تفسير القرطبي تفسير سورة الأنعام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَنْعَامِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا
آيَتَيْنِ مِنْهَا نزلنا بِالْمَدِينَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ"] الانعام: 91] نزلت في
مالك بن الصيف وكعب ابن الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ
وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ:" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ"] الانعام: 141] نَزَلَتْ
فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بن جبل وقاله
الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ سُورَةُ"
الْأَنْعَامِ" مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ
بِالْمَدِينَةِ" وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ" إِلَى
آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ وَ" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ"] الانعام: 151] إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ
آيَاتٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ الْآيَاتُ
الْمُحْكَمَاتُ وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ قَوْلَهُ
تَعَالَى:" قُلْ لَا أَجِدُ" نَزَلَ بِمَكَّةَ يَوْمَ عَرَفَةَ
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرَ
السِّتِّ الْآيَاتِ وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ
آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ وَهِيَ"
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ"]
الانعام: 59] نَزَلُوا بِهَا لَيْلًا لَهُمْ زَجَلٌ «1»
بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ
لَيْلَتِهِمْ. وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ
رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ مَوْلَى الْحَضَارِمَةِ قَالَ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرٍ الْعُمَرِيُّ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بن طلحة
ابن عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ نَافِعٍ أَبِي سَهْلِ «2»
بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَزَلَتْ سُورَةُ
الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَدَّ مَا
بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ)
وَالْأَرْضُ لَهُمْ تَرْتَجُّ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «3». وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] «4» قَالَ: الْأَنْعَامُ مِنْ
نَجَائِبِ «5» الْقُرْآنِ. وَفِيهِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ:
فَاتِحَةُ" التَّوْرَاةِ" فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ
وَخَاتِمَتُهَا خاتمة
__________
(1). زجل: صوت رفيع عال.
(2). في ج وب وى: أبي سهيل، وفي غيرهما: ابن سهيل. والصحيح ما
أثبتناه عن التهذيب. [ ..... ]
(3). في ح الجمل عن القرطبي: ثم خر ساجدا.
(4). من ع.
(5). نجائب القرآن ونواجيه: أفاضل سوره. (النهاية).
(6/382)
الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (1)
" هُودٍ". وَقَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ
أَيْضًا. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
إِنَّ" التَّوْرَاةَ" افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ:" الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ"] الانعام: 1
[الْآيَةَ وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ" «1»] الاسراء: 111] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَذَكَرَ
الثَّعْلَبِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ
أَوَّلِ سُورَةِ" الانعام" إلى قوله:" وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ"] الانعام: 3] وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ مَلَكٍ يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْلَ عِبَادَتِهِمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ «2» مِنْ حَدِيدٍ، فَإِذَا
أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُ أَوْ يُوحِيَ فِي
قَلْبِهِ شَيْئًا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَيَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَابًا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" امْشِ فِي ظِلِّي
يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ جَنَّتِي
وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ
السَّلْسَبِيلِ فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ". وَفِي
الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ
تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ
وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ" الْأَنْعَامِ"" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ" إلى قوله:"
وَما كانُوا مُهْتَدِينَ" «3»] الانعام: 140]. تَنْبِيهٌ-
قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ «4» فِي
مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ
وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَهَذَا يَقْتَضِي
إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى
وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ
الدِّينِ لِأَنَّ فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ تَرُدُّ عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ دُونَ السُّوَرِ الَّتِي تَذْكُرُ
وَالْمَذْكُورَاتِ وَسَنَزِيدُ «5» ذَلِكَ بَيَانًا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ بِحَوْلِ الله تعالى] وعونه [«6».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (6): آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ.
__________
(1). راجع ج 10 ص 344.
(2). المرزبة (بالتخفيف) ويقال لها: الإرزبة (بالهمزة
والتشديد). المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. (النهاية).
(3). راجع ج 7 ص 96.
(4). في ع: أمثل.
(5). في ب وج وع وى: وستري ذلك مبينا.
(6). من ك.
(6/383)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى" الْحَمْدُ
لِلَّهِ" بَدَأَ سُبْحَانَهُ فَاتِحَتَهَا بِالْحَمْدِ عَلَى
نَفْسِهِ وَإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ أَيْ إِنَّ الْحَمْدَ
كُلَّهُ لَهُ فَلَا شَرِيكَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ
افْتُتِحَ غَيْرُهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَكَانَ
الِاجْتِزَاءُ بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِرِهِ فَيُقَالُ:
لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعِهِ لَا
يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَجْلِ عَقْدِهِ بِالنِّعَمِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى (الْحَمْدِ) فِي
الْفَاتِحَةِ «1». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ
وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ أَيِ
اخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ. وَالْخَلْقُ
يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى
التَّقْدِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ هُنَا
وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِمَا فَرَفَعَ السَّمَاءَ
بِغَيْرِ عَمَدٍ وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةً مِنْ غَيْرِ أَوَدٍ
«2» وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ
وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَابَ
وَالْغُيُومَ عَلَامَتَيْنِ وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَأَوْدَعَهَا
الْأَرْزَاقَ وَالنَّبَاتَ وَبَثَّ فِيهَا من كل دابة آيات
وجعل فِيهَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا وَسُبُلًا فِجَاجًا
وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارَ وَفَجَّرَ فِيهَا
الْعُيُونَ مِنَ الْأَحْجَارِ دَلَالَاتٍ عَلَى
وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أنه خالق كل شي. الثَّالِثَةُ-
خَرَّجَ مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يونس وهرون
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
إِسْمَاعِيلُ بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله ابن رَافِعٍ
مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ
فَقَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ
السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ
وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجمعة
فيما بين العصر إلى الليل).
__________
(1). راجع ج 1 ص 131 وما بعدها.
(2). الأود: العوج.
(6/384)
قُلْتُ: أَدْخَلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا
الْحَدِيثَ تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ
أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ التَّوَارِيخِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ
أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ
وَإِبْرَاهِيمَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ
حَدِيثِ أَبَى هُرَيْرَةَ (خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ
السَّبْتِ). فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ رَوَاهُ
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ إسماعيل بن
أمية عن أيوب بن خالد عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ قَالَ عَلِيٌّ:
وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى فَقَالَ
لِي: شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ وَقَالَ لِي
شَبَّكَ بِيَدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ وَقَالَ لِي:
شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ لِي: شَبَّكَ
بِيَدِي أَبُو الْقَاسِمِ [رَسُولُ اللَّهِ] «1» صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ
الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيلَ
بْنَ أُمَيَّةَ أَخَذَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا مِنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ
تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْنَ
عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الشَّرُودِ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
سُلَيْمٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ- وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا
يُوَافِقُهَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا
شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) قَالَ فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَدَأَ
الْخَلْقَ فَخَلَقَ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ ويوم الاثنين
وخلق السموات يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْخَمِيسِ
وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمَا بَيْنَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ خَلَقَ آدَمَ
خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَا يَوْمَ
السَّبْتِ وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2» عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ
أَيُّمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْضُ أَوِ السماء «3» مستوفى.
والحمد لله.
__________
(1). من ج.
(2). راجع ج 1 ص 256 - 255 وما بعدها.
(3). راجع ج 1 ص 256 - 255 وما بعدها. [ ..... ]
(6/385)
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ذَكَرَ بَعْدَ خَلْقِ
الْجَوَاهِرِ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ لِكَوْنِ الْجَوْهَرِ لَا
يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَوَادِثِ
فَهُوَ حَادِثٌ. وَالْجَوْهَرُ فِي اصْطِلَاحِ
الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ
الْحَامِلُ لِلْعَرَضِ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِهِ فِي
الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ
الْحُسْنَى فِي اسْمِهِ" الْوَاحِدِ". وَسُمِّيَ الْعَرَضُ
عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِضُ فِي الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ
فَيَتَغَيَّرُ بِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْجِسْمُ هُوَ
الْمُجْتَمَعُ وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِسْمِ
جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ
دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا
مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاءُ
وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامَهُمْ
وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى
الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَقَالَ السُّدِّيُّ
وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ سَوَادُ
اللَّيْلِ وَضِيَاءُ النَّهَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ
وَالْإِيمَانُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ
الظَّاهِرِ. قُلْتُ: اللَّفْظُ يَعُمُّهُ وَفِي التَّنْزِيلِ:"
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ"
«1»] الانعام: 122]. وَالْأَرْضُ هُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ
فَإِفْرَادُهَا فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِهَا
وَكَذَلِكَ" وَالنُّورَ" وَمِثْلُهُ" ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا" «2»] غافر: 67] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا
يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ
يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ فَيَكُونُ
الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدُ
مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ
وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقِيلَ: جَمَعَ"
الظُّلُماتِ" وَوَحَّدَ" النُّورَ" لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا
تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ
أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ:" جَعَلَ" هُنَا
زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ" جَعَلَ" فِي الْكَلَامِ
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً ...
وَالْوَاحِدَ «4» اثْنَيْنِ لَمَّا هدني الكبر
__________
(1). راجع ج 7 ص 78.
(2). راجع ج 12 ص 11.
(3). تمام البيت:
فإن زمانكم زمن خميص
يقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم حتى تعتادوا ذلك فإن الزمان ذو
مخمصة وجدب.
(4). ورد البيت في ج 1 ص 228 (والأربع اثنين) والصواب ما هنا.
(6/386)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ بِمَعْنَى
خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ
إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى وَمَحَامِلُ جَعَلَ فِي (الْبَقَرَةِ) «1»
مُسْتَوْفًى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ
لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَ" ثُمَّ"
دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فعل الكافرين لان المعنى: أن خلقه
السموات وَالْأَرْضَ قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتَهُ قَدْ سَطَعَتْ
وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
كُلِّهِ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ: يَا
فُلَانُ أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ
ثُمَّ تَشْتُمُنِي وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي
هَذَا وَنَحْوِهِ لَمْ يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم.
[سورة الأنعام (6): آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)
الْآيَةُ خَبَرٌ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا
وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَعَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ الْأَكْثَرِ
أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْخَلْقُ
نَسْلُهُ وَالْفَرْعُ يُضَافُ إِلَى أَصْلِهِ فَلِذَلِكَ
قَالَ:" خَلَقَكُمْ" بِالْجَمْعِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ
الْخِطَابِ لَهُمْ إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ، هَذَا قَوْلُ
الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَالسُّدِّيِّ
وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الثَّانِي: أَنْ
تَكُونَ النُّطْفَةُ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ طِينٍ عَلَى
الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ
مِنْهَا ذَكَرَهُ النحاس. قلت: وبالجملة فلما ذكر عز وجل
خَلْقَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ خَلْقَ
الْعَالَمِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ فِيهِ مَا
فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي"
الْبَقَرَةِ" «2» فِي آيَةِ التَّوْحِيدِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[«3» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ
الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالرَّحِمِ يَأْخُذُ
النُّطْفَةَ فَيَضَعُهَا عَلَى كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا
رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ
مُخَلَّقَةً قَالَ: يَا رَبِّ مَا الرِّزْقُ مَا الْأَثَرُ مَا
الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ: انْظُرْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
فَيَنْظُرُ فِي اللَّوْحِ
__________
(1). راجع ج 1 ص 228.
(2). راجع ج 2 ص 202 وما بعدها.
(3). من ع.
(6/387)
الْمَحْفُوظِ فَيَجِدُ فِيهِ رِزْقَهُ
وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَيَأْخُذُ التُّرَابَ
الَّذِي يُدْفَنُ فِي بُقْعَتِهِ وَيَعْجِنُ بِهِ نُطْفَتَهُ
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ" «1» [طه: 55]. وَخَرَّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ
مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ". قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
كُلُّ إِنْسَانٍ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ وَمَاءٍ مَهِينٍ كَمَا
أَخْبَرَ عز وجل فِي سُورَةِ" الْمُؤْمِنُونَ" «2»
فَتَنْتَظِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَيَرْتَفِعُ
الْإِشْكَالُ وَالتَّعَارُضُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا
الْإِخْبَارُ عَنْ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي] الْبَقَرَةِ [«3» ذِكْرُهُ وَاشْتِقَاقُهُ
وَنَزِيدُ هُنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ وَنَعْتَهُ وَسِنَّهُ
وَوَفَاتَهُ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي" الطَّبَقَاتِ" عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الناس وَلَدُ آدَمَ وَآدَمُ مِنَ
التُّرَابِ) وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَلَقَ
اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا
دَجْنَاءُ «4» قَالَ الْحَسَنُ: وَخَلَقَ جُؤْجُؤَهُ «5» مِنْ
ضَرِيَّةٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ضَرِيَّةٌ قَرْيَةٌ لِبَنِي
كِلَابٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ
أَقْرَبُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى بَعَثَ إِبْلِيسَ فَأَخَذَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ
مِنْ عَذْبِهَا وَمَالِحْهَا فَخَلَقَ منه آدم عليه السلام فكل
شي خَلَقَهُ مِنْ عَذْبِهَا فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ
وإن كان ابن كافر وكل شي خَلَقَهُ مِنْ مَالِحِهَا فَهُوَ
صَائِرٌ إِلَى النَّارِ وَإِنْ كَانَ ابْنَ تَقِيٍّ «6» فَمِنْ
ثَمَّ قَالَ إبليس" أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً" «7»]
الاسراء: 61] لِأَنَّهُ جَاءَ بِالطِّينَةِ فَسُمِّيَ آدَمُ،
لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فِي آخِرِ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا
خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ كَانَ رَأْسُهُ يَمَسُّ السَّمَاءَ قَالَ
فَوَطَّدَهُ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ سِتِّينَ ذِرَاعًا
فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
قَالَ: كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُوَالًا «8» جَعْدًا
كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ «9». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ- وَحَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ
الْهِنْدِ إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ حَجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ
وَكَانَ آدَمُ حِينَ أُهْبِطَ تَمْسَحُ رَأْسُهُ السَّمَاءَ
فَمِنْ ثَمَّ صَلِعَ وَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ وَنَفَرَتْ
مِنْ طُولِهِ دَوَابُّ الْبَرِّ فَصَارَتْ وَحْشًا مِنْ
يَوْمَئِذٍ وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ
وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَتُوُفِّيَ على ذروة
__________
(1). راجع ج 11 ص 12 0.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج 1 ص 279.
(4). دجناء (بالمد والقصر). ويروى بالحاء المهملة وهي مضبوطة
في (اللسان) و (النهاية) بفتح الدال. وقال صاحب القاموس: (وهي
بالضم والكسر).
(5). الجؤجؤ: الصدر.
(6). في ع: نبي.
(7). راجع ج 10 ص 286. [ ..... ]
(8). الطوال (بالضم): المفرط الطول.
(9). النخلة السحوق الطويلة.
(6/388)
الْجَبَلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ
فَقَالَ شِيثُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:" صَلِّ
عَلَى آدَمَ" فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ عَلَى أَبِيكَ وَكَبِّرْ عَلَيْهِ
ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً فَأَمَّا خَمْسٌ فَهِيَ الصَّلَاةُ
وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ تَفْضِيلًا لِآدَمَ. وَقِيلَ: كَبِّرْ
عَلَيْهِ أَرْبَعًا فَجَعَلَ بَنُو شِيثَ آدَمَ فِي مَغَارَةٍ
وَجَعَلُوا عَلَيْهَا حَافِظًا لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ مِنْ
بَنِي قَابِيلَ وَكَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ بَنُو شِيثَ وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ
تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَيُقَالُ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْجَوَاهِرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؟ الْجَوَابُ نَعَمْ
لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ الطِّينُ إِنْسَانًا
حَيًّا قَادِرًا عَلِيمًا جَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى كُلِّ
حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْجَوَاهِرِ لِتَسْوِيَةِ الْعَقْلِ
بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ صَحَّ انْقِلَابُ
الْجَمَادِ إِلَى الْحَيَوَانِ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ قَضى أَجَلًا" مَفْعُولٌ." وَأَجَلٌ
مُسَمًّى عِنْدَهُ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ:"
أَجَلًا" فِي الْمَوْتِ" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" أَجَلُ
الْقِيَامَةِ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: حَكَمَ أَجَلًا
وَأَعْلَمَكُمْ أَنَّكُمْ تُقِيمُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَلَمْ
يُعْلِمْكُمْ بِأَجَلِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَخَصِيفٌ «1» وَقَتَادَةُ- وَهَذَا
لَفْظُ الْحَسَنِ-: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مِنْ يَوْمِ
خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ"
يَعْنِي الْآخِرَةَ. وَقِيلَ:" قَضى أَجَلًا" مَا
أَعْلَمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مِنَ
الْآخِرَةِ وَقِيلَ:" قَضى أَجَلًا" مِمَّا نَعْرِفُهُ مِنْ
أَوْقَاتِ الْأَهِلَّةِ وَالزَّرْعِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا «2» "
وَأَجَلٌ مُسَمًّى" أَجَلُ الْمَوْتِ لَا يَعْلَمُ
الْإِنْسَانُ مَتَى يَمُوتُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ" قَضى أَجَلًا" بِقَضَاءِ
الدُّنْيَا،" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" لِابْتِدَاءِ
الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ فِي
النَّوْمِ وَالثَّانِي قَبْضُ الرُّوحِ عِنْدَ الْمَوْتِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ: أَيْ تَشُكُّونَ فِي
أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ: تُمَارُونَ فِي ذَلِكَ أَيْ
تُجَادِلُونَ جِدَالَ الشَّاكِّينَ «3» وَالتَّمَارِي
الْمُجَادَلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّكِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى " «4»] النجم: 12].
__________
(1). (في التهذيب): هو مصغر وفي القاموس: هو كأمير.
(2). في ع وى: أشبهها.
(3). في ع: المشركين.
(4). راجع ج 17 ص 92.
(6/389)
وَهُوَ اللَّهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (5)
[سورة الأنعام (6): الآيات 3 الى 5]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَما
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا
عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي
الْأَرْضِ) يُقَالُ: مَا عَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي الظَّرْفِ
مِنْ" فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ"؟ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا- أَيْ وَهُوَ اللَّهُ الْمُعَظَّمُ أَوِ
الْمَعْبُودُ في السموات وَفِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ:
زَيْدٌ الْخَلِيفَةُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَيْ حُكْمُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في
السموات وَفِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ فِي حَاجَاتِ
النَّاسِ وَفِي الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا
بَعْدَ خَبَرٍ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي
السموات وَهُوَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا يخفى
عليه شي، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا «1» مِنْ أَحْسَنِ مَا
قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ اللَّهُ
في السموات وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ
فَيَعْلَمُ مُقَدَّمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَسْلَمُ
وَأَبْعَدُ مِنَ الْإِشْكَالِ وقيل غير هذا. والقاعدة تنزيهه
عز وجل عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَشَغْلِ
الْأَمْكِنَةِ. (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) أَيْ مِنْ خَيْرٍ
وَشَرٍّ. وَالْكَسْبُ الْفِعْلُ لِاجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ
دَفْعِ ضَرَرٍ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِفِعْلِ اللَّهِ كَسْبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أَيْ
عَلَامَةٍ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهَا. وَ" مِنْ"
لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، تَقُولُ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ
أَحَدٍ. (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) " مِنْ" الثانية للتبعيض. و
(مُعْرِضِينَ) خَبَرُ" كانُوا". وَالْإِعْرَاضُ تَرْكُ
النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَسْتَدِلُّوا
بِهَا عَلَى توحيد الله عز وجل من خلق السموات وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَدِيمٍ] حَيٍّ
[«2» غَنِيٍّ عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَادِرٍ لَا يعجزه شي
عالم لا يخفى عليه شي مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَقَامَهَا
لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3»،
لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ فِي جميع ما أتى به «4».
__________
(1). في ك: وهذا أحسن. إلخ.
(2). من ك.
(3). من ع.
(4). في ع: يأتي.
(6/390)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ
عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَدْ كَذَّبُوا) "
يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. (بِالْحَقِّ) يَعْنِي الْقُرْآنَ،
وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) أَيْ يَحِلُّ بِهِمِ العقاب، وأراد
بالإنباء وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْعَذَابَ، كَقَوْلِكَ: اصْبِرْ
وَسَوْفَ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ أَيِ الْعَذَابُ، وَالْمُرَادُ
مَا نَالَهُمْ يَوْمَ بدر ونحوه. وقيل: يوم القيامة.
[سورة الأنعام (6): آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا
الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
(6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) " كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِأَهْلَكْنَا لَا بِقَوْلِهِ" أَلَمْ يَرَوْا" لِأَنَّ لَفْظَ
الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا
يَعْمَلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُ صَدْرَ
الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَنْ
أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِتَكْذِيبِهِمْ
أَنْبِيَاءَهُمْ أَيِ أَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَالْقَرْنُ
الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ. وَالْجَمْعُ الْقُرُونُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
إِذَا ذَهَبَ الْقَرْنُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمْ ...
وَخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب
فالقرن كل عَالَمٌ فِي عَصْرِهِ مَأْخُوذٌ مِنِ الِاقْتِرَانِ
أَيْ عَالَمٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَفِي
الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ «1» قَرْنِي- يَعْنِي أَصْحَابِي «2»
- ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)
هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مِنْ
أَهْلِ قرن فحذف كقوله:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"] يوسف: 82].
فَالْقَرْنُ عَلَى هَذَا مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ:
سِتُّونَ عَامًا وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ،
وَقِيلَ: مِائَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةُ سَنَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ:" تَعِيشُ قَرْنًا" فَعَاشَ مِائَةَ
سَنَةٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. واصل القرن الشيء الطالع كقرن
ماله قَرْنٌ مِنَ الْحَيَوَانِ. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) خُرُوجٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى
الخطاب، عكسه"
__________
(1). في ع: خيركم. وهي رواية في البخاري ومسلم وأبي داود
والترمذي والنسائي.
(2). في ك: الصحابة.
(6/391)
وَلَوْ نَزَّلْنَا
عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
(7)
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ" «1»] يونس: 22]. وَقَالَ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ. أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ" أَلَمْ
يَرَوْا" وَفِيهِمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ مَعَهُمْ، وَالْعَرَبُ
تَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَهُ: وَقُلْتُ
لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَكَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْغَيْبَةِ لَقَالَ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ. وَيَجُوزُ مَكِّنْهُ وَمَكِّنْ لَهُ، فَجَاءَ
بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ
نُعْطِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ
عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يُرِيدُ الْمَطَرَ الْكَثِيرَ، عَبَّرَ
عَنْهُ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ،
وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر «2»
إذا سقط السماء بأرض قوم
و" مِدْراراً" بِنَاءٌ دَالٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، كَمِذْكَارٍ
لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا لِلذُّكُورِ،
وَمِئْنَاثٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَلِدُ الْإِنَاثُ، يُقَالُ:
دَرَّ اللَّبَنَ يَدِرُّ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ
بِكَثْرَةٍ. وَانْتَصَبَ" مِدْراراً" عَلَى الْحَالِ.
وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ مِنْ
تَحْتِ أَشْجَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ
فِرْعَوْنَ:" وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" «3»]
الزخرف: 51] وَالْمَعْنَى: وَسَّعْنَا عَلَيْهِمُ النِّعَمَ
فَكَفَرُوهَا. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أَيْ
بِكُفْرِهِمْ فَالذُّنُوبُ سَبَبُ الِانْتِقَامِ وَزَوَالِ
النِّعَمِ. (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)
أَيْ أَوْجَدْنَا، فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.
[سورة الأنعام (6): آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ) الْآيَةَ. الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا يَا
مُحَمَّدُ بِمَرْأًى مِنْهُمْ كَمَا زَعَمُوا وَطَلَبُوا
كَلَامًا مَكْتُوبًا" فِي قِرْطاسٍ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
كِتَابًا مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا
يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى وَجْهَيْنِ،
أَحَدُهُمَا- عَلَى مَعْنَى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
بِمَعْنَى نُزُولِ الْمَلَكِ بِهِ. وَالْآخَرُ- وَلَوْ
نَزَّلْنَا كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ يمسكه الله بين السماء
والأرض،
__________
(1). راجع ج 8 ص 324.
(2). هو معود الحكماء- معاوية بن مالك- وفي ك: نزل السماء. وهي
رواية: وهذا صدر بيت له، وتمامه:
رعيناه إن كانوا غضابا
وسمي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا
[ ..... ]
(3). راجع ج 16 ص 98.
(6/392)
وَقَالُوا لَوْلَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (10)
وَقَالَ:" نَزَّلْنا" عَلَى الْمُبَالَغَةِ
بِطُولِ مُكْثِ الْكِتَابِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ
الْكِتَابَةَ فِي قِرْطَاسٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ
كِتَابَةً إِلَّا «1» فِي قِرْطَاسٍ أَيْ فِي صَحِيفَةٍ
وَالْقِرْطَاسُ الصَّحِيفَةُ، وَيُقَالُ: قِرْطَاسٌ
بِالضَّمِّ، وَقَرْطَسَ فُلَانٌ إِذَا رَمَى فَأَصَابَ
الصَّحِيفَةَ الْمُلْزَقَةَ بِالْهَدَفِ. (فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ) أَيْ فَعَايَنُوا ذَلِكَ وَمَسُّوهُ بِالْيَدِ
كَمَا اقْتَرَحُوا وَبَالَغُوا فِي مَيْزِهِ وَتَقْلِيبِهِ
جَسًّا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إِشْكَالٍ،
لَعَانَدُوا فِيهِ وَتَابَعُوا «2» كُفْرَهُمْ، وَقَالُوا:
سِحْرٌ مُبِينٌ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا وَسُحِرْنَا،
وَهَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ:" حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ" «3»] الاسراء: 93] فَأَعْلَمَ
اللَّهُ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ
لَكَذَّبُوا بِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نزلت في النضر بن الحرث
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلِ بْنِ
خُوَيْلِدٍ قَالُوا:" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً" «4»] الاسراء: 90] الآية.
[سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا
مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا
عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ
مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)
اقْتَرَحُوا هَذَا أَيْضًا. وَ" ذَلُولًا" بِمَعْنَى هَلَّا.
(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَوْ رَأَوْا الْمَلَكَ عَلَى صُورَتِهِ لَمَاتُوا
إِذْ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَتَهُ. مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ:
لَقَامَتِ السَّاعَةُ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:
لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ
أَجْرَى سُنَّتَهُ بِأَنَّ مَنْ طَلَبَ آيَةً فَأُظْهِرَتْ
لَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ أهلكه الله في الحال. أي (لَا
يُنْظَرُونَ) أَيْ لَا يُمْهَلُونَ وَلَا يُؤَخَّرُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلًا) أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي
صُورَتِهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَسُّمِ بِالْأَجْسَامِ
الْكَثِيفَةِ، لِأَنَّ كله جِنْسٍ يَأْنَسُ بِجِنْسِهِ
وَيَنْفِرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَنَفَرُوا مِنْ
مُقَارَبَتِهِ، وَلَمَا أَنِسُوا بِهِ، ولداخلهم
__________
(1). في ب وع وى:: لا في قرطاس.
(2). في ع: وبالغوا في كفرهم.
(3). راجع ج 10 ص 327.
(4). راجع ج 10 ص 327.
(6/393)
قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
مِنَ الرُّعْبِ مِنْ كَلَامِهِ
وَالِاتِّقَاءِ لَهُ مَا يَكْفِهِمْ عَنْ كَلَامِهِ،
وَيَمْنَعْهُمْ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا تَعُمُّ الْمَصْلَحَةُ
وَلَوْ نَقَلَهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مِثْلِ
صُورَتِهِمْ لِيَأْنَسُوا بِهِ وَلِيَسْكُنُوا إِلَيْهِ
لَقَالُوا: لَسْتَ مَلَكًا وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ فَلَا
نُؤْمِنُ بِكَ وَعَادُوا إِلَى مِثْلِ حَالِهِمْ. وَكَانَتِ
الْمَلَائِكَةُ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ
فَأَتَوْا إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ،
وَأَتَى جِبْرِيلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ. أَيْ لو أنزل ملك لَرَأَوْهُ
فِي صُورَةِ رَجُلٍ «1» كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ،
وَلَوْ نَزَلَ عَلَى عَادَتِهِ لَمْ يَرَوْهُ، فَإِذَا
جَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا
يَقُولُونَ: هَذَا سَاحِرٌ مِثْلُكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى
رُؤَسَائِهِمْ كَمَا يَلْبِسُونَ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ وَكَانُوا
يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ وَلَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ فَرْقٌ فَيَلْبِسُونَ عَلَيْهِمْ
بِهَذَا «2» وَيُشَكِّكُونَهُمْ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ
لَوَجَدُوا سَبِيلًا إِلَى اللَّبْسِ كَمَا يَفْعَلُونَ.
وَاللَّبْسُ الْخَلْطُ، يُقَالُ: لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ
أُلْبِسَهُ لَبْسًا أَيْ خَلَطْتُهُ، وَأَصْلُهُ التستر بالثوب
ونحوه وقال:" لَلَبَسْنا" بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى
جِهَةِ الْخَلْقِ، وَقَالَ" مَا يَلْبِسُونَ" فَأَضَافَ
إِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الِاكْتِسَابِ. ثُمَّ قَالَ مُؤْنِسًا
لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَزِّيًا:"
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ" أَيْ
نَزَلَ بِأُمَمِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا أُهْلِكُوا بِهِ
جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ. حَاقَ
بِالشَّيْءِ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيْقَانًا نَزَلَ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ" «3»] فاطر: 43] و" ما" في قوله:" بِما
كانُوا" بِمَعْنَى الَّذِي وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ
أَيْ حاق بهم عاقبة استهزائهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 12]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا
رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ
يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ
الْمُسْتَسْخِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ: سَافِرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا وَاسْتَخْبِرُوا لِتَعْرِفُوا مَا حَلَّ
بِالْكَفَرَةِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعِقَابِ وَأَلِيمِ
الْعَذَابِ
__________
(1). في ب وع وي: لا في قرطاس
(2). في ع: يلبسون عليهم مثل هذا.
(3). راجع ج 14 ص 357.
(6/394)
وَهَذَا السَّفَرُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ
إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ بِآثَارِ مَنْ خَلَا
مِنَ الْأُمَمِ وَأَهْلِ الدِّيَارِ، وَالْعَاقِبَةُ آخِرُ
الْأَمْرِ. وَالْمُكَذِّبُونَ هُنَا مَنْ كَذَّبَ الْحَقَّ
وَأَهْلَهُ لَا مَنْ كَذَّبَ بِالْبَاطِلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هَذَا
[أَيْضًا] «1» احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ
يَا مُحَمَّدُ:" لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"
فَإِنْ قَالُوا لِمَنْ هُوَ؟ فَقُلْ [هُوَ] " لِلَّهِ"
الْمَعْنَى: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ ما في السموات
وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ خَالِقُ الْكُلِّ إِمَّا
بِاعْتِرَافِهِمْ أَوْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ،
فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ
وَيَبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَكِنَّهُ" كَتَبَ عَلى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" أَيْ وَعَدَ بِهَا فَضْلًا مِنْهُ
وَكَرَمًا فَلِذَلِكَ أُمْهِلَ وَذِكْرُ النَّفْسِ هُنَا
عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ، وَارْتِفَاعُ
الْوَسَائِطِ دُونَهُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ الِاسْتِعْطَافُ
مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَوَلِّينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ
إِلَيْهِ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ
بِعِبَادِهِ لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ،
وَيَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسوله
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا قَضَى
اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ
مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) أَيْ
لَمَّا أَظْهَرَ قَضَاءَهُ وَأَبْرَزَهُ لِمَنْ شَاءَ أَظْهَرَ
كِتَابًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِيمَا شَاءَهُ
مُقْتَضَاهُ خَبَرُ حَقٍّ وَوَعْدُ صِدْقٍ" إِنَّ رَحْمَتِي
تَغْلِبُ غَضَبِي" أَيْ تَسْبِقُهُ وَتَزِيدُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللَّامُ لَامُ
الْقَسَمِ، وَالنُّونُ نُونُ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ
الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ:" الرَّحْمَةَ" وَيَكُونُ مَا
بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفًا عَلَى جِهَةِ التَّبْيِينِ، فَيَكُونُ
مَعْنَى" لَيَجْمَعَنَّكُمْ" لَيُمْهِلَنَّكُمْ
وَلَيُؤَخِّرْنَ جَمْعَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
لَيَجْمَعَنَّكُمْ أَيْ فِي الْقُبُورِ إِلَى الْيَوْمِ
الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ. وَقِيلَ: (إِلى) بِمَعْنَى فِي، أَيْ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ" لَيَجْمَعَنَّكُمْ" نَصْبًا عَلَى
الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى
(أَنْ) الْمَعْنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ، أَيْ أَنْ يَجْمَعَكُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ
كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" ثُمَّ
بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ
لَيَسْجُنُنَّهُ" «2»] يوسف: 35] أَيْ أَنْ يَسْجُنُوهُ.
وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِ (- كَتَبَ)، كَمَا تَكُونُ
(أَنَّ) فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً
بِجَهالَةٍ"] الْأَنْعَامِ: 54] وَذَلِكَ أَنَّهُ مُفَسِّرٌ
لِلرَّحْمَةِ بِالْإِمْهَالِ إِلَى يَوْمِ القيامة، عن الزجاج.
__________
(1). في ك.
(2). راجع ج 9 ص 186.
(6/395)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
(لَا رَيْبَ فِيهِ) لَا شَكَّ فِيهِ.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَجْوَدُ
مَا قِيلَ فِيهِ، تَقُولُ: الَّذِي يُكْرِمُنِي فَلَهُ
دِرْهَمٌ، فَالْفَاءُ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ
وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ شِئْتَ كَانَ
(الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ
الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أَيْ
لَيَجْمَعَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَزَعَمَ أَنَّهُ
خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ مِنَ الْمُخَاطَبِ وَلَا مِنَ
الْمُخَاطِبِ، لَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٍ وَلَا
مَرَرْتُ بِي زَيْدٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يُشْكَلُ فَيُبَيَّنُ.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الَّذِينَ) جَزَاءً
عَلَى الْبَدَلِ مِنَ (الْمُكَذِّبِينَ) الَّذِينَ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ. أَوْ عَلَى النَّعْتِ لَهُمْ. وقيل: (الَّذِينَ)
نداء مفرد.
[سورة الأنعام (6): الآيات 13 الى 16]
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ
وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) أَيْ ثَبَتَ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ
أَيْضًا. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ إِلَّا
الْحَاجَةُ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى
تَصِيرَ أَغْنَانَا «1»، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
أَخْبِرْهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ، فَهُوَ
قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَنِي. وَ (سَكَنَ) مَعْنَاهُ هَدَأَ
وَاسْتَقَرَّ، وَالْمُرَادُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ،
فَحُذِفَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. وَقِيلَ: خَصَّ السَّاكِنَ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يَعُمُّهُ السُّكُونُ أَكْثَرُ مِمَّا
تَعُمُّهُ الْحَرَكَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى مَا خَلَقَ، فَهُوَ
عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَحَرِّكِهَا
وَسَاكِنِهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّكُونِ
ضِدَّ الْحَرَكَةِ بَلِ الْمُرَادُ الْخَلْقُ، وَهَذَا
أَحْسَنُ مَا قِيلَ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَقْوَالِ.
(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأصواتهم (الْعَلِيمُ) بأسرارهم.
