فَحَذَفُوهَا «1» بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوْا ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ، قَالُوا: أَوْ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ «2»، عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد
__________
(1). الحذف: الرمي.
(2). كان الموالي قد سألوا قبل ابن عمر- رضى الله عنه- صحابها فأمر لكل واحد منهم بكفارة، ثم سألوا ابن عمر، وأخبروه بفتيا الذي أفناهم، فقال: إنكم لمعزز بكم ... إلخ.

(6/313)


عَلَيْكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبْعًا قَالَ: عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَهُ «1» بَيْنَهُمْ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:" وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَكُلُّهُمْ «2» مُحِلُّونَ، عَلَيْهِمْ جَزَاءُ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ قَالَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ] صَيْدًا [«3» فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحَرَّمَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلُ دَابَّةٍ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الْمَعْنَى أَنَّهُمَا إِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْهَدْيِ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَيُرْسَلُ مِنَ الْحِلِّ إِلَى مَكَّةَ، وَيُنْحَرُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَلَمْ يُرِدِ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا، إِذْ هِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْتَاجُ الْهَدْيُ إِلَى الْحِلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ مِنَ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يُبْتَاعُ فِي الحرم ويهدى فيه.
__________
(1). يتخارج بمعنى يخرج كل واحد منهم نصيبه من ثمنه.
(2). من ع.
(3). الزيادة عن ابن العربي. [ ..... ]

(6/314)


الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) " الْكَفَّارَةُ إِنَّمَا هِيَ عَنِ الصَّيْدِ لَا عَنِ الْهَدْيِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ، قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ" أَوْ" لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شي فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبْهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ قَتَلَ إِيَّلًا «1» أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ «2»، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالطَّعَامُ مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى" أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ" إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِجَزَائِهِ، فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاؤُهُ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ تَبْيِينُ أَمْرِ الصِّيَامِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ طَعَامًا، فَإِنَّهُ يَجِدُ جَزَاءَهُ. وَأَسْنَدَهُ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ. وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يُنَافِرُهُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُتْلَفُ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَوْمَ الْإِتْلَافِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَوْمَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ، مِنْ يَوْمِ الْإِتْلَافِ إِلَى يَوْمِ الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُودَ كَانَ حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ إِيجَادُهُ بمثله، وذلك في وقت العدم.
__________
(1). الإبل قيل: هو (مثلث الهمزة) والوجه الكسر، وهو الذكر من الأوعال.
(2). في ع وك وى: فعليه بدله من الطعام ثلاثين مسكينا.

(6/315)


السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَمَّا الْهَدْيُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ". وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ، وَإِلَى كَوْنِهِ بِمَكَّةَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ وَيَصُومُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الصَّوْمِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شي مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ الْحَرَمِ إِلَّا الصِّيَامَ. وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَفِّرُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ مُطْلَقًا، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ، وَلَا أَثَرَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ، فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ فَتَكُونُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ بِمَكَّةَ، فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ، وَالْهَدْيُ حَقٌّ لِمَسَاكِينَ مَكَّةَ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلُهُ أَوْ نَظِيرُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ، فَاعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَهُمَا الْمِثْلُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، تَقُولُ: عِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الثِّيَابِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الصِّيَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنَ الْعَدَدِ. قَالَ مَالِكٌ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يُقَالُ كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيد فيعرف الْعَدَدُ، ثُمَّ يُقَالُ: كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِعُ هَذَا الْعَدَدَ، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الإطعام. ومن أهله الْعِلْمِ مَنْ لَا يَرَى أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي صِيَامِ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ. واختاره ابن العربي. وقال أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى.

(6/316)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذَّوْقُ هُنَا مُسْتَعَارٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" «1»] الدخان: 49]. وقال:" فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" «2»] النحل: 112]. وَحَقِيقَةُ الذَّوْقِ إِنَّمَا هِيَ فِي حَاسَّةِ اللِّسَانِ، وَهِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ مُسْتَعَارَةٌ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا). الْحَدِيثَ وَالْوَبَالُ سُوءُ الْعَاقِبَةِ. وَالْمَرْعَى الْوَبِيلُ هُوَ الَّذِي يُتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ. وَطَعَامٌ وَبِيلٌ إذا كان ثقيلا، ومنه قوله «3»:
عَقِيلَةُ شَيْخٍ كَالْوَبِيلِ يَلَنْدَدِ «4»

وَعَبَّرَ بِأَمْرِهِ عَنْ جَمِيعِ حَالِهِ. الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) يَعْنِي فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنْ قَتْلِكُمُ الصَّيْدَ، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ. وَقِيلَ: قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ. (وَمَنْ عادَ) يَعْنِي لِلْمَنْهِيِّ «5» (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ بِالْكَفَّارَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ" يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا، وَيَكْفُرُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا عَادَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: اذْهَبْ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، أَيْ ذَنْبُكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ لَا كَفَّارَةَ لها عند أكثر أهله الْعِلْمِ لِعِظَمِ إِثْمِهَا. وَالْمُتَوَرِّعُونَ يَتَّقُونَ النِّقْمَةَ بِالتَّكْفِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُمْلَأُ ظَهْرُهُ سوطا حتى يموت. وروي عن زيد ابن أَبِي الْمُعَلَّى: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتُجُوِّزَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) " عَزِيزٌ" أَيْ مَنِيعٌ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ." ذُو انْتِقامٍ" مِمَّنْ عَصَاهُ إِنْ شَاءَ.

[سورة المائدة (5): آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
فِيهِ ثلاث عشرة مسألة:
__________
(1). راجع ج 16 ص 151.
(2). راجع ج 10 ص 193.
(3). الشعر لطرفة، وصدر البيت:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة

(4). اليلندد: الشديد الخصومة.
(5). كذا في هـ، ع: وفي ج، ى: للنهي.

(6/317)


الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) هَذَا حُكْمٌ بِتَحْلِيلِ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا صِيدَ مِنْ حِيتَانِهِ وَالصَّيْدُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمَصِيدُ، وَأُضِيفَ إِلَى الْبَحْرِ لَمَّا كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْبَحْرِ فِي" الْبَقَرَةِ" «1» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ" مَتاعاً" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مُتِّعْتُمْ بِهِ مَتَاعًا. الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (وَطَعامُهُ) الطَّعَامُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَطْعُومٍ خَاصٍّ كَالْمَاءِ وَحْدَهُ، وَالْبُرِّ وَحْدَهُ، وَالتَّمْرِ وَحْدَهُ، وَاللَّبَنِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَمَّا قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ وَطَفَا عَلَيْهِ، أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ"- الْآيَةَ- صَيْدُهُ مَا صِيدَ وَطَعَامُهُ مَا لَفَظَ] الْبَحْرُ [«2». وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طعامه مَيْتَتُهُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: طَعَامُهُ مَا مُلِّحَ مِنْهُ وَبَقِيَ، وَقَالَهُ مَعَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: طَعَامُهُ مِلْحُهُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْكَلُ السَّمَكُ الطَّافِي وَيُؤْكَلُ مَا سِوَاهُ من السمك، ولا يؤكل شي مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا السَّمَكَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ عَنْهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَكْلَ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [«3» أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الْجِرِّيِّ «4»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْلُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ ذَكِيٌّ، فَعَلِيٌّ مُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي أَكْلِ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ جَابِرٍ «5» أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَاحْتَجُّوا بعموم قوله تعالى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ"] المائدة: 3]. وبما رواه
__________
(1). راجع ج 1 ص 388.
(2). الزيادة عن (الدارقطني) في رواية ابن عباس.
(3). من ع.
(4). الجري: ضرب من السمك في ظهره طول وفي فمه سعة وليس له عظم إلا عظم اللحيين والسلسلة.
(5). في ج: ابن زيد.

(6/318)


أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] كُلُوا مَا حَسَرَ «1» عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَاهُ وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا أَوْ طَافِيًا فَوْقَ الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ [. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ غَيْرُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ وَخَالَفَهُ وَكِيعٌ وَالْعَدَنِيَّانِ «2» وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُؤَمَّلٌ وَأَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُهُمْ، رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّوَابُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزُهَيْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، رَفَعَهُ يحيى بن سليم عن إسماعيل ابن أُمَيَّةَ وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَةِ الْأَشْجَعِيِّ: يُؤْكَلُ كُلُّ مَا فِي الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَالدَّوَابِّ، وَسَائِرُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَسَوَاءٌ اصْطِيدَ أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [. وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْحُوتِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:] الْعَنْبَرُ [وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ الْأَحَادِيثِ خَرَّجَهُ الصَّحِيحَانِ. وَفِيهِ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:] هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ معكم من لحمه شي فَتُطْعِمُونَا [فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَأَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا. وَأَسْنَدَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِيَ عَلَى الْمَاءِ. وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَجَدُوا سَمَكَةً طَافِيَةً عَلَى الْمَاءِ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَقَالَ: أَطَيِّبَةٌ هِيَ لَمْ تَتَغَيَّرْ؟
__________
(1). حسر ونضب وجزر بمعنى.
(2). كذا في الأصول عدا: ل. فقد سقط منها. [ ..... ]

(6/319)


قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَكُلُوهَا وَارْفَعُوا نَصِيبِي مِنْهَا، وَكَانَ صَائِمًا. وَأَسْنَدَ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي طَلْحَةَ أَصَابُوا سَمَكَةً طَافِيَةً فَسَأَلُوا عَنْهَا أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: أَهْدُوهَا إِلَيَّ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْحُوتُ ذَكِيٌّ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ، رَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَرُدُّ قَوْلَ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَتُخَصِّصُ عُمُومَ الْآيَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُ خِنْزِيرَ الْمَاءِ مِنْ جِهَةِ اسْمِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا! وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ وَقَالَ اللَّيْثُ: لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْرِ بَأْسٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلْبُ الْمَاءِ وَفَرَسُ الْمَاءِ. قَالَ: وَلَا يُؤْكَلُ إِنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ. الرَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ: كُلُّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَلَهُ فِيهِ حَيَاةٌ فَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ، إِنْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَدَاهُ، وَزَادَ أَبُو مِجْلَزٍ فِي ذَلِكَ الضَّفَادِعَ وَالسَّلَاحِفَ وَالسَّرَطَانَ. الضَّفَادِعُ وَأَجْنَاسُهَا حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ الضِّفْدَعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ شَبَهٌ فِي الْبَرِّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَكْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْخِنْزِيرِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، وَهُوَ لَهُ شَبَهٌ فِي الْبَرِّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ. وَلَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْقِرْشُ «1» وَالدُّلْفِينُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَابٌ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ لَا زَوَالَ لَهَا مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ جَوَابُ مَالِكٍ فِي الضَّفَادِعِ فِي" الْمُدَوَّنَةِ" فَإِنَّهُ قَالَ: الضَّفَادِعُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ خِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُرَاعَى أَكْثَرُ عَيْشِ الْحَيَوَانِ، سُئِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ أَصَيْدُ بَرٍّ هُوَ أَمْ صَيْدُ بَحْرٍ؟ فَقَالَ: حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنْهُ، وَحَيْثُ يُفَرِّخُ فَهُوَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّوَابُ فِي ابْنِ الْمَاءِ أَنَّهُ صَيْدُ بَرٍّ يَرْعَى وَيَأْكُلُ الْحَبَّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ، دليله تَحْلِيلٍ وَدَلِيلُ تَحْرِيمٍ، فَيُغَلَّبُ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا. والله أعلم.
__________
(1). القرش: دابة مفترسة من دواب البحر الملح. والدلفين بالضم دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.

(6/320)


الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلسَّيَّارَةِ) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ وَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَلَالٌ لِمَنْ أَقَامَ، كَمَا أَحَلَّهُ لِمَنْ سَافَرَ. الثَّانِي- أَنَّ السَّيَّارَةَ هُمُ الذِينَ يَرْكَبُونَهُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا: فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] نَعَمْ [لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ، فَكَانَ يَكُونُ مُحَالًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ تَأْسِيسَ الْقَاعِدَةِ، وَبَيَانَ الشَّرْعِ فَقَالَ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [. قُلْتُ: وَكَانَ يَكُونُ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِمْ، لَوْلَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، إِلَّا مَا نُصَّ بِالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي الْعَنَاقِ:] ضَحِّ بِهَا وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِكَ [. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) التَّحْرِيمُ لَيْسَ صِفَةً لِلْأَعْيَانِ، إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ" أَيْ فِعْلُ الصَّيْدِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنِ الِاصْطِيَادِ، أَوْ يَكُونُ الصَّيْدُ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ، عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَبُولُ صَيْدٍ وُهِبَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ شِرَاؤُهُ وَلَا اصْطِيَادُهُ وَلَا اسْتِحْدَاثُ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً" وَلِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ عَلَى مَا يَأْتِي. السَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَحْمَدُ وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ إِذَا لَمْ يُصَدْ لَهُ، وَلَا مِنْ أَجْلِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي والدارقطني

(6/321)


عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ [قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ. فَإِنْ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ فَدَاهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا صِيدَ لِمُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ عُثْمَانَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ: كُلُوا فَلَسْتُمْ مِثْلِي لِأَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِي وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَكْلُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا اصْطَادَهُ الْحَلَالُ، سَوَاءٌ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَدْ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ" فَحُرِّمَ صَيْدُهُ وَقَتْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ، دُونَ مَا صَادَهُ غَيْرُهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْبَهْزِيِّ- وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنِ كَعْبٍ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ الْعَقِيرِ أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ فِي الرِّفَاقِ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ] إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ [. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، سَوَاءٌ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَدْ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مُبْهَمَةٌ وَبِهِ قال طاوس وجابر ابن زَيْدٍ أَبُو الشَّعْثَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وبه قال إسحاق. واحتجوا بحديث الصعب ابن جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِي قَالَ:] إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ [خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمَالِكٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمِقْسَمٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْهُ، أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ

(6/322)


فِي حَدِيثِهِ: عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشٍ فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ مِقْسَمٌ فِي حَدِيثِهِ رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي حَدِيثِهِ: أَهْدَى لَهُ عَضُدَ صَيْدٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ: [إِنَّا حُرُمٌ]. وَقَالَ طَاوُسٌ فِي حَدِيثِهِ: عَضُدًا مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، حَدَّثَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ «1»، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ يَتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَكْلُهُ جَائِزًا، قَالَ سُلَيْمَانُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّمَا تَأَوَّلَ سُلَيْمَانُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ صَيْدًا حَيًّا وَلَا يُذَكِّيَهُ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: وَعَلَى تَأْوِيلِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ تَكُونُ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ كُلُّهَا غَيْرَ مُخْتَلَفَةٍ [فِيهَا] «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّامِنَةُ- إِذَا أَحْرَمَ وَبِيَدِهِ صَيْدٌ أَوْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، [وروي «3»] عن مجاهد وعبد الله بن الحرث مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ ضَمِنَ. وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِرْسَالِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً" وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ كُلِّهِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِإِمْسَاكِهِ: أَنَّهُ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ، أَصْلُهُ النِّكَاحُ. التَّاسِعَةُ- فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَبْحِهِ، وَأَكْلِ لَحْمِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْنًى يُفْعَلُ فِي الصَّيْدِ فَجَازَ فِي الْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاءِ وَلَا خلاف فيها.
__________
(1). هذه النسبة إلى مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أصله منها ونزل على البصرة. (الأنساب).
(2). من ى.
(3). من ع.

(6/323)


جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

الْعَاشِرَةُ- إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حِلًّا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وأبو ثور: لا شي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْتَزَمَ بِإِحْرَامِهِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ، فَيَضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ كَالْمُودَعِ إِذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةٍ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ مُحْرِمًا آخَرَ، فَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً" فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِالْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ دَالٌّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِدَلَالَتِهِ غُرْمٌ كَمَا لَوْ دَلَّ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ. وَتَعَلَّقَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَبُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: [هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ]؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- إِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ نَابِتَةً فِي الْحِلِّ وَفَرْعُهَا فِي الْحَرَمِ فَأُصِيبَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ أُخِذَ فِي الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَفَرْعُهَا فِي الْحِلِّ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَزَاءُ نَظَرًا إِلَى الْأَصْلِ، وَنَفْيُهُ نَظَرًا إِلَى الْفَرْعِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تَشْدِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَقِبَ هَذَا التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، ثُمَّ ذَكَّرَ بِأَمْرِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المائدة (5): آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ) جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ وَأَكْثَرُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مُدَوَّرَةٌ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ كَعْبَةٌ لِنُتُوئِهَا

(6/324)


وَبُرُوزِهَا، فَكُلُّ نَاتِئٍ بَارِزٍ كَعْبٌ، مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ. وَمِنْهُ كَعْبُ الْقَدَمِ وَكُعُوبُ الْقَنَاةِ. وَكَعَبَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ فِي صَدْرِهَا. وَالْبَيْتُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَقْفٍ وَجِدَارٍ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِنٌ. وَسَمَّاهُ سُبْحَانَهُ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ [وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قِياماً لِلنَّاسِ) أَيْ صَلَاحًا وَمَعَاشًا، لِأَمْنِ النَّاسِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ" قِياماً" بِمَعْنَى يَقُومُونَ بِهَا. وَقِيلَ:" قِياماً" أَيْ يَقُومُونَ بِشَرَائِعِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ" قِيَمًا" وَهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ قِيلَ:" قِوَامٌ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قِيَامًا لِلنَّاسِ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى سَلِيقَةِ الْآدَمِيَّةِ مِنَ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالسَّلْبِ وَالْغَارَةِ وَالْقَتْلِ وَالثَّأْرِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَشِيئَةِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ كَافٍّ يَدُومُ مَعَهُ «1» الْحَالُ وَوَازِعٌ يُحْمَدُ مَعَهُ الْمَآلُ. قَالَ اللَّهِ تَعَالَى:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" «2»] البقرة: 30] فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَجَعَلَ أُمُورَهُمْ إِلَى وَاحِدٍ يَزَعُهُمْ «3» عَنِ التَّنَازُعِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّآلُفِ مِنَ التَّقَاطُعِ، وَيَرُدُّ الظَّالِمَ عَنِ الْمَظْلُومِ، وَيُقَرِّرُ كُلَّ يَدٍ عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: مَا يَزَعُ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَجَوْرُ السُّلْطَانِ عاما واحدا أقل أذائه مِنْ كَوْنِ النَّاسِ فَوْضَى لَحْظَةً وَاحِدَةً، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْخَلِيفَةَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ، لِتَجْرِيَ عَلَى رَأْيِهِ الْأُمُورُ، وَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ عَادِيَةَ الْجُمْهُورِ «4»، فَعَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ، فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنِ اضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" «5»] العنكبوت: 67]. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَلَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ مَظْلُومٍ، وَلَا يَنَالُهُ كُلُّ خَائِفٍ جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر وهي:
__________
(1). في ج، ك، ب وع: مع.
(2). راجع ج 1 ص 271.
(3). في ك: يزجرهم.
(4). في الأصول: الأمور. والتصويب من ابن العربي.
(5). راجع ج 13 ص 363.

(6/325)


الثَّالِثَةُ- وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ «1» بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَرَّرَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ حُرْمَتَهَا، فَكَانُوا لَا يُرَوِّعُونَ فِيهَا سِرْبًا- أَيْ نَفْسًا- وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيهِ. وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ. وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً، فُسْحَةً وَرَاحَةً وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْنِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ، وَهُوَ شَهْرُ رَجَبٍ الْأَصَمِّ وَيُسَمَّى مُضَرَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ:] رَجَبُ [«2» الْأَصَمُّ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُسْمَعُ فِيهِ صَوْتُ الْحَدِيدِ، وَيُسَمَّى مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ فِيهِ الْأَسِنَّةَ مِنَ الرِّمَاحِ، وَهُوَ شَهْرُ قُرَيْشٍ، وَلَهُ يَقُولُ عَوْفُ ابن الْأَحْوَصِ:
وَشَهْرُ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْهَدَايَا ... إِذَا سِيقَتْ مُضَرِّجَهَا الدِّمَاءُ
وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَ اللَّهِ، أَيْ شَهْرَ آلِ اللَّهِ، وكان يقال لأهله الْحَرَمِ: آلُ اللَّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ شَهْرَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ مَتَّنَهُ «3» وَشَدَّدَهُ إِذْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَرَاهُ. وَسَيَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ" «4» أَسْمَاءُ الشُّهُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمُ الْإِلْهَامَ، وَشَرَعَ «5» عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا، أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّقْلِيدِ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ- لَمْ يُرَوِّعْهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَقِيَهُ، وَكَانَ الْفَيْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ ظَلَمَهُ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَبَيَّنَ الْحَقَّ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْتَظَمَ الدِّينُ فِي سِلْكِهِ، وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، فَأُسْنِدَتِ الْإِمَامَةُ إِلَيْهِ، وَانْبَنَى وُجُوبُهَا عَلَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ" «6»] النور: 55] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «7» أَحْكَامُ الْإِمَامَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) " ذلِكَ" إِشَارَةً إِلَى جَعْلِ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمُورَ قِيَامًا، وَالْمَعْنَى فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ مَصَالِحَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم.
__________
(1). كذا في الأصول وصوابه: الاربعة.
(2). من ب وج وك وهـ وع.
(3). في ب وج وك وهـ وز: سنه.
(4). راجع ج 8 ص 132 فما بعدها.
(5). في ب وج وك وهـ وز: أو شرعا. أي يسر إلهاما أو شرعا. إلخ. [ ..... ]
(6). راجع ج 12 ص 297.
(7). راجع ج 1 ص 263 فما بعدها.

(6/326)


اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)

[سورة المائدة (5): آية 98]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تَخْوِيفٌ (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تَرْجِيَةٌ. وَقَدْ تقدم هذا المعنى.

[سورة المائدة (5): آية 99]
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أَيْ لَيْسَ لَهُ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَلَا الثَّوَابُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْبَلَاغُ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وأصله الْبَلَاغِ الْبُلُوغُ، وَهُوَ الْوُصُولُ. بَلَغَ يَبْلُغُ بُلُوغًا، وَأَبْلَغَهُ إِبْلَاغًا، وَتَبَلَّغَ تَبَلُّغًا، وَبَالَغَهُ مُبَالَغَةً، وَبَلَّغَهُ تَبْلِيغًا، وَمِنْهُ الْبَلَاغَةُ، لِأَنَّهَا إِيصَالُ الْمَعْنَى إِلَى النَّفْسِ فِي حُسْنِ صُورَةٍ مِنَ اللَّفْظِ. وَتَبَالَغَ الرَّجُلُ إِذَا تَعَاطَى الْبَلَاغَةَ وَلَيْسَ بِبَلِيغٍ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ أَيْ كِفَايَةٌ، لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) أَيْ تُظْهِرُونَهُ، يُقَالُ: بَدَا السِّرُّ وَأَبْدَاهُ صَاحِبُهُ يُبْدِيهِ. (وَما تَكْتُمُونَ) أَيْ مَا تُسِرُّونَهُ وَتُخْفُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ من الكفر والنفاق.

[سورة المائدة (5): آية 100]
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَالَ الْحَسَنُ:" الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَقِيلَ: الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، يُتَصَوَّرُ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالنَّاسِ، وَالْمَعَارِفِ مِنَ الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا، فَالْخَبِيثُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يُنْجِبُ، وَلَا تَحْسُنُ لَهُ عَاقِبَةٌ وَإِنْ كَثُرَ، وَالطَّيِّبُ وَإِنْ قَلَّ نَافِعٌ «1» جَمِيلُ الْعَاقِبَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
__________
(1). في ج: نافع حميد جميل. إلخ.

(6/327)


وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً" «1»] الأعراف: 58]. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" «2»] ص: 28] وَقَوْلُهُ" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
" «3»] الجاثية: 21]، فَالْخَبِيثُ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ مِقْدَارًا وَلَا إِنْفَاقًا، وَلَا مَكَانًا وَلَا ذَهَابًا، فَالطَّيِّبُ يَأْخُذُ جِهَةَ الْيَمِينِ، وَالْخَبِيثُ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ، وَالطَّيِّبُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْخَبِيثُ فِي النَّارِ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ «4» وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ وَضِدُّهَا الِاعْوِجَاجُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ، فَيَسْتَوِي فِي إِمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا، وَيُرَدُّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُبْتَاعِ إِنْ كَانَ قَبَضَهُ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ. وَقِيلَ: لَا يُفْسَخُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا فُسِخَ وَرُدَّ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ وَغَبْنٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَتَكُونُ السِّلْعَةُ تُسَاوِي مِائَةً وَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ تُسَاوِي عِشْرِينَ، وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ [. قُلْتُ: وَإِذَا تُتُبِّعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فِي مَسَائِلَ الْفِقْهِ تَعَدَّدَتْ وَكَثُرَتْ، فَمِنْ ذَلِكَ الْغَاصِبِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- إِذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ المغصوبة أو غرس إنه يَلْزَمُهُ قَلْعُ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَرَدُّهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُقْلَعُ وَيَأْخُذُ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ «5» حَقٌّ [. قَالَ هِشَامٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَغْرِسَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِيَسْتَحِقَّهَا بِذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا أُخِذَ وَاحْتُفِرَ وَغُرِسَ فِي غَيْرِ حَقٍّ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فزرعها، أو إكراها، أو دارا فسكنها
__________
(1). راجع ج 7 ص 231.
(2). راجع ج 15 ص 191.
(3). راجع ج 16 ص 165.
(4). في ب وج وك وهـ وع: حرمة.
(5). الرواية (لعرق) بالتنوين، وهو على حذف مضاف أي لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالما والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق. وإن روى (عرق) بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق والحق للعرق وهو أحد عروق الشجرة. (غاية النهاية).

(6/328)


أَوْ أَكْرَاهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَبُّهَا أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ كِرَاءَ مَا سَكَنَ وَرَدَّ مَا أَخَذَ فِي الْكِرَاءِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يَسْكُنْهَا أَوْ لَمْ يَزْرَعِ الْأَرْضَ وَعَطَّلَهَا، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مذهبه أنه ليس عليه فيه شي، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ كِرَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاخْتَارَهُ الْوَقَّارُ «1»، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ [وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ «2». وَهَذَا نَصٌّ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُخَيَّرًا عَلَى الظَّالِمِ، إِنْ شَاءَ حَبَسَ ذَلِكَ فِي أَرْضِهِ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَجْرُ النَّزْعِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ بَنَى فِي رِبَاعِ «3» قَوْمٍ بِإِذْنِهِمْ فَلَهُ الْقِيمَةُ وَمَنْ بَنَى بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَهُ النَّقْضُ [قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا تَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ. وَذَلِكَ كَمَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِشُبْهَةٍ فَلَهُ حَقٌّ، إِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا، وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلَّذِي بَنَى أَوْ غَرَسَ: ادْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَةَ أَرْضِهِ بَرَاحًا «4»، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَتَفْسِيرُ اشْتِرَاكِهِمَا أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ بَرَاحًا، ثُمَّ تُقَوَّمُ بِعِمَارَتِهَا فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا بِالْعِمَارَةِ عَلَى قِيمَتِهَا بَرَاحًا كَانَ الْعَامِلُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيهَا، إِنْ أَحَبَّا قَسَمَا أَوْ حَبَسَا. قَالَ ابْنُ الْجَهْمِ «5»: فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْعِمَارَةِ وَأَخَذَ أَرْضَهُ كَانَ لَهُ كِرَاؤُهَا فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إِخْرَاجُهُ، فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَقْلُوعًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَلَهُ الْقِيمَةُ) وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْجِبُهُ الْخَبِيثُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النبي
__________
(1). هو زكريا بن يحيى المصري.
(2). عم: أي تامة. في طولها والتفافها، واحدتها عميمة واصلها عمم فسكن وأدغم.
(3). رباع (جمع ربع): وهو المنزل.
(4). البراح: (بالفتح): المتسع من الأرض لا زرع فيه ولا شجر.
(5). في ك: أبو الجهم.

(6/329)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ، وَإِعْجَابُهُ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَالِ الْحَلَالِ. (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقدم معناه.

[سورة المائدة (5): الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا- وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ:" أَبُوكَ فُلَانٌ"] قَالَ [«1» فَنَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" «2» الْآيَةَ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ:] فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عن شي إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا [فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:] النَّارُ [. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:] أَبُوكَ حُذَافَةُ [وَذَكَرَ الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ «3»، وَكَانَ رَسُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْسِلْهُ إِلَى كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وَلَمَّا قَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:] أَبُوكَ حُذَافَةُ [قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ أَعَقَّ مِنْكَ آمَنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكُ قَارَفَتْ مَا يُقَارِفُ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحُهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" «4»] آل عمران: 97]. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ:] لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ [، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
__________
(1). من ج وب وهـ وع. [ ..... ]
(2). من ب وج وهـ وع.
(3). الدعابة: المزاح.
(4). راجع ج 4 ص 137.

(6/330)


" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ سُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا، وَاسْمُهُ سَعِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ [فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ «1» فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (وَمَنِ الْقَائِلُ)؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ:] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ [فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ:" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ"] المائدة: 103]. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحِ وَالْمُسْنَدِ كِفَايَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْجَمِيعِ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ" أَشْياءَ" وَزْنُهُ أَفْعَالٌ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِحَمْرَاءَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقِيلَ: وَزْنُهُ أَفْعِلَاءُ، كَقَوْلِكَ: هَيْنٌ وَأَهْوِنَاءٌ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ وَيُصَغَّرُ فَيُقَالُ: أُشَيَّاءُ، قَالَ الْمَازِنِيُّ: يَجِبُ أَنْ يُصَغَّرَ شُيَيْآتٍ كَمَا يُصَغَّرُ أَصْدِقَاءُ، فِي الْمُؤَنَّثِ صُدَيْقَاتٍ وَفِي الْمُذَكَّرِ صُدَيْقُونَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: سَأَلْتُ نافعا عن قوله تعالى" لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" فَقَالَ: لَمْ تَزَلِ الْمَسَائِلُ مُنْذُ قَطُّ تُكْرَهُ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ [. قَالَ كَثِيرٌ «2» مِنَ العلماء: المراد
__________
(1). بحذف همزة الاستفهام في هذه الرواية كما في الدارقطني.
(2). في ك: جماعة.

(6/331)


بِقَوْلِهِ] وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ [التَّكْثِيرُ مِنَ السُّؤَالِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ تَنَطُّعًا، وَتَكَلُّفًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ، وَالْأُغْلُوطَاتُ وَتَشْقِيقُ الْمُوَلَّدَاتِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ «1»، وَيَقُولُونَ: إِذَا نَزَلَتِ النَّازِلَةُ وُفِّقَ الْمَسْئُولُ لَهَا. قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ هَذَا الْبَلَدِ وَمَا عِنْدَهُمْ عِلْمٌ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ جَمَعَ الْأَمِيرُ لَهَا مَنْ حَضَرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنْفَذَهُ، وَأَنْتُمْ تُكْثِرُونَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ كَرِهَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ كَثْرَةُ سُؤَالِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ وَالْحَوَائِجَ إِلْحَاحًا وَاسْتِكْثَارًا، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسَاوِئِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" «2»] الحجرات: 12]. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلِذَلِكَ قَالَ] بَعْضُ [«3» أَصْحَابِنَا مَتَى قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ شي يَشْتَرِيهِ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَحَمَلَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ. قُلْتُ: وَالْوَجْهُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «4». الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ فَافْتَرَقَا. قُلْتُ قَوْلُهُ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ فِيهِ قُبْحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَقُولَ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ، لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا كَانَ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ يَكْرَهُهَا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَذُكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ كَانَ حَدَّثَ فِيهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ قَالَ فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ. وَأَسْنَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مسألة فقال:
__________
(1). أي لا يجب إلا ببيان، قال ابن العربي قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبينه إلا نزول القرآن وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب.
(2). راجع ج 16 ص 330.
(3). من ع.
(4). وجد في ى سند عن الشيخة شهده بنت أبي نصر الدينوري لحادثة تركناه لوروده في ج 10 ص 5.