__________
(1). في ع: من أغنيائنا، فأخبرهم سبحانه. إلخ.
(6/396)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا) مَفْعُولَانِ، لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دِينِ آبَائِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى" قُلْ" يَا مُحَمَّدُ:" أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ
وَلِيًّا" أَيْ رَبًّا وَمَعْبُودًا وَنَاصِرًا دُونَ اللَّهِ.
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْتِ
لِاسْمِ اللَّهِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ الرَّفْعَ عَلَى
إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ
النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ:
أَتْرُكُ فَاطِرَ السموات وَالْأَرْضِ؟ لِأَنَّ قَوْلَهُ:"
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا" يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ
الْوِلَايَةِ لَهُ، وَحُسْنِ إِضْمَارِهِ لِقُوَّةِ هَذِهِ
الدَّلَالَةِ. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) كَذَا
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، أَيْ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ، دليله
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ" «1»] الذاريات: 57] وَقَرَأَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ: وَهُوَ
يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ
أَنَّهُ يَرْزُقُ عِبَادَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَيْرُ
مُحْتَاجٍ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ
الْغِذَاءِ. وقرى بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ فِي
الْفِعْلَيْنِ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُ عِبَادَهُ
وَيَرْزُقُهُمْ وَالْوَلِيُّ «2» لَا يطعم نفسه ولا من يتخذه.
وقرى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ فِي الْأَوَّلِ أَيِ
الْوَلِيَّ (وَلَا يُطْعِمُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الْعَيْنِ. وَخَصَّ الْإِطْعَامَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ
مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْعَامِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ
أَمَسُّ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أَيِ اسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَخْلَصَ أَيْ مِنْ
قَوْمِي وَأُمَّتِي، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. (وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ وَقِيلَ لِي:" وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي) أَيْ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ أَنْ
يُعَذِّبَنِي، وَالْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ:" أَخافُ" هُنَا بِمَعْنَى أَعْلَمُ. (مَنْ
يُصْرَفْ عَنْهُ) أَيِ الْعَذَابُ" يَوْمَئِذٍ" يَوْمَ
الْقِيَامَةِ" فَقَدْ رَحِمَهُ" أَيْ فَازَ وَنَجَا وَرَحِمَ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" مَنْ يَصْرِفُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي
عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ:" قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ" وَلِقَوْلِهِ:" فَقَدْ رَحِمَهُ"
وَلَمْ يَقُلْ رُحِمَ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَلِقِرَاءَةِ
أُبَيٍّ" مَنْ يَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُ" وَاخْتَارَ
سِيبَوَيْهِ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى- قِرَاءَةَ أَهْلِ المدينة
وأبي عمروقال سِيبَوَيْهِ: وَكُلَّمَا قَلَّ الْإِضْمَارُ فِي
الْكَلَامِ كَانَ أولى، فأما قراءة] من قرأ [«3»
__________
(1). راجع ج 17 ص 55.
(2). الولي: الوثن.
(3). من ك. [ ..... ]
(6/397)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ
اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا
الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا
أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
" مَنْ يَصْرِفُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ
فَتَقْدِيرُهُ: مَنْ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ،
وَإِذَا قُرِئَ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) فَتَقْدِيرُهُ: مَنْ
يُصْرَفُ عَنْهُ الْعَذَابُ. (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)
أي النجاة البينة.
[سورة الأنعام (6): آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا
كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الْمَسُّ وَالْكَشْفُ مِنْ صِفَاتِ
الْأَجْسَامِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ وَتَوَسُّعٌ،
وَالْمَعْنَى: إِنْ تَنْزِلْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ شِدَّةٌ مِنْ
فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا رَافِعَ وَصَارِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ،
وَإِنْ يُصِبْكَ بِعَافِيَةٍ وَرَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ (فَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مِنَ الْخَيْرِ وَالضُّرِّ رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: (يَا غُلَامُ- أَوْ
يَا بُنَيَّ- أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ
بِهِنَّ)؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: (احْفَظِ اللَّهَ
يَحْفَظُكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ
إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا
سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ
بِاللَّهِ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ
أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ
بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ
واعمل الله بِالشُّكْرِ وَالْيَقِينِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي
الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ
النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ
وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ
ثَابِتٍ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ (الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ)
وَهُوَ حَدِيثٌ صحيح، وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 18 الى 19]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ
اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا
الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا
أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
(6/398)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ، وَالْقَاهِرُ
الْغَالِبُ، وَأُقْهِرَ الرَّجُلُ إِذَا صُيِّرَ بِحَالِ
الْمَقْهُورِ الذَّلِيلِ، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ جِذَاعُهُ ... فَأَمْسَى
حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا
وَقُهِرَ غُلِبَ. وَمَعْنَى (فَوْقَ عِبادِهِ) فَوْقِيَّةُ
الِاسْتِعْلَاءِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ
هُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ لَا فَوْقِيَّةَ مَكَانٍ، كَمَا
تَقُولُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ أَيْ
بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَفِي الْقَهْرِ مَعْنًى
زَائِدٌ لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ
بُلُوغِ الْمُرَادِ. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فِي أَمْرِهِ
(الْخَبِيرُ) بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ، أَيْ مَنِ اتَّصَفَ
بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ بِهِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) وَذَلِكَ
أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ.
وَلَفْظُ (شَيْءٍ) هُنَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى، الْمَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً أَيِ
انْفِرَادُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُ الْبَرَاهِينِ
عَلَى تَوْحِيدِهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَعْظَمُ، فَهُوَ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَلَى أَنِّي قَدْ بَلَّغْتُكُمْ
وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة. قوله تعالى: (وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أَيْ وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ
بِنُبُوَّتِي. (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) يَا أَهْلَ مَكَّةَ.
(وَمَنْ بَلَغَ) أَيْ وَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ. فَحَذَفَ
(الْهَاءَ) لِطُولِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: وَمَنْ بَلَغَ
الْحُلُمَ. وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغِ
الْحُلُمَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ وَلَا مُتَعَبَّدٍ. وَتَبْلِيغُ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَأْمُورٌ بِهِمَا، كَمَا أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَبْلِيغِهِمَا، فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" «2»] المائدة: 67]. وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلِّغُوا
عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (. وَفِي الْخَبَرِ
أَيْضًا، مَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ
بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ أَخَذَ بِهِ أَوْ تَرَكَهُ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: مَنْ
بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا قَدْ رَأَى مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ. وَقَرَأَ
أَبُو نَهِيكٍ: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) مُسَمَّى
الْفَاعِلِ، وهو معنى قراءة الجماعة. (أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى)
اسْتِفْهَامُ توبيخ
__________
(1). هو المخبل السعدي يهجو الزبرقان وقومه وجذاع الرجل قومه.
(2). راجع ص 242 من هذا الجزء.
(6/399)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ
نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
وتقريع. وقرئ (أَإِنَّكُمْ) بِهَمْزَتَيْنِ
عَلَى الْأَصْلِ. وَإِنْ خُفِّفَتِ الثَّانِيَةُ قُلْتُ:
(أَيِنَّكُمْ). وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو
وَنَافِعٍ (ءائنكم)، وَهَذِهِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، تُجْعَلُ
بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ أَلِفٌ كراهة لالتقائهما، قال الشاعر
«1»:
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ ... وَبَيْنَ
النَّقَا ءا أنت أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
وَمَنْ قَرَأَ" إِنَّكُمْ" عَلَى الْخَبَرِ فَعَلَى أَنَّهُ
قَدْ حَقَّقَ عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ. وَقَالَ:" آلِهَةً أُخْرى
" وَلَمْ يَقُلْ: (أُخَرُ)، قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ
الْآلِهَةَ جَمْعٌ وَالْجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها" «2»] طه: 51]، وقوله:" فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى " «3»] طه: 51] وَلَوْ قَالَ: الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
صَحَّ أَيْضًا «4». (قُلْ لَا أَشْهَدُ) أَيْ فَأَنَا لَا
أَشْهَدُ مَعَكُمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
وَنَظِيرُهُ" فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ" «5»]
الانعام: 150].
[سورة الأنعام (6): آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ).
يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَرَفُوا
وَعَانَدُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي (الْبَقَرَةِ)
«6». وَ (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ."
يَعْرِفُونَهُ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَيْ يَعْرِفُونَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: يَعُودُ
عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ يَعْرِفُونَهُ عَلَى مَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ
دَلَالَتِهِ عَلَى صِحَّةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ." الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ" فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ" فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ".
[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (22)
__________
(1). هو ذو الرمة والوعساء رملة لينة وجلاجل (بفتح الجيم) وفي
كتاب سيبويه (بضمها) موضع بعينه. والنقا الكثيب من الرمل.
(2). راجع ج 10 ص 342.
(3). راجع ج 11 ص 205.
(4). أي في غير القرآن.
(5). راجع ج 7 ص 129.
(6). راجع ج 2 ص 162 وما بعدها.
(6/400)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ (مِمَّنِ
افْتَرى) أَيِ اخْتَلَقَ (عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ
بِآياتِهِ) يُرِيدُ الْقُرْآنَ وَالْمُعْجِزَاتِ. (إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) قِيلَ: معناه في الدنيا، ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ فَقَالَ:" وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً" عَلَى
مَعْنَى وَاذْكُرْ" يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ". وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا
يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ
عَلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمُونَ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ.
وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ (انْظُرْ)
أَيِ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، أَيْ
كَيْفَ يَكْذِبُونَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ؟. (ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) سُؤَالُ إِفْضَاحٍ
لَا إِفْصَاحٍ «1». (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ فِي
أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِزَعْمِكُمْ،
وَأَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ مِنْهُ زُلْفَى، وَهَذَا تَوْبِيخٌ
لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ زَعْمٍ فِي القرآن فهو
كذب.
[سورة الأنعام (6): آية 23]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ
رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)
الْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ حِينَ
اخْتُبِرُوا بِهَذَا السُّؤَالِ، وَرَأَوُا الْحَقَائِقَ،
وَارْتَفَعَتِ الدَّوَاعِي «2». (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ
رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) تَبْرَءُوا مِنَ الشِّرْكِ
وَانْتَفَوْا مِنْهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ تَجَاوُزِهِ
وَمَغْفِرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَغْفِرُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ،
وَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، فَإِذَا
رَأَى الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ، قَالُوا إِنَّ رَبَّنَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَتَعَالَوْا نَقُولُ
إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ذُنُوبٍ وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ،
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَا إِذْ كَتَمُوا الشِّرْكَ
فَاخْتِمُوا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَيُخْتَمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
يَعْرِفُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3»] النساء: 42]. وَقَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفٌ
جِدًّا، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَصَصِ
الْمُشْرِكِينَ وَافْتِتَانِهِمْ بِشِرْكِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ
أَنَّ فِتْنَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ حِينَ رَأَوْا الْحَقَائِقَ
إِلَّا أَنِ انْتَفَوْا مِنَ الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي
اللُّغَةِ أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ غَاوِيًا فَإِذَا
وَقَعَ
__________
(1). في ك: لا إيضاح.
(2). في هـ وب وج وع: الدعاوى.
(3). راجع ج 5 ص 198.
(6/401)
انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24)
فِي هَلَكَةٍ تَبَرَّأَ مِنْهُ،
[فَيُقَالُ] «1»: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكُ إِيَّاهُ إِلَّا
أَنْ تَبَرَّأْتَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا خَاصٌّ
بِالْمُنَافِقِينَ جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا،
وَمَعْنَى (فِتْنَتُهُمْ) عَاقِبَةُ فِتْنَتِهِمْ أَيْ
كُفْرِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مَعْذِرَتُهُمْ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
(فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ «2» أَلَمْ
أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ [وَأُزَوِّجْكَ] «3» وَأُسَخِّرْ
لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ
فَيَقُولُ بَلَى [أَيْ رَبِّ] «4» فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ
أَنَّكَ مُلَاقِيَّ فَيَقُولُ لَا، فَيَقُولُ إِنِّي أَنْسَاكَ
كَمَا نَسِيتَنِي ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ
وَيَقُولُ هُوَ مِثْلَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يَلْقَى
الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ
آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ وَصَلَّيْتُ
وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ
قَالَ فَيُقَالُ ها هنا إِذًا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الْآنَ
نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ
وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي
فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ
وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ
وَذَلِكَ الَّذِي سخط الله عليه).
[سورة الأنعام (6): آية 24]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ
مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) كَذِبُ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ
عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى،
بَلْ ظَنُّوا ذَلِكَ وَظَنُّهُمُ الْخَطَأُ لَا يُعْذِرُهُمْ
وَلَا يُزِيلُ اسْمَ الْكَذِبِ عَنْهُمْ، وَكَذِبُ
الْمُنَافِقِينَ بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَجَحْدِهِمْ
نِفَاقَهُمْ. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ
فَانْظُرْ كَيْفَ ضَلَّ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ أَيْ تَلَاشَى
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ مِنْ شَفَاعَةِ
آلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا
يَفْتَرُونَ) أَيْ فَارَقَهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، عَنِ
الْحَسَنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَزَبَ عَنْهُمُ
افْتِرَاؤُهُمْ لِدَهْشِهِمْ، وذهول عقولهم.
__________
(1). في الأصول (فيقول) والتصويب عن تفسير الفخر والآلوسي.
(2). (أي فل) قال النووي: (بضم الفاء وسكون اللام) ومعناه يا
فلان وهو ترخيم على خلاف القياس وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة
بمعنى فلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيما
لفتحوها أو ضموها. و (تربع) أي تأخذ ربع الغنيمة يريد ألم
أجعلك رئيسا مطاعا لان الملك كان يأخذ ربع الغنيمة في الجاهلية
دون أصحابه. وقيل: إن معناه تركتك مستريحا لا تحتاج إلى كلفة
وطلب.
(3). الزيادة عن صحيح مسلم. [ ..... ]
(4). الزيادة عن صحيح مسلم.
(6/402)
وَالنَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: (انْظُرْ)
يُرَادُ بِهِ نَظَرُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ قِيلَ: كَذَبُوا
بِمَعْنَى يَكْذِبُونَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ
بِالْمَاضِي، وَجَازَ أَنْ يَكْذِبُوا فِي الْآخِرَةِ
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ دَهَشٍ وَحِيرَةٍ وَذُهُولِ عَقْلٍ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ كَذِبٌ فِي
الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ عَلَى مَا كَانَ فِي
الدُّنْيَا- وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ-
وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَمَعْنَى" وَاللَّهِ
رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" عَلَى هَذَا: مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَعَلَى جَوَازِ أَنْ
يَكْذِبُوا فِي الْآخِرَةِ يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ: (وَلا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)، وَلَا مُعَارَضَةَ وَلَا
تَنَاقُضَ، لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا فِي بَعْضِ
الْمَوَاطِنِ إِذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِعَمَلِهِمْ، وَيَكْذِبُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ قَبْلَ شَهَادَةِ
الْجَوَارِحِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" قَالَ: اعْتَذَرُوا
وَحَلَفُوا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ
وَقَتَادَةُ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا
رَأَوْا أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ إِلَّا الشِّرْكَ بِاللَّهِ
وَالنَّاسَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَالُوا:" وَاللَّهِ
رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" وَقِيلَ:" وَاللَّهِ رَبِّنا
مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" أَيْ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَحْجَارَ
لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا
مِنَ الْقَوْلِ فَقَدْ صَدَقُوا وَلَمْ يَكْتُمُوا، وَلَكِنْ
لَا يُعْذَرُونَ بِهَذَا، فَإِنَّ الْمُعَانِدَ كَافِرٌ غَيْرُ
مَعْذُورٍ. ثُمَّ قِيلَ فِي قَوْلِهِ:" ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ" خَمْسُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ" يَكُنْ" بِالْيَاءِ" فِتْنَتَهُمْ"
بِالنَّصْبِ خَبَرُ" يَكُنْ"" إِلَّا أَنْ قالُوا" اسْمُهَا
أَيِ إِلَا قَوْلَهُمْ، فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ بَيِّنَةٌ.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو" تَكُنْ"
بِالتَّاءِ" فِتْنَتَهُمْ" بِالنَّصْبِ" (إِلَّا أَنْ قالُوا)
" أَيِ إِلَا مَقَالَتُهُمْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَمَا كَانَ- بَدَلَ [قَوْلِهِ] «1» (ثُمَّ لَمْ
تَكُنْ) - فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا (. وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَالْأَعْمَشِ مِنْ
رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ" بِالتَّاءِ" فِتْنَتُهُمْ" بِالرَّفْعِ
اسْمُ" تَكُنْ" وَالْخَبَرُ" إِلَّا أَنْ قالُوا" فَهَذِهِ
أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ. الْخَامِسَةُ:" ثُمَّ لَمْ يَكُنْ"
بِالْيَاءِ (فِتْنَتُهُمْ)، [رَفْعٌ] «2» وَيُذَكَّرُ
الْفِتْنَةُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفُتُونِ، وَمِثْلُهُ"
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى "»
] البقرة: 275]." وَاللَّهِ" [الْوَاوُ] «4» وَاوُ الْقَسَمِ"
رَبِّنا" نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بَدَلٌ. وَمَنْ
نَصَبَ فَعَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا وَهِيَ قِرَاءَةٌ
حَسَنَةٌ، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِكَانَةِ
وَالتَّضَرُّعِ، إِلَّا أَنَّهُ فصل بين القسم وجوابه
بالمنادي.
__________
(1). من ب وج وك وع.
(2). من ب وج وك وع.
(3). راجع ج 3 ص 347.
(4). من ك.
(6/403)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ
يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
[سورة الأنعام (6): آية 25]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ).
[أُفْرِدَ] «1» عَلَى اللَّفْظِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ
كُفَّارَ مَكَّةَ. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)
أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ مُجَازَاةً عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا
يَفْقَهُونَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانُوا لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا
يَسْمَعُونَ، وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْحَقِّ كَانُوا
بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْهَمُ.
وَالْأَكِنَّةُ الْأَغْطِيَةُ جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلَ
الْأَسِنَّةِ وَالسِّنَانِ، وَالْأَعِنَّةِ وَالْعِنَانِ.
كَنَنْتُ الشَّيْءَ فِي كِنِّهِ إِذَا صُنْتُهُ فِيهِ.
وَأَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ. وَالْكِنَانَةُ
مَعْرُوفَةٌ «2». وَالْكَنَّةُ (بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ)
امْرَأَةُ أَبِيكَ، وَيُقَالُ: امْرَأَةُ الِابْنِ أَوِ
الْأَخِ، لِأَنَّهَا فِي كِنِّهِ. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أَيْ
يَفْهَمُوهُ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى
كَرَاهِيَةَ أَنْ يَفْهَمُوهُ، «3» أَوْ لِئَلَّا يَفْهَمُوهُ
«4». (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عُطِفَ عَلَيْهِ أَيْ ثِقَلًا،
يُقَالُ مِنْهُ: وَقِرَتْ أُذُنُهُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ)
تَوْقَرُ وَقْرًا أَيْ صَمَّتْ، وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ
التَّحْرِيكُ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ. وَقَدْ
وَقَرَ اللَّهُ أُذُنَهُ يَقِرُهَا وَقْرًا، يُقَالُ:
اللَّهُمَّ قِرْ أُذُنَهُ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ
الْعَرَبِ: أُذُنٌ مَوْقُورَةٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ، فَعَلَى هَذَا وُقِرَتْ (بِضَمِّ الْوَاوِ).
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (وِقْرًا) بِكَسْرِ
الْوَاوِ، أَيْ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ مَا سَدَّهَا عَنِ
اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِوَقْرِ الْبَعِيرِ،
وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُطِيقُ أَنْ يَحْمِلَ، وَالْوَقْرُ
الْحِمْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَخْلَةٌ مُوقِرٌ وَمُوقِرَةٌ
إِذَا كَانَتْ ذَاتَ ثَمَرٍ كَثِيرٍ. وَرَجُلٌ ذُو قِرَةٍ
إِذَا كَانَ وَقُورًا بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ مِنْهُ:
وَقُرَ الرَّجُلُ (بِضَمِّ الْقَافِ) وَقَارًا، وَوَقَرَ
(بِفَتْحِ الْقَافِ) أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها) أَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِعِنَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْقَمَرَ
مُنْشَقًّا قَالُوا: سِحْرٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل بردهم
الآيات بغير حجة.
__________
(1). الزيادة عن ابن عطية أبو حيان: وحد الضمير في
(يَسْتَمِعُ) حملا على لفظ (من) وجمعه في (عَلى قُلُوبِهِمْ)
حملا على معناها.
(2). يعني جعبة السهام وقبيلة من مضر وبها سميت أرض الكنانة.
(3). في ج: يفقهوه.
(4). في ج: يفقهوه.
(6/404)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاؤُكَ
يُجادِلُونَكَ) مُجَادَلَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: تَأْكُلُونَ مَا
قَتَلْتُمْ، وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ." يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي قُرَيْشًا،
قَالَ ابْنُ عباس: قالوا للنضر بن الحرث [: مَا يَقُولُ
مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: أَرَى تَحْرِيكَ شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُولُ
إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ مَا أُحَدِّثُكُمْ
عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ النَّضْرُ صَاحِبَ
قَصَصٍ وَأَسْفَارٍ، فَسَمِعَ أَقَاصِيصَ فِي دِيَارِ
الْعَجَمِ مِثْلَ قِصَّةِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ فَكَانَ
يُحَدِّثُهُمْ. وَوَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أَسْطَارٌ كَأَبْيَاتٍ
«1» وَأَبَايِيتٍ، عَنِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ كَأُحْدُوثَةٍ وَأَحَادِيثَ. أَبُو
عُبَيْدَةَ: وَاحِدُهَا إِسْطَارَةٌ. النَّحَّاسُ: وَاحِدُهَا
أُسْطُورٌ مِثْلُ عُثْكُولٍ «2». وَيُقَالُ: هُوَ جَمْعُ
أَسْطَارٍ، وَأَسْطَارٌ جَمْعُ سَطْرٍ، يُقَالُ: سَطْرٌ
وَسَطَرَ. وَالسَّطْرُ الشَّيْءُ الْمُمْتَدُّ الْمُؤَلَّفُ
كَسَطْرِ الْكِتَابِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَاحِدُهَا أَسْطِيرٌ.
وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ كَمَذَاكِيرَ
وَعَبَادِيدَ «3» وَأَبَابِيلَ أَيْ مَا سَطَّرَهُ
الْأَوَّلُونَ فِي الْكُتُبِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ
وَغَيْرُهُ: الْأَسَاطِيرُ الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ.
قُلْتُ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِي:
تَطَاوَلَ لَيْلِي وَاعْتَرَتْنِي وَسَاوِسِي ... لِآتٍ أتى
بالترهات الأباطيل
[سورة الأنعام (6): آية 26]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ) النَّهْيُ الزَّجْرُ، وَالنَّأْيُ الْبُعْدُ، وَهُوَ
عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ أَيْ يَنْهَوْنَ عَنِ
اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ.
وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِأَبِي طَالِبٍ يَنْهَى الْكُفَّارَ عن
أذائه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَيْضًا. وَرَوَى أَهْلُ السِّيَرِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ إِلَى
الْكَعْبَةِ يَوْمًا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلَمَّا
دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ قال أبو جهل
__________
(1). كذا في اوب وهـ وك. وفي زوع: أنياب وأنابيب. وكلاهما جمع
وجمع الجمع فليتأمل.
(2). العثكول: العذق وقيل: الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان
الكباسة.
(3). العباديد والعبابيد بلا واحد من لفظهما: الفرق من الناس
والخيل الذاهبون في كل وجه والآكام والطرق البعيدة.
(6/405)
لَعَنَهُ اللَّهُ-: مَنْ يَقُومُ إِلَى
هَذَا الرَّجُلِ فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. فَقَامَ ابْنُ
الزِّبَعْرَى فَأَخَذَ فَرْثًا وَدَمًا فَلَطَّخَ بِهِ وَجْهَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْفَتَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ،
ثُمَّ أَتَى أَبَا طَالِبٍ عَمَّهُ فَقَالَ: (يَا عَمِّ أَلَا
تَرَى إِلَى مَا فُعِلَ بِي) فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَنْ
فَعَلَ هَذَا بِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى،
فَقَامَ أَبُو طَالِبٍ وَوَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى عَاتِقِهِ
وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ، فَلَمَّا رَأَوْا
أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ جَعَلَ الْقَوْمُ يَنْهَضُونَ،
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَامَ رَجُلٌ
جَلَّلْتُهُ بِسَيْفِي فَقَعَدُوا حَتَّى دَنَا إِلَيْهِمْ،
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَنِ الْفَاعِلُ بِكَ هَذَا؟ فَقَالَ:
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى)، فَأَخَذَ أَبُو طَالِبٍ
فَرْثًا وَدَمًا فَلَطَّخَ بِهِ وُجُوهَهُمْ وَلِحَاهُمْ
وَثِيَابَهُمْ وَأَسَاءَ لَهُمُ الْقَوْلَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ" (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) "
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا
عَمِّ نَزَلَتْ فِيكَ آيَةٌ) قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ:
(تَمْنَعُ قُرَيْشًا أَنْ تُؤْذِيَنِي وَتَأْبَى أَنْ تُؤْمِنَ
بِي) فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى
أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَأَبْشِرْ
بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي ... فَلَقَدْ
صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتَ بِأَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ
أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ...
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ يَقِينَا «1»
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تَنْفَعُ أَبَا طَالِبٍ
نُصْرَتُهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ دُفِعَ عَنْهُ بِذَاكَ الْغُلُّ
وَلَمْ يُقْرَنْ مَعَ الشَّيَاطِينِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي جُبِّ
الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ إِنَّمَا عَذَابُهُ فِي نَعْلَيْنِ
مِنْ نَارٍ [فِي رِجْلَيْهِ] «2» يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ
فِي رَأْسِهِ وَذَلِكَ أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا (.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ
أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" «3» [الأحقاف: 35]. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ:) قُلْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) قَالَ: لَوْلَا تُعَيِّرُنِي قُرَيْشٌ
يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ
لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ" «4» [القصص: 56] كَذَا الرِّوَايَةُ
الْمَشْهُورَةُ (الْجَزَعُ) بِالْجِيمِ وَالزَّايِ وَمَعْنَاهُ
__________
(1). في الواحدي وغيره: مبينا.
(2). من ج وك وع وز وهـ. [ ..... ]
(3). راجع ج 16 ص 220.
(4). راجع ج 13 ص 299.
(6/406)
الْخَوْفُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ «1»:
(الْخَرْعُ) بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَالرَّاءِ
الْمُهْمَلَةِ. [قَالَ] «2» يَعْنِي الضَّعْفَ وَالْخَوَرَ،
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ
مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا
دِمَاغُهُ). وأما عبد الله ابن الزِّبَعْرَى فَإِنَّهُ
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاعْتَذَرَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَكَانَ شَاعِرًا مَجِيدًا، فَقَالَ
يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَهُ فِي مَدْحِهِ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ يَنْسَخُ بِهَا مَا
قَدْ مَضَى فِي كُفْرِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... وَاللَّيْلُ
مُعْتَلِجُ الرَّوَاقِ بَهِيمُ
مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتُّ
كَأَنَّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ... عَيْرَانَةٌ
«3» سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الذِي ... أَسْدَيْتُ إِذْ
أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ
أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ ... سَهْمٌ
وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ
الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... قَلْبِي
وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتِ الْعَدَاوَةُ فَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ... وَأَتَتْ
أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي «4»
فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْكَ مِنْ سِمَةِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ ... نُورٌ
أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا
وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ ... حَقًّا
وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ... مُسْتَقْبَلٌ
فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ «5» عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فرع تمكن في
الذرى وأروم
__________
(1). في ك وى: أبو عبيدة.
(2). من ج وك وب وز وه.
(3). الناقة ذات السرعة والنشاط. والناقة الصلبة. راجع ج 5 ص
206.
(4). في ب وج وك وز وه: وارحم.
(5). السيد العظيم.
(6/407)
وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27)
وَقِيلَ: الْمَعْنَى (يَنْهَوْنَ عَنْهُ)
أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ يَنْهَوْنَ عَنِ
الْقُرْآنِ (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ). عَنْ قَتَادَةَ، فَالْهَاءُ
عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي (عَنْهُ) لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ
لِلْقُرْآنِ. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (إِنْ)
نَافِيَةٌ أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
بِإِصْرَارِهِمْ على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم.
[سورة الأنعام (6): آية 27]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا
لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
[أَيْ إِذْ] «1» وُقِفُوا غَدًا وَ (إِذْ) قَدْ تُسْتَعْمَلُ
فِي مَوْضِعِ (إِذَا) وَ (إِذَا) فِي مَوْضِعِ (إِذْ) وَمَا
سَيَكُونُ فَكَأَنَّهُ كَانَ، لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى
حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَلِهَذَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي. وَمَعْنَى
(إِذْ وُقِفُوا) حُبِسُوا يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا
فَوَقَفَ وُقُوفًا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ (إِذْ
وَقَفُوا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ مِنَ الْوُقُوفِ."
عَلَى النَّارِ" أَيْ هُمْ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ وَهِيَ
تَحْتَهُمْ. وَقِيلَ: (عَلَى) بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ
وَقَفُوا بِقُرْبِهَا وَهُمْ يُعَايِنُونَهَا. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: جَمَعُوا، يَعْنِي عَلَى أَبْوَابِهَا.
وَيُقَالُ: وَقَفُوا عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ وَالنَّارُ
تَحْتَهُمْ. وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ
يُوقَفُونَ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا مَتْنُ
إِهَالَةٍ «2»، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ خُذِي أَصْحَابَكِ
وَدَعِي أَصْحَابِي. وَقِيلَ: (وُقِفُوا) دَخَلُوهَا-
أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا- فَعَلَى بِمَعْنَى (فِي) أَيْ
وُقِفُوا فِي النَّارِ. وَجَوَابٌ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لِيَذْهَبَ
الوهم إلى كل شي فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّخْوِيفِ،
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَرَأَيْتَ
أَسْوَأَ حَالٍ، أَوْ لَرَأَيْتَ مَنْظَرًا هَائِلًا، أَوْ
لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجَبًا وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا
التَّقْدِيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) بِالرَّفْعِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ
عَطْفًا قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيِّ،
وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ «3».
ابْنُ عَامِرٍ عَلَى رَفْعِ (نُكَذِّبُ) وَنَصْبِ (وَنَكُونَ)
وَكُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، أَيْ لَا
تَمَنَّوُا الرد
__________
(1). من ب وج وع وى.
(2). الإهالة الشحم المذاب ومتن الإهالة ظهرها إذا سكبت في
الإناء، فشبه سكون جهنم قبل أن يصير فيها الكفار بذلك.
(اللسان).
(3). أي بالرفع في كلها كما في ابن عطية.
(6/408)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا
كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
وَأَلَّا يُكَذِّبُوا وَأَنْ يَكُونُوا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ الْقَطْعَ فِي
(وَلَا نُكَذِّبُ) فَيَكُونُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي التَّمَنِّي،
الْمَعْنَى: وَنَحْنُ لَا نُكَذِّبُ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ
عَلَى تَرْكِ التَّكْذِيبِ، أَيْ لَا نُكَذِّبُ رَدَدْنَا أَوْ
لَمْ نَرُدَّ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ
دَعْنِي وَلَا أَعُودُ أَيْ لَا أَعُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ
تَرَكْتَنِي أَوْ لَمْ تَتْرُكْنِي. وَاسْتَدَلَّ أَبُو
عَمْرٍو عَلَى خُرُوجِهِ مِنَ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ:"
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ" لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَكُونُ فِي
التَّمَنِّي إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ. وَقَالَ مَنْ
جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي: الْمَعْنَى وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ فِي الدُّنْيَا فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ
وَتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
بِنَصْبِ (نُكَذِّبَ) وَ (نَكُونَ) جَوَابًا لِلتَّمَنِّي،
لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي التَّمَنِّي
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ وَتَرْكَ
التَّكْذِيبِ وَالْكَوْنَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ: مَعْنَى (وَلا نُكَذِّبَ) أَيْ إِنْ رَدَدْنَا لَمْ
نُكَذِّبْ. وَالنَّصْبُ فِي (نُكَذِّبَ) وَ (نَكُونَ)
بِإِضْمَارِ (أَنْ) كَمَا يُنْصَبُ فِي جَوَابِ
الِاسْتِفْهَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَرْضِ، لِأَنَّ
جَمِيعَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَا وَاقِعٌ بَعْدُ، فَيُنْصَبُ
الْجَوَابُ مَعَ الْوَاوِ كَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرِ
الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا يَكُونُ لَنَا
رَدٌّ وَانْتِفَاءٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَكَوْنٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، فَحُمِلَا عَلَى مَصْدَرِ (نُرَدُّ)
لِانْقِلَابِ الْمَعْنَى إِلَى الرَّفْعِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ
مِنْ إِضْمَارِ (أن) فيه يتم النَّصْبُ فِي الْفِعْلَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَنَكُونَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ
التَّمَنِّي كَقَوْلِكَ: لَيْتَكَ تَصِيرُ إِلَيْنَا
وَنُكْرِمُكَ، أَيْ لَيْتَ مَصِيرَكَ يَقَعُ وَإِكْرَامَنَا
يَقَعُ، وَأُدْخِلَ الْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي
التَّمَنِّي، أَوْ أَرَادَ: وَنَحْنُ لَا نُكْرِمُكَ «1» عَلَى
الْقَطْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، يَحْتَمِلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ
(وَلَا «2» نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا أَبَدًا). وَعَنْهُ
وَابْنُ مَسْعُودٍ (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ)
بِالْفَاءِ وَالنَّصْبِ، وَالْفَاءُ يُنْصَبُ بِهَا فِي
الْجَوَابِ كَمَا يُنْصَبُ بِالْوَاوِ، عَنِ الزَّجَّاجِ.
وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ الْجَوَابَ إلا
بالفاء.
[سورة الأنعام (6): آية 28]
بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
(28)
__________
(1). في ك.
(2). كذا في الأصول والذي في البحر: وقرا أبي (فلا نكذب بآيات
ربنا أبدا).
(6/409)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
(29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ بَدا لَهُمْ مَا
كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) بَلْ إِضْرَابٌ عَنْ
تَمَنِّيهِمْ وَادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ لَوْ رُدُّوا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى (بَدا لَهُمْ) عَلَى أَقْوَالٍ
بَعْدَ تَعْيِينِ مَنِ الْمُرَادُ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ
الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ مُشْتَمِلٌ
عَلَيْهِمْ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ،
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْعَذْبِ
الْفَصِيحِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ وَكَانُوا إِذَا
وَعَظَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَافُوا وَأَخْفَوْا ذَلِكَ الْخَوْفَ لِئَلَّا يَفْطِنَ
بِهِمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَيَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: (بَدا لَهُمْ) أَيْ بَدَا
لِبَعْضِهِمْ مَا كَانَ يُخْفِيهِ عَنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: بَلْ
ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَجْحَدُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ
فَيَقُولُونَ: (وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)
فَيُنْطِقُ اللَّهُ جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
بِالْكُفْرِ فَذَلِكَ حِينَ (بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ). قاله أَبُو رَوْقٍ «1». وَقِيلَ: (بَدا لَهُمْ)
مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ بَدَتْ
أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ كَمَا قَالَ:" وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" «2»] الزمر: 47].
قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ جَزَاءُ كُفْرِهِمِ الَّذِي
كَانُوا يُخْفُونَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ ظَهَرَ
لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا الْغُوَاةَ مَا كَانَ الْغُوَاةُ
يُخْفُونَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ،
لِأَنَّ بَعْدَهُ" وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ". قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَوْ رُدُّوا) قِيلَ: بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ.
وَقِيلَ: قَبْلَ مُعَايَنَتِهِ. (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)
أَيْ لَصَارُوا وَرَجَعُوا إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ
الشِّرْكِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ، وَقَدْ عَايَنَ إِبْلِيسُ مَا عَايَنَ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ عَانَدَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَحِكَايَةٌ
عَنِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ
تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، كَمَا
قَالَ:" وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ" «3»] النحل: 124]
فَجَعَلَهُ حِكَايَةً عَنِ الْحَالِ الْآتِيَةِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ
عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ
وَيَكُونُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وقرا يحيى ابن وَثَّابٍ
(وَلَوْ رِدُّوا) بِكَسْرِ الرَّاءِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ رددوا
فنقلت كسرة الدال على الراء.
[سورة الأنعام (6): آية 29]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (29)
__________
(1). أبو روق: (فتح الراء وسكون الواو وبعدها قاف) هو عطية بن
الحرث الهمذاني الكوفي ذكره بن سعد في الطبقة الخامسة وقال: هو
صاحب التفسير. (التهذيب).
(2). راجع ج 15 ص 264. [ ..... ]
(3). راجع ج 10 ص 199.
(6/410)
وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ
قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا إِنْ هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ وَ (إِنْ)
نَافِيَةٌ. (وَما نَحْنُ) (نَحْنُ) اسم (ما) بِمَبْعُوثِينَ
خَبَرُهَا، وَهَذَا ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ عَمَّا
قَالُوهُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ دَاخِلٌ
فِي قَوْلِهِ:" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ""
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا" أَيْ
لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ، وَاشْتَغَلُوا بِلَذَّةِ الْحَالِ.
وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَانِدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
حَالِ إِبْلِيسَ، أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ «1» يُلَبِّسُ
عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا عَرَفُوا، وَهَذَا شَائِعٌ في العقل.
[سورة الأنعام (6): آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا
بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى
رَبِّهِمْ) (وُقِفُوا) أَيْ حُبِسُوا (عَلى رَبِّهِمْ) أَيْ
عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ. وَقِيلَ:
(عَلى) بِمَعْنَى (عِنْدَ) أَيْ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ
وَجَزَائِهِ، وَحَيْثُ لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ: وَقَفْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ
عِنْدَهُ، وَجَوَابُ" لَوْ" مَحْذُوفٌ لِعِظَمِ شَأْنِ
الْوُقُوفِ. (قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) تَقْرِيرٌ
وَتَوْبِيخٌ أَيِ أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ كَائِنًا
مَوْجُودًا؟! " قالُوا بَلى " وَيُؤَكِّدُونَ اعْتِرَافَهُمْ
بِالْقَسَمِ بِقَوْلِهِمْ:" وَرَبِّنا". وَقِيلَ: إِنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ أَلَيْسَ
هَذَا الْبَعْثُ وَهَذَا الْعَذَابُ حَقًّا؟ فَيَقُولُونَ:
(بَلى وَرَبِّنا) إِنَّهُ حَقٌّ." قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ".
[سورة الأنعام (6): آية 31]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى
مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى
ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ
اللَّهِ) قِيلَ: بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْجَزَاءِ،
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) أَيْ لَقِيَ
جَزَاءَهُ، لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ لَا يَرَى اللَّهَ
عِنْدَ مثبتي الرؤية، ذهب
__________
(1). في ب وك وهـ وع: الرب.
(6/411)
إِلَى هَذَا الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ حَمْلَ
اللِّقَاءِ فِي مَوْضِعٍ عَلَى الْجَزَاءِ لِدَلِيلٌ قَائِمٌ
لَا يُوجِبُ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ،
فَلْيُحْمَلِ اللِّقَاءُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَالْكُفَّارُ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ، وَمُنْكِرُ
الرُّؤْيَةِ مُنْكِرٌ لِلْوُجُودِ! قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى
إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ
بِالسَّاعَةِ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهَا. وَمَعْنَى
(بَغْتَةً) فَجْأَةً، يُقَالُ: بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ
يَبْغَتُهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَةً. وَهِيَ نَصْبٌ عَلَى
الْحَالِ، وَهِيَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ، كَمَا تَقُولُ: قَتَلْتُهُ صَبْرًا، وأنشد «1»:
فَلَأْيًا بِلَأْيٍ مَا حَمَلْنَا وَلِيدَنَا ... عَلَى ظَهْرِ
مَحْبُوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهُ
وَلَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، لَا
يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ سُرْعَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا
يَا حَسْرَتَنا) وَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى الْحَسْرَةِ
وَلَيْسَتْ بِمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى كَثْرَةِ التَّحَسُّرِ، وَمِثْلُهُ يَا لَلْعَجَبِ ويا
للرخاء وليسا بمنادين فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى كَثْرَةِ التَّعَجُّبِ وَالرَّخَاءِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
كَأَنَّهُ قَالَ يَا عَجَبٌ تَعَالَ فَهَذَا زَمَنُ
إِتْيَانِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ يَا حَسْرَتِي [أَيْ يَا
حَسْرَتَا] «2» تَعَالَيْ فَهَذَا وَقْتُكِ، وَكَذَلِكَ مَا
لَا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَهَذَا
أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ تَعَجَّبْتُ. وَمِنْهُ قول الشاعر:
فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِ «3»
وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى عَظِيمِ مَا يَحِلُّ
بِهِمْ مِنَ الْحَسْرَةِ، أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
تَنَبَّهُوا عَلَى عَظِيمِ مَا بِي مِنَ الْحَسْرَةِ، فَوَقَعَ
النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى حَقِيقَةً، كَقَوْلِكَ:
لَا أرينك ها هنا. فَيَقَعُ النَّهْيُ عَلَى غَيْرِ
الْمَنْهِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ.
__________
(1). البيت لزهير بن أبي سلمى والشاهد فيه قوله: (لايا بلاي)
ونصب على المصدر الموضوع في موضع الحال والتقدير حملنا وليدنا
مبطئين ملتئين. وصف فرسا بالنشاط وشدة الخلق فيقول: إذا حملنا
الغلام عليه ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله إلا بعد إبطاء وجهد
واللاى الإبطاء المحبوك الشديد الخلق والظماء هنا القليلة
اللحم- وهو المحمود منها- واصل الظمأ العطش. (شواهد سيبويه).
(2). من ب، ج، ك، ع.
(3). شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
(6/412)
وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى مَا فَرَّطْنا
فِيها) أَيْ فِي السَّاعَةِ، أَيْ فِي التَّقْدِمَةِ لَهَا،
عَنِ الْحَسَنِ. وَ (فَرَّطْنا) مَعْنَاهُ ضَيَّعْنَا
وَأَصْلُهُ التَّقَدُّمُ، يُقَالُ: فَرَّطَ فُلَانٌ أَيْ
تَقَدَّمَ وَسَبَقَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ (أَنَا
فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ). وَمِنْهُ الْفَارِطُ أَيِ
الْمُتَقَدِّمُ لِلْمَاءِ، وَمِنْهُ- فِي الدُّعَاءِ
لِلصَّبِيِّ- اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ،
فَقَوْلُهُمْ: (فَرَّطْنا) أَيْ قَدَّمْنَا الْعَجْزَ.
وَقِيلَ: (فَرَّطْنا) أَيْ جَعَلْنَا غَيْرَنَا الْفَارِطَ
السَّابِقَ لَنَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَخَلَّفْنَا.
(فِيها) أَيْ فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ لِلسَّاعَةِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: (الْهَاءُ) رَاجِعَةٌ إِلَى
الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ
خُسْرَانُ صَفْقَتِهِمْ بِبَيْعِهِمُ الْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ،
[وَالْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا] «1»،" قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى
مَا فَرَّطْنا فِيها" أَيْ فِي الصَّفْقَةِ، وَتَرَكَ
ذِكْرَهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ
الْخُسْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةِ بَيْعٍ، دليله
قوله:" فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ" «2»] البقرة: 16]. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: عَلَى مَا ضَيَّعْنَا أَيْ مِنْ عَمَلِ
الْجَنَّةِ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ قَالَ: (يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي
الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ:) يَا حَسْرَتَنا (. قَوْلُهُ تعالى:)
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أَيْ ذُنُوبَهُمْ جَمْعُ
وِزْرٍ. (عَلى ظُهُورِهِمْ) مَجَازٌ وَتَوَسُّعٌ وَتَشْبِيهٌ
بِمَنْ يَحْمِلُ ثِقَلًا، يُقَالُ مِنْهُ: وَزَرَ يَزِرُ،
وَوَزِرَ يُوزَرُ فَهُوَ وَازِرٌ وَمَوْزُورٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ
الْوَزَرِ وَهُوَ الْجَبَلُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي
النِّسَاءِ اللَّوَاتِي خَرَجْنَ فِي جِنَازَةٍ (ارْجِعْنَ
مَوْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: (مَأْزُورَاتٍ) كَأَنَّهُ لَا وَجْهَ
لَهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوِزْرِ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ
فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ احْمِلْ وِزْرَكَ أَيْ ثِقَلَكَ.
وَمِنْهُ الْوَزِيرُ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَثْقَالَ مَا
يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ: وَالْمَعْنَى
أَنَّهُمْ لَزِمَتْهُمُ الْآثَامُ فَصَارُوا مُثْقَلِينَ
بِهَا. (أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ) أَيْ مَا أَسْوَأَ الشَّيْءِ
الَّذِي يَحْمِلُونَهُ.
[سورة الأنعام (6): آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(32)
__________
(1). في الأصول: والدنيا بالآخرة.
(2). راجع ج 1 ص 210.
(6/413)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)
أَيْ لِقِصَرِ مُدَّتِهَا كَمَا قَالَ:
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِمٍ ... وَمَا
خَيْرُ عَيْشٍ لَا يَكُونُ بِدَائِمِ
تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْتَ بِالْأَمْسِ لَذَّةً ...
فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَاعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ... وَاكْدَحْ
لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
فَكَانَ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى ... وَكَانَ مَا
هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانَا «1»
وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ، أي الذي يشتهونه فِي الدُّنْيَا لَا عَاقِبَةَ لَهُ،
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبد الملك
فِي الْمِرْآةِ فَقَالَ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، فَقَالَتْ
لَهُ جَارِيَةٌ لَهُ:
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ
لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ
لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْكَ عَيْبٌ ... كَانَ «2» فِي
النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِي
وَقِيلَ: مَعْنَى (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) بَاطِلٌ وَغُرُورٌ، كَمَا
قَالَ: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)
«3»] آل عمران: 185] فَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ تَكْذِيبُ
الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ:" إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا". وَاللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَالتَّلْعَابَةُ
الْكَثِيرُ اللَّعِبِ، وَالْمَلْعَبُ مَكَانُ اللَّعِبِ،
يُقَالُ: لَعِبَ يَلْعَبُ. وَاللَّهْوُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ،
وَكُلُّ مَا شَغَلَكَ فَقَدْ أَلْهَاكَ، وَلَهَوْتُ مِنَ
اللَّهْوِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: لَهَيْتُ عَنْهُ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِيهِ
بُعْدٌ، لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ
بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لِهْيَانُ، وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ.
الثَّانِيَةُ- لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مَا كَانَ
مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ مَا لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ وَاللَّهْوُ مَا يُلْتَهَى بِهِ، وَمَا كَانَ
مُرَادًا لِلْآخِرَةِ خَارِجٌ عَنْهُمَا، وَذَمَّ رَجُلٌ
الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ
صَدَقَهَا، وَدَارُ نَجَاةٍ «4» لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا،
وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ منها. وقال محمود الوراق:
__________
(1). فيه إقواء.
(2). في هامش ب: عابه الناس.
(3). راجع ج 17 ص 255.
(4). في ك: تجارة.
(6/414)
لَا تُتْبِعِ الدُّنْيَا وَأَيَّامَهَا ...
ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِكَ الدَّائِرَةُ
مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلِهَا ... أَنَّ بِهَا
تُسْتَدْرَكُ الْآخِرَةُ
وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا
فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ
أَدَّى إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ
شَرِيكَانَ فِي الْأَجْرِ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا
خَيْرَ فِيهِ) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
(مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَلَّا يُعْصَى إِلَّا
فِيهَا وَلَا يُنَالَ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَا).
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ
كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ). وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
تَسَمَّعْ «1» مِنَ الْأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا ...
فَإِنَّكَ مِنْهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ ... فَمَا
فَاتَ مِنْ شَيْءٍ فَلَيْسَ بِضَائِرِ
وَلَنْ تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ... وَلَا
وَزْنَ زِفٍّ «2» مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ
فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ ... وَلَا «3»
رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاءً لِكَافِرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ حَيَاةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ
يُزْجِيهَا «4» فِي غُرُورٍ وَبَاطِلٍ، فَأَمَّا حَيَاةُ
الْمُؤْمِنِ فَتَنْطَوِي عَلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، فَلَا
تَكُونُ لَهْوًا وَلَعِبًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَلدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ) أَيِ الْجَنَّةُ لِبَقَائِهَا، وَسُمِّيَتْ
آخِرَةٌ لِتَأَخُّرِهَا عَنَّا، وَالدُّنْيَا لِدُنُوِّهَا
مِنَّا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ)
بِلَامٍ وَاحِدَةٍ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، التَّقْدِيرُ:
وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ
الْجُمْهُورِ (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) اللَّامُ لَامُ
الِابْتِدَاءِ، وَرَفَعَ الدَّارَ بِالِابْتِدَاءِ، وَجَعَلَ
الْآخِرَةَ نَعْتًا لَهَا وَالْخَبَرَ (خَيْرٌ لِلَّذِينَ)
يقويه
__________
(1). كذا في الأصول. وهو المعنى المراد. وفي ط الأول: تمتع.
(2). الزف (بالكسر): صغير الريش، وخص بعضهم به ريش النعام،
وورد في أدب الدنيا والدين (وزن ذر).
(3). كذا في الأصول. بل الدنيا جزاء الكافر لقوله عليه الصلاة
والسلام" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". [ ..... ]
(4). يزجى الأيام يدافعها.
(6/415)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ
جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
" تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ" «1» [القصص:
83] " وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ" «2»
[العنكبوت: 64]. فَأَتَتِ الْآخِرَةُ صِفَةً لِلدَّارِ
فِيهِمَا. (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أَيِ الشِّرْكَ. (أَفَلا
تَعْقِلُونَ) قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، أَيْ أَفَلَا
يَعْقِلُونَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا فَيَزْهَدُوا في الدنيا.
والله أعلم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى
أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ
جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ) كُسِرَتْ (إِنَّ) لِدُخُولِ اللَّامِ.
قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ
عِنْدَنَا لَصَادِقٌ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ
وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" ثُمَّ
آنَسَهُ بِقَوْلِهِ:" وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ" الآية. وقرى" يكذبونك" مخففا ومشددا، قيل: هُمَا
بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَحَزَنْتُهُ وَأَحْزَنْتُهُ، وَاخْتَارَ
أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ أَبَا
جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ" قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَدْ خُولِفَ أَبُو
عُبَيْدٍ فِي هَذَا. وَرُوِيَ: لَا نُكَذِّبُكَ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" لَا يُكَذِّبُونَكَ". وَيُقَوِّي
هَذَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ" فَإِنَّهُمْ
لَا يُكْذِبُونَكَ" مُخَفَّفًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:"
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يُسَمُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْأَمِينَ. وَمَعْنَى" يُكَذِّبُونَكَ" عِنْدَ أَهْلِ
اللُّغَةِ يَنْسُبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَيَرُدُّونَ
عَلَيْكَ مَا قُلْتَ. وَمَعْنَى" لَا يُكْذِبُونَكَ" أَيْ لَا
يَجِدُونَكَ تَأْتِي بِالْكَذِبِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَذَبْتُهُ
وَجَدْتُهُ كَذَّابًا، وَأَبْخَلْتُهُ وَجَدْتُهُ بَخِيلًا،
أَيْ لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا إِنْ تَدَبَّرُوا مَا جِئْتَ
بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يُثْبِتُونَ
عَلَيْكَ أَنَّكَ كَاذِبٌ، لأنه يقال: أكذبته
__________
(1). راجع ج 13 ص 320، ص 361.
(2). راجع ج 13 ص 320، ص 361.
(6/416)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ
نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
إِذَا احْتَجَجْتُ عَلَيْهِ وَبَيَّنْتُ
أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَعَلَى التَّشْدِيدِ: لَا يُكَذِّبُونَكَ
بِحُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا" وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ". قَالَ
النَّحَّاسُ: وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدٍ،
وَاحْتِجَاجُهُ لَازِمٌ، لِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ هُوَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ
أَنَّهُ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ
الْعَرَبِ: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَخْبَرْتُ أَنَّهُ
جَاءَ بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أَنَّهُ كَاذِبٌ،
وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: كَذَّبْتُهُ إِذَا قُلْتَ لَهُ
كَذَبْتَ، وَأَكْذَبْتُهُ إِذَا أَرَدْتَ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ
كَذِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا)
أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا. (وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا) أَيْ عَوْنُنَا، أَيْ فَسَيَأْتِيكَ مَا وُعِدْتَ
بِهِ. (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) مُبِينٌ لِذَلِكَ
النَّصْرِ، أَيْ مَا وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَلَا
يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَهُ، لَا نَاقِضَ لِحُكْمِهِ،
وَلَا خُلْفَ لوعده، و" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ" «1»] الرعد:
38] " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا" «2»]
غافر: 51] " وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا
الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ
جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ" «3»] الصافات: 173 - 171] "
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" «4»] المجادلة:
21]. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) فَاعِلُ
(جاءَكَ) مُضْمَرٌ، الْمَعْنَى: جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ نَبَأٌ.
[سورة الأنعام (6): آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي
السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ
(35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ) أَيْ عَظُمَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ
وَتَوَلِّيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ)
قَدَرْتَ (أَنْ تَبْتَغِيَ) تَطْلُبَ (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ)
أَيْ سَرَبًا تَخْلُصُ مِنْهُ إِلَى مكان آخر، ومنه النافقاء
لحجر الْيَرْبُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «5»
بَيَانُهُ «6»، وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
(أَوْ سُلَّماً) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ سَبَبًا إِلَى
السَّمَاءِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ، لِأَنَّ السُّلَّمَ الَّذِي
يُرْتَقَى عَلَيْهِ سَبَبٌ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَهُوَ
مُذَكَّرٌ، وَلَا يُعْرَفُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ من تأنيث
السلم. قَالَ قَتَادَةُ: السُّلَّمُ الدَّرَجُ. الزَّجَّاجُ:
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ كَأَنَّهُ «7» يُسَلِّمُكَ
إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي
__________
(1). راجع ج 9 ص 327.
(2). راجع ج 15 ص 322 وص 139.
(3). راجع ج 15 ص 322 وص 139.
(4). راجع ج 17 ص 306.
(5). راجع ج 1 ص 178.
(6). في ك:" بناؤه".
(7). في ك:" لأنه".
(6/417)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(37)
تُرِيدُ. (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) عَطْفٌ
عَلَيْهِ أَيْ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ، فَأُضْمِرَ الْجَوَابُ
لِعِلْمِ السَّامِعِ. أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَشْتَدَّ حُزْنُهُ عَلَيْهِمْ
إِذَا كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ
هُدَاهُمْ. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى)
أَيْ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ وَطَبَعَهُمْ عَلَيْهِ، بَيَّنَ
تَعَالَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ردا عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَيْ لَأَرَاهُمْ آيَةً
تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يُثِيبَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمَنْ أَحْسَنَ.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أَيْ مِنَ الذِينَ
اشْتَدَّ حُزْنُهُمْ وَتَحَسَّرُوا حَتَّى أَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ
إِلَى الْجَزَعِ الشَّدِيدِ، وَإِلَى مَا لَا يَحِلُّ، أَيْ
لَا تَحْزَنْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَتُقَارِبُ حَالَ
الْجَاهِلِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ
الْأُمَّةُ، فَإِنَّ قُلُوبَ المسلمين كانت تضيق من كفرهم
وإذايتهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ
إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ) أَيْ سَمَاعَ إِصْغَاءٍ وَتَفَهُّمٍ وَإِرَادَةِ
الْحَقِّ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مَا
يَسْمَعُونَ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ، قَالَ
مَعْنَاهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدُ، وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ
قَالَ: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) وَهُمُ
الْكُفَّارُ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، أَيْ هُمْ
بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ وَلَا
يَصْغُونَ إِلَى حُجَّةٍ. وَقِيلَ: الْمَوْتَى كُلُّ مَنْ
مَاتَ." يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ" أَيْ لِلْحِسَابِ، وَعَلَى
الْأَوَّلِ بَعَثَهُمْ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ
بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ بَعَثَهُمْ مِنْ شِرْكِهِمْ حَتَّى
يُؤْمِنُوا بِكَ يَا مُحَمَّدُ- يَعْنِي عِنْدَ حُضُورِ
الْمَوْتِ- فِي حَالِ الْإِلْجَاءِ في الدنيا. قوله تعالى:
(وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قَالَ
الْحَسَنُ: (لَوْلا) ها هنا بمعنى هلا، وقال الشاعر «1»:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي
ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنعا
__________
(1). هو الفرزدق يفتخر في شعره بكرم أبيه غالب وعقره مائة ناقة
في معاقرة سحيم بن وثيل الرياحي في موضع يقال له (صوأر) على
مسيرة يوم من الكوفة ولذلك يقول جرير أيضا:
وقد سرني ألا تعد مجاشع ... من المجد إلا عقر نيب بصوأر
وبنو ضوطرى تقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء.
(6/418)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ تَعَنُّتًا بَعْدَ
ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْقُرْآنِ
الَّذِي عَجَزُوا أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لِمَا
فِيهِ مِنَ الْوَصْفِ «1» وَعِلْمِ الْغُيُوبِ. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يُنَزِّلُ مِنَ الْآيَاتِ مَا
فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِعِبَادِهِ، وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ
أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ أَقْوَامًا يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَلَمْ يُرِدْ اسْتِئْصَالَهُمْ. وَقِيلَ: (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
إِنْزَالِهَا. الزَّجَّاجُ: طَلَبُوا أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى
الهدى أي جمع إلجاء.
[سورة الأنعام (6): آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ)
تَقَدَّمَ مَعْنَى الدَّابَّةِ وَالْقَوْلُ فِيهِ فِي"
الْبَقَرَةِ" «2» وَأَصْلُهُ الصِّفَةُ، مِنْ دَبَّ يَدِبُّ
فَهُوَ دَابٌّ إِذَا مَشَى مَشْيًا فِيهِ تَقَارُبُ خَطْوٍ.
(وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) بِخَفْضِ" طائِرٍ" عَطْفًا
عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ (وَلَا طَائِرٌ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى
الموضع، و (مِنْ) زائدة، التقدير: وما دَابَّةٍ."
بِجَناحَيْهِ" تَأْكِيدٌ وَإِزَالَةٌ لِلْإِبْهَامِ، فَإِنَّ
الْعَرَبَ تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طرفي
حَاجَتِي، أَيْ أَسْرِعْ، فَذَكَرَ (بِجَناحَيْهِ)
لِيَتَمَحَّضَ الْقَوْلُ فِي الطَّيْرِ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ
مَجَازٌ. وَقِيلَ: إِنَّ اعْتِدَالَ جَسَدِ الطَّائِرِ بَيْنَ
الْجَنَاحَيْنِ يُعِينُهُ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَلَوْ كَانَ
غَيْرَ مُعْتَدِلٍ لَكَانَ يَمِيلُ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ
الطَّيَرَانَ بِالْجَنَاحَيْنِ وَ" مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا
اللَّهُ" «3»] النحل: 79]. وَالْجَنَاحُ أَحَدُ نَاحِيَتَيِ
الطَّيْرِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الطَّيَرَانِ فِي
الْهَوَاءِ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ
النَّوَاحِي، وَمِنْهُ جَنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتِ
إِلَى نَاحِيَةِ الْأَرْضِ لَاصِقَةً بِهَا فَوَقَفَتْ.
وَطَائِرُ الْإِنْسَانِ عَمَلُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ" وَكُلَّ
إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" «4»] الاسراء:
13]. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أَيْ هُمْ جَمَاعَاتٌ
مِثْلُكُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهُمْ،
وَتَكَفَّلَ بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي
__________
(1). في ب وع: الرصف. وهو نظم الشيء بعضه إلى بعض.
(2). راجع ج 2 ص 196.
(3). راجع ج 10 ص 151، ص 229. [ ..... ]
(4). راجع ج 10 ص 151، ص 229.
(6/419)
أَنْ تَظْلِمُوهُمْ، وَلَا تُجَاوِزُوا
فِيهِمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَ (دَابَّةٌ) تَقَعُ عَلَى
جَمِيعِ مَا دَبَّ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مَا فِي الْأَرْضِ
دُونَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ
وَيُعَايِنُونَهُ. وَقِيلَ: هِيَ أَمْثَالٌ لَنَا فِي
التَّسْبِيحِ وَالدَّلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ
تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ لَوْ تَأَمَّلَ
الْكُفَّارُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ أَمْثَالٌ لَنَا
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَحْشُرُ الْبَهَائِمَ غَدًا
وَيَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يَقُولُ
اللَّهُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ
الزَّجَّاجِ فَإِنَّهُ قَالَ: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)
فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ
وَالِاقْتِصَاصِ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ أَيْضًا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ
مَا مِنْ صِنْفٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ إِلَّا فِي
النَّاسِ شِبْهٌ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو كَالْأَسَدِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَهُ كَالْخِنْزِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَعْوِي كَالْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَزْهُو كَالطَّاوُسِ،
فَهَذَا مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ. وَاسْتَحْسَنَ الْخَطَّابِيُّ
هَذَا وَقَالَ: فَإِنَّكَ تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ
فَخُذْ حِذْرَكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ" قَالَ أَصْنَافٌ
لَهُنَّ أَسْمَاءٌ تُعْرَفُ بِهَا كَمَا تُعْرَفُونَ. وَقِيلَ
غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْ أَنَّهَا مِثْلُنَا فِي
الْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّهَا تُحْشَرُ وَتُنَعَّمُ فِي
الْجَنَّةِ، وَتُعَوَّضُ مِنَ الْآلَامِ الَّتِي حَلَّتْ بِهَا
فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَسْتَأْنِسُونَ
بِصُوَرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ" إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ" فِي
كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً دَالَّةً عَلَى الصَّانِعِ مُحْتَاجَةً
إِلَيْهِ مَرْزُوقَةً مِنْ جِهَتِهِ، كَمَا أَنَّ رِزْقَكُمْ
عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلُ سُفْيَانَ أَيْضًا حَسَنٌ، فَإِنَّهُ
تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ فِي الْوُجُودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ فِيهِ مَا يَقَعُ مِنَ
الْحَوَادِثِ. وَقِيلَ: أَيْ فِي الْقُرْآنِ أَيْ مَا
تَرَكْنَا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ
دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، إِمَّا دَلَالَةً
مُبَيَّنَةً مَشْرُوحَةً، وَإِمَّا مُجْمَلَةً يُتَلَقَّى
بَيَانُهَا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
أَوْ مِنَ الْإِجْمَاعِ، أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي ثَبَتَ
بِنَصِ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَنَزَّلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" «1»] النحل: 89]
وَقَالَ:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" «2»] النحل: 44] وَقَالَ:"
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا" «3»] الحشر: 7] فَأَجْمَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
وَآيَةِ (النَّحْلِ) مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ
يَذْكُرْهُ، فَصَدَقَ خَبَرُ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَا فَرَّطَ
فِي الْكِتَابِ من شي إِلَّا ذَكَرَهُ، إِمَّا تَفْصِيلًا
وَإِمَّا تَأْصِيلًا، وَقَالَ:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ" «4»] المائدة: 3].
__________
(1). راجع ج 10 ص 164، ص 108.
(2). راجع ج 10 ص 164، ص 108.
(3). راجع ج 18 ص 17.
(4). راجع ص 61 من هذا الجزء.
(6/420)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ) أَيْ لِلْجَزَاءِ، كَمَا سَبَقَ فِي خَبَرِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لتودن «1»
الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى
يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ «2» مِنَ الشَّاةِ
الْقَرْنَاءِ). وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ
تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في رواية: حشر الدواب
والطير موتها، وقاله الضَّحَّاكُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وفي التنزيل"
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" «3»] التكوير: 5] وَقَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ برقان «4» عن يزيد ابن
الْأَصَمِّ عَنْهُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ
يَوْمَ القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شي، فَيَبْلُغُ
مِنْ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ
لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: (كُونِي ترابا)
فذلك قوله تعالى:"- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً
" «5»] النبأ: 40]. وَقَالَ عَطَاءٌ: فَإِذَا رَأَوْا بَنِي
آدَمَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَعِ قُلْنَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنَا مِثْلَكُمْ، فَلَا جَنَّةَ
نَرْجُو وَلَا نَارَ نَخَافُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى
لَهُنَّ: (كُنَّ تُرَابًا) فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ
أَنْ يَكُونَ تراب. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: هَذَا الْحَشْرُ
الَّذِي فِي الْآيَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَمَا
تَخَلَّلَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَةُ حُجَجٍ، وَأَمَّا
الْحَدِيثُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ عَلَى جِهَةِ
تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالِاعْتِنَاءِ
فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ
أَحَدٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهُ،
وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا فِي الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ
عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: حَتَّى
يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ،
وَلِلْحَجَرِ لِمَا رَكِبَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلِلْعُودِ لِمَا
خَدَشَ الْعُودَ، قَالُوا: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِبَارِ
وَالتَّهْوِيلِ، لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا يُعْقَلُ
خِطَابُهَا وَلَا ثَوَابُهَا وَلَا عِقَابُهَا، وَلَمْ يَصِرْ
إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمُتَخَيِّلُهُ مِنْ
جُمْلَةِ الْمَعْتُوهِينَ الْأَغْبِيَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ
الْقَلَمَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُؤَاخَذُوا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ
الْقَلَمُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَلَكِنْ
فِيمَا بَيْنَهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ
تدري فيما انتطحتا؟) قلت:
__________
(1). لتودن (بفتح الدال المشددة) وفي بعض النسخ بضمها فالحقوق
بالرفع على الأول والنصب على الثاني.
(2). الجلحاء: التي لا قرن لها.
(3). راجع ج 19 ص 227 وص 186.
(4). برقان (بالكسر والضم). (القاموس).
(5). راجع ج 19 ص 227 وص 186.
(6/421)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ
تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
لَا. قَالَ: (لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا) وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ
زِدْنَاهُ بَيَانًا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ بِأَحْوَالِ
الْمَوْتَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ). وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ
إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ
شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ
وَبُكْمٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ عَدِمُوا الِانْتِفَاعَ
بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَكُلُّ أُمَّةٍ مِنَ
الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا تَهْتَدِي لِمَصَالِحِهَا
وَالْكُفَّارُ لَا يَهْتَدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
(الْبَقَرَةِ) «1». (فِي الظُّلُماتِ) أَيْ ظُلُمَاتِ
الْكُفْرِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَعْنَى (صُمٌّ وَبُكْمٌ) فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ
حَقِيقَةً دُونَ مَجَازِ اللُّغَةِ. (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ
يُضْلِلْهُ) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ضَلَالَ الْكَافِرِ
وَأَرَادَهُ لِيُنَفِّذَ فيه عدله. ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ
يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ عَلَى دِينِ
الْإِسْلَامِ لِيُنَفِّذَ فِيهِ فَضْلَهُ. وَفِيهِ إِبْطَالٌ
لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى
الَّذِينَ كَذَّبُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِلُّهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَهْدِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ"
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَتَيْنِ، يُلْقِي
حَرَكَةَ الْأُولَى عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَيَأْتِي
بِالثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ
أَنَّهُ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ وَيُعَوِّضُ مِنْهَا أَلِفًا.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ
غَلَطٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْيَاءَ سَاكِنَةٌ وَالْأَلِفَ
سَاكِنَةٌ وَلَا يَجْتَمِعُ سَاكِنَانِ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ
أَلِفًا، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمُدُّ
الثَّانِيَةَ، وَالْمَدُّ لَا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع
عن الأصول، والأصل أن تجعل
__________
(1). راجع ج 1 ص 214.
(6/422)
الْهَمْزَةُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ
الْمَفْتُوحَةِ وَالْأَلِفِ، وَعَلَيْهِ كُلُّ مَنْ خَفَّفَ
الثَّانِيَةَ غَيْرَ وَرْشٍ، وَحَسُنَ جَوَازُ الْبَدَلِ فِي
الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا سَاكِنٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَرْفُ
مَدٍّ وَلِينٍ، فَالْمَدُّ الَّذِي يَحْدُثُ مَعَ السَّاكِنِ
يَقُومُ مَقَامَ حَرَكَةٍ يُوصَلُ بِهَا إِلَى النُّطْقِ
بِالسَّاكِنِ الثَّانِي. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ
وَحَمْزَةُ (أَرَأَيْتَكُمْ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ
وَأَتَوْا بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلِهَا، وَالْأَصْلُ
الْهَمْزُ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى
(رَأَيْتَ) فَالْهَمْزَةُ عَيْنُ الْفِعْلِ، وَالْيَاءُ
سَاكِنَةٌ لِاتِّصَالِ الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ بِهَا.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْكِسَائِيُّ (أَرَيْتَكُمْ)
بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي
الشِّعْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا
شَأْنُهُ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْكَافَ
وَالْمِيمَ لِلْخِطَابِ، لا حظ لهما في الاعراب، وهو اختبار
الزَّجَّاجِ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ
وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ نُصِبَ بِوُقُوعِ
الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى أَرَأَيْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ، فَإِذَا كَانَتْ لِلْخِطَابِ- زَائِدَةٌ
لِلتَّأْكِيدِ- كَانَ (إِنْ) مِنْ قَوْلِهِ" إِنْ أَتاكُمْ"
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لَرَأَيْتَ، وَإِذَا
كَانَ اسْمًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فَ (- إِنْ) فِي مَوْضِعِ
الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ
لِتَعَدِّيهَا لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ
تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ أَتَتْكُمُ
السَّاعَةُ) الْمَعْنَى: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الَّتِي
تُبْعَثُونَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وَالْآيَةُ فِي مُحَاجَّةِ
الْمُشْرِكِينَ مِمَّنِ اعْتَرَفَ أَنَّ لَهُ صَانِعًا، أَيْ
أَنْتُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ تُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ،
وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا فَلِمَ
تُصِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ؟!
وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فِي
صَرْفِ الْعَذَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ) " بَلْ" إِضْرَابٌ عَنِ الْأَوَّلِ وَإِيجَابٌ
لِلثَّانِي." إِيَّاهُ" نُصِبَ. بِ"- تَدْعُونَ" (فَيَكْشِفُ
مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) أَيْ يَكْشِفُ الضُّرَّ
الَّذِي تَدْعُونَ إِلَى كَشْفِهِ إِنْ شَاءَ كَشْفَهُ.
(وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) قِيلَ: عِنْدَ نُزُولِ
الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ تُعْرِضُونَ عَنْهُ
إِعْرَاضَ النَّاسِي، وَذَلِكَ لِلْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ
مِنْ قَبْلِهِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَلَا نَفْعَ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَتَتْرُكُونَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: مِثْلَ قَوْلِهِ:" وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى
آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ" «1»] طه: 115].
__________
(1). راجع ج 11 ص 251.
(6/423)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
[سورة الأنعام (6): آية 42]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ
بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ) الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ أَرْسَلْنَا
إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا وَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ
يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَكَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَ
اتِّصَالِ الْحَالِ بِحَالٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ
هَؤُلَاءِ سَلَكُوا فِي مُخَالَفَةِ نَبِيِّهِمْ مَسْلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَانُوا
بِعَرَضٍ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَزَلَ بمن
كان قبلهم. ومعنى (بِالْبَأْساءِ) بِالْمَصَائِبِ فِي
الْأَمْوَالِ (وَالضَّرَّاءِ) فِي الْأَبَدَانِ، هَذَا قَوْلُ
الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يُوضَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ
الْآخَرِ، وَيُؤَدِّبُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْبَأْسَاءِ
والضراء وبما شاء" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ" «1»]
الأنبياء: 23]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْتَدَلَّ الْعِبَادُ
فِي تَأْدِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَأْسَاءِ فِي تَفْرِيقِ
الْأَمْوَالِ، وَالضَّرَّاءِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَبَدَانِ
بِالْجُوعِ وَالْعُرْيِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قُلْتُ: هَذِهِ
جَهَالَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَجَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلًا
لَهَا، هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ لمن شاء من عباده أن
يَمْتَحِنُهُمْ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمْتَحِنَ
أَنْفُسَنَا وَنُكَافِئَهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا
الْمَطِيَّةُ الَّتِي نَبْلُغُ عَلَيْهَا دَارَ الْكَرَامَةِ،
وَنَفُوزُ بِهَا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي
التَّنْزِيلِ:" يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً" «2»] المؤمنون: 51]
وَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ" «3»] البقرة: 267]." يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ"
«4»] البقرة: 172] فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا خَاطَبَ بِهِ
الْمُرْسَلِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ
وَيَلْبَسُونَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَيَتَجَمَّلُونَ بِهَا،
وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا،
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْمَائِدَةِ) «5»
وَسَيَأْتِي فِي (الْأَعْرَافِ) «6» مِنْ حُكْمِ اللِّبَاسِ
وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا وَاسْتَدَلُّوا
لَمَّا كَانَ فِي امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِالزُّرُوعِ
وَالْجَنَّاتِ وَجَمِيعِ الثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ والانعام
التي سخرها وأباح لنا
__________
(1). راجع ج 11 ص 278.
(2). راجع ج 12 ص 127. [ ..... ]
(3). راجع ج 3 ص 320.
(4). راجع ج 2 ص 215.
(5). راجع ص 263 وما بعدها من هذا الجزء.
(6). راجع ج 7 ص 195.
(6/424)
فَلَوْلَا إِذْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
أَكْلَهَا وَشُرْبَ أَلْبَانِهَا
وَالدِّفْءَ بِأَصْوَافِهَا- إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
امْتَنَّ بِهِ- كَبِيرُ فَائِدَةٍ، فَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ فِيهِ الْفَضْلُ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي آخِرِ (الْبَقَرَةِ) «1» بَيَانُ فَضْلِ
الْمَالِ وَمَنْفَعَتِهِ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَبَى مِنْ
جَمْعِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ مَخَافَةَ الضَّعْفِ عَلَى
الْأَبَدَانِ، وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ رَدًّا عَلَى
الْأَغْنِيَاءِ الْجُهَّالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ) أَيْ يَدْعُونَ وَيُذِلُّونَ، [مَأْخُوذٌ] «2»
مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ: ضرع فهو ضارع.
[سورة الأنعام (6): الآيات 43 الى 45]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما
أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)
(فَلَوْلا) تَحْضِيضٌ، وَهِيَ الَّتِي تَلِّي الْفِعْلَ
بِمَعْنَى هَلَّا، وَهَذَا عِتَابٌ عَلَى تَرْكِ الدُّعَاءِ،
وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا حِينَ
نُزُولِ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا تَضَرَّعُوا
تَضَرُّعَ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، أَوْ تَضَرَّعُوا حِينَ
لَابَسَهُمُ الْعَذَابُ، وَالتَّضَرُّعُ عَلَى هَذِهِ
الْوُجُوهِ غَيْرُ نَافِعٍ. وَالدُّعَاءُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ
الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ" «3»] غافر: 60] وقال:" إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي"] غافر: 60] أي دعائي"
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ"] غافر: 60] وَهَذَا
وَعِيدٌ شَدِيدٌ. (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أَيْ صَلُبَتْ
وَغَلُظَتْ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالْإِصْرَارِ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ
أَغْوَاهُمْ «4» بِالْمَعَاصِي وحملهم عليها.
__________
(1). راجع ج 3 ص 417 وما بعدها.
(2). من ب، ج، ك، ع.
(3). راجع ج 15 ص 326.
(4). في ج، ع، ى: أغراهم.
(6/425)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ) يُقَالُ: لِمَ ذُمُّوا عَلَى النِّسْيَانِ
وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ (نَسُوا)
بِمَعْنَى تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ التَّارِكَ لِلشَّيْءِ إِعْرَاضًا عَنْهُ قَدْ
صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ نَسِيَ، كَمَا يُقَالُ:
تَرَكَهُ. فِي النَّسْيِ. جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ
تَعَرَّضُوا لِلنِّسْيَانِ فَجَازَ الذَّمُّ لِذَلِكَ، كَمَا
جَازَ الذَّمُّ عَلَى التَّعَرُّضِ لسخط الله عز وجل وعقابه.
ومعنى (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ
النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ، أَيْ كَثَّرْنَا لَهُمْ ذَلِكَ.
وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شي كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ.
(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) مَعْنَاهُ بَطِرُوا
وَأَشِرُوا وَأُعْجِبُوا وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ
لَا يَبِيدُ، وَأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى رِضَاءِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ عَنْهُمْ (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أَيِ
اسْتَأْصَلْنَاهُمْ وَسَطَوْنَا بِهِمْ. وَ (بَغْتَةً)
مَعْنَاهُ فَجْأَةً، وَهِيَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَمِنْ
غَيْرِ تقدم أمارة، فإذا أخذ لإنسان وَهُوَ غَارٌ غَافِلٌ
فَقَدْ أُخِذَ بَغْتَةً، وَأَنْكَى شي مَا يَفْجَأُ مِنَ
الْبَغْتِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التَّذْكِيرَ الَّذِي سَلَفَ-
فَأَعْرَضُوا عَنْهُ- قَامَ مَقَامَ الْإِمَارَةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَ (بَغْتَةً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لَا
يُقَاسَ عَلَيْهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ
ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ:"
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" «1»] الأعراف: 183]
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِهِ وَمَكْرِهِ. قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا تَدَبَّرَ هَذِهِ
الْآيَةَ" حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ:
أُمْهِلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَرَوَى
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى
يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ
فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ) ثُمَّ تَلَا"
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ" الْآيَةَ كُلَّهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَسَطَ
اللَّهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ
مُكِرَ لَهُ فِيهَا إِلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ،
وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَمَا أَمْسَكَهَا اللَّهُ عَنْ عَبْدٍ
فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ فِيهَا «2» إِلَّا كَانَ
قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ، وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَفِي الْخَبَرِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا
إِلَيْكَ فَقُلْ مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا
رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا إِلَيْكَ فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ
عُقُوبَتُهُ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)
الْمُبْلِسُ الْبَاهِتُ الْحَزِينُ الْآيِسُ مِنَ الْخَيْرِ
الَّذِي لَا يُحِيرُ جَوَابًا لِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ
سوء الحال، قال العجاج:
__________
(1). راجع ج 7 ص 329.
(2). في ج: في ذلك.
(6/426)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ
يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسًا
«1» ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
أَيْ تَحَيَّرَ لِهَوْلِ مَا رَأَى، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتُقَّ
اسْمُ إِبْلِيسَ، أَبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ، وَأَبْلَسَتِ
النَّاقَةُ وَهِيَ مِبْلَاسٌ إِذَا لم ترغ من شدة الضبعة، ضبعت
الناق تَضْبَعُ ضَبَعَةً وَضَبْعًا إِذَا أَرَادَتِ الْفَحْلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) الدَّابِرُ الْآخِرُ، يُقَالُ: دَبَرَ الْقَوْمُ
يَدْبِرُهُمْ دَبْرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ فِي الْمَجِيءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (مِنَ
النَّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ إِلَّا دَبَرِيًّا) «2»
أَيْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَالْمَعْنَى هُنَا قَطَعَ
خَلَفَهُمْ مِنْ نَسْلِهِمْ وَغَيَّرَهُمْ فَلَمْ تَبْقَ
لَهُمْ بَاقِيَةٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: يَعْنِي أَنَّهُمُ
اسْتُؤْصِلُوا وَأُهْلِكُوا. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي
الصَّلْتِ:
فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا
اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
وَمِنْهُ التَّدْبِيرُ لِأَنَّهُ إِحْكَامُ عَوَاقِبِ
الْأُمُورِ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قِيلَ:
عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَقِيلَ: تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
الْحُجَّةَ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الظُّلْمِ، لِمَا يَعْقُبُ
مِنْ قَطْعِ الدَّابِرِ، إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ، مَعَ
اسْتِحْقَاقِ القاطع الحمد من كل حامد.
[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ
إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ). أَيْ أَذْهَبَ وَانْتَزَعَ.
وَوَحَّدَ" سَمْعَكُمْ" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى
الْجَمْعِ. (وَخَتَمَ) أَيْ طَبَعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «3».
__________
(1). المكرس: الذي صار فيه الكرس والكرس (بالكسر): أبوال الإبل
وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار والدمن. وأبلس: سكت
غما.
(2). دبريا: يروي (بفتح الباء وسكونها) وهو منسوب إلى الدبر
آخر الشيء وفتح الباء من تغيرات النسب. (ابن الأثير).
(3). راجع ج 1 ص 185.
(6/427)
وَجَوَابُ (إِنْ) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِهِ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ، لِأَنَّهَا فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِكَ: اضْرِبْهُ إِنْ خَرَجَ أَيْ
خَارِجًا. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةُ
بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ، وَقَدْ يُذْهِبُ اللَّهُ الْجَوَارِحَ
وَالْأَعْرَاضَ جَمِيعًا فَلَا يُبْقِي شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً" «1»] النساء:
47] وَالْآيَةُ احْتِجَاجٌ عَلَى الْكُفَّارِ. (مَنْ إِلهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) " مَنْ" رُفِعَ
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهَا" إِلهٌ" و" غَيْرُ" صِفَةٌ لَهُ،
وَكَذَلِكَ" يَأْتِيكُمْ" مَوْضِعُهُ رَفْعٌ بِأَنَّهُ صِفَةُ"
إِلهٌ" وَمَخْرَجُهَا مَخْرَجُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْجُمْلَةُ
الَّتِي هِيَ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ رَأَيْتُمْ.
وَمَعْنَى" أَرَأَيْتُمْ". عَلِمْتُمْ، وَوُحِّدَ الضَّمِيرُ
فِي (بِهِ) - وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ بِالْجَمْعِ- لِأَنَّ
الْمَعْنَى أَيْ بِالْمَأْخُوذِ، فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى
الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّمْعِ بِالتَّصْرِيحِ،
مِثْلَ قَوْلِهِ:" وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ" «2»] التوبة: 62] وَدَخَلَتِ الْأَبْصَارُ
وَالْقُلُوبُ بِدَلَالَةِ التَّضْمِينِ. وَقِيلَ:" مَنْ إِلهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ". بِأَحَدِ هَذِهِ
الْمَذْكُورَاتِ. وَقِيلَ: عَلَى الْهُدَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ
الْمَعْنَى. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ (بِهِ
انْظُرْ) بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ
أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ مَضْمُومَةً كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ
مَعَهُ. قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى
تَفْضِيلِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ لِتَقْدِمَتِهِ هُنَا
وَفِي غَيْرِ آيَةٍ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي أَوَّلِ"
الْبَقَرَةِ «3» " مُسْتَوْفًى. وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ
الْإِتْيَانُ بِهَا مِنْ جِهَاتٍ، مِنْ إِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ
وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (ثُمَّ هُمْ
يَصْدِفُونَ) أَيْ يُعْرِضُونَ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، يُقَالُ:
صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ صَدْفًا
وَصُدُوفًا فَهُوَ صَادِفٌ. وَصَادَفْتُهُ مُصَادَفَةً أَيْ
لَقِيتُهُ عَنْ إِعْرَاضٍ عَنْ جِهَتِهِ، قَالَ ابْنُ
الرِّقَاعِ:
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ
كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
وَالصُّدَفُ فِي الْبَعِيرِ أَنْ يَمِيلَ خُفُّهُ مِنَ الْيَدِ
أَوِ الرِّجْلِ إِلَى الْجَانِبِ الْوَحْشِيِّ، فَهُمْ]
يَصْدِفُونَ «4» أَيْ [مَائِلُونَ مُعْرِضُونَ عَنِ الحجج
والدلالات.
__________
(1). راجع ج 5 ص 241. [ ..... ]
(2). راجع ج 8 ص 193.
(3). راجع ج 1 ص 189.
(4). من ع.
(6/428)
وَمَا نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ
آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)
الْحَسَنُ:" بَغْتَةً" لَيْلًا" أَوْ جَهْرَةً" نَهَارًا.
وَقِيلَ: بَغْتَةً فَجْأَةً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ
بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ يَبْغَتُهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَةً إِذَا
أَتَاهُمْ فَجْأَةً. وَقَدْ تَقَدَّمُ. (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) نَظِيرُهُ" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ" «1»] الأحقاف: 35] أَيْ هَلْ يُهْلَكُ
إِلَّا أَنْتُمْ لِشِرْكِكُمْ وَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَى
الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ:" يَا بُنَيَّ لَا
تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" «2»]
لقمان: 13].
[سورة الأنعام (6): آية 48]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أَيْ بِالتَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ. قَالَ الْحَسَنُ: مُبَشِّرِينَ بِسَعَةِ
الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ،
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" «3»] الأعراف: 96]. وَمَعْنَى
(مُنْذِرِينَ) مُخَوِّفِينَ عِقَابَ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى:
إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الْمُرْسَلِينَ لِهَذَا لَا لِمَا
يُقْتَرَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ
مِنَ الْآيَاتِ بِمَا تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله:
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ). تقدم القول فيه.
[سورة الأنعام (6): آية 49]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما
كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أَيْ
بِالْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أَيْ
يُصِيبُهُمْ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي يكفرون.
[سورة الأنعام (6): آية 50]
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
__________
(1). راجع ج 16 ص 222.
(2). راجع ج 14 ص 62.
(3). راجع ج 7 ص 253.
(6/429)
وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) هذا جواب لقولهم:" لَوْلا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"] الانعام: 37]،
فَالْمَعْنَى لَيْسَ عِنْدِي خَزَائِنُ قُدْرَتِهِ فَأَنْزَلَ
مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا أَعْلَمَ
الْغَيْبَ فَأُخْبِرُكُمْ بِهِ. وَالْخِزَانَةُ مَا يُخَزَّنُ
فِيهِ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (فَإِنَّمَا تَخْزُنُ
لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطَعِمَاتِهِمْ أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرُ
خِزَانَتُهُ). وَخَزَائِنُ اللَّهِ مَقْدُورَاتُهُ، أَيْ لَا
أَمْلِكُ أَنْ أَفْعَلَ] كُلَّ مَا [«1» أُرِيدُ مِمَّا
تَقْتَرِحُونَ (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أَيْضًا (وَلا
أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وَكَانَ الْقَوْمُ
يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ، أَيْ لَسْتُ
بِمَلَكٍ فَأُشَاهِدُ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ مَا لَا يَشْهَدُهُ
الْبَشَرُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ
الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ مَضَى
فِي" الْبَقَرَةِ" «2» الْقَوْلُ فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ)
ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ
فِيهِ وَحْيٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ
مِنْهُمُ الِاجْتِهَادُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ،
وَالْقِيَاسُ أَحَدُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ
هَذَا فِي" الْأَعْرَافِ" «3» وَجَوَازُ اجْتِهَادِ
الْأَنْبِيَاءِ فِي (الْأَنْبِيَاءِ) «4» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ) أَيِ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ، عَنْ مُجَاهِدٍ]
وَغَيْرِهِ [«5». وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ. (أَفَلا
تَتَفَكَّرُونَ) أَنَّهُمَا لا يستويان.
[سورة الأنعام (6): آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى
رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ بِهِ) أَيْ بِالْقُرْآنِ.
وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «6». وَقِيلَ:" بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ:
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَخَصَّ" الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ
يُحْشَرُوا لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبُ، فَهُمْ
خَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، لَا أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي
الْحَشْرِ، فَالْمَعْنَى" يَخافُونَ"
__________
(1). من ب وج وع.
(2). راجع ج 1 ص 289 وص 184.
(3). راجع ج 7 ص 171.
(4). راجع ج 11 ص 309.
(5). من ب، ج، ك، ع.
(6). راجع ج 1 ص 289 وص 184.
(6/430)
وَلَا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
يَتَوَقَّعُونَ عَذَابَ الْحَشْرِ.
وَقِيلَ:" يَخافُونَ" يَعْلَمُونَ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا
أُنْذِرَ لِيَتْرُكَ الْمَعَاصِيَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ أُنْذِرَ لِيَتَّبِعَ الْحَقَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَنْ
أَقَرَّ بِالْبَعْثِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَقِيلَ:
الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ أَيْ أَنْذِرْهُمْ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ (شَفِيعٌ) هَذَا رَدٌّ
عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي زَعْمِهِمَا أَنَّ
أَبَاهُمَا يَشْفَعُ لَهُمَا حيث قالوا:" نَحْنُ أَبْناءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"] المائدة: 18] وَالْمُشْرِكُونَ
حَيْثُ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ
لِلْكُفَّارِ. وَمَنْ قَالَ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ: شَفَاعَةُ الرَّسُولِ لَهُمْ تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ
فَهُوَ الشَّفِيعُ حَقِيقَةً إِذَنْ، وَفِي التَّنْزِيلِ:"
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " «1»] الأنبياء:
28]." وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ" «2»] سبأ: 23]." مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ" «3»] البقرة: 255]. (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الثَّبَاتُ على
الايمان.
[سورة الأنعام (6): آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ
شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ"] الْآيَةَ [«4». قَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَلَا
نَرْضَى بِمُجَالَسَةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ- يَعْنُونَ
سَلْمَانَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا «5» -
فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ، وَطَلَبُوا أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ
بِذَلِكَ، فَهَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، فَقَامَ
الْفُقَرَاءُ وَجَلَسُوا نَاحِيَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
الْآيَةَ. وَلِهَذَا أَشَارَ سَعْدٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مَالَ إِلَى ذَلِكَ طَمَعًا فِي
إِسْلَامِهِمْ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ
لَا يُفَوِّتُ أَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَلَا يُنْقِصُ لَهُمْ
قَدْرًا، فَمَالَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ،
فَنَهَاهُ عَمَّا هَمَّ بِهِ مِنَ الطَّرْدِ لَا أَنَّهُ
أَوْقَعَ الطَّرْدَ. رَوَى مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ قَالَ: كنا مع النبي صلى الله
__________
(1). راجع ج 11 ص 281.
(2). راجع ج 14 ص 295. [ ..... ]
(3). راجع ج 3 ص 273.
(4). من ج، ب، ك.
(5). في ب وع وك وج وهـ: حسان.
(6/431)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ،
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ عَنْكَ لا يجترءون عَلَيْنَا،
قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ
هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا،
فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ". قِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الْمُحَافَظَةُ
عَلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْجَمَاعَةِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الدُّعَاءَ
فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، لِيَسْتَفْتِحُوا
يَوْمَهُمْ بِالدُّعَاءِ رَغْبَةً فِي التَّوْفِيقِ.
وَيَخْتِمُوهُ بِالدُّعَاءِ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ."
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" أَيْ طَاعَتَهُ، وَالْإِخْلَاصَ فِيهَا،
أَيْ يُخْلِصُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِلَّهِ،
وَيَتَوَجَّهُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ:
يُرِيدُونَ اللَّهَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّ لَهُ الْوَجْهَ كَمَا
قَالَ:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ"
«1»] الرحمن: 27] وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ" «2»] الرعد: 22]. وَخَصَّ
الْغَدَاةَ وَالْعَشِيَّ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الشُّغْلَ
غَالِبٌ فِيهِمَا عَلَى النَّاسِ، وَمَنْ كَانَ فِي وَقْتِ
الشُّغْلِ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ كَانَ فِي وَقْتِ
الْفَرَاغِ مِنَ الشُّغْلِ أَعْمَلَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَصْبِرُ
نَفْسَهُ مَعَهُمْ كَمَا أَمَرَهُ] اللَّهُ [«3» فِي
قَوْلِهِ:" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا
تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ"] الكهف: 28]، فَكَانَ لَا يَقُومُ
حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الذِينَ يَبْتَدِئُونَ الْقِيَامَ،
وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا مُكَمَّلًا ابْنُ
مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ خَبَّابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ" إِلَى قَوْلِهِ:" فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ" قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ
فَوَجَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ، قَاعِدًا فِي
نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا
رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَقَّرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوَا بِهِ وَقَالُوا:
إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ
لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ
تَأْتِيكَ فَنَسْتَحِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ
الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنْكَ،
فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ،
قَالَ: (نَعَمْ) قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا،
قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ وَدَعَا عَلِيًّا- رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ- لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ:
__________
(1). راجع ج 17 ص 164.
(2). راجع ج 9 ص 310.
(3). من ع.
(6/432)
" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ" ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ
وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، فَقَالَ:" وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ"] الانعام: 53] ثُمَّ قَالَ:" وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ"] الانعام: 54]
قَالَ: فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى
رُكْبَتِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ
قَامَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا"]
الكهف: 28] وَلَا تُجَالِسِ الْأَشْرَافَ" وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا"] الكهف: 28] يَعْنِي
عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ،" وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً" «1»] الكهف: 28]، أَيْ هَلَاكًا. قَالَ: أَمْرُ
عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ
الرَّجُلَيْنِ وَمَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. قَالَ
خَبَّابٌ: فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بَلَغْنَا السَّاعَةَ الَّتِي
يَقُومُ فِيهَا قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ، رَوَاهُ
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ
«2» حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
«3» الْأَزْدِيِّ وَكَانَ قَارِئَ الْأَزْدِ عَنْ أَبِي
الْكَنُودِ عَنْ خَبَّابٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سَعْدٍ
قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا سِتَّةٍ، فِيَّ وَفِي
ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ
وَبِلَالٍ، قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ
أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ، قَالَ: فَدَخَلَ قَلْبَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ" الآية. وقرى (بِالْغُدْوَةِ)
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي (الْكَهْفِ) «4» إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ" أَيْ مِنْ جَزَائِهِمْ وَلَا كِفَايَةِ «5»
أَرْزَاقِهِمْ، أَيْ جَزَاؤُهُمْ وَرِزْقُهُمْ عَلَى اللَّهِ،
وَجَزَاؤُكَ وَرِزْقُكَ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ.
(مِنَ) الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ
لِلتَّوْكِيدِ. وَكَذَا" وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ
شَيْءٍ" الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَأَقْبِلْ عَلَيْهِمْ وَجَالِسْهُمْ وَلَا تَطْرُدْهُمْ
مُرَاعَاةً لِحَقِّ مَنْ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ حالهم في الدين
__________
(1). راجع ج 10 ص 390.
(2). العنقزي: ضبط (القاموس). (لب اللباب) بفتح القاف. وقال في
التهذيب: هو بكسرها.
(3). في ج، ك، ى، ع. ويقال: أبو سعد.
(4). راجع ج 10 ص 390.
(5). في ك: كفالة.
(6/433)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ (53)
وَالْفَضْلِ، فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ
ظَالِمًا. وَحَاشَاهُ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا
هَذَا بَيَانٌ لِلْأَحْكَامِ، وَلِئَلَّا يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ
مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السَّلَامِ، وَهَذَا مِثْلُ
قَوْلِهِ:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" «1»]
الزمر: 65] وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْرِكُ
وَلَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ." فَتَطْرُدَهُمْ" جَوَابُ
النَّفْيِ." فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" نُصِبَ بِالْفَاءِ
فِي جَوَابِ النَّهْيِ، الْمَعْنَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَمَا مِنْ
حِسَابِكَ، عَلَيْهِمْ مِنْ شي فَتَطْرُدَهُمْ، عَلَى
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَالظُّلْمُ أَصْلُهُ وَضْعُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «2» مُسْتَوْفًى. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ قُوَّةِ
الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ
لِجَاهِهِ وَلِثَوْبِهِ «3»، وَعَنْ أَنْ يُحْتَقَرَ أَحَدٌ
لِخُمُولِهِ وَلِرَثَاثَةِ ثوبيه.
[سورة الأنعام (6): آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)
أَيْ كَمَا فَتَنَّا مَنْ قَبْلَكَ كَذَلِكَ فَتَنَّا
هَؤُلَاءِ. وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، أَيْ عَامَلْنَاهُمْ
مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ. (لِيَقُولُوا) نُصِبَ بِلَامِ
كَيْ، يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالْأَغْنِيَاءَ. (أَهؤُلاءِ)
يَعْنِي الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ. (مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ
الْمُشْكِلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا
هَذِهِ الْآيَةَ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنْكَارًا فَهُوَ
كُفْرٌ مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ
الْمَعْنَى اخْتُبِرَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْفُقَرَاءِ أَنْ
تَكُونَ مَرْتَبَتُهُمْ وَاحِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولُوا عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ:" أَهؤُلاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وَالْجَوَابُ
الْآخَرُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتُبِرُوا بِهَذَا فَآلَ
عَاقِبَتُهُ إِلَى أَنْ قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ
الْإِنْكَارِ، وَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ:" فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «4»] القصص:
8]. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فِيمَنْ
عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ
اللَّهُ مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ،
وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وقل: الْمَعْنَى أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ مَنْ يَشْكُرُ الْإِسْلَامَ إذا هديته إليه.
__________
(1). راجع ج 15 ص 276.
(2). راجع ج 1 ص 309.
(3). في ج، ك، ى، ع، هـ: أبويه. [ ..... ]
(4). راجع ج 15؟ ص 276.
(6/434)
وَإِذَا جَاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
[سورة الأنعام (6): آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) السَّلَامُ
وَالسَّلَامَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى" سَلامٌ
عَلَيْكُمْ" سَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِي دِينِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ
نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ طَرْدِهِمْ،
فَكَانَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ
أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ) فَعَلَى هَذَا
كَانَ السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ
اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَبْلِغْهُمْ مِنَّا السَّلَامُ،
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمْ
وَمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَنَفَرٍ
فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ
عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟!
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ
أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ
أَغْضَبْتَ رَبَّكَ) فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا
إِخْوَتَاهُ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا، يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكَ يَا أَخِي، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى رِفْعَةِ مَنَازِلِهِمْ
وَحُرْمَتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي [مَعْنَى] «1» الْآيَةِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا احْتِرَامُ الصَّالِحِينَ
وَاجْتِنَابُ مَا يُغْضِبُهُمْ أَوْ يُؤْذِيهِمْ، فَإِنَّ فِي
ذَلِكَ غَضَبَ اللَّهِ، أَيْ حُلُولَ عِقَابِهِ بِمَنْ آذَى
أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتِ
الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] «2». وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ
أَصَبْنَا مِنَ الذُّنُوبِ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَأَعْرَضَ
عَنْهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ
رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ
بِخَبَرِهِ الصِّدْقِ، وَوَعْدِهِ الْحَقِّ، فَخُوطِبَ
الْعِبَادُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّهُ مَنْ كَتَبَ
شَيْئًا فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: كَتَبَ
ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أَيْ خَطِيئَةً من غير قصد،
__________
(1). من ج، وع، ك، وه وى.
(2). من ك وى.
(6/435)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَعْلَمُ حَلَالًا
مِنْ حَرَامٍ وَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ الْأَمْرَ، فَكُلُّ
مَنْ عَمِلَ خَطِيئَةً فَهُوَ بِهَا جَاهِلٌ، وَقَدْ مَضَى
هَذَا الْمَعْنَى فِي" النِّسَاءِ" «1» وَقِيلَ: مَنْ آثَرَ
الْعَاجِلَ عَلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْجَاهِلُ. (فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) قَرَأَ بِفَتْحِ" أَنَّ" مِنْ" فَأَنَّهُ"
ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ، وَكَذَلِكَ" أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ"
وَوَافَقَهُمَا نَافِعٌ فِي" أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ". وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، فَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلرَّحْمَةِ، وَ
(إِنْ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمَلِ كُسِرَتْ وَحُكْمُ مَا
بَعْدَ الْفَاءِ الِابْتِدَاءُ وَالِاسْتِئْنَافُ فَكُسِرَتْ
لِذَلِكَ. وَمَنْ فَتَحَهُمَا فَالْأَوْلَى فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَدَلِ الشَّيْءِ
مِنَ الشَّيْءِ وَهُوَ هُوَ فَأَعْمَلَ فِيهَا (كَتَبَ)
كَأَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ
مَنْ عَمِلَ، وَأَمَّا (فَأَنَّهُ غَفُورٌ) بِالْفَتْحِ
فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ، كَأَنَّهُ
قَالَ: فَلَهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ
الْفَاءِ مُبْتَدَأٌ، أَيْ فَلَهُ غُفْرَانُ اللَّهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُضْمَرَ مُبْتَدَأُ تَكُونُ
(أَنَّ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ خَبَرُهُ، تَقْدِيرُهُ:
فَأَمْرُهُ غُفْرَانُ اللَّهِ لَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ
سِيبَوَيْهِ، وَلَمْ يُجِزِ الْأَوَّلَ، وَأَجَازَهُ أَبُو
حَاتِمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ (كَتَبَ) عَمِلَ فِيهَا، أَيْ كَتَبَ
رَبُّكُمْ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ صَالِحٍ وَابْنِ هُرْمُزٍ كَسْرُ الْأُولَى عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَفَتْحُ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ
مُبْتَدَأَةً أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ أَوْ مَعْمُولَةً
لِكَتَبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمَنْ فَتَحَ الْأُولَى-
وَهُوَ نَافِعٌ- جَعَلَهَا بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ،
وَاسْتَأْنَفَ الثَّانِيَةَ لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.
[سورة الأنعام (6): آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ)
التَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي،
وَالْمَعْنَى: وَكَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
دَلَائِلَنَا وَمُحَاجَّتَنَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ
إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَنُبَيِّنُ لَكُمْ
أَدِلَّتَنَا وَحُجَجَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ
الباطل.
__________
(1). راجع ج 5 ص 92.
(6/436)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ
لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ:" نُفَصِّلُ
الْآياتِ" نَأْتِي بِهَا شَيْئًا بعد شي، وَلَا نُنَزِّلُهَا
جُمْلَةً مُتَّصِلَةً. (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ) يُقَالُ: هَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ
بِالْفِعْلِ فَأَيْنَ الْفِعْلُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ؟
فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُقَدَّرٌ، أَيْ وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَلِتَسْتَبِينَ،
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْحَذْفُ كُلُّهُ لَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
فَصَّلْنَاهَا. وَقِيلَ: إِنَّ دُخُولَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ
عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَلِيَسْتَبِينَ،
قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. (سَبِيلُ) بِرَفْعِ اللَّامِ
وَنَصْبِهَا، وَقِرَاءَةُ التَّاءِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ وَلِتَسْتَبِينَ يَا
مُحَمَّدُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَبِينَهَا؟ فَالْجَوَابُ
عِنْدَ الزَّجَّاجِ- أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ، فَالْمَعْنَى:
وَلِتَسْتَبِينُوا سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ:
فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَفِي هَذَا
جَوَابَانِ، أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ:"
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" «1»] النحل: 81] فَالْمَعْنَى،
وَتَقِيكُمُ الْبَرْدَ ثُمَّ حُذِفَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا
الْمَعْنَى وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ
حُذِفَ. وَالْجَوَابُ الْآخَرُ- أَنْ يُقَالَ: اسْتَبَانَ
الشَّيْءُ وَاسْتَبَنْتُهُ، وَإِذَا بَانَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ فَقَدْ بَانَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالسَّبِيلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَتَمِيمٌ تُذَكِّرُهُ،
وَأَهْلُ الْحِجَازِ تُؤَنِّثُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ" وَإِنْ
يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ" «2»] الأعراف: 146] مذكر" لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" «3»] آل عمران: 99]
مُؤَنَّثٌ، وَكَذَلِكَ قُرِئَ (وَلِتَسْتَبِينَ) بِالْيَاءِ
وَالتَّاءِ، فَالتَّاءُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ.
[سورة الأنعام (6): آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ
إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قِيلَ:" تَدْعُونَ"
بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تَدْعُونَهُمْ فِي مُهِمَّاتِ
أُمُورِكُمْ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ
الْأَصْنَامَ. (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) فِيمَا
طَلَبْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْ
طَرْدِ مَنْ أَرَدْتُمْ طَرْدَهُ. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أَيْ
قَدْ ضَلَلْتُ إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ. (وَما أَنَا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أَيْ على طريق رشد وهدى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 159.
(2). راجع ج 7 ص 282.
(3). راجع ج 4 ص 154.
(6/437)
قُلْ إِنِّي عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
وقرى" ضَلَلْتُ" بِفَتْحِ اللَّامِ
وَكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو] بْنُ
الْعَلَاءِ [«1»: ضَلِلْتُ بِكَسْرِ اللَّامِ لُغَةُ تَمِيمٍ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ] يَحْيَى [«2» بْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةَ بْنِ
مُصَرِّفٍ، وَالْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ وَالْأَفْصَحُ،
لِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالضَّلَالُ
وَالضَّلَالَةُ ضِدُّ الرَّشَادِ، وَقَدْ ضَلَلْتُ أَضِلُّ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما
أَضِلُّ عَلى «3» نَفْسِي"] سبأ: 50] فَهَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ،
وَهِيَ الْفَصِيحَةُ، وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يقولون: ضللت
بالكسر أضل.
[سورة الأنعام (6): آية 57]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ
مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ
لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)
أَيْ دَلَالَةٍ وَيَقِينٍ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا عَلَى
هَوًى، وَمِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ
وَتُظْهِرُهُ. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ
لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ"] النساء: 8] عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ «4». وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ،
أَيْ كَذَّبْتُمْ بِرَبِّي لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُ. وَقِيلَ:
بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ
الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَا أَنْشَدَهُ مُصْعَبُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا
محسنا رضي الله عنه:
أأقعد بعد ما رَجَفَتْ عِظَامِي ... وَكَانَ الْمَوْتُ
أَقْرَبَ مَا يَلِينِي
أُجَادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ خَصِيمٍ ... وَأَجْعَلُ دِينَهُ
غَرَضًا لِدِينِي
فَأَتْرُكُ مَا عَلِمْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي ... وَلَيْسَ
الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ
وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ ... يُصَرَّفُ فِي
الشَّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ
وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَنٌ قِوَامُ ... يَلُحْنَ بِكُلِّ
فَجٍّ أو وجئن «5»
وَكَانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ ... أَغَرَّ كَغُرَّةِ
الفلق المبين
__________
(1). من ى، ك.