(6/332)


هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كلهن في القرآن، منهن" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" «1»] البقرة: 217]،" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ"] البقرة: 222]] وَشِبْهُهُ [«2» مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: السُّؤَالُ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ «3» السُّؤَالُ، وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ هُوَ بَسْطُ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحُ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ، فَإِذَا عَرَضَتْ نَازِلَةٌ أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاللَّهُ يَفْتَحُ فِي صوابها. الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فِيهِ غُمُوضٌ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ النَّهْيَ عن السؤال ثم قال:" وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ" فَأَبَاحَهُ لَهُمْ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا فِيمَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْحَذْفِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْكِنَايَةُ فِي" عَنْها" تَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ"] المؤمنون: 12] يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ قَالَ:" ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً" «4»] المؤمنون: 13] أَيِ ابْنَ آدَمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُجْعَلْ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، لَكِنْ لَمَّا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ آدَمُ دَلَّ عَلَى إِنْسَانٍ مِثْلِهِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ، فَالْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ حُكْمٍ، أَوْ مَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَإِذَا سَأَلْتُمْ فَحِينَئِذٍ تُبْدَ لَكُمْ، فَقَدْ أَبَاحَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ: وَمِثَالُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا والحامل،
__________
(1). راجع ج 3 ص 40 وص 80.
(2). من ك.
(3). العي: الجهل.
(4). راجع ج 12 ص 108.

(6/333)


وَلَمْ يَجْرِ ذِكْرُ عِدَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرْءٍ وَلَا حَامِلٍ، فَسَأَلُوا عَنْهَا فَنَزَلَ" وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ" «1»] الطلاق: 4]. فالنهي إذا في شي لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى السُّؤَالِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَلَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَنْها) أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا. وَقِيلَ: الْعَفْوُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ تَرَكَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْ بِهَا فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهُ فَلَعَلَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَكُمْ حُكْمُهُ سَاءَكُمْ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا [وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أَيْ أَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِهَا فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا حُكْمًا. وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، بَلِ الْمَعْنَى قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ مَسْأَلَتِكُمُ الَّتِي سَلَفَتْ وَإِنْ كَرِهَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعُودُوا لِأَمْثَالِهَا. فَقَوْلُهُ:" عَنْها" أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ عَنِ السُّؤَالَاتِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمًا مِنْ قَبْلِنَا قَدْ سَأَلُوا آيَاتٍ مِثْلَهَا، فَلَمَّا أُعْطُوهَا وَفُرِضَتْ «2» عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِهَا، وَقَالُوا: لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ، وَأَصْحَابِ عِيسَى الْمَائِدَةَ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ السُّؤَالِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تعالى:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" «3»] النحل: 43] فَالْجَوَابُ، أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عباده
__________
(1). راجع ج 18 ص 162. [ ..... ]
(2). في ك: وقد فرضا.
(3). راجع ج 10.

(6/334)


مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

هُوَ مَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ وُجُوبُهُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالَّذِي جَاءَ فِيهِ النَّهْيُ هُوَ مَا لَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهَ عِبَادُهُ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جرما من سأل عن شي لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ [. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَلَوْ لَمْ يَسْأَلِ الْعَجْلَانِيُّ عَنِ الزِّنَى لَمَا ثَبَتَ اللِّعَانُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَأَلَ عَنِ الشَّيْءِ عَنَتًا وَعَبَثًا فَعُوقِبَ بِسُوءِ قَصْدِهِ بِتَحْرِيمِ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ يَعُمُّ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تَعَلُّقَ لِلْقَدَرِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يفعل شيئا من أجل شي وَبِسَبَبِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ على كله شي قدير، وهو بكل شي عَلِيمٌ، بَلِ السَّبَبُ وَالدَّاعِي فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، لَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَنْ يُحَرَّمَ الشَّيْءُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ إِذَا وَقَعَ السُّؤَالُ فِيهِ، لَا أَنَّ السُّؤَالَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَعِلَّةٌ لَهُ، وَمِثْلُهُ كثير" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ" [الأنبياء: 23] «1»

[سورة المائدة (5): آية 103]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ). جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى سَمَّى، كَمَا قال تعالى:" إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا" «2»] الزخرف: 3] أَيْ سَمَّيْنَاهُ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا سَمَّى اللَّهُ، وَلَا سَنَّ ذَلِكَ حُكْمًا، وَلَا تَعَبَّدَ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا، فَإِنَّ اللَّهَ خالق كل شي مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ. وَالْبَحِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ النَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: الْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَا يَحْتَلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وأما السائبة فهي التي كانوا
__________
(1). راجع ج 11 ص 278.
(2). راجع ج 16 ص 61.

(6/335)


يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: الْبَحِيرَةُ لُغَةً هِيَ النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، يُقَالُ بَحَرْتُ أُذُنَ النَّاقَةِ أَيْ شَقَقْتُهَا شَقًّا وَاسِعًا، وَالنَّاقَةُ بَحِيرَةٌ وَمَبْحُورَةٌ، وَكَانَ الْبَحْرُ عَلَامَةَ التَّخْلِيَةِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: يُقَالُ البجيرة هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ، وَيُقَالُ لِلنَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ «1» بَحِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْبَحِيرَةُ هِيَ ابْنَةُ السَّائِبَةِ، وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إِذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، لَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نُتِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ ابْنَةُ السَّائِبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ إِنَاثًا بُحِرَتْ أُذُنُهَا فَحُرِّمَتْ، قَالَ:
مُحَرَّمَةٌ لَا يَطْعَمُ النَّاسُ لَحْمَهَا ... وَلَا نَحْنُ فِي شَيْءٍ كَذَاكَ الْبَحَائِرُ
وَقَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ «2»: الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ فَإِذَا كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا نَحَرُوهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا- أَيْ شَقُّوهُ «3» - وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا- وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ- فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلنِّسَاءِ. وَالسَّائِبَةُ الْبَعِيرُ يُسَيَّبُ بِنَذْرٍ يَكُونُ عَلَى الرَّجُلِ إِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ بَلَّغَهُ مَنْزِلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَلَا تجس عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ، وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ، وَقَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَسَائِبَةٌ لله تنمي «4» تَشَكُّرًا ... إِنِ اللَّهُ عَافَى عَامِرًا أَوْ مُجَاشِعَا
وَقَدْ يُسَيِّبُونَ غَيْرَ النَّاقَةِ، وَكَانُوا إِذَا سَيَّبُوا الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ. وَقِيلَ: السَّائِبَةُ هِيَ الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا، وَلَا رَاعِيَ لَهَا، فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، نَحْوَ" عِيشَةٍ راضِيَةٍ" أَيْ مَرْضِيَّةٍ. مِنْ سَابَتِ الْحَيَّةُ وَانْسَابَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقَرْتُمْ نَاقَةً كَانَتْ لِرَبِّي ... وَسَائِبَةً فَقُومُوا لِلْعِقَابِ
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا، فَأَمَّا الْحَامُ فَمِنَ الْإِبِلِ، كَانَ الْفَحْلُ إِذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ ريش الطواويس
__________
(1). قال ابن عطية: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر.
(2). كذا في ج وا وك. ولعله أبو بكر محمد بن عزيز- كزبير- السجستاني صاحب غريب القرآن وصحح بأنه عزير بزاء وراء مهملة، كما في ى وب وز، والتاج مادة عزز وفية عزا هذا التعريف لابن عرفة عن الأزهري.
(3). كذا في الأصول. والاذن مؤنثة.
(4). نمت الناقة سمنت.

(6/336)


وَسَيَّبُوهُ، وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنَ الْغَنَمِ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا. وَقَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ: الْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ، قَالَ: كَانُوا إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا، فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ وَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ تُذْبَحْ لِمَكَانِهَا، وَكَانَ لَحْمُهَا حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلَبَنُ الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ منهما شي فَيَأْكُلُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالْحَامِي الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. قَالَ:
حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ الْفَحْلُ
وَيُقَالُ: إِذَا نُتِجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةُ أبطن قالوا: قد حمى ظهر فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَاءٍ وَلَا مَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ الشَّاةُ إِذَا أَتْأَمَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، قَالُوا: وَصَلَتْ فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ، إلا أن يموت شي مِنْهَا فَيَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ «1» فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ [وَفِي رِوَايَةٍ] عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَخَا بَنِي كَعْبٍ هَؤُلَاءِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ [. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ:] رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بن قمعة بن خندق يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلَا بِهِ مِنْكَ [فَقَالَ أَكْثَمُ: أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:] لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ [وَفِي رِوَايَةٍ:] رَأَيْتُهُ رَجُلًا قَصِيرًا أَشْعَرَ لَهُ وَفْرَةً «2» يجر قضبه فِي النَّارِ [. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إنه يؤذي أهله النَّارِ بِرِيحِهِ [. مُرْسَلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ ذَلِكَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحِ كِفَايَةٌ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ «3»، وَتَغْيِيرِ دين إبراهيم عليه السلام
__________
(1). القصب: المعى.
(2). الوفرة- شعر الرأس إذا وصل شحمة الاذن.
(3). في ك: الأصنام.

(6/337)


عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَآبَ «1» مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ- وَيُقَالُ عِمْلَاقُ- بْنُ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُ بِهَا فَنُمْطَرُ، وَنَسْتَنْصِرُ بِهَا فَنُنْصَرُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُونَهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: (هُبَلُ) فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ"." وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي مِنْ قُرَيْشٍ وَخُزَاعَةَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ" يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ" بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِتَحْرِيمِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ. وَقَالُوا:" مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا"] الانعام: 139] يَعْنِي مِنَ الْوَلَدِ وَالْأَلْبَانِ" وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً"] الانعام: 139] يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ"] الانعام: 139] أَيْ بِكَذِبِهِمِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ" إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" «2»] الانعام: 139] أَيْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" «3»] يونس: 59] وأنزل عليه:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" «4»] الانعام: 143] وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:" وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ" «5»] الانعام: 138] الْآيَةَ. الرَّابِعَةُ- تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْعِهِ الْأَحْبَاسَ وَرَدِّهِ الْأَوْقَافَ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفَاسِهَا عَنْهَا، وَقَاسَ عَلَى الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْفَرْقِ بَيِّنٌ. وَلَوْ عَمَدَ رَجُلٌ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَقَالَ: هَذِهِ تَكُونُ حَبْسًا، لَا يُجْتَنَى ثَمَرُهَا، وَلَا تُزْرَعُ أَرْضُهَا، وَلَا يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِنَفْعٍ، لَجَازَ أَنْ يُشَبَّهَ هَذَا بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَقَدْ قَالَ عَلْقَمَةُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: مَا تريد إلى شي كان من عمل أهله الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْأَحْبَاسِ وَالْأَوْقَافِ ما عدا أبا حنيفة
__________
(1). مآب (بهمزة مفتوحة بعدها ألف): مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. (معجم ياقوت).
(2). راجع ج 7 ص 95.
(3). راجع ج 8 ص 354. [ ..... ]
(4). راجع ج 7 ص 95.
(5). راجع ج 7 ص 95.

(6/338)


وَأَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ لَمَّا حَدَّثَهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِسَهْمِهِ بِخَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] احْبِسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ [«1». وَبِهِ يَحْتَجُّ كُلُّ مَنْ أَجَازَ الْأَحْبَاسَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَجَابِرًا كُلَّهُمْ وَقَفُوا الْأَوْقَافَ، وَأَوْقَافُهُمْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ لِمَالِكٍ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ: إِنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: هَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ، وَإِذْهَابِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِزَالَةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لِلْعِبَادِ فِي تِلْكَ الْإِبِلِ. وَبِهَذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَحْبَاسَ وَالْأَوْقَافَ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَأَلْتُ شُرَيْحًا عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ دَارَهُ حَبْسًا عَلَى الْآخِرِ «2» مِنْ وَلَدِهِ فَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، قَالُوا: فَهَذَا شُرَيْحٌ قَاضِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَكَمَ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بعد ما أُنْزِلَتْ سُورَةُ" النِّسَاءِ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا الْفَرَائِضَ: يَنْهَى عَنِ الْحَبْسِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّدَقَةُ الَّتِي يُمْضِيهَا الْمُتَصَدِّقُ فِي حَيَاتِهِ عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَعَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ مِنَ الْحَبْسِ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ شُرَيْحٍ وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَعَمَلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَخُوهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُخْرَجَ الْأَرْضُ بِالْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا لَا إِلَى مِلْكِ مَالِكٍ؟ قَالَ الطَّحَاوِيُّ يُقَالُ لَهُمْ: وَمَا يُنْكَرُ مِنْ هَذَا وَقَدِ اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها
__________
(1). أي اجعلها وقفا: وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه.
(2). في ك: الآخرين.

(6/339)


صَاحِبُهَا مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَقَدْ خَرَجَتْ بِذَلِكَ مِنْ مِلْكٍ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَلَكِنْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ السِّقَايَاتُ وَالْجُسُورُ وَالْقَنَاطِرُ، فَمَا أَلْزَمْتَ مُخَالِفَكَ فِي حُجَّتِكَ عَلَيْهِ يَلْزَمُكَ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- اخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ لِلْحَبْسِ فِيمَا لِلْمُحَبِّسِ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُوقِفِ مِلْكَهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، إِلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى صَدَقَتَهُ، وَتَكُونُ بِيَدِهِ ليفرقها ويسلبها فِيمَا أَخْرَجَهَا فِيهِ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَتَهُ- فِيمَا بَلَغَنَا- حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَلِيَانِ صَدَقَاتِهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَبَسَ أَرْضًا أَوْ نَخْلًا أَوْ دَارًا عَلَى الْمَسَاكِينِ وَكَانَتْ بِيَدِهِ يَقُومُ بِهَا وَيُكْرِيهَا وَيُقَسِّمُهَا فِي الْمَسَاكِينِ حَتَّى مَاتَ وَالْحَبْسُ فِي يَدَيْهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَبْسٍ مَا لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مِيرَاثٌ، وَالرَّبْعُ «1» عِنْدَهُ وَالْحَوَائِطُ وَالْأَرْضُ لَا يَنْفُذُ حَبْسُهَا، وَلَا يَتِمُّ حَوْزُهَا، حَتَّى يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ مَنْ حَبَّسَهُ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، هَذَا مُحَصَّلُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابِهِ «2»، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. السَّادِسَةُ- لَا يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ وَقَطَعَهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَانْتِفَاعُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ رُجُوعٌ فِي صَدَقَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ، أَوْ أَنْ يَفْتَقِرَ الْمُحَبِّسُ «3»، أَوْ وَرَثَتُهُ فَيَجُوزُ لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْهُ. ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ حَبَّسَ أَصْلًا تَجْرِي غَلَّتُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ وَلَدَهُ يُعْطَوْنَ مِنْهُ إِذَا افْتَقَرُوا- كَانُوا يَوْمَ حَبَّسَ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ- غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ جَمِيعَ الْغَلَّةِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْدَرِسَ الْحَبْسُ وَلَكِنْ يَبْقَى مِنْهُ سَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ اسْمُ الْحَبْسِ، وَيُكْتَبُ عَلَى الْوَلَدِ كِتَابٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ مَا أُعْطُوا عَلَى سَبِيلِ الْمَسْكَنَةِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقٍّ لَهُمْ دُونَ الْمَسَاكِينِ. السَّابِعَةُ- عِتْقُ السَّائِبَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَيَنْوِي الْعِتْقَ، أَوْ يَقُولُ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَاءَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِتْقَهُ نَافِذٌ، هَكَذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمْ، وبه
__________
(1). الربع: محلة القوم ومنزلهم.
(2). في ك: عند جماعة من .. إلخ.
(3). في ج: للحبس.

(6/340)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا يُعْتِقُ أَحَدٌ سَائِبَةً، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا عِنْدَ كُلِّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ، إِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ عِتْقِ السَّائِبَةِ لَا غَيْرَ، فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ وَأَنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ مِيرَاثًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا بَأْسَ بِعِتْقِ السَّائِبَةِ ابْتِدَاءً، ذَهَبَ إِلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ احْتَجَّ إِسْمَاعِيلُ] الْقَاضِي [«1» ابْنُ إِسْحَاقَ وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ. وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِتْقَ السَّائِبَةَ مُسْتَفِيضٌ بِالْمَدِينَةِ لَا يُنْكِرُهُ عَالِمٌ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ السَّلَفِ أعتقوا سائبة. وروي ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ الْبَصْرِيُّ التَّمِيمِيُّ «2» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِمَّنْ أُعْتِقَ سَائِبَةً، أَعْتَقَتْهُ مَوْلَاةٌ لَهُ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ سَائِبَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَافَتْ بِهِ عَلَى حِلَقِ الْمَسْجِدِ، وَاسْمُهُ رُفَيْعُ بْنُ مِهْرَانَ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: لَا سَائِبَةَ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً فَوَلَاؤُهُ لَهُ [وَبِقَوْلِهِ:] إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ [. فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرٍ مُعْتِقٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ
" وَبِالْحَدِيثِ] لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ [وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلَامًا لِي سَائِبَةً فَمَاذَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ، إِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ الْجَاهِلِيَّةُ، أَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نعمته.

[سورة المائدة (5): آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
__________
(1). من ك.
(2). في الأصول: التيمي. والصواب ما أثبت.

(6/341)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي" الْبَقَرَةِ" «1» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا.

[سورة المائدة (5): آية 105]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ، وَهُوَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهُ مِمَّنْ رَكَنَ فِي دِينِهِ إِلَى تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَيْسَ الْقِيَامُ بِهِ بِوَاجِبٍ إِذَا اسْتَقَامَ الْإِنْسَانُ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، لَوْلَا مَا ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" مَعْنَاهُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، تَقُولُ عَلَيْكَ زَيْدًا بِمَعْنَى الْزَمْ زَيْدًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ زَيْدًا، بَلْ إِنَّمَا يَجْرِي هَذَا فِي الْمُخَاطَبَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ عَلَيْكَ زَيْدًا أَيْ خُذْ زَيْدًا، وَعِنْدَكَ عَمْرًا «2» أَيْ حَضَرَكَ، وَدُونَكَ «3» زَيْدًا أَيْ قَرِّبْ مِنْكَ، وَأَنْشَدَ:
يَا أَيُّهَا الْمَائِحُ «4» دَلْوِي دونكا

وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ رَجُلًا لَيْسَنِي، فَشَاذٌّ. الثَّالِثَةُ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ قَيْسٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
(1). راجع ج 2 ص 210 وما بعدها.
(2). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(3). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(4). المانح: هو الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو. وتمامه:
إني رأيت الناس يحمدونكا

(6/342)


] إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ [. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ «1» سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، قُلْتُ: وَلَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ رَوَى عَنْ قَيْسٍ مَوْقُوفًا. قَالَ النَّقَّاشُ: وَهَذَا إِفْرَاطٌ مِنْ وَكِيعٍ، رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ مَرْفُوعًا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [بَلِ] «2» ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ [. وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ:] بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ [. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُهُ:] بَلْ مِنْكُمْ [هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ سَكَتَ عَنْهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا [قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِ هَذِهِ الْآيَةِ، قُولُوا الْحَقَّ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الْفِتَنِ: لَوْ تَرَكْتَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ؟ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَنَا:] لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ [وَنَحْنُ شَهِدْنَا فَيَلْزَمُنَا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ، وَسَيَأْتِي زَمَانٌ إِذَا قِيلَ فِيهِ الْحَقُّ لَمْ يُقْبَلْ. فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ:] لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ [فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودُ وَأَنْتُمُ الْغُيَّبُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
__________
(1). في ك: ابن راهويه. وهو ابن إبراهيم. [ ..... ]
(2). الزيادة عن الترمذي.

(6/343)


لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَلَيْكُمْ أهله دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلْيَنْهَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَجْرِي مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ اشْتِغَالَ الْإِنْسَانِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وتركه التعرض لمعايب النَّاسِ، وَالْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" «1»] المدثر: 38]،" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " «2»] الانعام: 461]. وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] كُنْ جَلِيسَ «3» بَيْتِكَ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ [. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، وَيَشْتَغِلُ بِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ: قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ الْجُذَامِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِذَا كَانَ رَأْسُ مِائَتَيْنِ فَلَا تَأْمُرْ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ [. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَفَسَادِ الْأَحْوَالِ، وَقِلَّةِ الْمُعِينِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَبْنَاءِ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبُوا السَّوَائِبَ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الدِّينِ، لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الْأَسْلَافِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ سَفَّهْتَ آبَاءَكَ وَضَلَّلْتَهُمْ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْوَعْظُ، فَإِذَا عَلِمْتَ مِنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ، بَلْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَظْهَرُونَ فَاسْكُتْ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْأُسَارَى الَّذِينَ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ، فَقِيلَ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمُ ارْتِدَادُ أَصْحَابِكُمْ. وَقَالَ: سعيد بن جبير: هي
__________
(1). راجع ج 19 ص 85.
(2). راجع ج 7 ص 157.
(3). في ب، ع، هـ: حلس بالمهملة: وهو بساط في البيت، وحلس بيته إذا لم يبرح مكانه.

(6/344)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

فِي أَهْلِ الْكِتَابِ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ، يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّكُمْ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يُعْلَمُ قَائِلُهُ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى آيَةٌ جَمَعَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ غَيْرُهُ: النَّاسِخُ مِنْهَا قَوْلُهُ:" إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مُتَعَيَّنٌ مَتَى رُجِيَ الْقَبُولُ، أَوْ رُجِيَ رَدُّ الظَّالِمِ وَلَوْ بِعُنْفٍ، مَا لَمْ يَخَفِ الْآمِرُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ فِي خَاصَّتِهِ، أَوْ فِتْنَةً يُدْخِلُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إِمَّا بِشَقِّ عَصًا، وَإِمَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا خِيفَ هَذَا فَ" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" مُحْكَمٌ «1» وَاجِبٌ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاهِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هذا جماعة أهل «2» العلم فاعلمه.

[سورة المائدة (5): الآيات 106 الى 108]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
__________
(1). في ج، ك: حكم.
(2). في ك: من أهل العلم.

(6/345)


فِيهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ مَكِّيٌّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ «1» فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَبْلَهُ أَيْضًا، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ تَمِيمُ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ] بْنُ بَدَّاءَ [«2» يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا فَتًى مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا «3» مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ،؟؟ فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا كَتَمْتُمَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا) ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيٍّ وَتَمِيمٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَةِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا أَنَّ هَذَا الْجَامَ لِلسَّهْمِيِّ، وَلَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا، قَالَ: فَأَخَذُوا الْجَامَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ- وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ بِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ له: بديل ابن أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الجام فبعناه بألف درهم ثم
__________
(1). ثلجت النفس بالشيء ثلجا اشتقت به واطمأنت إليه، وقيل: عرفته وسرت به.
(2). من ع.
(3). الجام إناء من فضة، وجام مخوص أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل.

(6/346)


اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ «1» بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" إِلَى قَوْلِهِ" بَعْدَ أَيْمانِهِمْ" فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ يَدَيْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمَا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِرًا، فَخَرَجَ مَعَ تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ السَّهْمِيِّ، كَانَ خَرَجَ مُسَافِرًا فِي الْبَحْرِ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى تَمِيمًا وَكَانَ مِنْ لَخْمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَمَاتَ بُدَيْلٌ وَهُمْ فِي السَّفِينَةِ فَرُمِيَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْمَتَاعِ فَقَالَ: أَبْلِغَا هَذَا الْمَتَاعَ أَهْلِيَ، فَلَمَّا مَاتَ بُدَيْلٌ قَبَضَا الْمَالَ، فَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَعْجَبَهُمَا فَكَانَ فِيمَا أَخَذَا إِنَاءً مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ مِثْقَالٍ، مَنْقُوشًا «2» مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَهُ سُنَيْدٌ وَقَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بُدَيْلٌ وَكَانَ مُسْلِمًا، الْحَدِيثَ. الثَّانِيَةُ- وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" وَرَدَ" شَهِدَ" فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ «3» مُخْتَلِفَةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تعالى:" وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ"] البقرة: 282] قِيلَ: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا. وَمِنْهَا" شَهِدَ" بِمَعْنَى قَضَى أَيْ أَعْلَمَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ" «4»] آل عمران: 18]. وَمِنْهَا" شَهِدَ" بِمَعْنَى أَقَرَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ" «5»] النساء: 166]. وَمِنْهَا" شَهِدَ" بِمَعْنَى حَكَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها" «6»] يوسف: 26]. وَمِنْهَا" شَهِدَ" بِمَعْنَى حَلَفَ، كَمَا فِي اللِّعَانِ." وشهد"
__________
(1). يقطع: يعظم.
(2). في ع: موشا بالذهب.
(3). أراد بمعان.
(4). راجع ج 4 ص 40.
(5). راجع ج 6 ص 19. [ ..... ]
(6). راجع ج 9 ص 172.

(6/347)


بِمَعْنَى وَصَّى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ". وَقِيلَ: مَعْنَاهَا هُنَا الْحُضُورُ لِلْوَصِيَّةِ، يُقَالُ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْتُهَا. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَمِينُ مَا بَيْنَكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَفَّالُ. وَسُمِّيَتِ الْيَمِينُ شَهَادَةً، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُحْفَظُ فَتُؤَدَّى، وَضَعَّفَ كَوْنَهَا بِمَعْنَى الحضور واليمين. الثالثة- قوله تَعَالَى:" بَيْنِكُمْ" قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا بَيْنَكُمْ فَحُذِفَتْ" مَا" وَأُضِيفَتِ الشَّهَادَةُ إِلَى الظَّرْفِ، وَاسْتُعْمِلَ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِالْمَفْعُولِ على السعة، كما قال:
يوما شهدناه سليما وعامرا «1»

أَرَادَ شَهِدْنَا فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى:" بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" «2»] سبأ: 33] أَيْ مَكْرُكُمْ فِيهِمَا. وَأَنْشَدَ:
تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي بَيْنَ عَيْنَيْكَ مُنْزَوِي
أَرَادَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْكَ فَحَذَفَ، وَمِنْهُ قوله تعالى:" هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ" «3»] الكهف: 78] أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (إِذا حَضَرَ) " مَعْنَاهُ إِذَا قَارَبَ الْحُضُورَ، وَإِلَّا فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ لَمْ يُشْهِدْ مَيِّتٌ «4». وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ" «5»] النحل: 98]. وكقوله:" إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ" «6»] الطلاق: 1] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَالْعَامِلُ فِي" إِذا" الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ" شَهادَةُ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) " حِينَ" ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ" حَضَرَ" وَقَوْلُهُ:" اثْنانِ" يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ شَخْصَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ رَجُلَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:" ذَوا عَدْلٍ" بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْمُذَكَّرِ، كَمَا أَنَّ" ذَوَاتَا" «7»] الرحمن: 48] لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْمُؤَنَّثِ. وَارْتَفَعَ" اثْنانِ" عَلَى أنه خبر المبتدأ الذي هو" شَهادَةُ"
__________
(1). هذا صدر بيت لرجل من بني عامر، وتمامه:
قليل سواي الطعن النهال نوافله

وسلم عامر قبيلتان من قيس عيلان.
(2). راجع ج 14 ص 302.
(3). راجع ج 11 ص 42.
(4). في ك: لميت.
(5). راجع ج 10 ص 174.
(6). راجع ج 18 ص 148.
(7). راجع ج 17 ص 178.

(6/348)


قَالَ أَبُو عَلِيٍّ" شَهادَةُ" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ:" اثْنانِ" التَّقْدِيرُ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ فِي وَصَايَاكُمْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ «1» إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ" «2»] الأحزاب: 6] أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ" اثْنانِ" بِ"- شَهادَةُ"، التَّقْدِيرُ وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، أَوْ لِيُقِمِ الشَّهَادَةُ اثْنَانِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) " ذَوا عَدْلٍ" صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:" اثْنانِ" وَ" مِنْكُمْ" صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ. وَقَوْلُهُ:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أَيْ أَوْ شَهَادَةُ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ، فَمِنْ غَيْرِكُمْ صِفَةٌ لِآخَرَيْنِ. وَهَذَا الْفَصْلُ هُوَ الْمُشْكِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ فِي قَوْلِهِ:" مِنْكُمْ" ضَمِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ" أَوْ- آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" لِلْكَافِرِينَ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةً فِي السَّفَرِ إِذَا كَانَتْ وَصِيَّةً، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ، مَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَهُوَ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ «3»، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُوصِي إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ «4» أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَمَا بَدَّلَا، وَأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، مَا كَتَمَا فِيهِ شَهَادَةً وَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ خَانَا، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا هُوَ إِثْمٌ حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي فِي السَّفَرِ، وَغَرِمَ الشَّاهِدَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا. هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلَّامٍ لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِ. وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ: شَهَادَةُ أَهْلِ الذمة جائزة على المسلمين في السفر
__________
(1). ينبغي بناء الفعل للمجهول.
(2). راجع ج 14 ص 121.
(3). كذا في الأصول. وابن قيس هو أبو موسى. ولعل الصواب عبد الله بن مسعود كما يستفاد من أحكام الجصاص.
(4). كذا في ب، ج، ع، ك، هـ، ز وفي ا: الشهادة.

(6/349)


عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ" مِنْكُمْ" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى" مِنْ غَيْرِكُمْ" يَعْنِي الْكُفَّارَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ «1» وَلَا مُؤْمِنَ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ بِالتِّجَارَةِ صُحْبَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ. وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي مُوسَى وَشُرَيْحٍ وَغَيْرِهِمَا. الْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" مَنْسُوخٌ، هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فَقَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" «2»] البقرة: 282] وقوله:" وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ" «3»] الطلاق: 2]، فَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَأَنَّ فِيهَا" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" فَهُوَ نَاسِخٌ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهله الْكِتَابِ، وَهُوَ الْيَوْمُ طَبَّقَ الْأَرْضَ فَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفُسَّاقِ لَا تَجُوزُ، وَالْكُفَّارُ فُسَّاقٌ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. قُلْتُ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً لِلضَّرُورَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ فَلَا، وَلَمْ يَأْتِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنَ النَّسْخِ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ شَهِدَ التَّنْزِيلَ، وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ يَنْفِرُ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُ لَا مَنْسُوخَ فِيهَا. وَمَا ادَّعَوْهُ مِنَ النَّسْخِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ النَّاسِخِ عَلَى وَجْهٍ يَتَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ تَرَاخِي النَّاسِخِ، فَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، فَإِنَّهُ فِي قِصَّةٍ غَيْرُ قِصَّةِ الْوَصِيَّةِ لِمَكَانَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، وَلِأَنَّهُ ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَلَيْسَ فِيمَا قَالُوهُ نَاسِخٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ- أَنَّ الْآيَةَ لَا نَسْخَ فِيهَا، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:" مِنْكُمْ" أَيْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ، لِأَنَّهُمْ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ وأبعد عن النسيان «4».
__________
(1). المتبادر أن العبارة: إن الآية نزلت في حادثة ولا مؤمن إلخ.
(2). راجع ج 3 ص 395، وص 157 ج 18. [ ..... ]
(3). راجع ج 3 ص 395، وص 157 ج 18.
(4). في ك: عن الشنآن.