(2). من ك.
(3). راجع ج 14 ص 313.
(4). راجع ج 5 ص 50.
(5). الوجين: شط الوادي.
(6/438)
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ ...
بِمِنْهَاجِ ابْنِ آمِنَةَ الْأَمِينِ
فَأَمَّا مَا عَلِمْتُ فَقَدْ كَفَانِي ... وَأَمَّا مَا
جَهِلْتُ فَجَنِّبُونِي
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)
أَيِ الْعَذَابُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لِفَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ
يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ اسْتِهْزَاءً نَحْوَ قَوْلِهِمْ:"
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً" «1»]
الاسراء: 92] " اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ" «2»]
الأنفال: 32]. وَقِيلَ: مَا عِنْدِي مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي
تَقْتَرِحُونَهَا. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ
وَتَعْجِيلِهِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ لِلَّهِ. (يَقُصُّ الْحَقَّ) أَيْ يَقُصُّ
الْقَصَصَ الْحَقَّ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْمَجَازَ
فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ
وَعَاصِمٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَعْرَجِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" [يوسف: 3] «3». وَالْبَاقُونَ"
يَقْضِ الْحَقَّ" بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ
عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ
فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ «4»، وَلَا يَنْبَغِي
الْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَدَلَّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ بَعْدَهُ (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)
وَالْفَصْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَضَاءً دُونَ قَصَصٍ،
وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ:" إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ" وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقْضِي بِالْحَقِّ) فَدُخُولُ
الْبَاءِ يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
هَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ مَعْنَى" يَقْضِي" يَأْتِي
وَيَصْنَعُ فَالْمَعْنَى: يَأْتِي الْحَقَّ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الْمَعْنَى: يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ. قَالَ
مَكِّيٌّ: وَقِرَاءَةُ الصَّادِ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِاتِّفَاقِ
الْحَرَمِيِّينَ وَعَاصِمٍ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ مِنَ الْقَضَاءِ لَلَزِمَتِ الْبَاءُ فِيهِ كَمَا أَتَتْ
فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا
الِاحْتِجَاجُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْبَاءِ
تحذف كثيرا.
__________
(1). راجع ج 10 ص 327.
(2). راجع ج 7 ص 398. [ ..... ]
(3). راجع ج 9 ص 119.
(4). قال الفخر الرازي (يقض) بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء
الساكنين كما كتبوا (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (فَما تُغْنِ
النُّذُرُ).
(6/439)
قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
[سورة الأنعام (6): آية 58]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ
الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالظَّالِمِينَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ" أَيْ مِنَ الْعَذَابِ لَأَنْزَلْتُهُ
بِكُمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَمْرُ إِلَى آخِرِهِ.
وَالِاسْتِعْجَالُ: تَعْجِيلُ طَلَبِ الشَّيْءِ قَبْلَ
وَقْتِهِ." وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ" أي بالمشركين
وبوقت عقوبتهم.
مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تَمَّ الْجُزْءُ السَّادِسُ
مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى الْجُزْءُ السَّابِعُ، وَأَوَّلُهُ قوله تعالى:
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)
(6/440)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا
رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
الجزء السابع
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة الأنعام]
[سورة الأنعام (6): آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ
(59)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- جَاءَ فِي الْخَبَرِ
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ نَزَلَ مَعَهَا اثْنَا
عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خمس لا يعلمها إلا الله لَا
يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا
يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى
يَأْتِي الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى
تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي
غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ:" قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" «1» وَمَفَاتِحُ جَمْعُ
مَفْتَحٍ، هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَيُقَالُ:
مِفْتَاحٌ وَيُجْمَعُ مَفَاتِيحُ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ
السَّمَيْقَعِ" مَفَاتِيحُ". وَالْمِفْتَحُ عِبَارَةٌ عَنْ
كُلِّ مَا يَحُلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كالقفل على البيت
أو معقول كَالنَّظَرِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ
وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ
مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ
لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ
اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ
جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ (. وَهُوَ
فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةٌ عَنِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغُيُوبِ
كَمَا يُتَوَصَّلُ فِي الشَّاهِدِ بِالْمِفْتَاحِ إِلَى
الْمُغَيَّبِ عَنِ الْإِنْسَانِ،
__________
(1). راجع ج 13 ص 225.
(7/1)
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ افْتَحْ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ
أَعْطِنِي أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِهِ.
فَاللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ، وَبِيَدِهِ
الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا
هُوَ، فَمَنْ شَاءَ إِطْلَاعَهُ عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ، وَمَنْ
شَاءَ حَجْبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ
إِفَاضَتِهِ إِلَّا عَلَى رُسُلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ" «1»
وَقَالَ:" عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ
أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ" «2». (الْآيَةَ)
«3» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَفَاتِحِ خَزَائِنُ الرِّزْقِ،
عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ. مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ:
خَزَائِنُ الْأَرْضِ. وَهَذَا مَجَازٌ، عُبِّرَ عَنْهَا بِمَا
يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِهِ. وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا
يَتَضَمَّنُهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَيْ عِنْدَهُ الْآجَالُ
وَوَقْتُ انْقِضَائِهَا. وَقِيلَ: عَوَاقِبُ الْأَعْمَارِ
وَخَوَاتِمُ الْأَعْمَالِ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ
الْأَقْوَالِ. وَالْأَوَّلُ الْمُخْتَارُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَضَافَ سُبْحَانَهُ عِلْمَ
الْغَيْبِ إِلَى نَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ
إِلَّا مَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ «4». فَمَنْ قَالَ:
إِنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا وَجَزَمَ فَهُوَ كَافِرٌ،
أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ ادَّعَاهَا أَمْ لَا. وَكَذَلِكَ
مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ
كَافِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ وَقَالَ: إِنَّ النَّوْءَ «5»
يُنْزِلُ اللَّهُ بِهِ الْمَاءَ عَادَةً، وَأَنَّهُ سَبَبُ
الْمَاءِ عَادَةً، وَأَنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا
قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ لَمْ يَكْفُرْ، إِلَّا
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ
فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَجَهْلًا
بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَتَى شَاءَ،
مَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَمَرَّةً دُونَ النَّوْءِ، قَالَ
الله تعالى: «6» " أصبح من مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي
وَكَافِرٌ (بِالْكَوْكَبِ) " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
الْوَاقِعَةِ" «7» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ: إِذَا كَانَ
الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ،
وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى،
وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ
أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا
وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ يَفْسُقْ.
وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى الْكَسْبَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمُرِ
فَهُوَ كَافِرٌ. أَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْكَوَائِنِ
الْمُجَمَلَةِ أَوِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ
أَنْ تكون فلا ريبة
__________
(1). راجع ج 4 ص 288.
(2). راجع ج 19 ص 26.
(3). من ك.
(4). في ك: من رسول.
(5). النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع آخر
من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح
والحر والبرد إلى الساقط منها.
(6). أي في الحديث القدسي.
(7). راجع ج 17 ص 228 فما بعد.
(7/2)
فِي كُفْرِهِ أَيْضًا. فَأَمَّا مَنْ
أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَلَا يُسْجَنُ. أَمَّا عَدَمُ
تَكْفِيرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ
يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حَسَبَ مَا
أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ:" وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ «1» مَنازِلَ". وَأَمَّا أَدَبُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ
يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ، إِذْ لَا يُدْرِكُونَ
الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَيُشَوِّشُونَ
عَقَائِدَهُمْ وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدَهُمْ فِي الْيَقِينِ
فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا «2» ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ
وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ
(أَيْضًا) «3» مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ أَتَى
عَرَّافًا (فَسَأَلَهُ عن «4» شي) لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً". وَالْعَرَّافُ هُوَ الْحَازِرُ
وَالْمُنَجِّمُ الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ. وَهِيَ
مِنْ الْعَرَافَةِ وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ، وَهُوَ الَّذِي
يَسْتَدِلُّ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَاتٍ
يَدَّعِي مَعْرِفَتَهَا. وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ أَهْلِ
هَذَا الْفَنِّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطُّرُقِ
وَالنُّجُومِ، وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا
الْفَنُّ هُوَ الْعِيَافَةُ (بِالْيَاءِ). وَكُلُّهَا
يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِهَانَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي
عِيَاضٌ. وَالْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (كِتَابِ) «5»
(الْكَافِي): مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى
تَحْرِيمِهَا الرِّبَا وَمُهُورُ الْبَغَايَا والسحت والرشاء
وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى النِّيَاحَةِ وَالْغِنَاءِ،
وَعَلَى الْكِهَانَةِ وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ وَأَخْبَارِ
السَّمَاءِ، وَعَلَى الزَّمْرِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ
كُلِّهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَقَدِ انْقَلَبَتِ الْأَحْوَالُ
فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِإِتْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ،
وَالْكُهَّانِ لَا سِيَّمَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَقَدْ شَاعَ فِي رُؤَسَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ
وَأُمَرَائِهِمُ اتِّخَاذُ الْمُنَجِّمِينَ، بَلْ وَلَقَدِ
انْخَدَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْفِقْهِ
وَالدِّينِ فَجَاءُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْكَهَنَةِ
وَالْعَرَّافِينَ فَبَهْرَجُوا عَلَيْهِمْ بِالْمِحَالِ،
وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُمُ الْأَمْوَالَ فَحَصَلُوا مِنْ
أَقْوَالِهِمْ عَلَى السَّرَابِ «6» وَالْآلِ، وَمِنْ
أَدْيَانِهِمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ. وَكُلُّ ذلك من
الكبائر، لقول عليه السلام:" لم تقبل لصلاة أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً". فَكَيْفَ بِمَنِ اتَّخَذَهُمْ وَأَنْفَقَ
عَلَيْهِمْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَقْوَالِهِمْ. رَوَى مُسْلِمٌ
(رَحِمَهُ اللَّهُ «7») عَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا «8») قَالَتْ: سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسم
أُنَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ:" إِنَّهُمْ لَيْسُوا
بِشَيْءٍ («9» " فقالوا:
__________
(1). راجع ج 15 ص 29.
(2). في إوز: يستروا.
(3). من ج وك وز.
(4). زيادة عن صحيح مسلم. [ ..... ]
(5). من ج وك وز.
(6). السراب: الذي يكون نصف النهار لاطئا بالأرض لاصقا بها
كأنه ماء جار. والآل: الذي يكون بالضحى كالماء بين السماء
والأرض يرفع الشخوص ويزهاها.
(7). من ج وك وز.
(8). من ج وك وز.
(9). التصحيح من ز.
(7/3)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ
يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تِلْكَ
الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ
فَيُقِرُّهَا «1» فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ (قَرَّ الدَّجَاجَةِ
«2» فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ". قَالَ
الْحُمَيْدِيُّ: لَيْسَ لِيَحْيَى «3» بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (أَيْضًا) «4» مِنْ حَدِيثِ أَبِي
الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إِنَّ الْمَلَائِكَةَ
تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ
الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ
السمع فتسمعه فتوجيه إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا
مِائَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ". وَسَيَأْتِي
هَذَا الْمَعْنَى فِي" سَبَأٍ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ «5»
تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْلَمُ مَا
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ
لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُجَاوِرَةِ
لِلْبَشَرِ، أَيْ يَعْلَمُ مَا يَهْلِكُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ. وَيُقَالُ: يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ مِنَ
النَّبَاتِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ
الدَّوَابِّ وَرِزْقِ مَا فِيهَا" وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ
إِلَّا يَعْلَمُها" روى يزيد بن هارون عن نافع عن محمد بن
إسحاق عن نافع ابن عمر عن النبي صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا ثِمَارٍ عَلَى
الْأَشْجَارِ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ إِلَّا
عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن
فُلَانٍ" وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: (وَما
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ). وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَنَّ الْوَرَقَةَ يُرَادُ بِهَا السِّقْطُ مِنْ أَوْلَادِ
بَنِي آدَمَ، وَالْحَبَّةَ يُرَادُ بِهَا الَّذِي لَيْسَ
بِسِقْطٍ، وَالرَّطْبَ يُرَادُ بِهِ الْحَيُّ، وَالْيَابِسَ
يُرَادُ بِهِ الْمَيِّتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا
قَوْلُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الرُّمُوزِ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ
إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ"
أَيْ مِنْ وَرَقَةِ الشَّجَرِ إِلَّا يَعْلَمُ مَتَى تَسْقُطُ
وَأَيْنَ تَسْقُطُ وَكَمْ تَدُورُ فِي الْهَوَاءِ، وَلَا
حَبَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مَتَى تَنْبُتُ وَكَمْ تُنْبِتُ
وَمَنْ يَأْكُلُهَا، وَ" ظُلُماتِ الْأَرْضِ" بُطُونُهَا
وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ وَهُوَ
مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ.
وَقِيلَ:" فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ"
__________
(1). القر: ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه.
(2). الزيادة عن صحيح مسلم.
(3). هو أحد رجال سند هذا الحديث.
(4). من ك.
(5). راجع ج 14 ص 278 فما بعد.
(7/4)
وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ
مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
يَعْنِي الصَّخْرَةَ الَّتِي هِيَ أَسْفَلَ
الْأَرَضِينَ السَّابِعَةِ." وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ"
بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ ابْنُ
السَّمَيْقَعِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا بِالرَّفْعِ فِيهِمَا
عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ" مِنْ وَرَقَةٍ"، فَ"- مِنْ" عَلَى
هَذَا لِلتَّوْكِيدِ. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أَيْ فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَعْتَبِرَ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ،
لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ ذَلِكَ لِنِسْيَانٍ يَلْحَقُهُ
تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَتَبَهُ وَهُوَ يَعْلَمُهُ
لِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي
لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ مَكْتُوبٌ، فكيف بما فيه
ثواب وعقاب.
[سورة الأنعام (6): آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى
أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ) أَيْ يُنِيمُكُمْ فَيَقْبِضُ نُفُوسَكُمُ الَّتِي
بِهَا تُمَيِّزُونَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْتًا حَقِيقَةً بَلْ
هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالنَّوْمِ كَمَا
يَقْبِضُهَا بِالْمَوْتِ. وَالتَّوَفِّي اسْتِيفَاءُ
الشَّيْءِ. وَتُوُفِّيَ الْمَيِّتُ اسْتَوْفَى عَدَدَ أَيَّامِ
عُمُرِهِ، وَالَّذِي يَنَامُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَرَكَاتِهِ
فِي الْيَقَظَةِ. وَالْوَفَاةُ الْمَوْتُ. وَأَوْفَيْتُكَ
الْمَالَ، وَتَوَفَّيْتُهُ «1»
، وَاسْتَوْفَيْتُهُ إِذَا أَخَذْتُهُ أَجْمَعَ. وَقَالَ
الشَّاعِرُ «2»:
إِنَّ بَنِي الْأَدْرَدِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدٍ ... وَلَا
تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدِ
وَيُقَالُ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ فِي
الْمَنَامِ تَبْقَى فِيهِ الْحَيَاةُ، وَلِهَذَا تَكُونُ فِيهِ
الْحَرَكَةُ وَالتَّنَفُّسُ، فَإِذَا انْقَضَى عُمُرُهُ خَرَجَ
رُوحُهُ وَتَنْقَطِعُ حَيَاتُهُ، وَصَارَ مَيِّتًا لَا
يَتَحَرَّكُ وَلَا يَتَنَفَّسُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ. لَا
تَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهُ
الذِّهْنُ. وَيُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ
إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أَيْ فِي
النَّهَارِ، وَيَعْنِي الْيَقَظَةَ. (لِيُقْضى أَجَلٌ
مُسَمًّى) أَيْ لِيَسْتَوْفِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ أَجَلًا ضُرِبَ
لَهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ"
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أجلا مسمى" أي عنده. و"
جَرَحْتُمْ" كسبتم. وقد تقديم فِي الْمَائِدَةِ «3». وَفِي
الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ وهو الذي
يتوفاكم
__________
(1). في ز، ل: توفيت الشيء.
(2). هو منظور الوبرى.
(3). راجع ج 6 ص 66.
(7/5)
وَهُوَ الْقَاهِرُ
فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا
يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ
الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
(62)
بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
بِالنَّهَارِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِيهِ، فَقَدَّمَ
الْأَهَمَّ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ الْبَعْثُ فِي
النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ" ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ" أَيْ فِي الْمَنَامِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ
إِمْهَالَهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ لَيْسَ لِغَفْلَةٍ عَنْ
كفرهم فإنه أحصى كل شي عَدَدًا وَعَلِمَهُ وَأَثْبَتَهُ،
وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ أَجَلًا مُسَمًّى مِنْ رِزْقٍ وَحَيَاةٍ،
ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُجَازِيهِمْ. وَقَدْ دَلَّ
عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِالْبَعْثِ، لِأَنَّ النَّشْأَةَ
الثَّانِيَةَ مَنْزِلَتُهَا بَعْدَ الْأُولَى كَمَنْزِلَةِ
الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى
أحدهما فهو قادر على الآخر.
[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ
حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)
يَعْنِي فَوْقِيَّةَ الْمَكَانَةِ وَالرُّتْبَةِ لَا
فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ
حَفَظَةً) أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْإِرْسَالُ
حَقِيقَتُهُ إِطْلَاقُ الشَّيْءِ بِمَا حُمِلَ مِنَ
الرِّسَالَةِ، فَإِرْسَالُ الْمَلَائِكَةِ بِمَا حَمَلُوا مِنَ
الْحِفْظِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، كَمَا قَالَ:" وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ" «1» أَيْ مَلَائِكَةً تَحْفَظُ
أَعْمَالَ الْعِبَادِ وَتَحْفَظُهُمْ مِنَ الْآفَاتِ.
وَالْحَفَظَةُ جَمْعُ حَافِظٍ، مِثْلُ الْكَتَبَةِ
وَالْكَاتِبِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ
وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ، يَكْتُبُ أحدهما الخير والآخر الشر،
وإذا مَشَى الْإِنْسَانُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ، وَإِذَا جَلَسَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا
عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ" «2»
(الآية) «3» وَيُقَالُ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَمْسَةٌ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ: اثْنَانِ بِاللَّيْلِ، وَاثْنَانِ
بِالنَّهَارِ، وَالْخَامِسُ لَا يُفَارِقُهُ لَيْلًا وَلَا
نَهَارًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ «4» عَنْهُ):
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعِيشُ «5» شَقِيًّا ... جَاهِلَ
الْقَلْبِ غَافِلَ الْيَقَظَهْ
فَإِذَا كَانَ ذَا وَفَاءٍ وَرَأْيٍ ... حَذِرَ الْمَوْتَ
وَاتَّقَى الْحَفَظَهْ
إِنَّمَا النَّاسُ رَاحِلٌ وَمُقِيمٌ ... فَالَّذِي بَانَ
للمقيم عظه
__________
(1). راجع ج 19 ص 245. [ ..... ]
(2). راجع ج 17 ص 8.
(3). من ز.
(4). من ز، ع.
(5). في ك: سفيها.
(7/6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يُرِيدُ أَسْبَابَهُ. كَمَا تَقَدَّمَ
فِي" الْبَقَرَةِ" «1». (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) عَلَى
تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ:" وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ
رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ" وَ" كُذِّبَتْ رُسُلٌ" «2». وَقَرَأَ
حَمْزَةُ" تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا" عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تَتَوَفَّاهُ رُسُلُنَا" بِزِيَادَةِ
تَاءٍ وَالتَّذْكِيرِ. وَالْمُرَادُ أَعْوَانُ مَلَكِ
الْمَوْتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَيُرْوَى
أَنَّهُمْ يَسُلُّونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ حَتَّى إِذَا
كَانَ عِنْدَ قَبْضِهَا قَبَضَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَقْبِضُ مَلَكُ الْمَوْتِ الرُّوحَ مِنَ
الْجَسَدِ ثُمَّ يُسَلِّمُهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ
إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ إِنْ
كَانَ كَافِرًا. وَيُقَالُ: مَعَهُ سَبْعَةٌ مِنْ مَلَائِكَةِ
الرَّحْمَةِ وَسَبْعَةٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَإِذَا
قَبَضَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةِ
الرَّحْمَةِ فَيُبَشِّرُونَهَا بالثواب ويصعدون بها إلى
السماء، إذا قَبَضَ نَفْسًا كَافِرَةً دَفَعَهَا إِلَى
مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فَيُبَشِّرُونَهَا بِالْعَذَابِ
وَيُفَزِّعُونَهَا، ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ
ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى سِجِّينٍ، وَرُوحُ الْمُؤْمِنِ إِلَى
عِلِّيِّينَ. وَالتَّوَفِّي تَارَةً يُضَافُ إِلَى مَلَكِ
الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ:" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ
الْمَوْتِ «3» " وَتَارَةً إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ
يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا.
وَتَارَةً إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُتَوَفِّي عَلَى
الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِها" «4» " قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ" «5» " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ «6»
الْحَياةَ" فَكُلُّ مَأْمُورٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّمَا
يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ. (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) أَيْ لَا
يُضَيِّعُونَ وَلَا يُقَصِّرُونَ، أَيْ يُطِيعُونَ أَمْرَ
اللَّهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَمَعْنَى فَرَّطَ قَدَّمَ الْعَجْزَ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: لَا يَتَوَانَوْنَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ
عُمَيْرٍ" لَا يُفْرِطُونَ" بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ لَا
يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ الْإِكْرَامِ
وَالْإِهَانَةِ. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) أَيْ رَدَّهُمُ
اللَّهُ بِالْبَعْثِ لِلْحِسَابِ. (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أَيْ
خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمَالِكُهُمْ."
الْحَقِّ" بِالْخَفْضِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، عَلَى
النَّعْتِ وَالصِّفَةِ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ" الْحَقَّ" بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي،
أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ حَقًّا. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ)
أَيِ اعْلَمُوا وَقُولُوا: لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ يو
الْقِيَامَةِ، أَيِ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ. (وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحاسِبِينَ) أَيْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ
وَلَا عقد يد. وقد تقدم «7».
__________
(1). راجع ج 2 ص 137.
(2). راجع ج 6 ص 416.
(3). راجع ج 14 ص 92.
(4). راجع ج 15 ص 260.
(5). راجع ج 16 ص 172.
(6). راجع ج 18 ص 206.
(7). راجع ج 2 ص 435.
(7/7)
قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (64)
[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أَيْ شَدَائِدِهِمَا، يُقَالُ: يَوْمٌ
مُظْلِمٌ أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ
تَقُولُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا كَانَ شَدِيدًا، فَإِنْ
عَظَّمَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ، وَأَنْشَدَ
سِيبَوَيْهِ:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ
يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
وَجَمَعَ" الظُّلُمَاتِ" عَلَى أَنَّهُ يَعْنِي ظُلْمَةَ
الْبَرِّ وَظُلْمَةَ الْبَحْرِ وَظُلْمَةَ اللَّيْلِ
وَظُلْمَةَ الْغَيْمِ، أَيْ إِذَا أَخْطَأْتُمُ الطَّرِيقَ
وَخِفْتُمُ الْهَلَاكَ دعوتموه (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا «1» مِنْ
هذِهِ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) أَيْ مِنَ الطَّائِعِينَ. فَوَبَّخَهُمُ
اللَّهُ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَهُمْ
يَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ غَيْرَهُ
بِقَوْلِهِ:" ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ". وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ" وَخِيفَةً" مِنَ الْخَوْفِ، و (قرأ) «2» أَبُو
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ" خِفْيَةً" بِكَسْرِ الْخَاءِ،
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، لُغَتَانِ. وَزَادَ الْفَرَّاءُ
خُفْوَةً وَخِفْوَةً. قَالَ: وَنَظِيرُهُ حُبْيَةٌ وَحِبْيَةٌ
وَحُبْوَةٌ وَحِبْوَةٌ. وَقِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ بَعِيدَةٌ،
لِأَنَّ مَعْنَى" تَضَرُّعاً" أَنْ تُظْهِرُوا التذلل و"
خُفْيَةً" أَنْ تُبْطِنُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ
الْكُوفِيُّونَ" لَئِنْ أَنْجَانَا" وَاتِّسَاقُ الْمَعْنَى
بِالتَّاءِ، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ
الشَّامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ
مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ"
يُنَجِّيكُمْ" بِالتَّشْدِيدِ، الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ.
قِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ نَجَا وَأَنْجَيْتُهُ
وَنَجَّيْتُهُ. وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ.
وَالْكَرْبُ: الْغَمُّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، يُقَالُ مِنْهُ:
رَجُلٌ مَكْرُوبٌ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتِ الْكَرْبُ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ
فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي
وَالْكُرْبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ ذلك. قوله تعالى: (ثُمَّ
أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ
فِي أَوَّلِ السُّورَةِ" ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ". لِأَنَّ
الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَجَبَ
الْإِخْلَاصُ، وهم قد جعلوا
__________
(1). قراءة نافع.
(2). من ك.
(7/8)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ
مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
بَدَلًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ،
فَحَسُنَ أَنْ يُقَرَّعُوا وَيُوَبَّخُوا عَلَى هَذِهِ
الْجِهَةِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ قبل النجاة.
[سورة الأنعام (6): آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً
مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
(65)
أَيِ الْقَادِرُ عَلَى إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْكَرْبِ، قَادِرٌ
على تعذيبكم. ومعنى (مِنْ فَوْقِكُمْ) الرجم والحجارة
وَالطُّوفَانُ وَالصَّيْحَةُ وَالرِّيحُ، كَمَا فَعَلَ بِعَادٍ
وَثَمُودَ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ نُوحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا. (أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الْخَسْفُ وَالرَّجْفَةُ، كَمَا فَعَلَ
بِقَارُونَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ. وَقِيلَ:" مِنْ فَوْقِكُمْ"
يَعْنِي الْأُمَرَاءَ الظَّلَمَةَ،" أَوْ- مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ" يَعْنِي السَّفَلَةَ وَعَبِيدَ السُّوءِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ"
أَوْ يَلْبِسَكُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُجَلِّلُكُمُ
الْعَذَابُ وَيَعُمُّكُمْ بِهِ، وَهَذَا مِنَ اللُّبْسِ
بِضَمِّ الْأَوَّلِ، وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ مِنَ اللَّبْسِ.
وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ وَالْإِعْرَابُ يُبَيِّنُهُ. أَيْ
يَلْبِسُ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ
الْمَفْعُولَيْنِ وَحَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا
كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ" «1» وَهَذَا اللَّبْسُ بِأَنْ
يَخْلِطَ أَمْرَهُمْ فَيَجْعَلَهُمْ مُخْتَلِفِي الْأَهْوَاءِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى" يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً"
يُقَوِّي عَدُوَّكُمْ حَتَّى يُخَالِطَكُمْ وَإِذَا
خَالَطَكُمْ فَقَدْ لَبِسَكُمْ." شِيَعاً" مَعْنَاهُ فِرَقًا.
وَقِيلَ يَجْعَلُكُمْ فِرَقًا يُقَاتِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا،
وَذَلِكَ بِتَخْلِيطِ أَمْرِهِمْ وَافْتِرَاقِ أُمَرَائِهِمْ
«2» عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا. وهو معنى (قوله) «3» (وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أَيْ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْلِ فِي
الْفِتْنَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي
الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. وَقِيلَ هِيَ فِي الْكُفَّارِ
خَاصَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي أَهْلِ الصَّلَاةِ.
قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ الْمُشَاهَدُ فِي
الْوُجُودِ، فَقَدْ لَبِسَنَا الْعَدُوُّ فِي دِيَارِنَا
وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا، مَعَ
الْفِتْنَةِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْنَا بِقَتْلِ بَعْضِنَا
بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض.
__________
(1). راجع ج 19 ص 250. [ ..... ]
(2). في ك: أهوائهم.
(3). في ك: أهوائهم.
(7/9)
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا
أَنَّهُ تَأَوَّلَ ذَلِكَ فِيمَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن
اللَّهَ «1» زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا
وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا
زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيَتِ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ
وَالْأَبْيَضَ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا
يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ
عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ
وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ
قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ
لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا
أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ
يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ «2» وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ
مَنْ بِأَقْطَارِهَا- أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا-
حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي
بَعْضُهُمْ بَعْضًا (. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ خَبَّابِ
بْنِ الْأَرَتِّ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ رَاقَبَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اللَّيْلَةَ كُلَّهَا حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا
سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ خَبَّابٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي!
لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ
صَلَّيْتَ نَحْوَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَجَلْ إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ
فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ
الْأُمَمَ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ
أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا
فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا
يُلْبِسَنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا". وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى
هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِجِبْرِيلَ:" يَا جِبْرِيلُ مَا بَقَاءُ أُمَّتِي عَلَى
ذَلِكَ"؟ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ:" إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ
مِثْلُكَ فَادْعُ رَبَّكَ وَسَلْهُ لِأُمَّتِكَ) فَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَوَضَّأَ وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى وَأَحْسَنَ
الصَّلَاةَ، ثُمَّ دَعَا فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ:" يَا
مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِعَ مَقَالَتَكَ
وَأَجَارَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ وَهُوَ الْعَذَابُ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ". فَقَالَ: (يَا
جِبْرِيلُ مَا بَقَاءُ أُمَّتِي إِذَا كَانَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ
مُخْتَلِفَةٌ وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ"؟ فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:" الم. أَحَسِبَ النَّاسُ
__________
(1). زوى: جمع.
(2). أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم.
(7/10)
وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا"
«1» الْآيَةَ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ"
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً
مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ" قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَعُوذُ بِوَجْهِ
اللَّهِ" فَلَمَّا نَزَلَتْ" أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قَالَ: (هَاتَانِ
أَهْوَنُ). وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ:" لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يدع هؤلاء الكلمات حين يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي
دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي. اللَّهُمَّ اسْتُرْ
عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ
يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي
وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي (.
قَالَ وكيع: يعني الخسف. قوله تعالى:) انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ) أَيْ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْحُجَجَ
وَالدَّلَالَاتِ. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يُرِيدُ بُطْلَانَ
مَا هم عليه من الشرك والمعاصي.
[سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أَيْ
بِالْقُرْآنِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" وَكَذَّبَتْ".
بِالتَّاءِ. (وَهُوَ الْحَقُّ) أَيِ الْقَصَصُ الْحَقُّ. (قُلْ
لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) قَالَ الْحَسَنُ: لَسْتُ
بِحَافِظٍ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا،
إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَقَدْ بَلَّغْتُ، نَظِيرُهُ" وَمَا
أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" «2» أَيْ أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ
أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ
الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ
فِي وُسْعِهِ إِيمَانُهُمْ. (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ)
لِكُلِّ خبر حقيقة، أي لكل شي وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ
تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ. وَقِيلَ: أَيْ لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ.
قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ
بِالْبَعْثِ. الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا
بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. (قَالَ) «3»
السُّدِّيُّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ
بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ رَأَى
فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَافِعَةٌ
مِنْ وَجَعِ الضِّرْسِ إِذَا كُتِبَتْ عَلَى كاغد ووضع على
السن.
__________
(1). راجع ج 13 ص 323.
(2). راجع ج 9 ص 86.
(3). من ك.
(7/11)
وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (68)
[سورة الأنعام (6): آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ
بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (68) قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آياتِنا) بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وَالْخِطَابُ مُجَرَّدٌ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ. وَهُوَ
صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ سَمَاعُ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ
اللَّهِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُهُمْ وَإِيَّاهُ. وَقِيلَ
الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وحد، لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَشُقُّ «1»
عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَهُمْ
كَذَلِكَ، فَأُمِرَ أَنْ يُنَابِذَهُمْ بِالْقِيَامِ عَنْهُمْ
إِذَا اسْتَهْزَءُوا وَخَاضُوا لِيَتَأَدَّبُوا بِذَلِكَ
وَيَدَعُوا الْخَوْضَ وَالِاسْتِهْزَاءَ. وَالْخَوْضُ أَصْلُهُ
فِي الْمَاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدُ فِي غَمَرَاتِ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَجَاهِلُ، تَشْبِيهًا بِغَمَرَاتِ
الْمَاءِ فَاسْتُعِيرَ مِنَ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الخلط. وكل شي خُضْتَهُ فَقَدْ
خَلَطْتَهُ، وَمِنْهُ خَاضَ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ خَلَطَهُ.
فَأَدَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2») بِهَذِهِ الْآيَةِ، (لِأَنَّهُ) «3»
كَانَ يَقْعُدُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعِظُهُمْ
وَيَدْعُوهُمْ فيستهزءون بِالْقُرْآنِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ
أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ إِعْرَاضَ مُنْكِرٍ. وَدَلَّ بِهَذَا
عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَلِمَ مِنَ الْآخَرِ مُنْكَرًا
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُعْرِضَ عَنْهُ إِعْرَاضَ مُنْكِرٍ وَلَا يُقْبِلَ عَلَيْهِ.
وَرَوَى شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
قَوْلِهِ:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا"
قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ،
نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ
يَنْسَى فَإِذَا ذَكَرَ قَامَ. وَرَوَى وَرْقَاءٌ عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ الْحَقِّ. الثَّانِيَةُ- فِي
هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ هُمْ حُجَجٌ
وَأَتْبَاعَهُمْ لَهُمْ أَنْ يُخَالِطُوا الْفَاسِقِينَ
وَيُصَوِّبُوا آرَاءَهُمْ تَقِيَّةً «4». وَذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «5») أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا
أَهْلَ الْخُصُومَاتٍ، فَإِنَّهُمُ الذين يخوضون
__________
(1). في ك: أشق.
(2). من ك وز.
(3). من ك.
(4). التقية والتقاة بمعنى واحده. يريد أنهم يتقون بعضهم بعضا
ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذلك.
(5). من، ع، ز.