(6/350)


ومعنى قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ وَالْعَشِيرَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنًى" آخَرَ" فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ، فَقَوْلُهُ" آخَرُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ، فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أَيْ عَدْلَانِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ" مِنْ غَيْرِكُمْ" مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ" مِنْ غَيْرِكُمْ" مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فخوطب الجماعة من المؤمنين. السابعة- استدل أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ: وَمَعْنَى" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ لَا تَقُولُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَا فَلَا يَصِحُّ احْتِجَاجُكَ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَرِيقِ النُّطْقِ، وَدَلَّتْ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنْ تُقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبَقِيَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرْعٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْأَصْلُ فَلِأَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهِيَ فَرْعُهَا أَحْرَى وَأَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَافَرْتُمْ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ" فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ" فَأَوْصَيْتُمْ إِلَى اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي ظَنِّكُمْ، وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَا مَعَكُمْ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ مُتُّمْ وَذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِالتَّرِكَةِ فَارْتَابُوا فِي أمرهما،

(6/351)


وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً، فَالْحُكْمُ أَنْ تَحْبِسُوهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ، أَيْ تَسْتَوْثِقُوا مِنْهُمَا، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُصِيبَةً، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْمَوْتُ وَإِنْ كَانَ مُصِيبَةً عُظْمَى، وَرَزِيَّةً كُبْرَى، فَأَعْظَمُ مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَرْكُ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لَهُ، وَإِنَّ فِيهِ وَحْدَهُ لَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ، وَفِكْرَةً لِمَنْ تَفَكَّرَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قَالَ:] «1» (لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا). وَيُرْوَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَخَرَّ الْجَمَلُ مَيِّتًا فَنَزَلَ الْأَعْرَابِيُّ عَنْهُ، وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهِ وَيَتَفَكَّرُ فِيهِ وَيَقُولُ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ؟! مَا لَكَ لَا تَنْبَعِثُ؟! هَذِهِ أَعْضَاؤُكَ كَامِلَةٌ، وَجَوَارِحُكَ سَالِمَةٌ، مَا شَأْنُكَ؟! مَا الَّذِي كَانَ يَحْمِلُكَ؟! مَا الَّذِي كَانَ يَبْعَثُكَ؟! مَا الَّذِي صَرَعَكَ؟! مَا الَّذِي عَنِ الْحَرَكَةِ مَنَعَكَ؟! ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُتَفَكِّرًا فِي شَأْنِهِ، مُتَعَجِّبًا مِنْ أَمْرِهِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَحْبِسُونَهُما) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:" تَحْبِسُونَهُما" صِفَةٌ لِ" آخَرانِ" وَاعْتُرِضَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ:" إِنْ أَنْتُمْ". وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا مُؤَجَّلًا، فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ [الْحَقُّ] «2» غَابَ وَاخْتَفَى وَبَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ «3» فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّوَثُّقِ مِنْهُ «4» فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى رَهْنًا، وَإِمَّا بِشَخْصٍ يَنُوبُ مَنَابَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالذِّمَّةِ وَهُوَ الْحَمِيلُ «5»، وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ كَمَغِيبِهِ وَيَتَعَذَّرَ وُجُودُهُ كَتَعَذُّرِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِهِ حَتَّى تَقَعَ مِنْهُ التَّوْفِيَةُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ، أَوْ تَبِينَ عُسْرَتُهُ. الْعَاشِرَةُ- فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بَدَنِيًّا لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّفِقِ «6» اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّوَثُّقُ بِسَجْنِهِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ شُرِعَ السِّجْنُ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). من ع.
(2). من ع.
(3). توى المال: ذهب فلم يرج.
(4). في ع وك: به.
(5). الحميل: الكفيل.
(6). في ك: لم يمكن.

(6/352)


قَالَ:] لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ [. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يُحِلُّ عِرْضَهُ يُغَلِّظُ لَهُ، وَعُقُوبَتُهُ يُحْبَسُ لَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحَبْسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، حَبْسُ عُقُوبَةٍ، وَحَبْسُ اسْتِظْهَارٍ، فَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَاجِبٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي تُهْمَةٍ فَإِنَّمَا يُسْتَظْهَرُ بِذَلِكَ لِيُسْتَكْشَفَ بِهِ مَا وَرَاءَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى أَنْ يَقُومَ فَإِنْ أَعْطَاهُ حَقَّهُ وَإِلَّا أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يُرِيدُ صَلَاةَ الْعَصْرِ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَيَتَجَنَّبُونَ فِيهِ الْكَذِبَ وَالْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ. وَقِيلَ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ. وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ «1»، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ اشْتِرَاطِهِ بَعْدَ الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا بِهِ، لِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَفِي الصَّحِيحِ] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ [. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي التَّغْلِيظِ فِي الْأَيْمَانِ، وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا- الزَّمَانُ كَمَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي- الْمَكَانُ كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ اسْتِحْلَافُ أَحَدٍ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ لَا فِي قَلِيلِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي «2» كَثِيرِهَا، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- حَيْثُ تَرْجَمَ (بَابُ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ). وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: وَيُجْلَبُ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِلَى مَكَّةَ مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهَا، فَيَحْلِفُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُجْلَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهَا فَيَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. الثَّالِثُ- الْحَالُ رَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَحْلِفُ جَالِسًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا إِنْ كَانَ «3» قَائِمًا فَقَائِمًا وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.
__________
(1). في ع: كانا كافرين.
(2). من ى.
(3). من ى.

(6/353)


قُلْتُ: قَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ: [فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ] الْقِيَامَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. الرَّابِعُ- التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ" وقوله:" قُلْ إِي وَرَبِّي" «1»] يونس: 53] وقال:" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ" «2»] الأنبياء: 57] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: [مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ]. وَقَوْلُ الرَّجُلِ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ، وَمَا ادَّعَاهُ عَلَيَّ بَاطِلٌ، وَالْحُجَّةُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال- يَعْنِي لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ [احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إله إلا هو ما له عندك شي] يَعْنِي لِلْمُدَّعِي، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَبُو يَحْيَى اسْمُهُ زِيَادٌ «3» كُوفِيٌّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا غَيْرَ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي غَلَّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. وَزَادَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ التَّغْلِيظَ بِالْمُصْحَفِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِيَ صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ] وَيَرْوِيهِ [«4» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَصِحَّ. قُلْتُ: وَفِي كِتَابِ (الْمُهَذَّبِ) وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُحَلِّفُ عَلَى الْمُصْحَفِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ مُطَرِّفًا بِصَنْعَاءَ يُحَلِّفُ «5» عَلَى الْمُصْحَفِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمُصْحَفِ «6». قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَانِ: وَكَانَ قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك، حكاه عنهما ابن المنذر.
__________
(1). راجع ج 8 ص 351.
(2). راجع ج 11 ص 296.
(3). هو أبو يحيى زياد الأعرج مولى الأنصار. [ ..... ]
(4). من الأصول. وفي ابن العربي: ويأثر أصحابه ذلك عن ابن عباس.
(5). وفي ب وج وع وى وهـ: يستحلف.
(6). في ب وع وهـ وى: أو المصحف.

(6/354)


الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يُحَلَّفُ بِهِ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْيَمِينُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى الْقَطْعِ، وَكُلُّ مَالٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ وَتَسْقُطُ بِهِ حُرْمَةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَظِيمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ فِي أَقَلِّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مِنْبَرِ كُلِّ مَسْجِدٍ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ) الْفَاءُ فِي" فَيُقْسِمانِ" عَاطِفَةُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، أو جواب جزاء، لان" تَحْبِسُونَهُما" مَعْنَاهُ احْبِسُوهُمَا، أَيْ لِلْيَمِينِ، فَهُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَبَسْتُمُوهُمَا أَقْسَمَا، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءَ مَرَّةً ... فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ «1» فَيَغْرَقُ
تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ: إِذَا حَسَرَ بَدَا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتُلِفَ مَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ:" فَيُقْسِمانِ"؟ فَقِيلَ: الْوَصِيَّانِ إِذَا ارْتِيبَ فِي قَوْلِهِمَا وَقِيلَ: الشَّاهِدَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُبْطِلًا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَالَّذِي سَمِعْتُ- وَهُوَ بِدْعَةٌ- عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ يُحَلَّفُ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُ بِالْحَقِّ، وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إِذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ فَيُحَلِّفُ إِنَّهُ لَبَاقٍ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يُحَلَّفُ؟! هَذَا مَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا اسْتُحْلِفَ الشَّاهِدَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُدَّعًى عَلَيْهِمَا، حَيْثُ ادَّعَى الْوَرَثَةُ أَنَّهُمَا خَانَا فِي الْمَالِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شَرْطٌ لَا يَتَوَجَّهُ تَحْلِيفُ الشَّاهِدَيْنِ إِلَّا بِهِ، وَمَتَى لَمْ يَقَعْ رَيْبٌ وَلَا اخْتِلَافٌ فَلَا يَمِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَّا إِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ حُكْمِ أبي موسى
__________
(1). يجم: يكثر فيه الماء.

(6/355)


فِي تَحْلِيفِ الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمَا وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِهَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَاءَ «1» هَذِهِ «2»، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [حَضَرَهُ] «3» يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ فَأَخْبَرَاهُ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ:] بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ [فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الرِّيبَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْآيَةَ مَنْسُوخَةً تَتَرَتَّبُ فِي الْخِيَانَةِ، وَفِي الِاتِّهَامِ بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَتَقَعُ مَعَ ذَلِكَ الْيَمِينُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْآيَةَ مَنْسُوخَةً فَلَا يَقَعُ تَحْلِيفٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِارْتِيَابُ فِي خِيَانَةٍ أَوْ تَعَدٍّ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّعَدِّي، فَيَكُونُ التَّحْلِيفُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ الدَّعْوَى عَلَى مُنْكَرٍ لَا عَلَى أَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِلشَّهَادَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَمِينُ الرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا- مَا تَقَعُ الرِّيبَةُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَتَوَجُّهِ الدَّعْوَى فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ. الثَّانِي- التُّهْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، وَلَهُ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِي كتب الفروع، وقد تحققت ها هنا الدَّعْوَى وَقَوِيَتْ حَسْبَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ:" إِنِ ارْتَبْتُمْ" يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ:" تَحْبِسُونَهُما" لَا بِقَوْلِهِ" فَيُقْسِمانِ" لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ سَبَبُ الْقَسَمِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى) أَيْ يَقُولَانِ فِي يَمِينِهِمَا لَا نَشْتَرِي بِقَسَمِنَا عِوَضًا نَأْخُذُهُ بَدَلًا مِمَّا أَوْصَى بِهِ وَلَا نَدْفَعُهُ إِلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَقْسِمُ لَهُ ذَا قُرْبَى مِنَّا. وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ" «4»] الرعد: 24 - 23] أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ها هنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.
__________
(1). دقوقاء (بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة وتقصر): مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الاخبار والفتوح، كما بها وقعة للخوارج. (معجم البلدان).
(2). كذا في الأصول. ويبدو أن فيه سقطا فليتأمل.
(3). في ب وج وك وى وع وهـ.
(4). راجع ج 9 ص 310

(6/356)


التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- اللَّامُ فِي قَوْلِهِ:" لَا نَشْتَرِي" جَوَابٌ لِقَوْلِهِ:" فَيُقْسِمانِ" لِأَنَّ أَقْسَمَ يَلْتَقِي بِمَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ، وَهُوَ" لَا" وَ" مَا" فِي النَّفْيِ،" وَإِنَّ" وَاللَّامُ فِي الْإِيجَابِ. وَالْهَاءُ فِي" بِهِ" عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، الْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرَضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذُكِرَتْ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] فَأَعَادَ [الضَّمِيرَ] «1» عَلَى مَعْنَى الدَّعْوَةِ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" «2». الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثَمَناً" قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى ذَا ثَمَنٍ أَيْ سِلْعَةً ذَا ثَمَنٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ هُوَ وَيَكُونُ السِّلْعَةَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ عِنْدَنَا مُشْتَرًى كَمَا أَنَّ الْمَثْمُونَ مُشْتَرًى، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا وَمَثْمُونًا كَانَ الْبَيْعُ دَائِرًا عَلَى عَرَضٍ وَنَقْدٍ، أَوْ عَلَى عَرَضَيْنِ، أَوْ عَلَى نَقْدَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ: إِذَا أَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ وَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ هَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ أَوْلَى بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَقَالَ: يَكُونُ صَاحِبُهَا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَاحِبُهَا أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ. تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَالْمَيِّتِ، وَمَا بِأَيْدِيهِمَا مَحَلٌّ لِلْوَفَاءِ، فَيَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ بِقَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَعْيَانُ السِّلَعِ مَوْجُودَةً أَوْ لَا، إِذْ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهَا وَوَجَبَتْ أَثْمَانُهَا لَهُمْ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمُ إِلَا أَثْمَانُهَا أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهَا. وَخَصَّصَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ فِي هَذَا الْبَابِ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ) أَيْ مَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَفِيهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ من أرادها وجدها في (التحصيل) «3» وغيره.
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 5 ص 50 ففيها: (فإنه ليس بينه) وهو الشاهد. والأصول جميعا: (بينها) فلا شاهد.
(3). وهو تحصيل المنافع على كتاب الدرر اللوامع. في قراءة نافع.

(6/357)


الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْعَبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ:" مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ". عَثَرَ عَلَى كَذَا أَيِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، يُقَالُ: عَثَرْتُ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ أَيِ اطَّلَعْتُ، وَأَعْثَرْتُ غَيْرِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ" «1»] الكهف: 21]. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُمْ، وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثِرُ عُثُورًا إِذَا وَقَعَتْ إِصْبَعُهُ بِشَيْءٍ صَدَمَتْهُ، وَعَثَرَتْ إِصْبَعُ فُلَانٍ بِكَذَا إِذَا صَدَمَتْهُ فَأَصَابَتْهُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ. وَعَثَرَ الْفَرَسُ عِثَارًا قَالَ الْأَعْشَى:
بِذَاتِ «2» لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا
وَالْعَثْيَرُ الْغُبَارُ السَّاطِعُ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْعَثْيَرُ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ لِأَنَّهُ يُوقَعُ عَلَيْهِ مِنْ خَفَاءٍ. وَالضَّمِيرُ فِي" أَنَّهُمَا" يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" اثْنانِ" عن سعيد ابن جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَ" اسْتَحَقَّا" أَيِ اسْتَوْجَبَا" إِثْماً" يَعْنِي بِالْخِيَانَةِ، وَأَخْذِهِمَا مَا لَيْسَ لَهُمَا، أَوْ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْإِثْمُ هُنَا اسْمُ الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ آخِذَهُ بِأَخْذِهِ آثِمٌ، فَسُمِّيَ إِثْمًا كَمَا سُمِّيَ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَظْلِمَةٌ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَظْلِمَةُ اسْمُ مَا أُخِذَ مِنْكَ، فَكَذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْجَامُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يَعْنِي فِي الْأَيْمَانِ أَوْ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ" آخَرانِ" بِحَسَبِ أَنَّ الْوَرَثَةَ كَانَا اثْنَيْنِ. وَارْتَفَعَ" آخَرانِ" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ." يَقُومانِ" فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ." مَقامَهُما" مَصْدَرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: مَقَامًا مِثْلَ مَقَامِهِمَا، ثُمَّ أُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَ المنعوت، المضاف مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ «3» الْأَوْلَيانِ) قَالَ ابْنُ السَّرِيِّ: الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِيصَاءُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لا يجعل
__________
(1). راجع ج 10 ص 378.
(2). ناقة ذات لوث أي قوة، وكذا عفرناة، والمعنى أنها لا تعثر لقوتها، فلو عثرت لقلت تعست. وقوله: (بذات لوث) متعلق ب (- كلفت) في بيت قبله وهو:
كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
(اللسان)
(3). قراءة نافع بالبناء للمفعول، وهي قراءة الجمهور. [ ..... ]

(6/358)


حَرْفٌ بَدَلًا مِنْ حَرْفٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّفْسِيرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مِنَ الذِينَ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةُ. وَ" الْأَوْلَيانِ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَآخَرانِ قَالَهُ ابْنُ السَّرِيِّ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَهُوَ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ وَإِبْدَالُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ جَائِزٌ. وَقِيلَ: النَّكِرَةُ إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُهَا صَارَتْ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ" «1»] النور: 35] ثم قال:" الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ"] النور: 35] ثم قال:" الزُّجاجَةُ"] النور: 35]. وَقِيلَ: وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي" يَقُومانِ" كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَقُومُ الْأَوْلَيَانِ أَوْ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا هُمَا الْأَوْلَيَانِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى:" الْأَوْلَيانِ" مَفْعُولُ" اسْتَحَقَّ" عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيِ اسْتُحِقَّ فِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ إِثْمُ الْأَوْلَيَيْنِ فَعَلَيْهِمْ بِمَعْنَى فِيهِمْ مِثْلُ" عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" «2»] البقرة: 102] أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى مَا تُنْكِرُوهَا تَعْرِفُوهَا ... عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ «3»
أَيْ فِي أَقْطَارِهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ" الْأَوَّلِينَ" جَمْعُ أَوَّلٍ عَلَى أَنَّهُ بدل مِنَ" الَّذِينَ" أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي" عَلَيْهِمُ" وَقَرَأَ حَفْصٌ:" اسْتَحَقَّ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفَاعِلُهُ" الْأَوْلَيانِ" وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ وَصِيَّتَهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا. وَقِيلَ: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ رَدَّ الْأَيْمَانِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ:" الْأَوَّلَانِ" وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ:" الْأَوَّلَيْنِ" «4» قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ لَحْنٌ، لَا يُقَالُ فِي مُثَنَّى، مُثَنَّانِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ" الْأَوَّلَانِ". الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ) " أَيْ يَحْلِفَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ (أَنَّ الَّذِي قَالَ صَاحِبُنَا فِي وَصِيَّتِهِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمَالَ الَّذِي وَصَّى بِهِ إِلَيْكُمَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَتَيْتُمَانَا بِهِ وَأَنَّ هَذَا الْإِنَاءَ لَمِنْ مَتَاعِ صَاحِبِنَا الَّذِي خَرَجَ بِهِ مَعَهُ وَكَتَبَهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَأَنَّكُمَا خُنْتُمَا) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أَيْ يَمِينُنَا أَحَقُّ مِنْ يَمِينِهِمَا،
__________
(1). راجع ج 12 ص 255.
(2). راجع ج 2 ص 41.
(3). نفث الجرح الدم إذا أظهره، والبيت لصخر الغى. (اللسان).
(4). قال ابن عطية: على تثنية أول، والنصب على تقدير الأولين فالاولين في الرتبة.

(6/359)


يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

فَصَحَّ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ" «1»] النور: 6]. وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ فَحَلَفَا." لَشَهادَتُنا أَحَقُّ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَمَا اعْتَدَيْنا) أَيْ تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي قَسَمِنَا. (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِلٍ، وَأَخَذْنَا مَا لَيْسَ لنا. السادسة والعشرون- قوله تعالى:" ذلِكَ أَدْنى " ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ." يَأْتُوا" نُصِبَ بِ"- أَنْ"." أَوْ يَخافُوا" عَطْفٌ عَلَيْهِ." أَنْ تُرَدَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- يَخافُوا"." أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ" قِيلَ: الضَّمِيرُ في" يَأْتُوا" و" يَخافُوا" رَاجِعٌ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ، أَيْ أَحْرَى أَنْ يَحْذَرَ النَّاسُ الْخِيَانَةَ فَيَشْهَدُوا بِالْحَقِّ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) أَمْرٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، أَيِ اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ، قَابِلِينَ لَهُ، مُتَّبِعِينَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فَسَقَ يَفْسِقُ وَيَفْسُقُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المائدة (5): آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) يُقَالُ: مَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ فَالْجَوَابُ- أَنَّهُ اتِّصَالُ الزَّجْرِ عَنِ الْإِظْهَارِ خِلَافَ الْإِبْطَانِ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و" يَوْمَ" ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ" وَاسْمَعُوا" أَيْ وَاسْمَعُوا خَبَرَ يَوْمٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَاتَّقُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اذْكُرُوا أَوِ احْذَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. (فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) أَيْ مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمُكُمْ؟ وَمَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكُمْ قَوْمُكُمْ حِينَ دعوتموهم إلى
__________
(1). راجع ج 12 ص 182.
(2). راجع ج 1 ص 245

(6/360)


تَوْحِيدِي؟ " قالُوا" أَيْ فَيَقُولُونَ:" لَا عِلْمَ لَنا" وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِمْ:" لَا عِلْمَ لَنا" فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِبَاطِنِ مَا أَجَابَ بِهِ أُمَمُنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، فَحُذِفَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ بِخِلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لنا إلا علم أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَذْهَلُونَ «1» مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ وَيَفْزَعُونَ مِنَ «2» الْجَوَابِ، ثُمَّ يجيبون بعد ما تَثُوبُ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ فَيَقُولُونَ:" لَا عِلْمَ لَنا" قاله الحسن وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. قُلْتُ: هَذَا فِي أَكْثَرِ مَوَاطِنَ الْقِيَامَةِ، فَفِي الْخَبَرِ] إِنَّ جَهَنَّمَ إذا جئ بِهَا زَفَرَتْ زَفْرَةً فَلَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا صِدِّيقٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] خَوَّفَنِي جِبْرِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَبْكَانِي فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ أَلَمْ يُغْفَرْ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ لَتَشْهَدَنَّ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَا يُنْسِيكَ الْمَغْفِرَةَ [. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ- كَمَا قاله بَعْضُهُمْ- فَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أُجِبْتُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِيَكُونَ هَذَا تَوْبِيخًا لِلْكُفَّارِ، فَيَقُولُونَ: لَا عِلْمَ لَنَا، فَيَكُونُ هَذَا تَكْذِيبًا لِمَنِ اتَّخَذَ الْمَسِيحَ إِلَهًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ:" مَاذَا أُجِبْتُمْ" مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ؟ قَالُوا:" لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَيُشْبِهُ هَذَا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] يَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ الْحَوْضَ فَيَخْتَلِجُونَ «3» فَأَقُولُ أُمَّتِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ [. وَكَسَرَ الْغَيْنَ [مِنَ الْغُيُوبِ] «4» حَمْزَةُ [وَالْكِسَائِيُّ] «5» وَأَبُو بَكْرٍ، وَضَمَّ الْبَاقُونَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَأَلَهُمْ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ سَأَلَهُمْ لِيُعْلِمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ كُفْرِ أُمَمِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ. الثَّانِي- أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَفْضَحَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.
__________
(1). في ك: يرهبون.
(2). في ب وج وهـ وع وى: عن.
(3). أي يجتذبون ويقتطعون.
(4). من ك.
(5). من ك وع. والذي في السمين وروح المعاني: أبو بكر وحمزة.

(6/361)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

[سورة المائدة (5): آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) هَذَا مِنْ صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَإِذْ يَقُولُ اللَّهُ لِعِيسَى كَذَا، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَ" عِيسَى" يَجُوزُ أن يكون في موضع رفع على أن يَكُونَ" ابْنَ مَرْيَمَ" نِدَاءً ثَانِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ مَنْصُوبٌ كَمَا قَالَ «1»:
يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ

وَلَا يَجُوزُ الرَّفْعُ فِي الثَّانِي إِذَا كان مضافا إلا عند الطوال «2». وقوله تَعَالَى:" اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ" إِنَّمَا ذَكَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمَا ذَاكِرًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتْلُوَ عَلَى الْأُمَمِ مَا خَصَّهُمَا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. الثَّانِي- لِيُؤَكِّدَ بِهِ حُجَّتَهُ، وَيَرُدَّ بِهِ جَاحِدَهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْدِيدِ «3» نِعَمِهِ فَقَالَ:" إِذْ أَيَّدْتُكَ" يَعْنِي قَوَّيْتُكَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «4». وفي" بِرُوحِ الْقُدُسِ"
__________
(1). الرجز لرجل من بني الحرماز، يمدح به أحد بني المنذر بن الجارود العبدي و (حكم) هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمي جده الجارود لأنه أغار على قوم فاكتسح أموالهم فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به. وتمامه: سرادق المجد عليك ممدود. (شواهد سيبويه).
(2). الطوال: هو محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي من أهل الكوفة أحد أصحاب الكسائي قال ثعلب: وكان حاذقا بإلقاء العربية. توفى سنة 243. (بغية الوعاة).
(3). في ك: أخذ بعدد. [ ..... ]
(4). راجع ج 2 ص 24.

(6/362)


وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ" وَرُوحٌ مِنْهُ" «1»] النساء: 171] الثَّانِي: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2». (تُكَلِّمُ النَّاسَ) يَعْنِي وَتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَفِي الْكُهُولَةِ نَبِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا فِي] آلِ عِمْرَانَ [«3» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ." كَفَفْتُ" مَعْنَاهُ دَفَعَتُ وَصَرَّفَتُ" بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ" حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ." إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ" أَيِ الدَّلَالَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ. (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ. (إِنْ هَذَا) أَيِ الْمُعْجِزَاتِ. (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقرا حمزة والكسائي" لَساحِرٌ" أَيْ إِنْ هَذَا الرَّجُلُ إِلَّا سَاحِرٌ قَوِيٌّ على السحر.

[سورة المائدة (5): آية 111]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ «4». وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ عَلَى أَقْسَامٍ: وَحْيٌ بِمَعْنَى إِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ أَلْهَمْتُهُمْ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" «5»] النحل: 68] " وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى " «6»] القصص: 7] وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. قَالَ أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، و" إِلَى" صِلَةٌ يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى، قَالَ اللَّهُ تعالى:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" «7»] الزلزلة: 5] وقال العجاج:
وحى لها القرار فاستقرت «8»

أَيْ أَمَرَهَا بِالْقَرَارِ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقِيلَ:" أَوْحَيْتُ" هُنَا بِمَعْنَى أَمَرْتُهُمْ. وَقِيلَ: بَيَّنْتُ لَهُمْ. (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ إِحْدَى النُّونَيْنِ، أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبِّ. وَقِيلَ: يا عيسى بأننا مسلمون لله.
__________
(1). راجع ص 22 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 2 ص 44.
(3). راجع ج 4 ص 90 وص 97. وما بعدها.
(4). راجع ج 4 ص 90 وص 97. وما بعدها.
(5). راجع ج 10 ص 133.
(6). راجع ج 11 ص 250.
(7). راجع ج 20 ص 149.
(8). أي الأرض، وصدر البيت:
بإذنه الأرض وما تعتت

(6/363)


إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

[سورة المائدة (5): آية 112]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِعْرَابِ." هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ" هَلْ تَسْتَطِيعُ" بِالتَّاءِ" رَبَّكَ" بِالنَّصْبِ. وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ اللَّامَ مِنْ" هَلْ" فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ،" رَبُّكَ" بِالرَّفْعِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَشْكَلُ مِنَ الْأُولَى، فَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ" أَنْ يُنَزِّلَ" فَيَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، كَمَا قَالُوا: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَكَذَلِكَ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أَطَاعَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ وَكَانَ هَذَا السُّؤَالَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِمْ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عِنْدَ غَلَطِهِمْ وَتَجْوِيزِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ:" اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ وَدُخَلَاؤُهُمْ وَأَنْصَارُهُمْ كَمَا قَالَ:" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" [الصف: 14] «1». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: [لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ أُمَمَهُمْ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاطَنَهُمْ وَاخْتُصَّ بِهِمْ حَتَّى يَجْهَلُوا قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى؟ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدْرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ «2»، وَكَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى:" اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ" [الأعراف: 138] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَعْرَافِ" «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ عَالِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: هل يستطيع فلان أن يأتي
__________
(1). راجع ج 18 ص 89.
(2). ذات أنواط: شجرة بعينها كانت تعبد في الجاهلية قال ابن الأثير: كان المشركون ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها.
(3). راجع ج 7 ص 273.

(6/364)


وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُجِيبُنِي إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِاسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ عِلْمَ دَلَالَةٍ وَخَبَرٍ وَنَظَرٍ فَأَرَادُوا عِلْمَ مُعَايَنَةٍ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى "] البقرة: 260] عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلِمَ لِذَلِكَ عِلْمَ خَبَرٍ وَنَظَرٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْمُعَايَنَةَ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا رَيْبٌ وَلَا شُبْهَةٌ، لِأَنَّ عِلْمَ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ، وعلم المعاينة لا يدخله شي مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ:" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" كما قال إبراهيم:" وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" «1»] البقرة: 260] قُلْتُ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْلِ مَنْ كَانَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَقَدْ أَدْخَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمُسْتَطِيعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ اسْمًا وَقَدْ وَرَدَ فِعْلًا، وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَوَارِيِّينَ:" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِ شَرْحِ السُّنَّةِ لَهُ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُخْبِرًا عَنْ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى:" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ" لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلَطُّفٌ فِي السُّؤَالِ، وَأَدَبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ وَلَا «2» لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ «3» كَانُوا خِيرَةَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْجَهْلُ بِاقْتِدَارِ اللَّهِ تَعَالَى على كله شي مُمْكِنٍ؟! وَأَمَّا قِرَاءَةُ" التَّاءِ" فَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ"] قَالَتْ: «4»] وَلَكِنْ" هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ". وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ وَلَكِنْ قَالُوا:" هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ" وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَقْرَأَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ" قَالَ مُعَاذٌ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا يَقْرَأُ بِالتَّاءِ" هَلْ تَسْطِيعُ رَبَّكَ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ. وَقِيلَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ أَوْ تَسْأَلَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ كَمَا قال:"
__________
(1). راجع ج 3 ص 297.
(2). في ع: وقوعه لكل. إلخ. [ ..... ]
(3). في هـ: هم هم كانوا.
(4). من ب وج وك وع.

(6/365)


قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «1»] يوسف: 82] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ. (قالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أَيِ اتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ عِنْدَ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فيه غنى.

[سورة المائدة (5): آية 113]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها" نُصِبَ بِأَنْ" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" عَطْفٌ كُلُّهُ، بَيَّنُوا بِهِ سَبَبَ سُؤَالِهِمْ حِينَ نُهُوا عَنْهُ. وَفِي قَوْلِهِمْ:" نَأْكُلَ مِنْها" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَكْلَ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ، بَعْضُهُمْ كَانُوا أَصْحَابَهُ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِمْ أَوْ عِلَّةٍ، إِذْ كَانُوا زَمْنَى أَوْ عُمْيَانًا، وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ فَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَوْضِعٍ فَوَقَعُوا فِي مَفَازَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نَفَقَةٌ فَجَاعُوا وَقَالُوا لِلْحَوَارِيِّينَ: قُولُوا لِعِيسَى حَتَّى يَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَهُ شَمْعُونُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ بِأَنْ تَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ عِيسَى لِشَمْعُونَ: قُلْ لَهُمُ" اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ شَمْعُونُ الْقَوْمَ فَقَالُوا لَهُ: قُلْ لَهُ:" نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها" الْآيَةَ. الثَّانِي-" نَأْكُلَ مِنْها" لِنَنَالَ «2» بَرَكَتَهَا لَا لِحَاجَةٍ دَعَتْهُمُ إِلَيْهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّهُمْ لَوِ احْتَاجُوا لَمْ يُنْهَوْا عَنِ السُّؤَالِ] وَقَوْلُهُمْ: [«3» " وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُّهَا: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَكَ إِلَيْنَا نَبِيًّا. الثَّانِي: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَنَا لِدَعْوَتِنَا «4». الثَّالِثُ: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَا، ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَيْ تَطْمَئِنُّ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ صَوْمَنَا وَعَمَلَنَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: نَسْتَيْقِنُ قُدْرَتَهُ فَتَسْكُنُ قُلُوبُنَا." وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا"
__________
(1). راجع ج 9 ص 246.
(2). في ع: فننال.
(3). من ك.
(4). كذا في ك وفي البحر: أعوانا لك وفي ب وج وى: لدعوانا. وفي ع: لندعو. وفي هـ: لدعائنا.