(7/12)
فِي آيَاتِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ
الْكَبَائِرِ لَا تَحِلُّ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ:
مَنْ خَاضَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تُرِكَتْ مُجَالَسَتُهُ
وَهُجِرَ، مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ
مَنَعَ أَصْحَابُنَا الدُّخُولَ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
وَدُخُولِ كَنَائِسِهِمْ وَالْبِيَعِ، وَمَجَالِسِ الْكُفَّارِ
وَأَهْلِ الْبِدَعِ، وَأَلَّا تُعْتَقَدَ مَوَدَّتُهُمْ وَلَا
يُسْمَعَ كَلَامُهُمْ وَلَا مُنَاظَرَتُهُمْ. وَقَدْ قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ لِأَبِي عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ:
اسْمَعْ مِنِّي كَلِمَةً، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: وَلَا
نِصْفَ كَلِمَةٍ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَنْ أَحَبَّ صَاحِبَ
بِدْعَةٍ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَأَخْرَجَ نُورَ
الْإِسْلَامِ مِنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ
مُبْتَدِعٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ
صَاحِبِ بِدْعَةٍ لَمْ يُعْطَ الْحِكْمَةَ، وَإِذَا عَلِمَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ مُبْغِضٌ لِصَاحِبِ
بِدْعَةٍ رَجَوْتُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ. وَرَوَى أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ
أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ" فَبَطَلَ بِهَذَا كُلِّهِ
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُجَالَسَتَهُمْ جَائِزَةٌ إِذَا
صَانُوا أَسْمَاعَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) "
إِمَّا" شَرْطٌ، فَيَلْزَمُهَا النُّونُ الثَّقِيلَةُ فِي
الْأَغْلَبِ وَقَدْ لَا تَلْزَمُ، كَمَا قَالَ:
إِمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ فِي مُنَاوَأَةٍ ... يَوْمًا فَقَدْ
كُنْتَ تَسْتَعْلِي وَتَنْتَصِرُ
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «1» وَابْنُ عَامِرٍ" يُنَسِّيَنَّكَ"
بِتَشْدِيدِ السِّينِ عَلَى التَّكْثِيرِ، يُقَالُ: نَسَّى
وَأَنْسَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ (لُغَتَانِ)، «2» قَالَ
الشَّاعِرُ:
قَالَتْ سُلَيْمَى أَتَسْرِي الْيَوْمَ أَمْ تَقِلِ ... وَقَدْ
يُنَسِّيكَ بَعْضَ الْحَاجَةِ الكسل «3»
وقال امرؤ القيس:
تنسني إذا قمت سربالي «4»
__________
(1). في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. إلخ وفي ك: قرأ ابن عياش
وابن عامر وابن عمر.
(2). في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. إلخ وفي ك: قرأ ابن عياش
وابن عامر وابن عمر. [ ..... ]
(3). الشاهد في ينسيك بالشد مع عدم النون الشديدة إلا أنه بدون
إما.
(4). والبيت بتمامه كما في اللسان:
ومثلك بيضاء العوارض طفلة ... لعوب تنسى أذا قمت سربالي
ورواية اللسان" تناسانى" بدل" تنسيني".
(7/13)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
الْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ إِنْ أَنْسَاكَ
الشَّيْطَانُ أَنْ تَقُومَ عَنْهُمْ فَجَالَسْتَهُمْ بَعْدَ
النَّهْيِ. (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى " أَيْ إِذَا
ذَكَرْتَ فَلَا تَقْعُدْ (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. وَالذِّكْرَى اسْمٌ للتذكير. الثانية-
قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، ذَهَبُوا إِلَى
تَبْرِئَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النِّسْيَانِ. وَقِيلَ:
هُوَ خَاصٌّ بِهِ، وَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَيْهِ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنْ عذرنا أصحابنا في (قولهم «1» إن)
قول تَعَالَى:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" «2»
خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ، فَلَا
عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذَا لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،" نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ
ذُرِّيَّتُهُ" خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ
مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ:" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلكُمْ
أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي".
خَرَّجَهُ فِي الصَّحِيحِ، فَأَضَافَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ وَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ:" لَقَدْ أَذَكَرَنِي
آيَةَ كَذَا وَكَذَا كُنْتُ أُنْسِيتُهَا". وَاخْتَلَفُوا
بَعْدَ جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ فِيمَا
طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ
أَمْ لَا.؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ- فِيمَا ذَكَرَهُ
الْقَاضِي عِيَاضٌ- عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ
النُّظَّارِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ،
لَكِنْ شَرَطَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُنَبِّهُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ
اخْتَلَفُوا هل من شرط التنبيه اتصال بِالْحَادِثَةِ عَلَى
الْفَوْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ
وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوْ يَجُوزُ فِي ذلك
التراخي ما لم ينخر عُمُرُهُ وَيَنْقَطِعْ تَبْلِيغُهُ،
وَإِلَيْهِ نَحَا أَبُو الْمَعَالِي. وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ
مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّهْوَ عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَالِ
الْبَلَاغِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا
مَنَعُوهُ اتِّفَاقًا فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ
وَاعْتَذَرُوا عَنِ الظَّوَاهِرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ،
وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَشَذَّتِ
الْبَاطِنِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَرْبَابِ عِلْمِ الْقُلُوبِ
فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ النِّسْيَانُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
يَنْسَى قَصْدًا وَيَتَعَمَّدُ صُورَةَ النِّسْيَانِ
لِيَسُنَّ. وَنَحَا إِلَى هَذَا عَظِيمٌ مِنْ أَئِمَّةِ
التَّحْقِيقِ وَهُوَ أَبُو المظفر الإسفرايني فِي كِتَابِهِ
(الْأَوْسَطُ) وَهُوَ مَنْحًى غَيْرُ سَدِيدٍ، وجمع الضد مع
الضد مستحيل بعيد.
[سورة الأنعام (6): آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
__________
(1). الزيادة من ابن العربي.
(2). راجع ج 15 ص 276.
(7/14)
وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا
شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا
أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
(70)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ لَا
تَقْعُدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ:" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ" قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا
يُمْكِنُنَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافُ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ." وَلكِنْ ذِكْرى " أَيْ فَإِنْ قَعَدُوا
يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ فَلْيُذَكِّرُوهُمْ. (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) اللَّهَ فِي تَرْكِ مَا هُمْ فِيهِ. ثُمَّ قِيلَ:
نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" «1». وَإِنَّمَا كَانَتِ
الرُّخْصَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ وَكَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ
تَقِيَّةٍ. وَأَشَارَ بقول:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ" إلى قول:" وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ
لَعِباً وَلَهْواً". قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَظْهَرُ
أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً. وَالْمَعْنَى: ما عليكم
شي مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَعَلَيْكُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ
وَزَجْرِهِمْ فَإِنْ أبوا فحسابهم على الله. و" الذِّكْرى "
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ وَلَكِنِ الَّذِي
يَفْعَلُونَهُ ذِكْرَى، أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى.
وَقَالَ الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى.
[سورة الأنعام (6): آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا
يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ (70)
أَيْ لَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بهم فإنهم أهل تعنت إن كُنْتَ
مَأْمُورًا بِوَعْظِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَنْسُوخٌ،
نَسَخَهُ" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"
«2». وَمَعْنَى" لَعِباً وَلَهْواً" أَيِ اسْتِهْزَاءً
بِالدِّينِ الَّذِي دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ:
اسْتَهْزَءُوا بِالدِّينِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهِ. وَالِاسْتِهْزَاءُ لَيْسَ مُسَوَّغًا فِي
دِينٍ. وَقِيلَ:" لَعِباً وَلَهْواً" بَاطِلًا وَفَرَحًا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» هَذَا. وَجَاءَ اللَّعِبُ مُقَدَّمًا فِي
أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، وقد نظمت.
__________
(1). راجع ج 5 ص 417.
(2). راجع ج 8 ص 71.
(3). راجع ج 6 ص 413 فما بعده.
(7/15)
إِذَا أَتَى لَعِبٌ وَلَهْوٌ «1» ...
وَكَمْ مِنْ مَوْضِعٍ هُوَ فِي الْقُرْآنِ
فَحَرْفٌ فِي الْحَدِيدِ وَفِي الْقِتَالِ ... وَفِي
الْأَنْعَامِ مِنْهَا مَوْضِعَانِ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْعِيدُ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ قَوْمٍ
عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَكُلُّ قَوْمٍ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا إِلَّا
أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم
اتخذوه وصلاة وَذِكْرًا وَحُضُورًا بِالصَّدَقَةِ، مِثْلَ
الْجُمُعَةِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا
إِلَّا ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَذَكِّرْ بِهِ) أَيْ بِالْقُرْآنِ أَوْ
بِالْحِسَابِ. (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أَيْ
تُرْتَهَنُ وَتُسْلَمُ لِلْهَلَكَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ
وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَالْإِبْسَالُ: تَسْلِيمُ الْمَرْءِ لِلْهَلَاكِ، هَذَا هُوَ
الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ. أَبْسَلْتُ وَلَدِي أَرْهَنْتُهُ،
قَالَ عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرٍ:
وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا
بِدَمٍ مُرَاقِ
" بَعَوْنَاهُ" بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ
جَنَيْنَاهُ. وَالْبَعْوُ الْجِنَايَةُ. وَكَانَ حَمَلَ عَنْ
غَنِيٍّ لِبَنِي قُشَيْرٍ دَمَ ابْنَيِ السُّجَيْفَةِ «2»
فَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِكَ، فَرَهَنَهُمْ بَنِيهِ طَلَبًا
لِلصُّلْحِ. وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ (الْجَعْدِيُّ) «3»:
وَنَحْنُ رَهَنَّا بِالْأُفَاقَةِ «4» عَامِرًا ... بِمَا
كَانَ فِي الدَّرْدَاءِ رَهْنًا فَأُبْسِلَا
الدَّرْدَاءُ: كَتِيبَةٌ كَانَتْ لَهُمْ. (لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ «5» وَلا شَفِيعٌ) 6 (تَقَدَّمَ
مَعْنَاهُ.) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ
لَا يُؤْخَذْ مِنْها) الْآيَةَ. الْعَدْلُ الْفِدْيَةُ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «6». وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ
الْحَارُّ، وَفِي التنزيل" يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ
الْحَمِيمُ «7» " الآية.
__________
(1). هكذا الشطر في الأصول ولعل الأصل: إذا سألت عن إلخ.
(2). كذا في ك. والذي في اللسان وشرح القاموس: السجفيه. والذي
في الجواهري وفي اوب وج وز: السحيفه بالحاء المهملة بدل
الجحيم.
(3). من ج، ع، ك، ز.
(4). الإفاقة (ككناسة): موضع في أرض الحزن قرب الكوفه. أو هو
ماء لبنى يربوع، ويوم الإفاقة من أيام العرب.
(5). راجع ج 3 ص 283 وص 273 وج 4 ص 109.
(6). راجع ج 1 ص 378 وص 380.
(7). راجع ج 12 ص 25. [ ..... ]
(7/16)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ
عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ
أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ
وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ
كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
" يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ" «1». وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ.
وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:" وَذَرِ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ" تهديد، كقول:" ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا" «2» وَمَعْنَاهُ لَا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّبْلِيغُ وَالتَّذْكِيرُ
بِإِبْسَالِ النُّفُوسِ. فَمَنْ أُبْسِلَ فَقَدْ أُسْلِمَ
وَارْتُهِنَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّحْرِيمُ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: هَذَا بَسْلٌ عَلَيْكَ أَيْ حَرَامٌ،
فَكَأَنَّهُمْ حَرَّمُوا الْجَنَّةَ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الْجَنَّةُ. قَالَ الشَّاعِرُ «3»:
أَجَارَتُكُمْ بَسْلٌ عَلَيْنَا مُحَرَّمٌ ... وَجَارَتُنَا
حِلٌّ لكم وحليلها
والإبسال: التحريم. والإبسال: التحريم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا
يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا
اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قَوْلُهُ تعالى: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَنْفَعُنا) أَيْ ما لا ينفعنا إن دعونا «4». (وَلا يَضُرُّنا)
إِنْ تَرَكْنَاهُ، يُرِيدُ الْأَصْنَامَ. (وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) أَيْ نَرْجِعُ إِلَى
الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَى. وَوَاحِدُ الْأَعْقَابِ عَقِبٌ
وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَتَصْغِيرُهُ عُقَيْبَةٌ. يُقَالُ: رَجَعَ
فُلَانٌ عَلَى عَقِبَيْهِ، إِذَا أَدْبَرَ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِمَنْ رُدَّ عَنْ حَاجَتِهِ وَلَمْ
يَظْفَرْ بِهَا: قَدْ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ تُعُقِّبَ بِالشَّرِّ بَعْدَ
الْخَيْرِ. وَأَصْلُهُ من العاقبة والعقبى وهما ما كان
__________
(1). راجع ج 17 ص 175.
(2). راجع ج 10 ص 2.
(3). هو الأعشى ميمون.
(4). في ك: رجونا.
(7/17)
تَالِيًا لِلشَّيْءِ وَاجِبًا أَنْ
يَتْبَعَهُ، وَمِنْهُ" وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" «1».
وَمِنْهُ عَقِبُ الرَّجُلِ. وَمِنْهُ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهَا
تَالِيَةٌ لِلذَّنْبِ، وَعَنْهُ تَكُونُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(كَالَّذِي) الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ) أَيِ اسْتَغْوَتْهُ وَزَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ
وَدَعَتْهُ إِلَيْهِ. يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي إِلَى الشَّيْءِ
أَسْرَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ هَوَى
يَهْوَى، مِنْ هَوَى النَّفْسِ، أَيْ زَيَّنَ لَهُ
الشَّيْطَانُ هَوَاهُ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ"
اسْتَهْوَتْهُ" أَيْ هَوَتْ بِهِ، عَلَى تَأْنِيثِ
الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ" اسْتَهْوَاهُ الشَّيَاطِينُ"
عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ"
اسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَانُ"، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ
كَذَلِكَ فِي حَرْفِ أُبَيٍّ. وَمَعْنَى" ائْتِنا" تَابِعْنَا.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا" يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى بَيِّنًا". وَعَنِ الْحَسَنِ أيضا" استهوته
الشياطين"." حَيْرانَ" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ
يَنْصَرِفْ لِأَنَّ أُنْثَاهُ حَيْرَى كَسَكْرَانَ وَسَكْرَى
وَغَضْبَانَ وَغَضْبَى. وَالْحَيْرَانُ هُوَ الَّذِي لَا
يَهْتَدِي لِجِهَةِ أَمْرِهِ. وَقَدْ حار يحار حيرا
وَحَيْرُورَةً «2»، أَيْ تَرَدَّدَ. وَبِهِ سُمِّيَ الْمَاءُ
الْمُسْتَنْقَعُ الَّذِي لَا مَنْفَذَ لَهُ حَائِرًا،
وَالْجَمْعُ حُورَانُ. وَالْحَائِرُ الْمَوْضِعُ (الَّذِي) «3»
يَتَحَيَّرُ فِيهِ الْمَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَخْطُو عَلَى بَرْدِيَّتَيْنِ غَذَاهُمَا ... غَدِقٌ
بِسَاحَةِ حَائِرٍ يَعْبُوبِ «4»
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِثْلُ عَابِدِ الصَّنَمِ مِثْلَ
مَنْ دَعَاهُ الْغُولُ فَيَتَّبِعُهُ فَيُصْبِحُ وَقَدْ
أَلْقَتْهُ فِي مَضَلَّةٍ وَمَهْلَكَةٍ، فَهُوَ حَائِرٌ فِي
تِلْكَ الْمَهَامِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ:
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى الكفر وأبواه
يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون، وهو معنى قوله: (لَهُ أَصْحابٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) فَيَأْبَى. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
أُمُّهُ أُمُّ رُومَانِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ غُنْمٍ
الْكِنَانِيَّةُ، فَهُوَ شَقِيقُ عَائِشَةَ. وَشَهِدَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بكر بدرا واحدا مع قومه وهو وكافر،
وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ
لِيُبَارِزَهُ فَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). سيأتي في ص 263 من هذا الجزء.
(2). لم نجد هذا المصدر في كتب اللغة. وفي تفسير الفخر
الرازي:" ... وزاد الفراء حيرانا وحيرونة.
(3). من ك.
(4). العيوب: الطويل.
(7/18)
قَالَ (لَهُ) «1» " مَتِّعْنِي
بِنَفْسِكَ". ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَصَحِبَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هُدْنَةِ
الْحُدَيْبِيَةِ. هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السِّيَرِ. قَالُوا:
كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ فَغَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهُ عَبْدَ الرحمن،
وكان أسن ولد أبي بكر. قال: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةُ وِلَاءٍ: أَبٌ
وَبَنُوهُ إِلَّا أَبَا قُحَافَةَ وَابْنَهُ أَبَا بَكْرٍ
وَابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنَهُ
أَبَا عَتِيقٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ)
اللَّامُ لَامُ كَيْ، أَيْ أُمِرْنَا كَيْ نُسْلِمَ وَبِأَنْ
أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْإِضَافَةِ يُعْطَفُ
بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى
أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
أَمَرْتُكَ لِتَذْهَبَ، وَبِأَنْ تَذْهَبَ بِمَعْنًى. قَالَ
النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ
هِيَ لَامُ الْخَفْضِ، وَاللَّامَاتُ كُلُّهَا ثَلَاثٌ: لَامُ
خَفْضٍ وَلَامُ أمر ولام توكيد، لا يخرج شي عنها. والإسلام
الإخلاص. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْإِتْيَانُ بِهَا
وَالدَّوَامُ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" وَأَنْ
أَقِيمُوا الصَّلاةَ" عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَيَدْعُونَهُ أَنْ أَقِيمُوا
الصَّلَاةَ، لِأَنَّ مَعْنَى ائْتِنَا أَنِ ائْتِنَا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ابْتِدَاءٌ
وخبر وكذا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أَيْ
فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ لَا الْأَصْنَامُ.
وَمَعْنَى (بِالْحَقِّ) أَيْ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ. يَعْنِي
قَوْلَهُ" كُنْ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ) أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ. أَوِ اتَّقُوا
يَوْمَ يَقُولُ كن. أو قدر يَوْمَ يَقُولُ كُنْ. أَوْ قَدِّرْ
يَوْمَ يَقُولُ كُنْ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي
قول:" وَاتَّقُوهُ" قَالَ الْفَرَّاءُ:" كُنْ فَيَكُونُ"
يُقَالُ: إِنَّهُ لِلصُّوَرِ خَاصَّةً، أَيْ وَيَوْمُ يَقُولُ
لِلصُّوَرِ كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَيَكُونُ
جَمِيعُ مَا أَرَادَ مِنْ مَوْتِ النَّاسِ وَحَيَاتِهِمْ.
وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يكون (قَوْلُهُ الْحَقُّ)
ابتداء وخبرا. وقيل: إن قول تعالى:" قَوْلُهُ" رفع بيكون، أي
فيكون ما يأمر به." الْحَقُّ" مِنْ نَعْتِهِ. وَيَكُونُ
التَّمَامُ عَلَى هَذَا" فَيَكُونُ قوله الحق". وقرأ ابن عامر
__________
(1). من ع وز وك.
(7/19)
" فَيَكُونَ" بِالنَّصْبِ، «1» وَهُوَ
إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الْحِسَابِ وَالْبَعْثِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْفًى «2».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أَيْ
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. أو وله الحق
يوم ينقخ فِي الصُّورِ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ" يَوْمَ
يَقُولُ". وَالصُّورُ قَرْنٌ مِنْ نُورٍ يُنْفَخُ فِيهِ،
النَّفْخَةُ الْأُولَى لِلْفَنَاءِ وَالثَّانِيَةُ
لِلْإِنْشَاءِ. وَلَيْسَ جَمْعُ صُورَةٍ كَمَا زَعَمَ
بَعْضُهُمْ، أَيْ يُنْفَخُ فِي صُوَرِ الْمَوْتَى عَلَى مَا
نُبَيِّنُهُ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو" .... ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ
أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى «3» لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا «4» -
قَالَ- وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ «5» حَوْضَ
إِبِلِهِ قال وَيُصْعَقُ النَّاسُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ-
أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ
فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ
أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَكَذَا فِي التَّنْزِيلِ" ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى " «6» وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ
جَمْعَ الصُّورَةِ. وَالْأُمَمُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ
الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ الصُّورُ قَرْنًا فَهُوَ كَمَنْ يُنْكِرُ الْعَرْشَ
وَالْمِيزَانَ وَالصِّرَاطَ، وَطَلَبَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الصُّورُ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ
كَالْقَرْنِ يُنْفَخُ فِيهِ، وَالصُّوَرُ جَمْعُ صُورَةٍ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الصُّورُ الْقَرْنُ. قَالَ
الرَّاجِزُ:
لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... نَطْحًا
شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ
ومنه قول:" وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ «7» ". قَالَ
الْكَلْبِيُّ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ الصُّورُ. وَيُقَالُ: هُوَ
جَمْعُ صُورَةٍ مِثْلَ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ، أَيْ يُنْفَخُ فِي
صُوَرِ الْمَوْتَى وَالْأَرْوَاحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" يَوْمَ
يُنْفَخُ
__________
(1). في ك. وفى شواذ ابن خالويه: فيكون بالنصب. الحسن. وفي
الأصول الأخرى: فنكون بالنون. وهو خطأ.
(2). راجع ج 2 ص 89.
(3). أصغى: أمال.
(4). الليت (بكسر اللام): صفحة العنق.
(5). أي يطينه ويصلحه. [ ..... ]
(6). راجع ج 15 ص 177.
(7). راجع ج 13 ص 239.
(7/20)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
في الصور". وَالصِّوَرُ (بِكَسْرِ
الصَّادِ) لُغَةٌ فِي الصُّوَرِ «1» جَمْعُ صُورَةٍ
وَالْجَمْعُ صِوَارٌ، وَصِيَارٌ (بِالْيَاءِ) لُغَةٌ فِيهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: قَرَأَ عِيَاضٌ" يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ" فَهَذَا يَعْنِي بِهِ الْخَلْقَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ
بِالصُّورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمْعُ صُورَةٍ أَبُو
عُبَيْدَةَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَهُوَ
مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَيْضًا لَا يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ مَرَّتَيْنِ،
بَلْ يُنْفَخُ فِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِسْرَافِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْفُخُ فِي الصُّوَرِ الَّذِي هُوَ
الْقَرْنُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحْيِي الصُّوَرَ. (وَفِي
التَّنْزِيلِ" فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «2» "). قوله
تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ برفع" عالِمُ" صفة"
الَّذِي"، أَيْ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ عَالِمُ الْغَيْبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ
عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ قَرَأَ" يَنْفُخُ" فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ"
عالِمُ الْغَيْبِ"، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّفْخُ فِيهِ
بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ارْتَفَعَ (عالِمُ)
حَمْلًا عَلَى المعنى، كما أنشد سيبويه:
لبيك «3» يَزِيدُ ضَارِعٍ لِخُصُومَةٍ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ" عَالِمِ" بِالْخَفْضِ عَلَى
الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ (الَّتِي) «4» فِي" لَهُ".
[سورة الأنعام (6): آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (74)
__________
(1). نقل المؤلف هنا ما في الصحاح، وقد حذف منه ما جعل المراد
غير واضح. وعبارة:" ... وقرأ الحسن (يوم ينفخ في الصور)
وَالصِّوَرُ بِكَسْرِ الصَّادِ لُغَةٌ فِي الصُّوَرِ جَمْعُ
صُورَةٍ. ينشد هَذَا الْبَيْتُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ يَصِفُ
الْجَوَارِيَ:
أَشْبَهْنَ مِنْ بَقَرِ الْخَلْصَاءِ أَعْيُنَهَا ... وَهُنَّ
أَحْسَنُ مِنْ صِيرَانِهَا صِوَرَا
وَالصِّيرَانُ جَمْعُ صِوَارٍ وَهُوَ الْقَطِيعُ مِنَ
الْبَقَرِ. وَالصِّوَارِ أَيْضًا وِعَاءُ الْمِسْكِ، وقد
جمعهما الشاعر بقوله:
إذا لاح الصور ذَكَرْتُ لَيْلَى ... وَأَذْكُرُهَا إِذَا
نَفَحَ الصِّوَارُ
وَالصِّيَارُ لغة فيه".
(2). من ج وك وع. راجع ج 18 ص 302.
(3). هذا صدر بيت للحارث ابن نهيك، وتمامه كما في كتاب سيبويه:
ومخبط مما تطيح الطوائح
وصف أنه كان مقيما لحجة المظلوم ناصرا له. والمختبط: الطالب
المعروف. وتطيح: تذهب وتهلك.
(4). من ج وك.
(7/21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي
هَذَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ الْجُوَيْنِيُّ الشَّافِعِيُّ الْأَشْعَرِيُّ فِي
النُّكَتِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَهُ: وَلَيْسَ بين الناس اختلاف،
كأن اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ تَارَحَ «1». وَالَّذِي فِي
الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرَ. وَقِيلَ: آزَرَ
عِنْدَهُمْ ذَمٌّ فِي لُغَتِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ يَا مُخْطِئُ" أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً"
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ. وَقِيلَ:
آزَرَ اسْمُ صَنَمٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْضِعُهُ
نَصْبٌ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ أَتَتَّخِذُ آزَرَ إِلَهًا،
أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً. قُلْتُ: مَا ادَّعَاهُ مِنَ
الِاتِّفَاقِ لَيْسَ عَلَيْهِ وِفَاقٌ، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ آزَرَ
أَبُو إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام وهو تاريخ، مِثْلَ
إِسْرَائِيلَ وَيَعْقُوبَ، (قُلْتُ «2») فَيَكُونُ لَهُ
اسْمَانِ كما تقدم. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسْمٌ:
وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
الْقُشَيْرِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَكْسِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ اسْمُ أَبِيهِ آزَرَ. وَقَالَ
سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: هُوَ سَبٌّ وَعَيْبٌ، وَمَعْنَاهُ
فِي كَلَامِهِمْ: الْمُعْوَجُّ. وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا أَعْوَجُ،
وَهِيَ أَشَدُّ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى آزَرَ الشَّيْخُ الْهِمِّ «3»
بِالْفَارِسِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ صِفَةُ ذَمٍّ
بلغتهم، كأن قَالَ يَا مُخْطِئُ، فِيمَنْ رَفَعَهُ. أَوْ
كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ
الْمُخْطِئِ، فِيمَنْ خفض. ولا ينصرف لأنه على أفعل، قال
النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: آزَرَ اسْمٌ
أَعْجَمِيٌّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ آزَرَ فُلَانٌ فُلَانًا
إِذَا عَاوَنَهُ، فَهُوَ مُؤَازِرٌ قَوْمَهُ عَلَى عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوَّةِ،
وَالْأَزْرُ الْقُوَّةُ، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَيَمَانٌ: آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ. وَهُوَ فِي هَذَا
التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: أَتَتَّخِذُ
آزَرَ إِلَهًا، أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا. وَقِيلَ: فِي
الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: أَتَتَّخِذُ
آزَرَ أَصْنَامًا. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا آزَرَ اسْمُ جِنْسٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ فِي كِتَابِ
الْعَرَائِسِ: إِنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الَّذِي
سَمَّاهُ بِهِ أَبُوهُ تَارَحُ، فَلَمَّا صَارَ مَعَ
النُّمْرُوذِ قَيِّمًا عَلَى خِزَانَةِ آلِهَتِهِ سَمَّاهُ
آزَرَ «4». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ آزَرَ لَيْسَ بِاسْمِ
أَبِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ صَنَمٍ. وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ تَارَحَ بن ناخور بن ساروع
__________
(1). في ج وك بالمعجمة، وفي ع بالمهملة. وفي جمل: ضبطه بعضهم
بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة.
(2). من ج وك وع.
(3). الهم (بكسر الهاء): الشيخ الفاني. وفي ك: الهرم، وكذا قال
الفراء.
(4). لعل هذا هو الصحيح كما في لغة الفينيقيين إزربعل: سادن
الصنم بعل.
(7/22)
وَكَذَلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
ابن أوغو بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ
شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سام بن نوح عليه السلام. وَ"
آزَرَ" فِيهِ قِرَاءَاتٌ:" أَإِزْرًا" بِهَمْزَتَيْنِ،
الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ" أأزرا" بهمزتين مفتوحتين. وقرى
بِالرَّفْعِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى
الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَنْهُ" تَتَّخِذُ" بِغَيْرِ
هَمْزَةٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: (أَإِزْرًا)؟ فَقِيلَ:
إِنَّهُ اسْمُ صَنَمٍ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ
أَتَتَّخِذُ إِزْرًا، وَكَذَلِكَ أَأَزْرًا. وَيَجُوزُ أَنْ
يُجْعَلَ أَإِزْرًا عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ
وَهُوَ الظَّهْرُ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ،
كَأَنَّهُ قَالَ: أَلِلْقُوَّةِ تَتَّخِذُ أَصْنَامًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِزْرُ بِمَعْنَى وِزْرٍ، أُبْدِلَتِ
الْوَاوُ هَمْزَةً. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: ذَكَرَ فِي
الِاحْتِجَاجِ عَلَى المشركين قصة إبراهيم ووده عَلَى أَبِيهِ
فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَوْلَى النَّاسِ بِاتِّبَاعِ
إِبْرَاهِيمَ الْعَرَبُ، فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّتُهُ. أَيْ
وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ. أَوْ" وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ" وَذَكِّرْ إِذْ قَالَ إبراهيم.
وقرى" آزَرَ" أَيْ يَا آزَرُ، عَلَى النِّدَاءِ الْمُفْرَدِ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَيَعْقُوبَ وَغَيْرِهِمَا. وَهُوَ
يُقَوِّي قول من يقول: إن آزر اسم أب إِبْرَاهِيمَ"
أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً" مَفْعُولَانِ لِتَتَّخِذُ «1»
وَهُوَ استفهام) فيه معنى الإنكار.
[سورة الأنعام (6): آية 75]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُلْكَ، وَزِيدَتِ الْوَاوُ
وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ. وَمِثْلُهُ
الرَّغَبُوتُ وَالرَّهَبُوتُ وَالْجَبَرُوتُ. وَقَرَأَ أَبُو
السِّمَالِ «2» الْعَدَوِيُّ" مَلْكُوتَ" بِإِسْكَانِ
اللَّامِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ حَذْفُ
الْفَتْحَةِ لخفتها، ولعلها لغة. و" نُرِي" بِمَعْنَى
أَرَيْنَا، (فَهُوَ) «3» بِمَعْنَى الْمُضِيِّ. فَقِيلَ:
أَرَادَ بِهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ عِبَادَةِ
الْمَلَائِكَةِ وَالْعَجَائِبِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
عِصْيَانِ بَنِي آدَمَ، فَكَانَ يَدْعُو عَلَى مَنْ يَرَاهُ
يَعْصِي فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا
إِبْرَاهِيمُ أَمْسِكْ عَنْ عِبَادِي، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
مِنْ أَسْمَائِي الصَّبُورَ. رَوَى مَعْنَاهُ عَلِيٍّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: كَشَفَ
اللَّهُ له عن السماوات والأرض حتى
__________
(1). من ك.
(2). أبو السمال قعنب بن أبى قعنب العدوى البصري. كذا في طبقات
إلقاء والتاج. له قرءاة شاذة عن العامة وفي الميزان: أبو
السماك معتب بن هلال العدوى البصري له حروف شاذة لا يعتمد على
نقله ولا يوثق به. وفي ب وج: ابن السماك.
(3). من ك وج وع.
(7/23)
الْعَرْشِ وَأَسْفَلَ الْأَرَضِينَ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: فُرِّجَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
فَنَظَرَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعَرْشِ،
وَفُرِّجَتْ لَهُ الْأَرَضُونَ فَنَظَرَ إِلَيْهِنَّ، وَرَأَى
مكانه في الجنة، فذلك قول:" وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي
الدُّنْيا" «1»، عَنِ السُّدِّيِّ .. وَقَالَ الضحاك: أراه
مَلَكُوتِ السَّمَاءِ مَا قَصَّهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَمِنْ
مَلَكُوتِ الْأَرْضِ الْبِحَارَ وَالْجِبَالَ وَالْأَشْجَارَ،
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ. وَقَالَ بِنَحْوِهِ
ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: جُعِلَ حِينَ وُلِدَ فِي سَرَبٍ «2»
وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَكَانَ
يَمُصُّهَا، وَكَانَ نُمْرُوذُ اللَّعِينُ رَأَى رُؤْيَا
فَعُبِّرَتْ لَهُ أَنَّهُ يَذْهَبُ مُلْكُهُ عَلَى يَدَيْ
مَوْلُودٍ يُولَدُ، فَأَمَرَ بِعَزْلِ الرِّجَالِ عَنِ
النِّسَاءِ. وَقِيلَ: أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ.
وَكَانَ آزَرُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ (الْمَلِكِ) «3»
نُمْرُوذَ فَأَرْسَلَهُ يَوْمًا فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ
فَوَاقَعَ امْرَأَتَهُ فَحَمَلَتْ بِإِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ:
بَلْ وَاقَعَهَا فِي بَيْتِ الْأَصْنَامِ فَحَمَلَتْ وَخَرَّتِ
الْأَصْنَامُ عَلَى وُجُوهِهَا حِينَئِذٍ، فَحَمَلَهَا إِلَى
بَعْضِ الشِّعَابِ حَتَّى وَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ، وَحَفَرَ
لِإِبْرَاهِيمَ سَرَبًا فِي الْأَرْضِ وَوَضَعَ عَلَى بَابِهِ
صَخْرَةً لِئَلَّا تَفْتَرِسَهُ السِّبَاعُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَتُرْضِعُهُ، وَكَانَتْ تَجِدُهُ يَمُصُّ
أَصَابِعَهُ، مِنْ أَحَدِهَا عَسَلٌ وَمِنَ الْآخَرِ مَاءٌ
وَمِنَ الْآخَرِ لَبَنٌ، وَشَبَّ فَكَانَ عَلَى سَنَةٍ مِثْلَ
ابْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ. فَلَمَّا أَخْرَجَهُ مِنَ السَّرَبِ
تَوَهَّمَهُ النَّاسُ أَنَّهُ وُلِدَ مُنْذُ سِنِينَ، فَقَالَ
لِأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ أَنَا. فَقَالَ: وَمَنْ
رَبُّكِ؟ قَالَتْ أَبُوكَ. قَالَ: وَمَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ
نُمْرُوذُ. قَالَ: وَمَنْ رَبُّهُ «4»؟ فَلَطَمَتْهُ،
وَعَلِمَتْ أَنَّهُ الَّذِي يَذْهَبُ مُلْكُهُمْ عَلَى
يَدَيْهِ. وَالْقَصَصُ فِي هَذَا تَامٌّ فِي قَصَصِ
الْأَنْبِيَاءِ لِلْكِسَائِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ «5» مِمَّا
يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مَوْلِدُهُ
بِحَرَّانَ وَلَكِنْ أَبُوهُ نَقَلَهُ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ.
وَقَالَ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وُلِدَ
إِبْرَاهِيمُ فِي زَمَنِ النُّمْرُوذِ بْنِ كَنْعَانَ بْنِ
سَنْجَارِيبَ بْنِ كَوْشَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَقَدْ مَضَى
ذِكْرُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" «6». وَكَانَ بَيْنَ الطُّوفَانِ
وَبَيْنَ مَوْلِدِ إِبْرَاهِيمَ أَلْفٌ وَمِائَتَا سَنَةٍ
وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلَافِ
سَنَةٍ وَثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)
أَيْ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أريناه ذلك، أي الملكوت.
__________
(1). راجع ج 13 ص 339. [ ..... ]
(2). السرب (بالتحريك): حفير أو بيت تحت الأرض.
(3). من ك. ((
(4). في ك: ومن رب نمرود.
(5). في ج وز: كتاب حسن نظيف مما يفترى.
(6). راجع ج 3 ص 283.
(7/24)
فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
[سورة الأنعام (6): آية 76]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَيْ
سَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ، وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنَّةُ
وَالْجُنَّةُ وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجِنُّ كُلُّهُ
بِمَعْنَى السِّتْرِ. وَجَنَانُ اللَّيْلِ ادْلِهْمَامُهُ
وَسِتْرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
وَلَوْلَا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا ... بِذِي
الرَّمْثِ وَالْأَرْطَى «2» عِيَاضِ بْنِ نَاشِبِ
وَيُقَالُ: جُنُونُ اللَّيْلِ أَيْضًا. وَيُقَالُ: جَنَّهُ
اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ لُغَتَانِ. (رَأى كَوْكَباً)
هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى، غَيْرُ قِصَّةِ عَرْضِ الْمَلَكُوتِ
عَلَيْهِ. فَقِيلَ: رَأَى ذَلِكَ مِنْ شِقِّ الصَّخْرَةِ
الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَأْسِ السَّرَبِ. وَقِيلَ: لَمَّا
أَخْرَجَهُ أَبُوهُ مِنَ السَّرَبِ وَكَانَ وَقْتَ غَيْبُوبَةِ
الشَّمْسِ فَرَأَى الْإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْغَنَمَ فَقَالَ:
لَا بُدَّ لَهَا مِنْ رَبٍّ. وَرَأَى الْمُشْتَرِيَ أَوِ
الزُّهْرَةَ ثُمَّ الْقَمَرَ ثُمَّ الشَّمْسَ، وَكَانَ هَذَا
فِي آخِرِ الشَّهْرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ
ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.
وَقِيلَ: لَمَّا حَاجَّ نُمْرُوذًا كَانَ ابْنَ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ هَذَا رَبِّي)
اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: كَانَ
هَذَا مِنْهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ وَحَالِ الطُّفُولِيَّةِ
وَقَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَا
يَكُونُ كُفْرٌ وَلَا إِيمَانٌ. فَاسْتَدَلَّ قَائِلُو هَذِهِ
الْمَقَالَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي" فَعَبَدَهُ
حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ والقمر، فلما تم
نظره قال:" إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ" وَاسْتَدَلَّ
بِالْأُفُولِ، لِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْآيَاتِ عَلَى الْحُدُوثِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ
أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى رَسُولٌ يَأْتِي عَلَيْهِ
وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى
مُوَحِّدٌ وَبِهِ عَارِفٌ، وَمِنْ كل معبود سواه برئ. قَالُوا:
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُتَوَهَّمَ هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ
اللَّهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَهُ
لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، وَلَا يَجُوزُ
__________
(1). هو دريد بن الصمة، وقيل: هو لخفاف بن ندبة (عن اللسان).
(2). الرمث (بالكسر): مرعى من مراعى الإبل، واسم واد لبنى أسد.
والأرطى (جمع أرطاة): شجر ينبت بالرمل.
(7/25)
أَنْ يُوصَفَ بِالْخُلُوِّ عَنِ
الْمَعْرِفَةِ، بَلْ عَرَفَ الرَّبَّ أَوَّلَ النَّظَرِ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: هَذَا الْجَوَابُ عندي خطأ وغلط ممن قال، وَقَدْ
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ:"
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1» "
وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ:" إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
«2» " أَيْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ قَطُّ. قَالَ: وَالْجَوَابُ
عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ" هَذَا رَبِّي" عَلَى قَوْلِكُمْ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَيْنَ
شُرَكائِيَ «3» " وَهُوَ جَلَّ وعلا واحد لا شريك له. والمعنى:
ابن شُرَكَائِي عَلَى قَوْلِكُمْ. وَقِيلَ: لَمَّا خَرَجَ
إِبْرَاهِيمُ مِنَ السَّرَبِ رَأَى ضَوْءَ الْكَوْكَبِ وَهُوَ
طَالِبٌ لِرَبِّهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ ضَوْءُهُ قَالَ:" هَذَا
رَبِّي" أَيْ بِأَنَّهُ يَتَرَاءَى لِي نُورُهُ. (فَلَمَّا
أَفَلَ) عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّهِ." فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً" وَنَظَرَ إِلَى ضَوْئِهِ" قالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي" وَلَيْسَ هَذَا
شِرْكًا. إِنَّمَا نَسَبَ ذَلِكَ الضَّوْءَ إِلَى رَبِّهِ
فَلَمَّا رَآهُ زَائِلًا «4» دَلَّهُ الْعِلْمُ عَلَى أَنَّهُ
غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِذَلِكَ، فَنَفَاهُ بِقَلْبِهِ وَعَلِمَ
أَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ"
هَذَا رَبِّي" لِتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ
فَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْمُ
قَرَّرَ الْحُجَّةَ وَقَالَ: مَا تَغَيَّرَ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ رَبًّا. وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ النُّجُومَ
وَيَعْبُدُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بِهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ:
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
نُورٌ عَلى نُورٍ «5» " قَالَ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ
يَعْرِفُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ
بِقَلْبِهِ، فَإِذَا عَرَفَهُ ازْدَادَ نُورًا عَلَى نُورٍ،
وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ
بِدَلَائِلِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا.
فَلَمَّا عَرَّفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ ازْدَادَ
مَعْرِفَةً فَقَالَ:" أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ
هَدانِ" وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ
وَالتَّوْبِيخِ، مُنْكِرًا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل
هَذَا يَكُونُ رَبًّا؟ فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. وَفِي
التَّنْزِيلِ" أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «6» " أَيْ
أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَقَالَ الْهُذَلِيُّ «7»:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ ... فَقُلْتُ
وأنكرت الوجوه هم هم
__________
(1). راجع ج 9 ص 367.
(2). راجع ج 15 ص 91.
(3). راجع ج 10 ص 97.
(4). في ك: آفلا.
(5). راجع ج 12 ص 255.
(6). راجع ج 11 ص 287.
(7). هو أبو خراش. رفوته سكنه من الرعب. [ ..... ]
(7/26)
فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ (77)
آخَرُ «1»:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ
رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا رَبِّي عَلَى زَعْمِكُمْ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى:" أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ «2» " وَقَالَ:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ «3» " أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
أَيْ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي، فَأُضْمِرَ
الْقَوْلُ، وَإِضْمَارُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فِي هَذَا رَبِّي، أَيْ هَذَا دَلِيلٌ على ربي.
[سورة الأنعام (6): آية 77]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أَيْ
طَالِعًا. يُقَالُ: بَزَغَ الْقَمَرُ إِذَا ابْتَدَأَ فِي
الطُّلُوعِ، وَالْبَزْغُ الشَّقُّ، كَأَنَّهُ يَشُقُّ
بِنُورِهِ الظُّلْمَةَ، وَمِنْهُ بَزَغَ الْبَيْطَارُ
الدَّابَّةَ إِذَا أَسَالَ دَمَهَا. (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي) أَيْ لَمْ يُثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ. وَقَدْ
كَانَ مقتديا فَيَكُونُ جَرَى هَذَا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ،
أَوْ سَأَلَ التَّثْبِيتَ لِإِمْكَانِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ
كَمَا قَالَ شعيب: وما كان لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ «4». وَفِي التَّنْزِيلِ" اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ" أَيْ ثبتنا على الهداية. وقد تقدم
«5».
[سورة الأنعام (6): آية 78]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً)
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ العين.
بزغ يبزغ إِذَا طَلَعَ. وَأَفَلَ يَأْفِلُ أُفُولًا إِذَا
غَابَ. وَقَالَ:" هَذَا" وَالشَّمْسُ مُؤَنَّثَةٌ، لِقَوْلِهِ"
فَلَمَّا أَفَلَتْ" فَقِيلَ: إِنَّ تَأْنِيثَ الشَّمْسِ
لِتَفْخِيمِهَا وَعِظَمِهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ
نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ. وَإِنَّمَا قَالَ:" هَذَا رَبِّي"
على معنى: هذا الطالع ربي
__________
(1). هو عمر بن أبى ربيعة.
(2). راجع ج 13 ص 308.
(3). راجع ج 16 ص 151.
(4). راجع ص 250 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 1 ص 146.
(7/27)
إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: أَيْ هَذَا الضَّوْءُ. قَالَ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَيْ هَذَا الشَّخْصُ،
كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ ... مَنْ لِي مِنْ بَعْدِكَ
يَا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ ... قد ذل من ليس له
ناصر «1»
[سورة الأنعام (6): آية 79]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أَيْ قَصَدْتُ
بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي لله عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ.
وَذَكَرَ الْوَجْهَ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مَا يَعْرِفُ بِهِ
(الْإِنْسَانُ) «2» صَاحِبَهُ." حَنِيفاً" مَائِلًا إِلَى
الْحَقِّ. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اسْمُ" مَا"
وَخَبَرُهَا. وَإِذَا وَقَفْتَ قُلْتَ:" أَنَا" زِدْتَ
الْأَلِفَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ
الْفَصِيحَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ
يَقُولُ:" أَنَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمِنَ الْعَرَبِ
مَنْ يَقُولُ:" أَنَهْ". ثَلَاثُ لُغَاتٍ. وَفِي الْوَصْلِ
أَيْضًا ثَلَاثُ لُغَاتٍ: أَنْ تُحْذَفَ الْأَلِفُ فِي
الْإِدْرَاجِ، لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فِي
الْوَقْفِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَلِفَ فِي
الْوَصْلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي «3»
وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ بَنِي قَيْسٍ وَرَبِيعَةَ، عَنِ
الْفَرَّاءِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَصْلِ:
آنَ فَعَلْتُ، مِثْلَ عَانَ فعلت، حكاه الكسائي عن بعض قضاعة.
[سورة الأنعام (6): آية 80]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ
هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ (80)
__________
(1). الشاهد فيه قوله:" ذا غربه" أي شخصا ذا غربة.
(2). من ك.
(3). هذا صدر بيت، وعجزه كما في اللسان مادة أنن:
جميعا قد تذريت السناما
(7/28)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ)
دَلِيلٌ عَلَى الْحِجَاجِ وَالْجِدَالِ؟ حَاجُّوهُ فِي
تَوْحِيدِ اللَّهِ. (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ) قَرَأَ
نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَشَدَّدَ النُّونَ
الْبَاقُونَ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ مِنْ رِوَايَةِ
هِشَامٍ عَنْهُ خِلَافٌ، فَمَنْ شَدَّدَ قَالَ: الْأَصْلُ
فِيهِ نُونَانِ، الْأُولَى عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَالثَّانِيَةُ
فَاصِلَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْيَاءِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ
مِثْلَانِ فِي فِعْلٍ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ أُدْغِمَ النُّونُ فِي
الْأُخْرَى فَوَقَعَ التَّشْدِيدُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَدِّ
الْوَاوِ لِئَلَّا يَلْتَقِيَ السَّاكِنَانِ، الْوَاوُ
وَأَوَّلُ الْمُشَدَّدِ، فَصَارَتِ الْمُدَّةُ فَاصِلَةً
بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ النُّونَ
الثَّانِيَةَ اسْتِخْفَافًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ،
وَلَمْ تُحْذَفِ الْأُولَى لِأَنَّهَا عَلَامَةُ الرَّفْعِ،
فَلَوْ حُذِفَتْ لَاشْتَبَهَ الْمَرْفُوعُ بالمجزوم والمنصوب.
وحكي عن أبي عمرو ابن الْعَلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ
لَحْنٌ. وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: اسْتَثْقَلُوا
التَّضْعِيفَ. وَأَنْشَدَ:
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يعل مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني
«1»
قوله تعالى: (وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) أَيْ
لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ- وَكَانُوا خَوَّفُوهُ
بِكَثْرَةِ آلِهَتِهِمْ- إِلَّا أَنْ يُحْيِيَهُ (اللَّهُ) «2»
وَيُقْدِرَهُ فَيَخَافُ ضرره حينئذ، وهو معنى قوله: (إِلَّا
أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أَيْ إِلَّا أن يشاء أن يلحقني شي
مِنَ الْمَكْرُوهِ بِذَنْبٍ عَمِلْتُهُ فَتَتِمُّ مَشِيئَتُهُ.
وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. وَالْهَاءُ فِي"
بِهِ" يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمَعْبُودِ. وَقَالَ:" إِلَّا أَنْ
يَشاءَ رَبِّي" يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشَاءُ أن
أخافهم. ثم قال: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع
علمه كل شي. وقد تقدم «3».
[سورة الأنعام (6): الآيات 81 الى 82]
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ
أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
__________
(1). البيت لعمرو بن معد يكرب، وصف شعره وأن الشيب قد شمله.
والثغام: نبت له نور أبيض يشبه به الشيب ويعل: يطيب شيئا بعد
شي والعلل: الشرب بعد الشرب.
(2). من ك.
(3). راجع ج 2 ص 84.
(7/29)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ
مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ أَخافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ) فَفِي" كَيْفَ" مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَنْكَرَ
عَلَيْهِمْ تَخْوِيفَهُمْ إِيَّاهُ بِالْأَصْنَامِ وَهُمْ لَا
يَخَافُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ كَيْفَ أَخَافُ
مَوَاتًا وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الله القادر على كل شي
(مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) أَيْ
حُجَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أَيْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ: الْمُوَحِّدُ
أَمِ الْمُشْرِكُ، فَقَالَ اللَّهُ قَاضِيًا بَيْنَهُمْ:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يلبسوا إيمانهم بظلم) أي بشرك، قال
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيٌّ وَسَلْمَانُ وَحُذَيْفَةُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِنْ
قوم إِبْرَاهِيمَ، كَمَا يَسْأَلُ الْعَالِمُ وَيُجِيبُ
نَفْسَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ (قَوْمِ) «2»
إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَجَابُوا بما وهو حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ،
قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ" شَقَّ ذَلِكَ عَلَى
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ هُوَ
كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ" يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3»." (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أَيْ
فِي الدنيا.
[سورة الأنعام (6): آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(83)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ) (تِلْكَ) «4» إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ
احْتِجَاجَاتِهِ حَتَّى خَاصَمَهُمْ وَغَلَبَهُمْ بالحجة. وقال
مجاهد: هي قول:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ". وَقِيلَ: حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ
أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ «5» أَنْ
تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِسَبِّكَ إِيَّاهَا؟ قَالَ لَهُمْ:
أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْهَا إِذْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ
الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ،
فَيَغْضَبُ الْكَبِيرُ فَيَخْبِلَكُمْ؟. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
مَنْ نَشاءُ) أَيْ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْإِمَامَةِ
وَالْمُلْكِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" دَرَجَاتٍ"
بِالتَّنْوِينِ. وَمِثْلُهُ فِي" يُوسُفَ «6» " أَوْقَعُوا
الْفِعْلَ عَلَى" مَنْ" لِأَنَّهُ الْمَرْفُوعُ فِي
الْحَقِيقَةِ، التَّقْدِيرُ: وَنَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ إِلَى
دَرَجَاتٍ. ثُمَّ حُذِفَتْ إِلَى. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ تَنْوِينٍ على
الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع
__________
(1). راجع ج 4 ص 233.
(2). من ب وج وك.
(3). راجع ج 14 ص 62. [ ..... ]
(4). من ك.
(5). في ك: إنا نخاف.
(6). راجع ج 9 ص 235.
(7/30)
وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
صَاحِبُهَا. يُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَفِيعُ الدَّرَجاتِ «1» " وقول عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ". فَأَضَافَ
الرَّفْعَ إِلَى الدَّرَجَاتِ. وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الرَّفِيعُ الْمُتَعَالِي فِي شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ.
فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، لِأَنَّ مِنْ رُفِعَتْ
دَرَجَاتُهُ فَقَدْ رُفِعَ، وَمَنْ رُفِعَ فَقَدْ رُفِعَتْ
دَرَجَاتُهُ، فَاعْلَمْ. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يضع
كل شي موضعه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 84 الى 85]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا
وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ
وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أَيْ جَزَاءً لَهُ
عَلَى الِاحْتِجَاجِ فِي الدِّينِ وَبَذْلِ النَّفْسِ فِيهِ."
(كُلًّا هَدَيْنا) " أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ.
وَ" كُلًّا" نُصِبَ بِ" هَدَيْنا" (وَنُوحاً) نُصِبَ بِ"
هَدَيْنا" الثَّانِي. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أَيْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ كَالْقُشَيْرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ
وَغَيْرِهِمَا. وَالْأَوَّلُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَاعْتَرَضَ
بِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ (هَذِهِ «2») الذُّرِّيَّةِ يُونُسُ
وَلُوطٌ وَمَا كَانَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ
لُوطٌ ابْنَ أَخِيهِ. وَقِيلَ: ابْنُ أُخْتِهِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا مُضَافُونَ إِلَى
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ
تَلْحَقْهُ وِلَادَةٌ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَبٍ وَلَا
أُمٍّ، لِأَنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَالْعَرَبُ
تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ وَلَدِ
يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا" نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ
آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3» ".
وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ. وَعُدَّ عِيسَى مِنْ
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ الْبِنْتِ.
فَأَوْلَادُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذُرِّيَّةُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا
تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي
اسم الولد وهي:
__________
(1). راجع ج 15 ص 298.
(2). من ك وب وع.
(3). راجع ج 2 ص 137.
(7/31)
الثَّانِيَةُ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ
وَلَدِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ وَلَدِهِ وَوَلَدُ
بَنَاتِهِ مَا تَنَاسَلُوا. وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى
لِقَرَابَتِهِ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ.
وَالْقَرَابَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ
مُحَرَّمٍ. وَيَسْقُطُ عِنْدَهُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ
وَابْنُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا
بِمُحَرَّمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَرَابَةُ كُلُّ
ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَهُ
ابْنُ الْعَمِّ «1» وَلَا غَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا
يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول:
لِوَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي. يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ
الْبَنِينَ وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى عَصَبَةِ الْأَبِ
وَصُلْبِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنَاتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي" آلَ
عِمْرانَ «2» ". والحجة لهما قول سُبْحَانَهُ:" يُوصِيكُمُ
اللَّهُ «3» فِي أَوْلادِكُمْ" فَلَمْ يَعْقِلِ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ إِلَّا وَلَدَ الصُّلْبِ وَوَلَدَ
الِابْنِ خَاصَّةً. وَقَالَ تَعَالَى:" وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
«4» الْقُرْبى " فَأَعْطَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَرَابَةَ
مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَامِهِ دُونَ بَنِي أَخْوَالِهِ.
فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْبَنَاتِ لَا يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ
بِالنَّسَبِ، وَلَا يَلْتَقُونَ مَعَهُ فِي أَبٍ. قَالَ ابْنُ
الْقَصَّارِ: وَحُجَّةُ مَنْ أَدْخَلَ الْبَنَاتِ فِي
الْأَقَارِبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ" إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ". وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا
يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ فِي وَلَدِ الْبَنَاتِ إِنَّهُمْ
وَلَدٌ لِأَبِي أُمِّهِمْ. وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ،
لِأَنَّ الْوَلَدَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّوَلُّدِ وَهُمْ
مُتَوَلِّدُونَ عَنْ أَبِي أُمِّهِمْ لَا مَحَالَةَ،
وَالتَّوَلُّدَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَالتَّوَلُّدِ مِنْ
جِهَةِ الْأَبِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ)
إِلَى قول (مِنَ الصَّالِحِينَ) فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ
ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ ابْنُ ابْنَتِهِ. الثَّالِثَةُ- قَدْ
تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ «5» بَيَانُ مَا لَا يَنْصَرِفُ مِنْ
هْذِهِ الْأَسْمَاءِ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ دَاوُدُ لِأَنَّهُ
اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَلَمَّا كَانَ عَلَى فَاعُولٍ لَا
يَحْسُنُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَمْ يَنْصَرِفْ.
وَإِلْيَاسُ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ إِلْيَاسُ
مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَذَكَرَ الْقُتَبِيُّ قَالَ: كَانَ
مِنْ سِبْطِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ
وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ" وَالِيَاسَ" بِوَصْلِ الْأَلِفِ.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ"
وَالْيَسَعَ" بِلَامٍ مُخَفَّفَةٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
إِلَّا عَاصِمًا" وَاللَّيْسَعَ".
__________
(1). في ك: ابن العمة.
(2). راجع ج 4 ص 104.
(3). راجع ج 5 ص 54 وص 15 ج 6.
(4). راجع ج 8 ص 1.
(5). راجع ج 5 ص 54 وص 15 ج 6.
(7/32)
وَكَذَا قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَرَدَّ
قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ" وَالْيَسَعَ" قَالَ: لِأَنَّهُ لَا
يُقَالُ الْيَفْعَلُ مِثْلَ الْيَحْيَى. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهَذَا الرَّدُّ لَا يَلْزَمُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ:
الْيَعْمَلُ وَالْيَحْمَدُ، وَلَوْ نَكَّرْتَ يَحْيَى لَقُلْتَ
الْيَحْيَى. وَرَدَّ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ"
اللَّيْسَعَ" وَقَالَ: لَا يُوجَدُ لَيْسَعُ. وَقَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا الرَّدُّ لَا يَلْزَمُ، فَقَدْ جَاءَ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ حَيْدَرٌ وَزَيْنَبُ، وَالْحَقُّ فِي هَذَا
أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَالْعُجْمَةُ لَا تُؤْخَذُ
بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تُؤْخَذُ سَمَاعًا وَالْعَرَبُ
تُغَيِّرُهَا كَثِيرًا، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَأْتِيَ الِاسْمُ
بِلُغَتَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: مَنْ قَرَأَ بِلَامَيْنِ
فَأَصْلُ الِاسْمِ لَيْسَعُ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ. وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ يَسَعُ مَا
دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، إِذْ لَا يَدْخُلَانِ عَلَى
يَزِيدَ وَيَشْكُرَ: اسْمَيْنِ لِرَجُلَيْنِ، لِأَنَّهُمَا
مَعْرِفَتَانِ عَلَمَانِ. فَأَمَّا" لَيْسَعُ" نَكِرَةٌ
فَتَدْخُلُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ،
وَالْقِرَاءَةُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنَّ
أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ
قَرَأَ" الْيَسَعَ" بِلَامٍ وَاحِدَةٍ فَالِاسْمُ يَسَعُ،
وَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ زَائِدَتَيْنِ،
كَزِيَادَتِهِمَا فِي نَحْوِ الخمسة عشر، وفي نحو قوله:
وجدنا اليزيد بْنَ الْوَلِيدِ مُبَارَكًا ... شَدِيدًا
بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ كَاهِلُهُ «1»
وَقَدْ زَادُوهَا فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَيُسْتَخْرَجُ الْيَرْبُوعُ مِنْ نَافِقَائِهِ ... وَمِنْ
بَيْتِهِ بِالشِّيخَةِ الْيَتَقَصَّعُ «2»
يُرِيدُ الَّذِي يَتَقَصَّعُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قُرِئَ
بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالتَّشْدِيدِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ
فِي أَنَّهُ اسْمٌ لِنَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، مِثْلُ إِسْمَاعِيلَ
وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنْ خَرَجَ عَمَّا عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ
الْأَعْجَمِيَّةُ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْيَسَعَ (هُوَ) «3» إِلْيَاسُ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ كُلَّ
وَاحِدٍ بِالذِّكْرِ. وَقَالَ وَهْبٌ: الْيَسَعُ (هُوَ) «4»
صَاحِبُ إلياس، وكانا قبل زكريا وَيَحْيَى وَعِيسَى. وَقِيلَ:
إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ (وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ
إِدْرِيسَ «5») جَدُّ نُوحٍ وَإِلْيَاسُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ
«6». وَقِيلَ: إِلْيَاسُ هُوَ الْخَضِرُ. وَقِيلَ: لَا، بَلِ
الْيَسَعُ هُوَ الْخَضِرُ" وَلُوطاً" (اسْمٌ) «7» أَعْجَمِيٌّ
انْصَرَفَ لِخِفَّتِهِ. وَسَيَأْتِي اشْتِقَاقُهُ فِي"
الْأَعْرَافِ «8».
__________
(1). البيت لابن ميادة.
(2). البيت لذي الخرق الطهوي: كما في شرح القاموس. الفقه
(كالهمزه) والنافقاء: حجر الضب واليربوع. وقيل موضوع يرققه
اليربوع من حجره فإذا أتى من قبل القاصعاء. (وهو حجره) ضرب
النافقاء برأسه فخرج والشيخة: رملة بيضاء ببلاد أسد حنظلة.
يروى: حجره. وفى الأصول: ذو الشيخة.
(3). من ك. [ ..... ]
(4). من ك.
(5). من ع ول.
(6). أي من ذرية نوح.
(7). من ع.
(8). راجع ص 243 من هذا الجزء.
(7/33)
وَمِنْ آبَائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
[سورة الأنعام (6): آية 87]
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ
وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(87)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) "
مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ هَدْينَا بَعْضَ آبَائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ قَالَ
مُجَاهِدٌ: خَلَّصْنَاهُمْ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
بِمَعْنَى اخْتَرْنَاهُمْ، مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَيْتُ الْمَاءَ
فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ. فَالِاجْتِبَاءُ ضَمُّ الَّذِي
تَجْتَبِيهِ إِلَى خَاصَّتِكَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
وَجَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَبًّا، مَقْصُورٌ.
وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ. قَالَ:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ «1»
وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الاصطفاء والهداية «2».
[سورة الأنعام (6): آية 88]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ
(88)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) أَيْ لَوْ عَبَدُوا
غَيْرِي لَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَلَكِنِّي عَصَمْتُهُمْ.
وَالْحُبُوطُ الْبُطْلَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي البقرة «3».
[سورة الأنعام (6): آية 89]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا
بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ"
وَالْحُكْمَ" الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها)
أَيْ بِآيَاتِنَا. هَؤُلَاءِ أَيْ كُفَّارُ عَصْرِكَ يَا
مُحَمَّدُ. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ
وَكَّلْنَا بِالْإِيمَانِ بها (قَوْماً لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ) يريد
__________
(1). هذا عجز بيت للأعشى وصدره كما في الديوان:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة
الجفنة: القصة. والفهق: الامتلاء.
(2). راجع ج 1 ص 146 وج 2 ص 133 - 32 1.
(3). راجع ج 3 ص 46.
(7/34)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
(90)
الْأَنْصَارَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
يَعْنِي النَّبِيِّينَ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى،
لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدُ:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ". وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ: هُمُ
الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَالْبَاءُ فِي"
بِكافِرِينَ" زائدة (على جهة «1») التأكيد.
[سورة الأنعام (6): آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى
لِلْعالَمِينَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الِاقْتِدَاءُ
طَلَبُ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ فِي فِعْلِهِ. فقيل: المعنى أصبر
كما صبروا. وفيل: مَعْنَى" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"
التَّوْحِيدُ وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ. وَقَدِ احْتَجَّ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ
اتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا عُدِمَ فِيهِ
النَّصُّ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ
أُخْتَ الربيع «2» أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ" فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص
من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" سُبْحَانَ الله يا أم
الربيع القصاص كتاب الله (. قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ
مِنْهَا أَبَدًا. قَالَ: فَمَا زَالَتْ «3» حَتَّى قَبِلُوا
الدِّيَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:) إن من عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لَأَبَرَّهُ (. فَأَحَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قول:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ
فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «4» " الْآيَةَ. وَلَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي
السِّنِّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهَا وَأَحَالَ
عَلَيْهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا
وُجِدَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: وهو الذي تقتضيه أصول
مالك
__________
(1). من ك وز.
(2). الربيع: بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة
بعدها عين مهملة. أما أم الربيع فهي بفتح الراء وكسر الموحدة
وتخفيف الياء. راجع شرح النوري على صحيح مسلم باب إثبات القصاص
في الأسنان وما في معناها فقيه كلام طويل عن هذه القصة.
(3). في ك وز. فما زالوا.
(4). راجع ج 6 ص 191.
(7/35)
وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وأصحاب الشافعي والمعتزلة، لقول تَعَالَى:"
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1» ".
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
التَّقْيِيدَ: إِلَّا فِيمَا قُصَّ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ مِمَّا لم يأت من كِتَابِكُمْ. وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ
مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ" ص" فَقَالَ: سَأَلْتُ ابن عباس عن
سجدة" ص" فقال: أو تقرأ" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ
وَسُلَيْمانَ" إِلَى قَوْلِهِ" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"؟ وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ. الثَّانِيَةُ-
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" اقْتَدِ قُلْ" بِغَيْرِ
هَاءٍ فِي الْوَصْلِ. وقرا ابن عامر" اقتد هي قُلْ". قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَحْنٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ لِبَيَانِ
الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إِضْمَارٍ وَلَا
بَعْدَهَا وَاوٌ وَلَا يَاءٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لا يجوز"
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ". وَمَنِ اجْتَنَبَ اللَّحْنَ
وَاتَّبَعَ السَّوَادَ قَرَأَ" فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ"
فَوَقَفَ وَلَمْ يَصِلْ، لِأَنَّهُ إِنْ وَصَلَ بِالْهَاءِ
لَحَنَ وَإِنْ حَذَفَهَا خَالَفَ السَّوَادَ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى نِيَّةِ
الْوَقْفِ وَعَلَى نِيَّةِ الْإِدْرَاجِ اتِّبَاعًا
لِثَبَاتِهَا فِي الْخَطِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَيَّاشٍ
وَهِشَامٌ" اقْتَدِهِ قُلْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَهُوَ غَلَطٌ
لَا يَجُوزُ فِي العربية. قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) أَيْ جُعْلًا عَلَى الْقُرْآنِ. (إِنْ هُوَ)
أَيِ الْقُرْآنُ. (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أَيْ هُوَ
مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ. وَأَضَافَ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِمْ
فَقَالَ:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" لِوُقُوعِ الْهِدَايَةِ
بِهِمْ. وَقَالَ:" ذلِكَ هُدَى اللَّهِ" لأنه الخالق للهداية.
[سورة الأنعام (6): آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
__________
(1). راجع ج 6 ص 209.
(7/36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أَيْ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ
عَلَيْهِ وَجَازَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا آمَنُوا أَنَّهُ
عَلَى كل شي قَدِيرٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ
عَظَمَتِهِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ
قَدْرٌ. وَشَرْحُ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا:" مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" نَسَبُوا اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى
عِبَادِهِ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الصَّلَاحُ،
فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ
مَعْرِفَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مَا عَرَفُوا
اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا
مَعْنًى حَسَنٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَدَرْتُ الشَّيْءَ
وَقَدَّرْتُهُ عَرَفْتُ مقداره. ويدل عليه قول تَعَالَى:" إِذْ
قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" أَيْ
لَمْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، إِذْ أَنْكَرُوا أَنْ
يُرْسِلَ رَسُولًا. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَقَدْ
قِيلَ: وَمَا قَدَرُوا نِعَمَ اللَّهِ حَقَّ تَقْدِيرِهَا.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدَرِهِ" بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهِيَ لُغَةٌ. (إِذْ قالُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَقَالَ
الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذي قاله أحد اليهود،
قال: لم ينز اللَّهُ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ
السُّدِّيُّ: اسْمُهُ فِنْحَاصُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
أَيْضًا قَالَ: هُوَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ «1»، جَاءَ
يُخَاصِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى
أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ
الْحَبْرَ السَّمِينَ)؟ وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا. فَغَضِبَ
وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بشر من شي.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ: وَيْحَكَ! وَلَا
عَلَى مُوسَى؟ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بشر
من شي، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. ثُمَّ قَالَ نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ
وَرَدًّا عَلَيْهِمْ:" قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي
جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَراطِيسَ"- أي في قراطيس-" تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً"
هَذَا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْفَوْا صِفَةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهَا مِنَ
الْأَحْكَامِ. وقال مجاهد: قوله تعالى «2» " قُلْ مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى " خطاب للمشركين،
وقوله" تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ" لِلْيَهُودِ (وَقَوْلُهُ «3»)
(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ)
لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ
قَرَأَ" يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ"
بِالْيَاءِ وَالْوَجْهُ عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ أَنْ يَكُونَ
كُلُّهُ لِلْيَهُودِ، وَيَكُونَ مَعْنَى" وَعُلِّمْتُمْ مَا
لَمْ تَعْلَمُوا"
__________
(1). في ك ج: الضيف. بمعجمه وكلاهما أثبته الرواة. [ ..... ]
(2). من ك.
(3). من ك.
(7/37)
وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
أَيْ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، عَلَى وَجْهِ
الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَجُعِلَتِ
التَّوْرَاةُ صُحُفًا فَلِذَلِكَ قَالَ" قَراطِيسَ
تُبْدُونَها" أَيْ تُبْدُونَ «1» الْقَرَاطِيسَ. وَهَذَا ذَمٌّ
لَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ كَتْبَ الْقُرْآنِ
أَجْزَاءً. (قُلِ اللَّهُ) أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ اللَّهُ"
(الَّذِي «2») أَنْزَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى
وَهَذَا الْكِتَابَ عَلَيَّ. أَوْ قُلِ اللَّهُ عَلَّمَكُمُ
الْكِتَابَ. (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ
لَاعِبِينَ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لَقَالَ
يَلْعَبُوا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّهْدِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ
مِنَ الْمَنْسُوخِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ قيل:" تَجْعَلُونَهُ"
فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ" نُوراً وَهُدىً" فَيَكُونُ
فِي الصِّلَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا،
وَالتَّقْدِيرُ: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله:" تُبْدُونَها
وَتُخْفُونَ كَثِيراً" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً
لِقَرَاطِيسَ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ تُوصَفُ بِالْجُمَلِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا حسبما تقدم.
[سورة الأنعام (6): آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهذا كِتابٌ) يَعْنِي الْقُرْآنَ
(أَنْزَلْناهُ) صِفَةٌ (مُبارَكٌ) أَيْ بُورِكَ فِيهِ،
وَالْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ فِي غَيْرِ
الْقُرْآنِ عَلَى الحال. كذا (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ) أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ،
فَإِنَّهُ يُوَافِقُهَا فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وإثبات التوحيد.
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يريد المكة- وقد تقدم معنى
تسميتها بذلك «3» - وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، فَحُذِفَ
الْمُضَافُ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَارِ."
وَمَنْ حَوْلَها" يَعْنِي جَمِيعَ الْآفَاقِ. (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يُرِيدُ أَتْبَاعَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل قوله:
(وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) إيمان مَنْ آمَنَ
بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام
ولا بكتابه غير معتد به.
__________
(1). من ك.
(2). من ك، ز.
(3). راجع ج 4 ص 138.
(7/38)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
(93)
[سورة الأنعام (6): آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ
قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ،
أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ. (مِمَّنِ افْتَرى) أَيِ اخْتَلَقَ.
(عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) فَزَعَمَ
أَنَّهُ نَبِيٌّ (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نَزَلَتْ فِي
رَحْمَانِ الْيَمَامَةِ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَسَجَاحَ
زَوْجِ مُسَيْلِمَةَ، كُلُّهُمْ تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا
أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا في مسيلمة، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ.
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِقْهِ
وَالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ السُّنَنِ
فَيَقُولُ: وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا، أَوْ أَخْبَرَنِي
قَلْبِي بِكَذَا، فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ
وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ
أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنَ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا
مِنَ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ
الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ
عَلَى أَسْرَارِ الْكُلِّيَّاتِ وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ
الْجُزْئِيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ
الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ، إِنَّمَا يُحْكَمُ
بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا
الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ
لِتِلْكَ النُّصُوصِ. وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ:
اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ «1»،
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِالْخَضِرِ، وَأَنَّهُ
اسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ،
عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُومِ. وَهَذَا
الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ، يُقْتَلُ قَائِلُهُ وَلَا
يُسْتَتَابُ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَلَا
جَوَابٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ هَدُّ الْأَحْكَامِ
وَإِثْبَاتُ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى فِي"
الْكَهْفِ «2» " مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1). فِي كشف الخفاء" استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" قال:
رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم عن وابصة مرفوعا.