(6/366)


قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ" وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلَكَ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ:" وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" لَكَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يرها إذا رجعنا إليهم.

[سورة المائدة (5): آية 114]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا) الْأَصْلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ يَا اللَّهُ، وَالْمِيمَانِ بَدَلٌ مِنْ" يَا"" رَبَّنا" نِدَاءٌ ثَانٍ، لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ غَيْرَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِأَنَّهُ قَدْ أَشْبَهَ الْأَصْوَاتَ مِنْ أَجْلِ مَا لَحِقَهُ. (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) الْمَائِدَةُ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ قَالَ قُطْرُبٌ: لَا تَكُونُ الْمَائِدَةُ مَائِدَةً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا طَعَامٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيلَ: خِوَانٌ وَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ مَادَ عَبْدُهُ إِذَا أَطْعَمَهُ وَأَعْطَاهُ، فَالْمَائِدَةُ تَمِيدُ مَا عَلَيْهَا أَيْ تُعْطِي وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ أَنْشَدَهُ الْأَخْفَشُ:
تُهْدِي رُءُوسَ الْمُتْرَفِينَ الْأَنْدَادَ ... إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمْتَادِ
أَيِ الْمُسْتَعْطَى الْمَسْئُولِ فَالْمَائِدَةُ هِيَ الْمُطْعِمَةُ وَالْمُعْطِيَةُ الْآكِلِينَ الطَّعَامَ وَيُسَمَّى الطَّعَامُ أَيْضًا مَائِدَةً تَجَوُّزًا لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى الْمَائِدَةِ، كَقَوْلِهِمْ لِلْمَطَرِ سَمَاءٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: سُمِّيَتْ مَائِدَةٌ لِحَرَكَتِهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَادَ الشَّيْءُ إِذَا مَالَ وَتَحَرَّكَ «1» قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَلَّكَ بَاكٍ إِنْ تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ ... يَمِيدُ بِهَا غُصْنٌ مِنَ الْأَيْكِ مَائِلٌ
وَقَالَ آخَرُ:
وَأَقْلَقَنِي قَتْلُ الْكِنَانِيِّ بَعْدَهُ ... فَكَادَتْ بِيَ الْأَرْضُ الْفَضَاءُ تَمِيدُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ" «2»] النحل: 15]. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَائِدَةٌ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مثل" عِيشَةٍ راضِيَةٍ" «3» [الحاقة: 21] بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ وَ" ماءٍ دافِقٍ" «4»] الطَّارِقُ: 6] أَيْ مَدْفُوقٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَكُونُ لَنا عِيداً) " تَكُونُ" نعت لمائدة وليس بجواب.
__________
(1). في ى: تحرف.
(2). راجع ج 10 ص 90.
(3). راجع ج 18 ص 270.
(4). راجع ج 20 ص 4.

(6/367)


قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تَكُنْ" عَلَى الْجَوَابِ، وَالْمَعْنَى: يَكُونُ يَوْمَ نُزُولِهَا" عِيداً لِأَوَّلِنا" أَيْ لِأَوَّلِ أُمَّتِنَا وَآخِرِهَا فَقِيلَ: إِنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْأَحَدِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْأَحَدَ عِيدًا. وَالْعِيدُ وَاحِدُ الْأَعْيَادِ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْيَاءِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِدِ وَيُقَالُ: لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْوَادِ الْخَشَبِ وَقَدْ عَيَّدُوا أَيْ شَهِدُوا الْعِيدَ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ أَيْ رَجَعَ فَهُوَ عِوْدٌ بِالْوَاوِ، فَقُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا مِثْلَ الْمِيزَانِ وَالْمِيقَاتِ وَالْمِيعَادِ فَقِيلَ لِيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: عِيدًا لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعِيدُ كُلُّ يَوْمٍ يُجْمَعُ «1» كَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ عِيدًا لِلْعَوْدِ فِي الْمَرَحِ وَالْفَرَحِ فَهُوَ يَوْمُ سُرُورِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يُطَالَبُونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ وَلَا يُصَادُ الْوَحْشُ وَلَا الطُّيُورُ ولا ننفذ الصِّبْيَانُ إِلَى الْمَكَاتِبِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعُودُ إِلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ أَلَا تَرَى إِلَى اخْتِلَافِ مَلَابِسِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَافُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْحَمُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ: وَهُوَ فَحْلٌ كَرِيمٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: إبل عيدية قال:
عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" لِأُولَانَا وَأُخْرَانَا" عَلَى الْجَمْعِ «3» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا يَأْكُلُ [مِنْهَا] «4» أَوَّلُهُمْ (وَآيَةً مِنْكَ) يَعْنِي دَلَالَةً وَحُجَّةً. (وَارْزُقْنا) أَيْ أَعْطِنَا. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أَيْ خَيْرُ مَنْ أَعْطَى وَرَزَقَ، لِأَنَّكَ الغني الحميد.

[سورة المائدة (5): آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
__________
(1). في البحر: يجمع الناس لأنهم. إلخ. وفي ب وع وه وى: مجمع.
(2). هو رذاذ الكلبي- كما في اللسان- وصدر البيت:
ظلت تجوب بها البلدان ناجية

(3). صوبت هذه القراءة عن البحر وغيره من كتب التفسير قال صاحب البحر: وقرا زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري (لأولانا وأخرانا) أنثوا على معنى الامة والجماعة. والذي بالأصول: ج وك وب وى وز وهـ: (لاولينا وآخرينا).
(4). من ك وع. [ ..... ]

(6/368)


قَوْلُهُ تَعَالَى" قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ" هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَجَابَ بِهِ سُؤَالَ عِيسَى كَمَا كَانَ سُؤَالُ عِيسَى إِجَابَةً لِلْحَوَارِيِّينَ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَهَا وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، فَجَحَدَ الْقَوْمُ وَكَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِهَا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلُ فِرْعَوْنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ- وَهُوَ الْحَقُّ- نُزُولُهَا لِقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْآيَاتِ لِأَنْبِيَائِهِ. وَقِيلَ: وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ:" فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ" الْآيَةَ اسْتَعْفَوْا مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ هَذَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وهذا القول الذي قَبْلَهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:] صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ مَا شِئْتُمْ يُعْطِكُمْ [فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالُوا: يَا عِيسَى لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلَنَا [لَأَطْعَمَنَا] «1»، وَإِنَّا صُمْنَا وَجُعْنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمَائِدَةٍ يَحْمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ «2» فَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ [الْحَكِيمُ] «3» فِي" نَوَادِرِ الْأُصُولِ" لَهُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا عمار بن هرون الثَّقَفِيُّ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ حَكِيمٍ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: لَمَّا سألت الحواريون عيسى بن مَرْيَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- الْمَائِدَةَ قَامَ فَوَضَعَ ثِيَابَ الصُّوفِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْمُسُوحِ- وَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ مُسُوحٍ أَسْوَدَ وَلِحَافٍ أَسْوَدَ- فَقَامَ فَأَلْزَقَ الْقَدَمَ بِالْقَدَمِ وَأَلْصَقَ الْعَقِبَ بِالْعَقِبِ وَالْإِبْهَامَ بِالْإِبْهَامِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ خَاشِعًا لِلَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَ عينيه يبكى حتى جرى الدمع
__________
(1). الزيادة عن (روح المعاني) وغيره من كتب التفسير.
(2). أحوات (جمع حوت): وهو نوع من السمك المعروف.
(3). من ع.

(6/369)


عَلَى لِحْيَتِهِ وَجَعَلَ يَقْطُرُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ:" اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ" الْآيَةَ فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ مُدَوَّرَةٌ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ تَحْتِهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ عِيسَى: [اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا فِتْنَةً إِلَهِي أَسْأَلُكَ مِنَ الْعَجَائِبِ فَتُعْطِي] فَهَبَطَتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَيْهَا مِنْدِيلٌ مُغَطًّى فَخَرَّ عِيسَى سَاجِدًا وَالْحَوَارِيُّونَ مَعَهُ وَهُمْ يَجِدُونَ لَهَا رائحة طيبة ولم يَكُونُوا يَجِدُونَ [مِثْلَهَا] «1» قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ عِيسَى: [أَيُّكُمْ أَعْبَدُ لِلَّهِ وَأَجْرَأُ عَلَى اللَّهِ وَأَوْثَقُ بِاللَّهِ فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْهَا وَنَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَنَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا] فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَقَامَ عِيسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا وَصَلَّى صَلَاةً جَدِيدَةً وَدَعَا دُعَاءً كَثِيرًا ثُمَّ جَلَسَ إِلَى السُّفْرَةِ فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا عَلَيْهَا سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا شَوْكٌ تَسِيلُ سَيَلَانَ الدَّسَمِ وَقَدْ نُضِّدَ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ الْبُقُولِ مَا عَدَا الْكُرَّاثَ وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَخَلٌّ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ على واحد منها خمس رُمَّانَاتٍ وَعَلَى الْآخَرِ تَمَرَاتٌ وَعَلَى الْآخَرِ زَيْتُونٌ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ وَعَلَى الثَّالِثِ بَيْضٌ وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَجَاءُوا غَمًّا وَكَمَدًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَجَبًا فَقَالَ شَمْعُونُ وَهُوَ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ- يَا رُوحَ اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: [أَمَا افْتَرَقْتُمْ «2» بَعْدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا]. فَقَالَ شَمْعُونُ: وَإِلَهِ بَنِي «3» إِسْرَائِيلَ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ سُوءًا. فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةٌ أُخْرَى قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:] يَا سَمَكَةُ احْيَيْ بِإِذْنِ اللَّهِ [فَاضْطَرَبَتِ السَّمَكَةُ طَرِيَّةً تَبِصُّ «4» عَيْنَاهَا، فَفَزِعَ الْحَوَارِيُّونَ فَقَالَ عِيسَى:] مَا لِي أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا أُعْطِيتُمُوهُ كَرِهْتُمُوهُ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا [وَقَالَ:] لَقَدْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا عَلَيْهَا طَعَامٌ مِنَ الدُّنْيَا
__________
(1). الزيادة عن الدر المنثور.
(2). في الدر المنثور في رواية: (أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون وتنتهوا عن تنقير المسائل) ... إلخ. وفي تفسير ابن عطية (ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات).
(3). في ع وهـ وب: إلاه إسرائيل.
(4). تبص: تلمع. وفي ب، ج، ك، ى: تبصبص.

(6/370)


ولا من طعام الجنة ولكنه شي ابْتَدَعَهُ اللَّهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ [فَقَالَ عِيسَى:] يَا سَمَكَةُ عُودِي كَمَا كُنْتِ [فَعَادَتْ مَشْوِيَّةً كَمَا كَانَتْ فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ عِيسَى:] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّمَا يَأْكُلُ منها من طلبها وسألها [فأبت الْحَوَارِيُّونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً «1» وَفِتْنَةً فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهَا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُجَذَّمِينَ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَانَ وَأَهْلَ الْمَاءِ الْأَصْفَرِ، وَقَالَ:] كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةِ نَبِيِّكُمْ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [وَقَالَ:] يَكُونُ الْمَهْنَأُ لَكُمْ وَالْعَذَابُ عَلَى غَيْرِكُمْ [فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يَتَجَشَّئُونَ «2» فَبَرِئَ كُلُّ سَقِيمٍ أَكَلَ مِنْهُ، وَاسْتَغْنَى كله فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهُ حَتَّى الْمَمَاتِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فَمَا بَقِيَ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا شَيْخٌ وَلَا شَابٌّ وَلَا غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا جَاءُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ فَضَغَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى جَعَلَهَا نُوَبًا بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ تَرْعَى يَوْمًا وَتَشْرَبُ يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفئ الْفَيْءُ مَوْضِعَهُ وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طَارَتْ صُعُدًا فَيَأْكُلُ مِنْهَا النَّاسُ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا حَتَّى تَتَوَارَى عَنْهُمْ فَلَمَّا تَمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] يَا عِيسَى اجْعَلْ مَائِدَتِي هَذِهِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ [فَتَمَارَى «3» الْأَغْنِيَاءُ فِي ذَلِكَ وَعَادَوُا الْفُقَرَاءَ] وَشَكُّوا [«4» وَشَكَّكُوا النَّاسَ فَقَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى:] إِنِّي آخِذٌ بِشَرْطِي [فَأَصْبَحَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ خِنْزِيرًا يَأْكُلُونَ الْعَذِرَةَ يَطْلُبُونَهَا بِالْأَكْبَاءِ وَالْأَكْبَاءُ هِيَ الْكُنَاسَةُ وَاحِدُهَا كبا «5» بعد ما كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَيَنَامُونَ عَلَى الْفُرُشِ اللَّيِّنَةِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عَلَى عِيسَى يَبْكُونَ، وَجَاءَتِ الْخَنَازِيرُ فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ قُدَّامَ عِيسَى فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَتَقْطُرُ دُمُوعُهُمْ فَعَرَفَهُمْ عِيسَى فَجَعَلَ يَقُولُ:] أَلَسْتَ بِفُلَانٍ [؟ فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْكَلَامَ فَلَبِثُوا كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ومنهم من يقول: أربعة أيام،
__________
(1). مثلة: عقوبة.
(2). جشأ وتجشأ: أخرج صوتا من فمه عند الشبع.
(3). تمارى: شك.
(4). من ك، ى، ج، ب.
(5). كبا (بالكسر والقصر) كالى.

(6/371)


ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عِيسَى أَنْ يَقْبِضَ أَرْوَاحَهُمْ فَأَصْبَحُوا لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا؟ الْأَرْضُ ابْتَلَعَتْهُمْ أَوْ مَا صَنَعُوا؟!. قُلْتُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ كَانَ طَعَامُ الْمَائِدَةِ خُبْزًا وَسَمَكًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانوا يجدون في السمك طيب كله طَعَامٍ، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَتْ مَائِدَةً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ثِمَارٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقْرِصَةً مِنْ شَعِيرٍ وَحِيتَانًا. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَلَّا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ [قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ وَلَا نَعْلَمُ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُنْزِلَ على المائدة كل شي إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَ عَلَيْهَا كل شي إِلَّا السَّمَكَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ كَعْبٌ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مَنْكُوسَةً «1» مِنَ السَّمَاءِ تَطِيرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهَا كُلُّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ. قُلْتُ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فَصَحَّ مَوْقُوفًا عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا طَعَامٌ يُؤْكَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِهِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ ثَانِيَةً لِبَعْضِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ كَعْبٌ: اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ لَنَا عَيْنًا سَاحَّةً بِهَذَا الْمَكَانِ، وَرِيَاضًا خُضْرًا وَعَبْقَرِيًّا قَالَ: فدعا الله فإذا
__________
(1). نكسه: قلبه وجعل أسفله أعلاه.