(2). راجع ج 10 ص 18 فما بعد.
(7/39)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) " مَنْ" فِي مَوْضِعِ
خَفْضٍ، أَيْ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ قَالَ سَأُنْزِلُ،
وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ
يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا
نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي" الْمُؤْمِنُونَ":" وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» " دَعَاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمْلَاهَا
عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ" ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ" عَجِبَ عَبْدُ اللَّهِ فِي
تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ:" فَتَبارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ)
فَشَكَّ عَبْدُ اللَّهِ حِينَئِذٍ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ
مُحَمَّدٌ صَادِقًا لقد أوحي إلى كما أوحى إليه ولين كَانَ
كَاذِبًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. فَارْتَدَّ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:"
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" رَوَاهُ
الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ" وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" ارْتَدَّ عَنِ
الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَقَتْلِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صُبَابَةَ وَلَوْ وُجِدُوا
تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَفَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ
أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْ أُمُّهُ عُثْمَانَ،
فَغَيَّبَهُ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا اطْمَأَنَّ
أَهْلُ مَكَّةَ فَاسْتَأْمَنَهُ لَهُ، فَصَمَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ
قَالَ: (نَعَمْ). فَلَمَّا انْصَرَفَ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا صَمَتُّ
إِلَّا لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عنقه). فقال
رجل من الأنصار: فهلا أو مات إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: (إِنَّ النَّبِيَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ
خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ «2». قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَسْلَمَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَيَّامَ
الْفَتْحِ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا
يُنْكَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَحَدُ النُّجَبَاءِ
الْعُقَلَاءِ الْكُرَمَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفَارِسُ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ الْمَعْدُودُ فِيهِمْ، ثُمَّ وَلَّاهُ
عُثْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَفُتِحَ عَلَى يَدَيْهِ إِفْرِيقِيَّةُ سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ، وَغَزَا مِنْهَا الْأَسَاوِدَ مِنْ أَرْضِ
النُّوبَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ هادنهم الهدنة
الباقية إلى اليوم.
__________
(1). راجع ج 12 ص 108.
(2). أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كف لسانه وأومأ بعينه
فقد خان.
(7/40)
وَغَزَا الصَّوَارِيَ «1» مِنْ أَرْضِ
الرُّومِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ
وِفَادَاتِهِ مَنَعَهُ ابْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ
الْفُسْطَاطِ، فَمَضَى إِلَى عَسْقَلَانَ، فَأَقَامَ فِيهَا
حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ
أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ حَتَّى مَاتَ فَارًّا مِنَ الْفِتْنَةِ.
وَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَاتِمَةَ
عَمَلِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَ
فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَالْعَادِيَاتِ
«2»، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ، ثُمَّ
سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُسَلِّمُ عَنْ
يَسَارِهِ فَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَهُ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ
يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ. وَلَمْ يُبَايِعْ
لِعَلِيٍّ وَلَا لِمُعَاوِيَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
«3». وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى
مُعَاوِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِإِفْرِيقِيَّةَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِعَسْقَلَانَ سَنَةَ سِتٍّ
أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ. وَرَوَى حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي
النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ
فَقَالَ: وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا. وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا.
فَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا. فَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ
الْمَوْتِ) أَيْ شَدَائِدُهُ وَسَكَرَاتُهُ. وَالْغَمْرَةُ
الشِّدَّةُ، وَأَصْلُهَا الشَّيْءُ الَّذِي يَغْمُرُ
الْأَشْيَاءَ فَيُغَطِّيهَا. وَمِنْهُ غَمَرَهُ «4» الْمَاءُ.
ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَعْنَى الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ.
وَمِنْهُ غَمَرَاتُ الْحَرْبِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَالْغَمْرَةُ الشِّدَّةُ، وَالْجَمْعُ غُمَرٌ مِثْلُ نَوْبَةٍ
وَنُوَبٍ. قَالَ الْقُطَامِيُّ يَصِفُ سَفِينَةَ نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَحَانَ لِتَالِكَ الْغُمَرِ انحسار
وغمرات الموت شدائده (والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْأَصْلُ بَاسِطُونَ. قِيلَ:
بِالْعَذَابِ وَمَطَارِقِ الْحَدِيدِ، عَنِ الْحَسَنِ
وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَفِي
التَّنْزِيلِ:" وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ «5» "
__________
(1). قال ابن الأثير في (الكامل): ... وأما سبب هذه الغزوة فإن
المسلين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين
بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرجوا
في خمسمائة مركب أو ستمائة وخرج المسلمون ... إلخ. وانما سميت
غزوة الصواري لكثرة صوارى المراكب واجتماعها. راجع ج 3 ص 9 طبع
أوربا. والطبري قسم أول ص 2865 طبع أوربا.
(2). في ك: والصافات.
(3). من ك وز.
(4). في ك: غمزة.
(5). راجع ج 8 ص 28. [ ..... ]
(7/41)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ
شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَوْلَيْنِ.
يُقَالُ: بَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ بِالْمَكْرُوهِ. (أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ) أَيْ خَلِّصُوهَا مِنَ الْعَذَابِ إِنْ
أَمْكَنَكُمْ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ. وَقِيلَ: أَخْرِجُوهَا
كُرْهًا، لِأَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ
لِلِقَاءِ رَبِّهِ، وَرُوحَ الْكَافِرِ تُنْتَزَعُ انْتِزَاعًا
شَدِيدًا، وَيُقَالُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ
اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إلى عذاب الله وهو أن،
كَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ
يُعَذِّبُهُ: لَأُذِيقَنَّكَ الْعَذَابَ وَلَأُخْرِجَنَّ
نَفْسَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسَهُمْ
بَلْ يَقْبِضُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ. وَقِيلَ:
يُقَالُ هَذَا لِلْكُفَّارِ وَهُمْ فِي النَّارِ. وَالْجَوَابُ
مَحْذُوفٌ لِعِظَمِ الْأَمْرِ، أَيْ وَلَوْ رَأَيْتَ
الظَّالِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَرَأَيْتَ عَذَابًا عظيما.
والهون والهوان سواء. و (تَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ تَتَعَظَّمُونَ
وَتَأْنَفُونَ عَنْ قَبُولِ آيَاتِهِ.
[سورة الأنعام (6): آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) هَذِهِ
عبارة عن الحشر و" فُرادى " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى
الْحَالِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ تَأْنِيثٍ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" فُرَادًا" بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ
لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ
فُرَادٌ. وَحَكَى أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى" فُرَادَ" بِلَا
تَنْوِينٍ، قَالَ: مِثْلُ ثُلَاثٍ ورباع. و" فرادى" جَمْعُ
فَرْدَانَ كَسُكَارَى جَمْعِ سَكْرَانَ، وَكُسَالَى جَمْعِ
كَسْلَانَ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ" فَرْدٌ" بِجَزْمِ الرَّاءِ،
وَ" فَرِدٌ" بِكَسْرِهَا، وَ" فَرَدٌ" بِفَتْحِهَا، وَ"
فَرِيدٌ". وَالْمَعْنَى: جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا،
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ
وَلَا وَلَدٍ وَلَا نَاصِرٍ مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبُكُمْ فِي
الْغَيِّ، وَلَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «1» " فَرْدَى" مِثْلَ سَكْرَى
وَكَسْلَى بِغَيْرِ أَلِفٍ. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ) أَيْ مُنْفَرِدِينَ كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم
__________
(1). في ك: الأعمش. ولعل هذا سهو من الناسخ.
(7/42)
مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً
غُرْلًا بُهْمًا «1» لَيْسَ معهم شي. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ:
يُحْشَرُ الْعَبْدُ غَدًا وَلَهُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مَا كَانَ
لَهُ يَوْمَ وُلِدَ، فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ يُرَدُّ فِي
الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:" غُرْلًا"
أَيْ غَيْرُ مَخْتُونِينَ، أي يرد عليهم ما قطع منه عِنْدَ
الْخِتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَكْتُمْ مَا
خَوَّلْناكُمْ) أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ
وَالْخَوْلُ: مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ
الْعَبِيدِ وَالنِّعَمِ «2». (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أَيْ
خَلْفَكُمْ. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أَيِ الَّذِينَ
عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ- يُرِيدُ
الْأَصْنَامَ- أَيْ شُرَكَائِي. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ اللَّهِ وَشُفَعَاؤُنَا
عِنْدَهُ. (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قَرَأَ نَافِعٌ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ، عَلَى
مَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ. وَدَلَّ
عَلَى حَذْفِ الْوَصْلِ قَوْلُهُ" وَما نَرى مَعَكُمْ
شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ". فَدَلَّ هَذَا عَلَى
التَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
شُرَكَائِهِمْ: إِذْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا
مَعَهُمْ. وَمُقَاطَعَتُهُمْ لَهُمْ هُوَ تَرْكُهُمْ
وَصْلَهُمْ لَهُمْ، فَحَسُنَ إِضْمَارُ الْوَصْلِ بَعْدَ"
تَقَطَّعَ" لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَفِي حَرْفِ
ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّصْبِ فِيهِ (لَقَدْ
تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا
النَّصْبُ، لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ الْمُتَقَطِّعَ وَهُوَ" مَا".
كَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ بَيْنَكُمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" بَيْنُكُمْ"
بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ، فَأُسْنِدَ
الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَرُفِعَ. وَيُقَوِّي جَعْلَ" بَيْنَ"
اسْمًا مِنْ جهة دخول حرف الجر عليه في قول تَعَالَى:" وَمِنْ
بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «3» " وَ" هَذَا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ «4» ". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ النَّصْبِ
عَلَى مَعْنَى الرَّفْعِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ
اسْتِعْمَالِهِ ظَرْفًا مَنْصُوبًا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى
هَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَاقْرَأْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ.
(وَضَلَّ عَنْكُمْ) أَيْ ذَهَبَ. (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي، النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُوِيَ أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَرَأَتْ قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ" فَقَالَتْ: يا رسول الله، وا سوءتاه! إن
__________
(1). الغرل (جمع الأغرل) وهو الأقلف الذي لم يختن. والبهم (جمع
بهيم) وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. يعنى ليس
فيهم شي من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا كالعمى
والمور والعرج، وغير ذلك.
(2). في ك، ع، ب: النعم.
(3). راجع 15 ص 339.
(4). راجع ج 11 ص 24.
(7/43)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ يُحْشَرُونَ
جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سوأة بَعْضٍ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لَا يَنْظُرُ
الرِّجَالُ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا النِّسَاءُ إِلَى
الرِّجَالِ شُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ (. وَهَذَا حَدِيثٌ
ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.
[سورة الأنعام (6): آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ
اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)
عَدَّ مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ ما يعجز عن أدنى شي مِنْهُ
آلِهَتُهُمْ. وَالْفَلْقُ: الشَّقُّ، أَيْ يَشُقُّ النَّوَاةَ
الْمَيِّتَةَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا وَرَقًا أَخْضَرَ، وَكَذَلِكَ
الْحَبَّةُ. وخرج مِنَ الْوَرَقِ الْأَخْضَرِ نَوَاةً
مَيِّتَةً وَحَبَّةً، وَهَذَا مَعْنَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، عَنِ
الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ:
مَعْنَى فَالِقٌ خَالِقٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُنِيَ
بِالْفَلْقِ الشَّقُّ الَّذِي فِي الْحَبِّ وَفِي النَّوَى.
وَالنَّوَى جَمْعُ نَوَاةٍ. وَيَجْرِي فِي كُلِّ ما له
كَالْمِشْمِشِ «1» وَالْخَوْخِ. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) يُخْرِجُ
الْبَشَرَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ،
وَالنُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْبَشَرِ الْحَيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ
وَالْحَسَنِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «2».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ: وَالَّذِي فَلَقَ
الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ «3» إِنَّهُ لَعَهْدُ
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا
يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ. (ذلِكُمُ اللَّهُ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فَمِنْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَا تَرَوْنَ من قدرة الله جل وعز.
[سورة الأنعام (6): آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(96)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فالِقُ الْإِصْباحِ" نَعْتٌ لِاسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَالِقُ
الْإِصْبَاحِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَالِقُ
الْإِصْبَاحِ. وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النهار، وكذلك
الإصباح، أي
__________
(1). كزبرج وجعفر.
(2). راجع ج 4 ص 56.
(3). في ك: النسم.
(7/44)
فَالِقُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ، يُرِيدُ
الْفَجْرَ. وَالْإِصْبَاحُ مَصْدَرُ أَصْبَحَ. وَالْمَعْنَى:
شَاقُّ الضِّيَاءِ عَنِ الظَّلَامِ وَكَاشِفُهُ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ خَالِقُ النَّهَارِ. وَهُوَ
مَعْرِفَةٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ
النَّحْوِيِّينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ"
فَالِقُ الْأَصْبَاحِ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ جَمْعُ
صُبْحٍ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
أَنَّهُ قَرَأَ" فَلَقَ الْإِصْبَاحَ" عَلَى فَعَلَ،
وَالْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ وَالْحَاءُ مَنْصُوبَةٌ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ"
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا" بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَنُصِبَ"
اللَّيْلَ" حَمْلًا عَلَى مَعْنَى" فالِقُ" فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى فَلَقَ، لِأَنَّهُ
أَمْرٌ قَدْ كَانَ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى. وَأَيْضًا
فَإِنَّ بَعْدَهُ أَفْعَالًا مَاضِيَةً وَهُوَ قَوْلُهُ:"
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ"." أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً".
فَحُمِلَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ. يُقَوِّي ذَلِكَ
إِجْمَاعُهُمْ عَلَى نَصْبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى
إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَلَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى فَاعِلٍ
فَيَخْفِضُوهُ، قَالَهُ مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ
النَّحَّاسُ: وَقَدْ قَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قَطِيبٍ
السَّكُونِيُّ" جَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا" بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظِ.
قُلْتُ: فَيُرِيدُ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا
إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ رُوَيْسٍ عَنْهُ" وَجَاعِلُ
اللَّيْلِ سَاكِنًا". وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ" وَجَاعِلُ
اللَّيْلِ سَكَنَا" أَيْ مَحَلًّا لِلسُّكُونِ. وَفِي
الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ:" اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ
وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ
وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ".
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ (وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي
وَبَصَرِي) وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ
وَغَيْرِهِمَا (وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي) وَذَلِكَ
يَفْنَى مَعَ الْبَدَنِ؟ قِيلَ لَهُ: فِي الْكَلَامِ
تَجَوُّزٌ، وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمْهُ قَبْلِي.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُنَا
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِيهِمَا: (هُمَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ). وَهَذَا تَأْوِيلٌ
بَعِيدٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ.
وَمَعْنَى" حُسْباناً" أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ
مَصَالِحُ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ عباس في قول جَلَّ
وَعَزَّ:" وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً" أَيْ بِحِسَابٍ.
الْأَخْفَشُ: حُسْبَانٌ جَمْعُ حِسَابٍ، مِثْلَ شِهَابٍ
وَشُهْبَانٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حُسْبَانٌ مَصْدَرُ
(7/45)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(97)
حَسِبْتُ الشَّيْءَ أَحْسُبُهُ حُسْبَانًا
وَحِسَابًا وَحِسْبَةً، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَيْرَ الشَّمْسِ.
وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ،
فَدَلَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ
وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقِيلَ:" حُسْباناً" أَيْ ضِيَاءً.
وَالْحُسْبَانُ: النَّارُ فِي لُغَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1»
". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نارا. والحسبانة: الوسادة الصغيرة.
[سورة الأنعام (6): آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ
«2») بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَفِي النُّجُومِ مَنَافِعُ
جَمَّةٌ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِهَا،
وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَفِي
التَّنْزِيلِ:" وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «3» "."
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «4» ". و" جَعَلَ" هُنَا
بِمَعْنَى خَلَقَ. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أَيْ
بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي
الِاعْتِبَارِ. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
خصهم لأنهم المنتفعون «5» بها.
[سورة الأنعام (6): آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ) يُرِيدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ «6». (فَمُسْتَقَرٌّ) قَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو
عَمْرٍو وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَالنَّخَعِيُّ
بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَهِيَ فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، إِلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ
فيمن كَسَرَ الْقَافَ فَمِنْهَا" مُسْتَقِرُّ" وَالْفَتْحُ
بِمَعْنَى لَهَا" مُسْتَقَرٌّ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ: فَلَهَا مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ
فِي الْأَرْضِ الَّتِي تَمُوتُ فِيهَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ
يَدُلُّ عَلَى الْفَتْحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَمُسْتَقَرٌّ
فِي الْقَبْرِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ:
الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، والمستودع
__________
(1). راجع ج 10 ص 408.
(2). في ك: من كمال قدرته.
(3). راجع ج 15 ص 64.
(4). راجع ج 18 ص 210.
(5). في ك: بذلك.
(6). راجع ج 6 ص 387. [ ..... ]
(7/46)
وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ
كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ
حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا
قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا
إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ، رَوَاهُ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ النَّخَعِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مُسْتَقَرٌّ فِي الْأَرْضِ،
وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَصْلَابِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ:
لَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْرِجُ مِنْ
ظَهْرِكَ مَا اسْتَوْدَعَهُ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ،
وَالْمُسْتَوْدَعَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ، ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
وَمُسْتَوْدَعٌ عِنْدَ اللَّهِ. قُلْتُ: وَفِي التَّنْزِيلِ"
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ"
وَالِاسْتِيدَاعُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ فِي الْقَبْرِ
إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا لِلْحِسَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
الْبَقَرَةِ «1». (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ) قَالَ قتادة:" فَصَّلْنَا" بينا (وقررنا. والله
«2» أعلم).
[سورة الأنعام (6): آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا
بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً
نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي
ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأَوْلَى- قَوْلُهُ: (وَهُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً) أَيِ الْمَطَرُ.
(فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ كُلُّ صِنْفٍ
مِنَ النَّبَاتِ. وَقِيلَ: رِزْقُ كُلِّ حَيَوَانٍ.
(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ
أَخْضَرَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرِنِيهَا نَمِرَةً
أُرِكْهَا «3» مطرة. والخضر «4» رطب
__________
(1). راجع ج 1 ص 321.
(2). من ك.
(3). الهاء في أرنيها للسحابة والثمر من السحاب الذي فيه آثار
كآثار النمر. وقيل: صغار متدان بعضها من بعض. وواحدتها نمرة
ومطرة: بمعنى ماطرة. أي إذا رأيت دليل الشيء علمت ما يتبعه.
يضرب لأمر يتيقن وقوعه إذا لاحت مخايله وتباشيره. (عن فرائد
اللئالي ج 1 ص 252 طبع بيروت).
(4). الخضر: المادة الخضراء في النبات وهي مادة الحياة. وهى من
أسرار قدرة الباري سبحانه.
(7/47)
الْبُقُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ «1» وَالذُّرَةَ
وَالْأَرُزَّ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ. (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا
مُتَراكِباً) أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ
كَالسُّنْبُلَةِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ
النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ"
قِنْوَانًا دَانِيَةً" عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: قُنْوَانٌ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ لُغَةُ قَيْسٍ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ
يَقُولُونَ: قِنْوَانٌ، وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ: قِنْيَانٌ،
ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي الْوَاحِدِ فَيَقُولُونَ: قِنْوٌ
وَقَنْوٌ. وَالطَّلْعُ الْكُفُرَّى قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ
الْإِغْرِيضِ. وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا.
وَالطَّلْعُ، مَا يُرَى مِنْ عِذْقِ النَّخْلَةِ.
وَالْقِنْوَانُ: جَمْعُ قِنْوٍ، وَتَثْنِيَتُهُ قِنْوَانٌ
كَصِنْوٍ وَصِنْوَانٍ (بِكَسْرِ النُّونِ). وَجَاءَ الْجَمْعُ
عَلَى لَفْظِ الِاثْنَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ:
الِاثْنَانِ صِنْوَانِ وَالْجَمْعُ صِنْوَانٌ (بِرَفْعِ
النُّونِ). وَالْقِنْوُ: الْعِذْقُ وَالْجَمْعُ الْقِنْوَانُ
وَالْأَقْنَاءُ، قَالَ:
طَوِيلَةَ الْأَقْنَاءِ وَالْأَثَاكِلِ «2»
غَيْرُهُ:" أَقْنَاءُ" جَمْعُ الْقِلَّةِ. قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ: قَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ" قَنْوَانٌ" بِفَتْحِ
الْقَافِ، وَرُوِيَ عَنْهُ ضَمُّهَا. فَعَلَى الْفَتْحِ هُوَ
اسْمٌ لِلْجَمْعِ غَيْرُ مُكَسَّرٍ، بِمَنْزِلَةِ رَكْبٍ
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ،
لِأَنَّ فِعْلَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ، وَضَمُّ
الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ وَهُوَ الْعِذْقُ
(بِكَسْرِ الْعَيْنِ) وَهِيَ الْكِبَاسَةُ، وَهِيَ عُنْقُودُ
النَّخْلَةِ. وَالْعِذْقُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) النَّخْلَةُ
نَفْسُهَا. وَقِيلَ: الْقِنْوَانُ الْجُمَّارُ." دَانِيَةٌ"
قَرِيبَةٌ، يَنَالُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ. عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: مِنْهَا دَانِيَةٌ وَمِنْهَا بَعِيدَةٌ،
فَحُذِفَ، وَمِثْلُهُ" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «3» الْحَرَّ"
وَخَصَّ الدَّانِيَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مِنَ الْغَرَضِ فِي
الْآيَةِ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ وَالِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ،
وَالِامْتِنَانُ فِيمَا يَقْرُبُ مُتَنَاوَلُهُ أكثر.
__________
(1). الست (بوزن القفل): ضرب من الشعير أبيض لا قشر له.
(2). الأثاكل: جمع الإثكال والأثكول (لغة في العثكال والعشكول)
وهو العذق الذي تكون فيه الشماريخ. وهذا عجز بيت. وصدره كما في
الإنسان:
قد أبصرت سعدى بها كتائلى
والكتائل جمع كتيلة وهي النخلة الطويلة.
(3). راجع ج 10 ص 159.
(7/48)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أَيْ وَأَخْرَجْنَا جَنَّاتٍ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قِرَاءَةِ
عَاصِمٍ" وَجَنَّاتٍ" بِالرَّفْعِ. وَأَنْكَرَ هَذِهِ
الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، حَتَّى قَالَ
أَبُو حاتم: همحال، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لَا تَكُونُ مِنَ
النَّخْلِ. قَالَ النَّحَّاسُ. وَالْقِرَاءَةُ جَائِزَةٌ،
وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا، وَلَكِنَّهُ رُفِعَ
بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَهُمْ
جَنَّاتٌ. كَمَا قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ" وَحُورٌ
«1» عِينٌ". وَأَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ
وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَعَلَى
هَذَا أَيْضًا" وَحُورًا عِينًا" حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ،
وَأَنْشَدَ:
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمْ ... أَوْ مِثْلَ
أُسْرَةِ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارِ «2»
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ" وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ"
أَخْرَجْنَاهَا، كَقَوْلِكَ: أَكْرَمْتُ عَبْدَ اللَّهِ
وَأَخُوهُ، أَيْ وَأَخُوهُ أَكْرَمْتُ أَيْضًا. فَأَمَّا
الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ
لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ:" وَجَنَّاتٍ"
بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى" قِنْوانٌ" لَفْظًا، وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ في المعنى من جنسها. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أَيْ مُتَشَابِهًا فِي
الْأَوْرَاقِ، أَيْ ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال
عَلَى جَمِيعِ الْغُصْنِ وَفِي حَجْمِ الْوَرَقِ، وَغَيْرُ
مُتَشَابِهٍ فِي الذَّوَاقِ، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. قَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ:" مُتَشابِهاً" فِي النَّظَرِ" وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ" في الطعم، مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما
مُخْتَلِفٌ. وَخُصَّ الرُّمَّانُ وَالزَّيْتُونُ بِالذِّكْرِ
لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمْ وَمَكَانِهِمَا عِنْدَهُمْ. وَهُوَ
كَقَوْلِهِ:" أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ «3» ". رَدَّهُمْ إِلَى الْإِبِلِ لِأَنَّهَا
أَغْلَبُ مَا يَعْرِفُونَهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أَيْ نَظَرَ
الِاعْتِبَارِ لَا نَظَرَ الْإِبْصَارِ الْمُجَرَّدِ عَنِ
التَّفَكُّرِ. وَالثَّمَرُ فِي اللُّغَةِ جَنَى الشَّجَرِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" ثُمُرُهُ" بِضَمِّ
الثَّاءِ وَالْمِيمِ. وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا
جَمْعُ ثَمَرَةٍ، مِثْلَ بَقَرَةٍ وَبَقَرٍ وَشَجَرَةٍ
وَشَجَرٍ. قال مجاهد الثمر أصناف المال، والتمر ثَمَرُ
النَّخْلِ. وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ:
انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه
__________
(1). راجع ج 17 ص 202.
(2). البيت لجرير، يخاطب الفرزدق فيفخر عليه بسادات قيس لأنهم
أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس عيلان، وبنو سيار من
فزارة من ذبيان من قيس. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(3). راجع ج 20 ص 34.
(7/49)
الثَّمَرُ، فَالثُّمُرُ بِضَمَّتَيْنِ
جَمْعُ ثِمَارٍ وَهُوَ الْمَالُ الْمُثْمِرُ. وَرُوِيَ عَنِ
الْأَعْمَشِ «1» ثُمْرُهُ" بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ
الْمِيمِ، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا طَلَبًا
لِلْخِفَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَرٌ جَمْعُ ثَمَرَةٍ
مِثْلَ بَدَنَةٍ وَبَدَنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَرٌ
جَمْعُ جَمْعٍ، فَتَقُولُ: ثَمَرَةٌ وَثِمَارٌ وَثَمَرٌ مِثْلَ
حِمَارٍ وَحُمُرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ ثَمَرَةٍ
كَخَشَبَةٍ وَخَشَبٍ لَا جَمْعَ الْجَمْعِ. الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَنْعِهِ) قَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ
السَّمَيْقَعِ" وَيَانِعِهِ «2» ". وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ" وَيُنْعِهِ" بِضَمِّ الْيَاءِ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَعْضِ أَهْلِ نَجْدٍ، يُقَالُ:
يَنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ، وَالثَّمَرُ يَانِعٌ. وَأَيْنَعَ
يونع و (التمر «3» مُونِعٌ). وَالْمَعْنَى: وَنُضْجُهُ. يَنَعَ
وَأَيْنَعَ إِذَا نَضِجَ وَأَدْرَكَ. قَالَ الْحَجَّاجُ فِي
خُطْبَتِهِ: أَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ
قِطَافُهَا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْيَنْعُ جَمْعُ
يَانِعٍ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، وَهُوَ
الْمُدْرِكُ الْبَالِغُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْنَعَ
أَكْثَرَ مِنْ يَنَعَ، وَمَعْنَاهُ أَحْمَرُ، وَمِنْهُ مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ (إِنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ
مِثْلَ الْيَنَعَةِ) وَهِيَ خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ، يُقَالُ:
إِنَّهُ الْعَقِيقُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ
لِمَنْ تَدَبَّرَ وَنَظَرَ بِبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، نَظَرَ مَنْ
تَفَكَّرَ، أَنَّ الْمُتَغَيِّرَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ
مُغَيِّرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" انْظُرُوا إِلى
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ". فَتَرَاهُ أَوَّلًا
طَلْعًا ثُمَّ إِغْرِيضًا إِذَا انْشَقَّ عَنْهُ الطَّلْعُ.
وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى ضَحْكًا أَيْضًا، ثُمَّ بَلَحًا،
ثُمَّ سَيَّابًا، ثُمَّ جِدَالًا إِذِ اخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ
قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، ثُمَّ بُسْرًا إِذَا عَظُمَ، ثُمَّ
زَهْوًا إِذَا احْمَرَّ، يُقَالُ: أَزْهَى يُزْهِي، ثُمَّ
مُوَكَّتًا إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقَطٌ مِنَ الْإِرْطَابِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الذَّنَبِ فَهِيَ مُذْنِبَةٌ،
وَهُوَ التَّذْنُوبُ، فَإِذَا لَانَتْ فَهِيَ ثَعْدَةٌ،
فَإِذَا بَلَغَ الْإِرْطَابُ نِصْفَهَا فَهِيَ مُجَزَّعَةٌ،
فَإِذَا بَلَغَ ثُلُثَيْهَا فَهِيَ حُلْقَانَةٌ، فَإِذَا
عَمَّهَا الْإِرْطَابُ فَهِيَ مُنْسَبِتَةٌ، يُقَالُ: رُطَبٌ
مُنْسَبِتٌ، ثُمَّ يَيْبَسُ فَيَصِيرُ تَمْرًا. فَنَبَّهَ
اللَّهُ تَعَالَى بِانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ
وَتَغَيُّرِهَا وَوُجُودِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ
عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا
صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا. وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْبَعْثِ،
لِإِيجَادِ النَّبَاتِ بَعْدَ الْجَفَافِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ يَنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ وَيَيْنَعُ يَنْعًا
وَيُنُوعًا، أَيْ نَضِجَ. السَّادِسَةُ- قال ابن العربي قال ما
لك: الْإِينَاعُ الطِّيبُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَلَا نَقْشٍ.
قَالَ مالك: والنقش أن ينقش أهل البصر الثَّمَرَ حَتَّى
يُرْطَبَ، يُرِيدُ يُثْقَبُ فِيهِ بِحَيْثُ يسرع دخول
__________
(1). في ك: الأعرج.
(2). في شواذ ابن خالويه:" يا نعمة" ابن محيص.
(3). من ج وهـ وز وك.
(7/50)
الْهَوَاءِ إِلَيْهِ فَيُرْطَبُ
مُعَجَّلًا. فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْعَ الْمُرَادَ فِي
الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا (هُوَ «2» مَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ
بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ. وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ، وَهِيَ
الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يُدْخَلَ فِي
فَمِهِ عُودٌ قَدْ دُهِنَ زَيْتًا، فَإِذَا طَابَ حَلَّ
بَيْعُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ
الْبِلَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْيَنْعُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ جَوَازُ
بَيْعِ التَّمْرِ وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا وَيَأْمَنُ مِنَ
الْعَاهَةِ، هُوَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَادَةِ وَأَحْكَمَهُ مِنَ العلم
والقدرة. ذكر المعلى ابن أَسَدٍ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ عَسَلِ
بْنِ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا صَبَاحًا
رُفِعَتِ الْعَاهَةُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ). وَالثُّرَيَّا
النَّجْمُ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَطُلُوعُهَا صَبَاحًا
لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً تَمْضِي مِنْ شَهْرِ أَيَّارَ،
وَهُوَ شَهْرُ مَايُو. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَأَخْبَرَنِي
خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ
الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنُ الْأَصْفَرُ مِنَ الْأَحْمَرِ.
السَّابِعَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ «3»
الْجَوَائِحَ فِي الثِّمَارِ بِهَذِهِ الْآثَارِ، وَمَا كَانَ
مِثْلَهَا مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ بَيْعِ
الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ
الثِّمَارِ حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ
سُرَاقَةَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ:
طُلُوعُ الثُّرَيَّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ
عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَلَوْ ثَبَتَ
عِنْدِي لَمْ أَعْدُهُ، وَالْأَصْلُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ
أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَاعَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَبَضَهُ
كَانَتِ الْمُصِيبَةُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَوْ كُنْتُ قَائِلًا
بِوَضْعِ الجوائح لو ضعتها فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ. وَذَهَبَ
مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى وَضْعِهَا،
لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرُ
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَضَعُوهَا عَنِ
الْمُبْتَاعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى عُمُومِ
الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ اعْتَبَرُوا
أَنْ تَبْلُغَ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ فَصَاعِدًا،
وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ أَلْغَوْهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا،
إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَةٌ مِنْ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْقَلِيلُ
مِنْ طِيبِهَا وَأَنْ يَلْحَقَهَا في اليسير منها
__________
(1). من ب وج وك وز ر ل. [ ..... ]
(2). من ب وج وك وز ر ل.
(3). في ز: أسقط بعض الجوائح.
(7/51)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَصِفُونَ (100)
فَسَادٌ. وَكَانَ أَصْبَغُ وَأَشْهَبُ لَا
يَنْظُرَانِ إِلَى الثَّمَرَةِ وَلَكِنْ إِلَى الْقِيمَةِ،
فَإِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا وُضِعَ
عَنْهُ. وَالْجَائِحَةُ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عِنْدَ
ابْنِ الْقَاسِمِ. وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ السَّرِقَةُ
جَائِحَةً، وَكَذَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. وَفِي الْكِتَابِ
أَنَّهُ جَائِحَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ،
وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَالنَّاسُ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ
وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَا أَصَابَ الثَّمَرَةَ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ عَفَنٍ أَوْ بَرَدٍ، أَوْ عَطَشٍ أَوْ حَرٍّ
أَوْ كَسْرِ الشَّجَرِ بِمَا لَيْسَ بِصُنْعِ آدَمِيٍّ فَهُوَ
جَائِحَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَطَشِ «1»، فَفِي رِوَايَةِ
ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ جَائِحَةٌ. وَالصَّحِيحُ فِي الْبُقُولِ
أَنَّهَا (فِيهَا جَائِحَةٌ «2») كَالثَّمَرَةِ. وَمَنْ بَاعَ
ثَمَرًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ
فُسِخَ بَيْعُهُ وَرُدَّ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ
أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ الله الثمرة فبم أخذ
أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ)؟ هَذَا قَوْلُ
الْجُمْهُورِ، وَصَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ
الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي
ذَلِكَ. وَخَصَّصَهُ الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ،
لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَعْلُومٌ يَصِحُّ قَبْضُهُ حَالَةَ
الْعَقْدِ فَصَحَّ بَيْعُهُ كسائر المبيعات.
[سورة الأنعام (6): آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا
لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ"
هَذَا ذِكْرُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ، أَيْ فِيهِمْ
مَنِ اعْتَقَدَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ. قال النحاس:"
الْجِنَّ" مفعول أول، و" شُرَكاءَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ، مِثْلَ"
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «3» "." وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا
مَمْدُوداً «4» ". وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَالتَّقْدِيرُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" الْجِنَّ" بَدَلًا مِنْ شُرَكَاءَ،
وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي" لِلَّهِ". وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ
رَفْعَ" الْجِنِّ" بِمَعْنَى هُمُ الْجِنُّ." وَخَلَقَهُمْ"
كَذَا قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ «5»، أَيْ خَلَقَ الْجَاعِلِينَ
لَهُ شُرَكَاءَ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْجِنَّ الشُّرَكَاءَ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَهُوَ خَلَقَهُمْ" بِزِيَادَةِ
هُوَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" وَخَلْقَهُمْ"
بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَالَ: أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقَهُمْ
لِلَّهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يخلقون الشيء ثم
يعبدونه. الآية ونزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم
__________
(1). كذا في اوج وك وز وع. وفى ب: العسكر.
(2). من ك.
(3). راجع ج 6 ص 123.
(4). راجع ج 19 ص 69.
(5). في ب وج وز وك: الجمهور.
(7/52)
|