(6/372)


عَيْنٌ سَاحَّةٌ وَرِيَاضٌ خُضْرٌ وَعَبْقَرِيٌّ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُطْعِمَنَا شَيْئًا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَدَعَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ بُسْرَةٌ فَأَكَلُوا مِنْهَا لَا تُقَلَّبُ إِلَّا أَكَلُوا مِنْهَا لَوْنًا ثُمَّ رُفِعَتْ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ، فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا الْمَائِدَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عِيسَى قَالَ: فَدَعَا فَنَزَلَتْ فَقَضَوْا مِنْهَا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ رُفِعَتْ وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. مَسْأَلَةٌ: جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ سُفْرَةً لَا مَائِدَةً ذَاتَ قَوَائِمَ وَالسُّفْرَةُ مَائِدَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوَائِدُ الْعَرَبِ خَرَّجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ] الْحَكِيمُ [«1»: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن] بسار [«2»، قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذَ بْنَ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: يُونُسُ هَذَا هُوَ أَبُو الْفُرَاتِ الْإِسْكَافُ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ اتَّفَقَ عَلَى رِجَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الخوان هو شي مُحْدَثٌ فَعَلَتْهُ الْأَعَاجِمُ وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ لِتَمْتَهِنَهَا «3» وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى السُّفَرِ وَاحِدُهَا سُفْرَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنَ الْجُلُودِ وَلَهَا مَعَالِيقٌ تَنْضَمُّ وَتَنْفَرِجُ فَبِالِانْفِرَاجِ سُمِّيَتْ سُفْرَةٌ لِأَنَّهَا إِذَا حُلَّتْ مَعَالِيقُهَا انْفَرَجَتْ فَأَسْفَرَتْ عَمَّا فِيهَا فَقِيلَ لَهَا السُّفْرَةُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لِإِسْفَارِ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عَنِ الْبُيُوتِ وَقَوْلُهُ: وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ لِأَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْأَصْبَاغِ «4»، وَإِنَّمَا الْأَصْبَاغُ لِلْأَلْوَانِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ سِمَاتِهِمِ الْأَلْوَانُ وَإِنَّمَا كَانَ طَعَامُهُمُ الثَّرِيدَ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتُ اللَّحْمِ. وَكَانَ «5» يَقُولُ:" انْهَسُوا «6» اللَّحْمَ نَهْسًا فَإِنَّهُ أَشْهَى وَأَمْرَأَ" فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَائِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ كَانَ الضب حراما
__________
(1). من ع. [ ..... ]
(2). الذي في الأصل: (محمد بن المثنى أبو موسى الزمن) وهو (محمد بن بشار) كما في الترمذي وكما سيأتي.
(3). امتهن الشيء: استعمله للمهنة.
(4). الأصباغ (جمع صبغ) وهو ما يؤتدم به من كل مائع كالخل وفي التنزيل: (وصبغ للآكلين).
(5). أي النبي عليه الصلاة والسلام. رواه أحمد والترمذي والحاكم.
(6). النهس أخذ اللحم بأطراف الأسنان ونتفه وفي ى وج وز: انهشوا (نهشا) بالمعجمة وهي الرواية معناها أخذ اللحم بجميع الأسنان.

(6/373)


وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)

مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرَّجُلِ مَا دَامَتْ مَائِدَتُهُ مَوْضُوعَةً [خَرَّجَهُ الثِّقَاتُ وقيل: إن المائدة كل شي يُمَدُّ وَيُبْسَطُ مِثْلَ الْمِنْدِيلِ وَالثَّوْبِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَكُونَ مَادَّةُ الدَّالِّ مُضَعَّفَةٌ فَجَعَلُوا إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاءً فَقِيلَ: مَائِدَةٌ، وَالْفِعْلُ وَاقِعٌ بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَمْدُودَةً وَلَكِنْ خُرِّجَتْ فِي اللُّغَةِ مَخْرَجَ فَاعِلٍ كَمَا قَالُوا: سِرٌّ كَاتِمٌ وَهُوَ مَكْتُومٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ وَهِيَ مَرْضِيَّةٌ وَكَذَلِكَ خُرِّجَ فِي اللُّغَةِ مَا هُوَ فَاعِلٌ عَلَى مَخْرَجِ مَفْعُولٍ فَقَالُوا: رَجُلٌ مَشْئُومٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَحِجَابٌ مَسْتُورٌ وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِرٌ قَالَ فَالْخِوَانُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ بِقَوَائِمِهِ وَالْمَائِدَةُ مَا مُدَّ وَبُسِطَ «1» وَالسُّفْرَةُ مَا أَسْفَرَ عَمَّا فِي جَوْفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُومَةٌ بِمَعَالِيقِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ فِعْلُ الْمُلُوكِ وَعَلَى الْمِنْدِيلِ فِعْلُ الْعَجَمِ وَعَلَى السُّفْرَةِ فِعْلُ الْعَرَبِ وَهُوَ السُّنَّةُ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«2».

[سورة المائدة (5): آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ قَتَادَةُ وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقال لَهُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقُطْرُبُ. قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ"] المائدة: 118] فَإِنَّ" إِذْ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا مَضَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قوله:" يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ"] المائدة: 109] الآية
__________
(1). في حاشية الجمل عن القرطبي: والمائدة ما مد وبسط من الثياب والمناديل. إلخ.
(2). عن ك.

(6/374)


وَمَا بَعْدَهُ" هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ"] المائدة: 119]. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ" إِذْ" بِمَعْنَى" إِذَا" كَقَوْلِهِ تعالى:" وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا" «1»] سبأ: 51] أَيْ إِذَا فَزِعُوا. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في السموات الْعُلَا
يَعْنِي إِذَا جَزَى. وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَزْدِيُّ:
فَالْآنَ إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا
يَعْنِي إِذَا هَازَلْتُهُنَّ فَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ أَمْرِهِ وَظُهُورِ بُرْهَانِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ" «2»] الأعراف: 50] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِنْكَارُهُ بَعْدَ السُّؤَالِ أَبْلَغَ فِي التَّكْذِيبِ وَأَشَدَّ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. الثَّانِي- قَصَدَ بِهَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفَهُ أَنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ، وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّصَارَى لَمْ يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إِلَهًا فَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ؟ فَقِيلَ: لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّةِ بِمَثَابَةِ مَنْ وَلَدَتْهُ، فَصَارُوا حِينَ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْقَائِلِينَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ وَلَقَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] فَلَقَّاهُ اللَّهُ [" سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" الْآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَبَدَأَ بِالتَّسْبِيحِ قَبْلَ الْجَوَابِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا- تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ. الثَّانِي- خُضُوعًا لِعِزَّتِهِ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى:" أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى سَمِعَ صَوْتَ عِظَامِهِ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ:" سُبْحانَكَ" ثُمَّ قَالَ:" مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" أَيْ أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا يَعْنِي أَنَّنِي
__________
(1). راجع ج 14 ص 314.
(2). راجع ج 7 ص 209.

(6/375)


مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

مَرْبُوبٌ وَلَسْتُ بِرَبٍّ وَعَابِدٌ وَلَسْتُ بِمَعْبُودٍ. ثُمَّ قَالَ:" إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ" فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهُ تَقْرِيعًا لِمَنِ اتَّخَذَ عِيسَى إِلَهًا. ثُمَّ قَالَ: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) أَيْ تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ مَا تَعْلَمُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ لِأَنَّ السِّرَّ مَوْضِعُهُ النَّفْسُ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكَ فِي دَارِ الْآخِرَةِ قُلْتُ: وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبٌ أَيْ تَعْلَمُ سِرِّي وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ ضَمِيرِي الَّذِي خَلَقْتَهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ غَيْبِكَ وَعِلْمِكَ. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ وما هو كائن.

[سورة المائدة (5): آية 117]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْحِيدِ. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) " أَنِ" لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ مِثْلُ" وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا" «1»] ص: 6]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مَا ذَكَرْتُ لَهُمْ إِلَا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ أَيْ بِأَنِ اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلون كَسْرَةً بَعْدَهَا ضَمَّةٌ وَالْكَسْرُ جَائِزٌ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أَيْ حَفِيظًا بِمَا أَمَرْتَهُمْ. (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) " مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وَقْتَ دَوَامِي فِيهِمْ. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل توفاه أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَاهَرَتْ بِرَفْعِهِ وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَإِنَّمَا المعنى
__________
(1). راجع ج 15 ص 151.

(6/376)


إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

فَلَمَّا رَفَعْتَنِي إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْوَفَاةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَفَاةُ الْمَوْتِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" «1»] الزمر: 42] يَعْنِي وَقْتَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا. وَوَفَاةَ النَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ" «2»] الانعام: 60] يَعْنِي الَّذِي يُنِيمُكُمْ. وَوَفَاةَ الرَّفْعِ قَالَ اللَّهُ تعالى:" يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" «3»] آل عمران: 55].] وَقَوْلُهُ [«4» " كُنْتَ أَنْتَ"] " أَنْتَ هُنَا" [«5» تَوْكِيدُ" الرَّقِيبَ" خَبَرُ" كُنْتُ" وَمَعْنَاهُ الْحَافِظُ عَلَيْهِمْ وَالْعَالِمُ بِهِمْ وَالشَّاهِدُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَصْلُهُ الْمُرَاقَبَةُ أَيْ الْمُرَاعَاةُ وَمِنْهُ الْمَرْقَبَةُ «6» لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الرَّقِيبِ مِنْ علو المكان. (وأنت على كل شي شَهِيدٌ) أَيْ مِنْ مَقَالَتِي وَمَقَالَتِهِمْ وَقِيلَ: عَلَى مَنْ عَصَى وَأَطَاعَ، خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ [حُفَاةً] «7» عُرَاةً غُرْلًا «8» " كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ"] الأنبياء: 104] أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ:" وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" قَالَ: فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا] مدبرين [«9» مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم).

[سورة المائدة (5): آية 118]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" مِثْلُهُ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ «10»، وَالْآيَةُ:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".
__________
(1). راجع ج 15 ص 260.
(2). راجع ج 7 ص 5.
(3). راجع ج 4 ص 99.
(4). من ك. [ ..... ]
(5). من ك.
(6). في الأصول: الرقبة. والمثبت هو اللغة.
(7). الزيادة عن صحيح مسلم.
(8). غرل (جمع أغرل) أي غير مختونين والمراد- والله أعلم- إنهم يحشرون كما خلقوا لا شي معهم ولا ينقص منهم شي بل يتم لهم كل ما نقص منهم. (هامش مسلم).
(9). من ك وهـ وب وع.
(10). أي يقرأ بآية يرددها في صلاته حتى أصبح.

(6/377)


وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ فَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: فَإِنَّهُمْ عَصَوْكَ. وَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالِاسْتِجَارَةِ مِنْ عَذَابِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لِكَافِرٍ. وَقِيلَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ". لِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي" إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهَذَا حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَغْفِرُ لَهُ فَقَوْلٌ مُجْتَرِئٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُنْسَخُ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَ عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا مَعَاصِيَ وَعَمِلُوا بَعْدَهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُودِ دِينِهِ فَقَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَ:" فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْقِصَّةُ مِنَ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالتَّفْوِيضِ لِحُكْمِهِ. وَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَوْهَمَ الدُّعَاءَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فَالتَّقْدِيرُ إِنْ تُبْقِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَتُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَهْدِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِكَ وَطَاعَتِكَ فَتَغْفِرُ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ مَا تُرِيدُهُ، الْحَكِيمُ فِيمَا تَفْعَلُهُ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ:" فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ" الشِّفَا" وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ مَنْ قال إن قوله:" فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" لَيْسَ بِمُشَاكِلٍ لِقَوْلِهِ:" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" لِأَنَّ الَّذِي يُشَاكِلُ الْمَغْفِرَةَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ- وَالْجَوَابُ- أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَمَتَى نُقِلَ إِلَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ ضَعُفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ تَعَلُّقٌ وَهُوَ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاجْتَمَعَ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْمُسْلِمُونَ مَقْرُونٌ بِالشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوَّلِهِمَا وَآخِرِهِمَا إِذْ تَلْخِيصُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنَ التَّعْذِيبِ وَالْغُفْرَانِ فَكَانَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْيَقَ بِهَذَا الْمَكَانِ لِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يَصْلُحِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إِذْ لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ الْعُمُومِ مَا احْتَمَلَهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَا شَهِدَ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ

(6/378)


قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

كُلِّهَا وَالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى وَأَثْبَتُ مَعْنًى فِي الْآيَةِ مِمَّا يَصْلُحُ لِبَعْضِ الْكَلَامِ دُونَ بَعْضٍ. خَرَّجَ مُسْلِمٌ] مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ [«1» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ" رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" «2»] إبراهيم: 36] وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِي) وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ- وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ- وَهُوَ أَعْلَمُ- فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ] لَهُ [«3» إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَمَعْنَاهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى نَسَقِهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّاهُ. وبالله التوفيق.

[سورة المائدة (5): آية 119]
قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أَيْ صِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهَا الصِّدْقُ وَصِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِدْقَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكَهُمُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ وَفِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَكُونُ وَجْهُ النَّفْعِ فِيهِ أَنْ يُكْفَوُا الْمُؤَاخَذَةَ بِتَرْكِهِمْ كَتْمَ الشَّهَادَةِ فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" يَوْمَ" بِالنَّصْبِ. وَرَفَعَ الْبَاقُونَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ
__________
(1). من: ك.
(2). راجع ج 9 ص 368.
(3). من ع.

(6/379)


ف يَوْمُ يَنْفَعُ خَبَرٌ لِ"- هَذَا" وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْقَوْلِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ فَحَكَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ نَصْبُ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: هِيَ جَائِزَةٌ بِمَعْنَى قال الله هذا لعيسى بن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فيوم ظرف للقول و" هذا" مَفْعُولُ الْقَوْلِ وَالتَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ فِي يَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَنْفَعُ يَوْمَ القيامة. وقال الكسائي والفراء: بني يوم ها هنا عَلَى النَّصْبِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ اسْمٍ، كَمَا تَقُولُ: مَضَى يَوْمَئِذٍ وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ «1»:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
الزَّجَّاجُ: وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ مَا قَالَاهُ إِذَا أَضَفْتَ الظَّرْفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَاضٍ كَانَ جَيِّدًا كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْتِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُضَافَ الْفِعْلُ إِلَى ظُرُوفِ الزَّمَانِ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا ظَرْفًا وَيَكُونَ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ" هَذَا" لِأَنَّهُ مُشَارٌ بِهِ إِلَى حَدَثٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ تَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْأَحْدَاثِ تَقُولُ: الْقِتَالُ الْيَوْمَ وَالْخُرُوجُ السَّاعَةَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْقَوْلِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" هَذَا" فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء و" يَوْمُ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ يَقَعُ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَفِيهِ قِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ" يَوْمٌ يَنْفَعُ" بِالتَّنْوِينِ" الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ" فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ" فِيهِ" مِثْلَ قَوْلِهِ:" وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً" «2»] البقرة: 48] وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَهُمْ جَنَّاتٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." تَجْرِي" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ." مِنْ تَحْتِهَا" أَيْ مِنْ تَحْتِ غُرَفِهَا وَأَشْجَارِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ثَوَابَهُمْ وَأَنَّهُ رَاضٍ عنهم رضا لا يغضب
__________
(1). البيت للنابغة والشاهد في إضافة (حين) إلى الفعل وبنائها معه على الفتح.
(2). راجع ج 1 ص 376.

(6/380)


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

بَعْدَهُ أَبَدًا" وَرَضُوا عَنْهُ" أَيْ عَنِ الْجَزَاءِ الَّذِي أَثَابَهُمْ بِهِ. (ذلِكَ الْفَوْزُ) " أَيِ الظَّفَرُ" (الْعَظِيمُ) " أَيِ الذِي عَظُمَ خَيْرُهُ وَكَثُرَ، وَارْتَفَعَتْ منزلة صاحبه وشرف.

[سورة المائدة (5): آية 120]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الْآيَةَ [«1» جَاءَ هَذَا عَقِبَ مَا جَرَى مِنْ دَعْوَى النَّصَارَى فِي عِيسَى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ دُونَ عِيسَى وَدُونَ سَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ يُعْطِي الْجَنَّاتِ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لِلْمُطِيعِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. تَمَّتْ سورة" المائدة" بحمد الله تعالى.
__________
(1). من ب وج وك.

(6/381)